تفسير سفر إرميا - الأصحاح 46 | تفسير تادرس يعقوب


العدد 1- 4:
1. دعوة إلى معركة

"كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الأمم.

عن مصر عن جيش فرعون نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش الذي ضربه نبوخذ نصر ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا" ع1-2.

بقي الجيش المصري مرابضًا في كركميش (في الطريق بين بابل ومصر) لمدة أربع سنوات (609-605 ق.م) خلالها كان فرعون مسيطرًا على سوريا ومصر، يقيم لهم ملوكًا يحركهم كما يشاء كدميات، أما القوة الرئيسية الأخرى أي البابلية فكانت منشغلة بأمورٍ أخرى، وأخيرًا هجم الجيش البابلي على المصريين في كركميش لاقتلاعهم تمامًا.

غلب فرعون نخو البابليين واستولى على كركميش في عام 605 ق.م، وقام بتحصينها، ثم عاد إلى بلده. لكن في تلك السنة أرسل نبوبلاصر ابنه نبوخذ نصر بجيشٍ ضد فرعون حيث انتصر بالقرب من نهر الفرات ورد مدينة كركميش، وطارد المصريين حتى ديارهم، واخضع كل الولايات الثائرة.

جاءت النبوة هنا تخص انهيار جيش نخو في معركة كركميش على نهر الفرات، الأمر الذي لم يكن متوقعًا بسبب قوة الجيش المصري. فقد أوضح هنا كيف تهيأ الجيش للعمل بنفسيةٍ عاليةٍ جدًا وثقة ويقين أن النصرة تتم حتمًا.

معركة كركميش ( أ 20:35، إش9:10)

كلمة "كركميش" تعنى "قلعة كموش" إله موآب الرئيسي (2مل13:23)[5].

تمت في السنة الرابعة من مُلك يهوياقيم وفي السنة الأولى لنبوخذ نصر كملك بابل (1:25). وهي إحدى المعارك الحاسمة في التاريخ القديم، قضت على سلطان مصر الذي دام زمانًا طويلاً على المنطقة السورية الفلسطينية.

تصف النبوة ما كان عليه جيش مصر وذلك في شكل دعوى إلى المعركة موجهة من قادة الجيش المصري إلى رجالهم الأبطال:

" أعدوا المجن والترس، وتقدموا للحرب.

أسرجوا الخيل، واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخُوذ.

اصقلوا الرماح.

ألبسوا الدروع" ع3-4.

طلب القادة أن يعد الكل المجن والترس، أي يحملوا العدة الحربية بكل أحجامها وأنواعها، وأن يستعد الفرسان وقادة المركبات. فقد عُرفت مصر كأفضل مصدر للأنواع الجيدة للخيول (1مل28:10).
العدد 5- 6:
2. ارتعاب مصر

"لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء وقد تحطمت أبطالهم وفروا هاربين ولم يلتفتوا؟!

الخوف حواليهم يقول الرب.

الخفيف لا ينوص، والبطل لا ينجو.

في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا" ع5-6.

رأى إرميا بروح النبوة كيف انهار جيش فرعون عند هزيمتهم على يديْ نبوخذ نصر، فقد كانت الضربة غير متوقعة وذلك بالنسبة للاستعدادات الضخمة التي كانت لجيش فرعون ولكبريائهم وتشامخهم كأعظم قوة عالمية في ذلك الحين.

هكذا عندما يتشامخ القلب جدًا، ويمتلئ كأس العجرفة تحل الهزيمة ويسقط الإنسان، فإنه "قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح؛ تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (أم18:16،19).

دخل الجيش إلى حالة رعب، ليس لهم اللَّه‎ان يتقدموا إلى الأمام حيث نهر الفرات، وإنما في رعب يهربون إلى الوراء وقد تحطم الأبطال. عوض اليقين بالنصرة حل بهم الخوف من كل جانب. ارتبك الكل، فالخفيف أي السريع الحركة تعثر ولم يعد قادرًا على الهروب (لا ينوص)، والقوي لا ينجو.

إن كانوا يتشامخون بنهر النيل كمصدر حياتهم ورخائهم، صار نهر الفرات قبرًا لأبطالهم حيث تعثروا وسقطوا قتلى.

