تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
22- فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ تَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ.

سيان أن يُقال «قام من الأموات» حيث يكون هو الذي قام, أو أُقيم من الأموات بواسطة الله.
1- المواضع التي ذُكر فيها أنه قام من الأموات تعبيراً عن استعلان قوته للقيامة والإقامة من الموت هي:
‏مرقس 31:8 « إن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم», مر 9:9, لو 7:24.
2- أما المواضع التى ذٌكر فيها أن الله أقامه من الأموات تعبيراً عن الموت وكأنه رقاد والله أيقظه:
أع 15:3 «ورئيس الحياة قتلتموه, الذى أقامه الله من الأموات»؛ (10:4, 30:5, 40:10, 30:10و37, رو24:4, 11:8, 9:10, 1كو15:15 ..... إلخ)
«تذكر تلاميذه... فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله»: هذا يوضح مدى قوة الاستعلان الذي حدث للتلاميذ بعد القيامة حيث تكشفت أمامهم جميع أقوال الرب حتى الكلمات ومعانيها بصورة جزئية مضيئة قبل أن يدونوها، ولكن الاستعلان امتد وشمل ما جاء في الأسفار جميعاً والنبوات خاصة بالنسبة لكل كلمة وكل موقف، مما جعلهم يزدادون في الإيمان بالاثنين, أي بالأسفار وبالكلمات التي قالها المسيح. لأنك لا تتصور يا قارئي العزيز مدى الانبهار الذهني والروحي الذي يتغلغل أعماق الإنسان عندما يطابق قولاً من أقوال المسيح أو عملاً من أعماله على نبوة سبق وأن صاغت نفس الكلام أو العمل بنفس وصفه وظروفه، ‏لأن النبوة إلهام ونطق بالروح, وكلام المسيح روح وحياة, فعندما ينطبق الإلهام على الروح تنشأ قوة مؤثرة للتصديق بوعي إيماني لا يفارق الإنسان. فتبدو النبوة باهرة منيرة ويبدو كلام المسيح نوراً ورسالة وحقاً.
‏نحن لا ننسى قول الكتاب عن المسيح بعد القيامة كيف اجتمع مع تلاميذه وفتح ذهنهم ليفهموا الكتب: «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم، أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.» (لو44:24-45‏)
‏هذه هي قوة الاستعلان أساس تدوين الأناجيل، وهذه هي القوة التي انطلق بها التلاميذ إلى كل أنحاء العالم ليكرزوا ببشارة الملكوت مدعمين أقوالهم بالأسفار وبمنطق لا يُعاند. ولم تعدم الكنيسة في كل جيل من يهبهم الله هذه القوة التي ظهرت على أشدها في عصر النهضات والإرساليات التي بلغت أقصى المسكونة. وكم نحن الآن في أشد العوز لهذه القوة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
وقفة قصيرة في نهاية تطهير الهيكل

‏ليس جزافاً أن يقدم لنا القديس يوحنا حادثة تطهير الهيكل في بداية خدمة المسيح العلنية وفي أورشليم وفي الهيكل بالذات. فهي الأساس الذي جاء المسيح ليبني عليه العهد الجديد, عهد الخلاص والتجديد للانسان القائم على سر الموت والحياة: «انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه». هذا الموت وهذه القيامة تممها المسيح، ولكن باشتراك اليهود الفعلي في عملية الموت أي القتل «انقضوا». هذه الجريمة التي اقترفوها لم تكن وليدة الساعة أبداء بل هي حصيلة ونتيجة حتمية لحياة طويلة ممتدة لهؤلاء الرؤساء وهذا الشعب في عصيان الله والتعدي على كل وصاياه وتعاليمه. ولو جمعنا الآيات التي تصف هذا العصيان والتمرد على الله لخرج كتاب بحجم الأسفار والنبوات إلا قليلاً!
‏وليست هي مجرد جهالة عابرة بل ممتدة، إذ ترك المعلمون والربيون وكل طبقات ذوي المعرفة والدراسة والكتابة للتوراة, تركوا التمسك بكلمات الله المنيرة وأهملوا الأعمال التي هي من صميم عمل الروح الي رمز لها «بختان القلب»؛ كما قالها موسى النبي وهو تعبير عن ختم الروح القدس «روحك القدوس لا تنزعه مني», ‏«وقلباً جديداً اخلقه فيّ», «وغسيل الروح», «أغسلني كثيراً», «ومن خطيتي تطهوني», «نق قلبي وكليتي»؛ وغيرها مئات وألوف من أعمال الروح القادرة فعلاً أن تجدد الشعب وتجعل معلميه على أعلى درجة من الإستنارة فلا يتعثرون في معرفة ما؛ أقول تركوا منهج الروح والحق والتجديد والإلتصاق بالله، وتمسكوا بالذبائح يبيعونها للشعب بالحرام ويقدمونها لله كعملية استرضاء تماماً على مستوى الأصنام.
‏فالمسيح هنا وفي هيكل قدسه يعرض عليهم في هذا اليوم إما تطهيراً واما هدماً. والعجيب أنه في الاثنين, أي في التطهير وفي الهدم, يلقى جسده الثمن، ففي التطهير يحمل في جسده كل خطاياهم، وفي الهدم, يسلمه للموت. ولكهم رفضوا التطهير وقبلوا بالقتل!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
23- وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ.

