"إذهب ونادِ في أذنى أورشليم قائلاً: هكذا قال الرب ذكرت لكِ غيرة صباكِ محبة خطبتكِ، ذهابكِ ورائي في البرية في أرض غير مزروعة" ع2.
بدأ السيد عتابه بكلمة تشجيع إذ يعلن لأورشليم أنه لن ينسى يوم خطبها وهي بعد في صباها في مصر، كيف قبلته عريسًا لها، وخرجت معه من مصر إلى البرية، في أرض غير مزروعة. وكأنه يعلن أنه مدين لها بهذا الحب، مع أنه هو الذي سمع صرخاتها في العبودية واهتم بها ورعاها، مقدمًا نفسه سحابة تظللها من حرّ النهار وعمود نور يضىء لها ويقودها ليلاً، أرسل لها منًا سماويًا فلا تحتاج إلى طعام، وقدم لها صخرة ماء تتبعها أينما ذهبت. كان لها المربى والطبيب والمهندس... يشبع كل احتياجاتها.
يذكر اللَّه اللحظات العذبة التي فيها استمع الشعب لصوت موسى النبي ووثق في الوعود الإلهية، فكانوا كعروسٍ في "شهر العسل" مع عريسها؛ ولم يذكر كيف كانوا قساة القلب، كثيري التذمر!
عجيب هو اللَّه في حبه، فإنه لا ينسى كأس ماء بارد يقدمه الإنسان باسمه، أما خطاياه فيود ألا يذكرها بل يتناساها. إنه محب للإنسان، صريح معه كل الصراحة، يواجهه بكل ضعفاته، لكن في غير تحاملٍ ودون جرحٍ لمشاعره، وفي غير تجاهلٍ للجوانب الطيبة التي يتسم بها أو كان يتسم بها. إنه يبرز فضائل الإنسان ويركز عليها لكي يسنده فلا ييأس قط. هذا هو الروح الذي اقتبسه منه معلمنا بولس الرسول ففي رسائله يبدأ بالتشجيع وإبراز فضائل المرسل إليهم قبل أن يعرض مشاكلهم وضعفاتهم... حقًا إن كلمة التشجيع تسند كل نفس خائرة!
أقول، في وسط ضعفاتك وسقطاتك، في محبة يناجيك الرب: "قد ذكرت لكِ غيرة صباكِ، محبة خطبتكِ"... إنه لا ينسى عمل المحبة ولو مرت عليه سنوات طويلة! العدد 3:
2. مركزها لديه
"إسرائيل قدس للرب، أوائل غلته، كل آكليه يأثمون، شر يأتي عليهم يقول الرب" ع3.
إن كان اللَّه في هذا السفر يتحدث مع إسرائيل بصراحة كاملة، ويدخل معه في عتابٍ شديدٍ، ويعلن تأديبه له بحزم، ليس انتقامًا منه ولا لفضحه، وإنما لأنه "قدس للرب، أوائل غلته". ماذا يعني هذا؟
كان رئيس الكهنة يدخل إلى قدس الأقداس مرة واحدة في السنة، بعد تقديم ذبائح عن خطاياه وخطايا الشعب، ثم يضع صفيحة ذهبية على جبهته مكتوب عليها: "ٌقدس للرب" (خر36:28-38)، هيفي الواقع خاصة بالسيد المسيح وحده، البكر وموضوع رضى الآب، يدخل إليه نيابة عن البشرية كلها، أو بمعني آخر حاملاً فيه البشرية كجسده المقدس، فتكون مقدَّسة فيه ومقبولة لدى أبيه. ما كان يصنعه رئيس الكهنة قديمًا إنما يمثل مسيح الرب الذي يقول "لأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو19:17).
إن كان إسرائيل هو "قدس للرب" إنما يحسبهم أشبه برئيس كهنة بالنسبة لبقية الشعوب والأمم، لهم وحدهم حق التمتع بمقدساته. لذا يطالبهم بالتقديس لا كقانون يلتزمون به، ولا كفريضة يتثقلون تحتها وإنما كامتياز يليق بهم أن يتمسكوا به.
بحسب الشريعة أيضًا يلزم تقديم البكور للرب، فأوائل الغلة تُعطى له فيتقدس الحصاد كله. هكذا كان الرب يرى هذا الشعب بكر الشعوب وأوائل غلته، هم من نصيب الرب لكي يتبارك العالم بسببهم... لهذا يعاتبهم في مرارة، إنه له!
لما كان "إسرائيل قدس للرب، أوائل غلته" فهو بهذا ملك له، بكور العالم المقدسة للَّه وحده، من يغتصبه يغتصب حق اللَّه، ومن يأكله ينتهك مقدسات اللَّه، لذا يقول: "كل آكليه يأثمون، شر يأتي عليهم". إن كان اللَّه يسلمه للكلدانيين للتأديب، فإن الكلدانيين إذ يغتصبونه بعنف إنما يسيئون إلى حق اللَّه نفسه ونصيبه!
حقًا يا للعجب، فيما يسمح اللَّه لنا بالتأديب أو الضيق للتزكية يرانا قدسه وأوائل غلته، من يمد يده علينا إنما يأثم في حق اللَّه نفسه، وينتهك مقدساته! لهذا يؤكد الرب نفسه: "فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت19:10).
ولعل اللَّه أراد أن يعاتبهم بلطف، إذ كانوا تارة يرتمون في أحضان فرعون للتحالف ضد الكلدانيين أو العكس، فيقول لهم: أنتم لستم ملك أنفسكم، أنتم ملك لى، أنتم مقدساتي وبكوري، لماذا تسلمون أنفسكم لآخر غيري؟! إنكم تتعدون على حقى بالاتكال على آخر غيري وتسليم ذواتكم ثمرًا مجانيًا للشعوب الوثنية!
على أي الأحوال، كان اللَّه يُذكر شعبه بمركزهم لديه من حين إلى آخر، حتى لا يشك في رعايته الأبوية، ومحبته وسهره عليه، من ذلك قوله: "أعبدٌ إسرائيل أو مولود البيت هو؟!" ع14. إنه ليس عبدًا بل الابن البكر (خر22:4)، يريد له اللَّه الحرية الحقيقية والانعتاق من أسر الخطية، لكنه يظن في التزامات البنوة نيرًا فأراد التحرر من بنوته للَّه، إذ يعاتبه قائلاً: "لأنه منذ القديم كسرت نيرك وقطعت قيودك وقلت لا أتعبد" ع20.
أساء الشعب فهم مركزه كابن للَّه، أما اللَّه فيبقى أمينًا نحو ابنه. يريدك ابنًا مباركًا ناضجًا تحمل سمات أبيك، لذا لا يكف عن أن يقوّمك ويصلح كل اعوجاج فيك. لو لم تكن ابنا لما أدبك، لكنه من أجل البنوة يدخل بك إلى ألم التأديب لتتأهل لنوال الميراث.
مرة أخرى يذكر اللَّه شعبه أنه كرمته التي غرسها الرب بنفسه ع21، كما يكرر الدعوة "شعبي" ع11، 13،32،33، ويسميه "العذراء المزينة والعروس التي لا تنسى مناطقها" ع32... هكذا بكل الطرق يكشف لها عن مركزها لديه حتى تثق فيه وتقبل توجيهاته وتأديباته. العدد 4- 8: 3. عدم إهماله لها
لكي يكشف اللَّه لشعبه عن ضعفاته، لم يكتفِ بإبراز فضائله لتشجيعه وإعلان مركزه لديه بكل الطرق، تارة كقدس للرب، وأخرى أول غلته، وثالثة ابنه، ورابعة شعبه/ وخامسة كعروس له الخ. فإنه يُذكر شعبه أيضًا بأعماله الإلهية معه خلال التاريخ الطويل، كيف كان يهتم به ويرعاه بلا إهمال، قائلاً:
"ماذا وجد في آباؤكم من جور حتى ابتعدوا عني؟!
وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً،
ولم يقولوا أين هو الرب الذي أصعدنا من أرض مصر،
الذي سار بنا في البرية، في أرض قفرٍ وُحفرٍ، في أرض يبوسة وظل الموت، في أرض لم يعبرها رجل ولم يسكنها إنسان،
وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها" ع5-7.
في عتاب قدم ملخصًا سريعًا وواضحًا عن رعايته لشعبه، إذ أخرجهم من أرض الجور والعبودية، ورافقهم كل الطريق في البرية، لم يكن بها إلا ظل الموت، لم يسبق أن عبر هذا الطريق إنسان قط... وأتى بهم إلى أرض الموعد، البساتين المملؤة ثمرًا وخيرات.
إن كان هذا بالنسبة لأعماله في العهد القديم فماذا نقول نحن الذين تمتعنا بخلاص هذا مقداره؟!
إنه لم يخرج بنا من أرض العبودية بل من ملكوت إبليس المستبد، واهبًا إيانا سلطانًا أن نجحد الشيطان وكل أعماله، وندوس كل طاقاته تحت أقدامنا.
لم يسر بنا في برية قفر، وإنما صار مرافقًا لنا كل أيام غربتنا حيث المعركة التي لا تنتهيمع الخطية والإثم، معطيًا إيانا قوة لنفلت من الفخاخ التي نصبها لنا عدو الخير طوال الطريق.
سار بنا في أرض قفر مملؤة حسكًا وشوكًا، حاملاً الشوك على جبينه حتى لا يجرح أقدامنا.
دخل إلى طريق لم يعبرها إنسان، إذ اجتاز عنا ومعنا المعصرة قائلاً: "قد دُست المعصرة وحدى، ومن الشعوب لم يكن معي أحد"(إش3:63)، "وتتركوني وحدى، وأنا لست وحدي لأن الآب معي" (يو32:16).
سار بنا إلى أرض بساتين لنأكل ثمرها وخيرها، ما هذه البساتين إلا السيد المسيح نفسه الذي نزل إلى أرضنا، وفُتح جنبه لندخل إلى أحشائه ونرتوى بمحبته، قائلين: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقىي... حلقه حلاوة وكله مشتهيات" (نش3:2؛ 16:5). هكذا انطلق بنا من أرض ظل الموت إلى جسده واهب الحياة لنحيا به ومعه إلى الأبد.
لعلّ أخطر ما في هذه العبارة قوله "وساروا وراء الباطل (hebel) وصاروا باطلاً ع5. يحمل هذا العتاب معنيين:
الأول: أن من يسير وراء اللَّه االحق، ويتحد به، يتمتع بشركة الطبيعة الإلهية، ويحمل الحق؛ أما من يسير وراء الفساد الباطل، ويتحد به، تتحول حياة الإنسان إلى الفساد، ويصير "باطلاً". وكأن من يتحد باللَّه يصير كأنه إلهي، ومن يتحد بالخطية يحمل طبيعتها الفاسدة.
الثاني: أن كلمة باطل في العبرية habel تقترب جدًا من كلمة "بعل"Baal، وهو إله الكنعانيين الخاص بالخصوبة. يتعبدون له لينعموا بالثمر المتزايد فإذا بهم يجدون حياتهم عقيمة، بل وباطلة. فالخطية في حقيقتها لا تقدم شيئًا إلا السراب الذي يدفع بالمسافرين إلى الموت ظمًا!
لعله لهذا السبب قدم لنا السيد المسيح جسده ودمه المبذولين طعامًا روحيًا لكي نحمله فينا، فنحمل الحياة الجديدة المُقامة، الحياة السماوية المثمرة، عوض الفساد الذي حلّ في داخلنا! صار مسيحنا مأكلاً حق، لكي نصير نحن "حقًا"، عوض أن نأكل الباطل فنصير باطلاً!
إن كان اللَّه في محبته لم يهمل شعبه بل اهتم برعايتهم، للأسف أهمل الكهنة والخدام كرم الرب، فلم يتذوقوا محبة اللَّه ولا استطاعوا أن يقدموها لشعبه، بل انحرفوا إلى عبادة البعل، وسحبوا قلوب الشعب معهم. "الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفوني، والرعاة عصوا عليّ، والأنبياء تنباؤا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع" ع8.
تحدث هنا على عن ثلاث فئات على الأقل:
ا. الكهنة: كان اليهود يظنون أن عملهم الرئيسي هو تقديم الذبائح، ولم يدركوا أن رسالتهم الأولى هيالمصالحة مع اللَّه مخلص البشر. كانوا يمارسون طقوس الذبائح بكل دقة، لكنهم لم يرفعوا قلوبهم ولا قلوب الشعب نحو اللَّه مخلصهم، لهذا يعاتبهم: "الكهنة لم يقولوا أين هو الرب". كان عليهم أيضًا أن يسلموا الشريعة جيلاً بعد جيل، وأن يكشفوا عن معرفة اللَّه وإرادته وخطته! لكنهم لم يستطيعوا لأنهم هم أنفسهم لم يعرفوا الرب في حياتهم وأعمالهم!
ب. الرعاة: أو الحكام أو الملوك: يُنظر إليهم كممثلى الرب، يهتمون بكل الشعب، خاصة الفقراء والمحتاجين كما جاء في المزمور72، فيتمموا مشورته، لكنهم عصوه لأنهم أنانيون.
ج. الأنبياء الكذبة: لم يشهدوا للرب بل تنبأوا لحساب البعل.
هكذا تجاهل الكهنة الرب الذي كان يجب أن يعلنوا عنه وأن يشفعوا لديه، وانطمست أعين أهل الشريعة عن المعرفة، وتحول الرعاة إلى العصيان عوض قيادة الشعب إلى الطاعة، وتنبأ الأنبياء ببعل عوض توبيخ الشعب على انحرافهم! لقد انحرفت كل القيادات الروحية عن عملها وأخذت الاتجاه المضاد لرسالتها. هكذا تدخل الخطية إلى حياة الإنسان فتفقده توازن كل قيادات نفسه الداخلية.
فالكهنة هنا يشيرون إلى طاقات الحب التي تسحب الإنسان إلى اللَّه ليطلبه بكل القلب، لكن الشر يفسد الحب فيجعله شهوات شريرة، فيطلب القلب الأرضيات عوض السمويات، ومحبة الجسد عوض محبة اللَّه.
ويشير أهل الشريعة إلى العقل الذي يلزم أن يستنير بالروح القدس ليتعرف على أسرار اللَّه، لكن الشر يفسد العقل فيتحول من نور المعرفة إلى ظلمة الجهل ليصير أعمى يقود أعمى ويسقط كلاهما في حفرة (مت14:15).
ويشير الرعاة إلى الحواس التي ترعى الإنسان في مراعى اللَّه الخلاصية، فيتلمس الحياة الجديدة ويتذوقها ويشتم رائحتها، لكنها إذ تنحرف تصير الحواس ثقلاً على النفس، تسحبها إلى الأرض والجسد!
أما الأنبياء فيشيرون إلى الرؤية الداخلية حيث يليق بالقلب في نقاوة أن يعاين اللَّه ويلتمس الأبديات. إذ يفقد القلب نقاوته يُصاب بالعمى، ويصير اللَّه بالنسبة له خيالاً أو مجرد فكرة. هكذا إذ يرفض الإنسان رعاية اللَّه يسلم كل طاقاته الداخلية ومراكز القوى، فلا تطلب ما ينفع بل ما هو مفسد لها!
العدد 9- 11: 4. عدم تمثّلها حتى بالأمم
الآن إذ رفضته كعريس لها انطلق بها من بيت الزوجية الذي دنسته إلى دار القضاء، قائلاً: "لذلك أخاصمكم (riv) بعد يقول الرب" ع9.
