من له العروس فهو العريس (يو29:3)
القديم: ماء التطهير الناموس.
الجديد: الخمر = الدم والحياة الجديدة
الاستعلان: العريس الحقيقي يقدم دمه المسفوك لإسعاد البشرية.
لم يكن جزافاً أن يبدأ المسيح ظهوره العلني في «حفلة عرس» ويصنع أول آياته في تحويل «الماء إلى خمر», فهنا يبدأ الخدمة العلنية وانجيل آياته هكذا:
فإذا علمنا أن بدء خدمة المسيح في إنجيل مرقس هكذا: «جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله» (مر14:1), وانجيل القديس متى أيضاً مثله: «من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله» (مت17:4). كذلك إذا رجعنا إلى مفهوم ملكوت الله نجده حسب التقليد الإنجيلي الرسولي هكذا: «يشبه ملكوت السموات إنساناً ملكاً صنع عرساً لابنه... » (مت22:2-4)؛ وأيضاً: «يشبه ملكوت السموات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن لاستقبال العريس...» (مت1:25-13)؛ ثم لو دققنا؛ نكتشف أن المسيح نفسه يصور كل فترة وجوده على الأرض في وأولاده وتلاميذه ومحبيه بحفلة عرس ممتدة: «فجاءوا وقالوا لماذا يصوم تلاميذ يوحنا والفريسيين وأما تلاميذك فلا يصومون, فقال لهم يسوع هل يستطع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم. مادام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيام حين يُرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون في تلك الأيام.» (مر18:2-20). وهكذا نستطيع أن نأخذ صورة مؤكدة عن ما يبدو عليه المسيح في نظر نفسه. المسيح يرى نفسه عريساً، أينما سار وأينما حل، حتى وهو في حفلة عرس لآخر، عريساً يبدأ يدشن ملكوته!
القديس يوحنا استحال عليه تحقيق الرمز بحرفيته على الواقع بأن يصور المسيح كعريس في عرس قانا الجليل، فاكتفى أن يدعى السيح إلى عرس «الجليل» كعريس حقيقي ولكن غير ظاهر إلآ لأخصائه، ولم يظهر إلا عندما قيل: «ليس لديهم خمر». قد فرغ الفرح من إسرائيل...!!، «ليس لديهم خمر» وماذا يبقى من العرس إذا لم يكن لهم خمر ؟ إنه الرمز الحقيقي لسر الشركة مع الله أو الانفتاح على الملكوت!! والخمر هو التعبير اللاهوتي عن بهجة الخلاص في الأزمنة الماسيانية!! وفي الوعي المسيحي اللاهوتي هو كأس الخلاص بعينه: «اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسُفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.» (مت27:2-28)
ون كان قد حدث فجأة أن فرغ الخمر في عرس قانا الجليل, ولكن عند القديس يوحنا كان هذا أمراً تحتمه النبوات، لأن بهجة الخلاص قد انقطعت بالفعل من العهد القديم. ولم يكتشف أحد أن خمر العرس في عرس الناموس قد انقطع إلا أم يسوع التي أصبحت تحس بوجود الله أينما ذهبت من عدم وجوده. وفي هذا يقول النبي تعبيراً عن أواخر أيام العهد القديم: «اصحوا أيها السكارى, وابكوا وولولوا يا جميع شاربي الخمر على العصير، لأنه أنقطع عن افواهك» (يؤ5:1)
والقديس يوحنا يقدم «الأم» باعتبارها أول من اكتشف أن «ليس لهم خمراً», والخمر تعبير عن سر الشركة مع الله, كما قلنا, ولدلالتها لدى العريسين، ولدى العهدين، أي لدى عريس الناموس لأنه يبدو أنه كان أحد أقربائها، ولدى عريس الملكوت الحقيقي لأنه ابن لها بالحق, تقدمت بملتمسها: «ليس لهم خمر», ومع الطلب نظرة استعطاف من «أم إسرائيل القديم بالتمثيل» و «أم إسرائيل الجديد باللحم والدم», وكأنها تقول له: اعلن عن وجودك!! فكان أن حول عريس الملكوت ماءهم الذي للتطهير إلى «خمر على طقس عشاء الرب». هكذا شربها تلاميذه وأحباؤه «الذين تبعوه في التجديد». وهكذا وبها أظهر مجده لهم، فانفتحت أعينهم لما شربوا ورأوا هالة مجده, فآمنوا. لقد عرفوه كما عرفه تلميذا عمواس وقت كسر الخبز؛ لأنه في اثنين يستعلن السر، وقت رفع الكأس ووقت كسر الخبز، أينما كان المسيح على عشاء!!، فما بالك والمسيح يضيف إليها لمحة فصحية: «إن ساعتي لم تأت بعد»، ولكن أمه استقدمتها له!!
لقد ملأت الخمر أجرانهم وفاضت، وفي هذا يقول يوئيل النبي نفسه لما نظر بالروح عودة العريس إلى عروسه: «فتملأ البيادر حنطة وتفيض حياض المعاصر خمراً وزيتاً» (يؤ24:2). أما إشعياء النبي فشعر بالفرح الذي ملأ قلوب الداعين والمدعوين، وعبر عنه من وراء الآزمنة: «وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك» (إش5:62). أما بنو العرس القديم ففرحوا «بالشراب» البائد لأنهم شربوا منه فوجدوه جيداً؛ وأما بنو الملكوت فأدركوا سر حضور الله فيه, وبالتالي سر الخمر وسر الأية، وآمنوا بالمسيح؛ ولكن ظل سر العريس مكتوماً حتى يوم الصليب، ويوم استعلن كيف فدى العريس عروسته واشتراها بدمه الذي استودع سره في خمر الكرمة الذي يملأ كل أجران العالم.
نحن في نهاية الرحلة التي بدأها الرب من بيت «عبارا»» عبر الأ ردن على الشاطىء الشرقي، وكان معه في بداية الرحلة التلميذان الجديدان أندراوس ويوحنا اللذان انضم إليهما سمعان بطرس ويعقوب، ثم في بداية المسيرة انضم فيلبس ثم نثنائيل، أربعة باسم يهودي واثنان باسم يوناني، وهذا ليى جزافاً في إنجيل يوحنا. والمسافة طويلة يقدرها العالم وستكوت باختباره الشخصي بحوالي 60 ميلاً، ليبلغ الناصرة أولاً ثم قانا الجليل، وكله من على الضفة الشرقية لنهر الاردن.
اليوم الثالث: العدد هنا يبدأ من الأية 43:1 «وفي الغد أراد يسرع أن يخرج إلى الجليل فوجد فيلبس...»، ولكن كثيرين من الشراح الذين تستهويهم الأعداد وتأويلها يقولون إن اليوم الثالث هو القيامة التي بها استعلن المسيح ذاته. ولأنه هنا في هذه الأية يقص قصة استعلان، فقد صدرها بهذا الرقم للفت الإنتباه.
عرس في قانا الجليل: العرس عند اليهود يستمر أسبوعاً عل الأقل ويبدأ في المساء. ومعروف في التقاليد اليهودية أنه إذا كانت العروس عذراء يكون زواجها يوم الأربعاء، وإلا يكون زواجها يوم الخميس. «فجمع لابان جميع أهل المكان وصنع وليمة. وكان في المساء (في الظلام) أنه أخذ ليئة (بدل راحيل) ابنته وأتى بها إليه فدخل عليها... وفي الصباح إذا هي ليئة فقال للابان ما هذا الذي صنعت بي أليس براحيل خدمت عندك؟ فلماذا خدعتني. فقال لابان... أكمل أسبوع هذه, فنعطيك تلك أيضاً بالخدمة...» (تك22:29-27)
كذلك في قصة زواج شمشون من المرأة الفلسطينية نقرأ: «ونزل أبواه إلى المرأة فعمل هناك شمشون وليمة لأنه هكذا كان يفعل الفتيان... فقال لهم شمشون لأحاجينكم أحجية فإذا حللتموها لى في سبعة أيام الوليمة...» (قض11:14-12)
قانا الجليل: «قانا» دائمأ تُذكر باسم «الجليل» للتفريق بينها وبين قانا أخرى كانت في منطقة سوريا. وهى المكان المعروف الآن بـ «خربة» قانا، وهي عل بعد 9 أميال شمال الناصرة.
«أم يسوع»: لم يذكر اسمها القديس يوحنا قط في كل إنجيله وحتى عندها ذكر اسم يوسف (45:1) لم يذكر اسمها، فهذا هو المنهج الفكري والروحي العجيب الذي اختصه هذا الإنجيلي: لا اسمه ولا اسم أسم أمه ولا أسم العذراء مريم. ولكن ليس من الهين على القديس يوحنا أن يذكر «أم يسوع» إلا إذا كان الدور الذي ستقوم به في غاية الأهمية ويحوطه السر من كل جانب.
وفي نظرنا أن العذراء القديسة مريم في هذه القصة تقف كنبية تتوسط بين عهدين وتتوسط بين عريسين، وتتطلب المستحيل من ابنها فيعطيها!
وواضح من ملابسات القصة أنها لم تكن مدعوة بقدر ما كانت داعية وصاحبة أمر في البيت. فيبدو أن هذا الزواج كان يمت إليها بصلة أكثر من أنها كبيرة، إذ ما أن وصل المسيح إلى البيت بعد الرحلة المضنية إلا ووجد منها الرسالة أنها سبقته إلى العرس، وهي في انتظاره. فاستجاب في الحال، بالرغم من أن الرحلة كانت مضنية للغاية.