كان هذا هو أول عيد للفصح يحضره المسيح في أورشليم. والعمل الكبير الذي عمله عشية العيد بتطهير الهيكل لفت إليه الأنظار، وصار اسم المسيا على كل لسان. ووقوف رؤساء الكهنة حيارى إزاء العمل الذي عمله في الهيكل دون قبول أو رفض جعل المعيدين من كافة الطبقات تتهافت على رؤياه وسماعه. وكانت الفرصة مواتية لعمل معجزات كثيرة أبهرت الرائين وجعلتهم دون تعمق أو تحقق يؤمنون باسم المسيا الأتي دون أن يتعرفوا على شخص المسيح الذي هو أكثر من مسيا، لذلك كان إيمانهم بالاسم دون الشخص. كان هذا الإيمان في عرف المسيح «إيمان الآيات»، وهو تقريبأ مرفوض لأنه كما سبق وقاله في مثل أخر: «والمزروع على الأماكن المحجرة (قلوب ناشفة) هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح, ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين، فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر.» (مت20:13-21)
‏ويلاحظ القارىء أن القديس يوحنا هنا مهتم بتقديم عينات من الأعمال التجديدية، وليس بصدد ذكر آيات ومعجزات إلا بقدر ما هي عمل تجديدي من القديم إلى الجديد، كما رأيناه في عرس قانا الجليل وفي الهيكل. وهو يمهد هنا للدخول في حوار خطير مع معلم كبير من معلمي إسرائيل بهذا الصدد. هو الأخر رأى الآيات في العيد وتحققق منها وكان يبدو عليه أنه مال ناحية الايمان بالمسيح ولكن معرفته حجزته عن الحق!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
24- لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ.
25- وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ​

كثيرون بالطبع تحمسوا حماساً منقطع النظير، وأرادوا أن يرفعوه إلى المستوى الذي وقف عنده تفكيرهم كنبي أو زعيم! وحتى كمسيا. ولكن المسيح كان يرى أنهم يريدون أن يعملوا شيئاً لأنفسهم هم، أو بالحري أن يعملوا لأنفسهم شيئاً على حسابه، فلم تفت على المسيح نياتهم فلم يأتمنهم على نفسه، وغاب عنهم بالطريقة التي اعتادها.
كثيرون تباروا لكي يقنعوه بصدق نياتهم, وكثيرون شهدوا لكثيرين أنهم صادقون في حماسهم ولكنه لم يكن محتاجاً أن يشهد له أحد عن الإنسان، وما كان في الإنسان، «... فاحص القلوب والكلى الله البار...» (مز9:7‏). «فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب وسأعطي كل واحد منكم بحسب أعماله.» (رؤ23:2‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
24- لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ.
25- وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ​

كثيرون بالطبع تحمسوا حماساً منقطع النظير، وأرادوا أن يرفعوه إلى المستوى الذي وقف عنده تفكيرهم كنبي أو زعيم! وحتى كمسيا. ولكن المسيح كان يرى أنهم يريدون أن يعملوا شيئاً لأنفسهم هم، أو بالحري أن يعملوا لأنفسهم شيئاً على حسابه، فلم تفت على المسيح نياتهم فلم يأتمنهم على نفسه، وغاب عنهم بالطريقة التي اعتادها.
كثيرون تباروا لكي يقنعوه بصدق نياتهم, وكثيرون شهدوا لكثيرين أنهم صادقون في حماسهم ولكنه لم يكن محتاجاً أن يشهد له أحد عن الإنسان، وما كان في الإنسان، «... فاحص القلوب والكلى الله البار...» (مز9:7‏). «فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب وسأعطي كل واحد منكم بحسب أعماله.» (رؤ23:2‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الإصحاح الثالث
‏مع نيقوديموس ليلاً

هذا هو الحديث الأول للمسيح من أحد عشر حديثأ سجلها القديس يوحنا في إنجيله، جاءت معظمها موجهة إلى الرؤساء.
‏من الأصحاح الثاني خرجنا بحصيلة كبيرة, فمن تطهير الهيكل انتهينا إلى أن المسيح عرض عليهم مضمون رسالته: التطهير أو الهدم (سر الموت والقيامة)، فرفضوا التطهير وقبلوا بالقتل.
‏وهنا ندخل إلى الأصحاح الثالث لنتواجه مع واحد من أكبر معلمي إسرائيل، والمسيح يشرح له على مستوى الفعل والعمل نفس السر, سر التجديد بالهدم والبناء, الذي أعلن عنه في الهيكل, بالنسبة للأمة كلها. ولكن, هنا, في مضمون تجديد الفرد هدم العتيق وميلاد الجديد للدخول في هيكل الله, ملكوت الله
‏وعلى وجه الملاحظه، نرى أن من هنا يبدأ إنجيل يوحنا مسيرته بالتوازي مع الأناجيل الأخرى التي تبدأ بالمناداة بملكوت السموات، ولكن عل مستوى التوبة: «من ذلك الزمن أبتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقرب ملكوت السموات» (مت17:4). ولكن هناك «ملكوت السموات» وهنا «ملكوت الله» ‏وسيان.
‏والتوبة كما جاءت في الأناجيل الثلاثة الاولى التي تُدعى باليونانية «ميطانيا»، التي تفسيرها «تغيير» أو «تجديد الذهن» بمعنى «توبوا», هي في إنجيل يوحنا موت وقيامة في مضمون سر «الميلاد الثاني»، وهى «المعمودية بالماء والروح القدس»، حيث في الماء يكون الدفن أو سر الموت، وبالروح تكون القيامة لحياة جديدة. والمعمودية هى درجة متقدمة على التوبة: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس» (أع38:2‏). التوبة رنينها في النفس سهل، مجرد تغيير فكر وأسلوب وحياة، صحيح هي تحتاج إلى حزم وحسم وتصميم ومثابرة, ولكن المعمودية خطرة, تتطلب الموت عن حياة قديمة كشرط أساسي لقبول حياة جديدة مُعانة بالروح القدس. هي حقاً وبالحقيقة هدم وبناء, والهدم صعب للغاية!!!
