نلاحظ أن في الآيتين المتلاحقتين تتكرر نفس الكلمات «لا يهلك كل من يؤمن به», هذا هو التشديد الذي أتت من أجله الآية الثانية، فالتركيز فيهما هو على الإيمان. الكلام موجه لنيقوديموس, ليس العمل بالناموس هو الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية ولا التعليم ولا الآيات بل «الأيمان». والمسيح إذ أعطى مثل ورمز الحية النحاسية، يعطي أبسط صورة للايمان بكلمة وعد الله على يد موسى أن من ينظر إلى الحية النحاسية المرفوعة يُشفى؛ ثم يطبق على ابن الإنسان، ليرتفع بالإيمان من مجرد كلمة وعد إلى استعلان أول وأبسط صورة للفداء: «ابن الإنسان» مرفوعاً عن الأرض بمعنى الموت, ثم يكمل الاستعلان إلى أقصاه أن ابن الإنسان المرفوع عن الأرض هو في حقيقته ابن الله المبذول للموت.
كان منظر الحية النحاسية معلقة على عود مرتفع في وسط إسرائيل منظراً عجيباً وغريباً، ليس على الشعب الموجوع من الحية فقط بل وعلى جميع علماء اليهود والربيين. فهذه الحادثة أو المعجزة لم يستطع الفكر اليهودي أن يلاحقها.
فكم بالحري مثيلتها أن «يرتفع ابن الإنسان» ليكون منظراً للناس (ميتا على خشبة), حتى كل من ينظر ويؤمن، ينجو من الهلاك الأبدي ويأخذ نصيباً في الحياة الأبدية. صحيح أنه منظر معروض للايمان، والإيمان لا يعتمد على المنظور. ولكن ما هو جوهر هذا المظهر؟
ها يتحتم «الإرتفاع» فوق هذا الرمز القديم، ونتجه إلى السماء لكي نكتشف السر والجوهر عند الله:
«لأنه هكذا أحب الله العالم» _ سر محبة الله للعالم:
«لأنه», «لأن»» يأتي بعدها جملة مسببة تفيد رداً على كل ما سبق وأُشكل فهمه. المسيح هنا يعطي العلة والسبب في قوله «ينبغي أن يرتفع ابن الانسان»، «كما رُفعت الحية على العصاة في البرية»، بل ويعطي العلة والسبب في ورود نفس هذه الحادثة قديماً باعتبارها عملاً نبوياً بالتمثيل، فك المسيح رموزه في مفهوم الصليب. ويمتد الجواب أيضاً ليعطي العلة والسبب بل والعنى في قول المعمدان: «هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1) أما العلة والسبب فهي أن «الله أحب العالم»!!!
موسى رفع الحية النحاسية في البرية، لا لكي يُشفى، بالنظر إليها، الشعب الموجوع من عضة الحية فقط، بل لتكون تصويراً نبويا بالغ الدقة والتمثيل للعالم كيف يُشفى بالنظر إلى المسيح المصلوب الذي امتص سم الحية, فأفرغ الحية من سمها وأبطل مفعول السم بجسده القائم من الموت حياً.
المسيح هنا يربط ربطاً غاية في الإختزال والقوة بين حب الله للشعب الذي اقتناه لنفسه وحبه للعالم أجمع بكل أممه بقوله: «كما رفع موسى الحية» هكذا «ينبغي أو يتحتم أن يُرفع ابن الإنسان». والمقارنة بين الحبين، حب الله لإسرائيل وحب الله للعالم، تبدو شاسعة البون جدا. فأي نسبة هذه بين التفريط في قطعة نحاس مطروقة على شبه حية ميتة، وبين التفريط والبذل للموت لابن الإنسان الذي هو في الحقيقة الابن الوحيد لله على الصليب!! أو بين شفاء من عضة حية لمتابعة حياة على الأرض، وبين شفاء من موت الخطية لقبول حياة أبدية!!
فلو عرفنا أن ««حب الله» يخص طبيعته الأزلية، لأدركنا أن الأمور التي جرى عملها في القديم من جهة رفع الحية النحاسية ثم فك رموزها برفع ابن الإنسان على الصليب التي بدأ المسيح هنا يطرحها في وعي الإنسان، قد سبق وتم تجهيرها في المشورة العليا الأزلية!
مركز العالم عند الله: لقد كانت التوراة كلها بكل أسفارها شحيحة غاية الشح من جهة ذكر أو حتى تلميح عن محبة الله للعالم. فالأمم في الأسفار منبوذون, بل ولم يفرق أي قول نبوي بين الأمم والأصنام؛ فوضعهم كان موضعا واحداً دائماً، وامتد هذا التقييم عند اليهود حتى رأوا الأمم «كلاباً» أو في مصافهم. في حين نسمع أن الله سبق «فوعد» إبراهيم أبا الجنس اليهودي عامة أن في نسله (بذرته) تتبارك كل الأمم! من هذا نفهم أن الأمم كانوا ذوي ذكر وحب مكتوم عند الله، وإنما من وراء اليهود الشعب المختار.
ثم إذ نخطو خطوة أخرى, نرى من ثنايا هذا الوعد أن الشعب اليهودي إنما اختير ليكون خميرة جيدة يلقي فيها الله ببذرة الإيمان والتقوى والعبادة والإخلاص لله ، مع محبة خاصة حتى تتخمر الخميرة بفضائل معرفة يهوه وحبه, ثم يعود ويوزعها على كل الأرض لتخمر العجين كله. أو بصورة أوضح أن الله اختار وأحب شعب إسرائيل في إبراهيم من أجل بركة العالم كله!
فلما بدأت تفسد الخميرة, إلا الجزء اليسير منها, فتح الله الباب للأمم لترث ميراث الله في قطعة الخميرة النموذجية التي نجحت وصلحت. وحنئذ صار من العدل وقف كل الصلات الممتازة والعطايا السخية والعناية الفائقة المحصورة في شعب إسرائيل؛ ليتسر نقلها إل الأمم بصورة أعم وأشمل، وعلى مستوى العلن والروح لا الجسد. هذا أوضحه الإنجيل من فم الرب عند قوله «وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تكتمل أزمنة الأمم» (لو24:21). ثم أوضحها بولس الرسول بالروح: «فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم, وهكذا سيخلص جميع إسرائيل... من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم وأما من جهة الإختيار فهم أحباء من أجل الآباء، لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة.» (رو25:11-29)
كل هذا يوضح أن الله كان يحب العالم، ولكنه لم يستطيع أن يمارس حبه في عالم كان يعبد المخلوق دون الخالق. ولكن لما نضجت الشعب وبدأت تقرع باب الله انفتحت أحشاء رحمة الله وانكشف سره المخفي الذي كان محجوزاً عن أعين الشعب المدلل.
إبراهيم وابنه الوحيد المحبوب المقدم ذبيحة؛ وسر بركة الأمم: وإذا عدنإ إلى قصة إبراهيم وكيف قددم أبنه «الوحيد اسحق الذي يحبه» بنية تقدمته ذبيحة طاعة لصوت الله، نرى الصورة الأصلية لحب الله نحو العالم المدخر في قلب الله منذ الدهور الذي «كان كائناً قبل أن يكون إبراهيم».
فقبل أن يطلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، وعده على أساس تقواه أن يكون أباً لأمم كثيرة: «أما أنا فهوذا عهدي معك وتكون أباً لجمهور من الأمم, وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمماً, وملوك منك يخرجون» (تك4:17-6). وبعد أن أطاع إبراهيم ودخل التجربة ونجح وقدم ابنه فعلاً وفي يده السكين، أن ناداه الله: «وقال بذاتي أقسمت يقول الرب أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة واكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطىء البحر ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض, من أجل أنك سمعت لقولى.» (تك16:22-18)
واضح إذن أن الله أحب العالم في إبراهيم قبل أن يكون شعب إسرائيل. ولكن لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه وحيده الذي يحبه إسحق ذبيحة؟؟
لقد كان في هذه القصة أول وأعظم نموذج أو آية نبوية أو رمز فيه إفصاح عن نية الله في خلاص العالم بتقديم ابنه وحيده الذي يحبه على الصليب. ففي هذه القصة تذكرة دائمة، لليهود خاصة، لكي يدركوا نيته من نحو العالم, قبل أن يوجد اليهود، حتى إذا جاء دور التنفيذ يكونون عل بينة، وقدمها أيضاً للعالم عامة ولكل الأمم مسجلة في الأسفار بغاية الوضوح، لكي يطلعوا على نية الله منذ القديم من جهة نصيبهم المعد المذخر لهم في مخازن مراحم الله، حتى إذا جاء الميعاد لا يقولون لماذا كنت قد نسيتنا هذا الدهر كله!
ولكن لمن قدم إبراهيم ذبيحته، ومن أجل من كان هذا كله؟
واضح أن الله وضع هذا النموذج العالى السرية لينفذه إبراهيم في ابنه وحيده إسحق أبي الشعب الإسرائيلي كله من أجل الأمم!!! لأن أجر إبراهيم عن هذه الطاعة العظمى لم يأخذه إبراهيم لنفعه، فهو لم ير الأمم ولا درى ببركاتها، بل أخنذه العالم بسببه أو عوضا عنه!! وقد نفذه إبراهيم بالنية أعظم وأكمل تنفيذ، فأكمل التاريخ صورة هذا التدبير الإلهي بأن صار شعب إسرائيل ضحية لتدخل الأمم مجال حب الله عوضاً عنهم. ولكن بقى الفعل أو التنفيذ الفعلي، هذه الدهور السالفة كلها، ليلقى أخيراً على ابن الله الوحيد لكشف سمو هذا الحب:
«حتى بذل ابنه الوحيد»:
يلاحظ في الأية السابقة أن الذي «رُفع» هو ابن الإنسان, وهنا في هذه الآية الذي «بذل» في مضمون الإرسال هو «الابن» وهكذا يتدرج المسيح من «ررفع الحية» إلى «رفع ابن الإنسان» إلى إرسالية «الابن الوحيد»، تدرجاً من أسفل إلى أعلى.
هنا أول استعلان عن «أبوة الله» في إنجيل القديس يوحنا بعد المقدمة. ويلاحظ القارىء أن التركيز هنا على «الله كأب» بالرغم من أن البذل واضح على الابن كما حدث في إبراهيم وابنه إسحق!! فعملية الخلاص تبدأ من الله وليس المسيح، والجهد الشعوري وأثار «البذل» بل والتضحية الإلهية واقعة على الآب أكثر مما هي واقعة على الابن: «الذي لم يشفق عل ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء!» (رو32:8). وإن كان الآب لم يشفق على ابنه، فهو في الحقيقة وعين الأمر لم يشفق على نفسه؟ فالابن قائم في الآب قياماً كلياً لا يمكن أن يحدث له شي ء بدون شركة الآب. إن طاعة إسحق لأبيه لما حمل «الحطب على ظهره» (الصليب) وتمدده على المذبح الذي بناه إبراهيم أعطيا لإبراهيم أبيه الكرامة المضاعفة في عين الله، مع أن الضحية كانت في إسحق، إلا أن قوة الذبيحة وطاعتها تركزت بصفة أسامية لحساب إبراهيم الأب!! بل إن قوة الذبيحة التي قدمها «إبراهيم» بالنية كأب هي التي عادت بالبركة على كل شعوب الأرض! هكذا فكل الذي صنعه المسيح وصُنع في المسيح هو لحساب الآب.
من هنا نفهم لماذا ألح المسيح في إنجيل القديس يوحنا أن يعطي كل الكرامة وكل المجد مع كل المشيئة وكحل العمل, وكل القول, للآب بل وحتى الكأس: «الكأس التي أعطانيها الآب ألا أشربها» (يو11:18)، وكأنها كأس الأب!