الاصحاح كله اشبه بمذكرة دعوة مقامة بسبب خيانة زوجية.
"فاعبروا جزائر كتيم، وأنظروا وارسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًا وأنظروا هل صار مثل هذا؟!
هل بدلت أمة آلهة وهي ليست آلهة؟!
أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع" ع10،11.
جزائر كتيم هيجزيرة كريت، وقيدار في الصحراء الغربية، وكأن اللَّه يطلب من شعبه أن يجول غربًا حتى كريت أو شرقًا حتى قيدار ليرى بنفسه كيف تتمسك الأمم الوثنية بآلهتها التي هيبحق ليست آلهة، بينما يتجاهل شعبه علاقته باللَّه الحقيقي، فيبدل مجده بالأمور الباطلة التي لا تنفع، إذ يتعلق بالعبادات الوثنية. هكذا يخزي أبناء الملكوت حين ينظرون غيرهم يجاهدون فيما لهم مع أنهم لا ينعمون بما يتمتعون هم به من وعودٍ وعطايا ونعمٍ إلهية فائقة!
إنه يعاتب شعبه ويوبخهم، لكنه كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "حتى في توبيخه يتنازل[4]"، فمن أجل بنيان شعبه يقارن نفسه بالآلهة الوثنية ليكشف أن شعبه لا يقدم تكريمًا له كتكريم الأمم للوثن. العدد 12- 28: 5. سّر ضعفها
بعد هذا العتاب اللطيف الذي فيه أعلن أنه لم يهمل في حقهم ولا في حق أبائهم، بل دائما يرعاهم، أما هم فأبدلوه بآلهة غريبة، كشف لهم سرّ ضعفهم من جوانب كثيرة:
أولاً: تركها ينبوع الحياة واتكالها على ذاتها
يُشهد الرب السموات على شعبه الذي استبدل مجده بأمور باطلة، لرفضهم اللَّه ينبوع المياه الحية ونقرهم الآبار التي هيمن عمل أيديهم الذاتية:
"ابهتي أيتها السمويات من هذا واقشعري وتحيري جدًا، يقول الرب،
لأن شعبي عمل شرين:
تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءً" ع13.
من الصعب أن نتصور إنسانًا ما ُيفضل مياه الأحواض على مياه الينابيع، لكنه لأجل راحة جسده يلتزم بالشرب من مياه الأحواض التي حفرها لنفسه في فناء منزله عن أن يقطع مسافات طويلة ليشرب من الينبوع. هذا يحمل رمزًا للإنسان الذي يختار الطريق الواسع السهل عن طريق الصليب الضيق. من جانب آخر يوضح النبي أن الذي يطلب مياه الأحواض التي حفرها بنفسه عوض مياه الينبوع الطبيعي غالبًا ما يخرج فارغ اليدين، لأنه سرعان ما تتشقق الأحواض وتتسرب المياه من الصخور.
يعاتب اللَّه شعبه، قائلاً: لقد رفضتمونى ورفضتم عملى في أرواحكم وأجسادكم لتعملوا هواكم وإرادتكم الذاتية، فصرتم طبيعيين وجسدانيين لا روحيين. فنحن نعلم أن الرسول بولس قسم البشرية إلى ثلاثة أصناف: روحيين وطبيعيين وجسدانيين.
الإنسان الروحي هو الذي يقبل روح اللَّه فيه ينبوع المياه الحية، عاملاً في روحه وجسده معًا، مقدسًا إياه بالكامل.
أما الإنسان الطبيعي فهو الذي يرفض الينبوع الحيّ لينقر لنفسه آبارًا ذاتية هيمن صنع إرادته، فيسلك حسب كبرياء قلبه حتى في الأمور الروحية.
والإنسان الجسدانى، إذ يرفض عمل الروح فيه يستسلم لشهوات الجسد....
لعل اللَّه كرر كلمة "آبار" مرتين، لأنهم حفروا آبارًا حسب إرادتهم الذاتية لأرواحهم، وحفروا آبارًا أيضًا حسب شهوات جسدهم، فسقطوا في الكبرياء والشهوات معًا.
ويرى آباء الكنيسة أن الإنسان يشرب من ينبوع المياه الحية الذي وهبه السيد المسيح لكنيسته المقدسة، فمن يخرج عنها ويقبل المعمودية من غيرها أو التعاليم الغريبة عنها إنما يشرب من الآبار الغريبة التي لا تضبط ماءً! يقول القديس ايريناؤس: [الذين لا ينعمون بالشركة معه لا يتمتعون بالحياة من ثديي الأم، ولا ينعمون بالينبوع النقى الذي يصدر عن جسد المسيح، وإنما ينقرون لأنفسهم آبارًا مشققة من خنادق أرضية، فيشربون ماءً ملوثًا بالوحل، هاربين من إيمان الكنيسة لئلا يدانوا، ويحتقرون الروح لئلا يتعلموا[5].] ويقول القديس كبريانوس: [بالرغم من أنه لا توجد معمودية أخرى، إذ هيمعمودية واحدة، لكنهم يظنون انهم قادرون على التعميد. لقد هجروا ينبوع الحياة ومع ذلك يعدون بتقديم نعمة المياه الحيّة المخلّصة. فالناس عندهم لا يغتسلون (من الخطية) إنما يتجمعون معًا. مثل هذا المولد (المعمودية) لا ينجب أولادًا للَّه بل للشيطان، فإن ولادتهم باطلة وقبولهم للمواعيد ليس حقًا[6].] وأيضًا: [مرة أخرى يحذر الكتاب المقدس قائلاً: تحفظ من المياه الغريبة ولا تشرب من ينبوع ماء غريب (أم19:9) الترجمة السبعينية)... كيف يقدر من هو خارج الكنيسة وغير قادرٍ على نزع خطاياه الخاصة أن يعمد غيره ويهبه غفران خطاياه؟![7]]
هكذا قدم اللَّه لكنيسته ذاته ينبوع المياه الحية، خارجها لا ينعم الإنسان إلا بالآبار المشققة التي لا تضبط ماء.
ربنا يسوع المسيح هو الينبوع الحيّ يفيض على الكنيسة فيفجر في أولادها ينابيع حية، ويصيرون هم أيضًا أنفسهم أنهارًا، لذا يقول المرتل: "الأنهار لتصفق بالأيادى" (مز9:98)، ويعلق القديس جيروم، قائلاً: [تشرب الأنهار من الينبوع يسوع... هذه هيالأنهار التي تفيض خلال ينبوع المسيح. إنه الينبوع ونحن الأنهار، إن كنا بالحقيقة نستحق أن ندعى أنهارًا. المسيح هو الينبوع والقديسون هم أنهار، والأقل تقديسًا يدعون نهيرات، والبعض مجرد سيول هذه التي تجف مياههم عند التجرية[8].]
ويرى القديس أمبروسيوس أن اليهود رفضوا السيد المسيح الينبوع الحيّ فصاروا كالجزة التي وضعها جدعون حيث كانت وحدها جافة بينما كان على الأرض طلّ (قض39:6)، حيث سقط اليهود في جحد الإيمان بالسيد بينما قبلت الأمم الإيمان به[9].
ومن ناحية أخرى يرى القديس أمبروسيوس أن اللَّه النار الآكلة (تث24:4) هو بعينه ينبوع المياه الحية: "ربنا يسوع المسيح كالنار يلهب قلوب السامعين له، وهو ينبوع المياه الذي يهب برودة. جاء يلقى نارًا على الأرض (لو49:12) ويهب مياه حية للعطاش (يو37:7،38)[10]."
V جاء في سفر إرميا شهادة للآب كينبوع: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء" (إر13:2). وفي موضع آخر نقرأ انهم قد تركوا الابن ينبوع الحكمة، وأيضًا عن الروح القدس: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا... يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" يو14:4.