هنا يصطدم نيقوديموس بحقيقة المسيحية، فيجفل ويصمت، ويظل يتحايل على نفسه ثلاث سنوات حتى غلبها وقبل بالهدم ، فكان الموت وكانت القيامة له وعلى يديه!
‏نيقوديموس يمثل في إنجيل يوحنا شخصية فريدة وممتارة، فهو قمة النخبة المختارة من إسرائيل التوراة والناموس والتلمود والمشناة, وكل علوم الفريسيين بفروعها، الذي جاء إلى المسيح يحمل معه رجاء الأمة اليهودية, وقلق ذوي الحاسية منها الذين يترجون إصلاحاً على مستوى الإمتداد دون أي مساس بالقديم. كان يرى في المسيح «رابي» أي معلم يهودي محترف الناموس والتوراة. صحيح أنه كان من ضمن الكثيرين الذين آمنوا باسم المسيح الذين ذكرهم القديس يوحنا: «ولما كان في أورشليم في عيد الفصح أمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع» (يو24:2). وهذا واضح من قول نيقوديموس في افتتاح حديثه مع المسيح «يا معلم (رابي)، نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه.» (يو2:3)
‏ولكنه جاء بعقلية ومؤهلات فريسى لا يؤمن بالتجديد، ولكن يؤمن بالقداسة التي يحصل عليها الإنسان بالممارسة قليلاً قليلاً، يكون الإنسان فيها صاحب الجهد والمبادرة، وأما الله فيرى ويجازي بالمكافأة.
ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس: [إن المنهج الفريسي يعلم أن الإنسان في مقدوره أن يعمل البر أو لا يعمله، وإن إرادة الإنسان مسئولة عن صنع الحق أو الباطل, وهم يغلفون أنفسهم بقداسة كلها من صنع أنفسهم.]
من هذا نحن نستطيع أن نستشف ماذا كان يرجو نيقوديموس أن يسمعه من «رابي» يسوع المسيح!! فبحسب منهجه الفريسي كان ينتظر أن يتعلم من المسيح ممارسات فائقة على ما تعلمه، يستطيع أن ينمي بها مواهبه ويزداد في بره الشخصى وقداسته, وبذلك يكون مستحقاً أن يكون مواطناً لملكوت السموات التي سمع عنها من فم الرب. وقولنا هذا ليس جزافاً، فالمعروف لدى الفريسيين المدققين أن المسيا حينما يأتي سيكون معلمأ للبر: «هوذا قد جعلته شارعاً للشعوب, رئيساً وموصياً للشعوب» (إش4:55‏)، بل سؤال الذي ركض وراء يسوع جاثياً يوضح أيضأ ذلك: «أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية.» (مر17:10)
‏كل هذه الأنظار والمشاعر كانت تجري في مخيلة نيقوديموس وهو يسترق الخطى ليلاً نحو البيت الذي كان يخلو إليه المسيح بعد عناء النهار الطويل، وهو غالباً البيت الذي تملكه عائلة القديس يوحنا. وقد استقبله المسيح بالترحاب وفتح له قلبه, ولكن المسيح عرف فكر نيقوديموس, كما يقول القديس يوحنا عن قصد وقبل أن يدخل في قصة نيقوديموس مباشرة: «لأنه علم ما كان في الإنسان.» (يو25:2)
أ- الحديث المباشر مع نيقوديموس. (1:3-12‏)
‏وتستمر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالي:
القديم: ملكوت الله بالعلم والممارسات, والمفاتيح مع الفريسيين: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا».
‏الجديد: ملكوت الله بالميلاد الثاني من فوق من الماء والروح.
‏الاستعلان: «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
1:3- كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ.

‏هذا الاسم لم يذكره أحد من الإنجيليين
كان رئيساً لليهود: هذا يعني أنه عضو في المجلس الأعلى للأمة، أي السنهدريم. وكذلك جاء في الآية 10 «أنه معلم إسرائيل»، وهي تقابل «دكتور في القانون» أي في الناموس اليهودي. وباللغة الكنسية عندنا هي «أرخن»، ولكن الأرخن عندنا هو للشعب وليس لرجال الدين، وهي مأخوذة أصلاً من النظام الشعبي اليهودي «رؤساء الشعب» (أع8:4).
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2:3- هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ».

«جاء ليلاً»: لقد تركت في ذهن القديس يوحنا هذه الزيارة «في ظلام الليل» أثراً لا يُمحى، فقد ذكرها له ثلاث مرات في كل مرة يذكر اسمه, وكأنها أصبحت صفة أو لقباً؛ هذا في الحقيقة يكشف عن شعور القديس يوحنا بمدى الحذر أو الخوف الذي اتصف به نيقوديموس. ففي وسط مجمع السنهدريم تقدم نيقوديموس مدافعاً، ولكن بحذر شديد: «قال لهم نيقوديموس, الذي جاء إليه ليلاً, وهو واحد منهم» (يو50:7‏)، وأيضاً بعد إنزال جسد الرب من على الصليب جاء نيقوديموس بحذر أيضاً، ولكن بالتقابل كان التلاميذ قد تركوا المسيح وهربوا!! «وجاء أيضاً نيقوديموس الذي أتى أولاً إلى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مُر وعود نحو مائة مناً» (يو39:19). مع أنه جاء إليه ليلاً أول مرة، جاء وهو مؤمن باسم المسيح أي «المسيا»، ولكن دون علاقة شخصية أو إيمان شخصي فهو إيمان بالاسم, وفي المرة الثانية التي دافع فيها عن المسيح داخل السنهدريم دافع بحذر دون إظهار أي تعاطف مع المسيح، وعند أول مواجهة من الزملاء التزم الصمت؛ أما في المرة الأخيرة، وقد صار تلميذاً بالفعل للرب، إلا أنه أيضاً جاء مع يوسف الذي من الرامة: «ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود.» (يو38:19‏)
‏هذا الحذر والخوف يوضح بكل جلاء أن الإيمان بالمسيح لم يبلغ بعد إلى الايمان «الحي» بابن الله كمخلص حقيقي, حيث يجد الإنسان في المسيح دواء لجبانة الضمير، الدواء الذي يحوله من جبان رعديد كبطرس إلى شجاع صندي كبطرس أيضا: «أنا لست أعرف هذا الرجل». هذا الكلام قاله بطرس عن المسيح!!! أمام جارية!!!، «حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم: يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل إن كنا نفحص اليوم عن إحسان إلى إنسان سقيم بماذا شُفي هذا، ليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأصوات...» (أع8:4-10). وهذا الكلام قاله أيضاً بطرس بعد أن قبل الإيمان الحي بابن الله!!!
