مثل كثير من الأسفار النبوية قدم هذا السفر في اختصار ثلاثة أمور لفهمه: بعض الأخبار الشخصية الخاصة بالنبي، وإرساليته الإلهية، والمدة التى خلالها مارس إرميا عمله النبوي. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأمور. العدد 4- 5: 1. إدراك الدعوة الإلهية
تحدث السفر عن دعوة النبي ورسالته خلال أمرين: حوار بين اللَّه وإرميا [4-10؛ 17-19] وخلال رؤيتين [11-16]، ركز الحوار على دعوة إرميا الشخصية والرؤيتان على رسالته.
إذ تدخل اللَّه في حياة إرميا وتحدث معه في حوارٍ مفتوحٍ، فتح عن عينيه ليدرك إرميا من هو، وما هيىرسالته في الحياة، وما هيىإمكانياته في الرب.
افتتح النبي حديثه بعلاقته مع اللَّه مرسله هكذا: "فكانت كلمة الرب إلىّ قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك" ع4،5.
ما أعجب هذه العبارة، فإنها تكشف عن سرّ الحب العميق بين اللَّه والإنسان.
أدرك النبي أن علاقته باللَّه تمتد جذورها إلى ما قبل تكوينه كجنين في أحشاء أمه، فقد كان في ذهن اللَّه، وموضوع محبته، يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة اللَّه الخلاصية! دعوته للعمل النبوي لم تقم من عندياته ولا بخطة إنسانية، لكنها بتخطيط إلهى!
لقد أدرك إرميا النبي أن حياته لم تأتِ جزافًا نتيجة اتحاد جسدى بين والديه، إنما هو أعظم من هذا. ميلاده الجسدى ليس هو بداية حياته الحقيقية، ولا موته الجسدى هو نهاية حياته! إنه من صنع اللَّه نفسه!
إذ تحدث عن الأنبياء الكذبة يقول اللَّه من خلال إرميا: "لم أرسل الأنبياء بل هم جروا، لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا" (21:23).
لكى يؤكد إرميا نبوته ذكَّر قارئيه انه مدعو من اللَّه مباشرة ومرسل منه للشعب الداخل في ميثاق إلهى، مثله في ذلك مثل عاموس النبي وغيره من الأنبياء (عا14:7-15؛ إش1:6-13؛ حز4:1-15:3).
هذا ما أدركه الرسول بولس الذي دُعى للإيمان وللعمل الرسولى بعد أن اضطهد كنيسة اللَّه وافترى عليها (1تي12:1،13) وأتلفها (غلا13:1)، إذ عرف أنه كان مفرزًا وهو في بطن أمه (غلا15:1).
تعبير "صورتك" مأخوذ عن عمل اللَّه كخزاف (تك 7:2-8)، أما الكلمة العبرية فمن الجانب الفنى تعنى "خلقتك" (عا13:4؛ إر19:51؛ إش18:45؛ 5:49؛ مز5:59)[1].
يدعو اللَّه الخدام والرعاة بطرق كثيرة. دُعى موسى بظهوره له على شكل عليقة ملتهبة نارًا، وأمره أن يخلع نعليه حتى يقدر أن ينصت إلى الرسالة المقدسة بخوف وخشية، ساندًا إياه بالآيات والمعجزات (خر3). وعند دعوته لإشعياء وحزقيال النبيين قدم لهما رؤى خاصة بمجد اللَّه والخليقة السماوية (إش6، حز1)، فصرخ إشعياء تحت وطأة شعوره بثقل خطاياه وخطايا الشعب، وسقط حزقيال أمام بهاء مجد الرب. أما دعوة إرميا فكانت مختلفة تمامًا، إذ يقول في بساطة: "فكانت كلمة الرب قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك...". كان اللقاء بين اللَّه وإرميا لقاءً طبيعيًا وكأنهما صديقان حميمان، وأن هذه الرسالة جاءت نتيجة علاقة قديمة تمتد جذورها إلى أيام تكوين إرميا في أحشاء أمه.
اختيار اللَّه لإرميا وتقديسه وهو بعد في الأحشاء هزّ قلوب الكثيرين من آباء الكنيسة، فرأي القديس أمبروسيوس في ذلك صورة حية لعمل اللَّه فينا لأجل تقديسنا، فإنه يهب التقديس كعطية من جانبه لا فضل لنا فيها، ويكمل قائلاً: [احفظ هبات اللَّه، فإن مالم يعلمك إياه أحد يهبه لك اللَّه ويوحى به إليك[2]]. ورأي القديس جيروم أن اللَّه بسابق معرفته ادرك ما يكون عليه إرميا فإختاره للعمل النبوي (رو29:8): [عرف اللَّه مقدمًا ما يكون في المستقبل عندما قدّس إرميا وهو لم يُولد بعد[3]]. ويرى القديس كيرلس الأورشليمي أن اللَّه الذي شكلّ النبي في الرحم، وهيأه للعمل النبوي، لا يخجل من أن يأخذ لنفسه جسدًا في الرحم: [إن كان اللَّه لم يخجل من أن تكون له علاقة بتشكيل إنسان، فهل يخجل من أن يشكل لنفسه جسدًا مقدسًا كحجاب للاهوته[4]؟!]
ويرى العلامة أوريجينوس أن ما جاء في العبارة السابقة إنما هو هبة لم يتمتع بها أحد من قبله أو من بعده من الأنبياء، حتى إبراهيم أب الآباء والذي يُحسب كنبي أيضًا لم ينعم بهذا. يقول:
[ماذا قالت له كلمة الرب؟
قالت له شيئًا مميَّزًا جدًا ومختلفًا عما قيل للأنبياء الآخرين. فإننا لا نجد هذا الكلام موجهًا إلى أي من الأنبياء.
فقد دُعى إبراهيم نبيًا في الآية: "إنه نبي وهو يشفع لك" (تك7:20)، ولم يقل له اللَّه: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك" (إر5:1)؛ كما تقدس إبراهيم بعد فترة من الزمن حينما خرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه؛ ووُلِد إسحق بوعد، لكننا نجد انه لم توجه إليه تلك الكلمات.
