"كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الفلسطينيين قبل ضرب فرعون غزة" ع1.
نعرف القليل جدًا عن الزمن الذي يقصده هنا الخاص بضرب فرعون غزة، ربما يقصد أحد المواقف التالية:
· عندما اتجه نخو نحو حاران عام 609 ق.م[i].
· عندما كان فرعون نخو فى الشمال ع2 بين 609 و 605 ق.م يترقب الدخول فى معركة حاسمة مع نبوخذ نصر على نهر الفرات، مؤكدًا فى ذلك الحين سلطانه على الفلسطينيين[ii].
· ربما ضرب فرعون نخو غزة عند عودته بعد غلبته على يوشيا فى موقعة مجدو (2 أي20:35).
· عند عودته من محاولته الفاشلة لانقاذ أورشليم من الكلدانيين، ضرب غزة حتى لا يظن أحد أنه عاد إلى بلده فاشلاً. يتحدث عن انهيار الفلسطينيين هكذا:
"هكذا قال الرب:
ها مياه تصعد من الشمال وتكون سيلاً جارفًا فتغشي الأرض وملأها،
المدينة والساكنين فيها،
يصرخ الناس ويولوِل كل سكان الأرض" ع2.
ا. يصعد الجيش البابلي الذي زحف بقوة عليهم بعد غلبته على المصريين فى كركميش كمياه تنهار عليهم من الشمال ع3؛ هنا لا يقصد بـ"الشمال" الاتجاه الجغرافي فحسب، لكنه يرمز للقوة المضادة أيا كان مصدرها.
ب. يحل الجيش المهاجم عليهم كسيلٍ جارفٍ ع2 يغرق الأرض وكل ملئها، المدينة والساكنين فيها ع2. يشبه الكلدانيون بالسيل الجارف أو فيضان مياه كثيرة تصدر عن نهرهم أي الفرات. كثرة المياه تعني كثرة الجماهير التي تحل على موقع ما كفيضان.
للشيطان طرق كثيرة، يعرف كيف يحل بالنفس كسيلٍ جارفٍ يسقط عليها فجأة ليحوط بها من كل جانب، فيشل كل حركتها، ويفقدها التمتع بأية معونة خارجية، وأحيانًا يتسلل خفية إلى النفس ليدخل إلى أعماقها ويتسلم عجلة قيادتها.
مع كل ما لعدو الخير من حيل وخبرات طويلة وقدرات خطيرة، لا يحمل سلطانًا عليها للتسلل إلى داخلها ما لم يكن الباب مفتوحًا، ويجد في الداخل من يتجاوب معه. كما ليس له سلطان أن يحل بالنفس فجأة ويسيطر عليها إن كانت فى يد اللَّه، محفوظة بنعمته. في هذا يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم انه ليس لعدو الخير سلطان علينا، ولن يقدر أن يؤذينا ما لم يؤذِ الإنسان نفسه بنفسه[iii].
جـ. يغطي السيل الجارف الأرض وملأها ع2، لكنه لا يستطيع أن يقترب من السماء ولا أن يصل إليها. فإن كانت النفس أرضًا تغرق بسيول الخطايا، أما التي صارت سماءً بسكنى السماوي فيها فلا تقدر الخطية أن تقترب إليها.
د. "يصرخ الناس ويولول كل سكان الأرض" ع2. إذ اختاروا الأرض لا السماء مسكنًا لنفوسهم لا يختبروا فرح السماء وتهليلاتها بل الصراخ والولولة. مسكين الانسان الذي يحرم نفسه من بهجة الخلاص فلا يختبر الفرح الداخلي حتى وسط تسلياته ونجاحة الزمني، ومطوَّب هو ذاك الذي يجلس مع الرسول بولس فى السماويات (أف6:2)، فإنه وإن دخل فى ضيقات كثيرة يفرح ويتهلل باللَّه مخلصه، الذي يحول أتون الضيق إلى ندى السماء، كما فعل مع الثلاثة فتيه الغرباء.
هـ. "من صوت قرع حوافر أقويائه،
من صرير مركباته،
وصريف بكراته،
لا تلتفت الآباء إلى البنين بسبب ارتخاء الأيادي" ع3.
يفقدون حتى العواطف الطبيعية التي تربط الوالدين بأبنائهم، إذ لا يلتفت الآباء إلى بنيهم حيث ترتخي أياديهم بسبب صوت الجيش المرعب الصادر عن حوافر الخيول والمركبات العسكرية والبكرات. ليس لديهم الشجاعة ولا القوة للعودة إلى الخلف لإنقاذ أبنائهم الذين تركوهم.
