تفسير سفر إرميا - الأصحاح 12 | تفسير تادرس يعقوب


العدد 1- 4:
1. لماذا ُتنجح طريق الأشرار؟

"أبر أنت يارب من أن أخاصمك.

لكن أكلمك من جهة أحكامك.

لماذا تُنجح طريق الأشرار؟

اطمأن كل الغادرين غدرًا.

غرستهم فأصلوا،

نموا وأثمروا ثمرًا" ع1،2.

تشبه هذه الكلمات ما ورد في المزمور 37، حيث تعجب داود النبي كيف ينجح الإنسان الشرير في طريقه، لكنه عاد فاكتشف انه كعشبٍ يظهر قليلاً ثم يجف. أما البار كالشجرة يبدو جافًا في الشتاء لكن يحل الربيع ويظهر الثمر المتكاثر، إذ يقول: "لا تغرْ من فاعلى الشر... فإنهم مثل العشب سريعًا يجفون، ومثل بقول الخضرة عاجلاً يسقطون" مز 1:37،2. ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله: [إنهم بلا قيمة، يعيشون على سطح التربة ولا يضربون بجذورهم في الأعماق. من ثم فهم (كالعشب) الأخضر في الشتاء، حين تبدأ شمس الصيف تحمى يذبلون. الآن فصل الشتاء، لم يظهر مجدكم بعد، لكن إن كان لمحبتكم الجذور العميقة كأشجار كثيرة في الشتاء، يمضى الصقيع ويحل الصيف، يوم القضاء، حيث تذبل خضرة العشب ويظهر مجد الأشجار.]

يرى البعض أن السبب في إثارة هذا التساؤل في هذا الاصحاح انه في عام 809ق.م عندما سمع يوشيا الملك الاحتجاجات الشديدة التي ُوجهت إليه نزل بجيشه لمهاجمة نخو فرعون مصر الذى كان يسير في الطريق المحاذى للشاطىء لاحتلال أرض الفرات، وكان قد احتل غزة وعسقلان وغيرهما من المدن الفلسطينية. التحم الجيشان في مجدون عند سفح جبل الكرمل، فانهار جيش يوشيا سريعًا، وأصيب الملك بجرح مميت (2أى23:35). ُنقل التي مركبة ثانية، وسرعان ما مات في هددرمون. حزن عليه الشعب كله، حتى صار ذلك مثلاً ومقياسًا لشدة الحزن (زك11:12،12). استغل الحزب المناصر للعبادة الوثنية موت يوشيا، قائلين: ماذا تجدى الديانة التي لا تستطيع أن تنجى أعظم مناصرٍ لها من كارثة كهذه؟! هنا نطق النبي بكلمات المرتل آساف (مز73): لماذا تُنجح يارب طريق الأشرار؟

يرى البعض أن هذه الكلمات نطق بها إرميا النبي حين دخل في ارتباكٍ شديدٍ، فقد وعده الله منذ بداية الطريق أن يجعل منه مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض (إر18:1)، لكنه ها هو يرى الأشرار ينجحون ويزدهرون، بينما يدخل هو في سلسلة من المتاعب والضيقات، لهذا وقف أمام الله يصلى إليه بل يعاتبه بقلبٍ منفتحٍ، في صراحة كاملة... دخل معه كما في ساحة القضاء يقدم احتجاجات المحبة.

يلاحظ في هذه الاحتجاجات الآتي:

أولاً: بقوله "أبر أنت يارب من أن أخاصمك" ع 1، يبدأ احتجاجه بروح الاتضاع، معلنًا منذ البداية أنه يتكلم من موقع اليقين أن الله بار، لا يخطىء، لكن أحكامه تبدو غير واضحة. فالأمر مجرد تساؤل وعتاب حب، يطلب فيه النبي أن ينير الله ذهنه ليدرك حكمته فيما يحدث.

اقتبس النبي العبارة عن مز137:119: "بار أنت يارب وأحكامك مستقيمة".

إن عدنا التي النص نلاحظ أن الكلمة العبرية لـ "أبر" ع 1 تعنى "بارًا" و"بريئًا"، وهى التي استخدمت في أم 24:24 للتعبير عما يحدث في ساحة القضاء. وكأن الله في محبته قد أصدر أمره بتأديب شعبه مقدمًا حيثيات حكمه، لا لكي نقبل الحكم كأمرٍ حتمى، وإنما لندخل معه في حوارٍ ونحاججه. هذه هي لغة تعامل الله معنا، لغة الحوار. أما نحن فباتضاع نصرخ: "أبر أنت يارب من أن أخاصمك" ع 1، أو كما يقول الرسول بولس: "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب؟! أو من صار له مشيرًا؟!" رو33:11،34.

لعل النبي يقول: "لقد رفعت شكواي للقضاء، لكنني اكتشفت أنك برىء!" هنا لا يظهر الله كقاضٍ بل كمتهمٍ، تتهمه النفس البشرية حينما تسقط في مرارة الضيق فتعود وتكتشف خطأها. هكذا يتقدم الديان إلينا كمتهمٍ، تاركًا لنا فرصة اتهامه لندخل معه في حوارٍ مفتوح، ونجد الفرصة لنتبرر به من أخطائنا. وكأن الديان البار يصير متهمًا، لكي يتمتع المتهم الحقيقى بالبراءة.