لذلك من اللائق جداً أن ننتبه إلى أن الخلاص كله الذي أكمله المسيح في هذا البذل الذي تحمله الابن هو بالأساس «عملية حب قائمة في قلب الله ومنتهية إليه»، ولكي نقيم هذا الحب الابوي لله من نحو العالم يكفي أن نقيس مقدار البذل ونوعه, فهو ليس مسألة فكر أو مجرد مشيئة أو تنازل من جهة الله في تحمل أي تضحية من جهة الكرامة, بل إن البذل عملية مست طبيعة الله وجرحت مشاعر الابوة الإلهية في عمق ذات الله كأب يبذل ابنه للعبودية والمذلة والموت!! إذ تغرب ابن الله الوحيد, القائم في حضن الآب، على الأرض في الجسد الذي قبل فيه المهانة والاحتقار والظلم والأضطهاد والبغضة الملاحقة للقتل حتى الذبح على الصليب, والآب تحمل عمق الفعل ونتائجه. وهذا واضح من قول المسيح: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو4:17). هذا هو قياس درجة حب الله من نحو العالم. وليس بين درجة حب الله من نحو العالم ودرجة البذل التي عاناها الله في ابنه أي مبالغة بل هي موازية في الحجم والقدر، فالبذل مساو لدرجة الحب تماماً.
فالحب تساوى مع البذل, والبذل جاء متساوياً مع الحب. وهذا الارتفاع الصارخ والباهظ في الثمن المدفوع جاء مساوياً للنتيجة المطلوبة وهي خلاص العالم وفداء وتبني الإنسان!!
وهنا يتبلور السر الخطير وينطق نطقاً أن الفداء بالابن الوحيد، أنشأ, ولابد أن يُنشىء, بنوة فريدة للانسان!
فالله كان لا يمكن أن يفرط في ابنه ولا يشفق عليه، إلا إذا كان الثممن والهدف مساويين تماماً للبذل! فبنوة الإنسان لله التي آلت للانسان بموت الابن الوحيد كريمة وكريمة جداً في عين الله الآب.
وبالنهاية نجد أن محبة الله للعالم تعادلت مع بذل الابن الوحيد على الصليب تمام التعادل، وبذل الابن الوحيد على الصليب تعادل تماماً مع منح الانسان درجة البنوة لله حباً وصلحاً وسلاماً ومسرة.
إذن، كم بالحري ينبغي أن تكون هذه الهبة، هبة التبني, كريمة وعزيزة وفائقة القدر عندنا؟
«لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»: هنا يضع المسيح قوة «حب» الله الآب الذي أنشأ قوة «بذل» عالية القدر والقيمة أشترك فيها الآب والابن معاً, لتساوي في فعلها «رفع الهلاك» عن الإنسان.
أما بالنسبة لقياس حالة الهلاك التي يرزح تحتها كل إنسان في العالم فذلك يمكن قياسه؛ فمن جهة الإنسان نجد الخطية قد ملكت على الإنسان غرائزه وسلوكه، فأفقدته الحركة نحو الحق والبر والتعفف، وورثته العجز في الرؤية، فغاب الله القدوس وارتضى الإنسان بالموت كنهاية لشقائه على الأرض.
أما من طرف الله فقد وقفت الخطية من الإنسان موقفاً معادياً من الله، فصارت كحجاب عازل ليس فقط يحرم الإنسان من الاتصال المباشر بالله، بل ومنعت الله من أن يسكب حبه على الإنسان الذي خلقه على صورته ليعيش معه ويتمتع بالحياة الأبدية خلوا من حزن أو كأبة أو تنهد في نوره العجيب.
فكان لابد أن تُرفع الخطية من الوسط بكل أثارها المخربة والمهلكة من جهة الإنسان وفي نظر الله معا، لكي يسكب الله حبه من جديد.
أما من جهة الانسان. فتحتم أن يولد من جديد، يولد ثانية من الله كما جبله الله يوم جبله في المرة الاولى, إنما هذه المرة ليس بمجرد نفخة بل باتحاده بروح الله, خلقة جديدة بكل مواهبها السماوية.
أما من جهة الله. فبأن تنفتح أحضان مراحم الله الأبدية بلا مانع ليصنع بابنه خلاصاً أبدياً وليسكب محبته، كل محبته الأبوية في قلب الإنسان ومعها الحياة الأبدية بعمل روح الله القدوس.
وبالنهاية نرى في هذا الفصل عوامل الأساس الراسخ الذي أرساه الله لتكميل خلاص العالم:
العامل الأول فيها، وهو الأمر الذي قضى به الله قضاءً، وانتهى ولن يتراجع عنه، ولا يمكن التراجع عنه، هو أنه أعلن عن حبه عملياً: «هكذا أحب الله العالم» بتقديم حياة ابنه على الصليب من أجل كل إنسان.
العامل الثاني: إرسال روحه القدوس «الريح تهب حيث تشاء» كوعد ثابت من جهة الله لا يفارق الإنسان، بل يسقيه الروح والمحبة والحياة، والامتداد بوعي الإنسان لفحص أعماق الله والإغتذاء من نعمته. وقد أكمل الله وعده هذا بعد أن أكمل الابن الوحيد أساسيات الخلاص والفداء.
والعامل الثالث لتكميل هذا الخلاص ولإطلاق هذه المحبة لتعمل عملها بلا مانع في طبيعة الإنسان لتخلقها من جديد، لزم إيمان الإنسان «كل من يؤمن به...» . ولكن الإيمان المطلوب ليس بالفكر ولا بالجهد والقياس، ولكن «الإيمان بحب الله وتصديق وعده» الذي هو مستعد هلى مستوى القسم الذي أقسم به لإبراهيم، بأن يستقبل الخاطىء يوم يعود إليه ربما هكذا: «بذاتي أقسمت يقول الرب, «بذل ابنه», لأنك أمنت بابني الذي بذلته عل الصليب من أجلك فإني أباركك بركة... وأجعلك فيه ابناً لى لأجل أنك صدقت حبي» في هذا يقول حزقيال النبي: «حي أنا يقول السيد الرب, إني لا اسر بموت الشرير, بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا» (حز11:33). وهكذا ليس على الله عمل أكثر من المحبة التي تحققت بموت ابنه عن كل خطاة الأرض، كما ليس على الإنسان عمل أقل من الإيمان بهذا الحب وهذا البذل ليقبل الحياة ويحيا.
المفردات اللغوية للآية:
«أحب»: أقوى صياغة باللغة اليونانية للتعبير عن المحبة، وقد جاءت المحبة هنا مُشددة بأكثر من معناها حيث أضاف إليها «هكذا» أو «بهذا القدر أحب الله» . وللعلم، فإن القديس يوحنا استخدم «أحب» «أغابي» في إنجيله 36 مرة، وهذا يكشف عن ضررتها الملحة في التعبير عن لاهوت القديس يوحنا أو بالحري علاقة الله بالناس. وهذا واضح غاية الوضوح في أنه جعل «المحبة» توازي في فعلها التجسد والموت معاً. «هكذا أحب... حتى بذل...» ولكن هذا الحب بهذا القدر والتكثيف والفعل الممتد, سواء في التجسد بكل أصالته وجماله, أو في الموت بكل هيبته وجلاله، لا يدرك قوته حقاُ أو يستعلن عمقه وطوله وعرضه وارتفاعه إلا في الذي يؤمن بالابن، فينال هذا العطاء بكل سخائه و يعيش هذه الحقيقة الالهية، وحينئذ يتحقق فعلاً أن الله محبة.
«بذل»: في الحقيقة الترجمة العربية هنا غنية، فقد جاءت بالمعنى ووفت حق امتداده ليشمل «الارسال» إلى العالم بالتجسد، كما يشمل تقدمته مبذولآ على الصليب.
ومما يحقق لنا هذا المعنى المتسع للكلمة، كيف استخدمها بولس الرسول لتوفي نفس المعنى هكذا: «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضأ معه كل شيء» (رو32:8)
«ابنه الوحيد»: «ابنه الوحيد» جاءت هنا لتزيد من معنى فداحة البذل وقوة الحب معاً. ولا تخلو هذه الكلمة «أبنه الوحيد» من تلميح غاية في الرقة والحساسية إلى المساوي الأقل والضعيف, ومع الفارق, عند إبراهيم بالنسبة لإسحق!
«كي لا يهلك»: هذه الكلمة تعتبر من خصائص اللغة عند القديس يوحنا، وهي إما تأتي غير متعدية (بمعنى يهلك) أو متعدية على مفعول به (بمعنى يُهلك)، وقد تكون في هذه الحالة المفعول به هو نفس الفاعل بمعنى أن الإنسان (يهلك ذاته)، وحيما تأتي غير متمدية قد يكون المعنى الضياع أو الفقدان «اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء» (يو12:6)، أو قد يكون المعنى «الهلاك» كما جاءت هنا: «لكي لا يهلك» (يو16:3)، أو قد يكون المعنى «الزوال والإبادة»: «اعملوا لا للطعام البائد, بل للطعام الباقي للحياة الأبدية» (يو27:6)
وواضح أن الهلاك أو الفناء أو الإبادة هي نصيب الشيء أو الشخص الذي ينفصل عن الله ويبقى متمركزا في نفسه.
«الحياة الأبدية»: في غير إنجيل القديس يوحنا تعني حياة الدهر الآتي بحسب مفهومها اليهودي الرباني التقليدي، ولكن عند القديس يوحنا تميل أكثر إلى معنى الحياة التي بلا نهاية أو الحياة مع الله «كعطية حاضرة» الآن من الله، وهي تقابل ملكوت الله في الأناجيل الأخرى. وملكوت الله أيضاً عند القديس يوحنا، ولو أنها عطية الدهر الآتي, ولكن المسيح بدأها الأن وصارت حقيقة مُعاشة في المسيح.
نلاحظ أن في الآيتين المتلاحقتين تتكرر نفس الكلمات «لا يهلك كل من يؤمن به», هذا هو التشديد الذي أتت من أجله الآية الثانية، فالتركيز فيهما هو على الإيمان. الكلام موجه لنيقوديموس, ليس العمل بالناموس هو الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية ولا التعليم ولا الآيات بل «الأيمان». والمسيح إذ أعطى مثل ورمز الحية النحاسية، يعطي أبسط صورة للايمان بكلمة وعد الله على يد موسى أن من ينظر إلى الحية النحاسية المرفوعة يُشفى؛ ثم يطبق على ابن الإنسان، ليرتفع بالإيمان من مجرد كلمة وعد إلى استعلان أول وأبسط صورة للفداء: «ابن الإنسان» مرفوعاً عن الأرض بمعنى الموت, ثم يكمل الاستعلان إلى أقصاه أن ابن الإنسان المرفوع عن الأرض هو في حقيقته ابن الله المبذول للموت.
كان منظر الحية النحاسية معلقة على عود مرتفع في وسط إسرائيل منظراً عجيباً وغريباً، ليس على الشعب الموجوع من الحية فقط بل وعلى جميع علماء اليهود والربيين. فهذه الحادثة أو المعجزة لم يستطع الفكر اليهودي أن يلاحقها.