لقد حصل إرميا على عطية خاصة وهى: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك"[5].]
أما سرّ الامتياز فهو أن إرميا كان يرمز للسيد المسيح، الذي تنطبق عليه هذه العبارة بمفهوم فريد رائع، فإنه قبل تجسده منذ الأزل يعرف الآب ابنه وحيد الجنس، وقد قدسه بمعنى سلّم إليه العمل الخلاصى من جهة الإنسان. لم يكن السيد المسيح في عوز إلى تقديس خارجى، إذ هو القدوس، لكنه قدم ذاته للآب في طاعة ليقوم بخلاصنا، لعله لهذا قال: "لأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم مقدسين في الحق" (يو19:17). يقول العلامة أوريجينوس: [يقدس اللَّه لنفسه بعضًا من الناس، فلا ينتظر ميلادهم ليقدسهم (يخصصهم لعمله)، إنما يفعل ذلك قبل خروجهم من الرحم... ينطبق هذا على المخلص الذي ليس فقط قدَّسه قبل خروجه من الرحم، وإنما أيضًا قبل ذلك (قبل التجسد)، أما بالنسبة لإرميا فقدسه قبلما يخرج من بطن أمه[6].]
ربما يتسأل البعض: لماذا يقول "قبلما صورتك في البطن عرفتك"، ألا يعرف اللَّه الجميع قبل أن يصورهم في البطن؛ نجيب أن المعرفة ليست إدراكًا ذهنيًا مجردًا، وإنما هيىمعرفة الصداقة والحب التى تقوم بين اللَّه ومؤمنيه. فالكلمة العبرية yada غالبًا ما تحمل تعهدًا شخصيًا، كما يعرف الرجل إمرأته (تك1:4)، وكما قيل: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض" (العالم2:3). لهذا حزن اللَّه جدًا لأنه "لا معرفة اللَّه في الأرض" هو1:4، حاسبًا معرفته أفضل من تقديم محرقات (هو6:6)[7]. وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[يُعتبر الخاطى مجهولاً من اللَّه...
لا يعرف اللَّه الذين يصنعون الإثم، لأنهم لا يستحقون أن يكونوا معروفين لديه[8].]
[يعرف اللَّه الأبرار الذين هم مستحقين أن يكونوا معروفين له، إذ "يعلم الرب الذين هم له" (2تي19:2)، وعلى العكس فهو لا يعرف غير المستحقين لذلك، إذ يقول المخلص: "إنى لا أعرفكم قط" (مت23:7).
نحن البشر حسب مقايسنا نحكم على بعض الأشياء أنها تستحق أن نعرفها، بينما بعضها لا نريد حتى أن نسمع عنها، ولا أن نعلم عنها شيئًا. هكذا رب كل الأشياء يريد أن يعرف فرعون والمصريين لكنهم كانوا غير مستحقين أن يُعرفوا منه. كان موسى مستحقًا أن يعرفه اللَّه، وهكذا كان كل الأنبياء مثله.
إذن لتُمارس أعمال المحبة بكثرة، فيبدأ الرب في معرفتك. فإن كان اللَّه قد عرف إرميا قبلما صوره في بطن أمه، لكنه يبدأ في معرفة البعض عندما يبلغون الثلاثين أو الأربعين من عمرهم...
يقدس اللَّه لنفسه بعض الناس، أما في حالة إرميا فإنه لم ينتظر حتى وقت ولادته ليقدسه، لقد تقدس فعلاً قبل أن يخرج من الرحم[9].]
عرف (yada) اللَّه إرميا، وقدسه (hiqdis)، وعينه أو أقامه(ntn) للخدمة النبوية.
بجانب المعرفة، أي اهتمام اللَّه به شخصيًا والتصاقه به نجد التقديس، يعنى فرز الشخص أو الشىء وعزله لكى لا ُيستخدم إلا لحساب اللَّه. كما أفرز اللَّه سبط لاوى لخدمته والهيكل والسبوت وأيام الأعياد والبكور والعشور الخ. من يستخدمها لغير خدمة اللَّه ُيحسب مجدفًا.
أقامه اللَّه نبيًا للشعوب، وليس لشعبِ واحدِ، لأنه متحدث باسم اللَّه الذي هو إله كل الشعوب، الذي يود أن يجمع الكل للتمتع به.
العدد 5: 2. اتساع القلب بالحب
يعلن الرب لإرميا النبي حدود خدمته؛ قائلاً له: "جعلتك نبيًا للشعوب" ع5. إن كان إرميا قد بدأ خدمته في حدود قريته التى رفضته لكن قلبه لم يضق بالناس إنما اتسع ليشمل كل يهوذا التى أصرت على رفضه مرارًا، بل يؤكد اللَّه له أنه قدّسه "نبيًا للشعوب". وكأنه أراد أن يخرج به من الدائرة الضيقة لكى يئن مع أنات كل إنسانٍ، ولا يستريح قلبه ما لم يسترح الكل في الرب.
هل دُعى إرميا لخدمة يهوذا، أم نبيًا للشعوب؛ من الجانب الحرفي تنبأ عن بعض الشعوب الأخرى مثل بابل (إر12:25-14، أر50)، ومصر (إر49)، وفلسطين (إر47)، وموآب (إر48)، وبنى عمون (إر49)، وأدوم (إر49)، ودمشق (آرام – إر49)... وكأن اللَّه قد جعل لإرميا دورًا يمس لا حياة يهوذا فحسب، بل وتاريخ الأمم الأخرى أيضًا[10]. حينما يدرك الإنسان رسالته التى من أجلها خلقه اللَّه يكون له دوره الحيوي في حياة الآخرين بطريق أو آخر. أما من الجانب الروحى فكان إرميا يشير إلى السيد المسيح، الذي وهو الابن الوحيد الجنس جاء كنبي (15:18) يسحب قلب الشعوب إلى الحياة السماوية. هكذا خدامه المرتبطون به يحملون ذات الروح، مشتاقين بروح الأبوة الجامعة الحانية أن يضموا كل إنسان إن أمكن إلى ملكوت اللَّه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [أؤتمن (الكاهن) على العالم كله، وصار أبًا لجميع الناس[11].] العدد 6- 7: 3. اتضاع النفس
إذ دُعى إرميا للخدمة لم يرفضها بطريقة مطلقة وإنما اعتذر بضعفاته الشخصية، قائلاً: "قلت: آه يا سيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد" ع6. وكانت إجابة الرب: "لا تقل إنى ولد، لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به" ع7.