‏ولكن أسلوب القديس يوحنا يتعجب له, فهو يقول ويردد القول أنه جاء ليلاً ولا يمكن أن يفرط ويقول كلمة واحدة على جبن الرجل أو إيمانه, ولكن الذي يعرف أسلوب القديس يوحنا يعرف أنه قال هذا عن الرجل وقال أكثر!! فقوله أنه جاء ليلاً وتكراره لذكر الليل كفيل بحسب أسلوبه أن نفهم منه أنه إيمان الظلام، بمعنى أنه لم يعثر بعد على «أقنوم النور»، وأنه لا يزال بعيدأ عن الحب وما يحويه الحب من الإخلاص والثقة والأمانة وعدم الخوف، هذا هو تفسير «الليل» عند القديس يوحنا: «فذاك (يهوذا) لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً.» (يو30:13‏)
«يا معلم ‏نعلم أنك أتيت من الله معلما»: هذا الاعتراف بالمسيح، كونه معلماً, من شخص مثل نيقوديموس هو تقييم كبير لإنسان لم يؤمن بالمسيح بعد كابن الله. وكلمة «رابي» تعني أكثر من معلم باللغة العربية لأنها من جذر كلمة يهودية تعني كبير أو عظيم، وهي عل ثلاث درجات: «راب», و«رابي» و«رابو»، و«رابون» هي أعلاها, هذا اللقب مستحدث مذ أيام مدرسة شماي وهاليل. ونيقوديموس يعطيه هذا اللقب بالرغم من أنه ليس من خريجي مدارسهم: «فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم» (يو15:7‏)، إلا أنه رأى بحسب قياسات علمه أنه كان مستنيراً بالمعرفة الإلهية، وأنه جاء من الله. وهذا تعبير عبري قديم يقيم به الأشخاص الموهوبون. وهو بأسلوب مؤدب خفي يُشرك زملاءه علماء الناموس الذين استمعوا إلى المسيح في رأيه هذا بقوله: «نعلم» بالجمع. وبتعبير من هو مأخوذ بتعاليم المسيح، يصرح بحرارة أن تعليمه من الله مباشرة: «أتيت من الله معلماً»، وهو نفر التعبير الذي يكرره المسيح عن تعليمه: «تعليمي ليس لى بل للذي أرسلنى» (يو16:7). وهذا يتضمن بالفعل أنه مُرسل. ولكن خطأ نيقوديموس أنه يقصر ملامح التفوق الإلهي عند المسيح في حدود «معلم» فقط ( ) ‏التي تأتي في اللاتينية magister حتى ولو كان موهوباً.
«لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه»: وهنا يكمن الخطأ الثاني لنيقوديموس، أنه اعتبر عمل الآيات أنه هو الدليل أن المسيح هو رجل الله. ومعروف أن الرابيين الأتقياء كانوا يجترحون المعجزات ليثبتوا تقواهم وليبرهنوا على صحة تعاليمهم. وهكذا ربط نيقوديموس آيات المسيح بحالة التقوى التي حصل عليها المسيح، على مستوى الرابيين الأتقياء.
‏«إن لم يكن الله معه»: ‏هذا اصطلاح عبري كتابي مذكور بكثرة في العهد القديم: «فظهر له الرب في تلك الليلة وقال له: أنا إله إبراهيم أبيك، لا تخف لأني معك» (تك24:26). وهذا الكلام لإسحق ابن إبراهيم. وكذلك: «فظهر له ملاك الرب وقال له: الرب معك يا جبار البأس» (قض12:6‏), وهذا الكلام لجدعون. وواضح من الإصطلاح أن الذي يكون الله معه، لا يزيد عن كونه مُعانا من الله لإتيان أمر يطلبه الله. إلى هنا توقف إيمان نيقوديموس بالنسبة للمسيح والأيات التي رأها والتعليم الذي سمعه منه. ومنه ترى أنه كان يعيش في جو عالم الفريسيين والربيين، وأنه لم يخرج بإيمانه خارج الدراسات التى تلقاها.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3:3 - فَقَالَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ»

يلاحظ القارىء اللبيب أن المسيح هنا لا يجاوب على كلام نيقوديموس بل أجاب على أفكاره, وهنا أيضاً يلزم أن نلفت نظر القارىء أن يتمعن لماذا قبل أن يدخل القديس يوحنا في سرد قصة نيقوديموس، قال عن المسيح وهو يقصد ما يقول «لأنه علم ما كان في الإنسان».
