تفسير سفر إرميا - الأصحاح 42 | تفسير تادرس يعقوب


العدد 1- 3:


1. طلب مشورة اللَّه

"فتقدم كل رؤساء الجيوش ويوحانان بن قاريح ويزنيا بن هوشعيا وكل الشعب من الصغير إلى الكبير.

وقالوا لإرميا النبي:

ليت تضرعنا يقع أمامك فتصلي لأجلنا إلى الرب إلهك لأجل كل هذه البقية.

لأننا قد بقينا قليلين من كثيرين كما ترانا عيناك.

فيخبرنا الرب إلهك عن الطريق الذي نسير فيه والأمر الذي نفعله" ع1-3.

اقترب الكل، الرؤساء مع الشعب، الكبير مع الصغير، بروحٍ واحدٍ إلى إرميا يحملون مظهر الاتضاع والاحتياج إلى صلوات إرميا من أجلهم، ويعترفون أنهم صاروا قليلين من كثيرين، ويسألون مشورة اللَّه. ربما استطاعوا بمظهرهم وكلماتهم أن يخدعوا النبي إلى حين، لكنهم لن يخدعوا اللَّه فاحص القلوب والعارف بأسرارهم وأفكارهم الخفية.

طلبوا صلوات إرميا لكنهم لم يشاركوه الصلاة، فلا يكفي أن نطلب من الغير، حتى إن كانوا أنبياء الصلاة لأجلنا دون أن نصلي نحن أيضًا لأجل أنفسنا.

لم يقولوا "إلهنا" بل الرب "إلهك"، حيث الإحساس بالبُعد عن اللَّه؛ إذ لم يشعروا بإمكانية الاقتراب إليه بثقة.

اعترفوا أنهم صاروا قليلين من كثيرين دون أن يذكروا السبب وهو عصيانهم المستمر لكلمة الرب التي نادى بها الأنبياء.

لقد انتظروا من الرب أن يجيبهم حسب شهوة قلوبهم، إذ ظنوا أنه لن يسمح اللَّه ببقاء البقية في يهوذا ليقتلها نبوخذ نصر انتقامًا لمقتل جدليًا ومن معه، بل بالضرورة يعلن اللَّه لإرميا أن يهربوا إلى مصر! لقد أرادوا أن يكشف اللَّه لهم عن الطريق الذي يسلكوه بأمان للذهاب إلى مصر، وما يفعلوه، لا أن يعلن لهم إن كانوا يذهبون إلى مصر أم يبقون في يهوذا.


العدد 4:


2. إرميا يسأل اللَّه

"فقال لهم إرميا النبي:

قد سمعت.

هأنذا أصلي إلى الرب إلهكم كقولكم،

ويكون أن كل الكلام الذي يجيبكم الرب أخبركم به.

لا أمنع عنكم شيئا" ع 4.

جاءت كلمات إرميا لهذا الشعب تكشف عن شخصيته العجيبة ومشاعره الرقيقة نحو شعب اللَّه، إذ نلاحظ في هذه الإجابة:

ا. يقول: "قد سمعت" ع4. لقد عانى الأمرين من الرؤساء والشعب، قضى عشرات السنوات يحذرهم، مقدمًا لهم مشورة اللَّه أن يخضعوا لملك بابل، دون أن يسمعوا له ولإلهه، والآن إذ دخلوا في ضيقة وحملوا مظهر الطاعة لم يوبخهم بكلمة جارحة عن تصرفاتهم القديمة، ولم يغلق باب الرجاء أمامهم، بل بروح الاتضاع يقول: "قد سمعت!" انحنى بقلبه كما بأذنيه، بل وبكل كيانه ليسمع كلمات الشعب ويصغي إليهم! إنه ليس بالقائد الآمر الناهي، بل بالأب الذي ينصت لصوت أولاده لعله ينزع عنهم روح العصيان.

ما أصعب أن ينحني الوالدان أو الكاهن أو القائد نحو الغير لينصت إليهم في طول أناة دون عتاب في الماضي أو تجريح بسبب أخطاءٍ سابقة!

ب. يقول: "هأنذا أصلي إلى الرب"؛ هذا هو عمله الأول كنبي وكاهن! كأنه يقول مع صموئيل النبي: "أما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى اللَّه وأكف عن الصلاة من أجلكم" (1صم23:12)، حاسبًا التوقف عن الصلاة حتى من أجل المعاندين خطية موجهة ضد اللَّه نفسه الطالب خلاصهم!

ج. إن كانوا قد شعروا بالبُعد عن اللَّه فقالوا لإرميا النبي: "الرب إلهك" ع2؛ يرد لهم الثقة فيقول لهم: "الرب إلهكم"؛ وكأنه يعاتبهم قائلاً: "لماذا لا تنسبون الرب إليكم، إنه إلهكم الذي يطلب مملكته فيكم؟!"