للقديس غريغوريوس النزينزى تفسير روحى حىّ عن اعتذار البعض عن الخدمة وقبول الآخرين لها، إذ يقول: [جيد للإنسان أن يتراجع عن (دعوة) اللَّه إلى حين كما فعل العظيم موسى (خر10:4) وإرميا من بعده، لكننا نقبل الدعوة بعد ذلك حين يدعونا ونحن متأهلون كما فعل هرون (خر27:4) وإشعياء (6:1). يلزم أن يتم ذلك خلال الشعور بالمسئولية، فيكون التراجع بسبب الشعور بالحاجة إلى قوة، ويكون القبول بسبب قدرة ذاك الذي دعانا[12].]
في حديث للأب غريغوريوس (الكبير) عن الرعاية يقدم لنا إشعياء مثالاً لمن بالحب يقبل الخدمة، وإرميا كمثال لمن بالحب يعتذر عنها، قائلا: [من هذين الرجلين تظهر صورتان متباينتان في الخارج لكنهما يصدران عن ينبوع حبٍ واحدٍ. توجد وصيتان للحب: حب اللَّه وحب القريب. بينما اشتاق إشعياء إلى نفع أقربائه خلال الحياة العاملة مشتهيًا عمل الكرازة، اشتهى إرميا الالتصاق بمحبة خالقه بمثابرة خلال الحياة التأملية، معتذرًا عن إرساله للكرازة[13].]
على أي الأحوال، لم يعتذر إرميا عن الخدمة لبلادةٍ في قلبه، ولا هربًا من المسئولية، وإنما شوقًا إلى فترة خلوة مع اللَّه ولو إلى حين مع شعوره بالضعف الشخصى أمام إدراكه لجسامة المسئولية، فجاء هذا الشعور يؤكد تأهله لقبول عمل اللَّه فيه، إذ يعمل اللَّه في المتواضعين. كما يقول القديس أمبروسيوس: [اختار اللَّه موسى وإرميا ليعلنا كلمة اللَّه للشعب خلال الاتضاع، فيقدران أن يحققا هذا العمل بالنعمة[14].] ويقول الرسول بولس: "اختار اللَّه جهال العالم ليخزى الحكماء، واختار اللَّه ضعفاء العالم ليخزى الأقوياء، واختار اللَّه أدنياء العالم المزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود، لكى لا يفتخر كل ذى جسد أمامه" (1كو27:1-29). إذن سرّ القوة لا في الإناء المختار، وإنما في العامل فيه، لهذا يؤكد الرب لإرميا في أكثر من موضع "أنا معك" ع8،9.
ويتساءل العلامة أوريجينوس[15]: كيف يمكن أن تنطبق كلمات إرميا النبي: "لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد" على المخلص، مادام الأول رمزًا له؟ ويجيب بأنه في العهد القديم قيل عن المخلص بكل وضوح: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل... قبل أن يعرف الصبى أن يرفض الشر ويختار الخير تُخلى الأرض التى أنت خاشٍ من ملكيها" (إش14:7،16). فقد قيل "قبل أن يعرف الصبى..."، إذ "أخلى نفسه" (في7:2)، وجاء عنه في الإنجيل انه كان "يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند اللَّه والناس" (لو52:2). فإنه إذ أخلى ذاته بنزوله على الأرض أخذ من جديد ما قد تركه خلال إخلاء ذاته بإرادته؛ ليس غريبًا أن ينمو من جهة الحكمة والقامة والنعمة عند اللَّه والناس، بهذا يتحقق القول: "قبل أن يعرف الصبى أن يرفض الشر ويختار الخير" وما غير هذا من النصوص التى ذكرها إشعياء. يقول العلامة أوريجينوس إن المخلص هو كلمة اللَّه العالم بكل شىء، في اتضاعه قبل أن يتجسد ويصير طفلاً ليتعلم لا الأمور الكبيرة وإنما الأمور الصغيرة، لا لغة اللَّه فهى لغته وإنما لغة البشر، لكى يكون مشابهًا لنا في كل شىء. لقد كان التأنس حقيقة بكل معنى الكلمة، حمل ناسوتنا وتدرج معنا في كل شىء كواحدٍ منا حتى يرفعنا إلى مجده الأبدى.
نعود إلى النص الكتابى حيث يجيب اللَّه إرميا: "لا تقل إنى ولد (تطلق الكلمة على الطفل المولود حديثًا أو الصبى حتى بلوغه الثلاثينات للزواج)[16]"، فإن كان إرميا بحسب عمره صغيرًا، لكنه في عينى اللَّه ناضج روحيًا. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الداخلى حتى وإن كنا شيوخًا حسب الجسد، كما يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الخارجى ولكننا ناضجون حسب الإنسان الداخلى، وهذا ما كان عليه إرميا، إذ كانت لديه نعمة اللَّه وهو بعد ولد صغير حسب الجسد. لذلك قال له الرب: "لا تقل إنى ولد". وأما علامة أنه إنسان ناضج (كامل) وليس بولد فهو ما جاء بعد ذلك "إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به، لا تخف من وجوههم"[17].]
لقد اعتذر إرميا عن الخدمة كما فعل موسى النبي (خر3). وقد رأي بعض الدارسين أن إرميا هو "موسى" جديد أقامه اللَّه للشعب، من جهة:
ا. اعتذارهما في البداية عن الخدمة لشعورهما بالعجز البشرى!
ب. كانا يتشفعان في شعب اللَّه بحبٍ شديدٍ ومرارةٍ!
ج. نالا وعدًا بأن يضع اللَّه كلماته في فمهما (8:1؛ خر12:3).