فكم بالحري مثيلتها أن «يرتفع ابن الإنسان» ليكون منظراً للناس (ميتا على خشبة), حتى كل من ينظر ويؤمن، ينجو من الهلاك الأبدي ويأخذ نصيباً في الحياة الأبدية. صحيح أنه منظر معروض للايمان، والإيمان لا يعتمد على المنظور. ولكن ما هو جوهر هذا المظهر؟
ها يتحتم «الإرتفاع» فوق هذا الرمز القديم، ونتجه إلى السماء لكي نكتشف السر والجوهر عند الله:
«لأنه هكذا أحب الله العالم» _ سر محبة الله للعالم:
«لأنه», «لأن»» يأتي بعدها جملة مسببة تفيد رداً على كل ما سبق وأُشكل فهمه. المسيح هنا يعطي العلة والسبب في قوله «ينبغي أن يرتفع ابن الانسان»، «كما رُفعت الحية على العصاة في البرية»، بل ويعطي العلة والسبب في ورود نفس هذه الحادثة قديماً باعتبارها عملاً نبوياً بالتمثيل، فك المسيح رموزه في مفهوم الصليب. ويمتد الجواب أيضاً ليعطي العلة والسبب بل والعنى في قول المعمدان: «هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1) أما العلة والسبب فهي أن «الله أحب العالم»!!!
موسى رفع الحية النحاسية في البرية، لا لكي يُشفى، بالنظر إليها، الشعب الموجوع من عضة الحية فقط، بل لتكون تصويراً نبويا بالغ الدقة والتمثيل للعالم كيف يُشفى بالنظر إلى المسيح المصلوب الذي امتص سم الحية, فأفرغ الحية من سمها وأبطل مفعول السم بجسده القائم من الموت حياً.
المسيح هنا يربط ربطاً غاية في الإختزال والقوة بين حب الله للشعب الذي اقتناه لنفسه وحبه للعالم أجمع بكل أممه بقوله: «كما رفع موسى الحية» هكذا «ينبغي أو يتحتم أن يُرفع ابن الإنسان». والمقارنة بين الحبين، حب الله لإسرائيل وحب الله للعالم، تبدو شاسعة البون جدا. فأي نسبة هذه بين التفريط في قطعة نحاس مطروقة على شبه حية ميتة، وبين التفريط والبذل للموت لابن الإنسان الذي هو في الحقيقة الابن الوحيد لله على الصليب!! أو بين شفاء من عضة حية لمتابعة حياة على الأرض، وبين شفاء من موت الخطية لقبول حياة أبدية!!
فلو عرفنا أن ««حب الله» يخص طبيعته الأزلية، لأدركنا أن الأمور التي جرى عملها في القديم من جهة رفع الحية النحاسية ثم فك رموزها برفع ابن الإنسان على الصليب التي بدأ المسيح هنا يطرحها في وعي الإنسان، قد سبق وتم تجهيرها في المشورة العليا الأزلية!
مركز العالم عند الله: لقد كانت التوراة كلها بكل أسفارها شحيحة غاية الشح من جهة ذكر أو حتى تلميح عن محبة الله للعالم. فالأمم في الأسفار منبوذون, بل ولم يفرق أي قول نبوي بين الأمم والأصنام؛ فوضعهم كان موضعا واحداً دائماً، وامتد هذا التقييم عند اليهود حتى رأوا الأمم «كلاباً» أو في مصافهم. في حين نسمع أن الله سبق «فوعد» إبراهيم أبا الجنس اليهودي عامة أن في نسله (بذرته) تتبارك كل الأمم! من هذا نفهم أن الأمم كانوا ذوي ذكر وحب مكتوم عند الله، وإنما من وراء اليهود الشعب المختار.
ثم إذ نخطو خطوة أخرى, نرى من ثنايا هذا الوعد أن الشعب اليهودي إنما اختير ليكون خميرة جيدة يلقي فيها الله ببذرة الإيمان والتقوى والعبادة والإخلاص لله ، مع محبة خاصة حتى تتخمر الخميرة بفضائل معرفة يهوه وحبه, ثم يعود ويوزعها على كل الأرض لتخمر العجين كله. أو بصورة أوضح أن الله اختار وأحب شعب إسرائيل في إبراهيم من أجل بركة العالم كله!
فلما بدأت تفسد الخميرة, إلا الجزء اليسير منها, فتح الله الباب للأمم لترث ميراث الله في قطعة الخميرة النموذجية التي نجحت وصلحت. وحنئذ صار من العدل وقف كل الصلات الممتازة والعطايا السخية والعناية الفائقة المحصورة في شعب إسرائيل؛ ليتسر نقلها إل الأمم بصورة أعم وأشمل، وعلى مستوى العلن والروح لا الجسد. هذا أوضحه الإنجيل من فم الرب عند قوله «وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تكتمل أزمنة الأمم» (لو24:21). ثم أوضحها بولس الرسول بالروح: «فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم, وهكذا سيخلص جميع إسرائيل... من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم وأما من جهة الإختيار فهم أحباء من أجل الآباء، لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة.» (رو25:11-29)
كل هذا يوضح أن الله كان يحب العالم، ولكنه لم يستطيع أن يمارس حبه في عالم كان يعبد المخلوق دون الخالق. ولكن لما نضجت الشعب وبدأت تقرع باب الله انفتحت أحشاء رحمة الله وانكشف سره المخفي الذي كان محجوزاً عن أعين الشعب المدلل.
إبراهيم وابنه الوحيد المحبوب المقدم ذبيحة؛ وسر بركة الأمم: وإذا عدنإ إلى قصة إبراهيم وكيف قددم أبنه «الوحيد اسحق الذي يحبه» بنية تقدمته ذبيحة طاعة لصوت الله، نرى الصورة الأصلية لحب الله نحو العالم المدخر في قلب الله منذ الدهور الذي «كان كائناً قبل أن يكون إبراهيم».
فقبل أن يطلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، وعده على أساس تقواه أن يكون أباً لأمم كثيرة: «أما أنا فهوذا عهدي معك وتكون أباً لجمهور من الأمم, وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمماً, وملوك منك يخرجون» (تك4:17-6). وبعد أن أطاع إبراهيم ودخل التجربة ونجح وقدم ابنه فعلاً وفي يده السكين، أن ناداه الله: «وقال بذاتي أقسمت يقول الرب أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة واكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطىء البحر ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض, من أجل أنك سمعت لقولى.» (تك16:22-18)
واضح إذن أن الله أحب العالم في إبراهيم قبل أن يكون شعب إسرائيل. ولكن لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه وحيده الذي يحبه إسحق ذبيحة؟؟
لقد كان في هذه القصة أول وأعظم نموذج أو آية نبوية أو رمز فيه إفصاح عن نية الله في خلاص العالم بتقديم ابنه وحيده الذي يحبه على الصليب. ففي هذه القصة تذكرة دائمة، لليهود خاصة، لكي يدركوا نيته من نحو العالم, قبل أن يوجد اليهود، حتى إذا جاء دور التنفيذ يكونون عل بينة، وقدمها أيضاً للعالم عامة ولكل الأمم مسجلة في الأسفار بغاية الوضوح، لكي يطلعوا على نية الله منذ القديم من جهة نصيبهم المعد المذخر لهم في مخازن مراحم الله، حتى إذا جاء الميعاد لا يقولون لماذا كنت قد نسيتنا هذا الدهر كله!
ولكن لمن قدم إبراهيم ذبيحته، ومن أجل من كان هذا كله؟
واضح أن الله وضع هذا النموذج العالى السرية لينفذه إبراهيم في ابنه وحيده إسحق أبي الشعب الإسرائيلي كله من أجل الأمم!!! لأن أجر إبراهيم عن هذه الطاعة العظمى لم يأخذه إبراهيم لنفعه، فهو لم ير الأمم ولا درى ببركاتها، بل أخنذه العالم بسببه أو عوضا عنه!! وقد نفذه إبراهيم بالنية أعظم وأكمل تنفيذ، فأكمل التاريخ صورة هذا التدبير الإلهي بأن صار شعب إسرائيل ضحية لتدخل الأمم مجال حب الله عوضاً عنهم. ولكن بقى الفعل أو التنفيذ الفعلي، هذه الدهور السالفة كلها، ليلقى أخيراً على ابن الله الوحيد لكشف سمو هذا الحب:
«حتى بذل ابنه الوحيد»:
يلاحظ في الأية السابقة أن الذي «رُفع» هو ابن الإنسان, وهنا في هذه الآية الذي «بذل» في مضمون الإرسال هو «الابن» وهكذا يتدرج المسيح من «ررفع الحية» إلى «رفع ابن الإنسان» إلى إرسالية «الابن الوحيد»، تدرجاً من أسفل إلى أعلى.
هنا أول استعلان عن «أبوة الله» في إنجيل القديس يوحنا بعد المقدمة. ويلاحظ القارىء أن التركيز هنا على «الله كأب» بالرغم من أن البذل واضح على الابن كما حدث في إبراهيم وابنه إسحق!! فعملية الخلاص تبدأ من الله وليس المسيح، والجهد الشعوري وأثار «البذل» بل والتضحية الإلهية واقعة على الآب أكثر مما هي واقعة على الابن: «الذي لم يشفق عل ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء!» (رو32:8). وإن كان الآب لم يشفق على ابنه، فهو في الحقيقة وعين الأمر لم يشفق على نفسه؟ فالابن قائم في الآب قياماً كلياً لا يمكن أن يحدث له شي ء بدون شركة الآب. إن طاعة إسحق لأبيه لما حمل «الحطب على ظهره» (الصليب) وتمدده على المذبح الذي بناه إبراهيم أعطيا لإبراهيم أبيه الكرامة المضاعفة في عين الله، مع أن الضحية كانت في إسحق، إلا أن قوة الذبيحة وطاعتها تركزت بصفة أسامية لحساب إبراهيم الأب!! بل إن قوة الذبيحة التي قدمها «إبراهيم» بالنية كأب هي التي عادت بالبركة على كل شعوب الأرض! هكذا فكل الذي صنعه المسيح وصُنع في المسيح هو لحساب الآب.
من هنا نفهم لماذا ألح المسيح في إنجيل القديس يوحنا أن يعطي كل الكرامة وكل المجد مع كل المشيئة وكحل العمل, وكل القول, للآب بل وحتى الكأس: «الكأس التي أعطانيها الآب ألا أشربها» (يو11:18)، وكأنها كأس الأب!
لذلك من اللائق جداً أن ننتبه إلى أن الخلاص كله الذي أكمله المسيح في هذا البذل الذي تحمله الابن هو بالأساس «عملية حب قائمة في قلب الله ومنتهية إليه»، ولكي نقيم هذا الحب الابوي لله من نحو العالم يكفي أن نقيس مقدار البذل ونوعه, فهو ليس مسألة فكر أو مجرد مشيئة أو تنازل من جهة الله في تحمل أي تضحية من جهة الكرامة, بل إن البذل عملية مست طبيعة الله وجرحت مشاعر الابوة الإلهية في عمق ذات الله كأب يبذل ابنه للعبودية والمذلة والموت!! إذ تغرب ابن الله الوحيد, القائم في حضن الآب، على الأرض في الجسد الذي قبل فيه المهانة والاحتقار والظلم والأضطهاد والبغضة الملاحقة للقتل حتى الذبح على الصليب, والآب تحمل عمق الفعل ونتائجه. وهذا واضح من قول المسيح: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو4:17). هذا هو قياس درجة حب الله من نحو العالم. وليس بين درجة حب الله من نحو العالم ودرجة البذل التي عاناها الله في ابنه أي مبالغة بل هي موازية في الحجم والقدر، فالبذل مساو لدرجة الحب تماماً.
فالحب تساوى مع البذل, والبذل جاء متساوياً مع الحب. وهذا الارتفاع الصارخ والباهظ في الثمن المدفوع جاء مساوياً للنتيجة المطلوبة وهي خلاص العالم وفداء وتبني الإنسان!!
وهنا يتبلور السر الخطير وينطق نطقاً أن الفداء بالابن الوحيد، أنشأ, ولابد أن يُنشىء, بنوة فريدة للانسان!