خلال هذه المحاكمة اكتشف النبي خطأه، إذ ظهر أن الشعب مستحق للتأديب، بل وللموت، وأدرك ما قيل عن هذا الشعب: "لأن هذا الشعب قد اقترب التي بفمه وأكرمنى بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عنى" (إش13:29). هؤلاء هم المراؤون الذين يقدمون بكلماتهم ما ليس في قلوبهم، أو الذين ينطقون بكلمات الرب ولا يقبلون إرادته في حياتهم. عن هؤلاء يقول السيد المسيح: "ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات، بل الذى يفعل إرادة أبي الذى في السموات" (مت21:7). بهذا عرف النبي لماذا يؤدبهم الله.

ثانيًا: واضح ان إرميا النبي قدم تساؤلاته في لقاءٍ خاصٍ مع الله وليس علانية، إذ يقول: "لكن أكلمك من جهة أحكامك" ع1. هنا روح الانفتاح والصراحة مع الحكمة؛ فإنه يليق بنا إن عبر بنا فكر عتاب مع الله ليكن ذلك في صلواتنا الخاصة وصرخاتنا الخفية، في حجرة قلبنا الداخلية، حتى لا ُنعثر البسطاء، ولا ُيسىء الآخرون كلماتنا!

كن صريحًا مع الرب إلهك في لقائك الشخصى معه، وتحدث معه لكي يُعلن لك أحكامه، فتشهد له علانية في الوقت المناسب!

ثالثًا: واضح من حوار إرميا السرى مع الله بشأن أحكامه أمران، يدرك إرميا أن الله لديه الإجابة على تساؤلاته، وأنه مصمم أن يتعرف عليها ليكتشف حكمة الله ويعرف إرادته الإلهية وخطته من نحوه، لهذا يقول: "أبر أنت يارب من أن أحاكمك" ع1. بمعنى آخر يليق بالمؤمن ألا يخجل من أن يسأل الله بكل صراحةٍ ووضوحٍ وُيلح في السؤال، لكن في ثقة ويقين أن الله لديه الإجابة، ولن يبخل بها عليه، يقدمها له في الوقت المناسب.

رابعًا: إن كان إرميا يتعجب كيف ينجح الأشرار، لكن لا يخفي عليه أنهم غادرون غدرًا، وأن هذا الغدر يعطى نجاحًا مؤقتًا ومزيفًا يليه هلاك وتدمير، كأنهم يغدرون بأنفسهم لا بالله ولا بالناس: "لماذا ُتنجح طريق الأشرار؟! اطمأن كل الغادرين غدرًا" ع1.

خامسًا: بينما يطمئن الغادرون ويظنون أنهم ناجحون ومثمرون ونامون بقدرتهم وحكمتهم وتخطيطهم البشرى، إذا بالنبي يؤكد سلطان الله حتى على هؤلاء الغادرين، فإنه ما كان يمكنهم أن ينالوا هذا النجاح المؤقت إلا بسماح إلهى، إذ يقول:

"غرستهم فأصلوا،

نموا وأثمروا ثمرًا" ع2.

ظاهرة خطيرة‍‍‍‍‍‍! لقد تأصلوا، أي صارت لهم جذور، ونموا وأثمروا، لكن ليس من ذاتهم، لأن الله هو الذى "غرسهم" ليأتوا بثمرٍ روحي صالح، واهبًا إياهم إمكانيات جبارة للعمل لحساب ملكوته، فإذا بهم يسيئون استخدام هذا الغرس وهذه الإمكانيات. ما لديهم من طاقات استخدموها للشر والتحطيم هي عطايا مقدسة أفسدوها بإرادتهم البشرية.

إنها ظاهرة خطيرة، يضرم الأشرار مواهبهم بقوة، ويعملون بكل نشاط، فينمون في الشر بلا توقف، مجاهدين بروح الغدر والخداع، بينما يهمل أبناء الملكوت المواهب والإمكانيات الممنوحة لهم, وكما قال السيد المسيح "ابناء هذا الدهر أحكم من ابناء النور في جيلهم" (لو8:16).

سادسًا: إن كانوا غادرين، وإن كانوا قد أساؤا استخدام طاقاتهم ومواهبهم وإمكانياتهم، فعلة ذلك كله الرياء. يقتربون التي الله بفمهم خلال العبادة، خاصة الصلوات والتسابيح، أما كلامهم الخفي وقلوبهم أو إنسانهم الداخلى مع مشاعرهم فبعيدة عن الله: "أنت قريب في فمهم وبعيد من كلاهم" ع2. كأن الرياء هو وراء كل فساد في حياتهم، إذ لهم صورة التقوى وينكرون قوتها (2تي5:3).

يرى العلامة أوريجينوس أن هذه العبارة تنطبق على الهراطقة، إذ يقول: ["أنت قريب من فمهم وبعيد من كلامهم"، يعرفون جيدًا أن ينطقوا اسم يسوع، لكنه ليس في داخلهم لأنهم لا يعترفون به بإيمان صحيح.[i]]

سابعًا: مقابل هؤلاء المرائين الذين ينطقون بغير ما يبطنون يقدم النبي نفسه كإنسانٍ ينطق بما يبطن، ويحمل في مظهره ما في أعماقه، وان الله نفسه الفاحص الكلى والقلوب يشهد بذلك، إذ يقول: "وأنت يارب عرفتني رأيتني واختبرت قلبي من جهتك" ع3.