هذا هو عمل الخطية! إنها تبعث الخوف الداخلي في النفس فتحطمها. لا تستطيع أن تلتفت إلى الأمام ولا إلى ما هو حولها بل تنحدر دومًا إلى الخلف، وتفقد سرعتها في الحركة وقوتها، وأخيرًا تسقط كجثةٍ هامدةٍ بلا حياة.
العدد 7- 8:
3. كبرياء مصر

"من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم أمواجها؟1

تصعد مصر كالنيل وكأنهار تتلاطم المياه.

فيقول أصعد وأغطي الأرض.

أهلك المدينة والساكنين فيها" ع7-8.

خطية فرعون هي الكبرياء، إذ كان بجيشه القوي يظن أنه قادر أن يفعل كل شيء. في تشامخه ظن أنه كنهر النيل الذي في فترة فيضانه تمتلئ قنواته كأنهار تجرى حوله لتغطي الأراضي بمياهها وطميها. لا يستطيع أحد أن يقف أمام هذا الفيضان أو يقاومه. في كبرياء يقول فرعون: "نهر لي وأنا عملته لنفسي" (حز3:29). يُقال إنه قصد به فرعون حفرع الذي افتخر بأمرين: أنه صانع بيديه ما هو فيه من قوة وأمان، وأن هذا النهر إنما لأجله هو قد وُجد. لقد أقام "الأنا" إلهًا، هي الصانعة للنهر، سر خصوبة مصر وعظمتها، ولأجل نفسها صنعت ذلك. يروى المؤرخ هيروديت عن هذا الملك أنه ملك في رخاء عظيم لمدة خمسة وعشرين عامًا، وقد ارتفع قلبه بسبب نجاحه قائلاً إن اللَّه نفسه لا يقدر أن ينزعه من مملكته.

في سفر حزقيال (ص29) يُشبه فرعون مصر بالتمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره، يظن انه خالق النهر لحساب نفسه، يجلس في النهر كما في عرشه ليدافع عن الأمم المحيطة به المتحالفة معه.
العدد 9- 10:
4. يوم للسيد الرب

"اصعدي أيتها الخيل وهيجي أيتها المركبات ولتخرج الأبطال.

كوش وفوط القابضان المجن،

واللوديون القابضون والمادّون القوس.

فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من مبغضيه،

فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم.

لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات" ع9-10.

إذ يتطلع إرميا النبي إلى المعركة ويرى انهيار فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة الذين استأجرهم، يدعو ذلك اليوم "يوم للسيد رب الجنود". إنه ليس كيوم معركة هرمجدون "يوم اللَّه القادر على كل شيء" (رؤ14:16)، إنما يشبهه. هو يوم نقمة حيث يسقط فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة أو المتحالفة معه القادمة من كوش (أثيوبيا أو النوبة) وفوط (ليبيا) واللوديون (أفريقيون غالبًا كانوا يقطنون ليبيا).
العدد 11- 12:
5. سقوط مصر

"اصعدي إلى جلعاد وخذي بلسانًا يا عذراء بنت مصر.

باطلاً تكثرين العقاقير.

لا رفادة لكِ.

قد سمعت الأمم بخزيكِ،

وقد ملأ الأرض عويلكِ،

لأن بطلاً يصدم بطلاً فيسقطان كلاهما معًا" ع11-12.

إذ سقط جيش فرعون لم يعد يرى النبي في الجيش أبطالاً، بل رآه كله أشبه بفتاة، أو ببنتٍ ضعيفة مجروحة، جراحاتها خطيرة لا يُرجى شفائها.

لقد عُرفت مصر القديمة بنبوغها وتقدمها في الطب، خاصة الطب النباتي. حاليًا تقوم دراسات مكثفة حول هذا الطب. لكن يرى النبي أن عقاقير مصر وخبراتها الطبية عجزت عن تقديم الشفاء لجيشها الجريح. صاروا في خزي وامتلأت الأرض من صراخاهم حيث يتعثر بطل في بطلٍ ويسقط الكل معًا.

أين العلاج؟ في جلعاد حيث تجد البلسان!

عليها أن تصعد إلى هناك فتنال الشفاء!