فالله كان لا يمكن أن يفرط في ابنه ولا يشفق عليه، إلا إذا كان الثممن والهدف مساويين تماماً للبذل! فبنوة الإنسان لله التي آلت للانسان بموت الابن الوحيد كريمة وكريمة جداً في عين الله الآب.
وبالنهاية نجد أن محبة الله للعالم تعادلت مع بذل الابن الوحيد على الصليب تمام التعادل، وبذل الابن الوحيد على الصليب تعادل تماماً مع منح الانسان درجة البنوة لله حباً وصلحاً وسلاماً ومسرة.
إذن، كم بالحري ينبغي أن تكون هذه الهبة، هبة التبني, كريمة وعزيزة وفائقة القدر عندنا؟
«لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»: هنا يضع المسيح قوة «حب» الله الآب الذي أنشأ قوة «بذل» عالية القدر والقيمة أشترك فيها الآب والابن معاً, لتساوي في فعلها «رفع الهلاك» عن الإنسان.
أما بالنسبة لقياس حالة الهلاك التي يرزح تحتها كل إنسان في العالم فذلك يمكن قياسه؛ فمن جهة الإنسان نجد الخطية قد ملكت على الإنسان غرائزه وسلوكه، فأفقدته الحركة نحو الحق والبر والتعفف، وورثته العجز في الرؤية، فغاب الله القدوس وارتضى الإنسان بالموت كنهاية لشقائه على الأرض.
أما من طرف الله فقد وقفت الخطية من الإنسان موقفاً معادياً من الله، فصارت كحجاب عازل ليس فقط يحرم الإنسان من الاتصال المباشر بالله، بل ومنعت الله من أن يسكب حبه على الإنسان الذي خلقه على صورته ليعيش معه ويتمتع بالحياة الأبدية خلوا من حزن أو كأبة أو تنهد في نوره العجيب.
فكان لابد أن تُرفع الخطية من الوسط بكل أثارها المخربة والمهلكة من جهة الإنسان وفي نظر الله معا، لكي يسكب الله حبه من جديد.
أما من جهة الانسان. فتحتم أن يولد من جديد، يولد ثانية من الله كما جبله الله يوم جبله في المرة الاولى, إنما هذه المرة ليس بمجرد نفخة بل باتحاده بروح الله, خلقة جديدة بكل مواهبها السماوية.
أما من جهة الله. فبأن تنفتح أحضان مراحم الله الأبدية بلا مانع ليصنع بابنه خلاصاً أبدياً وليسكب محبته، كل محبته الأبوية في قلب الإنسان ومعها الحياة الأبدية بعمل روح الله القدوس.
وبالنهاية نرى في هذا الفصل عوامل الأساس الراسخ الذي أرساه الله لتكميل خلاص العالم:
العامل الأول فيها، وهو الأمر الذي قضى به الله قضاءً، وانتهى ولن يتراجع عنه، ولا يمكن التراجع عنه، هو أنه أعلن عن حبه عملياً: «هكذا أحب الله العالم» بتقديم حياة ابنه على الصليب من أجل كل إنسان.
العامل الثاني: إرسال روحه القدوس «الريح تهب حيث تشاء» كوعد ثابت من جهة الله لا يفارق الإنسان، بل يسقيه الروح والمحبة والحياة، والامتداد بوعي الإنسان لفحص أعماق الله والإغتذاء من نعمته. وقد أكمل الله وعده هذا بعد أن أكمل الابن الوحيد أساسيات الخلاص والفداء.
والعامل الثالث لتكميل هذا الخلاص ولإطلاق هذه المحبة لتعمل عملها بلا مانع في طبيعة الإنسان لتخلقها من جديد، لزم إيمان الإنسان «كل من يؤمن به...» . ولكن الإيمان المطلوب ليس بالفكر ولا بالجهد والقياس، ولكن «الإيمان بحب الله وتصديق وعده» الذي هو مستعد هلى مستوى القسم الذي أقسم به لإبراهيم، بأن يستقبل الخاطىء يوم يعود إليه ربما هكذا: «بذاتي أقسمت يقول الرب, «بذل ابنه», لأنك أمنت بابني الذي بذلته عل الصليب من أجلك فإني أباركك بركة... وأجعلك فيه ابناً لى لأجل أنك صدقت حبي» في هذا يقول حزقيال النبي: «حي أنا يقول السيد الرب, إني لا اسر بموت الشرير, بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا» (حز11:33). وهكذا ليس على الله عمل أكثر من المحبة التي تحققت بموت ابنه عن كل خطاة الأرض، كما ليس على الإنسان عمل أقل من الإيمان بهذا الحب وهذا البذل ليقبل الحياة ويحيا.
المفردات اللغوية للآية:
«أحب»: أقوى صياغة باللغة اليونانية للتعبير عن المحبة، وقد جاءت المحبة هنا مُشددة بأكثر من معناها حيث أضاف إليها «هكذا» أو «بهذا القدر أحب الله» . وللعلم، فإن القديس يوحنا استخدم «أحب» «أغابي» في إنجيله 36 مرة، وهذا يكشف عن ضررتها الملحة في التعبير عن لاهوت القديس يوحنا أو بالحري علاقة الله بالناس. وهذا واضح غاية الوضوح في أنه جعل «المحبة» توازي في فعلها التجسد والموت معاً. «هكذا أحب... حتى بذل...» ولكن هذا الحب بهذا القدر والتكثيف والفعل الممتد, سواء في التجسد بكل أصالته وجماله, أو في الموت بكل هيبته وجلاله، لا يدرك قوته حقاُ أو يستعلن عمقه وطوله وعرضه وارتفاعه إلا في الذي يؤمن بالابن، فينال هذا العطاء بكل سخائه و يعيش هذه الحقيقة الالهية، وحينئذ يتحقق فعلاً أن الله محبة.
«بذل»: في الحقيقة الترجمة العربية هنا غنية، فقد جاءت بالمعنى ووفت حق امتداده ليشمل «الارسال» إلى العالم بالتجسد، كما يشمل تقدمته مبذولآ على الصليب.
ومما يحقق لنا هذا المعنى المتسع للكلمة، كيف استخدمها بولس الرسول لتوفي نفس المعنى هكذا: «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضأ معه كل شيء» (رو32:8)
«ابنه الوحيد»: «ابنه الوحيد» جاءت هنا لتزيد من معنى فداحة البذل وقوة الحب معاً. ولا تخلو هذه الكلمة «أبنه الوحيد» من تلميح غاية في الرقة والحساسية إلى المساوي الأقل والضعيف, ومع الفارق, عند إبراهيم بالنسبة لإسحق!
«كي لا يهلك»: هذه الكلمة تعتبر من خصائص اللغة عند القديس يوحنا، وهي إما تأتي غير متعدية (بمعنى يهلك) أو متعدية على مفعول به (بمعنى يُهلك)، وقد تكون في هذه الحالة المفعول به هو نفس الفاعل بمعنى أن الإنسان (يهلك ذاته)، وحيما تأتي غير متمدية قد يكون المعنى الضياع أو الفقدان «اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء» (يو12:6)، أو قد يكون المعنى «الهلاك» كما جاءت هنا: «لكي لا يهلك» (يو16:3)، أو قد يكون المعنى «الزوال والإبادة»: «اعملوا لا للطعام البائد, بل للطعام الباقي للحياة الأبدية» (يو27:6)
وواضح أن الهلاك أو الفناء أو الإبادة هي نصيب الشيء أو الشخص الذي ينفصل عن الله ويبقى متمركزا في نفسه.
«الحياة الأبدية»: في غير إنجيل القديس يوحنا تعني حياة الدهر الآتي بحسب مفهومها اليهودي الرباني التقليدي، ولكن عند القديس يوحنا تميل أكثر إلى معنى الحياة التي بلا نهاية أو الحياة مع الله «كعطية حاضرة» الآن من الله، وهي تقابل ملكوت الله في الأناجيل الأخرى. وملكوت الله أيضاً عند القديس يوحنا، ولو أنها عطية الدهر الآتي, ولكن المسيح بدأها الأن وصارت حقيقة مُعاشة في المسيح.
يلاحظ القارىء ازدواج الفكر السلبي ثم الإيجابي. ففي السالفة «... جاء لكي لا يُهلك، بل يكون له الحياة». وهنا «لا ليدين بل ليخلص». هذا أسلوب القديس يوحنا وهو نوع من التحديد القاطع للمعنى، كما سيجيء في الآيات القادمة أيضأ الإيجابي ثم السلبي: «الذي يؤمن لا يدان والذي لا يؤمن فقد دين».
كما سيجيء أيضاً في الآية بعد القادمة: «أحب الظمة أكثر من النور، كل من يعمل السيئات يبغض النور وكل من يفعل الحق يقبل إلى النور».
كانت كل تحقيقات الربيين عن نبوات مجيء المسيا تفيد أنه سيعلي من شأن الأمة ويدين الشعوب ويسحق الأمم ويبيدها، وكان روح هذا التعليم بالذات أحد العثرات والمعوقات التي وقفت حائلاً دون قبول المسيح, وكان نيقوديموس أحد الأئمة الذين تشبعوا بهذه الروح العدائية نحو أمم العالم ويقابلها روح التعالى والافتخارر بالعنصرية اليهودية والإعتداد الشنيع بالفريسية وإتقان التعليم بالحرف. هنا يصحح المسيح ويوضح أن هدف المسيا الأساسي هو الخلاص لكل أمم العالم وليس الدينونة. وإن تحتمت الدينونة، فلا تكون هدفاً لمجيء المسيا قط, وانما جزاء للذين انعمت بصائرهم وانسدت آذانهم وصاروا من سواقط الخلاص, وهذا وذاك لليهودي قبل الأممي!!
ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن الحكم بالدينونة والموت والهلاك هو القانون الذي يرزح أصلاً تحته كل بني آدم, لأن الكل وُلد بالخطية والكل أخطأ وزاغ. والمسيا جاء ليرفع الخطية, وبالتال قانون الموت واللعنة، فالذي يرفضه يحكم على نفسه بالبقاء تحت الخطية واللعنة!!! بل ويُكمل, برفض المسيح, مكيال خطاياه.
والذي يفحص فكر إنجيل يوحنا يشعر كأنه يدافع عن شيء و يرفع الملامة عن الل ! نعم, فقد حدثت الكارثة وسقطت أورشليم واندكت حتى التراب وتخرب الهيكل وحُرق عن أخره. هذه هي الخلفية التي يكتب القديس يوحنا على ضوئها إنجيله. فهو يستميت ليبرىء الله من كل ما حدث, الذي بدا وكأنه نقمة مروعة حلت بالمعاندين, فالعلامات بحسب النبوات كانت واضحة في سلوك كل الطبقات المتعلمة مع كل أعماء المجمع مع غالبية الشعب, إن لم نقل كله في رفض صوت الكلمة، إلا أفراداً يعدون بالعشرات وحسب.