عجيب حقاً أن يُدعى عريس, وهو في أوج عرسه, إلى حفلة عرس. إنها مضادة يمتنع أن تكون جزءاً من إنجيل. واذا قبلها الإنجيل هكذا بمستواها الظاهري هذا، لخرج الإنجيل عن حقيقة مستواه، إذ كيف يتسع درب الصليب لحفلة عرس؟؟ ولولا أن المسيح يعلم ما سينصع هناك لامتنع، بل لأنه كان قد سبق ودبر كيف يُظهر مجده في هذا العرس على أساس الصليب وفي مستواه، لذلك قبل الدعوة, وأصر أن يأخذ تلاميذه أيضاً لأنهم الوجه الآخر من حفلة عرسه الخاصة. أليس هو القائل: «من أجلهم أقدس أنا ذاتي» (يو19:17) بمعنى أكرس نفسي للصليب من أجلهم؟
هذا هو المحور الذي تدور حوله القصة. وهذا هو السبب الذي اجتذب المسيح إلى العرس، وهذا هو الدور الذي كشفت فيه الأم عن دورها الشفاعي الكبير.
ماذا حدث؟ يقول القائلون وهم على صواب, إن هم أخذوا بمظاهر القصة, أن حضور المسيح وتلاميذه وأحبائه، وهم كثرة، أخل بترتيبات رئيس المتكأ؛ فاستنفذ الموجود من الخمر حتى فرغت فجأة. ولكن إن أخذنا بجوهر الإنجيل وأسلوب القديس يوحنا ومقاصده البعيدة الهدف والرؤيا، فحضور المسيح أيضاً هو الذي كشف رداءة الخمر وأفرغها من مضمونها. فهل يمكن أن يكون على مائدة عشاء الرب خمر غير جيدة؟ أو كأس غير كأس الرب؟ الخمر في حضرة الرب وفي يده هي الرمز الكامل والحقيقي للشركة مع الله.
أليس من أجل ذلك دعته أمه ليصحح «ليس نقص الخمر» ، بل «نقص وجود الله وحضوره»؟
«ليس لهم خمر».
هذا التعبير مستيكي، اي سرى، بالدرجة الاولى، يعني ليس لهم فرح ولا سرور حقيقي بالله، إن الام العذراء القديسة مريم نذيرة الرب والتي تقدست بالروح القدس نفساً وجسداً وروحاً يستحيل أن تعني إلا هذا، العذراء القديسة التي عرفت أن تقول: «تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي» (لو46:1)، تعرف إن كان من خمر الناس تبتهج الروح أم من خمر الله، فحينما قالت «ليس لهم خمر» كان ذلك بمثابة ملتمس عاجل وسري أن يمارس عمله كإله.
والظروف كلها حسب الظاهر كانت مواتية، فخمرهم فعلأ نفدت، والنفوس الحاضرة قلقة وملتهبة شوقاً تريد أن ترى من يسوع عملاً، بعد كل الأخبار المذهلة والمتزاحمة التي ملأت البلاد كلها عما قاله المعمدان وعما شاهده وشهد به، وخاصة حينما أعلن أن المسيح هو العريس وأما هو فصديق العريس! كانت عين العذراء وقلبها على عمل إعجازي مثل ما عمل المسيح تماماً. وكما اشتهت العذراء، عمل المسيح, وزاده, لأن حب العريس أقوى من حب العروس. ولكن عتاب المسيح الوحيد للعذراء الأم أنها عجلت بالصليب!! ونحن لا زلنا في صفها «لم تأت ساعتي بعد»!!
الإشارة هنا خفية ترمي إلى أن الرب لا يعمل إلا بحسب مشيئة الآب، وأن العمل الذي تطلبه «الام» يدخل في تحديد ساعة الصليب!! والمعنى الأن سهل فهو يقصد أن بدء العمل بأول آية يستعلن شخصه حتماُ؛ وبهذا يكون قد حدد بالضرورة بدء العدد التنازلى للصليب، لأن عمل الرب وهو منصب كله ومحصور في عمل الفداء والخلاص، كان محسوباً عليه من أعدائه، أي ضده. فكأنما الأم بطلبها صنع الآية، وهي الاولى, نبهت وأعطت الأعداء الإشارة للبدء، فحددت دون أن تقصد ساعة الصليب. ولم يكن المسيح يشاء أبداً أن تكون أمه هي التي تقف هكذا على بداية درب الصليب!
أما قوله لأمه: «يا امرأة» فهذا اللقب لا يُفهم على مستوى لغة القديس يوحنا إلا إذا قارناه بما خاطبها به الرب عنما أتت الساعة وهوعلى نهاية درب الصليب! :«يا امرأة هوذا ابنك». وهكذا يشير الرب بلغته السرية التي يجيد القديس يوحنا فهمها وتسجيلها كيف كانت أمه القديسة العذراء مريم تمثل «المرأة» وهي تفتتح وتختم معه, كآدم الثاني, سكة الصليب» وكشريكة أحزان وكمن يجوز في نفسها ميف!! حسب نبوة سمعان الشيخ الجليل.
هي وحدها التي فهمت كل شيء من رد ابنها، الذي احتار فيه كل شارحي الكتاب، فبالرغم من صورته الجافة حسب الظاهر إلا أنها اعتبرته يحمل علامات الرضى والتنفيذ. فأوصت الخدام بطاعة كل ما يقول، وكلمة «الخدام» هنا تأخذ معنى خدمة الطقوس والأسرار، وهي عجيبة حقاً في موضعها؛ فهي تزيد من معنى الوجود السري للمسيح كعريس ومن مستوى الخمر السرائري.
فالكلمة العادية والطبيعية للخدام حسب تحقيق العلماء هي إما ( ) ولكن القديس يوحنا يصر في هذا الموقف، أمام حضرة المسيح ووجود أمه العذراء القديسة مريم وشركة التلاميذ القديسي، أن يختار لخدمة توزيع الخمر الذي يُعتبر وكأنه من يد المسيح، لفظة «الذياكونيين» ليزيد من ترجيح فعل سرائري حادث.
الستة الأجران للتطهير لستة أيام الأسبوع، لأن السابع وهو السبت ليس فيه خروج ولا دخول ولا عمل ما فليس له تطهيرات. وكان كل جرن يخصص ليومه، أما سعتها الكبيرة فلأن التطهيرات كانت قد فاقت عن الحد, فليس اليدان فقط بل والقدمان والأوعية هي التي تتطهر، وقبل وبعد الأكل, حتى الكراسي وشلت الجلوس والأسرة: «لأن الفريسيين وكل اليهود إن لم يغسلوا أيديهم باعتناء لا يأكلون متمسكين بتقليد الشيوخ، ومن السوق إن لم يغتسلوا لا يأكلون، وأشياء أخرى كثيرة تسلموها للتمسك بها من غسل كؤوس (أكواب الماء والخمر) وأباريق وآنية نحاس (الحلل) وأسرة.»»(مر3:7-4)
وهذه الآواني الفخارية الكبيرة الحجم لا تزال تستخدم في نفس المناطق المذكورة, ويوجد منها أحجام أكبر في الأديرة إلى الآن.
مطرين أو ثلاثة:
هذا المقياس يساوي في جملة الأجران الستة حوالي 134 جالونا. علمأ بأن الجالون يساوي 4.54 لتراً
هنا المسيح يأخذ موقف الذي يُجري السر أو الآية سيان، وكونه يأمر الذياكونيين بملء الأجران ماء فهو يحضر بنفسه كيفية العمل ومادة السر من أخصاء الخدمة. واستجابة الخدام الفورية لملء 134 جالوناً من الماء، أي ما يزيد عن70 صفيحة ماء، أخذ وقتاً وجهداً ليس بقليل, لأن الأجران كلها كانت قد فرغت من الماء بسبب عدد المدعوين الكبير. كل هذا جعل المنظر مثيراً وملفتاً جداً للأنظار، وهذا بحد ذاته تحضير ليس بقليل بالنسبة لأداء المعجزة.
والملاحظ أن الخدم ملأوا الأجران حتى حافتها العليا. هكذا يصنع المسيح دائماً: فهو«الملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف23:1). «ومن ملئه نحن جيمعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة» (يو16:1). وهذا الملء حتى الحافة يمثل في الحقيقة مع الكثرة الهائلة في الكمية المتحولة إلى خمر، مستوى عطية المسيح الروحية: «لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح» (يو34:3)؛ و«القادر أن يفعل فوة كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا» (أف20:3)، يعطي دائماً «بحسب غنى مجده» (أف16:3)، وبحسب «غنى المسيح الذي لا يُستقصىى...» (أف8:3)
هذه الصورة الفائضة لعمل النعمة في عطية المسيح هي المعيار المنصوص عنه للعهد الماسياني، أي العهد الجديد، عهد الخلاص، عهد الفيض والملء.
لذلك لزم هنا، بالدرجة الاولى, مع هذه الكثرة أن ينتزع المسيح من رئيس المتكأ الشهادة بنوع جودة الخمر الذي ينفي عنه صورته المادية المؤدية للخلاعة والسكر, فالكثرة والفيض والملء هنا إنما تعمل لحساب فرح الروح وبهجة حضور الله. الأ مر الذي طلبته العذراء وتمنته أن يكون فكان. والكثرة مع الملء والفيض في هذه الأية توازي تماماً ما حدث في آية الخمس خبزات والسمكتين، والكثرة في صيد السمك الأخير حتى كادت الشباك تتخرق.
أما التمادي في وصف الملء والسعة والأعداد فهي الصفة الملازمة لآيات إنجيل يوحنا، فهدم الهيكل الذي تم بناؤه في 46 سنة يتم في ثلاثة أيام، والأعمى مولود من بطن أمه أعمى، والمشلول 38 سنة في مرضه، والخمس خبزات والسمكتان أشبعت خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال، ولعازر قام بعد أربعة أيام في القبر، فاختيار التمادي هو جزء من اختيار الأية.
«الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو17:5)
«استقوا الآن»: هذه الكلمة أحدثت ضجة في عقول الشراح, وأكثرهم العلامة وستكوت, فهي تعني في الأصل اللغوي «اسحبوا». فما كان من هذا العالم والذين تشيعوا له أن ظن أنهم يسحبون من النهر أو البئر أو من مصدر أخر، لأن كلمة «اسحبوا» لا تصلح إلا للرفع بالجردل أو بآنية بحبل من البئر أو خلافه. وقد فات على هؤلاء العلماء المتمدينين أن الأجران الحجرية الكبيرة ذات فوهة واسعة وليس لها أي وسيلة لرفع الماء منها إلا بسحبها بالكوز ذي اليد المعروفة، سواء كان من النحاس وهذا هو غالب الأمر جداً، أو من الفخار، والكلمة ( ) باليونانية هي نفس الكلمة بالعربية الدارجة «ينظل» و «نظل» الماء أي أخذه من مصدر عميق بالكوز أيضاً وليس فيها أي لبس أو إبهام .
رئيس المتكأ: وأيضاً هذه الكلمة لم تُفهم عند علماء الغرب، لأنها عادة شرقية أن يخدم ويضبط الحفلة بأكملها رجل يتبرع بذلك ويكون غالباً من أهل العرس، ويكون مرموق الكرامة، وهو يصنع ذلك تكريماً منه وتنازلاً لأهل العرس. ولذلك تكون له الكرامة الاولى في الحفل، وكلمته تكون نافذة على الجميع. لأن في حفلات العرس عند الشرقيين غالباً ما يخرج الشباب عن حدودهم إما بالتهليل أو بالشرب الكثير أو بالتذمر، وهذا يحتاج إلى قدرة عالية جداً من الضبط. فبحسب الاصول الشرقية, أوعز المسيح للخدم أن يقدموا من الخمر لهذه الشخصية، أي لرئيس المتكأ، فقدموا.
وقد يحدث أن يكون رئيس المتكأ أحد رؤساء الدين الذي يجري طقوس الزواج، وقد يبقى في العرس كمدعو فوق العادة وهنا تكون له كرامة مضاعفة.
وكان يهم المسيح جداً أن يشرب رئيس المتكأ من الخمر الجديدة، وذلك أولاً: حسب طقس العشاء, فالمسيح هنا اعتبر نفسه رب الأسرة أو العريس الإلهي, وأن كل المدعوين وأهل البيت بمثابة أولاده أو مدعويه. وكان الطقس يحتم أن المسيح يذوق ويعطي لأكبر الموجودين وبعد ذلك يدور الدور حتى الأصغر، وهذا هو طقس العشاء العادي عند اليهود. أما السبب الثاني فلكي ينتزع منه المسيح الشهادة لنوع الخمر الإلهي الذي صنعه المسيح بنفسه أو على الأصح من نفسه. لأن كل أية كان يصنعها المسيح كانت تحتاج إل قوة إلهية تخرج منه. «لما سمعت بيسوع جاءت في الجمع من وراء ومست ثوبه. لأنها قالت إن مسست ولو ثيابه شُفيت. فللوقت جف ينبوع دمها وعلمت في جسمها أنها قد برئت من الداء. فللوقت التفت يسوع بين الجمع شاعرأ في نفسه بالقوة التي خرجت منه وقال من لمس ثيابي...»« (مر27:5-30)
كان الخمر الجديد الذي صنعه يسوع يحمل قوة إلهية, فالكرمة الحقيقية تعطي من عصيرها خمراً حقيقياً, هذه القوة ظهرت عند رئيس المتكأ تحت إحساس الجودة ليس إلا، وعند كثيرين ظهرت مُبهجة للغاية كبهجة حضور الله في القلب، وعند التلاميذ فتحت أعينهم وعاينوا حضور الله ومجد المسيح فأمنوا. وهذا شأن كل سر الله حتى اليوم.
يلزم أن نستدرك القول إن أجران الماء التي للتطهير إنما موضعها يكون في الفسحة في مدخل البيت وليس داخله. والأجران لم تتحرك من مكانها أثناء صٌنع الآية, فهي ثقيلة جداً بالإضافة إلى أن حجمها يمنع أن تكون داخل البيت, لذلك حينما صنع المسيح آية تحويل الماء إلى خمر، صنعها بعيداً عن أهل العرس والمدعوين الذين في الداخل, لذلك قُدمت لهم الخمر وهم لا يدرون من أين أتت, وهذا أيضأ يضاف إلى أن سر التحول لا يعرف أحد كيف أتى.
والإشارة الروحية أو السرية واضحة أن آية تحويل القديم إلى جديد، أي ماء التطهير إلى خمر عشاء، صُنعت خارج حدود الناموس. وبالرغم من واقعها المنظور والمحسوس إلا أن لا الرئيس المكلف بضبط حدود الناموس ولا العريس, عريس الناموس, كانا على دراية بها أو بصانعها الذي هو «العريس الحقيقي»، ولكن «الخدام» وهم في الناموس الطبقة المترسبة من المجتمع التي تكتسب لقمتها بعرق جبينها، كانوا يعلمون: «فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين, فقال هؤلاء لهم لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» (يو45:7-46)، والإنجيل اهتم بوضعهم كشهود.
«ومتى سكروا فحينئذ الدون»: الكلام هنا لا يقع على الحاضرين, فلم يسكر أحد بعد، ولكن في حدود المثل الشائع يتكلم هنا رئيس المتكأ. وفي الحقيقة الكلام هنا يرمي إلى أبعاد تغوص في الواقع اليهودي الذي صار حاله كحال «متى سكروا فحينئذ الدون»، وفي هذا يقول إشعياء النبي: «ولكن هؤلاء أيضاً ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر, الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر، ابتلعتهما الخمر، تاها من المسكر، ضلّا في الرؤيا, قلقا في القضاء. فإن جميع الموائد امتلأت قيئاً وقذراً ليس مكان. لمن يعلم معرفة ولمن يفهم تعليماً...» (إش7:28-9). نعم فليس, من واقع الحال, أردأ من هذا خمر ولا من هذا حال.
«أما أنت فقد بقيت الخمر الجيدة إلى الآن»: «الخمر الجيدة»: كلمة «جيدة» هنا التي تُترجم أيضاً في إنجيل يوحنا «حسن» و «صالح». فإذا قرأناها إنجيلياً وبإحساس العهد الجديد وخاصة أعمال المسيح، فهي قريبة ونسيبة لكلمة «الحق». فهي نفس الكلمة المستخدمة في «أنا هو الراعي الصالح»، وهي أيضاً المسخدمة في قوله: «أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عد أبي» (يو32:10). والسؤال هنا: هل يمكن أن نقبل صفة «جيدة» بهذا الوضع والإحساس الإنجيلي على أنها خمر جيدة للمذاق والشرب الجسدي؟ أم أنها خمر لها علاقة جيدة بالكرمة الحقيقية؟ نحن في الواقع نرى أن «الخمر الجيدة» هي المحور الذي تدور حوله الأية، فهي آية تحويل الماء الساذج لغسل الجسد إلى خمر العهد الجديد « الجيدة», أي الروحية، لتفريقها عن الخمر العادية. ولكن بنو العرس صنفان: صنف شرب الخمر الجيدة فانحصرت جودتها عندهم في مذاقها وحسب فأعجبتهم، كما أعجب الذين أكلوا من الخمس خبزات وسعوا وراء المسيح يطلبون المزيد من الخبز البائد؛ أما بنو الملكوت وهم الصنف الذي يرافق العريس الحقيقي, فلما شربوها انفتحت أعينهم وتجلى العريس في أعينهم وقلوبهم وإيمانهم فعرفوه أنه هو المسيح الحمل ابن الله كما رأه المعمدان.
عرس قانا والكنيسة: الكنيسة منذ ما قبل القرن الرابع وهي تعيد للميلاد والغطاس وعرس قانا الجليل عيداً واحداً متصلاً، وأسمته «عيد الظهور الإلهي», باعتبار أن ما تم في الميلاد بظهور الله في الجسد أي « الكلمة صار جسداً», بشهادة الملائكة هو الذي نظره المعمدان والتلاميذ في الاردن حيث استعلن بشهادة الروح القدس والآب من السماء أنه ابن الله، وأنه هو العريس, والمعمدان صديق العريس رأى وفرح, وهو الذي تم في عرس قانا الجليل حينما أظهر المسيح ذاته أنه ابن الله بتحويل ماء التطهير الذي للناموس إلى خمر العهد الجديد الذي يحمل سر الفداء والخلاص, وسر العريس الحقيقي, بشهادة أم المسيح والتلاميذ.
يلزم أن نستدرك القول إن أجران الماء التي للتطهير إنما موضعها يكون في الفسحة في مدخل البيت وليس داخله. والأجران لم تتحرك من مكانها أثناء صٌنع الآية, فهي ثقيلة جداً بالإضافة إلى أن حجمها يمنع أن تكون داخل البيت, لذلك حينما صنع المسيح آية تحويل الماء إلى خمر، صنعها بعيداً عن أهل العرس والمدعوين الذين في الداخل, لذلك قُدمت لهم الخمر وهم لا يدرون من أين أتت, وهذا أيضأ يضاف إلى أن سر التحول لا يعرف أحد كيف أتى.
والإشارة الروحية أو السرية واضحة أن آية تحويل القديم إلى جديد، أي ماء التطهير إلى خمر عشاء، صُنعت خارج حدود الناموس. وبالرغم من واقعها المنظور والمحسوس إلا أن لا الرئيس المكلف بضبط حدود الناموس ولا العريس, عريس الناموس, كانا على دراية بها أو بصانعها الذي هو «العريس الحقيقي»، ولكن «الخدام» وهم في الناموس الطبقة المترسبة من المجتمع التي تكتسب لقمتها بعرق جبينها، كانوا يعلمون: «فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين, فقال هؤلاء لهم لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» (يو45:7-46)، والإنجيل اهتم بوضعهم كشهود.
