تفسير سفر إرميا - الأصحاح 37 | تفسير تادرس يعقوب


العدد 1- 2:


1. مُلك صدقيا

"وملك الملك صدقيا بن يوشيا مكان كنياهو بن يهوياقيم الذي ملكه نبوخذراصر ملك بابل في أرض يهوذا.

ولم يسمع هو ولا عبيده ولا شعب الأرض لكلام الرب الذي تكلم به عن يد إرميا النبي" ع1-2.

جاء صدقيا خلفًا للملك يكنيا أو كنياهو (2مل24)، وقد رأى في سلفه ثمار رفض الكلمة الإلهية، لكنه لم يتعظ هو ورجاله وشعبه. اُستخدم اسم كنياهو اختصارًا لكلمة "يكنيا"، وفيه نوع من التوبيخ.

رفض الملك وعبيده وشعبه أن يسمعوا لكلام اللَّه ع2، ففقدوا سلامهم الداخلي. ظنوا أن في حبس إرميا إراحة لضمائرهم ونصرة لأفكارهم، لكن بقي النبي المُفترى عليه يحمل قوة وحرية داخلية داخل السجن لأنه ملتصق بالكلمة الإلهية، بينما شعر الملك بالضعف... يطلب كلمة من شفتي إرميا لعله يستريح.

لعل إرميا النبي كان في أعماقه يردد كلمات داود الملك: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخزَ" (مز46:119)، ويعلق الأب أنثيموس أسقف أورشليم على هذه العبارة، قائلاً: [علامة محبة اللَّه... هي أن تتكلم بشهاداته قدام الملوك جهرًا وبشجاعة، كما تكلم الرسل والشهداء... لا نخزى إن كانت أعمالنا وأقوالنا لائقة بملك الملوك المتكلم فينا، وأن نهذّ بوصاياه بالمحبة والثقة، لا بضجر أو تهاون[i].]


العدد 3- 4:


2. صدقيا يلجأ إلي إرميا

"وأرسل الملك صدقيا يهوخل بن شلميا وصفنيا بن معسيا الكاهن إلى إرميا النبي قائلاً:

صلِ لأجلنا إلى الرب إلهنا.

وكان إرميا يدخل ويخرج في وسط الشعب إذ لم يكونوا قد جعلوه في بيت السجن" ع3-4.

بعث صدقيا برسولين إلى النبي، ربما لأنه كانت تنقصه الجرأة للحديث معه وجهًا لوجه. على أى الأحوال لقد دان صدقيا نفسه بفمه، فإن كان قد أرسل إلى إرميا يطلب صلواته ومشورته إيمانًا بأنه نبي، فلماذا لم يسمع للصوت الإلهي؟! كان يليق بالملك لا أن يطلب من النبي من أجله فحسب، بل وأن يصلى معه فيمارس حياة الصلاة القادرة على تغيير الأمور. فإننا حتى في الشفاعة نطلب صلوات القديسين معنا فلا تُقبل الصلوات بدون التجائنا نحن إلى الصلاة مع التوبة.

واضح من تصرف صدقيا أنه فاقد الثقة في أنبيائه، لكنه في نفس الوقت لم يأخذ خطوات جادة في الاستماع لصوت الرب.

كان يهوخل بن شلميا مقاومًا لإرميا وطلب موته (4:38),

كان صفنيا بن معسيا عضوًا في الوفد السابق إلى إرميا.

كان لإرميا حرية الحركة حتى أُلقى القبض عليه وأُودع في السجن إلى لحظات سقوط أورشليم في يوليو 587 ق.م.

العدد 5:


3. رفع الحصار

"وخرج جيش فرعون من مصر.

فلما سمع الكلدانيون المحاصرون أورشليم بخبرهم صعدوا عن أورشليم" ع5.

في صيف 588 ق.م تحرك المصريون إلى منطقة فلسطين، ربما استجابة لطلب صدقيا، (حز11:17-21)، إذ جاء في رسالة لخيش الثانية إشارة إلى زيارة قائد جيش يهوذا إلى مصر. ولعل تحرك فرعون بجيشٍ لم يكن لحماية يهوذا، وإنما كخط دفاعٍ خشية حدوث هجوم بابلي على مصر. هذا ولم يستمر الكلدانيون في حصارهم لأورشليم خشية أن يأتي جيش مصر فينضم إليه جيش يهوذا ضدهم، لهذا فضل الكلدانيون أن يتركوا أورشليم إلى حين ويحاربوا فرعون بعيدًا عن أورشليم ليعودوا ويحاصروها بعد غلبتهم على فرعون.

فرعون هنا هو خفرع (30:44) الذي خلف والده نخو والذي حكم من سنة 589-570 ق.م، تراجع قبل الدخول في معركة طبيعية، تاركًا أورشليم تسقط في يد البابليين سنة 587 ق.م. عدم تدخل نخو الثاني (610-595 ق.م) سمح لبابل أن تهاجم أورشليم في سنة 597 ق.م، والنتيجة الوحيدة لتدخل خفرع كان رفع الحصار لمدة مؤقتة، لكن في نهايتها تمت الإطاحة بآمال صدقيا.