القديس يوحنا يكتب إنجيله الآن ونحن في نهاية القرن الأول، وأورشليم سقطت بهيكلها سنة 70م، أي مضى الآن ثلاثون سنة تقريباً, وقد تشتت الشعب وخربت البلاد وانتهى اليهود إلى الصفر، لذلك يقول إن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، أي لم يكن خراب أورشليم وتهدم الهيكل وحرقه على مستوى الدينونة. لأن رسالة الابن الوحيد هي تنفيذ وصية الحب الأبوى من نحو العالم للخلاص حتى لا يهلك أحد، كل من يؤمن. أما ما حدث لأورشليم والهيكل وللأمة اليهودية، فهو النصيب الذي حدده المسئولون مع الشعب لأنفسهم؛ لقد حكموا بأنفسهم على أنفسهم بانتهاء زمان الحب لما رفضوا الابن الحبيب، وحكموا على الهيكل بالهدم لما هدموا هيكل ابن الإنسان بالرغم من تحذيره لهم. لقد سعوا في الظمة ضد النور, فأدركتهم الظلمة وانتهى لهم زمن النور. أما الذين كانت أعمالهم صالحة، فهؤلاء أحبوا النور وتقبلوا رسالة الحب: «بهذا أُظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به.» (1يو9:4)
وواضح أن إنجيل القديس يوحنا يضح الحب في رأس قائمة هذه الآيات، حتى يرفع من الدينونة رائحة البغضة الإلهية؛ فالذين خلصوا بنداء المحبة ظهر فيهم فعل المحبة، والذين رفضوا نداء المحبة دخلوا تحت الحرمان منها بإرادتهم. فالدينونة أصبحت حرماناً من محبة الله وليست غضبأ منسكباً عليهم.
والقصد كله الذي يريد أن يخلص إليه الإنجيل هو أن المحبة أصل الدينونة والمتسببة فيها، لأنه لولا المحبة ما كان خلاص ولولا الخلاص ما كانت دينونة. وهذا هو سلاح المحبة الرهيب ذو الحدين.
يلاحظ اختلاف الفعلين «لا يٌدان» و «قد دين». فالذى يؤمن يكون قد خرج من دائرة الدينونة أصلاً وبالكلية لأنه صار «فى المسيح». أما الذي لم يؤمن فقد خرج من دائرة المسيح والخلاص وصار في الوجه المعادي. لأن عدم الإيمان باسم ابن الله هو عدم الإيمان بالله وبالخلاص الذي تم باسمه. ويلاحظ أن كلمة «الوحيد» جاءت هنا للتذكير بالمحبة, فهو الابن الوحيد لأنه المحبوب، فهنا يكون عدم الإيمان قد بلغ إلى مجافاة محبة الله، بل وتعدى عدم الإيمان بالمحبة إلى عدم التصديق, وكأنه يجعل الله كاذباً. فمجيء ابن الله برسالة حب الآب الذي أنهى على حالة الركود التي كان يعيشها العالم, قد قسمه في الحال إلى مؤمن مستقبل لرسالة المحبة, وغير مؤمن رافض لرسالة المحبة؛ وبالتالي إلى مخلّص وغير قابل للخلاص، وغريب عن روح الله أي قائم في الموت بعيداً عن الله!
والدينونة على هذا هي من عمل رفض الإيمان وليست من عمل الله. ولكن الأصل والأساس هو الإيمان الذي جاء به المسيح للحياة: « الحق الحق أقول لكم كل من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
ولكن إنجيل القديس يوحنا لا يقطع خط الرجعة على من يرفض الإيمان، بل طالما هو رافض للايمان فهو واقع تحت الدينونة لأنه هو نفسه الذي يصنع لنفسه الدينونة برفضه؟ ولكن إذا رجع وقبل الإيمان، يكون قد خرج من الطوق الحديدي الذي وضعه بنفسه في رقبته: «لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8)، «ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور.» (يو36:12)
فالمسيح باق كما هو، وصوته قائم يدعو للخلاص, وكلمة الإيمان في فمك إن نطقتها ربحت نفسك والحياة. فالمناداة بالدينونة في إنجيل القديس يوحنا نشأت بسبب الكرازة بالخلاص وليست لتهديد أو وعيد للذين لا يؤمنون، والإنجيل أصلاً موضوع لغير المؤمنين ليكونوا مؤمنين. ولكن نبراته التحذير هي التي تطغى على الكارز خوفاً على حياة الإنسان. لذلك فالمطالبة بسرعة القطع إما مح النور أو الظلمة، هو اختيار بين الحياة أو الموت, ليس للتخويف بل للترغيب، لأن صوت الله منذ القديم يقول: «قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك.» (تث19:30)
هنا يربط القديس يوحنا «الدينونة بالنور». ولكي تظهر الدينونة بمعناها الأسهل نقول إنها القضاء. فالقضاء لا يمكن أن ينعقد لواؤه إلا بوجود أداة التمييز يين الخطأ والصواب للحكم بالعقاب أو البراءة. ونحن هنا بصدد الروحيات، فالقضاء أداته الوحيدة هي النور الإلهي الذي يفرق بين أعمال الظمة وأعمال النور.
فيقول القديس يوحنا أنه بمجيء النور إل العالم وجب القضاء وتحتم, لأن العالم به الشر أصلاً وبه الخير أيضا؛ فكل من ينحاز إلى النور فهذا يوضح أنه أحب النور. والذي يرفض النور معناه أنه أحب الظلمة أكثر من النور. والنور هنا في هذه الحالة هو أداة التفريق والتمييز، وفي نفس الوقت هو القاضي. من هنا جاء الإلتباس أن الذي يبغض النور ويقع عليه العقاب يبدو كأن هناك عداوة أو نقمة بين القاضي وهو المسيح وبين الرافض للنور. ولكن لشرح هذا الإلتباس نقول إن القاضي يحكم بمقتض قانون ولا يحكم حكماً كأنه من عنده، ولكن الحكم أو الدينونة منشأها النور كأداة أو قانون, وليس القاضي نفسه، فالقاضي يحكم بما يحكم به النور أو قانون النور، وقانون النور مطلق أزلى وليس وضعياً أو مجرد اجتهاد أو تفكير شخصي.
بدخول النور، وهو المسيح، ومعه الحق الإلهي إلى العالم انقسم العالم إل محبي النور ومحبي الظلمة وبدأ في الحال روح القضاء يأخذ عمله.
والذي يجعل القضاء يطالب بحقه من الآن هو التقرير النهائي الذي اتحذه الذين رفضوا النور، لآنهم «أحبوا»، وهذا فعل في اللغة اليونانية يفيد القرار القاطع المنتهى منه في محبة الظلمة، والخطورة الكبيرة هنا هي أن هذا الحب الذي ينتمي إلى نوع من العشق أو الارتباط هو ليس فقط حباً لأعمال الظلمة من سرقة وزنى وفجور وكذب وعداوة, بل إن هذه الأعمال تمتد لتتعاقد مع أقنوم الظلمة, رئيس هذا العالم, وهو القوة المشخصة المحرضة على أعمال الشرور. من هنا جاء القضاء كعمل لا مناص منه لكبح جماح القوة الشريرة والحد من تجبرها. فالنور وراءه شخص ابن الله والظلمة وراءها إبليس, لذلك فمبغضي النور ليسوا محايدين بل منحازين للظلمة ضد النور، فنشاطهم سلبي بالنسبة للنور, لهذا يتدخل القضاء للفرز والعزل والمحاصرة.
ومعروف بالقطع أن الشيطان كرئيس لهذا العالم المحرض على كل الشرور قد دين: «لأن رئيس هذا العالم قد دين» (يو11:16). أي إن دينونة الشيطان وخروج حكم القضاء عليه تم يوم صلبوت المسيح، لذلك فإن الذين يرفضون النور هم بنوع ما ينحازون إلى رئيس هذا العالم، وبالتالى يقعون تحت الدينونة والرفض: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو31:12)
«لأن أعمالهم كانت شريرة»: دور الأعمال هنا محدود، فالأعمال الشريرة لا تمنع الإنسان أن يطلب الخلاص منها ويرتمي تحت أرجل المخلص لينجو. فالأشرار الذين تمرغوا في كل أصناف الشرور خرج منهم قديسون، نتشفع بهم. ولكن المفهوم من الأعمال الشريرة هنا أنها عطلت كثيرين عن الخلاص. لأن تمادي الإنسان في أعمال الشر وانغماسه فيها يولد عادات وارتباطات ومجاملات تنازع الإنسان في إرادته وتنكر عليه حريته في التخلص منها أو حتى الاقتراب من مصادر النور، ثم تؤثر تأثرا مستمراً على الأخرين.
«يَعْمَلُ السَّيِّآتِ»: هنا كلمة «سيئآت» تختلف عن الكلمة مثيلتها التي جاءت في الأية السابقة «أعمال
شريرة», التي تفيد الضلوع في الخطية. أما السيلآت فهي التي تعني «أعمال بطالة» (Bad) أي أعمال خسيسة وحقيرة. وهي بدء الدخول في أعمال الظلمة الغير مثمرة، التي قد يستهين بها الإنسان لأنها ليست خطايا ثقيلة ولكن خطورتها هي في أنها تجعله يهرب من النور ويبغض الدعوة إليه، خشية أن توبخ أعماله من أحبائه وأصدقائه الذين يخلصون إليه: «إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه. فكن غيوراً وتب» (رؤ19:3). «لأن الأمور الحادثة منهم سراً ذكرها أيضأ قبيح، ولكن الكل إذا توبخ يظهر بالنور, لأن كل ما أُظهر(اُعترف به) فهو نور، لذلك يقول: «استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح» (أف12:5-14). هنا الكلام كله موجه نحو أصحاب العادات السيئة التي تتصل بالحياة الداخلية للانسان والتي يحاول أن يخفيها.
لاحظ أن المتكلم هنا هو المسيح كاشف أستار القلوب، وهو يحدث اليهود والرؤساء والمعلمين ومدعي الفضيلة الذين انغمسوا في السيئات، وكانت النتيجة أنهم احتجوا جزيعين من كلام المسيح، متأففين من تسليط النور عليهم، وبالنهاية صاروا هاربين ورافضين.
فمن يرفض المسيح، تقف وراءه إما السير السيئة والإنغماس في الخطية أوكبرياء الأخلاق والذات.
إذن، فرفض المسيح والهروب من النور ليس مسألة اختيار فقط, بل أن العوامل النفسية المبنية على السلوك الإرادي السييء, هي صاحبة الكلمة فيه وعليه.
«فعل الحق.»: هو في المقابل لـ «يعمل السيئات». هناك فعل السيئات بالجمع؛ وهنا عمل «الحق» بالمفرد الذي يحوي في صدقه ونبله كل ما صيته حسن ونافع.
ولكن الذي يسترعي انتباهنا هو الإصطلاح الجديد «عمل الحق» فهل الحق يُعمل؟ هنا الحق أصلاً هو فكر ورؤية روحية وانكشاف بصيرة، ولكن هذا يحتاج إلى تحقيق وعمل، فإذا نُفذت الفكرة السامية أو الإلهام الروحي المادة الموحى به, فهو يصير عمل الحق.
والأن تقف هذه الأية في مقابل الأية السالفة لتوضح أن في وسط ظلام ليل الشرور والسيئات، يعيش أيضاً الحق والنور، وإزاء الهاربين من النور بسبب ما ثقلوا به أجسادهم وأرواحهم من أعمال الظلمة، يوجد أيضاً المهللون للنور والهاتفون للحق الذين تثقلت أرواحهم بمحبة المسيح والحق، يسرعون ليقدموا برهان حبهم بأعمالهم، وليكشفوا أفكارهم ونيتاتهم في النور لتزداد نوراً، ويمجدون الله الذي أنقذهم من سلطان الظلمة.
والمنظر لا يزال هو بعينه، فالمسيح يخاطب الذين عثروا فيه وهربوا والذين سعوا إليه فرحين مستبشرين سواء بسواء، موضحاً أن أعمالهم في الخفاء كانت هي المسئولة عن جزعهم منه أو قبولهم له.