إنها في حاجة إلى روح اللَّه القدوس الذي وحده يمسك بيد البنت الأممية ليصعد بها من وحل هذا العالم وفساده إلى كنيسة المسيح، جلعاد الحقيقية، هناك تجد السيد المسيح، البلسان الروحي واهب الشفاء.

إنها دعوة إلى الأمم التي يُرمز لها بمصر لتترك عقاقيرها الكثيرة وتلجأ إلى كنيسة المسيح، هناك تتحد مع المخلص الذي يضمد جراحات النفس ويشفيها[6].
العدد 13- 17:
6. قضاء من بابل

"الكلمة التي تكلم بها الرب إلى إرميا النبي في مجيء نبوخذ نصر ملك بابل ليضرب أرض مصر.

أخبروا في مصر وأسمعوا في مجدل وأسمعوا في نوف وفي تحفنحيس قولوا انتصب وتهيأ لأن السيف يأكل حواليك.

لماذا انطرح مقتدروك؟!

لا يقفون لأن الرب قد طرحهم.

كثَّر العاثرين حتى يسقط الواحد على صاحبه، ويقولوا:

قوموا فنرجع إلى شعبنا وإلى أرض ميلادنا من وجه السيف الصارم.

قد نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك.

قد فات الميعاد" ع13-17.

يرى البعض أن الحديث هنا عن المعركة التي تمت بعد معركة كركميش بحوالي 15 أو 16 عامًا حيث جاء ملك مصر بجيشه العظيم لمحاربة نبوخذ نصر أثناء حصاره أورشليم. اضطر نبوخذ نصر إلى فك الحصار مؤقتًا حتى يحقق نصرته على جيش فرعون ويعود ثانية إلى محاصرة المدينة واقتحامها (1:37-10). بعد عودته إلى بابل تحققت هذه النبوة إذ عاد ليقيم حربًا مع مصر ليهزمها تمامًا، فصارت بابل القوة العظمى الوحيدة في العالم في ذلك الحين (دا 37:2-42؛ 4:7).

كثيرا ما افتخر فرعون حفرع (Apries) Hophra بقوته في حماية حلفائه، لكن ظهر عجزه تمامًا في اللحظات الحاسمة. يُعتبر هذا وصمة عارٍ تلحق باسمه الذي يحمل تورية عن الجدية، فإن الفعل العبرى hebir يعنى "ليعبر" مشابهًا الاسم المصري لفرعون (whiher) Apries[7].

يكشف ع16 عن انهيار الجنود المرتزقة أو المتحالفة مع فرعون فقد أخذوا درسًا قاسيًا من المعركة، وقرروا العودة إلى بلادهم، إذ قالوا: "قوموا فنرجع إلى شعبنا وإلى أرض ميلادنا من وجه السيف الصارم" ع16.

تُرجمت كلمة "هالك" ع17 هنا بـ "ضجيج"، ويمكن تفسيرها هكذا:

* تعثر الجبابرة إذ سقط الواحد على الآخر، وصار الصراخ الموجه إلى الملك هو: "ضجيج!" ع17.

* لعله يُقصد بهذا أن وعود الملك بحماية الأمم الأخرى خلال سنوات ملكه السابقة لم تكن إلا ضجيجًا لا معنى له. فقد عجز فرعون عن تقديم أي عون حقيقي ليهوذا أو حتى لبلده، إذ قيل "فإن مصر تُعين باطلاً وعبثًا" (إش7:30).

* أيضًا ربما صار هذا هو مفهوم المرتزقة، إذ أدركوا أن حسابات فرعون العسكرية خاطئة ولم تكن إلا ضجيجًا.

* ربما قُصد به أن الملك لم يتعلم درسًا من معركة كركميش السابقة فحطم بلده بعدم حكمته.
العدد 18- 26:
7. سبي وخراب.

أخيرًا يصور لنا الخراب الذي حَّل بمصر التي ظنت أنها قادرة على إنقاذ يهوذا من أيدي البابليين:

أ. ارتفاع اسم بابل أو ملكها نبوخذ نصر

"حيّ أنا يقول الملك رب الجنود اسمه كتابور بين الجبال وككرمل عند البحر يأتي" ع18.