«ومتى سكروا فحينئذ الدون»: الكلام هنا لا يقع على الحاضرين, فلم يسكر أحد بعد، ولكن في حدود المثل الشائع يتكلم هنا رئيس المتكأ. وفي الحقيقة الكلام هنا يرمي إلى أبعاد تغوص في الواقع اليهودي الذي صار حاله كحال «متى سكروا فحينئذ الدون»، وفي هذا يقول إشعياء النبي: «ولكن هؤلاء أيضاً ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر, الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر، ابتلعتهما الخمر، تاها من المسكر، ضلّا في الرؤيا, قلقا في القضاء. فإن جميع الموائد امتلأت قيئاً وقذراً ليس مكان. لمن يعلم معرفة ولمن يفهم تعليماً...» (إش7:28-9). نعم فليس, من واقع الحال, أردأ من هذا خمر ولا من هذا حال.
«أما أنت فقد بقيت الخمر الجيدة إلى الآن»: «الخمر الجيدة»: كلمة «جيدة» هنا التي تُترجم أيضاً في إنجيل يوحنا «حسن» و «صالح». فإذا قرأناها إنجيلياً وبإحساس العهد الجديد وخاصة أعمال المسيح، فهي قريبة ونسيبة لكلمة «الحق». فهي نفس الكلمة المستخدمة في «أنا هو الراعي الصالح»، وهي أيضاً المسخدمة في قوله: «أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عد أبي» (يو32:10). والسؤال هنا: هل يمكن أن نقبل صفة «جيدة» بهذا الوضع والإحساس الإنجيلي على أنها خمر جيدة للمذاق والشرب الجسدي؟ أم أنها خمر لها علاقة جيدة بالكرمة الحقيقية؟ نحن في الواقع نرى أن «الخمر الجيدة» هي المحور الذي تدور حوله الأية، فهي آية تحويل الماء الساذج لغسل الجسد إلى خمر العهد الجديد « الجيدة», أي الروحية، لتفريقها عن الخمر العادية. ولكن بنو العرس صنفان: صنف شرب الخمر الجيدة فانحصرت جودتها عندهم في مذاقها وحسب فأعجبتهم، كما أعجب الذين أكلوا من الخمس خبزات وسعوا وراء المسيح يطلبون المزيد من الخبز البائد؛ أما بنو الملكوت وهم الصنف الذي يرافق العريس الحقيقي, فلما شربوها انفتحت أعينهم وتجلى العريس في أعينهم وقلوبهم وإيمانهم فعرفوه أنه هو المسيح الحمل ابن الله كما رأه المعمدان.
عرس قانا والكنيسة: الكنيسة منذ ما قبل القرن الرابع وهي تعيد للميلاد والغطاس وعرس قانا الجليل عيداً واحداً متصلاً، وأسمته «عيد الظهور الإلهي», باعتبار أن ما تم في الميلاد بظهور الله في الجسد أي « الكلمة صار جسداً», بشهادة الملائكة هو الذي نظره المعمدان والتلاميذ في الاردن حيث استعلن بشهادة الروح القدس والآب من السماء أنه ابن الله، وأنه هو العريس, والمعمدان صديق العريس رأى وفرح, وهو الذي تم في عرس قانا الجليل حينما أظهر المسيح ذاته أنه ابن الله بتحويل ماء التطهير الذي للناموس إلى خمر العهد الجديد الذي يحمل سر الفداء والخلاص, وسر العريس الحقيقي, بشهادة أم المسيح والتلاميذ.
واضح السبب أن هذه هى بداية الآيات التي صنعها يسوع، لأنها آية «استعلان» بالأساس؛ فهي أحد الأعمدة الثلاثة التي تقيم عليها الكنيسة عيد الظهور الإلهي «الإبيفانيا». وهي لا يوجد لها مثيل أو مشابه في معجزات الثلاثة الأناجيل الأخرى.
وقوله هنا: «أظهر مجده فآمن به تلاميذه» هي في التحقيق الأول والعملي لقول القديس يوحنا في المقمة: «ونحن رأينا مجده»، ولهذا فلا ينبغي أن نأخذ هذه القصة بوجهها البسيط مجرد معجزة في عرس ريفي.
فالقصة في عمقها عكس صورة لـ «وليمة المسيا»» وتأخذ ضوءها الإنجيلي من عشاء عرس الخروف في الرؤيا (7:19-9). لم تنحدر القصة في مفرداتها لتعطي لوناً إفخارستياً تتعلق به الكنيسة تتعلق به لتكمل خمس خبزات وليمة المسيا في الجبل: هناك الخبز وهنا الخمر. هكذا استوقفت هذه القصة أفكار قراء الإنجيل من أبائنا الأوائل. وكأنما المسيح ظهر في القصتين كمليصادق يعضد الكنيسة بخبز وخمر إلى أن يأتي الوقت ليكشف عن سرهما فيه.
لا يذكر هنا القديس يوحنا أين كان يعيش المسيح مع أمه وإخوته قبل ذلك، كذلك لم يذكر يوسف خطيب مريم والمحسوب خطأ أنه كان أباه، كذلك لم يذكر أخواته. وهنا لزم التوضيح ليكون القارىء متتبعأ خطوات تنقتل المسيح مع أمه المذكورة هنا.
أولاً: معروف أنه بعد عودة يوسف ومريم والصبي يسوع من مصر، أن يوسف خاف أن يعود إلى اليهودية (مملكة الجنوب وعاصمتها أورشليم، فذهب إلى الجليل: «وإذ أوحي إليه في حلم، انصرف إلى نواحي الجليل وأتى وسكن في مدية يقال لها ناصرة.» (مت22:2-23)
ثانياً: عاش المسيح في طاعة أبيه وأمه. وفي سن الثانية عشرة وضحت عليه الدعوة والرسالة حينما قال لأمه عندها عاتبته على تركه للرفقة وبقائه في الهيكل في أورشليم عند عودتهم من الفصح: «لماذا فعلت بنا هكذا. هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين. فقال لهما لماذا كنتما تطلبانني, ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي, فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما. ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما.» (لو49:2-51)
ثالثاً: لما بلغ سن الثلاثين سنة, وكان قد تربى مع يوسف الذي كانت صنعته النجارة (مت55:3 )، وكان المسيح أيضاً قد تعلم مهنة النجارة، واستلم العمل موضع يوسف فكان هو نجار الناصرة. وهذا واضح في قول أهل الناصرة: «أليس هذا هو النجار ابن مريم» (مر9:1)
سمع المسيح بظهور المعمدان في اليهودية فانحدر من الجليل, وبالذات من الناصرة، إلى يوحنا: «وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الاردن.» (مر9:1)
رابعاً: بعد العماد وشهادة يوحنا انطلق المسيح في رحلته من بيت عبارة حيث كان المعمدان يُعمد إلى الجليل, فبلغها في ثلاثة أيام مع تلاميذه الستة كما شرحنا في الأية يو11:2. ولما بلغ الناصرة وجد الدعوة من أمه لحضور عرس قانا الجليل حيث سبقته إل هناك.
وتقول الآية أنه بعد العرس، انحدر المسيح مع أمه وإخوته وتلاميذه إلى كفرناحوم، ولم يذكر يوسف. وبذلك يُحسب أنه كان قد انتقل. كذلك لم تُذكر أخوات المسيح, وهن من أولاد يوسف بالطبع من زواج سابق حسب التقليد, لأنهن كن على ما يظن قد تزوجن.
وتقول الآية أنهم بقوا في كفرناحوم أياماً ليست كثيرة، مما يتضح أنهم رجعوا إلى الناصرة بعد مدة.
خامساً: ويمدنا القديس مرقس بمعلومة واضحة أن المسيح بعد ذلك انتقل والأسرة ما عدا الأخوات انتقالاً نهائياً إلى كفرناحوم: «وترك الناصرة وأتى وسكن في كفرناحوم التي عند البحر» (مت13:4), ويُعتقد أن السبب واضح وقد أوضحه القديس مرقس أيضاً: «وخرج من هناك وجاء إلى وطنه (الناصرة) وتبعه تلاميذه. ولما كان السبت, ابتدأ يعلم في المجمع، وكثيرون إذ سمعوا بهتوا قائلين: من أين لهذا هذه, وما هذه الحكمة التي أٌعطيت له حتى تجري على يديه قوات مثل هذه (خارج الناصرة)، أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان (من يوسف من زواج سابق) . آوليست أخواته ههنا عندنا (من يوسف من زواج سابق) . فكانوا يعثرون به. فقال لهم يسوع : ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته. ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة, غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم. وتعجب من عدم إيمانهم.» (مر1:6-6)
سادساً: ولو أنه غير معروف كل الأسباب التي جعلته يترك الناصرة ويعيش في كفرناحوم إلا أن أخر جزء من الأية السابقة توحي بأن أهل الناصرة لم يقبلوا الكلمة.
ولكن لم تكن كفرناحوم أفضل من الناصرة، فبالرغم من أنه خدم هناك كثيراً ولكنه كان غير راضى عن سلوك هذه المدينة جداً: «حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّخُ الْمُدُنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ: «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيماً فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا. وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ». (مت:20:11-24)
ويبدو أن ذلك كان في أواخر خدمته هناك. ومن الأمور الجديرة بالإنتباه أن العذراء مريم بعد هذه الأية لا تُذكر في إنجيل يوحنا إلا بعد الصليب.