«بالله معمولة»: إن مجرد عرض أعمال البر خطر، وكشف خفايا السلوك بالتقوى أخطر؟ لأن ذلك يؤول بالضرورة إلى الوقوع في خطية البر الذاتي والاعتداد بالنفس والتفاخر. ولكن يوجد عرض للأعمال الخيرة وسرد للسيرة التقية مضمون النفع ومؤمن عليه ضد الانزلاق في البر الذاتي وهو تمجيد الله كونه هو هو صاحب العمل وصاحب السيرة، حيث يقتنع السامع أن «الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة.» (في13:2)
«اذهب إل بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك.» (مر19:4)
هنا لا يفوتنا قول المسيح أنه «لا يقدر أحد أن يقبل إلي (الحق), إن لم يجتذبه الآب (أولاً)» (يو44:6). فالمجيء إلى النور يتحمل النور شيئاً من المسئولية فيه، فالنور محبوب جداً عند أصحاب العيون الصحيحة ومكروه للغاية عند ذوي العيون المريضة، فلا ينجذب إلى النور إلا من كان أهلاً له. هنا «عمل الحق» من جهة «وبالله معمول» من جهة أخرى تفيد الانجذاب المتبادل. فسر النعمة يسري في أولاد النعمة. والحكمة تنادي أولادها وتتبرر من بنيها، والحق يطلب محبيه, والله هو دائمأ صاحب المبادرة ولكنه دائمأ يتنازل عن دوره الأول: «قد ذكرت لك غيرة صباك, محبة خطبتك, ذهابك ورائي في البرية.» ( إر2:2)
[انتهى الحديث مع نيقوديموس والتعقيب على كلامه]
مكان البشارة: اليهودية
4- المعمدان يكمل شهادته كآخر صوت يُسمع للعهد القديم: هذا هو الجزء الرابع من «إنجيل التجديده» وتستمر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالى:
القديم: «الذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم».
الجديد: «الذي يأتي من فوة هو فوق الجميع... ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص».
الاستعلان: المسيح العريس الحقيقي: «من له العروس فهو العريس».
«وبعد هذا»: وصلة يضعها القديس يوحنا دائماً في سرد روايته لينقل القارىء من حديث لحديث، ومع نقلة
الحديث نقلة في المكان والزمان، لا يفصح عنها من قصد، لأنها لا تدخل, في اعتباره, في صلب الرواية.
نعلم أن المسيح كان في أورشليم حيث تم الحديث الأخير مع نيقوديموس الذي انقطع وغاب فجأة, حسب عادة القديس يوحنا حينها يرى أن أهم جزء في الحديث قد استوعب، وحيث يسترسل بعد ذلك في التعقيب، إن بواسطة المسيح مباشرة أو عن لسانه. وهنا نأتي إلى أرض اليهودية شرق جبال أورشليم على ضفاف نهر الاردن، حيث مكث المسيح مدة, لا يُفصح عنها, مع تلاميذه.
«وكان يُعمد»: هذه الجملة القصيرة غريبة علينا نوعاً ما, فالمسيح معروف عنه انه لم يُعمد. «مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه» (يو2:4). ولكن يبدو أن المسيح كان يكرز بالتوبة حسب ما جاء في إنجيل القديس مرقس (15:1).
وقد علق على ذلك كل من القديس ذهبي الفم والقديس أغسطينوس بأنها لا تُحسب معمودية سرائرية بحسب الفكر المسيحي. ولكن الواضح من هذه الآية وما بعدها هو أن القديس يوحنا يمهد بها لحديث المعمدان الأخير لتكميل شهادته للمسيح.
لا يزال المعمدان يمارس وظيفته في الإعداد بالتوبة لملكوت الله كسابق يعد الطريق للآتي بعده. ولكن يبدو`أن هذه المرة لم يتلاق مع المسيح بل ظل في مكانه. ولكن لماذا ترك مكانه المختار الأول «عبر الاردن»؟ يرد على هذا السؤال العالم «أولمستد» بأن المعمدان ترك أرض عبر الاردن التي تتبع هيرودس أنتيباس وجاء إلى منطقة أخرى فيها المياه كثيرة, بسبب العداوة التي نشأت بين المعمدان وهيرودس بمد أن وبخه (علنا) على سيرته بالنسبة لزوجة أخيه.
«عين نون»: تبارى الشراح في التعليق على هذا الاسم، فمنهم من أنكر وجوده بالمرة لأنه لم يعثر عليه جغرافياً، ومنهم من شدد عليه جداً باعتباره المركز الأساسي لخدمة المعمدان وأقامته مع تلاميذه، والذي صار فيما بعد موطن جماعة المنتمين للقديس يوحنا المعمدان. ويشرح ذلك العالم «بولتمان» مضيفاً إلى ذلك أن عين نون تفيد معنى رمزياً وهو «النبع القريب من الخلاص»: لأنه بقرب «ساليم» وساليم تُفسر بـ «الخلاص».
وعلى كل حال فإن هذه المنطقة تقع غرب نهر الاردن في البراري الواقعة على ضفافه. وهذه المنطقة على الحدود بين اليهودية والسامرة بقرب مدينة «بيت شان» شرة نابلس الحالية .
وكان لا يزال الشعب يتدفق على المعمدان للتوبة وسماع كلماته، ولكن يبدو أن في هذا التعبير نوعأ من المقارنة بين العدد الكبير الذين كانوا يأتون إل المسيح, وبين الذين كانوا يأتون للمعمدان؛ وقد ظهر تناقص عدد الذين كانوا يأتون إل المعمدان في تعبيرين هامين جاءوا بعد ذلك:
الأول: تقرير لتلاميذ المعمدان في الآية (26) القادمة: «فجاءوا إلى المعمدان وقالوا له: يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت قد شهدت له هو يعمد، والجميع يأتون إليه».
والتعبير الثاني جاء على فم المعمدان نفسه كتحصيل حاصل وبحكم الواقع: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 30:3)
ولكن على أي حال كان هم القديس يوحنا هو تسجيل الشهادة الأخيرة والأعظم من فم المعمدان فيما يخص المسيح، هذه الشهادة التي رفعت المعمدان في تاريخ المسيحية إلى المستوى اللائق كنبي وأعظم من نبي!!!
تعتبر هذه الآية ذات وزن تاريخي عال للغاية، لآن القديس يوحنا يضعها وهو يعرف ما وراءها من التقليد المستقل في الآناجيل الأخرى. إذ أن هذه الحقيقة، أي «وضع يوحنا في السجن وموته بعد ذلك»، تعتبر نقطة البدء لخدمة المسيح في الجليل كما سجلها القديس مرقس وأخذ عنه بقية الإنجيليين: «وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان.» (مر14:1-15)
ولكن هنا القديس يوحنا يكشف عن تقليد رسولى أقدم حيث يوضح أنه حتى وقبل أن يوضع المعمدان في السجن كان المسيح يخدم؛ وليس في الجليل بل في أورشليم بالدرجة الاول وفي اليهودية، وهي الفترة التي أغفلها التقليد عند الإنجيليين الثلاثة. من هنا تظهر أهمية إنجيل يوحنا من جهة سرد وقائع حياة المسيح على مستوى التاريخ الدقيق والحوادث، وما يتبعها من تعاليم.
وذكر القديس يوحنا لهذه الواقعة بالذات: «لم يكن يوحنا قد ألقي بعد في السجن»، دون أن يكون لها سبب واضح, يكشف بوضوح أن القديس يوحنا يعرف التقليد الذي كتب منه القديى مرقس، ويلمح إلى أنه يورد هنا إضافة هامة عليه أغفلتها الآناجيل الأخرى. كذلك يلزمنا أن ننتبه جداً إلى هدف القديس يوحنا الأساسى من سرده خدمة المسيح في أورشليم واليهودية قبل الجليل؛ لأن الآناجيل الأخرى اهتمت بأعمال المسيح ومعجزاته بالدرجة الاولى والتى تركزت بصورة ما في الجليل، أما القديس يوحنا فقد اهتم إلى أقصى حد باستعلان شخصية المسيح المسيانية من تعليمه أكثر من معجزاته. وقد رأينا إحدى صور هذا التعاليم الباهرة في حديثه مع نيقوديموس في أورشليم التي تختص بأساس الخلاص والتجديد والملكوت.
«وحينئذ»: جاءت في أول الأية فى الأصل اليوناني. وقد فات على المترجم العربي هذا الظرف الزماني «حينئذ» وأسقطه من الترجمة مع أنه يحمل ثقل كل المعنى في الأيات القادمة كلها بلا مبالغة. فالقديس يوحنا، وهو مختزل لغوي بالدرجة الاولى، أراد أن ينبه القارىء بأقل كلام ممكن أن تواجد المسيح في مقابل المعمدان وها يمارسان نفس العمل وهو «العماد»، أنشأ منافسة اضطرارية بين تلاميذ المعمدان والمعمدين من اليهود؛ لأنه حتماً حدث اختلاف في وجهة نظر التعميد، فمعمودية يوحنا ذات لون إعدادي فقط لمعمودية المسيح بالروح القدس، وحتى ولو أن المسيح لم يُعمد بالروح القدس ولكن يُفهم تماماً من حديثه السابق مع نيقوديموس أن المعمودية في نظر المسيح هي حلقة جديدة وميلاد ثان من فوق وليست غسيلاً وتطهيراً. هذا المعنى كله أضمره القديس يوحنا في الظرف الزماني «حينئذ» المستخدم ليس على المستوى الزماني ولكن بمعنى: «وعلى هذا نشأ الآتي», وهومدخل يرتب الكلام على ما قبله.
«حدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير»: نحن لا ننسى كيف ركز القديس يوحنا على مسألة التطهير أولاً في عرس قانا الجليل، كيف حول المسيح ماء التطهير إلى خمر جيد (حقيقي)، مشيراً إلى التحول المزمع والذي يتحتم أن يكون لكل طقوس ووصايا التطهيرات بكافة أنواعها؛ علماً بأن الستة الأجران تغطي تطهيرات الأسبوع بكامله! وبعدها مباشرة: «اهدموا هذا الهيكل»، بعد أن أخرج منه كل ذبائحه الكبيرة والصغيرة، مشيراً إلى انتهاء عصر الذبائح وكل نظام العبادة القائم عليها. ثم انتقل إلى نيقوديموس معلم الناموس والممثل لكل دقائق الإيمان اليهودي الذي انتهى الحديث معه على أساس حتمية الميلاد الثاني من فوق كأساس للايمان والعبادة وكشرط أول لدخول ملكوت الله؛ كاشفاً له سر معمودية العهد الجديد. وبهذا يكون المسيح قد أكمل الصورة لعملية إحلال الجديد عوض القديم.
ولكن يبقى آخر مرحلة من الإنتفاضة اليهودية لإعادة الحياة إلى القديم التي أخذت طريقها خلسة من خلال الإنسان المرسل من الله, يوحنا, لإعداد الطريق للآتي, إذ تضخم عمل المعمدان من خلال حماس تلاميذه على أنه هو الطريق الموعود، فأخذوا يصورون للآتين لمعمودية يوحنا أن هذا هو التطهير الذي سيُحيي إسرائيل.
وترامت إلى أسماع المسيح ما يقال وما يُشاع, فجاء بقرب المعمدان يباشر تعليمه من جهة المعمودية من فوق، وكأنه تكميل لدرس المسيح لنيقوديموس، وفي الحال هرع الناس «الجميع» إلى المسيح يسمعون ويعتمدون؛ مع أنه لم يكن يعمد بل تلاميذه، وتأثر الناس واستنارت أذهانهم من جهة حتمية الميلاد الجديد من فوق، وبالتالي عدم نفع التطهير بالماء، فضج تلاميذ المعمدان وذهبوا في حماس وتحد يستثيرون معلمهم.