لقد ظن فرعون انه سيحطم بابل، وينزل بملكها إلى الهاوية، فإذا بهزيمة مصر تجعل من بابل الإمبراطورية العظمى الوحيدة في العالم، فيصير اسمها مشهورًا جدًا كشهرة جبل تابور وسط جبال كنعان، وكشهرة الكرمل عند البحر. أكد اللَّه الملك رب الجنود بقسمٍ أن هذا يتحقق فعلاً وليس تهديدًا.

يبدو أن إرميا النبي رأى في نبوخذ نصر الذي غزا مصر بقوة جبلاً عاليًا يرتفع فوق السهل. إنه مثل جبل تابور الذي يرتفع حوالي 1800 قدمًا كجبلٍ منفردٍ في سهل يزرعيل في شمال إسرائيل، أو مثل جبل الكرمل عند البحر الذي تبلغ قمته حوالي 1700 قدمًا وينحدر سفحه الغربي بحدة نحو البحر المتوسط[8].

ب. صارت مصر بنتًا عاجزة عن التصرف:

"اصنعي لنفسك أهبة جلاء أيتها البنت الساكنة مصر،

لأن نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن" ع19

جاءت الضربة قاضية في هذه المرة، حيث حُطمت مصر كلها، خاصة المدن الكبرى. يصور مصر بفتاة مسبية لا تقدر على الدفاع عن نفسها أو الهروب من الذين أسروها، هذا عن جيشها العظيم وملكها فرعون المتشامخ، أما عن الأرض فصارت نوف وهي من المدن الكبرى كما رأينا خرابًا، أحرقتها النيران، لا يقطنها إنسان.

ج. صارت مصر كعجلة مسمنة لا تصلح إلا للذبح

"مصر عجلة حسنة جدًا.

الهلاك من الشمال جاء جاء" ع20.

لماذا يشبه مصر بالعجلة الحسنة جدًا؟ لقد ظن فرعون بجيشه – الذي من بين معبوداته الرئيسية عجل أبيس – أنه قادر أن يخلص شعب يهوذا الذي في نظره يعجز اللَّه رب الجنود عن إنقاذه. لم يدرك فرعون أنه قد حول بهذا الفكر مصر إلى عِجلة تحمل الصورة الحسنة جدًا، وذلك بسبب شهرتها في العالم كله، وقوة جيشها، وإمكانياتها من جهة الخيول والمركبات وكل العدة الحربية. لكنها عجلة سمينة عاجزة عن أي عمل، لا تصلح إلا لذبحها، يأتي الذين من الشمال (بابل) ليذبحوها.

لقد حوَّل العجل أبيس عابديه إلى عجلة حسنة جدًا تؤكل وتستهلك فلا يكون لها حياة!

د. حوَّلت حلفاءها والجنود المرتزقة إلى عجول سمينة

أيضًا مستأجروها في وسطها كعجول صيرة،

لأنهم هم أيضًا يرتدون يهربون معًا.

لم يقفوا لأن يوم هلاكهم أتى عليهم وقت عقابهم" ع21.

لم تصر مصر الوثنية وحدها عجلة كمعبودها عجل أبيس، وإنما حولت مستأجريها أي القوات المرتزقة الأجيرة والتي حلت في وسطها وشاركتها عبادة العجل إلى عجول صيرة أي سمينة. جاءوا للدفاع عنها مع جيشها فصارت ذبائح سمينة للقتل.

هـ. صارت حركتها كحفيف الحية

"صوتها يمشي كحية لأنهم يسيرون بجيش وقد جاءوا إليها بالفؤوس كمحتطبي حطب" ع22.

استخدم إرميا النبي تشبيه الحية الخارجة من الغابة لتُضرب بالفؤوس، لأنه كان للحية مكانة عالية بين الآلهة عند المصريين. إنها عاجزة ليس فقط عن حماية العابدين لها، بل وحتى عن حماية نفسها.

إذ تحرك الجيش المشاة مع الفرسان والمركبات وكانت الأصوات رهيبة ومرعبة... نظر إليه النبي فرآه أشبه بحية خارجة من وسط الغابة تزحف بصوت ضعيف للغاية يصعب سماعه، تسقط تحت ضربات لا فأس محتطبٍ واحدٍ بل عدة فؤوس لقاطعي الأخشاب!