د. أراد موسى أن يخلص الشعب من عبودية فرعون، وأراد إرميا أن يخلص الشعب من عبودية الخطية التى تدخل بهم إلى الأسر البابلى.
هـ. قدم موسى للشعب ميثاق اللَّه معهم، وأعلن إرميا عن عهد جديد مع اللَّه (31:31-34). العدد 8:
4. شجاعة الخادم
الاتضاع لا يعنى الاستكانة، إنما الشعور بضعف الإنسان وعجزه بذاته، مع الإيمان بإمكانيات اللَّه الجبارة التى تسنده، فيعمل بشجاعة دون خوف أو اضطراب. فالراعى بل وكل مؤمن حقيقى يتمسك بكلمة اللَّه الحازمة التى تعلن الحق وتفضح الباطل، يكون موضع غضب السالكين في الظلمة بل وأحيانًا موضع مضايقات حتى العاملين في الكرم، لذا جاء في سفر ابن سيراخ: "إن أردت أن تخدم الرب فأعدد نفسك للتجربة".
يقول العلامة أوريجينوس: [يعرف اللَّه المخاطر التى تلاحق الموكلين على الكلمة من المستمعين لهم، فعندما يوبخون يكرههم الناس، وعندما يلومون ٌيضطهدون، فيتحمل الأنبياء كل هذه الآلام إذ "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته" (مت57:13). هكذا إذ يعرف اللَّه المخاطر التى تلاحق من يرسلهم يقول: "لا تخف من وجوههم لأنى أنا معك لأنقذك يقول الرب" ع8. فقد جاء عن إرميا أنه أُلقى في الجب (6:38) فكان لا يأكل إلا رغيف خبز كل يوم (21:37) ولا يشرب إلا قليل ماء محتملاً آلامًا كثيرة، وكما قيل لليهود: "أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟!" وقيل أيضًا: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع ُيضطهدون" (2تي12:3)، وذلك خلال العمل العدوانى وبكل وسيلة للمضايقة. كذلك يتحمل المضطَهدون كل الآلام بدون تذمر، راجين أن ُيضطهدوا بلا سبب وليس بسبب خطأ ارتكبوه، وإذا حدث أن أُضطهدنا من أجل الحق، فلنسمع هذا التطويب: "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلى كاذبين افرحوا وتهللوا؛ لأن أجركم عظيم في السموات، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم" (مت15) [18].]
لقد أكدّ الرب لإرميا: "لا تخف من وجوههم لأنى أنا معك لأنقذك" ع8. هذه كلمات صادرة عن الفم الإلهى، يلتزم بها اللَّه بارادته المملؤة حبًا نحو كل خدامه الأمناء، ألا وهى "معية اللَّه"، أن يكون معهم (خر12:4؛ يش5:1،9؛ قض16:6؛ 1صم19:3؛ 13:16، مت20:28). الخدمة شاقة بل ومستحيلة بالأذرع البشرية، لأنها في جوهرها خدمة إقامة من الأموات، لا موت الجسد بل موت النفس؛ الأمر الذي يمارسه الخالق المخلص خلال خدامة المتكئين عليه.
يؤكد له: "هأنذاك جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض... فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأنى أنا معك يقول الرب: لأنقذك..." ع18،19. لم يعد اللَّه إرميا بإزالة المتاعب عنه، لكنه وعده بمؤازرته اثناء الشدائد والضيقات، لا لكى لا يسقط فحسب، وإنما يجعل منه مدينة حصينة تحتضن الكثيرين، وعمود حديد يُبنى عليه هيكل الرب، وأسوار نحاس يختفي وراءها الكثيرون في المسيح يسوع. إنه يهب خدامه كلمته "كمطرقةٍ تحطم الصخر" (29:23)، ويقدم لهم اسمه ليبيد الشر المحيط بهم (مز11:118).
اللَّه لا يمنح قديسيه عدم التعرض للتجارب، إنما يعطيهم القوة للغلبة، وكما يقول القديس بيامون: [لا يختلف القديس عن الخاطى في أنه ليس مُجربًا مثله، بل يختلف عنه انه لا يُقهر حتى من الهجوم العنيف، أما الآخر فينهزم من أقل تجربة[19].]
العجيب أن اللَّه لا يطمئن خدامه بنزع التجارب عنهم بل يهددهم إن تركوا روح الشجاعة ليس فقط ينهزمون بل هو أيضًا يرعبهم، إذ يقول: " لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم" ع17. وكأن سرّ نجاحهم هو شجاعتهم في الرب.
أخيرًا إذ اعتذر إرميا عن الخدمة بسبب ضعفه دفعه اللَّه إلى الإيمان به ليحيا بروح الشجاعة، واهبًا إياه إمكانية الغلبة والنصرة على كل العقبات دون أن يلزمه بالخدمة قسرًا. في هذا يتحدث القديس يوحنا الذهبى الفم عن العاملين في كرم الرب، قائلاً: [أنظر، في سلطانهم أن ينطقوا أو يمتنعوا عن الكلام. فإنهم لا يلتزمون بالعمل قسرًا... فقد هرب يونان (يونان3:1)، وتأخر حزقيال (حز 13:3) واعتذر إرميا (6:1) ومع ذلك لم يدفعهم اللَّه قسرًا ولا ألزمهم بالعمل وإنما نصحهم وأرشدهم وهددهم... وأنار أذهانهم لكى تدرك الأمور الضرورية[20].]
العدد 9- 14:
5. الاختفاء في كلمة اللَّه
"ومدّ الرب يده ولمس فمى، وقال الرب لى: ها قد جعلت كلامى في فمك" ع9. يختفي خادم اللَّه في كلمة اللَّه تمامًا، ويخفيها في أعماقه ليعيش بها. إنه يُبتلع في الكلمة، والكلمة تبتلعه...