القديس جيروم[11]
V اللَّه بالحق هو الينبوع؛ ليت ذاك الذي يتوق إلى هذا الينبوع يسكب نفسه تحته، فلا يترك شيئًا فيه في ملكية الجسد، بل تفيض نفسه (بالحب) في كل موضع.
القديس أمبروسيوس[12]
V كثيرون عطشى: الأبرار والخطاة أيضًا. الأولون عطشى إلى الحق، والآخرون إلى الملذات. يعطش الأبرار إلى اللَّه، والخطاة إلى الذهب.
قيصريوس أسقف آرل[13]
V إلى هذا النبع جاءت رفقه بجرتها لتملأها ماءً، إذ يقول الكتاب المقدس: "فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت" (تك16:24). وهكذا أيضًا نزلت الكنيسة أو النفس إلى نبع الحكمة لتملاْ جرتها وترفع تعاليم الحكمة النقية التي لم يرغب اليهود أن يرفعوها من الينبوع الفائض. اصغوا إليه إذ يقول الينبوع نفسه: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية" (إر2:13).
تعطش نفوس الأنبياء إلى هذا الينبوع، فيقول داود: "عطشت نفسي إلى اللَّه الحيّ" (مز2:42-3)، لكي يروى ظمأه بغنى معرفة اللَّه ويغسل دم الحماقة بمياه المجارى الروحية.
القديس أمبروسيوس[14]
V لا يأخذ المؤمن قطرة من علم الشيطان، الفلك والسحر وغير ذلك من العلوم المقاومة للتقوى في اللَّه. إنما له ينابيعه، يشرب من ينابيع إسرائيل، ينابيع الخلاص، لا من بئر سيحون. إنه لا يترك ينبوع الحياة ليكنز في الآبار المشققة (إر13:2). إنه يعلن أنه يسير في الطريق الملوكي، طريق ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو6:14). إنه طريق ملوكى إذ قال عنه النبي "اللهم إعطِ أحكامك للملك" (مز1:72). يليق بنا أن نتبع طريق الملك دون أن نميل من أي ناحية، لا إلى حقل ولا إلى الأعمال والأفكار الشيطانية.
العلامة أوريجينوس[15]
في أيام إرميا ترك الشعب اللَّه ينبوع المياه الحية ونقروا لأنفسهم أبارًا لا تضبط ماءً. فقد تظاهر فرعون مصر بالصداقة، وأعلن رغبته في حمايتهم من أشور، لكنه في الحقيقة كان يريد أن يقتنصهم لنفسه ويبتلعهم، وذلك كسيده إبليس الذي يقدم طرقًا تبدو كأنها للخلاص وهي مهلكة وخبيثة. لهذا يقول "زمجرت عليه الأشبال، أطلقت صوتها، وجعلت أرضه خربه، أحرقت مدنه فلا ساكن، وبنو نوف وتحفنيس قد شجوا هامتك" ع14،15. فبنو نوف (ممفيس) وتحفنيس هما مدينتان مصريتان يمثلان مملكة فرعون كلها، هذه التي اتكلت عليها لانقاذهم من أشور، فزمجرت عليهم كالأشبال وحولت أرضهم خرابًا وأفقدت مدنهم سكانها!
ولعل تكراره لكلمة "آبار" مرتين يشير أيضًا إلى تأرجح الشعب في ذلك الحين بين اعتمادهم على ملك بابل ضد فرعون مصر، أو العكس، فيرغبون في الحماية البشرية، يطلبون أن يرتووا من مياه الفرات أو نيل مصر عوض مياه اللَّه الحية. يقول: "أما صنعت هذا بنفسك إذ تركت الرب إلهك حينما كان مسيرك في الطريق. والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه شيحور، ومالك وطريق أشور لشرب مياه النهر" ع17،18.
يقصد بمياه شيحور مياه النيل، إذ جاء في إشعياء: "وغلتها زرع شيحور حصاد النيل على مياه كثيرة فصارت متجرة الأمم" (إش3:23).
يرى القديس جيروم[16] أن كلمة "شيحور" تعني "النهر الوحل المملوء طميًا"، وربما دعى نهر النيل هكذا بسبب ما يحمله من طمى في فترة الفيضان.
إن كانت مصر تشير إلى محبة العالم بسبب خيراتها الكثيرة، وبابل تشير إلى الكبرياء بسبب ما وصلت إليه من كرامة زمنية وسطوة، فإن المؤمن كثيرًا ما ينسحب قلبه من الاتكال على عمل اللَّه ليشبع شهوات جسده ويحقق محبته للأرضيات، أو بسبب روح الكبرياء التي يثور فيه، وفي كليهما يحرم نفسه من الارتواء بالحق.
في الرسالة الفصحية لعيد القيامة عام 335م تطلع البابا أثناسيوس إلى فريقين يحتفلان بالعيد، فريق كالشعب القديم أراد أن ترتوى نفسه من مياه النيل في مصر أو من مياه الفرات في أشور عوض أن ترتوى من ينابيع اللَّه الحية فصاروا في ظمأ أعظم، بينما رأى فريق آخر في المسيح المصلوب القائم من الأموات كل شبعه، فقال:
[أنتم تعلمون أن للخطية خبزها الخاص أيضًا - خبز موتها - لهذا فهيتدعو محبي اللذة الذين بلا إفراز، قائلة: "المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ" (أم17:9). من يلمسهما لا يدرك أن الذين يرتبطون بالأمور الأرضية يهلكون مع الخطية.
لكن يا للأسف! حتى حينما يتطلع الإنسان إلى الشبع لا يجد ثمر خطاياه مبهجًا، وكما تقول حكمة اللَّه في موضع آخر: "خبز الكذب لذيذ للإنسان، ومن بعد يمتلئ فمه حصى" (أم17:20). و"لأن شفتى المرأة الأجنبية (الزانية) تقطران عسلاً، وإلى حين لذيذة، لكن عاقبتها مرة أكثر من الأفسنتين، وحادة أكثر من سيف ذى حدين" (راجع أم3:5،4). فيأكل ويُسر إلى حين، لكن بعد ذلك إذ يُقطع من اللَّه يهلك. لهذا السبب يحاول النبي أن يحفظ الخطاة من الابتعاد عن اللَّه، محذرًا: "والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه النيل؟ ومالك وطريق أشور لشرب مياه الفرات؟" إر18:2[17].]
ثانيًا: ارتباطها بالآلهة الباطلة جعلها باطلة
ليس فقط رفضت اللَّه ينبوع المياه الحية لتطلب مالذاتها، الآبار التي من عمل يديها، أو لتلتجىء حسب فكرها البشري للحماية بملك بابل أو فرعون مصر، وإنما سّر ضعفها أنها استعاضت عن اللَّه الحيّ بالآلهة الوثنية الباطلة، فعوض اتحادها بالحيّ لتكون هيحية ارتبطت بالباطل فتصير باطلة، إذ يقول: "ساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً" ع5... وفي عتاب يقول: "أين آلهتكِ التي صنعتِ لنفسكِ، فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" ع28... هذا هو سر ضعفها: رفضت اللَّه لتقبل من هم ليسوا آلهة آلهة لها...
يقول الرب لها عن تركها له: "يوبخكِ شركِ، وعصيانكِ يؤدبك، فاعلمى وأنظري ان تركك الرب إلهك شر ومرّ وأن خشيتى ليست فيك" ع19.
لو دققنا في العبارة لرأينا اللَّه يكشف لنا عن حقيقة كثيرًا ما تغيب عن ذهننا، أن الذي يوبخ الإنسان شره، والذي يؤدبه عصيانه... حقًا يقوم اللَّه بالتوبيخ وفي محبته يؤدب بحزمٍ، ربما يبدو قاسيًا للغاية، لكننا لا نلوم اللَّه بل أنفسنا فإن ما يحل بنا من توبيخ أو تأديب هو ثمرة طبيعية للشر والعصيان. ما يسمح به الرب لنا هو أن نجنى القليل جدًا من ثمر ما ارتكبته أيدينا، وما صنعناه بكامل حريتنا، لينزع عنا الشر ولنرجع عن العصيان فيتوقف التوبيخ ولا يكون للتأديب موضع.