‏وهكذا وباختصار بالغ يقول القديس يوحنا «أجاب يسوع» فهو يجيب على استسفار نيقوديموس كاشفاً أمام القارىء كيف أن المسيح علم ما كان يجول في فكر هذا الفريسي، وكيفر بحذق المعلم الإلهي يقود السائل المتخفي وراء الألفاظ المنمقة إلى الحقيقة التي يسعى إليها. فنيقوديموس لم يرتقي بتفكيره ولا إلى لحظة لكي يدرك من هو المسيح الذي يتكلم معه على حقيقته، ولكن كان يدور ويلف عسى أن ينال منه معرفة تنفعه وليس إيماناً يعيشه. وكان كل همه أن يزداد معرفة على المعرفة التي عنده والتي يعتز بها أيما اعتزاز! واذ بالرب يرد على أفكاره موضحاً أنه ليس عنده، ولا هو على استعداد، أن يقول أو يعمل شيئاً على ذي قديم، ولكن عمله أن يخلق جديداً، يخلق بدءاً جديداً!! فملكوت الله التي يتمناها نيقوديموس لا يمكن أن يراها، بمعنى أن يعرفها معرفة الرؤيا، إلا إذا وُلد جديداً.
«الحق الحق»‏: هذه البادئة في الكلام عند المسيح تفيد التوكيد أول ما تفيد, ثم تهيىء ذهن السامح والقارىء ليستعد لقبول معرفة جديدة وصعبة نوعاً ما أو أمراً قد أُشكل على الدنيا معرفته سابقاً، وهو بصدد حل هذا الإشكال حلاً نهائياً وجذرياً. فهي بادئة تفيد في الغالب فكراُ جديداً يحمل تعليماً إلهياً يمتد بفكر الإنسان خطوة إلى الأمام والى أعلى، وسيكررها المسيح مرتين في هذا الأصحاح.
«يولد من فوق»: «من فوق» تُترجم أيضاً «من جديد, ثانية» وقد اختلفت المخطوطات القديمة في ترجمتها. فالترجمة اللاتينية ( ) أي يولد ثانية، والترجة القبطية والترجمة السريانية، أخذت بالولادة «الثانية - من جديد» وقد تمشى مع هذه الترجمة كل من الشهيد يوستين، واكلمدنس السكندري، وترتوليان، وكذلك أغسطين وجيروم ومعظ الكتاب المحدثين.
وبعض الشراح ارتأوا أن يتركوا ذلك لحرية المترجم طالما هي تحتمل أكثر من ترجمة أصيلة مثل العالم «باريت»‏. ولكن إذا عدنا لإنجيل القديس يوحنا نفسه وفحصنا اتجاهه الذي يرجحه في المواضع التي ذُكرت فيها هذه الكلمة ‏(31:3, 11:19و23) وتعاليمه عن الولادة من الله (13:1, 1يو29:2, 9:3, 7:4, 1:5)، نتحقق أن المعنى المرجع هو «الميلاد من فوق» معتبراً أنها حادث يبدأ وينشأ من السماء ويتم للانسان بقوى إلهية تفوق فهم وفحص وضبط الإنسان. ولكن لا ننسى أن فهمها عل أساس الميلاد الثاني هو من صميم الكتاب المقدس أيضاً في هذه المواضع (ابط3:1و23, تىطس 5:3‏).
‏ولكن الملاحظ أن نيقوديموس فهمها أنها ولادة ثانية, من جديد، هذا تبادر إلى ذهنه فورا كيف يدخل بطن أمه من جديد!!
«لا يقدر أن يرى ملكوت الله»: ما يقصده المسيح أنه بهذه الولادة من فوق، أي الفائقة عل قدرات الإنسان، يدخل الإنسان في اتصال بالوجود الجديد الفوقاني, أي ملكوت الله, وذلك بكل يقين عن طريق قدرات جديدة ومواهب جديدة. وبدون هذا الدخول في محيط الوجود الجديد, الولادة من فوق, لا يستطيع أن يرى، أي يتعرف عل هذا الملكوت!
‏وواضح الكلام أننا في آدم خرجنا من حضرة الله مطرودين وحُرمنا من رؤيته، فبإمكانياتنا الجسدية التي ورثناها من أدم وقع علينا الحكم الذي وقع على آدم وهو الخروج من دائرة الله وعدم رؤيته. لذلك فلكي نعود ونرى الله، مجرد رؤية، يلزم أن نولد ولادة أخرى ليست من آدم وهي حتمأ وبالضروره من فوق, من الله, حتى بهذه الإمكانيات الجديدة نعود ‏ونرى الله.
«لا يقدر»: أي لا يضب قوة عل الاتصال بملكوت الله سواء كان بالرؤية أو حتى التمتع بالتأمل، والسبب هو العجز الروحي الناتج عن الفساد الأخلاقي الذي جعل الجسد لا يقوى على اللحاق بمطالب الروح ومستواها؛ لأن رؤية الإنسان الطبيعي, الجسدي, محصورة في حدود الطبيعة, الجسديات, فإذا أراد الإنساذ أذ يرى ما فوق الطبيعة, الروحيات, فلابد له من المثيل, الميلاد الروحي, أي ما فوق الطبيعة, «ملكوت الله داخلكم», لتواجه المثيل مع المثيل. هذا هو عمل الله الفائق في روح الإنسان ليمنحه ما هو منه خاصة ليراه أو يحيا معه.
‏والذي يلزم أن ننتبه إليه هنا هو القول القاطع المانع الذي وضعه الرب بالنسبة لمحاولة التطلع إلى ملكوته «لا يقدر»، بمعنى أنه محال على الإنسان أن يرى الله هنا أو هناك دون أن ينال من الله هنا المؤهلات الإلهية التي تجعله يراه كما هو: «ايها الأحباء الآن نحن أولاد الله (الميلاد من فوق) ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا اُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)
‏«ملكوت الله»: يذكرها الفديس يوحنا في إنجيله مرتين فقط وهما اللتان جاءتا متتابعتين في هذه الأية والآية (5)، وقد استعاض عن هذا الإصطلاح بإصطلاح آخر وهو الحياة الآبدية عل مدى إنجيله ورسائله. وقد جاء كثيراً اسم «ملكوت الله» في الأناجيل الأخرى، وأيضا باسم «ملكوت السموات».