بقدر ما يظهر الخادم بذاته ينَّمق الكلمات، تخرج الكلمة مشوهة وضعيفة بلا سلطان؛ وبقدر ذوبانه فيها تخرج في بساطتها قادرة أن تخترق أعماق القلب لتهب سلامًا وروحًا وحياة! لهذا تصلى الكنيسة في ليتورجية الأفخارستيا أن يهب اللَّه خدامها ألا ينطقوا إلا بكلمة الحق، أي "كلمة اللَّه"؛ فتطلب من أجل الأب البطريرك أن يكون مفصلاً كلمة الحق باستقامة، ومن أجل العاملين معه: "والذين يفصلون كلمة الحق باستقامة أنعم بهم يا رب على كنيستك".
جاء في الدسقولية: [اهتم بالكلام يا أسقف إن كنت تقدر أن تفسر ففسر كلام الكتب. إشبع شعبك واروه من نور الناموس، فيغتنى بكثرة تعاليمك[21].] ويقول القديس إيرنيموس: [يلزم أن تتناسب كلمات الكاهن مع قراءات الإنجيل. لا تكن بليغًا في الأسلوب فحسب، ولا مكثرًا في الكلام، تثرثر بلا هدف. إنما كن عميقًا في الأمور، مختبرًا أسرار اللَّه[22].] كما يقول: [اقرأ الكتب المقدسة باستمرار، فلا ترفع الكتاب المقدس قط من يدك. تعلم ما ستُعلمه للآخرين، ملازمًا للكلمة الصادقة التى بحسب التعليم لتكون قادرًا أن تعظ وتوبخ المناقضين (1 تى 4:3)...[23]] ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [الذي يميز المعلم هو قدرته على التعليم بالكلمة[24].]
سرّ القوة إذن في حياة إرميا أن اللَّه مدّ يده، ولمس فيه، وجعل كلامه فيه. وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل على مدّ اللَّه يده ولمس فم إرميا، إذ يقول: [لاحظ الفارق بين إرميا وإشعياء. فإشعياء يقول: "ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينىّ قد رأتا الملك رب الجنود" (إش5:6)، وبعد هذا الاعتراف... لم يمد اللَّه يده ويلمسه، ولكن طار إليه واحد من السيرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط ... ومسّ بها فمه، وقال: إن هذه قد مست شفتيك فانتزع اثمك وكفر عن خطيتك (إش6:6،7)، أما إرميا فتقدس وهو في بطن امه، ولم يرسل له اللَّه ملقطًا أو جمرة من على المذبح، إذ لم يكن به شىء يستحق النار، بل مدّ يده ذاتها ولمسته[25].]
هكذا تمتع إرميا النبي بتقديس اللَّه له وهو في البطن، كما أُنعم عليه بلمسة يد الرب لفمه لينال الكلمة في داخله... أما عمل الكلمة الإلهية في حياة رجال اللَّه فهى: "أنظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبنى وتغرس" ع10.
يقول الرسول بولس: "لأن كلمة اللَّه حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذى حدين" (عب12:4)، فهى تفصل بين الشر والخير، وتميز بين مملكة إبليس ومملكة اللَّه، تقلع جذور الخطية وتغرس بذار الصلاح، تهدم الفساد وتبنى برّ المسيح فينا. هكذا كان اللَّه صريحًا مع نبيه إرميا منذ اللحظة الأولى، علّمه التمسك بكلمة اللَّه التى تهدم وتبنى، وتقلع وتغرس! رسالة صعبة وقاسية تثير الشعوب والممالك ضده. لم يرسله ليقدم كلمات لينة مهدئة، وإنما ليعمل بالهدم والنقض والاقتلاع، وفي نفس الوقت البناء والغرس.
يقول القديس أغسطينوس: [هذا هو صوت الحق. هذا ما يفعله الأطباء حينما يقطعون، إذ يجرحون ويشفون. يحملون السلاح لكى يضربوا بالمشرط، ثم يتقدموا ليشفوا[26].] وجاء في مناظرات القديس يوحنا كاسيان: [يعتمد الكمال العملى على نسق مزدوج: الوسيلة الأولى هيىالتعرف على طبيعة كل الأخطاء وطريقة علاجها، والوسيلة الثانية هيىاكتشاف تدبير الفضائل... يجدر بنا أن نعرف اننا نبذل جهدًا بغرض مزدوج: سحق الرذيلة ونوال الفضيلة[27].]
هذا هو عمل كلمة اللَّه المزدوج في حياة الإنسان الداخلية، وفي حياة الكنيسة والعالم، لكنه عمل واحد متكامل، فلا بناء بدون هدم، ولا غرس دون اقتلاع! هذا هو أيضًا عمل الروح القدس في المعمودية حيث يقوم بهدم الإنسان القديم وأعماله الشريرة، لينعم المؤمن بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي للمعمدين حديثًا: [كنتم تموتون وفي نفس اللحظة كنتم تولدون، كانت مياه الخلاص بالنسبة لكم قبرًا وأمًا[28].] ويقول القديس غريغوريوس النزينزي إن [الخطية دفن في الماء... والمعمودية نوال للروح[29].] ويقول القديس جيروم: [الذي ينال المعمودية في الآب والابن والروح القدس يصير هيكل اللَّه، فينهدم البناء القديم ليقوم مقدس جديد للثالوث القدوس[30].]
يرى العلامة أوريجينوس ان هذا العمل من الهدم والبناء خاص بالسيد المسيح نفسه، إذ يقول:
[أين هيىالشعوب التى قلعها إرميا؟
وأين هيىالممالك التى هدمها؟
لأنه مكتوب بكل وضوح: "قد وكلتك اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم".
أي سلطان كان لإرميا حتى ُيهلك، إذا افترضنا أن هذه الكلمة موجهة لإرميا: "وُتهلك"؟
هل يوجد أعداد كثيرة من الناس بناهم إرميا حتى يقال له: "وتبني"؟
يعلن إرميا: "لم أعمل صلاحًا" فكيف إذًا ُيكلف بـ البناء والغرس؟
إذا طُبقت هذه الكلمات على المخلص فلا ُتحير المفسرين أو تقلقهم ، لأن إرميا هنا هو رمز للمخلص[31].]
