وقد ظهر عطف المسيح على السامرة والسامريين في عدة مواضع غير الذي نحن بصدده الآن:
1- في الموضع الذي طُهر فيه العشرة البرص: «فواحد منهم لما رأى أنه شٌفي رجع يمجد الله بصوت عظيم وخر على وجهه عند رجليه شاكرا له، وكان سامريا. فأجاب يسوع وقال: أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة؟ ألم يوجد من يرجع ليعطي مجداً لله غير هذا الغريب الجنس؟» (لو15:17-18), هنا يدعوه المسيح غريب الجنس بحسب تسمية اليهود للسامريين, ولكنه ضمناً امتدحه وامتدح جنسه أكثرمن اليهود. وفي هذا المثل مقارنة مكتومة بين أخلاق اليهود وروحهم المبتعدة عن الله حتى وفي عدم ردهم على صنع الخير لهم، وبين السامريين المعترفين بفضل الله وبصوت عظيم.
2- الموضع الآخر وهو أعظم وأجل تكريم قدمه المسيح للسامرة والسامريين، إذ أعطى مثلآ صار فيه السامري الصالح لقباً جليلاً ذا شأن عظيم في الحياة المسيحية. هذا المثل قاله المسيح رداً لى سؤال متبجح ليهودي يسأل: «من هو قريبي؟»، في الوصية التي تقول: «تحب قريبك مثل نفسك» (لا18:19). فأعطى المسيح مثلاً لاذعاً قدم فيه أن كاهناً لم يتحرك لينقذ إنساناً يهوديا نازلاً من أورشليم متجهأ نحو أريحا مُعرى ومجروحا ومضروبا ملقى بين حي وميت على الطريق. ولا أيضاً تحرك لهذا المنظر يهودي لاوي أي من خدام الهيكل. «ولكن سامريا مسافراً جاء إليه ولما رأه تحنن، فتقدم وضمد جراحاته، وصب عليها زيتاً وخمراً وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به، وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاها لصاحب الفندق وقال له اعتي به، ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك. فأي هؤلاء الثلاثة تُرى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص؟» (لو33:10-33).
3- أما الموضع الأخير فقد وضع فيه المسيح في عنق الكنيسة لتكمل ما صنعه هو: «لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لى شهودا في أورشيم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض.» (أع8:1)
والأن إلى ما يتضمنه حديث المسيح في السامرة واستجابة أهلها:
1- يقدم لنا القديس يوحنا عرضاً لإيمان أهل السامرة النصف أمميين، فإذا هو الإيمان الحاضر المستجيب المُعلن عن نفسه ببراءة ويقين وصحة: «أنت مخلّص العالم»، ومن كل قلوبهم، إزاء:
أولأ: أهل أورشليم مركز العبادة والمتعبدين بإيمانهم السطحي الهزيل المتهافت على الآية والمعجزة.
وثانياً: إيمان معلم إسرائيل التائه الحائر ممثل صفوة العلماء والمتعلمين، مع رد فعل الفريسيين على تعاليم المسيح المملوء شكاً وخبثاً ومصادرة.
وهكذا يقدم لنا القديس يوحنا هذه الإستراحة الإيمانية بين هؤلاء من غير اليهود عن طريق الكرازة لليهود المملوء تعسفاً وضيقاً وجحوداً.
2- يعلو بنا القديس يوحنا في هذه الوقفات القليلة مع السامريين إلى أقصى استعلان بلغة المسيح عن نفسه. فمع السامرية استدرج إيمانها حتى بلغت به المسيا, فوافقها معلناً «أنا هو».
أما درجات الاستعلان البارزة فما أوضحها في هذه الكلمات المتلاحقة:
+ «أنت يهودي وأنا امرأة سامرية».
+ «يا سيد».
+ «لا دلو لك والبئر عميقة, ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟».
+ «أعطني هذا الماء لكي لا أعطش».
+ «يا سيد أرى أنك نبي».
+ «أنا أعلم أن مسيا يأتي = (أنا هو)».
ومع السامريين الذين عاشرهم عدة أيام أكلاً وشارباً من خبزهم وماءهم ملاطفأ متحنناً، حتى بغ بهم الإيمان أن رأوه بيقين الرؤيا والشهادة: «أنت مخلص العالم».
3- قرب نهاية قصة السامرة يفتتح المسيح سجل الإرساليات المزمع أن يكون، وذلك لأول مرة في إنجيله هكذا، وفي بكور أعماله متكلماً عن المرسلين، وزرع الدموع، وحصاد الفرح، وكأنه يدرب أولاده كما يدرب النسر فراخه على التحليق والصيد. وقد كان بالفعل أن تمت أول إرسالية نقرأ عنها في أصحاح 8 أعمال الرسل على يد فيلبس أحد الشماسة السبعة، تلاها إرسالية تزعمها القديس بطرس, ولكن كان القديس يوحنا روحها الذي شغف بأهلها أيما شغف، بعد أن امتص من المعلم روح المسامحة واللطف والحب والتحنن على الرافضين والمرفوضين سواء، وهكذا خلع القديس يوحنا ثوبه اليهودي الأول المطرز بالعلياء والكبرياء ولبس مسوح المسيح:
«وأرسل أمام وجهه رسلاً فذهبوا قرية للسامريين حتى يعدوا له، فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجهاً نحو أوشليم, فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا: يا رب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضاً. فالتفت وانتهرها وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما, لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص.» (لو52:9-56)
وهكذا يشاء الله أن يكون القديس يوحنا أول من يضع يده على رؤوسهم ويستنزل لهم الروح القدس فيحل عليهم ويصيرون من التابعين.
4- في هذه الرحلة المشوقة في أرض السامرة أعلن المسيح ولأول مرة عن الماء الحي الذي يعطيه، وأن كل من يشرب منه لا يعطش أبداً، وعن العبادة بالروح والحق وأن الله روح وهو يطلب الساجدين له بالروح والحق، وعن هيكل العبادة الذي حير الناس بألوانه وأشكاله، بأن وضع أول أساس لاورشليم السماوية على الأرض حيث لا هيكل أورشليم ولا هيكل جرزيم: «وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله... ولم أر فيها هيكلاً لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها.» (رؤ10:21و22)