إنها سخرية بهذا الجيش العظيم الذي بكل إمكانياته لا يزيد عن صوت تحرك حية عاجزة أمام فؤوس كثيرة.

و. صارت كشجرة تسقط تحت ضربات فؤوس كثيرة

"يقطعون وعرها يقول الرب وإن يكن لا يحصى لأنهم قد كثروا أكثر من الجراد ولا عدد لهم" ع23. إنها تعجز أن تقاوم أو حتى تشتكى المعتدين عليها. تنهار عليها الفؤوس غير المحصية لتسقط وتتحطم إلى قطع خشبية صغيرة لا تصلح إلا للنيران.

إن كانت الشجرة تستطيع أن تصرخ أمام ضاربيها بالفؤوس، يمكن لفرعون أن يرفع صوته مشتكيًا نبوخذ نصر.

ز. صارت كفتاة بيعت لشعب معادٍ لها.

"قد أخزيت بنت مصر ودفعت ليد شعب الشمال" ع24.

"قال رب الجنود إله إسرائيل:

هأنذا أعاقب أمون نو وفرعون ومصر وآلهتها وملوكها فرعون والمتوكلين عليه.

وأدفعهم ليد طالبي نفوسهم وليد نبوخذ نصر ملك بابل وليد عبيده" ع25-26.

العدد 26:
8. تعمير مصر

"ثم بعد ذلك تسكن كالأيام القديمة يقول الرب" ع26.

لا يختم على مصر بالخراب بل بالتعمير، فاللَّه وإن كان يؤدب لكنه يشتاق إلى تقديس كل بشر. لقد كشف بتأديباته عن جراحات النفس لا لتبقى في آلامها بل لتطلب يد الطبيب السماوي، فيضمد جراحاتها، ويقدم لها نفسه بلسمًا من جلعاد فتنعم بكمال الصحة. عندئذ يتحقق فيها الوعد الإلهي: "في ذلك اليوم يكون مذبح في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها، فيكون علامة وشهادة للرب في أرض مصر" (إش19:19،20). وقد تحقق ذلك منذ يوم البنطقستي حيث سمع المصريون الرسل يتكلمون بلغتهم (أع10:2)، وجاء القديس مرقس الرسول والإنجيلي يكرز بكلمة الإنجيل.
العدد 27- 28:
9. إصلاح إسرائيل الجديد

"وأنت فلا تخف يا عبدي يعقوب، ولا ترتعب يا إسرائيل،

لأني هأنذا أخلصك من بعيد ونسلك من أرض سبيهم فيرجع يعقوب ويطمئن ويستريح ولا مخيف.

أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف لأني أنا معك لأني أفني كل الأمم الذين بددتك إليهم.

أما أنت فلا أفنيك بل أؤدبك بالحق ولا أبرئك تبرئة" ع27-28.

التقينا بهذا النص قبلاً في (إر10:30-11) يتبعه وعد مسياني (داود ملكهم إر9:30). هنا نلاحظ أن الوعد قد جاء مباشرة بعد تقديم وعد إلهي لمصر بتعميرها بعد الخراب، وكأن ما تناله مصر من وعود مرتبط بخلاص إسرائيل الجديد، وتمتع الأمم بالإيمان الحي.

للنص هنا تفسيران:

أولاً التفسير التاريخي: إذ تحقق ذلك بالعودة من السبي البابلي، واستراح إسرائيل إلى حد ما، إذ تحرروا من السبي. هنا يؤكد ان سر الراحة ليس مجرد تغيير المكان، أي خروج من أرض السبي إلى أرض الموعد، وإنما تغيير الوضع الداخلي، وهو عوض الارتباط بالعبادات الغريبة يعلن اللَّه عن نفسه للمؤمنين ويؤكد معيته معهم: "أما أنت ياعبدي يعقوب فلا تخف لأني معك".

ثانيًا: التفسير التأويلي، إسرائيل هنا هي كنيسة العهد الجديد، الشعب القادم من كل الأمم، يعقوب المجاهد الروحي الذي انعتق من سبي الخطية ودخل إلى التمتع بأورشليم العليا، ونال عربون السمويات.

أعلى