القائد الحق لا يُكثر من كلمات التوبيخ بل يبعث في مخدوميه روح الرجاء في الرب، يربطهم به.

د. مع لطفه ورقته في إجابته عليهم يؤكد أيضًا صراحته ووضوحه، فإنه لن يخفي عنهم شيئًا مما ينطق به الرب، حتى إن جاءت الإجابة ليست حسب هواهم!

يحمل إرميا النبي الحب الحق والحزم. يتسع قلبه جدًا، ولا يجرح مشاعر أحدٍ، لكن ليس على حساب الوصية الإلهية.

العدد 5- 6:
3. اليهود يعدون بالطاعة

"ليكن الرب بيننا شاهدًا صادقًا وأمينًا إننا نفعل حسب كل أمرٍ يرسلك به الرب إلهك إلينا.

إن خيرًا وإن شرًا،

فإننا نسمع لصوت الرب إلهك الذي نحن مرسلوك إليه ليحسن إلينا إذا سمعنا لصوت الرب إلهنا" ع5-6.

وعد اليهود إرميا النبي بالطاعة الكاملة للَّه، مهما كانت إجابة الرب أو مشورته لهم. لم يكن ممكنًا لإرميا أن يكذبهم، فهو لا يعرف أسرار قلوبهم، لكنه إذ تحدث مع اللَّه كشف له عما يضمرونه في داخلهم ع20-23.
العدد 7- 12:


4. الرسالة الإلهية: بركات مشروطة

"وكان بعد عشرة أيام أن كلمة الرب صارت إلى إرميا.

فدعا يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقال لهم:

هكذا قال الرب إله إسرائيل الذي أرسلتموني إليه لكي ألقى تضرعكم أمامه.

إن كنتم تسكنون في هذه الأرض فإني أبنيكم ولا أنقضكم، وأغرسكم ولا أقتلعكم.

لأني ندمت عن الشر الذي صنعته بكم.

لا تخافوا ملك بابل الذي أنتم خائفوه.

لا تخافوه يقول الرب، لأني أنا معكم لأخلصكم وأنقذكم من يده.

وأعطيكم نعمة فيرحمكم ويردكم إلى أرضكم" ع7-12.

سمح الرب بأن تمر عشرة أيام قبل أن يجيب على النبي، وهذا أمر له أهميته:

أ. تعطى هذه الأيام العشرة الفرصة للشعب أن يستعدوا روحيًا ونفسيًا للإجابة الإلهية، فيتهيأوا للطاعة له.

ب. ربما أعطت هذه الأيام فرصة لإرميا النبي لكي يتقدس ويتأهل للتعرف على إرادة اللَّه.

ج. العدد عشرة يرمز إلى الوصايا العشرة التي أعطيت على جبل سيناء. بمعني أنهم مسؤولون أن يراجعوا أنفسهم لئلا يكونوا قد كسروا الوصية الإلهية، فالأمر لا يقف عند اختيار مكانٍ السكن قدر الاهتمام بالطاعة للوصية وقبول المشورة الإلهية.

د. في هذه الأيام العشرة لم يتقابل إرميا مع الشعب إذ لم يرد أن يكون له رأي شخصي عن الطريق الذي يسلكونه، بل انتظر التوجيه الكامل من الرب.

مع أن اللَّه يعلم نيتهم وهي الإصرار على الذهاب إلى مصر، وعدم طاعتهم لإرادته الإلهية، لكنه قدم لهم فرصة الرجوع عن شرهم؛ قدم لهم بركات مشروطة. بدأ بالحديث عن بركات الطاعة لإرادته والخضوع لمشورته قبل الحديث عن لعنة العصيان، فاتحًا باب الرجاء أمامهم. جاءت الإجابة تحمل وعدًا إلهيًا يكشف عن شوق اللَّه إلى بنائهم كبيت مقدس له، وغرسهم ككرمة من غرس يديْ اللَّه. إنها إجابة مملوءة رجاءً! من جهتهم لم يكونوا بعد قد قدموا أية توبة صادقة، ومع ذلك أظهر الرب رحمة وحنوًا وإحسانًا حسب غنى نعمته، فإذا ما اتكلوا على ذراعه القوية وهم في ضعفهم هذا وسكنوا في الأرض التي أعطاهم إياهم وإذا ما تقبلوا تأدبيه وانحنوا خضوعًا لكلمته يبنيهم ويهتم بهم، عندئذٍ لا يخافوا من ملك بابل. مهما كان الخراب الذي شمل الأرض لازالت هناك بركة لأجل البقية القليلة.

بركات الطاعة هي:

ا. اللَّه نفسه يبنيهم ع10.

ب. لن ينقضهم.

ج. اللَّه يغرسهم.

د. لن يقتلعهم.

هـ. يندم اللَّه على الشر (التأديب) الذي صنعه معهم. معني ندامة اللَّه ع10 ليس أن اللَّه يندم كإنسان، بل إنه يكتفي بقصاص الشعب إلى هذا الحد إذا عاد إليه بالتوبة.