إن كان عمل الكلمة هو هدم شعوب وممالك واقامتها... فما هيىهذه الممالك من الجانب الرمزى؟
يقول العلامة أوريجينوس:
[مَن مِن الناس أخذ كلامًا من عند اللَّه وله نعمة الكلمات الإلهية يقوم بقلع وهدم شعوب وممالك؟
عندما نقول أن من أخذ كلامًا من اللَّه لقلع وهدم شعوب وممالك، أرجوك ألا تأخذ كلمتى "شعوب" و"ممالك" بالمعنى المادى؛ إنما باعتبار أن الخطية تملك على النفوس البشرية، بحسب كلمات الرسول: "إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت" (رو12:6)، وبما ان هناك أنواع جديدة من الخطايا، فسوف نفهم أن المعنى الرمزى لـشعوب وممالك هو الشرور الفظيعة الموجودة في نفوس البشر، والتى تُقلع وُتهدم عن طريق كلام اللَّه المعطى لإرميا أو لغيره من الأنبياء[32].]
[توجد ممالك كما توجد شعوب، فتوجد مملكة النجاسة وتوجد شعوب النجاسة تبسط أعمال الشر في حياة كل شخص، كالطمع والسرقة... أنظر إلى الخطاة، كل واحدٍ فواحدٍ، فتفهم الشعوب موضوع المملكة... كلمة الرب مُرسلة إلى الشعوب والممالك بالقلع والغرس؛ فماذا تقتلع؟ لقد علمنا مخلصنا "كل غرسٍ لم يغرسه أبى السماوى يُقلع" (مت13:15). توجد داخل النفوس أشياء لم يغرسها الآب السماوى، هيى"أفكار شريرة، قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف" (مت19:15). هذه لم يغرسها الآب السماوى. أتريد أن تعرف من الذي غرس أفكارًا من هذا النوع؟ اسمع ما قيل: "إنسان عدو فعل هذا" (مت28:13)، زرع زوانًا وسط الحنطة (مت25:13). اللَّه يهتم ببذوره، والشيطان أيضًا، فإن تركنا الحقل فارغًا للشيطان يزرع الغرس الذي لم يغرسه الآب السماوى، الذي يجب اقتلاعه تمامًا. إذن لا تتركوا الحقل فارغًا للشيطان بل للرب فيزرع البذور في نفوسنا بفرح. لا تظنوا أن إرميا قد حصل على خدمة مؤلمة عندما ملك على ممالك وشعوب، فإن اللَّه الصالح كان بكلمته يقتلع كل ما هو مخزى، ينزع ملكوت العدو عن الملكوت السماوى، ويقتلع شعوب الأعداء (الخطايا) عن شعب اللَّه![33]]
إذن بكلمة اللَّه يقتلع خادم اللَّه الغرس الغريب لكى يقوم الآب بتقديم غرسه في النفس؛ ويهدم مملكة الخطية لكى يقيم الرب مملكته السماوية؛ ويطرد الشعوب الغريبة الدنسة (الرجاسات) لكى يتمجد اللَّه في شعبه.
لكى تبنى كلمة الرب مملكته في داخلنا يلزمنا أن نتركها تهدم فينا ما هو غريب عنها، وتنزعه تمامًا، تحرقه بنارٍ أو تلقى به خارجًا حتى لا يعوق البناء الجديد والغرس الجديد. لهذا السبب كان البيت المضروب بالبرص تُقلع حجارته التى فيها الضربة، وتُطرح خارج المدينة في مكانٍ نجسٍ (لا40:14)... لا يكفي قلع الحجارة، وإنما يلزم ألا تُترك فتحتل حيزًا مقدسًا أو تسرب النجاسة إلى غيرها، بل تُطرح خارجًا... هكذا لا نترك فينا أثرًا للخطية بل ويُحرق الغرس الغريب تمامًا كما بنار... إذ يقول: "اجمعوا أولاً واحزموه حزمًا ليحرق" (مت30:13).
يقول العلامة أوريجينوس:
["لتقلع وتهدم"،
يوجد بناء من الشيطان، ويوجد بناء من اللَّه.
البناء الذي "على الرمل" هو من الشيطان، لأنه غير مؤسس على شىء صلب موحد، أما البناء الذي "على الصخر" فهو من اللَّه؛ أنظر ماذا ُيقال للمؤمنين: "أنتم فِلاحة اللَّه، بِناء اللَّه" (1كو9:3).
إذًا ُيوجَّه كلام اللَّه ليكون "على الشعوب وعلى الممالك، ليقلع ويهدم، ليهلك وينقض". إذا قلعنا ولم نقم بإهلاك الشىء المقلوع، فإن هذا الشىء يبقى؛ وإذا هدمنا ولكن بدون أن نهلك (نُزيل) حجارة الأساس فإن ما تهدم يظل باقيًا. فمن مظاهر صلاح اللَّه وحبه أنه بعد ما يقلع يهلك، وبعدما يهدم يبيد ما قد هُدِم.
أما فيما يختص بالأشياء المقتلعة والمهلكة، فاقرأ بعناية كيف يتم إهلاكها: "احرقوا القش بنار لا تُطفأ، واجمعوا الزوان حزمًا وألقوها في النار". هذه هيىطريقة الإبادة والإهلاك بعد القلع.
أتريد أن ترى أيضًا الهلاك الذي يحدث للأبنية الفاسدة بعد هدمها؟ كان البيت الذي يتم هدمه بسبب البَرَص يتحول إلى تراب، ثم يؤُخذ هذا التراب وُيلقى خارج المدينة، حتى لا يبقى حجر واحد، كما في العبارة "سوف أبيدهم كما وَخل الشوارع" أو (سوف أساويهم بالأرض).
يجب ألا تبقى مطلقًا الأشياء الفاسدة؛ إنما يتم إهلاكها لتجنُّب استخدام بقاياها في بناء أبنية جديدة يعملها الشيطان، كما يتم اقتلاع الأشياء الفاسدة حتى لا يجد الشيطان فيها بذارًا أخرى يزرعها من جديد، يتم أهلاكها حتى لا توجد فرصة للشيطان لكى يزرع الزوان مع الحنطة[34].]