كذلك من الأمور الجديرة أيضأ بالإنتباه، أن الثلاثة أناجيل الاولى اقتصرت تقريباً على خدمة المسيح في الجليل وجعلت كفرناحوم مركز خدمته، ولكن القديس يوحنا يعرض في إنجيله تقليداً رسولياً غاية في الأهية يسبق تقليد الثلاثة أناجيل وهو خدمة المسيح المركزة في أورشليم وما حواليها قبل خدمة الجليل وبعدها أيضاً. ولو أنه قدم آية عرس قانا الجليل في بدء خدمة المسيح ليوضح أنه ليس خافياً عليه خدمته في الجليل: «وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه» (يو1:7)، إلا أنه ركز معظم تعاليمه العميقة واللاهوتية الخطيرة في أورشليم وداخل الهيكل، وفي محاجاته ليس مح فلاحي الجليل وصياديه ولكن مع الفريسيين والناموسيين، المالكين لناصية المعرفة والتوراة بكل دقة، ومع رؤساء الكهنة داخل رواق سليمان في عقر دارهم. لقد واجه السامريين بالحقيقة التي يعتز بها كل الإعتزاز أن «الخلاص هو من اليهود» (يو22:4)، فإلى اليهود وجه أقوى تعاليمه وأقوى آياته وأقوى حججه، لأنه جاء ليسلم العالم, من فوق رؤوسهم, سر الخلاص، وقد استلمه العالم وهو وديعة الكنيسة الأن. صحيح أن تلاميذه جعلهم من الجليل، ولكن استودعهم سر الملكوت السماوي، سر الله، ملء اللاهوت. لأن عجرفة المتمسكين بالناموس حجزت عنهم الإختيار والتبني.
ولا ننس أن الجليل اسمه «جليل الأمم»، صحيح أنه كان عزيزاً عليه، ولكن كان الجليل يرزح تحت الجهل والأمية؛ والمسيح جاء وخلفيته الأسفار المقدسة بكل ثقلها في المعرفة والحكمة العالية؛ جاء وخلفيته الناموس بأحكامه الجافة والمبتورة ويحتاج إلى قلوب متفتحة لتقبل التعديل: «قيل (لكم في القديم) وأما أنا فأقول لكم»!! (مت21:5 و27 و31 و38 و43) جاء؛ وخلفيته الأعياد اليهودية التي تحتاج إلى تفسير واستعلان للغامض فيها: في عيد المظال لما ملأوا جرة الماء ليكسروها على المذبح تذكاراً للصخرة في البرية، نادى وقال: «إن عطشى أحد فليقبل إلي» (يو37:7)! فلولا هذا العيد ما استلمنا تعليم الماء الحي؛ وفي عيد التجديد لما أوقدوا المنارات الذهبية لتضيء الهيكل وكل أورشليم، وقف ونادى: «أنا هو نور العالم». فلولا هذا العيد ما استلمنا النور الحقيقي. هذا كله كان يحتاج إلى أورشليم والهيكل ومحاجاة العلماء وليس الجليل والناصرة وكفرناحوم؛ وفي عيد الفصح دخل وطرد الذبائح كلها، ليلتفتوا له أنه هو الذبيحة الحقيقية الوحيدة، فلم يلتفتوا. وفي الفصح الأخير ذبحوه فعلاً دون أن يدروا ليستعلن لنا وليصير هو فصحنا.
والعجيب أن الأناجيل الأخرى رأت أن الناصرة وطنه» كجليلي (مت54:3 ومر1:6و4). أما إنجيل يوحنا فقال عن أورشليم أنها «وطنه» (يو44:4) كيهودي بالدرجة الاولى. وهذا عندما كان عائداً من أورشليم عبر الناصرة متجهأ إل الجليل! وهكذا تركزت نظرة الأناجيل الثلاثة على أعمال المسيح بحسب البيئة التي عاشوا فيها حيث عاشروه في بيوتهم وشوارعهم. في الوقت الذي تركزت نظرة إنجيل القديس يوحنا على أعمال المسيح على مستوى يهوديته وإرساليته من الآب، واستعلانه، والنبوات التي تحف به من يمين ومن شمال، ورؤية العالم له، وانتظار الأجيال المتعطشة للاهوت!! ولكن إذا جمعنا الثلاثة أناجيل مع الإنجيل الرابع ظهر لنا أكثر «مسيح العالم كله».
مكان البشارة: ثالثاً في اليهودية: (13:2 – 36:3)
أعمال المسيح الاولى في اليهودية: كان لابد أن يبدأ المسيح خدمته وأعماله في اليهودية، وخاصة أورشليم. فجميع النبوات أرسلت أضواءها في كل العمور وعلى فم جيع الأنبياء وسلطتها عل اليهودية وعلى أورشليم المدينة المقدسة. فإشعياء النبي يؤكد من أين ينثبق العهد وإلى من تُرسل كلمة الله أولاً: «لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب.» (إش3:2(
ويكرر بلا هوادة أن يهوذا وأورشليم هما المحطة الاولى لعمل الخلاص المُعد:
* «الامور التي راها إشعياء بن أموس من جهة يهوذا وأورشليم.» (إش1:2)
* «هوذا السيد رب النجود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن» (إش1:3)
* «الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم.» (إش14:3)
*«ويكون الذى يبقى في صهيون والذي يُترك في أورشليم يُسمى قدوساً, كل من كُتب للحياة في أورشليم.» (إش3:4)
* «إذا غسل السيد قذر بنات صهيون ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وروح الإحراق» (إش4:4)
* «والأن يا سكان أورشليم ورجال يهوذا احكموا بيني وبين كرمي.»(إش3:5)
* «ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب.» (إش20:59)
وهكذا يستمر إشعياء في سفره على مدى 66 أصحاحاً يوضح بالروح أين ينبغي أن يكون العمل وماذا سيكون. وكذلك من بعده جميع الأنبياء:
عاموس 2:1 «الرب يزمجر من صهيون ويعطي صوته من أورشليم».
يوئيل 16:2 «الرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته فترتجف السماء والأرض».
إرميا 30:25 «الرب من العلا يزمجر ومن مسكن قدسه (الهيكل) يطلق صوته».
ولكن أيضاً لا تغيب «الجليل» عن روح النبوة فقد سلطها إشعياء أيضاً على كل المناطق التي خدم فيها الرب:
* «ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي يُكرم الأخير طريق البحر عبر الاردن جليل الأمم الشعب السالك في الظلمة أبصر نورأ عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور.» (إش1:9-2)
لذلك كان من الأمور المتيقنة لدى المنتظرين الفداء لإسرائيل أن يظهر المسيا في أورشليم وفي اليهودية أول ما يظهر. وهو بالفعل ظهر أولاً في اليهودية على نهر الاردن مع السابق الصابغ، واستعلن أنه ابن الله وحمل الله الذي جاء ليرفع خطية العالم, هناك في بيت عبارة عبر الاردن. هذا فوق أنه وُلد في بيت لحم اليهودية حسب النبوات أيضأ.
2- تطهير الهيكل
ويأتى بغتة إلى هيكله (ملاخى 1:3)
ثالثاً: مكان البشارة في اليهودية
هذه الحادثة هي الجزء الثاني من «إنجيل التجديد»، وسنجد فيها المقابلة مستمرة بين القديم والجديد.
القديم: هيكل أورشليم المبني بالحجارة في ست وأربعين سنة.
الجديد: «هيكل جسده» المقام من الموت «وفي ثلاثة أيام أقيمه».
القديم: ذبائح هى حيونات من بقر وغنم وحمام.
الجديد: ذبيحة جسده: «انقضوا هذا الهيكل... أما هو فكان يقول عن هيكل جسده».
القديم: التجارة بالدين _ الصيارف والدراهم.
الجديد: «لا تجعلوا بيت أبي (الكنيسة) بيت تجارة.
الاستعلان: المسيح ابن الله: «بيت أبى».
شرح ملاخي النبي هذه الحادثة في سفره بالروح رابطاً ربطاً محكماً بين مجىء المعمدان (وعماد المسيح)، ثم ظهور الرب في الهيكل بصورة تنطق بها الأناجيل نطقاً على مستوى الواقح الذي تم.
• «هأنذا أرسل ملاكي قيهيء الطريق أمامي, ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به. هوذا يأتي، قال رب الجنود، ومن يحتمل يوم مجيئه ومن يثبت عند ظهوره، لأنه مثل نار الممُحص ومثل أشنان القصار، فيجلس ممحصاً ومنقياً للفضة, فينقي بني لاوي (الكهنة)، ويصفيهم كالذهب والفضة، ليكونوا مقربين للرب تقدمة بالبر، فتكون تقدمة يهوذا وأورشليم مرضية للرب كما في أيام القدم وكما في السنين القديمة.» (ملاخي 1:3-4)
* «هوذا الرجل »الغصن اسمه» (يدعى ناصريأ) ومن مكانه ينبت ويبني هيكل الرب، فهو يبني هيكل الرب وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه ويكون كاهناً على كرسيه...» (زك12:6-13)
فصح اليهود: ليس تبرؤاً من اليهود وليس امتهاناً لفصحهم كتب القديس يوحنا «فصح اليهود» ولكن أولاً لتميزه عن الفصح المسيحي, لأنه يكتب في وقت كان قد استتب فيه التعييد للفصح في الكنيسة. وقد ظل القديس يوحنا هو الوحيد من أساقفة كراسي المسكونة آنئذ الذي يعيده في زمانه المحدد, أي الرابع عشر من شهر نيسان، لأن صوت المعمدان الصارخ أن هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم لم يفارق أذني القديس يوحنا، وكأن الرابع عشر من نيسان خُلق من أجل حمل الله وليس من أجل ذبيحة إسرائيل, وقد انعقد لواء تعيين زمان الفصح في العالم بعدئذ على كرسي الإسكندرية كل سنة بمنشور يوزعه على كراسي العالم.