والاسم أصلاً عبراني مستخدم في العهد القديم. وهو يعبر في الأدب العبري عن «امتلاك الله»، أو «تدبير وادارة الله»، والله هو الملك الآزلى والأبدي: «الرب قد ملك فلتبتهج الأرض... العدل والحق قاعدة كرسيه» (مز1:97-2)، «الرب قد ملك، ترتعد الشعوب» (مز1:99) وكان من المفروض أن تكون مملكة الله على الأرض منظورة وواضحة، ولكن لأن «الشعوب, الأمم» لا تعبده، لذلك اقتصر على إسرائيل. فإسرائيل, كانت, هي مملكة الله المنظورة على الأرض «الرب عظيم في صهيرن». ولكن لا يزال الله ينتظر خضوع الشعوب وذلك «في يوم الرب».
‏ولكن نشأ في الفكر العبري إحاس طاغ بأن «ملكوت الله» له معنى روحي أعمق من مظاهر العبادة والمعاملات الطبيعية، وأنه «ملكوت غير منظور» في عمق هذه الحياة التي نحياها؛ ثم ظهر في أيام المسيح إحساسى أخر بأن «ملكوت الله» له معنى «أخروي» أي ينكشق إلا في غيبة النظام الحاضر للعالم.
‏أما في العهد الجديد وبالمعنى المسيحي، فقد انبرى ملكوت الله ليأخذ الصدارة في كل تعاليم المسيح ووصاياه وأمثاله كغاية عظمى للانسان في كل حياته وجهاده ومسعاه. لقد كان أول من نادى به بهذا المعنى هو المعمدان (مت2:3‏)، وكرز به المسيح أول ما كرز(مت17:4).
‏وقد صفى المسيح ونقى معنى الملكوت على المستويين الديني والأخلاقي, وحدد الصفات التي يتطلبها الله لداخلي ملكوته ومنها الأتي:
+ التخلي عن كل ضروريات الحياة إذا تعارضت مع الملكوت حتى الأسرة (لو29:18)
+ الإستغناء عن أعز ما للجسد إذا تعارض مع الملكوت، حتى العين واليد والرجل (مر47:9)
+ السهر والمثابرة وربط القلب والفكر بهذه الغاية العظمى (مت1:25-13).
+ الحرمان المؤكد لذوي البر الذاتي الذين يزكون أنفسهم (مت11:8).
+ استحالة دخول الأغنياء المتكلين على أموالهم (مر23:10).
+ الملكوت من نصيب المتواضعين والذين لهم روح الطفولة (مت3:5, مر15:10, يو3:3-5)
‏وفي كل مثل من الأمثلة التي قدمها المسيح عن ملكوت الله كان يتصحح ويتحدد ويتجلى ويتضح معناه أكثر فأكثر.

وقفة قصيرة

وفي التعليم المسيحي، وبمقتض الفهم اللاهوتي لملكوت الله, يمكن وضعه تحت ثلاثة بنود متكاملة.
‏الملكوت في المستقبل, الملكوت في الحاضر، الكنيسة باعتبارها الملكوت.
‏الملكوت في المستقبل: لقد أفصح المسيح في تعاليمه عن هذا البعد للملكوت، وهو البعد المستقبلي، بمعنى انتظار استعلان ملكوت الله بصورة لم نرها من قبل، ولم يتعرض لها هو سابقاً في حديه عن الملكوت. وهو الذي أمر تلاميذه, وبالتالى نحن أيضاً, أذ نطلبه كل يوم «ليأت ملكوتك» (مت10:6). وقد ألمح لهذا البعد الملكوتي في المستقبل بمثل العشر العذارى والعريس الذي يأتي فجأة! أو الزرع الذي ينمو، أو الزران في وسط الزرع الصالح الذي ينتظر الحصاد ليفصل الزوان من الحنطة.
وقد ترسخ هذا البعد الملكوتي في ذهن الكنيسة منذ البدء وهي تنتظر استعلانه بفارغ الصبر، وربطته ربطاً لاهوتياً محكماً لمجيئه الثاني وجعلت هذا الترقب جزءاً من قانون إيمانها مع الدينونة والحياة الأبدية, وميعادها حددته بقيامة الأجساد.
‏ولا يزال الفكر الارثوذكسي على إصراره وإلحاحه بانتظار مجيء ملكوت الله واستعلانه مهما تأخر.
الملكوت في الحاضر: في تعليم المسيح، يشير الرب إلى «حقيقة» أي جوهر هذا الملكوت كحالة فائقة ذات اتصال بالله, أنها قائمة في الحاضر الزمني ولكنها حقيقة مخفية ككنز في حقل وجده إنسان فباع كل شيء واشتراه.
‏فالرب حينما بدأ يكرز، جعل الملكوت في متاول اليد: «قد اقترب» (مت2:3, 17:4). وحينما كان يشفي، كان بحسب تعبيره أن هذا الشفاء تم بأصبع الله، وهذا معناه أنه قد «أقبل عليكم ملكوت الله» (مت28:12). وحينما حاول البعض أن يأخذوا صورة عن مجىء ملكوت الله قال لهم: «ملكوت الله داخلكم» (لو12:17). والذي أضعف تأكيدات المسيح التي تملأ الأناجيل بأن ملكوت الله هو قوة الله في الحاضر الزمني، انشغال الكنيسة الاولى بانتظار مجيء الملكوت قريباً جداً وبأنه على وشك الظهور يوماً بعد يوم.