لا يقف الأمر عند الهدم ونزع كل أثر للشر، وإنما يجب أن يلازمه العمل الإيجابى، وهو بناء المملكة الجديدة وتقديم الغرس السماوى. يقول العلامة أوريجينوس: [لا يقف كلام اللَّه عند هذا الحد، عند القلع والهدم والإهلاك... ماذا يفيدنى نزع الأشياء المخجلة وهدم ما هو شرير إن لم يحل مكانه غرس الخيرات العليا وبناء الأمور الفاضلة؟! لهذا فإن كلمة ربنا تعمل أولاً بالضرورة على القلع والهدم والإفناء، ثم بعد ذلك البناء والغرس... يقول "أنا أميت وأحيى" (تث39:32). لم يقل أحيى وبعد ذلك أميت، فإنه يستحيل أن ما يعمل الرب على إحيائه ينزعه (يميته) الآخر... ماذا يميت؟ إنه يميت شاول المشتكي والمضطهد ليجعله يحيا فيصير بولس رسول يسوع المسيح (2كو1:1)!... إذن يبدأ الرب بالأمور الأكثر حزنًا لكنها لازمة، فيقول "أميت"، وبعدما يميت "يحيى". يسحق ويشفي (تث39:32)، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه!... يجب أن ُيقتلع الشر من جذوره، ويُهدم بناء الإثم تمامًا ويُطرح خارج نفوسنا، لكى تبنى كلمة الرب فينا وتغرس. لأنه لا يمكننى أن أفهم تلك العبارة بطريقة أخرى: "ها قد جعلت كلامى في فمك." لماذا؟ "لتقلع وتهدم وتهلك". نعم إنها كلمات تقلع شعوب. كلمات تهدم ممالك، ولكن ليست الممالك المادية التى في هذا العالم، إنما يجب عليك أن تفهم بطريقة سامية ما هو المقصود بالكلمات التى تقلع والكلمات التى تهدم. عندذلك تُمنَح قوة من اللَّه كما هو مكتوب: "الرب يعطى كلمة للمبشرين بعظم قوة"، قوة تقلع ما تصادفه من عدم الإيمان، أو الرياء أو الرذيلة. قوة تهلك وتهدم إذا ما تواجدت أوثان مُقامة في داخل القلب، حتى إذا ما هُدم الوثن يُقام مكانه هيكل للرب، وفي هذا الهيكل يترأي مجد اللَّه ويظهر، فلا يعود ينبت زوان، وإنما فردوس اللَّه في هيكل اللَّه، في المسيح يسوع[35].]
هذه الكلمة الإلهية التى بها يهدم ويبنى، ويقلع ويغرس، يهتم بها اللَّه نفسه، إذ هيىكلمته. يقول النبي: "ثم صارت كلمة الرب إلىّ قائلاً: ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟ فقلت: أنا راءٍ قضيب لوز. فقال الرب لى: أحسنت الرؤية، لأنى أنا ساهر على كلمتى لأجريها" ع11،12.
لقد رأي إرميا "قضيب لوز (shaqed)"، هو القضيب الذي أفرخته عصا هرون الجافة، التى وإن كانت لا تحمل حياة في ذاتها لكنها أثمرت كلمة اللَّه الحية لإشباع المخدومين. ويرى العلامة أوريجينوس أن قضيب اللوز يشير إلى ضرورة معرفة الخادم لكلمة اللَّه من الجانب الحرفي، والجانب السلوكى، والجانب الروحى، فاللوزة لها غلاف خارجى مرّ يسقط تلقائيًا عند نضوجها، هذا هو التفسير الحرفي أو الظاهرى، وهو مرّ وقاتل، عاق اليهود الحرفيين وأيضًا الغنوسيين عن بلوغ المعرفة الحقيقية[36]. ولها أيضًا غلاف داخلى سميك نقوم بكسره لكى نأكل الثمرة التى في داخله، يشير هذا الغلاف إلى التفسير السلوكي أو الأخلاقي، خلاله يدخل المؤمن إلى حالة إماتةٍ وكسرٍ، خلال الحياة النسكية السلوكية من أصوامٍ ومطانيات وميتات كثيرة. وأخيرًا الثمرة الداخلية وهى حلوة ومشبعة، تشير إلى التفسير الروحى الخفي، وهى غذاء مشبع للمؤمن، لا في هذه الحياة الحاضرة فحسب، وإنما في الأبدية أيضًا[37].
يلاحظ أن "قضيب اللوز" يعنى في العبرية "الساهر" وعلة هذه التسمية أن شجر اللوز يزهر مبكرًا في شهر فبراير قبل سائر الأشجار. تمتلىء الشجرة بالورد الأبيض لتعلن أن فصل الشتاء قد قارب على الانتهاء، وأن فصل الربيع أوشك على الاقتراب. بمعنى آخر، إنتهى وقت الموت (للنبات) لتحل الحياة من جديد! تشهد شجرة اللوز لعمل اللَّه الفائق الذي يخرج الحياة من الموت! وكأن هذه الشجرة تبقى "ساهرة" على بقية الأشجار، فتشير إلى اللَّه الذي يسهر على كلمته لتعمل في حياة الناس، إذ يقول: "لأنى أنا ساهر على كلمتى لأجريها" ع11.
يؤكد اللَّه لإرميا خطأ ما يقوله الكثيرون في عصره، كما في كل العصور حتى يومنا هذا: "الرب لا ُيحسن ولا ُيسىء" (صف12:1)، بمعنى أن اللَّه لا يفعل شيئًا، لا حول له ولا قوة!
من جهة أخرى، كأن اللَّه يعطى لإرميا النبي طمأنينة وتحذيرًا في نفس الوقت، فإن كان العمل صعبًا ومرًا، لكن اللَّه نفسه هو العامل، فلا يليق به أن يخاف أو يضطرب، وفي نفس الوقت اللَّه هو الملتزم بكلمته والساهر عليها، فإن لم يعمل النبي بالكلمة الإلهية يعمل اللَّه بآخر غيره.