«وحينئذ»: جاءت في أول الأية فى الأصل اليوناني. وقد فات على المترجم العربي هذا الظرف الزماني «حينئذ» وأسقطه من الترجمة مع أنه يحمل ثقل كل المعنى في الأيات القادمة كلها بلا مبالغة. فالقديس يوحنا، وهو مختزل لغوي بالدرجة الاولى، أراد أن ينبه القارىء بأقل كلام ممكن أن تواجد المسيح في مقابل المعمدان وها يمارسان نفس العمل وهو «العماد»، أنشأ منافسة اضطرارية بين تلاميذ المعمدان والمعمدين من اليهود؛ لأنه حتماً حدث اختلاف في وجهة نظر التعميد، فمعمودية يوحنا ذات لون إعدادي فقط لمعمودية المسيح بالروح القدس، وحتى ولو أن المسيح لم يُعمد بالروح القدس ولكن يُفهم تماماً من حديثه السابق مع نيقوديموس أن المعمودية في نظر المسيح هي حلقة جديدة وميلاد ثان من فوق وليست غسيلاً وتطهيراً. هذا المعنى كله أضمره القديس يوحنا في الظرف الزماني «حينئذ» المستخدم ليس على المستوى الزماني ولكن بمعنى: «وعلى هذا نشأ الآتي», وهومدخل يرتب الكلام على ما قبله.
«حدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير»: نحن لا ننسى كيف ركز القديس يوحنا على مسألة التطهير أولاً في عرس قانا الجليل، كيف حول المسيح ماء التطهير إلى خمر جيد (حقيقي)، مشيراً إلى التحول المزمع والذي يتحتم أن يكون لكل طقوس ووصايا التطهيرات بكافة أنواعها؛ علماً بأن الستة الأجران تغطي تطهيرات الأسبوع بكامله! وبعدها مباشرة: «اهدموا هذا الهيكل»، بعد أن أخرج منه كل ذبائحه الكبيرة والصغيرة، مشيراً إلى انتهاء عصر الذبائح وكل نظام العبادة القائم عليها. ثم انتقل إلى نيقوديموس معلم الناموس والممثل لكل دقائق الإيمان اليهودي الذي انتهى الحديث معه على أساس حتمية الميلاد الثاني من فوق كأساس للايمان والعبادة وكشرط أول لدخول ملكوت الله؛ كاشفاً له سر معمودية العهد الجديد. وبهذا يكون المسيح قد أكمل الصورة لعملية إحلال الجديد عوض القديم.
ولكن يبقى آخر مرحلة من الإنتفاضة اليهودية لإعادة الحياة إلى القديم التي أخذت طريقها خلسة من خلال الإنسان المرسل من الله, يوحنا, لإعداد الطريق للآتي, إذ تضخم عمل المعمدان من خلال حماس تلاميذه على أنه هو الطريق الموعود، فأخذوا يصورون للآتين لمعمودية يوحنا أن هذا هو التطهير الذي سيُحيي إسرائيل.
وترامت إلى أسماع المسيح ما يقال وما يُشاع, فجاء بقرب المعمدان يباشر تعليمه من جهة المعمودية من فوق، وكأنه تكميل لدرس المسيح لنيقوديموس، وفي الحال هرع الناس «الجميع» إلى المسيح يسمعون ويعتمدون؛ مع أنه لم يكن يعمد بل تلاميذه، وتأثر الناس واستنارت أذهانهم من جهة حتمية الميلاد الجديد من فوق، وبالتالي عدم نفع التطهير بالماء، فضج تلاميذ المعمدان وذهبوا في حماس وتحد يستثيرون معلمهم.
واضح للغاية أن تلاميذ المعمدان لم يتأثروا قط بنداء المعمدان من جهة الأقوى الآتي بعده الذي لا يستحق أن يحمل حذاءه، ولا تأثروا من شهادة المعمدان بحسب رؤية وسماع الروح القدس وهو يشهد للمسيح الذي اعتمد من يدي معلمهم، كما لم يتأثروا قط من شخص المسيح ذاته. وكتلاميذ لمعلم مرموق، أخذوا يحاصرون معلمهم حتى يدافع عن نفسه.
فابتداوا يشيرون إلى المسيح «هوذا الذي كان معك»، معبرين بذلك عن اعتقادهم بالتساوي بين المعلمين. ثم بدأوا يذكرونه بالإحسان الذي صنعه في المسيح، إذ شهد له كما يشهد القاضي العادل بالحق, وهذا أيضاً يعبر عن اعتقادهم بأفضلية المعمدان وكأنه يشهد لأحد تلاميذه. ولكنهم أبقوا على نقطة الإنزعاج التي ملأت نفوسهم إلى آخر الحديث أو الشكوى، إذ قالوا أخيراً: «هو يعمد والجميع يأتون إليه», معبرين بذلك عن أمرين: الأول أن المسيح بدأ يظهر في أعينهم كمنافس أو متعد على وظيفة معلمهم «هويعمد»؛ والأمر الثاني وهو الأخطر: أن «الجميح يأتون إليه», بمعنى أن وظيفة معلمهم صارت مهددة. وواضح في ذلك التهويل الحاقد والغاضب والمثير.
وإذا قارنا هذا التقرير بما قيل عنه في نفس المرضوع بعد ذلك، يظهر التهويل وتلفيق ما يُنسب للمسيح: «وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها» (يو32:3)؛ وكانوا يعتقدون أن هذا وحده كفيل أن يحرك ساكن معلمهم. وفي الحقيقة وبحسب أسلوب إنجيل يوحنا، فقد أخذ هؤلاء التلاميذ, المتعصبون لمعلمهم, موقف الفريسيين الحاقدين لما واجهوا نفس الموقف: «فقال الفريسيون بعضهم لبعض أنظروا إنكم لا تنفعون شيئاً هوذا العالم قد ذهب وراءه» (يو19:12). كان هذا التقرير المسموم كفيلاً بأن يزعج المعمدان ويهيج غضبه لو لم يكن مرسلاً من الله وروح الله هو الذي يقود نفسه ويوجهها مع لمسات رقيقة من روح الإتضاع .
وكان يمكن أن نفسر هذا التقرير بصورة عكسية تماماً لما يحتمله بأن يكون بشارة سارة ومفرحة للمعمدان من تلاميذه, عن الذي شهد له, أنه هوذا قد صار ناجحا والجميع يأتون إليه! وهذا أيضاً ما يتمش مع كرازة المعمدان بالنسبة للمسيا الآتي, لولا أننا نعرف تماما أن هؤلاء التلاميذ كونوا شيعة تشيعت لمعلمهم وقاومت المسيحية بعنف وبقيت إلى عدة قرون، وكانت في أوج نشاطها أيام كتابة القديس يوحنا لإنجيله (عُرفت هذه الشيعة باسم شيعة المانديين أو الناصريين).
في إجابة المعمدان نلمح ثلاثة مبادىء هامة يرد بها على غيرة التلاميذ الغاضبة:
أولاً: يضح المعمدان المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الاستعلان النبوي بصفة عامة (الآية27 ).
ثانياً: يطبق المبدأ الإلهامي على عمله الذي كُلف به، سواء فيما شهد به سابقاً (الآية28) أو ما يشهد به لاحقاً (الآية29).
ثالثاً: استنباط النتيجة الحتمية للتطبيق الأمين (الآية30).
وهو يبدأ الحديث لا رداً على تلاميذه، ولكن كتوعية عامة ترفع من مستوى تفكيرهم كمعلومة عامة وأساسية, مفادها أن أي معلم صادق لا يأخذ إلا ما منحته السماء له. وهذا يقدح بهدوء وبساطة أساس العلاقة التي تربطه بالمسيح كسابق يعد له الطريق. فسواء هو أو المسيح، فلا يأتي بشيء إلا كما استلمه من مخازن النعم (السماء). هذا الرد يضع حدا لتفكير التلاميذ وينهي على روح المنافسة التي عصفت بهم. كما أن هذا الرد بعينه يوضح أن ما اشتكى منه تلاميذه قد وقع منه موقع الإستحسان بل وصار له كإكليل فرح.
ويلاحظ أن المعمدان وضع المسيح موضع نفسه على المستوى من جهة الأخذ والعطاء، فيقول:
«أنا لا أدعي لنفسي سلطة لم آخذها، أما هو الذي تتكلمون عنه فلا يمارس سلطة ويكون لها اعتبارها إذا لم يكن قد تلقاها من الله.
هنا المعمدان ينفي أن يكون لإرادة الإنساذ عمل يُحاسب عليه إذ كان هو قد أعطى في حدود ما أخذ.
هنا المعمدان يطبق المبدأ الذي قاله على شهادته الاولى التي شهد بها عل نفسه بالنسبة للعمل الذي يقوم به وبالنسبة للشخص المنوط به هذا العمل الكبير: «فلو تذكرتم ما قلته سابقاً تدركون كم أنتم مخطئون فيما تظنون وفيما تقولون، ألم أقل لست أنا المسيح؟ فحينما أعلنت عن رسالتي قلت إنها وقتية ومحدودة، ولم أدعى لنفسي المكانة الأعلى ولا بكلمة واحدة حتى تأحذوها حجة لما تفكرون، أنتم شهود لى وعلى أنفسكم.
«لست أنا المسيح»: هنا يعلن المعمدان عن هوية من تكلم عنه التلاميذ بلفظة «هوذا» و«هو» و«شهدت له»، و«يأتون إليه». وتكلم عنه المعمدا «كإنسان» و«رجل صار قدامي».
الأن يعلن المعمدان عن اسمه وهويته: «المسيح» بكل يقين وتعيين. نعم, ولكن يعلن لاسرائيل, أُرسلت أمامه, لا كأني سابق بل كمن يعد ويفسح الطريق لمن هو أعلى.
بينما تكلم المعمدان عن نفسه بوضوح وعلانية, إلا أنه لما جاء للمسيح سواء من جهة شخصه أو عمله نجده بدأ يستخدم الأسلوب السري. ولكن كلماته جاءت محكمة ترد رداً صحيحاً محبوكا، على مستوى فكر التوراة والأنبياء. فأسفار العهد القديم, وخاصة الأنبياء, لا تكف من البداية وحتى النهاية عن وصف يهوه بالنسبة لإسرائيل كعريس وعروس:
+ هوشع 19:2-21: «وأخطبك لنفسي بالعدل وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم, أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب. ويكون في ذلك اليوم أني أستجيب، يقول الرب، أستجيبت السموات وهي تستجيب الأرض».
+ حزقيال 8:16 «فمررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب، فبسطت ذيلي عليك، وسترت عورتك، وحلفت لك, ودخلت معك في عهد، يقول السيد الرب، فصرت لى».
فالأن لا يصف المعمدان المسيح «العريس» مباشرة، بل جعلها للسامع بديهية وعلى السامع أن يقرر. فمن ذا الذي له العروس؟ ثم من هي العروس بالتحديد؟
القديس يوحنا الإنجيلي قدير في تقديم الصور الرمزية في حبك قصصى نادر المثال، كل صورة تخدم موقعها بأصالة وواقعية, ولكن الصررة تهدف إلى عمل أعلى بكثير من واقعها القصصي. المعمدان هنا صورة للنبي المخلص المجتهد العظيم حقاً، بشهادة المسيح، ولكن لا يخرج عن كونه مولود النساء، خدم موقعه كصوت صارخ في برية العالم فأسمع العالمين, ومهد للآتي بعده بتقواه ونسكه وصدقه وشجاعته؛ ثم بكرازته بحرارة التوبة وغسل الجسد. ولكن القديس يوحنا الإنجيلي يلتقط له صورة أعلى كممثل لأنبياء العهد القديم جيعاً، جاء بروح إيليا ليتكلم ويشهد باسم الأنبياء جميعاً عن حق وجدارة.