إذ عاش إرميا مع الله بروح الإخلاص بعيدًا عن الرياء استحق أن يكون موضوع معرفة الله ورؤيته. بمعنى آخر يتمتع إرميا بأن يعرفه الله معرفة المحبوب لديه والصديق الملاصق له، وأن ينعم بنظرات حبه واهبة السلام.

إن كان الله قد عرَّف إرميا ما يحمله الناس من خداع وما يقدمونه من أفعالٍ شريرة ضده (إر18:11)، ففي المقابل يعرف الله أعماق إرميا ويراها ويختبرها بنفسه. ترجع هذه المعرفة التي ما قبل خلقته، إذ جاءته كلمة الرب: "قبلما صورتك في البطن عرفتك" (5:1).

ثامنًا: إذ كان إرميا النبي نقيًا في أعماقه، مخلصًا في تصرفاته، ما يتكلم به بلسانه يكشف عما في أعماقه، لذا كان نقيًا حتى في غضبه. إن غضب يشهد للحق الإلهي ويطلب توبة الساقطين ونموهم روحيًا. كيف يكون ذلك وهو يقول:

"افرزهم كغنمٍ للذبح،

وخصصهم ليوم القتل" ع3.

في شرهم طلبوا قتله، فصار "كخروفٍ داجنٍ ُيساق التي الذبح" (8:11). صار ذبيحة حب لأجل الله ولأجل اخوته، فتحول شرهم التي خيرٍ، وها هو يطلب لهم أن ُيفرزوا للذبح. ربما يتساءل البعض: لماذا يطلب النبي إرميا ذلك لشعبه؟

لا يمكن تجاهل مشاعر النبي الباكى الرقيقة نحو شعبه، وذوبان كيانه الداخلى واعتصاره لأجلهم، فإنه لم ينسَ قط أنه راعٍ، لا يشتهى البلية (16:17) بل يطلب ما لصالح قطيع الله. فلماذا كان يطلب النقمة لنفسه؟

ا. تكشف كلمة الله عن الضعف البشرى، فمع ما حمله النبي من حبٍ إلا أنه في لحظات ضعفه لم يحتمل الضغط المستمر ومقاومة الشعب له على مستوى القيادات الدينية، كما على مستوى رجل الشارع، بل حتى أسرته وأهل قريته خططوا للخلاص منه. إنه إنسان له ضعفاته، أما ربنا يسوع الذى غفر لصالبيه في أمّر لحظات الألم (لو34:23)، فوهب مؤمنيه إمكانية الحب للأعداء والصلاة للمسيئين إليهم كما فعل اسطفانوس (أع 60:7).

ب. طلب النقمة لتأديب أسرته، لأنهم مستوجبون الموت. مارسوا العبادة بما يخالف الناموس، وحسبوا شركة إرميا في اصلاحات يوشيا للهيكل في أورشليم خيانة لهم. من جانب آخر، فإن عائلته وأهل قريته شعروا أن نبواته هيجت الشعب كله ضدهم، وأنهم صاروا في نظر الشعب في كل البلاد خونة للوطن بسببه، إذ أكد حدوث السبى، لذلك ثاروا ضده. فالانتقام الذى يطلبه إنما هو تأكيد أن الله - بالنسبة له - أولاً قبل أسرته وفوق كل علاقات بشرية.

ج. ربما لم يكن بعد قد أدرك إرميا مفهوم الألم وتأثيره في خلاص الآخرين، لأنه لم تكن بعد قد ظهرت آلام مخلصنا، فكان يكره الألم.

د. ربما خشى النبي إرميا من بطء قصاص الأشرار، فهو يتعجل التأديب، ليس للانتقام، وإنما لكي يعطى طمأنينة للأبرار.

هـ. ما يطلبه من انتقام ليس رغبة داخلية في طلب الشر من نحوهم، إنما نبوة عما سيحل بهم لأنهم قالوا له: "لا تتنبأ باسم الرب" (21:11).

تاسعًا: أصيب النبي بحالة إحباط بسبب طول أناة الله على الأشرار:

"حتى متى تنوح الأرض وييبس عشب كل الحقل،

من شر الساكنين فيها فنيت البهائم والطيور،

لأنهم قالوا لا يرى آخرتنا" ع4.

لم يكن يتعجل التأديب لينتقم لنفسه، إنما لأنه رأى الأرض نائحة، وعشب كل الحقل قد يبس، والبهائم والطيور فنت. بمعنى آخر إذ يتحول الجسد (الأرض) من اللذة بالخطية التي فقدان الراحة والدخول التي حالة غمٍ شديدة، ويفقد الإنسان كل ثمرٍ روحي حتى وإن كان كعشبٍ صغير، وتهلك طاقاته الجسدية (البهائم) والروحية (الطيور)... يصير في حاجة التي تأديب إلهي يرده التي صوابه ويحثه على التوبة‍.

يقول العلامة أوريجينوس:

["حتى متى تنوح الأرض وييبس عشب كل الحقل من شر الساكنين فيها؟" يتحدث النبي هنا كما لو كانت الأرض كائنًا حيًا، يقول إنها تنوح من شر الذين يمشون فوقها.

الأرض بالنسبة لكل واحدٍ منا إما نائحة بسبب شرنا، أو متهللة بسبب فضائلنا. وما يُقال بالنسبة للأرض يُقال بلا شك بالنسبة لكل الأشياء.