العدد 6- 10:


4. نبوته عن استئناف الحصار

"فصارت كلمة الرب إلى إرميا النبي قائلة:

هكذا قال الرب إله إسرائيل،

هكذا تقولون لملك يهوذا الذي أرسلكم إلىَّ لتستشيروني.

ها إن جيش فرعون الخارج إليكم لمساعدتكم يرجع إلى أرضه إلى مصر.

ويرجع الكلدانيون ويحاربون هذه المدينة ويأخذونها ويحرقونها بالنار.

هكذا قال الرب:

لا تخدعوا أنفسكم قائلين إن الكلدانيين سيذهبون عنا لأنهم لا يذهبون.

لأنكم وإن ضربتم كل جيش الكلدانيين الذين يحاربونكم وبقي منهم رجال قد طعنوا، فإنهم يقومون كل واحدٍ في خيمته ويحرقون هذه المدينة بالنار" ع6-10.

كانت الإجابة صريحة، ليس فيها خداع، ولكن هم أرادوا أن يخدعوا أنفسهم بأنفسهم. يريدون إجابة لا تمثل الواقع، بل حسب هواهم وإرادتهم. حقًا إن لم يخدع الإنسان نفسه لا يقدر حتى إبليس المخادع أن يخدعه! لهذا يقول إرميا النبي: "لا تخدعوا أنفسكم" ع9.

بقوله "طُعنوا" ع10 بلاغة في التصوير، يؤكد الاستيلاء على أورشليم تحت كل الظروف، حتى إن كان قلة من الرجال قد طعنوا بجراحات قاتلة يقومون ويغلبون أورشليم. هكذا جاءت الإجابة هنا واضحة وقاطعة أكثر من قبل.

يرى البعض إن ما ورد في (إر15:52) يظهر أن عددًا من السكان كان قد غادر المدينة وانضم إلى ملك بابل قبل سقوط المدينة. وإن كان هذا مردُّه إلى انشقاق بين الناس واختلاف في الرأي حول السياسة الرشيدة التي يجب اتباعها، فلا يكون إرميا هو الوحيد الذي نصح الملك بالخضوع لبابل، ولكن الحزب المعارض لهذا الفكر حُسب أنصاره من الخائنين.


العدد 11- 14:


5. القبض على إرميا

وكان لما أصعد جيش الكلدانيين عن أورشليم من وجه جيش فرعون،

أن إرميا خرج من أورشليم لينطلق إلى أرض بنيامين لينساب من هناك في وسط الشعب.

وفيما هو في باب بنيامين إذا هناك ناظر الحراس اسمه يرئيا بن شلميا بن حننيا.

فقبض على إرميا النبي قائلاً:

إنك تقع للكلدانيين.

فقال إرميا كذب.

لا أقع للكلدانيين.

ولم يُسمع له، فقبض يرئيا على إرميا وأتى به إلى الرؤساء" ع11-14.

تم القبض على إرميا في وقت كان فيه الحصار مرتبكًا، وكان هناك نوع من الحرية في الحركة داخل المدينة وخارجها.

إذ رُفع الحصار مؤقتًا عن أورشليم اندفعت الجماهير إلى الخارج كنوعٍ من التنفيس. خرجت أعداد بلا حصر لترى حقولها التي خربت ومراعيها التي اندثرت. وسط هذه الجماهير خرج إرميا ظانًا ان أحدًا لا يهتم بشأنه في ظروفٍ كهذه، خاصة وانه مختفٍ وسط أعداد بلا حصر.

يقع باب بنيامين ع13 في الجانب الشمالي من أورشليم، كان مؤديًا إلى أرض بنيامين، خرج منه يبحث عن الأرض التي اشتراها من حمنئيل، لكن أُسيء فهم نواياه، وتم القبض عليه في شك انه ذاهب إلى العدو. ويرى البعض انه إذ رأى الحصار قد نُزع مؤقتًا اراد إرميا أن يخرج من أورشليم إلى عناثوث اشتياقًا إلى الراحة بعد حياة شاقة للغاية مملوءة أحزانًا. أو لعله شعر أن مجهوداته قد فشلت في أورشليم، لم يسمع له أحد لهذا أراد الخروج منها. يبدو أن هذا التصرف كان من عندياته بدون استشارة الرب، مما سبب له متاعب أكثر. كان لابد ان يسأل الرب في كل تحركاته.

يقدم لنا[ii] B. Duhm صورة حية عن الموقف فيقول إنه من ناحية كان الملك يُعامل بطريقة غير لائقة، حيث وُضع في الجب، مع أنه لم يبالغ في أحاديثه ولم يكن متهورًا، بل كان إنسانًا بسيطًا متضعًا ورقيقًأ، ومن ناحية أخرى كان الملك يقوده رجاله العاملون معه بغير إرادته إلى مغامرة خطيرة. حقًا كان الملك يترقب كلمة تصدر من شفتي النبي، يسمعها في الخفاء لإرضاء ضميره، لكنه كان ضعيفًا وليس شريرًا؛ كان مقيدًا أكثر بكثير من قيود النبي الواقف أمامه.