ثم يروي القديس يوحنا أن المعمدان، بصفته العليا هذه، أُنيط به غير إعداد الطريق، أو من ضمن ضروريات إعداد الطريق، إعداد العروس التي اتسخت جداً، ليس كإعداد إيليا في القديم بالتوبيخ والعنف والإنذار وقفل السماء وحجز المطر عن إنسان إسرائيل وحيوانه، بل بغسل الجسد والضمير بالماء والنصيحة والإعتراف والتوبة واعداد الآباء والأبناء حتى ترد قلوبهم بعضهم لبعض، لكي تتلقى الأرض بركة الأتي باسم الرب. وها هو الآن قد أكمل المهمة على أقصى صورة سمحت له بها العروس المتبلدة من كثرة السنين وكثرة الإثم, وقد جاء بها ممسكاً بيدها ومن وراء الحدود الفاصلة بين القديم والجديد يسلمها للعريس الذي تطوع ليغسلها بدمه.
تقول الآية, أو يقول المعمدان، إنه كصديق العريس لا يرى العريس بل يسمعه فقط، وكفاه هذا، فدور «النبوة» لا يزيد عن كونه صديق العريس, كما وأن الحدود والسدود التي تفصل ليل النبوة عن صبح المسيا, العريس، جد قاسية وعاتية وليست لها عيون تنظر بها بل أذان تتحسس بها الأصوات الأتية من بعيد وفي الظلام: «هذا جاء لا يأكل ولا يشرب»، وهذا «جاء يأكل ويشرب»، هذا «يصوم تلاميذه»، وهذا «تلاميذه لا يصومون»، لأنهم يعيدون لعرسه القادم, «هذا من الأرض يتكلم وهذا من السماءء». فالفواصل جد كبيرة، فكرية وزمنية وشخصية وروحية، فيكفي للنبي الحاذق أن يتعرف على صوت المسيا، وكفى النبوة كرامة أن تصادق العريس. أما وبعد أن يسمع النبي صوت من تنبأ عنه, الأمر الذي لم يحدث قط في تاريخ النبوة والأنبياء, فهذا حدث جلل أعطي للمعمدان دون جميع الأنبياء؛ لأن بأذن المعمدان تسمع جميع أنبياء الله في كل الدهور السالفة صوت العريس الذي طالما وصفوه بغير رؤيا وتسمعوه في ظلام الأحلام بغير صوت. فقد عمدة المعمدان حين قال: «فرحي الآن قد كمل»، فهو فرح جميع الأنبياء والآباء الذين نظروا المواعيد من بعيد وحيوها وماتوا على رجاء هذا اليوم. فالعمدان إنما يتكلم بروح إيليا وفم كل الأنبياء. وهل للنبي فرح يرجوه أكثر من أن يحقق الله له نبوته وفي حياته؟ كان المعمدان صوتاً صارخاً، ردد صوت المسيح صداه فسمعتهما الأجال والأجيال.
تأتي «ينبغي» بصورة ضعيقة، فهي في أصلها اليوناني يتحتم، لأن هذا يتعلق بالقانون الإلهي. نعم فقد انتهى دور الأنبياء والنبوة بظهور الذي تركزت فيه كل النبوات. فإذا خرجت الشمس لزم إطفاء المصابيح. أو هو غروب نجم على أحسن الأحوال لشروق شمس على أقلها!! وهذا القول هو النبوة الأخيرة ليوحنا المعمدان عن بزوغ فجر العصر الماسياني الذي طالما حلم به الأباه والأنبياء. فالمعمدان وإن كان يتكلم عن نفسه كصورة أدت مهمتها بأمانة، إلا أن القديس يوحنا الإنجيلي يرتفع بهذه الصورة ليرى فيها آخر صوت يسمعه الإنجيل، ليس للأنبياء وحسب بل وللعهد القديم قاطبة.
فقد انقضى عهد الظلمة وأشرق نور الحياة. وإن ظهر المعمدان بهذه الكلمات على مستوى الإتضاع حقاً، فإنما هو إتضاع من حكم الواقع, أوكما يقولمون، تحصيل الحاصل.
وبشهادة المعمدان هذه أمام تلاميذه، يكون قد صادق المسيح في تعليمه ضمناً عن المعمودية الأفضل التي من فوق، التي شرحها لنيقوديموس بإسهاب وعكرت مزاج التلاميذ النساك، والناسك يصبح دائمأ متضايقاً في نفسه إذا غاب عنه عمل الروح. بل ويكون المعمدان قد صادق نفسه عندما قال سابقاً: «أنا أعمدكم بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي... فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس» (يو26:1و27و33). وإن ذهاب « الجميع», كما يقول تلاميذه, للمسيح ليعتمدوا، هو الصحيح، وهو بعينه ما يقوله أن «من له العروس فهو العريس». فليس «الجميع» فقط ينبغي أن يعتمدوا له بل والعالم كله، «لأنه هكذا أحب اللة العالم» عوض إسرائيل!
يشترك كافة الشراح في الرأي ما عدا العالم «هوسكنز» والعالم «هنجستنبرج» بأن حديث المعمدان وشهادته تنتهيان عند الآية (30), بعد ذلك ينقسم العلماء إلى من يقول أن الباقي على لسان المسيح، والى من يقول أنه بقلم يوحنا الرسول، ولكن الأباه الآوائل ذهبي الفم واغسطينوس وغيرهما لا يرون هذا الرأي الأخير بل يعتبرون أن شهادة المعمدان مستمرة حتى نهاية الأصحاح, وسنأخذ برأيهم؟ لأن الكلام لا يخلو من لمسات حية هي من روح المعمدان، باعتبار أن المعمدان انكشفت له السماء وعرف صوت الروح القدس وسمع شهادة الأب من نحو الابن.
غير أن شرح الكلام لو كان على لسان المسيح شيء، وشرحه من قلم يوحنا الرسول شيء» وشرحه بفكر المعمدان شيء آخر تماماً, وسيكون أضعفهم بلا نزاع, لأن المسألة مسألة استعلان، ولم يعط للمعمدان أن يستعلن المسيح إلا كونه الآتي، لأن المعمدان محكوم بفكر العهد القديم.
«الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع»: يلاحظ أن الفعل في المضارع المستمر فهو مجيء أو إرسال دائم ومستمر. و«من فوق» هي نفس الوصف الذي أعطاه المسيح للميلاد من فوق, وقد فسرها المعمدان ثانياً بقوله: «الذي يأتي من السماء». الإشارة هنا إلى المسيح الذي يتكلم عنه المعمدان؛ وهو يتكلم عن خبرة، لأنه أخذ تعليمات واضحة وصريحة من الله الذي يرى الروح القدس نازلاً ومستقراً عليه يكون هو الذي يعمد بالروح القدس. وبالفعل رأى وشهد أنه ابن الله, فليس أكبر من ذلك دليلاً ليقول المعمدان أن المسيح من فوق من السماء، هذا يوضح أن المعمدان يعلم تماماً من أين أتى المسيح.
فإذا كان المسيح هو من فوق، من السماء، فهو بحكم علو مكانته وطبيعته يكون الأعلى, أي فوق الجميع بلا نزاع, كرامة ومجداً وعلمأ وتأثيراً. وفي الحال يلتفت المعمدان إلى نفسه، وبالتالي إلى كل معلم من هذه الأرض، حاصراً كل معرفته، كإنسان من الأرض وعلى مستوى الأرض، في أن فعلها وأثرها محدودان، وهذا يوضح بالتالي أن المعمدان مقتنع أن رسالته محدودة بمحدوديته. وهذا صدق, خاصة فيما تعنيه معمودية الماء فقط, وذلك على مستوى «المولود من الجسد جسد هو, والمولود من الروح هو روح».
كانت شهادة المعمدان عن نفسه أنه ليس هو المسيح، وعن المسيح أنه الذي سيعمد بالروح القدس، بمفهوم التغيير الجذري لحياة الناس لتكون لحساب الله والحياة الآبدية، وأنه هو الحمل الذي يرفع خطية العالم، باعتبار رسالته الفدائية للخلاص لمغفرة الخطايا. وأنه هو العريس الحقيقي للشعب أو للأمة الذي انتظرته كل الأجيال السالفة. ولكن هنا تمتد شهادة المعمدان إلى آفاق أخرى لأول مرة يطرقها, وهي إجتهادية، إذ أنه يتكلم عن شهادة المسيح لنفسه ولرسالته, وهي بالنسبة للمعمدان حقيقة بديهية، فلأن المسيح من فوق من السماء فهو جاء ليشهد بما يعرفه سمعاً ورؤية, وهو قطعاً أعلى مما يعرفه كل من على الأرض, لذلك إذ أن هذه الشهادة تفوق المعرفة الطبيعية للناس, إذ هي تختص بالمعارف السماوية, لذلك «ليس أحد يقبلها»؛ ولو أن ذلك ليس بالأمر المقطوع به لأن بعض الناس قبلها. والمعمدان اعتبر نفسه أحد الذين قبلوها، وهو الآن يشهد بذلك.
المعمدان هنا لا يتكلم عن الجموع التي التفت حول المسيح، فهذه الظاهرة تخفي حقيقة هو يعلمها وقد فهمها قبل غيره: أن جوهر رسالة المسيح قائم على أساس أنه «ابن الله»، وأنه مقدم على تجديد كل شيء بالروح القدس، وخاصة بتقديم نفسه عوض الذبائح بصفته حمل الله الذي وحده يرفع خطية العالم؛ فعلى أساس هذه الحقائق سيٌقاوم ولا أحد يريد أن يستجيب لرسالته التي أخذها من فوق. وأوضح دليل على ذلك، الهزة التي اهتزها هو من الأعماق وكادت تعصف به، والتي أعلن عنها الإنجيل أنه في يوم محنته أرسل اثنين من تلاميذه يسأل المسيح نفسه: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» والتي كان ردها باختصار: «طوبى لمن لا يعثر في» (مت1:11-6). والمعمدان يعود إلى أعماق نفسه المضيئة بروح الحق والنبوة، فيرى أن المسيح بحد ذاته هو الحامل لشهادة الله وبما رأى وسمع عند الله كما قال هو عن نفسه: «أنا أتكلم بما رأيت عند أبي... وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله (يو38:8-40), هو أنه أقصى ما يستطيع أن يعبر به الإنسان عن قبوله للحق وضمان تعهده بالشهادة بذلك.
وإن كان المعمدان لم يكمل فيما يخص نصيب الذين لا يقبلون شهادة الله هذه، فالقديس يوحنا نفسه يقدمها في رسالته: «لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد به االله عن ابنه. من يؤمن بابن الله، فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله، فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه.» (ايو9:5-10)
المرة الأخرى التي نسمع فيها عن «الختم» فيما يخص الله هىر الآية: «اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية (جسد المسيح) الذي يعطكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد ختمه» (يو27:6). فإذا كان الله قد ختم المسيح أو جسد المسيح، فهذا يعني أنه حامل للخلود وعدم الموت إزاء الطعام البائد الذي ختمه العالم والإنسان. فهنا في آية المعمدان يكون الذي قبل المسيح كمن قبل صدق ختم الله وختم هو أيضاً على صدق الله. ومعروف أن المعمدين بالروح القدس والماء يأخذوذ مثل هذا الختم السري الإلهي من الروح القدس: «الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم، الذي في أيضاً إذ آمنتم، خُتمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا» (أف13:1-14). ويقول العالم الكبير لايتفوت إن هناك قولاً نبيلاً عند الربين اليهود يقول: ( إن ختم الله هو الحق )، بمعنى إن كل ما هو من الله مختوم بختم الحق
وبذلك، فإن كل من يقبل المسيح يكون كمن قبل كل الحق من الله. ففيه تكمل كل مواعيد الله الصادقة الحقيقية غير الكاذبة: «الذي أرسلني هو حق وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم.» (يو26:8)