هكذا يجنى الإنسان ثمر عمله، وكما يقول الأب ثيوناس: "الذي يوقد شرًا يهلك به[18]"، فإن "كل إنسان بحبال خطيته يُمسك" (أم22:5)، وكما يقول الرب: "يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم وبالشرار الذي أوقدتموه" (إش11:50). أما عمل هذه النار التي يقدحها الأشرار فهو حرمانهم من اللَّه، إذ ُتسحب قلوبهم من اللَّه وتنزع خشية الرب عنها، فتصير حياتهم مملوءة مرارة. هكذا يقول: "فأعلمي وانظري أن تركك الرب إلهك شر ومّر وأن خشيتي ليست فيك يقول السيد رب الجنود" ع19.
استخدم داود النبي تعبير "رب الجنود" عندما حاور جليات الجبار (1صم45:17) ليؤكد أن اللَّه هو قائد المعركة، المدافع عن شعبه. وجاء في المزمور: "رب الجنود معنا... إله يعقوب ملجأنا" (مز7:46،11). استخدم إرميا النبي أيضًا هذا التعبير ليعلن أنه قائد المعركة لحماية شعبه، لكن إن رفضه شعبه صار اللَّه لتحطيمهم!
كشف لها عن ضعفها بثلاث تشبيهات أخذها من الحيوانات والبشر والنباتات:
ا. وصفها كحيوانٍ جامحٍ لا يريد العودة إلى صاحبه ع20.
ب. كزانية تمارس الفساد علانية بلا خجل، على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء، أي في المواضع التي تتعبد فيها للبعل. وكأن عبادتها قد امتزجت بالرجاسات.
ج. ككرمة منتقاة، لكنها قدمت عنبًا لا نفع منه (ع20، إش5). يُشار إلى شعب اللَّه في الكتاب المقدس بأربعة أنواع من الشجر: الكرمة والزيتونة والتينة والعوسج. وقد سبق لنا الحديث عن الكرمة والتينة أثناء دراستنا لسفر هوشع . إن كانت الكرمة كما الخمر (عصير العنب) يشيران في الكتاب المقدس إلى الفرح الروحي، فإن عدم الاثمار أو إنتاج عنب ردىء يعني فقدان الكنيسة (أو الشعب) روح الفرح بالرب ، واتسامها بالغم والتذمر الدائم . جاء مسيحنا ككرمة ليجعل منا أغصانًا (يو15) تشهد لفرحه السماوي، وسلامه الإلهيالفائق.
لقد رفضت عروسه الارتباط به وأحلت البعل عوضًا عنه: "لأنه منذ القديم كسرت نيرك وقطعت قيودك وقلت لا أتعبد، لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية" ع20. لقد قبلت البعل عريسًا لها عوض رجلها فصارت زانية.
لماذا قيل إن إسرائيل قد اضَّجَعت كزانية على كل مرتفعٍ (أكمة عالية) وتحت كل شجرةٍ مظلَّلة (خضراء) (إر20:2؛ 6:3)؟
يقول العلامة أوريجينوس: [لأنهم يتكلمون بتشامخٍ في علوّ، ويستخدمون البلاغة المزهرة. على كل الأحوال إنهم لا يعملون حسبما ينطقون[19].]
وإذ أراد تأكيد مسئوليتها عما تفعله، يقول لها: "وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولتٍ لي سروغ جفنة غريبة؟!" ع21. وكأنه يقول لها: لقد خلقتك كلكِ حق بلا بطلان ولا فساد، زرعتك كرمة مختارة من بذار طيبة، فلماذا تحولتِ إلى كرمة غريبة دنيئة؟! يعلق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله إن اللَّه صنع لنا كل ما كان ممكنًا أن يكون ممتعًا، لكننا نحن الذين أوجدنا الشر والخطايا لأنفسنا. لهذا يبدو النبي وكأنه يسأل من ملأت المرارة نفوسهم عوض الرقة أو الوداعة التي أودعها اللَّه فينا، قائلاً: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟
["إذ ليس الموت من صنع اللَّه، ولا هلاك الأحياء يُسرّه. لأنه إنما خلق الجميع للبقاء. فمواليد العالم إنما ُكونت معافاة وليس فيهم سم مهلك ولا ولاية للجحيم على الأرض" (حك13:1-14). إذا خرجت قليلاً عن الموضوع أقول: مِن أين إذًا جاء الموت؟ "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك24:2).
لقد صنع اللَّه كل ما يمكن أن يكون جميلاً لنا، ونحن خلقنا لأنفسنا الشر والخطايا.
يثير النبي تساؤلاً أمام هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم بالمرارة المخالفة للعذوبة التي وضعها اللَّه فيهم، فيقول: "فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة"؟
يقول: إن اللَّه لم يصنع العَرَج، لكنه على العكس أعطى الجميع أرجلاً نشطة خفيفة الحركة، ثم حدثت علة جعلتهم يعرجون!
خلق اللَّه من البدء جميع الأعضاء سليمة، ثم حدثت علة جعلت بعض هذه الأعضاء تتألم.
هكذا أيضًا ُصنِعَت النفس على صورة اللَّه، ليس فقط بالنسبة للإنسان الأول وإنما بالنسبة لكل إنسان، لأن الكلمات: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك26:1) تمتد إلى كل البشر. وما ُيقال عن آدم ُيقال أيضًا عن جميع البشر. كان آدم يحمل في البداية "صورة اللَّه"، ثم أضاف عليها بخطاياه "صورة الترابي" (1كو49:15) هكذا حدث مع كل البشر، فقد كانت صورة اللَّه سابقة لصورة البشر.
"لقد لبسنا" ونحن خطاة "صورة الترابي". لنلبس إذًا بتوبتنا "صورة السماوي"، عالمين رغم كل شيء أن الخليقة قد صنعت على صورة السماوي.
تضع كلمات الكتاب المقدس هذا التساؤل أمام الخطاة؛ فيقول لهم اللَّه بنغمة العتاب: "فكيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟" فأنا "قد غرستكِ زرع حق كلها".
سبق لنا القول أن اللَّه غرس نفس الإنسان مثل "كرمة جميلة"، لكن بتغيره وانحرافه، تحول إلى عكس ما أراد الخالق.
"وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها"، وليس "زرع حق بعضها"، ليست زرع حق هنا وزرع ردئ هناك، ولكنها "زرع حق كلها" فكيف تحولتِ إلى مرارة على الرغم من إنني خلقتكِ كُلكِ بجملتك حق؟ كيف أصبحت كرمة غريبة؟[20]]
خلقها اللَّه كرمة مقدسة له، لكنها اختارت لنفسها أن ترفضه، فصارت "سروغ جفنة غريبة"، لذا لا يدعوها "كرمتي" بل مجرد "كرمة"، هيرفضت انتسابه إليها كإله، وهو يرفض انتسابها إليه حتى تعود إليه مقدسة فيه. يقول القديس أغسطينوس: [إنه لم يقل كرمتي، فلو كانت كرمته لكانت صالحة، أما كونها رديئة فهيليست له لذا فهيغريبة[21].]
في العهد القديم "غرسه كرم سورق (كرمًا مختارًا)" (إش2:5)، أي غرس كرمًا من أفضل أنواع الكروم، كشعبٍ مختارٍ نال عهدًا مع اللَّه، لكي يحمل "الحق" فيه، كقول الرب: "وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولت إلى سروغ جفنة غريبة؟!" (إر21:2).
أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء "الحق" نفسه، كلمة اللَّه المتجسد ليقدم نفسه كرمة يحملنا فيه أغصانًا حية تأتي بثمر كثير (يو5:15).
Vعندما يقول: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو1:15) يميز نفسه دون شك عن تلك التي وجه إليها الكلمات: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة؟" (إر21:2)، إذ كيف يمكن لكرمة حقيقية يُنتظر أن تصنع عنبًا فصنعت شوكًا؟!
V انتظرت أن تصنع ثمرًا فوجدت خطية.
القديس أغسطينوس[22]
V اشتقت أن تعطى (الكرمة) خمرًا فأخرجت شوكًا. ها أنتم ترون الإكليل الذي أتزين به!
القديس كيرلس الأورشليمى[23]
لم يقف الأمر عند افساد نفسها بنفسها باعتزالها إلهها وعدم انتسابه إليها وانتسابها إليه، إنما حتى عندما أرادت إصلاح نفسها اتكأت على ذراعها البشري عوض الرجوع إليه كمخلصٍ لها. كأنها حتى في ندامتها يزداد انشقاقها عن اللَّه الحقيقي لأنها عوض الاعتراف بخطاياها حاولت تبرير نفسها. لذا يقول لها: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الأشنان فقد نُقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب" ع22.
إذ تكون النفوس عنيدة للغاية يهدد اللَّه بالعقوبة دون أن يفتح بابًا للرجاء، ليس لكي يسقطوا في اليأس، وإنما لكي لا يحوِّلوا هذا الرجاء إلى استهانة واستخفاف. فعندما أرسل يونان النبي إلى أهل نينوى بدا في الحديث كأن لا رجاء لهم في الخلاص من العقوبة، لكنهم إذ تابوا غفر لهم ودافع عنهم أمام نبيه.
V عندما يقول للمدينة: " فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي" ع22، لم يقل هذا لكي ليلقى بهم في اليأس، وإنما ليثيرهم للتوبة[24].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ظنت أنها قادرة بذاتها أن ُتغسل بالنطرون أو بالإشنان (صابون أو منظف)... ولم تدرك أن هذا من عمل الخالق نفسه، هو وحده الذي يغسل النفس ويقدس الجسد! وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[فلننظر بعد ذلك إلى العبارة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي يقول السيد الرب".
هل معني هذا أن النفس الخاطئة تظن انه باغتسالها بالنطرون المادى تضع نهاية لإثمها وخطيتها؟!
هل يظن أحد أنه باغتساله بذلك العشب (الإشنان) الذي ينبت من الأرض يطهر نفسه، حتى تقول كلمة اللَّه للكرمة المتحولة إلى المرارة والتي أصبحت غريبة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسك الإشنان فقد نقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب"؟
لا، ولكن يجب علينا أن نعرف أن كلمة اللَّه ُكلىّ القدرة، قادر على شفاء الكل "لأن كلمة اللَّه حيّ وفعال وأمضى من كل سيف ذى حدين" (عب12:4).
توجد إذًا كلمة عبارة عن نطرون، وأخرى عبارة عن عشب، كلمة بمجرد نطقها تتطهر الخطايا التي من نوع معين. ولكن كما أن كلمات النطرون والعشب لا تصلح علاجًا لكل الخطايا، إذ توجد خطايا تتطلب علاجًا آخر خلاف العشب والنطرون، قيل للنفس التي ظنت أن خطاياها يمكن أن تُغسل بالنطرون والعشب: "فإنكِ وإن اغتسلتِ... يقول السيد الرب".
أنظروا إلى الجروح: توجد جروح تُعالج بالمراهم والدهون، وأخرى تُعالج بالزيت، وأخرى بعصابة وأربطة. هذه الأنواع من العلاج تكفي لشفائها، ولكن هناك جروح أخرى قيل عنها: "ليس فيه صحة بل جرح واحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت. بِلادكم خربة. مُدنكم مُحرقة بالنار" (إش6:1-7). نفس الشيء بالنسبة للخطايا: بعضها يؤدى إلى اتساخ النفس هذه تحتاج إلى كلمة نطرون أو كلمة عشب لتنظيفها، وبعضها لا يمكن علاجه بهذه الطريقة لأنها تعانى أكثر بكثير من مجرد الاتساخ.
أنظر كيف أن الرب الذي يعرف أن يفرق بين الخطايا، يعلن في إشعياء قائلاً: "غسل السيد قذر بنات صهيون، ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وبروح الإحراق" (إش4:4).
فإذا ارتكبت خطية، حتى ولو لم تكن "خطية للموت"(يو16:5)، فقد اتَّسَخْتْ: وسوف "يغسل السيد قذر بنات صهيون وينقي دم أورشليم من وسطها". وما نحتاجه نحن حينما نخطىء خطية أخطر ليس هو النطرون أو العشب وإنما نحتاج إلى "روح الإحراق".
لعلّى الآن قد عرفت ما هو سبب أن السيد المسيح يُعمِّد "بالروح القدس والنار" (لو16:3). ليس أنه يعمد إنسانًا واحد بالروح القدس والنار، وإنما هو يعمد الإنسان البار بالروح القدس، أما الإنسان الآخر الذي بعدما يؤمن وبعدما يكون مستحقًا للروح القدس، يخطىء من جديد، فإن الرب يغسله بالنار.
طوبى لمن اعتمد بالروح القدس ولا يحتاج أن ُيعَمَّد بالنار، ومسكين جدًا من يكون محتاجًا أن يعمد بالنار. ومع ذلك فإن يسوع المسيح يستطيع أن يعمد في الحالتين. مكتوب: "يخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" (إش1:11). القضيب للمُعَاقَبِين والغصن للصالحين. كذلك فإن اللَّه "نار آكلة" (عب29:12)؛ و"اللَّه نور"(1يو5:1) نار آكلة للخطاة، ونور للأبرار والقديسين[25].]
إذ حاولت تغطية خطاياها بتبريرها لذاتها فضحها أمام نفسها، قائلاً لها: "أنظري طريقك في الوادي" ع23. هنا يقصد وادى بني هنوم (2مل10:23، إر31:7-32؛ 5:19-6) الذي فيه كانوا يقدمون أطفالهم محرقات للأوثان. هذا يكشف كيف سيطرت عبادة الأوثان على قلوبهم وحياتهم، فلم يمارسوها لأجل منافعٍ زمنيةٍ وإنما بلغ بهم الأمر إلى حرق أطفالهم كذبائح آدمية وهم يرقصون ويتهللون أمام الأصنام.
عاد مرة أخرى يوبخها على تركها إياه وجريها وراء البعليم الغريب، مؤكدًا لها أنها باعته، وليتها باعته بثمن وإنما بلا ثمن، إذ لم تقتنِ من البعليم شيئًا سوى الانحدار من الجبال العالية المقدسة والنزول إلى الوادي ع23. يقول لها :"أنظري طريقك في الوادي" ع23؛ لقد تركتى الحياة السمائية العالية، إذ أنزلك البعليم إلى السفليات وانحدر بك إلى الأرضيات. ولعله بقوله هذا يذكرها بما تفعله في وادى هنوم حيث تقدم أطفالها الصغار ذبائح بشرية وضحايا للبعل (31:7)، فتفقدهم بلا ثمن! في مرارة يقول لها: "اعرفي ما عملتِ يا ناقة خفيفة، ضبعة في طريقها، يا أتان الفرا قد تعودت البرية، في شهوة نفسها تستنشق الريح" ع23،24. لقد صارت كأنثى الجمل التي بلا قائد لها، تتحرك بخفة وبغير توقفٍ بلا هدف ولا نفع، تجري في كل اتجاه متخبطة؛ وكالضبعة التي تحفر القبور لتأكل الجثث، رائحتها كريهة، جبانة بطبعها! صارت كأنثى الحمار الوحشى التي تعودت الحياة في برية القفر، ولا تستريح وسط الخيرات والبركات، إنما تقضى كل وقتها تجري وراء الذكور من هنا ومن هناك، تفقدها رغبتها في الاشباع الجنسي اتزانها وراحتها. صارت تشتهيأن تستنشق الريح!