و. ينقذهم من ملك بابل ع11.

ز. يظهر لهم المراحم الإلهية ع12.

ح. يُظهر لهم ملك بابل الوثني والعدو رحمة.

ط. يردهم إلى أرضهم، أرض الموعد.

هكذا إذ نسمع لصوت الرب يسمع هو لنا. نسمع له لا بالكلام فقط بل وبالسلوك فيسمع لنا بالمواعيد الإلهية العاملة فينا.

· يجعلنا بيته الخاص الذي لا يُبنى بيدٍ بشرية بل بالذراع الإلهي؛ يبني ولا ينقض.

· يغرسهم بيديه ككرمته الخاصة، يرويها بدمه الثمين، ويفيض عليها بينابيع حبه... لن يقتلعها.

· يرفعها من مرحلة التأديب المرة ليحتضنها بذراعيه ويجعل منها عروسه المحبوبة لديه.

· ينقذها من إبليس (ملك بابل) وكل جنوده الشريرة وأعماله الرديئة، فلا يكون للعدو سلطان عليها، ولا للخطية قوة... بل يحطم مملكة إبليس ويكسر شوكة الخطية.

· تتحول حياتها إلى خبرات مستمرة للتمتع بالمراحم الإلهية غير المنقطعة.

· يعطيها نعمة حتى في أعين العنفاء (ملك بابل) فتجد رحمة.

· يجعل من أرض الموعد أرضها التي ترجع إليها؛ أو يرد النفس إلى حضن الآب حيث تجد استقرارها الأبدي!


العدد 13- 22:


5. لعنة العصيان

"وإن قلتم لا نسكن في هذه الأرض ولم تسمعوا لصوت الرب إلهكم،

قائلين لا بل إلى أرض مصر نذهب حيث لا نرى حربًا،

ولا نسمع صوت بوقٍ، ولا نجوع للخبز، وهناك نسكن.

فالآن لذلك اسمعوا كلمة الرب يا بقية يهوذا.

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

إن كنتم تجعلون وجوهكم للدخول إلى مصر وتذهبون لتتغربوا هناك،

يحدث أن السيف الذي أنتم خائفون منه يدرككم هناك في أرض مصر،

والجوع الذي أنتم خائفون منه يلحقكم هناك في مصر فتموتون هناك.

ويكون أن كل الرجال الذين جعلوا وجوههم للدخول إلى مصر ليتغربوا هناك يموتون بالسيف والجوع والوبأ،

ولا يكون منهم باقٍ ولا ناجٍ من الشر الذي أجلبه أنا عليهم.

لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.

كما انسكب غضبي وغيظي على سكان أورشليم هكذا ينسكب غيظي عليكم عند دخولكم إلى مصر،

فتصيرون حلفًا ودهشًا ولعنًة وعارًا ولا ترون بعد هذا الموضع.

قد تكلم الرب عليكم يا بقية يهوذا لا تدخلوا مصر.

اعلموا علمًا إني قد أنذرتكم اليوم.

لأنكم قد خدعتم أنفسكم،

إذ أرسلتموني إلى الرب إلهكم، قائلين:

صلِ لأجلنا إلى الرب إلهنا،

وحسب كل ما يقوله الرب إلهنا هكذا أخبرنا فنفعل.

فقد أخبرتكم اليوم، فلم تسمعوا لصوت الرب إلهكم،

ولا لشيء مما أرسلني به إليكم.

فالآن اعلموا علمًا أنكم تموتون بالسيف والجوع والوبأ في الموضع الذي ابتغيتم أن تدخلوه لتتغربوا فيه" ع13-22.

بعد أن تحدث عن بركات السلوك حسب مشورته قدم لعنة العصيان:

ا. من يذهب إلى مصر يلحقه السيف، أو يسقط تحت الجوع أو يتعرض للوبأ، وهناك يموت ع10-16، إن كان يهرب من يهوذا خشية انتقام ملك بابل منه فإنه في الواقع يهرب من الأمان إلى الهلاك المحقق.

ب. اللَّه الصانع الخيرات، محب البشر، يجلب عليهم شرًا (تأديبًا) لن يهربوا منه، إذ يسقطون تحت غضبه الإلهي.

ج. الذين يهربون إلى مصر جميعهم لا ينجون.

د. الذين يذهبون إلى مصر لن يروا أرض الموعد بعد.

مسكين من يظن أن الوصية الإلهية تفقده شيئًا أو تحرمة من الملذات!

عصيان الرب يدفع إلى الهلاك غير المتوقع، ويحرم الإنسان من مصدر حياته، ويفقده الأحضان الإلهية.

لقد جاءت إجابة اللَّه تفضح رياءهم وتكشف عن تمسكهم بآرائهم الذاتية، إنه فاحص القلوب الذي يطلب تقديسها وتطهيرها خاصة من الرياء.


أعلى