«فصعد يسوع إلى أورشليم»: لم تكن بطبيعة الحال هذه أول زيارة له لأورشليم، فقد اعتاد دخولها والحياة فيها منذ أن كان صبياً, وكان يظن أن له أقرباء في أورشليم ومنزلاً ينزلون فيه. ولكن هنا هي الزيارة الاولى التي يدخلها كمن يفتقد مدينته وشعبه الخاص، دخلها وهو يحمل على كتفيه الرئاسة ومسئوليتها، لا بقصد القصاص والمحاكمة كما يتهيأ من النصوص، ولكن كمن يريد أن يجمح أولاده في حضه: «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها, كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا.» (مت37:23)
وواضح من النص بعد ذلك أنه أخذ يجول في المدينة ويصنع آيات، إذ في الآية (23) بعد ذلك يقول الكتاب: «ولما كان في أورشليم فى عيد الفصح أمن كثيرون باسمه، إذ رأوا الآيات التي صنع». فهي كانت زيارة تاريخية نبوية ظهر فيها المسيح باعتباره المسيا، رآها الأباء والأنبياء من خلف حُجب الزمان وحيوها، وبفارغ الصبر ترقبها البنون: «لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب» (إش3:2). أما بقية الأية فهي من صميم اختصامنا نحن الأمم: «فيقضي بين الأمم ويُنصف لشعوب كثيرين» (إش4:2). أما البقية الأخيرة من الآية فتخص أولادنا والأتين من بعدنا: «فيطبعون سيوفهم محاريث ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً, ولا يتعلمون الحرب فيما بعد»!!
ويلزمنا هنا أن نقف وقفة قصيرة لكي نوضح أن حادثة تطهير الهيكل ذكرها الإنجيليون الثلاثة في نهاية خدمة المسيح. أما هنا في إنجيل يوحنا فتذكر في بداية خدمته. وهذا الإختلاف ظاهري, بالرغم من أنه دوخ العلماء وقسمهم على بعض بين من يتشيع للتطهير في نهاية الخدمة ومن يتشيع له في بداية الخدمة، وكأنما هناك خلل في الأناجيل. ولكن لو تمعنا الأسباب، لبطل الخلاف. فالأناجيل الثلاثة اكتفت بخدمة المسيح في الجليل، ولم تذكر للمسيح زيارة أورشليم ودخوله الهيكل إلا مرة واحدة التي ذهب إليها وصٌلب فظهر لأول وهلة في الأذهان أن زيارة أورشليم مربوطة بزيارة تطهير الهيكل, مربوطة بصلب الرب، ثم ترسخ في الأذهان صورته في الهيكل كمسيا الدينونة. ولكن يأتي إنجيل القديس يوحنا ويضيف على التقليد الرسولي تقليدا رسولياً آخر يكشف عن خدمة الرب في أورشليم واليهودية قبل خدمة الجليل وبعد خدمة الجليل، ويحدد زيارات الرب لاورشليم والهيكل في زيارته المبكرة الاولى، فظهر للأذهان أن زيارته لاورشليم وتطهيره للهيكل في بداية الخدمة مربوطة باستعلان ذاته وبداية عمل رسالته للتطهير والإصلاح. فظهر بصورة مسيا التطهير, السيد الذي جاء إلى هيكله فجأة.
ولقد أراحت الكنائس التقليدية نفسها وقبلت بالزيارتين, إلا أن الكنيسة الكاثوليكية اقتنعت أخيراً أنها زيارة واحدة ولكن لم تحددها.
«ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً والصيارف جلوساً»:
الهيكل: يلزم للقارىء أن يفرق بين الهيكل، ككل، الذي يأتي في اليوناني باسم ( ) وهو يحتوي على الأروقة, وأولها ناحية الخارج هو رواق الأمم، وله حاجز يمنح الدخول إلى الداخل ومكتوب عليه بكل اللغات تحذير بالموت للمخالف! أما الجزء الداخلي المخصص للعبادة والصلاة فيسمى ناووس ( ). ولكن للأسف يأتي الاسمان في اللغة العربية باسم «الهيكل»، وهذا يهين التعبير اللاهوتي أن جسد المسيح هو الهيكل الحقيقي المخصص للعبادة كما يجيء في الآية (23) بعد ذلك. لأن الهيكل المقدس ( ) الداخلي هو الذي قيل عنه أنه هو الذي يمثل جسد الرب، وبالتال كياننا نحن في المسيح .
وهكذا يلاحظ القارىء أن المسيح في الأية (13) يدخل الهيكل ( ) ويطرد الباعة، وفي الأية (23) يقول انقضوا هذا الهيكل ( ). ولأن الفارق بينهما كبير للذي يتحسس المعاني ويتعمقها، نقدم للقارىء أيضاً المواضع التي أتت فيها كلمة «هيكل» بمعنى «الأروقة» والمواضح التي جاءت فيها كلمة «الهكل» بمعنى «القدس المقدس» ليتذوق الفارق بينهما في مواضعه:
«الهيكل» بمعنى «الاروقه» ( )
«ثم أخذه إبليس وأوقفه على جناح الهيكل». (مت1:4)
«ولكن أقول لكم إن ههنا أعظم من الهيكل». (مت 6:12)
«ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل». (مت1:24)
«وهي أرملة لا تفارق الهيكل» (لو37:2).
«وجداه (يسوع) في الهيكل وسط المعلمين» . (لو46:2)
«وكان يسوع يتمش في الهيكل في رواق سليمان فاحتاط به اليهود». (يو23:10»
«الهبكل» بمعنى »القدّس المقّدس» ( )
«من حلف بالهيكل فليس بشيء ...... الهيكل الذي يقدس الذهب». (مت16:23-17)
«دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح». (مت35:23)
«فطرح الفضة في الهيكل وانصرف وخنق نفسه». (مت5:27)
«وإذا حجاب الهيكل قد انشق» . (ت 51:27)
وبهذا نكون قد وصلنا إلى معنى الهيكل الذي دخله يسوع حيث وجد الذين يبيعون ويشترون الذبائح وذلك في رواق الأمم.
ولأول وهلة يتبادر إلى الذهن: ماذا أزعج المسيح من هذا المنظر؟ واضح أن الرواق رواق الأمم الذين يأتون من مشارق الأرض ومغاربها: «بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب» (إش7:56)، لينظروا هيكل يهوه إله اليهود، وربما ليتعلموا شيئاً عن هذه العبادة المقدسة التي ذاع صيتها في العالم كله. ولكن هذا السوق التجاري المكتظ بالحيوانات وروثها وروائحها لم يجعل للهيكل هيبته ولا مكاناً للداخلين من الأمم؛ علمأ بأن رسالة المسيح هي للأمم بالدرجة الاولى ولكن عبر اليهود. وهذه السوق التجارية الضخمة هي التي سمح بها قيافا رئيس الكهنة الرسمي، ولكن كانت تدار لحساب بيت حنان رئيس الكهنة المخلوع.
«ووجد الذين يبيعون بقراً وغنماً وحماماً والصيارف جلوساً».
هذه هي الذبائح الكبرى والصغرى في الناموس, كل مجموعة على حدة، مع بائعيها المحترفين وهي مخصصة للبيع بالنسبة للغرباء الذين يأتون من خارج البلاد وليست لهم دراية بالأسواق الخارجية. فهذه السوق تضمن لهم ذبائح بلا لوم على أن يدفعوا مزيداً من الثمن. ولكن هذه كلها في عرف الناموس نجاسات لا تقبلها الشريعة ومحرم وجودها في بيت الله.
أما الصيارف فقد أتت في هذه الأية بهذا الاسم لتفيد الصيارف الذين يستبدلون المبالغ الكبيرة بالمبالغ الصغيرة، ولكن في الآية القادمة (15) أتت كلمة «الصيارف» بمدلول يوناني أخر ( ) وهي تفيد الصيارف الذين يستبدلون العملة الأجنبية بعملة الهيكل. لأنه كان ممنوعاً التداول بأي عملة عليها صورة قيصر أو أية إشارة تفيد الألهة الأجنبية وهي عملة جميع البلاد. بالإضافة إلى أن تغيير العملة يكون نظير فرق، كذلك فإنهم يقتطعون من المبالغ «النصف شيكل» وهي ضريبة كل يهودي من خارج البلاد نظير دخوله الهيكل.
«اسمعوا كلام الرب يا قضاة سدوم. أصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة. لماذا لى كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر. حينما تأتون لتظهروا أمامي، من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري؟ ..... البخور هو مكرهة لي, رأس الشهر والسبت ونداء المحفل, لست أطيق الإثم والاعتكاف, رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت علي ثقلاً، مللت حملها, فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع, أيديكم ملأنة دماً, اغتسلوا، تنقوا, اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر, تعلموا فعل الخير, اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة.» (إش 10:1-17)
يُعتبر عمل المسيح هنا أول حركة تطهير يقوم بها. وصدق هنا قول بطرس الرسول الذي نقله عن الأنيباء: «لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله.» (1بط17:4)
وهنا لفتة طقسية وروحية عالية القدر لا نريد أن نفوتها، لأن هذا الوقت الذي فيه دخل المسيح الهيكل للتطهير هو عشية الفصح, بداية رفع الخمير من البيوت، رمز بداية حياة طاهرة جديدة لسنة جديدة، وللتعييد سبعة أيام عيد الفطير. فالمسيح أراد، إنما من روح المناسبة وضرورتها, أن يعيد للأمة طهارتها ونقاوتها، أو بالحري أراد أن يدق ساعة التجديد عالياً لبداية أزمنة تجديد العالم كله.
لم يكن سوطاً بالمعنى الصحيح، وإنما مجموعة من حبال ملفوفة أخذها من أيدي تجار البهائم. لها شكل وليس لها فعل، فهي رمز السلطان وليس لتأديب الأشرار. ويلاحظ أنه كان للمسيح هيئة مخيفة ومرعبة، أليس هو المسيا كما جاء عند صلبه: «فقال لهم إني أنا هو» فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض» (يو6:18)؟! مع أنهم كانوا جنوداً رومانيين قلبهم كقلب أسد، مع خدام رؤساء الكهنة.