بالمثل يمكننى أن أقول: إن الماء والملاك المسئول عنه يتهللان أو ينوحان؛ فيجب علينا أن نعرف أنه حتى يتم تنظيم وإدارة الكون كله يوجد ملاك مسئول عن الأرض، وآخر مسئول عن الماء، وآخر عن الهواء وآخر عن النار.

ارتفع بعقلك لتتأمل النظام السائد عند الحيوانات والنباتات والكواكب السمائية؛ إذ يوجد ملاك مسئول حتى عن الشمس وآخر مسئول عن القمر وآخرين عن النجوم. هكذا كل هؤلاء الملائكة الذين يرافقوننا طوال حياتنا على الأرض، إما أنهم يفرحون لنا أو ينوحون عندما نخطىء.

يقول إرميا إن الأرض تنوح بسبب الساكنين فيها: ويقصد بكلمة "أرض" الملاك الساكن فيها، إذ قيل: "أما الخشب المصنوع صنمًا فملعون هو وصانعه" (حك8:14)، ليس أن اللعنة تقع على الشىء الجامد نفسه، وإنما ُيقصد بكلمة "صنم" الشيطان الساكن فيه، والذى يتخذ من "الصنم" اسمًا له. بنفس الطريقة أستطيع أن أقول إن "الأرض" يقصد بها الملاك المسئول عن الأرض، و"الماء" الملاك المسئول عن الماء، الذى ُكتب عنه: "أبصَرَتَك المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت. ارتعدت أيضًا اللجج. سكبت الغيوم مياهها أعطت السحب صوتًا. أيضًا سهامك طارت" [مز17:77-18.[ii]]

عاشرًا: إن كان النبي يئن من أجل مقاومة الناس له، فإن الله يكشف له عن نهاية شرهم، أو ثمر شرهم. لقد استهانوا بتحذيرات إرميا النبي لهم وصمموا على الشر قائلين في أنفسهم: "لا يرى آخرتنا‍" ع4. حتى هذا الفكر الصادر عن قلبهم المتعجرف وعدم ايمانهم كشفه الرب لإرميا. كأن إرميا في أمانته قد عرف فكر الرب وإرادته واستلم كلماته، كما عرف خطط الأشرار الخفية وتصرفاتهم ونياتهم الخفية كعطية ُقدمت له من الله مُرسله!


العدد 5- 6:


2. كبرياء الأردن

"إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تبارى الخيل؟!

وإن كنت منبطحًا في أرض السلام، فكيف تعمل في كبرياء الأردن؟!"

لأن إخوتك أنفسهم وبيت أبيك قد غادروك هم أيضًا.

هم أيضًا نادوا وراءك بصوتٍ عالٍ.

لا تأتمنهم إذا كلموك بالخير" ع5،6.

يرى البعض أن العبارات السابقة هي إجابة الله لإرميا النبي على تساؤله: "لماذا ُتنجح طريق الأشرار؟" ع1. فقد حملت الآتي:

أولاً: كأّن الله يعاتب إرميا النبي قائلاً له: لماذا ضعفت أمام مقاومة الأشرار؟

لماذا لم تحتمل أول عاصفة من الإضطهاد؟

ألا تذكر كيف دعوتك ووعدتك إنى أكون معك؟!

فلماذا يتسرب اليأس التي قلبك؟

لقد دخلت المعركة المقدسة بقلبٍ نقى، لكنها فوق إدراكك، لا تعرف أبعادها. انتظر لترى دورى، ولا تتعجل النتائج في حياتك، وفي حياة الشعب الذى تراه الآن شريرًا ومقاومًا لك ولى. إنك حتى الآن قد "جريت مع المشاة فأتعبوك"، لكنني أجعلك تبارى الخيل. أنت الآن في أرض السلام نسبيًا، إنني أسندك حينما تدخل في الأحزان الشديدة التي تجتاح الأرض ككبرياء الأردن.

هذه معاملات الله معنا، لا يدفعنا دفعة واحدة لنبارى الخيل، بل يختبرنا أولاً بالحرى مع المشاة. لا يسمح لنا أن نلتقى بنهر الأردن في حالة فيضانه لمواجهة تياراته ولججه، بل أن ُنجرب أولاً في أرض السلام وسط أحبائنا.

تكرر تعبير "كبرياء الأردن" أربع مرات في العهد القديم (إر19:49؛ 44:50؛ زك3:11).

من الناحية الروحية ينبغى ألا نرتئى فوق ما ينبغى (رو3:12)، أي ليعرف كل إنسانٍ قامته الروحية. كمثال لا نمارس ونحن بعد في بداية الطريق التداريب الروحية التي اختبرها النساك في نهاية طريقهم، بل نسلك بحكمة الروح. يلزمنا أن نبدأ الطريق مع المشاة، وعندما ننجح ندخل في مباراة مع راكبى الخيل. إن كنت منبطحًا على الأرض في ضعفٍ وأنت بعد لم تدخل المعركة، ماذا تفعل في كبرياء الأردن؟

التطرف حتى في الطريق الروحي خطير، إذ يلزمنا أن نعتمد على نعمة الله التي تبنينا في هدوء وبحكمة، وليس بانفعلات عاطفية عنيفة.