‏ولكن بقيت توكيدات المسيح بملكوت الحاضر الزمني كأساس راسخ لإعادة فكر الكنيسة وربطه بالحاضر، يقول الوحي أنه «جعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه» (رؤ6:1و9, 10:5)، وقول الوحي: «نقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو13:1‏)، والتي منها يظهر أن ملكوت الله هو حقيقة واقعة امتلكتها الكيسة: «ليس أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس.» (رو17:14)
‏ولكن هذه النظرة في التعليم الارثوذكسي لا تلغي ولا تُغنى عن انتظار الملكوت الآتي بقوة ومجد، حيث يتلاشى الشر الذي يقاوم ظهوره.
‏فالملكوت في الحاضر هو ملكوت الخلاص الذي ظهر وأعلن وقد تم وأكمل, وعلينا أن نستنفذ قوته وبركاته. والملكوت الآتي هو ملكوت الحياة والميراث في المجد العتيد.
ألكنيسة بأعتبارها ملكوت ألله: كان القديس أغسطينوس أول من اعتبر المختارين في الكنيسة الآن المعينين للحياة الآبدية أنهم يمثلون ملكوت الله أو ملكوت المسيح, في مقابل الأشرار الذين تحويهم الكنيسة أيضأ باعتبارهم «مملكة الشيطان». ومرة أخرى وضع المختارين كأنهم «مدينة الله» في مواجهة الأشرار «مدينة الأرض». ولكي نحصل على صورة صحيحة للكنيسة كملكوت الله، يلزم أن نعود إلى العهد القديم حينما كان الله يملك على شعب إسرائيل، فكانت إسرائيل بهيكلها الذي كان يحل فيه الله بصورة منظورة هي ملكوت الله المنظور على الأرض, ولكن كان لاسرائيل ولهيكلها صورة أخرى غير منظورة، صورة روحية حيث كان الله يحيا بالفعل بالروح في قلوب ابائها وأنبيائها وقديسيها, بل كان يملك حقاً على قلوب أتقيائها الذين تركوا لنا سيرتهم المرتفعة في القداسة وطاعة الله المذهلة والحب الالهي المتدفق في قلوبهم. وهذه الأسفار الشعرية, كسفر الأمثال والجامعة والمزامير وغيرها تحكي عن ملكوت الله الخفي غير المنظور الذي كانت تحياه إسرائيل تحت حكم الله وتدبيره.
‏كل هذا انتهى شكلاً وموضوعاً برفض إسرائيل أن يملك عليها الله: «ليس لنا ملك إلا قيصر». بل وامتدت أيديهم إلى فاديهم وملكهم فقتلوه «خذه خذه أصلبه... أأصلب ملككم» (يو15:19‏). أما الذين قبلوه منهم وترجوا أن يملك عليهم ويفديهم فصنع منهم شعبه الجديد, الكنيسة التي خُلقت بتجسد الكلمة وتدشنت بدم صليبه وامتلأت بملء الله يوم الخمسين. وسرعان ما انضم إليها كل الذين كُتبت أسمائمم في سفر الحياة المعينين للحياة الآبدية منذ البدء, فصار فيها من الأباء والأنبياء والشهداء والقديسين ما يفوق الأولين, وعوض لوحي العهد ذوي الأربعة الأوجه, صارت الأربعة الأناجيل المكتوبة حقاً وفعلأ بأصبع الله, وبقية الأسفار الحية التي تشهد كيف قام الملكوت وامتد وكيف جلس الله على عرش القلوب وحكم.
‏وإن كانت الكنيسة لا يعطي شكلها الأرضي المنظور صورة جيدة لملكوت الله بسبب معاثر الإنسان، إلا أن الله العامل فيها بالأسرار غير المنظورة أقام من الكنيسة سماء جديدة. فهو يلد فيها لنفسه كل يوم ألوفاً من خلائقه الروحانية بشكل خالقها وعلى صورته, بالحق, في القداسة والبر, يُلبسهم بيديه ثياب الروحانيين ويطعمهم من جسده ويسقيهم من دمه ويتعهدهم برحمته حتى يصلح كل واحد منهم أن يكون عضوا في جسده، شريكاً في آلامه هنا، وهناك شريك مجده في ملكه الآبدي. وهكذا فإن ملكوت الله يستعلن الآن في الكنيسة بالآلام, وهناك بالمجد.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
4- قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟
أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟».

الحقيقة هنا أن نيقوديموس لا يدعي الجهالة ولا يتوقع بالسخرية على عقيدة الميلاد الثاني، بل هو بكل صدق وأمانة يصور مدى الصعوبة البالغة، التي تبلغ مدى الإستحالة، كون الإنسان ينجح في أن يحصل على بداية حياة جديدة بميلاد جديد. وهذا التصوير, غير المبالغ فيه, أن الميلاد الثاني يساوي دخول شيخ في بطن أمه ثانية ويولد، هو محاولة منه ليدفع المسيح «كمعلم بالحق» أن يشرح له كيف يكون هكذا أو ما هي الوسيلة التي بها يمكن للانسان أن يولد ثانية؟ وهذا رة عليه المسيح ردا مباشراً عل فكره هكذا.
‏وليلاحظ القارىء أنه كما أن المسيح ابتدره بقوله: «إن لم يولد الإنساذ ثانية (أو من فوق)»، هكذا كان رد نيقوديموس صحيحاً ومناسباً: «كيف يولد»؟ وأضاف من عنده تصوره عن استحالة الأمر.