ولك، أيها القارىء، أن تتصور مدى الرعب والإنزعاج اللذين حلا بكل أصحاب هذا السوق ومدى إذعانهم لصورة العنف الزائد هنا، وهذا يتضمن أيضاً إحساس الجميع بالخطأ المريع والخطية التي كانوا يقترفونها في حق بيت الله. وكان المنظر والعمل ليس مجرد تطهير وحسب بل إعلان ظهور المسيا لذوي العيون المفتوحة!
والذي يلفت نظر قارىء إنجيل يوحنا هو أنه طرد الغنم والبقر جيعاً، فالمعنى الصارخ أنه قد انقض عهد الذبائح، والهيكل بدون الذبائح لا وجود له بحسب الطقس لأنه فرائض إجبارية على الكهنة وعلى الشعب أيضاً، إذ منصوص في الناموس أن لا تتراءى أمام الله ويدك فارغة! «لا يظهروا أمامي فارغين» (خر15:23)؛ «ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره في عيد الفطير وعيد الأسابيع وعيد المظال ولا يحضروا أمام الرب فارغين» (تث16:16). وبهذا يكون المسيح قد أفرغ الهيكل من مضمونه كهيكل ذبائح وعطايا: «يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل (جبل جرزيم) ولا في أورشليم يسجدون للأب.» (يو21:4).
وواضح من كلام الرب بعد ذلك أنه استعاض عن كل الذبائح وما إليها «بالصلاة»: «بيتي بيت الصلاة يُدعى».
والذي يلفت النظر الترتيب العكسي للذبائح الذي أورده القديس يوحنا هنا، حيث ذكر الغنم قبل البقر «الغنم والبقر ثم الحمام»، وكلمة «جميعاً». هذا الترتيب يسترجع إلى الذهن في الحال المزمور 7:8 «الغنم والبقر جميعاً وطيور السماء». هذا المزمور ماسياني بالدرجة الاولى, فهو مختص بـ «ابن الإنسان» الذي أنقصه قليلاً عن الملائكة (طبعاً بسبب الموت) «وبمجد وبهاء كللته» بسبب القيامة. وهو نفس المزمور الذي تكلم عنه إنجيل متى على لسان المسيح قائلاً: «أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحاً» (مت16:21، م 2:8)، الأمر الذي حدث في نفس الهيكل: «والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون أوصنا لابن داود.» (مت15:21)
كما ينبغي أن نلفت النظر إلى أن هذه السوق التجارية المليئة بالأوزار كان مقرها في رواق الأمم حيث يمكن الدخول لبائعي الحيوانات والمتعهدين بأكلها وشربها، وهم غالبأ من طبقة الفلسطينيين الوطنيين أي الكنعانيين أصلاً الذين أعطى لهم أن يمارسوا الأعمال التي تُحسب أنها نجسة عند اليهود. وهنا تظر نبوة زكريا النبي واضحة: «وفي ذلك اليوم لا يكون بعد كنعاني في بيت رب الجنود.» (زك12:14)
ومعروف أن الكعانيين كانوا تجار غش: «الكنعاني في يده موازين الغش.» ( هو7:12)
وهكذا تكون قد كملت الصورة التي رأها إرميا النبي من وراء الدهور ووصفها وصف رؤية العين: « هل صار هذا البيت الذي دُعي باسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم؟ هأنذا أيضاً قد رأيت يقول الرب.» (إر11:7 ) وهي النبوة التي أخذت بها الأناجيل: مت 13:21 , مر 17:11 , لو46:19، ونقلت النبوة على لسان المسيح. أما في إنجيل يوحنا فقد اقتصر كلام الرب على قوله: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة».
بيت تجارة: يقابلها في اللاتيني negotiations وتعني مكان حركة مقايضات وهكذا صار الهيكل ليس هيكل الله بل احتله أصحاب المهن والمصالح الخاصة وفقد هدوء الصلاة.
وقد قالها المسيح في بكور حياته: «ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو49:2)، حينما مكث في الهيكل مع المعلمين. أما الإشارة إلى أن «بيت أبي بيت الصلاة يدعى»، فهي مأخوذة من إشعياء النبي كواقع الحال على أحسن حال: «أتي بهم إلى جبل قدسي وأفرحهم في بيت صلاتي وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة عل مذبحي لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب.» (إش7:56) وهي طرف النبوة التي جاءت على لسان المسيح في لو46:18.
ولكن لغة المسيح انقلبت عل هؤلاء المخالفين المتشبثين بخُلفهم، فبدل «بيتي» و«بيت أبي» و«بيت الصلاة» قال لهم أخيراً وعلى هذا الهيكل والبيت عينه: «هوذا بيتكم يترك لكم خراباً»!! (مت38:23)
هنا يكون المسيح قد أجرى عملاً نبوياً وماسيانياً بالدرجة الاولى تشهد له كل هذه النبوات التي قيلت، والقصد الأساسي أن يعلن المسيح نفسه لهم أنه هو «السيد الذي تطلبونه» وأنه هو هو «ملاك العهد الجديد الذي يُسرون به». وهنا تجىء كلمة «ملاك» في النبوة بالنسبة للعهد الجديد في توازى مع العهد الأول الذي استلموه بيد ملاك حسب تقليدهم: «أنتم الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه» (أع53:7)، وأيضاً «لأنه إن كانت الكلمة (التوراة) التي تكلم بها ملائكة قد صارت ثابتة وكل تعد ومعصية نال مجازاة عادلة فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلم به.» (عب2:2-3)
ولكن كان نصيب عمله في الهيكل مثل كل آية عملها وكل تعليم، حيث كان يقابله البعض من الخاصة بالفرح والإيمان, ويبنون عليه ما قيل من الأنبياء فيتثبت أكثر، والبعض الآخر يقابله بالصد والمصادرة وطلب المزيد من البرهان. وسوف نرى أنه بسبب هذا العمل الذي عمله المسيح في الهيكل بدأت عمليات التربص بالمسيح لقتله، لأن رؤساء الكهنة رأوا في ذلك خطرا داهما على مجال رزقهم.
هذا هو الايمان، إيمان التلاميذ المقابل لعدم إيمان اليهود. طبعاً تذكر التلاميذ هنا يعود إلى ما بعد القيامة، والذي يؤكد هذا المعنى الأية التي ستجيء بعدها (22). وماذا تذكر التلاميذ؟ تذكروا كلام الأنبياء لما تحققوا أن المسيح هو حقاً الذي تكلم عنه الأنبياء. والاشارة هنا إلى المزمور 9:69، وهو مزمور مليء بالتنبؤات عن آلام المسيح خطوة خطوة, وهو الذي تستخدمه الكنيسة في أسبوع الألام. ومن قراءة المزمور الذي لمع في ذهن التلاميذ بالروح نعلم أنهم رأوا في المسيح ليس من هو صاحب البيت فقط والذي من أجله يحتمل الهوان بل ومن أجل أمانته للبيت, أي للذين يعبدون بالحق, «من أجلك احتملت العار... تعييرات معيريك وقعت على» (مز7:69, 9)، فإنه يعرض نفسه للألام. ولا يخلو هذا المزمور من غمز ولمز إلى عدم نفع الذبائح، فيأتي حبكاً على ما صنعه الرب في هذا اليوم: «أسبح اسم الله بتسبيح وأعظمه بحمد، فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف.» (مز30:69-31), وهذا المزمور مليء حقاً بالإشارات النبوية التي تمت بحروفها، فمنه أخذ المسيح قوله: «لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب» (يو25:15). وجاءت في نفس المزمور: «أكثر من شعر رأسي الذين أبغضوني بلا سبب.» (مز4:69)
كذلك قوله: «أنا عطشان»، «وكان إناء موضوعاً مملوءاً خلاً» (يو28:19-29). وجاءت في المزمور: «وفي عطشي يسقونني خلاً» (مز21:69)، «يبس حلقي» (مز3:69). ولكن كما أن داود صاحب المزمور الذي يئن أنينه النبوي, أنهى المزمور بتسبيح اسم الله وتمجيده «يرى ذلك الودعاء فيفرحون وتحيا قلوبكم يا طالبي الله... تُسبحه السموات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها... » (مز32:69 , 34)، كذلك انتهت آلام المسيح التي احتملها، بسبب غيرته هذه, بتسبيح القيامة.
هي أولاُ محاولة لإظهار أنفسهم أنهم هم أصحاب السلطة ولكن بنوع من الحياء! وثانياً هي نوع من الدفاع عن عدم إيمانهم، لذلك لم يحتج اليهود ولا أصحاب السوق ولا المنتفعون لأن العمل يشهد أنه عمل الله. والخطأ الذي ارتكبوه لا يحتمل الدفاع أو المماحكة. وخزي حنان في ذلك اليوم كان فوق ما يتصور أحد وكل ما يمكن أن يقوله اللص, العظيم في عين نفسه, للعسكري الذي قبض عليه وهو متلبس بالجريمة هو أن يطلب من العسكري أن يثبت شخصيته أن له الحق في القبض عليه. ولكن المسيح ليس في موقع الدفاع ولا استجاب لهم بما كانوا يطلبون. بل أنبأهم، ولكن بأسلوب الأحجية، بالعقاب الحتمي الذي سيقع عليهم نظير عدم قبولهم لدعوته للتطهير، بالإضافة إلى التنكر له وهو صاحب البيت. وبلغة الأنبياء في العهد القديم يقول قائل... فماذا يصنع بهم؟ يأخذ بيته منهم ويهدهه حتى التراب ويقيم لنفسه ما هو أفضل منه ثم يبددهم في أقصى الأرض. ولا يكون هو الذى هدمه عليهم, بل هم الذين هدموه على أنفسهم.