يتحدث القديس يوحنا الذهبى الفم عن هذا المبدأ وهو أن لا يرتئى الإنسان فوق ما ينبغى، حاسبًا إياه رأس كل الفضائل، داعيًا إياه "اتضاع الفكر"، قائلاً:

[هنا يقدم لنا الرسول بولس (رو 3:12) أم كل الأعمال الصالحة، أي اتضاع الفكر، مقتدياً بسيده. فعندما صعد على الجبل وأخذ يقدم نسيجًا من الوصايا السلوكية قدم في المقدمة هذا الينبوع، قائلاً: "طوبى للمساكين بالروح" (مت3:5). هكذا أيضًا بولس إذ يعبر من الجوانب التعليمية التي الجوانب العملية يحدثنا عن الفضيلة بطريقة عامة، سائلاً إيانا أن نقدم (ذواتنا) ذبيحة عجيبة (رو1:12). وإذ يقدم صورة خاصة بها بدأ بالاتضاع كما من الرأس، مخبرًا إيانا: "لايرتئى فوق ما ينبغى، بل يرتئى التي التعقل" (رو3:12).

يعنى القول: لقد تسلمنا حكمة، لا لنستخدمها لكبريائنا، وإنما لنكون متعقلى الفكر. يقول هذا لا لنكون منحطين في الفكر، بل متعقلين، قاصدًا بالتعقل هنا الفضيلة العاقلة والصحية في الذهن.]

بمعنى آخر، يقول الله لإرميا إن كنت تتساءل: لماذا ُتنجح طريق الأشرار؟ فلتعلم أنك لاتزال في بداية الطرق الضيق. لكنى أكون معك وأرتقى بك وسط الآلام، فتكتشف أسرار محبتى ومعاملاتى معك ومع شعبى.

ثانيًا: قدم الله التساؤلات السابقة عوض إجابته على السؤال مباشرة، ليؤكد له أنه يعلم تمامًا ما بلغه إرميا من تعبٍ ومرارة، لكنه ليس منسيًا أمام الله. سيعطيه غلبة على المشاة، ويدخل به التي المبارة بين راكبى الخيل، وسيرتفع به من نصرة التي نصرة. بمعنى آخر يؤكد له الله اهتمامه به حتى وإن ثارت في نفسه تساؤلات تبدو كأنها عن ضعف إيمان.

كأن الله يقول له: أنا أعرف انك ولد كما سبق فاعترفت (6:1)، هادىء الطبع، ذو قلبٍ رقيق، لا تحتمل الضربات العنيفة، اعلم إنني لن أتركك. إنى لست مثل إخوتك وأهل بيتك الذين يغدرون بك حتى إن نادوا وراءك بصوتٍ عالٍ وتكلموا معك بالخير ع6. إنى أشاركك مشاعرك، وأدرك ضعفاتك، حتى وإن كنت عاجزًا عن مباراة المشاة، أو في معركة على أرض السلام.

بهذا لا يعانى إرميا من الشعور بالوحدة والعزلة أو الشعور بالنقص أو الفشل، لأن الله يرافقه حتى وإن فارقه العالم كله!

ثالثًا: نشتم من هذه الكلمات تأكيد الله لإرميا ألا يحكم قبل الوقت. فإن انتظر يرى حكمة الله وأيضًا عدله الممتزج بالحب والرحمة!

رابعًا: كأن الله يسأل نبيه إرميا ألا يضطرب بمثل هذه الأسئلة وهو يتطلع التي بنى قومه يقاومونه ويغدرون به، فإنه ُمرسل لخدمة الشعوب كما سبق فأخبره: "جعلتك نبيًا للشعوب" (5:1). بمعنى آخر كأن الله يقول له: إنى أتعجب أنك تتساءل في هذه الأمور الصغيرة، وأنا أرسلتك لخدمة الشعوب. عوض الانشغال بهده التساؤلات احرص على تتميم رسالتك العظيمة التي ائتمنتك عليها. ارتفع بنعمتى فوق الأمور التي تشغل بنى البشر وذلك بإدراكك لمركزك الجديد الذى قدمته لك.

خامسًا: بقوله "إخوتك أنفسهم وبيت أبيك" ع5 يقصد كل أهل عناثوث (اخوته)، خاصة الأقرباء جدًا إليه (بيت أبيه). كأنه يقول له: لماذا تحتج علىّ قائلاً: لماذا ُتنجح الأشرار؟ إن كنت أطيل أناتى عليهم فلا تنسى انهم إخوتك وبيت أبيك حتى إن غدروا بك! أنا أحذرك منهم لكنني أؤدبهم لأخلصهم، فهم أقرباؤك!

يترجم البعض كلمة "عالٍ" ع6 بـ "سكران" أو "ممتلئ سكرًا"، فالكلمة العبرية ترجمتها الحرفية هي "وزن ثقيل" أو "ممتلىء (خاصة بالسُكر)... لهذا يرى البعض أن المعنى هنا هو أن أقرباء إرميا كانوا يسخرون به كإنسان ممتلىء ُسكرًا، كما حدث مع التلاميذ حين قبلوا عطية الروح القدس، إذ قيل عنهم إنهم سكارى (أع13:2)، كما قيل هكذا عن حنة عندما كانت تصلى بقلبٍ منسحقٍ (1صم12-15). هكذا كان أقرباؤه تارة يسخرون به، وكان في هذا رمزًا للسيد المسيح الذى اتهمه أقرباؤه حسب الجسد أنه مختل العقل (مر21:3)، وتارة يحاولون خداعه بكلمات معسولة، كما قبّل يهوذا سيده مسلمًا إياه للموت!