حقًا إذ تدخل الخطية إلى القلب ترهبه فلا يبالي الإنسان بخلاص نفسه وخلاص بنيه... لا يلتفت إليهم، بل يصير فى رعبٍ ورعدةٍ.
و. "بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدُون كل بقية تعين،
لأن الرب يُهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور" ع4.
يحطم المتحالفين معهم، صور وصيدا ع4 ويُهلك الفلسطينيون فى جذورهم إذ يشير إليهم فى جزيرة كفتور، وهي تشير فى العهد القديم إلى جزيرة كريت، الأرض التي جاء منها الفلسطينيون أصلاً (عا7:9). ربما قصد بالكريتيين هنا جماعة من الفلسطنيين كانوا قد قدموا من جزيرة كريت في الربع الأول من القرن الثانى عشر ق.م[iv].
ز. "أتى الصلع على غزة" ع5.
تشبه فلسطين بسيدة أو فتاة قصت شعرها حتى القرع، وجرحت جسمها. هذه وسائل وثنية تستخدم للتعبير عن الحزن الشديد (لا28:19)، خاصة عند موت الأقرباء جدًا (6:16؛ 5:41)، أو هو وصف يعبر عن مسح غزة من كل إنسانٍ كما بموسي فلا يُترك فيها أحدٌ. ربما يقصد بالصلع أن العدو سلبهم كل ممتلكاتهم من ذهبٍ وفضةٍ وحجارةٍ كريمة فصاروا كالقرع بلا زينة.
ح. "أُهِلكت أشقلون مع بقية وطائهم" ع5.
أشقلون: هي إحدى المدن الفلسطينية الخمس الرئيسية، مكانها اليوم مدينة عسقلان. كان لها ميناء بحري فى العصور الغابرة. اسم الإلهة الرئيسية فى اشقلون دركتو، لها وجه انسان وجسم سمكة. تقع على بعد عشرة أميال شمال غزة. وفى عصر العمارنة كان يحكمها ملك مصري (تث23:2). وفى التواريخ الأشورية عرفت بـ As-qa-en-na.
ط. تُصاب النفس بالجراحات إراديًا، فمن يخضع للخطية يحطم نفسه بالجراحات الداخلية، لذا يُقال لها بروح التوبيخ:
"حتى متى تخمشين نفسكِ؟!
آه يا سيف الرب حتى متى لا تستريح؟!
أنضم إلى غمدك، أهدأ وأسكن.
كيف يستريح والرب قد أوصاه؟!
على أشقلون وعلى ساحل البحر هناك واعده" ع5-7.
يُسمى سيف بابل هنا "سيف الرب"، لأنه يشبه المنجل فى يد اللَّه، به يحصد سكان المدن الذين كمل شرهم وسقطوا تحت الغضب الإلهي.
كما أن كلمة اللَّه لا ترجع فارغة حتى تحقق رسالتها، هكذا سيف الرب (أو تأديبه) لا يتوقف حتى يتمم ما أُرسل لأجله. العدد 4:
2. نبوات ضد صور وصيدا
"لينقرض من صور وصيدُون كل بقية تعين" ع4.
صور وصيدُون: "صور" اسم سامي معناه "صخر"، ربما لأنها قامت على جزيرة صخرية، إلا أن القديس جيروم يرى ان كلمة "صور" فى العبرية تعني "محنة"، ولذا يرى سكانها يمثلون الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه[v]. كما يفسر اسمهم: "موت بسبب جرعةٍ سامةٍ[vi]"، لذلك كانوا فى رأيه يمثلون الذين يشربون كأس غواية الشيطان فيسقطون سريعًا.
أما "صيدون" فتعني "أرض صيد سمك"، اشتركت مع صور فى السخرية من يهوذا عند سبيها. اتسمت صور وصيدا بالغنى الشديد خلال تجارتهما العالمية مع الانحلال والفساد.
فى سفر إشعياء النبي يشبه اللَّه "صور" بزانية تزني مع كل ممالك البلاد على وجه الأرض (إش17:23)، لكنها إذ تتمتع بالإيمان الحيّ "تكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب" (إش18:26).
نالت كل من صور وصيدُون (صيدا) نصيبهما من الجيش البابلي لمنع أية قوة عسكرية فينيقية تهب لنجدة فلسطين من أيدى البابليين. قدم حزقيال النبي نبوات ضد صور وصيدا (حز27،26)، وقد سبق لنا التعليق عليها فى دراستنا لسفر حزقيال.