ماذا أخذت من تركها إلهها واهب الخيرات وانجذابها إلى البعليم، إلا فقدان إنسانيتها وأولادها وتعقلها وكل بركة لتعيش هكذا هائمة كمن في البرية!
صارت في خطر كمن يسلك في أرض وعرة حافيًا، وقد جف حلقه من الظمأ، ومع ذلك لا يريد أن يلبس نعلاً ولا أن يشرب ماءً! "احفظي رجلكِ من الحفا وحلقكِ من الظمأ، فقلتِ باطل: لا، لأني قد أحببت الغرباء ووراءهم أذهب!" ع25.
يتوسل إليها أن ترجع ليحفظ قدميها من العثرة ويروى حلقها عوض الظمأ، لكنها في إصرارٍ ترفض قائلة: "لا"، لأنها تظن أن جريها وراء الغرباء مع التعرض للخطر والظمأ أفضل لها من التمتع بأحضان عريسها الإلهيونوال بركاته المشبعة. لذا يبدأ بالتهديد بعد التوسل، قائلاً: "كخزي السارق إذا وُجد، هكذا خزي بيت إسرائيل، هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم" ع26. يبقى السارق متهللاً بسرقته حتى ولو لم يستخدم المسروق، ويفتخر انه استطاع أن يسرق ولم يدرِ به أحد، لكنه متى ٌقبض عليه صار في خزي ولا ينفع الندم، هكذا فعل إسرائيل على أعلى المستويات من ملوك ورؤساء وكهنة وأنبياء لكنهم سيقضون يومًا أمام اللَّه كالسارق في دار القضاء، وليس من يشفع فيهم، ولا من يستر على خزيهم، لأنهم اختاروا العود (الأصنام الخشبية) أبًا لهم، والحجر (الأوثان الحجرية) أمًا ع27، ورفضوا اللَّه أباهم! تركوا القادر أن يخلصهم في يوم القضاء والتصقوا بمن يهلكهم ويهلك معهم!
في مرارة يقول "حولوا نحوي القفا لا الوجه"، لقد رفضوا أبوتى واقتنوا لأنفسهم أبًا وأمًا هما من الخشب والحجارةّ، تركوني أنا الخالق محب البشر وارتموا في أحضان الخليقة الجامدة بعدما تدنست!
يرى العلامة أوريجينوس أن الأشرار يختفون عن وجه الرب إذ قيل: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" (إر27:2)، أما الأبرار فيقفون أمامه بثقة ليهبهم الحياة المقدسة (1 يو 21:3)، قائلين مع اليشع النبي: "حىّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 مل 16:5).
يليق بالحامل للعرش الإلهيوقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر (قفا)، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى اللَّه بلا عائق. لذلك عندما أخطأ الشعب للَّه عاتبهم قائلاً: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" إر27:2. التعبير الذي استخدمة أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (24:7، 17:18، 33:32).
ثالثًا: التعريج بين الفريقين
قلنا أن سر ضعفهم هو تركهم ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبار مياه ذاتية من عندياتهم. هذا من جانب ومن جانب الآخر تركوا آباهم الحيّ ليقبلوا العشتاروت الخشبى وهي إلهة الخصوبة الأنثى أبًا لهم، أو من الإله الذكر الحجري أمًا لهم. إذ يقول: "قائلين للعدو أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" ع27. هنا نوع من السخرية، إذ يعلن لهم النبي أنهم فقدوا كل إدراك طبيعي وكل منطقٍ بشري، فجعلوا من الأنثى أبًا، ومن الذكر أمًا ولودًا لهم! إنهم لم يفقدوا فقط قدرتهم على التمييز بين اللَّه الحقيقي والآلهة الباطلة، وإنما حتى التمييز بين الذكر والأنثى، والأب والأم!
وأخيرًا فإنهم حتى في وسط الضيق لا يرجعون إلى الرب بكل قلوبهم بل يعرجون بين الفريقين، يطلبون اللَّه ليخلصهم أما قلبهم فملتصق بالبعل.
يقول "وفي وقت بليتهم يقولون قم وخلصنا، فأين آلهتك التي صنعتِ لنفسكِ؟! فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" ع27،28.
انها ذات الكلمات التي سبق فوبخ بها آباءهم في عصر القضاة: "أنتم قد تركتموني وعبدتم آلهة أخرى، لذلك لا أعود أخلصكم، امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها، لتخلصكم هي في زمان ضيقكم" (قض13:10،14). يقول هذا عن حب، فإنهم إذ أدركوا خطأهم ورجعوا إليه يقول الكتاب: "ضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل" (قض16:10)... إنه ينتظر رجوعنا ولا يحتمل دموعنا!
العدد 29- 37: 6. ثمار خطاياها
إذ كشف لها عن جوانب من سّر ضعفها حدثها عن ثمار خطاياها، ألا وهي: أولاً: صار اللَّه بالنسبة لها كبرية أو أرض ظلام
يقول الرب: "هل صرتِ برية لإسرائيل أو أرض ظلامٍ دامسٍ؟! لماذا قال شعبي: قد شردنا لا نجيء إليك؟" ع31. كأن اللَّه يعاتب شعبه قائلاً: لماذا تهربون منى، هل رأيتمونى برية تهربون منها، أو أرض ظلام تخافونها؟!
يعلق العلامة أوريجينوس[26] على هذه العبارة موضحًا أن اللَّه يهب نوعين من العطايا، عطايا عامة وأخرى خاصة؛ فيهب نور الشمس والهواء وكل الخيرات الأرضية لكل العالم. إنه ليس بالبرية القاحلة بل صانع الخيرات الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" مت 45:5. إنه ليس بأرض ظلام دامس، وإنما "اللَّه نور وليس فيه ظلمة البته" (1يو5:1) فبالنسبة للعطايا العامة يظهر اللَّه بكونه واهب الخيرات للجميع والمشرق بنوره على الكل. أما بالنسبة للعطايا الخاصة مثل عطية الاستنارة والبنوة الخ. فتُعطى للمؤمنين، أما غير المؤمنين يُحرمون منها فيصير اللَّه بالنسبة لهم برية وأرض ظلام دامس. إذ رفض إسرائيل الإيمان بالسيد المسيح، صار اللَّه بالنسبة له هكذا، وكما قال الرسول بولس: "لأننا رائحة المسيح الذكية للَّه في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موتٍ لموتٍ ولأؤلئك رائحة حياة لحياة" (2كو15:2،16).
يقول العلامة أوريجينوس:
["هل صرتُ برية لإسرائيل أو أرض ظلام دامس؟" (إر31:2)
في بداية هذا النص، يقول الرب أنه لم يكن برية لإسرائيل، ولا أرض ظلام دامس... فهل أصبح اليوم برية لإسرائيل، هل أصبح الآن أرض ظلام؟ أم ماذا؟
عندما لم يكن لإسرائيل كذلك، هل كان للأمم في ذلك الوقت برية وأرض ظلام؟
إذا كان اللَّه لم ولن يكن للجميع برية أو أرض ظلام، فلماذا إذًا يقول هذا الكلام لإسرائيل؟ لنراجع أعمال اللَّه الصالحة العامة والخاصة.