العدد 7- 13:
3. تدمير ميراث الله

في هذا الاصحاح والاصحاح التالتي توجد سبع مجموعات من النبوات، ست منها عن انهيارأورشليم، وواحدة (14:11-17) عن جيران يهوذا، قيلت غالبًا في أيام يهوياقيم (609-598ق.م).

ا. نبوة أولى (7:12-13): ضد أورشليم ميراث الله.

ب. نبوة ثانية (14:12-17): نبوة عن الأمم المجاورة.

جـ. نبوة ثالثة (1:13-11).

د. نبوة رابعة (12:13-14).

هـ. نبوة خامسة (15:13-17).

و. نبوة سادسة (18:13-19).

ز. نبوة سابعة (20:13-27).

جاءت النبوة الأولى تركز على اسرائيل بكونه الميراث الخاص لله، فمنذ البداية قيل: "إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه" (تث9:32). قدم الله لهم أرضه - أرض الموعد - نصيبًا، وقبلهم هم نصيبًا له. لكنهم افسدوا أرضه فصاروا مستحقين الطرد منها، وفقدوا سمتهم كميراثٍ للرب. هكذا ربط بين الشعب والأرض إذ يقول: "قد تركتُ بيتي، رفضت ميراثي، دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها... رعاة كثيرون أفسدوا كرمي... خربت كل الأرض" ع7،11.

يرى العلامة أوريجينوس أن المتحدث هنا هو الكلمة المتجسد الذى نزل التي أرضنا ليدفع حياته في يد الأعداء ذبيحة لخلاصنا، إذ يقول:

["قد تركت بيتي. رفضت ميراثي. دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها" (إر7:12). لاحظ إذًا أن ذاك الذى هو في "صورة الله" (في6:2) جالس في السموات، وأنظر التي بيته الذى يفوق السموات. لو أردت أن ترى أيضًا ما هو أعظم وأعلى من ذلك، فإن بيته هو الله "لأنى في الآب" (يو11:14). "لقد ترك أباه وأمه" (مت5:19)، وترك أورشليم السمائية وجاء التي الأرض، قائلاً: "قد تركت بيتي. رفضت ميراثي".

كان ميراثه في الواقع في الأماكن التي توجد فيها الملائكة والصفوف التي توجد فيها القوات المقدسة.

"دفعت حبيبة نفسي (نفسي الحبيبة) ليد أعدائها". لقد دفع نفسه لأيدى أعداء النفس، لأيدى اليهود الذين قتلوه، لأيدى الملوك والرؤساء المجتمعين ضده، فإنه "قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه" (مز2:2).[iii]]

نقض الشعب العهد لكن الله حتى في تأديبه لهم، وقد قرر ترك بيته ورفض ميراثه ودفع الشعب للأعداء، يدعو شعبه "حبيبة نفسي" ع7. كأنه يقول إنى مضطر أن أترك بيتي وأرفض ميراثي الثمين وأسلم حبيبة نفسي للعدو. قلبي منكسر من أجل هذا كله. متى يرجع لي بيتي مقدسًا؟! متى يعود التي ميراثي؟! متى ترجع التي حبيبة نفسي؟!

في أمر لحظات الخطية، بينما يقوم الله بتأديبك، ينتظر عودتك لتكون بيته الروحي المقدس، ميراثه المحبوب لديه، عروسه حبيبة نفسه! مادام يوجد نَفَس واحد فيك فهو يترجى عودتك، ويترقب رجوعك إليه كبيتٍ مقدسٍ وميراثٍ له وحبيبة نفسه ولو بالتأديب الحازم.

في قوله هذا يقدم الله أيضًا إجابة لتساؤل النبي: "لماذا ُتنجح طريق الأشرار؟" ع1.

أولاً: هؤلاء الذين تدعوهم أشرارًا هم في الحقيقة بيتي وحبيبتى والكرم التي غرستها بيدىّ. حقًا صاروا أشرارًا وأفسدوا عملى فيهم وأساءوا استخدام عطاياى لهم. إنى أطيل آناتى عليهم التي حين، أؤدبهم في الوقت المناسب لعلهم يرجعون التي ويصيرون نصيبي بالإيمان الحىّ العملى!

ثانيًا: إن كنتَ حزينًا عليهم لشرهم وقد صرخت بأن جدران قلبك توجعك من أجلهم، إنما تشاركنى حزنى على بيتي وحبيبتى وكرمي، ها أنا أقدم مرثاة على ما وصلوا إليه.

ثالثًا: إن كنت تئن لأن أهل بيتك وأصدقاءك قد خانوك، فهم خانونى أنا خالقهم الذى جعلتهم بيتي وحبيبتى وكرمتى. جرحك ليس أكبر من جرحي!

رابعًا: في المرثاة التي يقدمها الله على شعبه أوضح أنه ليس إرميا هو المعنى عندما يضايقه الشعب، إنما الله نفسه. فإرميا ليس محتاجًا التي إجابة على أسئلته، بل محتاج التي الله نفسه موضوع الاضطهاد.

لقد قدم توضيحات كثيرة يكشف بها الله لإرميا أنه هو موضوع الاضطهاد وليس إرميا:

ا. الأسد الذى يزأر في البرية لا ليجد فريسة وإنما ليخون إلهه:

"صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعر،

نطق علىً بصوته،

من أجل ذلك أبغضته" ع8.