هوذا الرجل الغصن أسمه (يُدعى ناصرياً)
ومن مكانه ينبت ويبنى هيكل الرب وهو يحمل الجلال (زك12:6-13)
«انقضوا هذا الهيكل»: كلمة «ينقض» تجيء في اليونانية ( ) بمعنى «يفك» أو «يحل» وتصلح للهدم أو القتل. المسيح يتكلم عن هيكل جسده، وقد ثبت أن هيكل جسده هو الكنيسة وهي نحن أعضاؤه، والكنيسة, الشعب الجديد, هي التي أخذت موضع الهيكل, الشعب اليهودي الرافض للمسيح, وورثت كل معانيه الروحية وأهمها وأعظمها وأخطرها وجود الله وحلوله فيها.
المسيح هنا يقول لهم مسبقاً ما هم مزمعون أن يعملوه بالفعل، فهو تحصيل حاصل، اقتلوا أو إذا قتلتم جسدي سيان، ففي ثلاثة أيام سأقيمه من الموت ليصير هو هيكل الله الذي يجمع أبناء الله من العالم كله، هذه هي معجزتي. المسيح لم يتكلم قط عن هيكلهم بل عن هيكله، الذي سيحل محل هيكلهم الذي سيزول (سينقض) عندما يقتلونه (ينقضونه).
ولسان حال المسيح يقول: لحظة أن تقتلوني ستقتلون أنفسكم وتهدمون هيكلكم، أما أنا فسأقوم وأقيم بجسدي هيكلي جديداً، وأما أنتم وهيكلكم فستزالون.
المسيح هنا يعطيهم آية بالفعل وهي «في ثلاثة أيام أقيمه» التي وضحها بصيغة أخرى في إنجيل آخر هكذا: «جيل شرير فاسق يلتمس آية فلا يعطى له آية إلا آية يونان النبي.» (مت4:16), فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا سيكون المسيح في باطن الأرض ويقوم بعدها. فما ستهدمونه صأصنع فيه آيتي وأقيمه في ثلاثة أيام، ولكنكم بذلك ستهدمون أنفسكم وهيكلكم ولن تقوموا.
ولم تمر على رؤساء الكهنة والفريسيين هذه الكلمات دون أن يعوا حقيقتها، فهم في النهاية تذكروا كلامه ووضعوا النقط على الحروف، فأدركوا فعلاً أنه قد يقوم في اليوم الثالث: «وفي الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس قائلين يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي إني بعد ثلا ثة أيام أقوم. فأمر بضبط القبر... »» (مت62:27-64)
أمر مستحيل أن يقول المسيح إنه يهدم هيكل أورشليم ليبني غيره في ثلاثة أيام كما قدم اليهود اتهامهم في محاكمة يسوع أمام بيلاطس كعلة من علل طلب صلبه. فهو القائل للسامرية: «أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب.» (يو20:4-21)
فالمسيح ها لا يتحدى اليهود المفتخرين بهيكلهم بل ينذرهم بالخراب الذي سيحيق بهيكلهم بسبب أنهم: أولاً لم يقبلوا عمله كمن يطالب بتطهير الهيكل «بيت أبي» فيتعرفوا عليه، وثانياً بالنتيجة الحتمية في استمرارهم لرفضه وإنكارهم وعدم إيمانهم به الذي سينتهي بخراب هيكلهم: «كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا, هوذا بيتكم يترك لكم خراباً.» (مت37:23-38 وانظر مت2:24).
ويلزمنا توضيح الأمر لاهوتياً، فالهيكل القديم كانت قوته وقداسته وأهميته في حضور الله فيه. والآن وقد تجسد الكلمة وظهر الله في الجسد وحل فيه ملء اللاهوت صار جسد المسيح هو الهيكل بالدرجة الأولى أي الهيكل الحقيقي, ولم يعد للهيكل القديم وجود إلا بصفته الظل الوشيك الإختفاء.
فبتجسد الكلمة, أي بميلاد المسيح، بدأ العد التنازلي لانتهاء عصر الهياكل المبنية باليد، أي هياكل الظل، لأن الهيكل القديم كما أراه الله لموسى كان شبه السمويات وظلها، والآن قد جاء رب السموات ونورها. وبدخول المسيح داخل الهيكل, لتطهيره, كانت الفرصة الوحيدة لليهود, لو كانوا قد قبلوه لأعطى للهيكل القديم معناه الجديد وتقديسه الحقيقي الكامل, أن الله حل في هيكله, فلا بأس أن يبقى, طالما الله فيه ولكن لما رفضوه أصبح تطهيره فاقد القيمة، وخروج المسيح منه إيذاناً بعدم نفعه, والحكم بقتل المسيح كان بمثابة الحكم بهدم الهيكل، لأن الهيكل القديم بميلاد المسيح أصبح يستمد معناه ووجوده من الهيكل الجديد أي جسد المسيح لأن الله حال فيه. لهذا قال المسيح في موضع أخر عن نفسه. «ولكن أقول لكم إن ههنا أعظم من الهيكل.» (مت6:12)
وإذا حللنا نفسية رؤساء اليهود هنا على العموم في طلبهم أية من المسيح حتى يؤمنوا برسالته وسلطانه أنه من الله, لوجدنا أن هذه هي في الحقيقة حال كل نفس لا تريد أن تجازف بمركزها وسلطانها وراحتها؛ فهي تطلب أية ومزيدأ من الأية لتتخطى خوفها وعجزها وقصورها عن المجازفة؛ ولكن الإيمان مجازفة بالدرجة الاولى. لذلك فالإيمان صعب جداُ على الرؤساء والعظماء وذوي العيش الرغد الهانىء.
أما لنا نحن فهذا أيضأ حادث, فالمسيح لا يعطي آية ولا علامة ولا كلمة واحدة لكي تبدأ عملاً إيمانياً, لأن هذا سيحرمك من مجازفة الإيمان التي هي عضده وقوت. أو كيف ولماذا يعطي الله الاكاليل لأصحاب الإيمان.
لقد بُدىء في بناء الهيكل في خريف سنة 20 ق. م. على يد هيرودس الكبير، في السنة الثامنة عشرة من ولايته واكتمل بناؤه سنة 64 ميلادية على يد هيرودس أغريباس الثاني بحسب يوسيفوس المؤرخ اليهودي. أما رقم الستة والأربعون سنة فهي في زمان زيارة المسيح للهيكل. وذلك في ربيح سنة 27 م احتمالاً! واليهود هنا وهم محصورون في أفكارهم التي تدور بين الحرف والرقم لم يستطيعوا أن يدركوا مضمون الآية التي قدمها لهم أن في ثلاثة أيام يقيمه, وليس يبنيه. والعجيب أنهم يكررون نفس لفظة «يقيمه» التي قالها المسيح دون أن يتمنعوا مقصدها. لأن المسيح لم يقصد أن الهيكل من حيث العبادة وسكنى الله يمكن أن يُنقض, وإنما سينفك وينحل ليخرج منه هيكل العبادة الجديدة: الكنيسة، بنوع من التجلي والقيامة. حيث الحرف يصير روحاً والحجارة المنحوتة بالأزميل تصير حجارة حية منحوتة بالروح القدس. وغسل التطهير يصير غسل الميلاد والخلقة الجديدة. ودم الذبائح يصير دم المسيح بروح أزلى.
لم تكن هذه الشهادة وليدة ساعتها ولكن القديس يوحنا في الأية القادمة (22) يوضح أن هذه هي حصيلة القيامة والإستضاءة الروحية التي نالوها بالروح القدس التي انعكست قليلاً قليلاً على جيع حياته وأقواله السابقة له، فتحتقوها على الواقع وعلى النبوات, لأن في هذه الآية وحدها يكمن كل تعاليم المسيح, فهي قلب اللاهوت المسيحي النابض. فجسد المسيح في اللاهوت المسيحي يمتد ليشمل شخصه ككل كما جاء في الأصحاح الأول، والكلمة صار جسداً.
+ والجسد هو ملء الروح القدس وملء اللاهوت وكل كنوز الحكمة والمعرفة.
+ الآب الحال فيّ يعمل الأعمال والأقوال والمشيئة.
+ والجسد هو فصح العالم والذبيحة التي رفعت خطية العالم، فهو حمل الله.
+ وهو خبز الحياة النازل من السماء ليأكل منه الإنسان ولا يموت, ويقوم في اليوم الأخير، فهو المأكل الحق والمشرب الحق.
+ وهو المؤمنون مجتمعين، وهو رأس الكنيسة, والكرمة الحقيقية, والمؤمنون كأغصان مثمرة.
+ وهو أورشليم الجديدة المزينة, وهيكل الله الجديد!!
والبديع في قول القديس يوحنا هنا أنه ينقل لنا صورة حية لذكرياته وما سجلته أذناه وقلبه الذي كان يختزن الكلام والمعرفة التي كانت تنمو على مستوى نفس الدرجات التي سجلها لنا في إنجيله آية وراء آية وأصحاحأ وراء أصحاح, إلى أن أشرق عليها روح القيامة فأخذت الأيات والأصحاحات وضوحها الإلهي وعمقها الروحي ونورها النفاذ وبرهانها الساطع وقوتها للبشارة.
ولكن بقيت بعض أقوال السيح مدة طويلة وهي لا تزال تحت التحقيق أثناء حياة التلاميذ أنفسهم مثل سقوط أورشليم بالحرب التي دارت حولها حسب قول الرب وخراب الهيكل, فهذه تمت سنة 70 م. أي بعد قيامته بحوالي أربعين سنة. بل ولا تزال حتى يومنا هذا بعض أقوال المسيح تمر تحت التنفيذ وتنتظر استعلانها.