لا يمكن أن يكون اللَّه "برية" لأحدٍ وهو الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين". ولا يمكن أن يكون أرض ظلامٍ وهو الذي "يمطر على الأبرار والظالمين". كيف يمكن أن يكون أرض ظلامٍ وهو الذي عمل النهار، وأيضًا أعطانا الليل للراحة؟
كيف يكون برية وهو الذي يعطى الخصوبة للأرض؟
كيف يكون برية وهو الذي يعول كل نفسٍ، ويعطي للإنسان القدرة والحكمة والذكاء، ويعطيه أيضًا في جسده "الحواس المدربة" (عب14:5)؟
إذًا، من وجهة النظر العامة لا يمكن أن يكون اللَّه برية لأحدٍ. أما من وجهة النظر الخاصة، فسوف أعود إلى موضوع اسرائيل وأقول: لم يكن اللَّه لهم برية ولا أرض ظلامٍ عندما كانوا في مصر، فكان يصنع لهم العجائب ويعطيهم الآيات. لكن في كل مرة كانوا يتراخون فيها كانوا يجدون اللَّه في نظرهم برية وأرض ظلام، مع أنه لا يمكن للَّه أن يكون كذلك.
مع ذلك، عندما لم يكن اللَّه برية ولا أرض ظلام لإسرائيل، كان للأمم برية وأرض ظلام، ثم عندما تحول اللَّه عن إسرائيل وأصبح بالنسبة لهم برية وأرض ظلام في نظرهم، كثرت النعمة للأمم، وأصبح يسوع المسيح بالنسبة لنا ليس برية وإنما شبعًا وامتلاءً؛ ليس أرض ظلامٍ وإنما أرض خصبة. لأن "بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل" (إش1:54).
يوجه اللَّه الوعيد لهؤلاء الذين لم يكن لهم أبدًا في يوم من الأيام برية أو أرض ظلام، فيقول لهم: لم أكن لكم برية ولا أرض ظلام، ولكن أنتم الذين قلتم "قد شردنا (سوف لا يكون لنا إله) لا نجئ إليك بعد" (إر31:2). هل كان ذلك يأسًا من شعب إسرائيل عندما قالوا: "لا نجيء إليك بعد، سوف لا يكون لنا إله"؟[27]]
يرى العلامة أوريجينوس انه يلزم التفرقة بين أعمال اللَّه الصالحة العامة وأعماله الصالحة الخاصة. فهناك خيرات يعطيها اللَّه لكل الناس وإلى الأبد مثل شروق الشمس وسقوط الأمطار والأرض الخصبة. ومن وجهة النظر هذه لا نستطيع أن نقول أن اللَّه يمكن أن يكون "برية". أما بالنسبة للخير الخاص الذي خص به شعب إسرائيل ثم سحبه منه، في هذه الحالة أصبح من وجهة نظرهم برية. لكنه لم يكن كذلك أبدًا لأن ما أخذه من إسرائيل أعطاه للمسيحيين[28].
هذه هيأبشع صورة لثمر الخطية أن اللَّه مصدر الحياة والنور يتحول بالنسبة للشرير إلى برية قاحلة وأرض ظلامٍ دامسٍ، يهرب من اللَّه كما من مصدر هلاكه! يصير اللَّه بالنسبة له ثقلاً يريد الخلاص منه، كما يتخيله بعض الوجوديين المعاصرين الآن، يحسبونه كابوسًا لابد للإنسان أن يتحرر منه! وقد جاءت العبارة "قد شردنا" في بعض الترجمات "قد صرنا أحرارًا من اللَّه" أو "قد صرنا سادة".
يدهش اللَّه كيف يريد شعبه أن يتحرر منه مع أنه هو سّر حياتهم واستنارتهم وشبعهم وزينتهم، لهذا يعاتبهم قائلاً: إن كانت العذراء تعتز بزينتها [التي هي عفتها فلا تحلها خلال الخداعات واللهو] (كما يقول الأب ميثوديوس[29])، والعروس لا تنسى ثياب عرسها، فكيف نسينى شعبي أيامًا بلا عدد ع32؟! يقدم لهم العذراء والعروس مثالين، لأنه يتطلع إلى شعبه كعذراء عفيفة مُقدمة له يليق بها ألا تفقد عفتها وبتوليتها بخداعات العدو ولهو العالم، وكعروسٍ مقدسة له تجد في اللَّه عريسها سّر بهائها ومجدها المُعلن في ثياب عرسها!
"أيضًا في أذيالك وُجد دم نفوس المساكين الأذكياء، لا بالنقبِ وجدته بل على كل هذه" ع34. فيما أنتِ تزينين نفسك بالزينة الخارجية لتطلبي محبين يصنعون الشر معكِ، إذا بالجريمة ملتصقة بأذيال ثيابكِ. ولما كانت الثياب رمزًا للجسد، فكأنه يقول إن علامات الجريمة قد التصقت بكل جسدك حتى أذياله. تدنس كل عضو فيه، وتلطخ بدم الفقراء الأبرياء الذين تظلمينهم. هذا الأمر لا يحتاج إلى بحث وتنقيب فهو مُعلن على أذيال ثيابك ومرتبط بجسدك، وواضح في حياة الجميع. (يفسر البعض عبارة "بل على كل هذه" بمعني أن تلطيخ الدم قد بلغ إلى كل هؤلاء الرؤساء.) ثانيًا: تبرير ذاتها
لا تقف آثار الخطية عند الهروب من اللَّه كما من البرية وأرض ظلامٍ دامس لترتبط بالشر والخطية في زينة خارجية، وإنما فيما هيملطخة بدم الشر تبرر ذاتها، ولا تدرك خطأها. "وتقولين لأني تبرأت ارتد غضبه عني حقًا، هأنذا أحاكمكِ لأنكِ قلتِ لم أخطئ" ع35. هذا هو أبشع ما يصل إليه الإنسان، يشرب الإثم كالماء ولا يدرى، يرتكب الشر ولا يراه شرًا! بهذا يغلق الإنسان على نفسه داخل الخطية فلا تجد التوبة لها موضعًا فيه.
ثالثًا: يحطم مكاسبها الشريرة
إذ يرتمى الإنسان على الشر يظن أنه ينال شيئًا لم ينله في طريق البر. فمن محبة اللَّه لنا أنه يسمح بتحطيم ما نلناه لندرك أن الشر غير قادر على تقديم شيء. هكذا إذ إتكأ شعبه تارة على ملك بابل وأخرى على فرعون مصر، جعله يخزي في بابل كما في مصر ليتكئ على صدر اللَّه الأبدي القادر أن يهب راحة.
"لماذا تركضين لتبدلى طريقك؟!
من مصر أيضًا تخزين كما خزيت من أشور؛
من هنا أيضًا تخرجين ويداكِ على رأسك،
لأن الرب قد رفض ثقاتك فلا تنجحين فيها" ع36،37.
لقد أبدلت ثقتها فأحلت مصر عوض أشور لكي تحميها، لكنها كمن هيفي مأتم قد مات من يعولها، فتضع يديها على رأسها لتندب من اتكلت عليه، لقد تحطمت كل خطتها البشرية. كما يشير وضع اليدين على الرأس إلى السبي، حيث غالبا ما يُقاد المسبيون إلى أرض السبي بهذه الصورة.
ملخص الدعوى
يمكن تلخيص الدعوى الموجهة ضد شعبه في الآتي:
1. صاروا كالأصنام التي يتعبدون لها، أي "صاروا باطلاً" ع5.
2. جاحدون، ينكرون أعمال اللَّه محررهم ومخلصهم ع6-7.
3. نجسوا ميراث الرب وأرضه ع8.
4. فاقوا الأمم في الشر، إذ أبدلوه بآلهة باطلة ع10،11.
5. تشهد الطبيعة ضدهم ع12.
6. تركوا الينبوع الحيّ وشربوا من ينابيع فرعون مصر وبابل ع13-19.
7. صاروا كحيوان جامح ع20.
8. صاروا كزانية وقحة ع 2.
9. صاروا كرمة غير مثمرة ع20.
10. بررت مملكة يهوذا نفسها عوض الاعتراف بالخطأ ع22.