كثيرًا ما ُيشبه الله بالأسد الذى يدافع عن شعبه، إذ قيل: "إن الرب يزمجر من صهيون، ويعطى صوته من أورشليم" عا 2:1، وُدعى السيد المسيح: "الأسد الذى من سبط يهوذا (رؤ 5:5)، وقيل عنه وهو على الصليب: "ربض كأسدٍ" تك 9:49. يتقدم المعركة كأسدٍ قادر على تحطيم عدو الخير الذى يجول كأسدٍ زائرٍ ليبتلعهم فريسة سهلة (1بط 8:5). ويود الله أن يقيم من كل مؤمنٍ أسدًا لا يخشى عدو الخير، بل يحمل روح إلهه، روح القوة. أما أن يسىء استخدام طاقاته ومواهبه فيوجهها ضد الله، عندئذ ُيحسب كأسدٍ يزأر ضد من وهبه القوة، ضد الله خالقه ومخلصه، فيلقى بنفسه في دائرة غضب الله. هذا ما عبّر عنه بقوله: "من أجل ذلك أبغضته" ع8.

بدقة عجيبة يعاتب الله شعبه قائلاً: "صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعر"، لقد أتيت به التي أرض الموعد التي تفيض عسلاً ولبنًا، ليكون ميراثًا لى، فإذا بشره يحول أرض الموعد التي وعرٍ وخرابٍ، ويستخدم عطاياى ضدى. ميراثي الذى اخترته لي صار ضدى!

"نطق علىّ بصوته"، هذا الذى كان تحت عبودية فرعون لا يقدر أن ينطق بكلمة تحت جلدات المسخرين اللاذعة، أعطيته الحرية فرفع صوته ضدى!

ب. ضبعة نهمة على فريستها، إذ يقول: "جارحة ضبع ميراثي لى" ع9. قدمت لها أرضى ميراثًا لتنعم وتستريح، فإذا بها كالطير الجارح أو كالضبع الذى يهاجم الفريسة بنهمٍ! هجموا على ميراثي وافترسوه! حسبوه جثة ميتة!

ج. طيور جارحة تجتمع حول الفريسة معًا كما في عيدٍ مفرح!

"الجوارح حواليه عليه.

هلم اجمعوا كل حيوان الحقل،

إيتوا بها للأكل" ع9.

في التشبيهات الثلاثة يبرز الله كيف تحول شعبه الذى يدعوه "حبيبة نفسه" التي طبيعة مفترسة نهمة تتهلل بالشراسة والافتراس، تحتقر ميراثه وتحسبه جثة ميتة لا تستحق إلا الأكل! ما أبشع جحود الإنسان لله خالقه ومخلصه، ولعطاياه الفائقة!

يقول العلامة أوريجينوس: ["صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعرٍ". انقلب هذا "الميراث" الذى أخذه على الأرض ضده مثل وحشٍ مفترسٍ، وتحول "ميراثه" التي مجموعة من اليهود الشرسين الهائجين ضده مثل "أسدٍ في الوعر"... الآن أيضًا توجد أسود في الوعر يريدون أن يجدفوا على المسيح، كما يتآمرون على الذين يؤمنون به... "جارحة ضبع ميراثي لي"، مازال يتنبأ على هذا الميراث: "جارحة ضبع ميراثي لي".

جارحة الضبع من أشرس الحيوانات، تحوم حول المقابر لتفترس الجثث.

"الجوارح حواليه عليه. هلم اجمعوا كل حيوان الحقل إيتوا بها للأكل": بما أنهم قد وصلوا التي هذه الدرجة، فإنني آمركم أيها الملائكة أن تذهبوا وتجمعوا كل الحيوانات المفترسة وأن تطرحوا أمامهم هؤلاء الناس.

إذا كان الله لم يشفق على شعبه المختار، فكم بالأكثر لا يشفق علينا نحن أيضًا. إننا إذا لم ننفذ وصية الله وكلام الإنجيل سيقول من جديد: "هلم إجمعوا كل حيوان الحقل إيتوا بها للأكل"، لكننا نتجرأ لنقول في صلواتنا: "لا ُتسَلِم للوحش نفس يمامتك" (مز19:74)، أو "لا تسلم للوحوش المفترسة النفس التي تعترف لك بخطاياها". لنعترف إذًا بخطايانا تائبين عنها، فلا نُسلَّم للوحش، وإنما للملائكة القديسين الذين سيكونون بمثابة مرضعين لنا، يحملوننا على صدورهم، ويساعدوننا على العبور من هذا العالم التي العالم الآتي في يسوع المسيح الذى له القوة والمجد التي أبد الآبدين.[iv]]

خامسًا: أوضح الله في مرثاته على شعبه هنا ما قد آل إليه هذا الشعب الخائن من "خراب"، فقد كرر هذا الكلمة خمس مرات في الآيات 10-13، ليخلق جوًا من الحزن، معلنًا بذلك حزنه على شعبه، وعدم سروره بما حلّ بهم من تأديبات بسبب خطاياهم.

هكذا قدم الله لإرميا سلسلة من الإجابات غير المباشرة على تساؤله: لماذا ُتنجح طريق الأشرار؟" بطريقة تبعث في النبي روح الرجاء وتدفعه للجهاد والعمل لحساب إخوته في الرب، حتى إن سمح بتأديبهم!

"رعاة كثيرون أفسدوا كرمي،

داسوا نصيبي،

جعلوا نصيبي المشتهى برية خربة!" ع 10.