لماذا وُضع في سجن بيت يوناثان؟ ربما كانت السجون الأخرى مكتظة بالمسجونين، أو لأنهم رأوا أن شخصية إرميا خطيرة للغاية حتى علم أفكار المسجونين أنفسهم من جهة الفكر السياسي، لذا رأوا ضرورة عزله حتى عن المساجين في هذا السجن ضمانًا لعدم التقائه بأحدٍ.

واضح أن الاهتمام الذي وُجه إلى إرميا كان باطلاً، لأن الكلدانيين كانوا قد فارقوا أورشليم، وكانوا مشغولين في الدخول في معركة مع فرعون. هذا وقد وُضع في السجن دون محاكمة طبيعية.


العدد 15- 16:


6. طرحه في الجب

"فغضب الرؤساء على إرميا وضربوه وجعلوه في بيت السجن في بيت يوناثان الكاتب لأنهم جعلوه بيت السجن.

فلما دخل إرميا إلى بيت الجب وإلى المقببات أقام إرميا هناك أيامًا كثيرة" ع15-16.

مسكين هو ذاك الذي يحمل كلمة اللَّه (الذي يرمز إليها إرميا) كما إلى الجب لكي يدفنها وسط تراب هذا العالم ووحله عوض ان يلتصق بها لتحمله إلى سمواتها.

يعلق العلامة أوريجينوس على قول المرتل: "إلى الدهر لا أنسى حقوقك، لأنك بها أحييتني" (مز93:119)، قائلاً: [سأحفظ ذكرى تعاليمك التي تسلمتها منك، هذه التي تعلمتها هنا على الأرض، وبها انتقلت من الأرض إلى السماء، وصرت ساكنًا مع الملائكة[iii]].

العدد 17:


7. إطلاق إرميا

"ثم أرسل الملك صدقيا وأخذه وسأله الملك في بيته سرًا، وقال:

هل توجد كلمة من قبل الرب؟

فقال إرميا: توجد.

فقال إنك تدفع ليد ملك بابل" ع17.

التجأ صدقيا الملك إلى إرميا إما لأنه ظن أن طرح إرميا في السجن قد غيَّر من فكره، فينطق بكلمات مطمئنة عوض إصراره على تحقيق السبي البابلي، أو أراد من النبي أن يثبِّت ظنَّه وسؤال قلبه أى أن مغادرة الكلدانيين تعني خلاصًا نهائيًا كليًا لأورشليم. أما إرميا فيرد بأن هذا فكر باطل لأن جيوش بابل ستعود لتهلك المدينة.

كان الحكم على صدقيا قاسيًا لأنه استشار إرميا النبي على الأقل مرتين وأظهر حنوًا نحوه، لكنه في ضعف شخصيته كان يخشى العاملين معه (24:38- 27) الذين رفضوا رسالة إرميا.


العدد 18- 21:


8. إرميا يطلب رحمة

"ثم قال إرميا للملك صدقيا:

ما هي خطيتي إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب حتى جعلتموني في بيت السجن؟

فأين أنبياؤكم الذين تنبأوا لكم قائلين لا يأتي ملك بابل عليكم ولا على هذه الأرض؟

فالآن اسمع يا سيدي الملك.

ليقع تضرعي أمامك:

ولا تردني إلى بيت يوناثان الكاتب فلا أموت هناك.

فأمر الملك صدقيا أن يضعوا إرميا في دار السجن،

وأن يُعطى رغيف خبز كل يومٍ من سوق الخبازين حتى ينفذ كل الخبز من المدينة.

فأقام إرميا في دار السجن" ع18-21.

سوق الخبازين ع21: من عادات الشرق القديم أن يكون لكل حرفة أو صناعة شارع يقتصر على أهل المهنة.

كان يمكن لصدقيا أن يطلق إرميا من السجن، لكن لم تكن لديه الشجاعة لأخذ قرارٍ كهذا. لقد تركه في السجن بعد أن خفف عنه بعض الأتعاب، وفد حوَّل اللَّه سجن إرميا إلى بركةٍ له ولغيره.

على أي الأحوال، كان إرميا النبي صاحب الدموع الغزيرة، وجدران القلب المتوجعة، والأحشاء التي لا تكف عن أن تئن، لكنه الرجل الشجاع الذي يقف أمام الملوك بقوة، ليقول "يا رب عزّي وحصني وملجأي في يوم الضيق" (إر19:16). وكأنه يردد ما سبق فقاله ميخا النبي: "أنا ملآن قوة روح الرب وحقًا وباسًا لأخبر يعقوب بذنبه واسرائيل بخطيته" (مي8:3).

أعلى