إن كان اللَّه يجرى بنفسه كلمته وهو ساهر عليها لكنه يطلب من جانبنا نحن أيضًا أن نسهر لئلا يحل بنا الشر. لهذا بعد رؤية قضيب اللوز، جاءت رؤية القِدْر المنفوخة ووجهها من جهة الشمال حيث الشر قادم.
"ثم صارت كلمة الرب إلىّ ثانية قائلاً:
ماذا أنت راءٍ؟
فقلت: إنى راءٍ قِدرًا منفوخة ووجهها من جهة الشمال.
فقال الرب لى:
من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض" ع11-14.
يرى العلاّمة أوريجينوس أن التطلع نحو الشمال يشير إلى السهر والحذر من الشر القادم على النفس البشرية لتحطيم خلاصها، إذ يقول:
[لتُوضع المنارة في الجنوب لكيما تتطلع نحو الشمال. لأنه عندما ُيضاء النور، أي عندما يكون القلب ساهرًا يلزم أن يتطلع نحو الشمال ويلاحظ ذاك القادم من الشمال، وكما يقول النبي أنه رأي "قِدرًا على نار ووجهها من جهة الشمال، لأن "من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض" ع14.
في سهرٍ ورعدةٍ وغيرةٍ يليق به أن يتأمل على الدوام في حيل الشيطان، ويلاحظ من أين تأتى التجربة، ومتى يقتحمه العدو، ومتى يزحف نحوه. إذ يقول الرسول بطرس: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1بط8:5)[38].] العدد 15- 19: 6. الأمانة في العمل
إن كان النبي قد أُقيم كوكيل للّه، إذ يقول له الرب: "أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب..." فهو ملتزم أن يعمل بروح موكله، يقلع ويغرس، ويهدم ويبنى. هذا العمل أجرته ضيق ومرارة من العالم نحو العاملين به.
قدم اللَّه لإرميا النبي رؤيا ثانية، إذ نظر قدرًا منفوخة من جهة الشمال تنفتح فوهتها بالشر نحو الشعب، ويفسر له الرؤيا هكذا: "لأنى هأنذاك داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحدٍ كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا؛ وأقيم دعوأي على كل شرهم، لأنهم تركونى وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" ع15،16. بهذه الرؤيا أوضح اللَّه لإرميا كل شىء مقدمًا، كموكل قدم لوكيله خطته الإلهية بكل وضوح حتى لا يُفاجأ بها الوكيل فيضطرب عندما يرى الضيق قد حلّ بأورشليم وكل مدن يهوذا. هذا ما فعله السيد المسيح مع تلاميذه حين حدثهم مقدمًا بكل ما سيحل بهم من ضيقات ليستعدوا لمواجهتها. ومن جهة أخرى أوضح له أنه يعمل بكل الطرق فيستخدم حتى الأمم الشريرة لتأديب شعبه.
لما كانت أغلب متاعب إسرائيل تأتى من الشمال (من الأشوريين والأراميين والبابليين) لذا صار الشمال رمزًا لقوى الظلمة[39].
يرى القديس جيروم في هذه الرؤيا أن اللَّه يسلم أولاده للشيطان مؤقتًا للتأديب حتى يذوقوا مرارته فيعودوا إلى أبيهم السماوى، كما فعل معلمنا بولس مع من ارتكب الشر مع إمرأة أبيه، إذ قال: "حكمت كأنى حاضر... باسم ربنا يسوع المسيح... أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكى تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1كو5:5). ويرى القديس جيروم أن بالقدر لحمًا (حز10:24،11) حتى يصير الخطاة لطفاء عوض القساوة وذلك بعمل النيران، فتصير قلوبهم لحمية عوض أن كانت حجرية[40].
يلاحظ أن الرؤيا الأولى مفرحة حيث ُتقدم كلمة اللَّه كلوز مشبع للنفس له لذته، والثانية مرة ومؤلمة خاصة بالتأديب الحازم. وكأن اللَّه يود أن يقدم كلمته العذبة لكل نفس لتنعم وتشبع بها، فإن رفضتها يسمح لها بالتأديب الذي يبدو قاسيًا ومرًا. وفي هذا كله يطلب اللَّه ودّنا وحبنا ومجدنا الأبدى!
ولا تقف الأمانة عند تبليغ الرسالة فحسب وإنما تمس الحياة الداخلية، فأمانة الوكيل ُتعلن من خلال تقديسه الداخلى اللائق به كوكيل للقدوس. لهذا يقول له: "أما أنت فنطّق حقويك، وقم، وكلمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم" ع17. طالبه أن يمنطق حقويه ويقوم، فإنه إذ يمنطق حقويه يكون كمن يشترك في وليمة الفصح (خر11:12)، يشترك في العبور مع الشعب من عبودية الخطية للدخول في أورشليم العليا. أما قوله "قم" فتؤكد أنه لن يقدر أن يتمم رسالته الكرازية والشهادة للكلمة مالم يقم مع المسيح يسوع ربنا فيقيم إخوته معه!
في تفسيرنا لسفر الخروج رأينا تمنطق الحقوين يشير إلى الدخول في حياة الإماتة لشهوات الجسد وضيقه كما بمنطقة، لأجل تحرير النفس وانطلاقها بالروح القدس إلى السمويات.
إذن فعلامة الأمانة في العمل الكرازى إنما هو التمنطق، أي الدخول إلى الموت مع المسيح والتمتع بقوة قيامته، عندئذ يستطيع الخادم أن يتكلم بكل ما يأمره به الرب، إذ تخرج الكلمة حية وفعّالة، عاملة فيه هو أولاً، فيقبلها الناس كحياة؛ وبهذا أيضًا لا يرتاع من وجوه الناس لأنه إذ مات وقام هل يخاف الموت بعد؟! بهذا يقيمه اللَّه مدينة حصينة وعمودًا حديديًا وأسوار نحاس على كل الأرض ع18، يصير سرّ بركة للكثيرين، يسندهم ويعينهم ويكون بالمسيح الصخرة هو أيضًا صخرة لكثيرين. بهذا يسمع الصوت الإلهى: "يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك" ع19.