يستخدم هنا تشبيه شعب الله بالكرمة، ويرجع ذلك التي إشعياء 1:5-7، وورد في إرميا 9:6؛ 10:5.

يقصد بالرعاة هنا الملوك ورجالهم ومشيريهم، والقيادات المدنية والدينية (1:23-4). إنه حزين عليهم لأنه عوض القيام بدور الرعاية للكرم قاموا بتخريبه، وتحويل حقله المشتهى التي برية خربة.

أعطى الله اسرائيل الأرض ميراثًا، ليصيروا هم ميراثه، وإذ أفسدوا الأرض بالعصيان تحولت من أرضٍ مقدسة التي مقبرة جماعية لقتلى بلا عدد، تحمل دنسًا ونجاسة!

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "جعلوه خرابًا ينوح علىّ وهو خرب. خربت كل الأرض بسببي" ع 11، قائلاً:

[من هو ذاك الذى يقول: "خربت كل الأرض بسببي"؟ إنه السيد المسيح.

من المؤكد قبل مجىء السيد المسيح كان هناك العديد من الخطايا بين الشعب، لكنها لم تكن كثيرة التي درجة أن ُيسَّلَم الشعب للهلاك الأبدى، لكنهم حينما ملأوا كيل (كأس) آبائهم، لم يكتفوا بقتل الأنبياء واضطهاد الأبرار، قتلوا أيضًا مسيح الرب، فتمت بشأنهم الكلمات: "هوذا بيتكم ُيترك لكم خرابًا" مت37:23، وهكذا فإنه "بسبب" السيد المسيح تحملوا هذا المصير وخربت كل أرضهم.

إذا أردت أن تفهم الكلمات: "خربت كل الأرض بسببي"، بطريقة أكثر سموًا، انظر كيف خربت الأرض التي في داخلك حينما جاء السيد المسيح. ففي الواقع قد خربت حينما قمنا بإماتة الأعضاء الأرضية، فلم تعد الأرض التي في داخلنا تنتج الأعمال الأرضية، ولم تعد توجد عند البار أعمال الجسد التي هي فسق، نجاسة، شهوة، زنا، سحر الخ. يقول المخلص أيضًا من جهته: "أتظنون إنى جئت لأعطى سلامًا على الأرض؟! كلا، أقول لكم بل انقسامًا" لو51:12. قبل مجىء المسيح لم يكن هناك انقسام على الأرض، لأن لم تكن للجسد شهوات ضد الروح ولم يكن للروح أن تشتهي ضد الجسد. لكن عندما جاء إلينا المخلص وعرفنا ما هي أعمال الجسد وما هي أعمال الروح، بهذه المعرفة حدث الانقسام الذى فصل بين الجسد "الأرض" والروح. ستتحقق الكلمات "خربت كل الأرض" حينما نحمل في جسدنا إماتة الرب يسوع، وحينما لا نحيا بحسب الجسد بل بحسب الروح، وحينما لا نزرع شيئًا في الجسد إنما نزرع كل شىء في الروح حتى لا نحصد فسادًا من الجسد، إنما نحصد بالروح حياة أبدية.[v]]

"زرعوا حنطة، وحصدوا شوكًا،

أعيوا ولم ينتفعوا،

بل خزوا من غلاتكم من حمو غضب الرب" ع 13.

زرعوا حنطة، لأن معهم شريعة الرب، كلمة الله الحية، لكنهم حصدوا شوكًا لأنهم لم يقدموها بالمفهوم الروحي، ولا عاشوا فيها، بل تمسكوا بالحرف، فعوض الحنطة حصدوا شوكًا.

يقول العلامة أوريجينوس:

[قيل للخطاة: "تزرعون حنطة وتحصدون شوكًا" (إر13:12).

لأنهم حتى إن كانوا يعرفون كلمات الله ويرددونها، إلا أنهم لا يعرفونها المعرفة الصحيحة ولا يعيشون بها ولا يؤمنون بها، بل ينطبق عليهم القول "تزرعون حنطة وتحصدون شوكًا". وينطبق هذا الكلام بصفة خاصة على الهراطقة الذين يقرأون الكتاب المقدس ويحصدون شوكًا، ليس شوكًا من الكتاب المقدس نفسه، إنما من طريقتهم في الفهم والتفسير.[vi]]
العدد 14- 17:


4. نبوة عن الأمم المجاورة

في وسط الظلام الدامس يشرق الله على البشرية بنور الرجاء، ليس فقط على شعبه، بل وعلى الأمم المجاورة إن عادوا إليه بالتوبة.

إن كان الله يؤدب فهو لا يطلب عذاب البشرية بل نموهم، إذ هو "محبة"، لذا يقول : "عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم أفكار سلام لا شر" (21:29).

هكذا يبعث الله روح الرجاء في إرميا، طالبًا منه عوض التساؤل: "لماذا ُتنجح طريق الأشرار؟ ع1، أن يتطلع التي المستقبل ليرى شعبًا جديدًا من كل الأمم والشعوب يتمتع بالحياة الجديدة، حيث يتحول الأمم التي الإيمان، كما حولت الأمم شعب الله التي عبادة البعل. يكشف الله لإرميا الذى جعله نبيًا للشعوب (إر5:1) عن كنيسة العهد الجديد حيث يملك الله ومسيحه على الأمم (رؤ5:11). بهذا أعطى الله لإرميا قوة ودافعًا للعمل بنظرة مستقبلية مفرحة.
أعلى