‏وليتمهل القارىء على هذا الفريسي العاتي، ليدرك أعماق إجابته. وعليك أن تتصور معه إنساناً ذا ماض طويل وعريض في التكيف بالعالم والناس والتعود على عادات وأفكار وسلوك مدى ستين سنة مثلاً، كيف يتخطاها، كيف ينساها، كيف يجعلها كأنها لم تكن ليبدأ من جديد وكأنه ما عاش هذه السنين، كيف؟
‏ثم صبراً جميلاً، وفرضاً أنه أمكن أن يمحو هذا محواً وكأنه لم يكن؛ ولكن كيف تبقى له «نفسه» هي هي التي سيبدأ بها، لأن النفس معجونة بصور الحياة منذ أن يعرف الإنسان نفسه، بل انطباع الأيام وحوادث الدهر تختزنها النفس أكثر مما يختزنها الجسد ألف مرة!!! لاحظ أن نيقوديموس يتكلم من عمق أعماق نفسه ومن طول حياته وخبراته التي ما جاء إلى المسيح إلا لكي يعدل فيها ويصحح، ولكن أن يلغيها كلها فهذا أمر جد خطير وغير وارد.
‏ثم لا تسخر من رد نيقوديموس كونه يصور ونفسه وهو يدخل بطن أمه، فهذا هو الجزء الأقل في المشكلة، لأن الجزء الأكبر هو «النفس»، نفسها، كيف يعطيها بدءاً جديداً. فإذا استحال على الشيخ دخول بطن أمه ليولد من جديد، فالإستحالة الأكبر أن يدخل داخل نفسه ليلغي ما صنعته السنين وما خطه الدهر فيها. وبهذا يكون نيقوديموس قد صور, دون أن يدري, القيمة الفائقة للميلاد من فوق مع ما يحويه من غفران ومصالحة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
5- أَجَابَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ.

‏سؤال نيقوديموس هو كيف يولد؟ هل من بطن أمه؟ هنا إجابة المسيح جاءت مباشرة على السؤال, فالميلاد ليس جسدياً بل هو ميلاد روحاني للنفس، ووسائله ليست لحمية لا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله: من الماء والروح. هو ميلاد غير منظور, سماوي.
‏والمسيح يستخدم حرف «من» الذي ترجمه القديس يوحنا في إنجيله باليونانية ( ) أو ( ), ويفيد «من داخل»، أي يدخل الإنسان الماء ويغشاه الروح ويقوم أو يخرج مولوداً جديداً. هنا الروح هو العنصر السماوي الأساسي المختص بـ «فوق»، المعتبر كينبوع أو مصدر الحياة العليا، وهنا تتركز النقلة الكبرى الجديدة للانسان. والأن لماذا الماء؟ فالروح معروف أنه عامل الخلق والتجديد، فما هو دور الماء؟ وحتماً الماء هنا ليس هو ماء المعمدان، بل ماء المسيح الذي مضمونه السري والسرائري هو روح هو سماوي؛ لأننا نعلم تماماً في مفهوم الماء حتى في أوائل معرفة الإنسان والخلق أنه يوجد نوعان من المياه: مياه فوق الجلّد (السماء) ومياه تحت الجلد وهو البحار والأنهار: «وقال الله ليكن جلد (أي سماء) في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك. ودعا الله الجلد سماء.» (تك6:1-8)
‏فالمياه التي حولها المسيح في عرس قانا، حولها من مياه تخدم الأغراض الوقتية إلى خمر يخدم الأغراض الروحانية, أي نقل مفهوم مياه تطهر الجسد إلى مياه تختص بالروح. كذلك في مياه بئر يعقوب نرى المياه التي تخدم الأغراض الجسدية التي أعطاها الانجيل صورة الأغراض الحيوانية الخالصة إذ أضاف على الذين شربوا منها بعد يعقوب وبنيه الماشية أيضاً، إمعاناً في أنها مياه أرضية محضة ليس فيها ما يختص بالبركة ولا بالروح. ولكن هنا يرفع المسيح من مستوى المياه إلى ما فوق الجلد أي ليست مياه أرضية, وهذا يتم بحلول الروح القدس عليها وتقديسها. فتصير مصدراً لانبعاث حياة جديدة ليست أرضية بل روحانية.
‏معروف أن المعمودية ثلاث خطوات أو مراحل: الاول اعتراف بالخطايا، الخطوة الثانية قبول الغفران, الثالثة تغطيس في الماء. هنا تكمل المعمودية كختم توبة. فالتغطيس في الماء هو بمثابة قبول أو الدخول في الموت عن الحياة السالفة، حيث الماء هنا هو بعنصره الأصلي الأرضي أولاً للموت ثم بعنصره الروحي التقديسي السماوي للتقديس، ثم الخروج من الماء استعدادا لحياة جديدة. هنا تكون قد انتهت معمودية الماء ليبدأ عمل الروح القدس وهو إعطاء حياة جديدة للنفس كنسمة حياة من فم الله, تؤهلها للدخول في الحياة الآبدية, أي ملكوت الله, والترائي أمامه. هذا بالإضافة إلى أن بصلاة التقديس على الماء يتقدس الماء ويقدس الجسد حسب قول القديس كيرلس الكبير: [لأنه بما أن الإنسان مكون من جسد ونفس عاقلة، فإنه يحتاج إلى عمليتي شفاء ليصير له ميلاد جديد، لأنه بالروح يتقدس روح الإنسان وبالماء الذي تقدس يتقدس الجسد. لأن الماء بعمل الروح يتحول معدنه إلى مؤثر إلهي غير منطوق به ويقدس كل من يحل فوقهم.]
‏إذن, الميلاد من الماء والروح هو عملية موت عن حياة جسدية سالفة, وتقديس، ثم قبول حياة جديدة مخلوقة بالروح القدس، لتؤهل النفس للحياة مع الله في ملكوته. وليس أبدأ أن معمودية الماء هي عملية تختص بالخارج أو أنها عملية خارجية ظاهرية، بل هي الأساس العميق الذي عليه يعمل الروح القدس في الخلق، لأنه يستحيل أن الفاسد يلبس عدم فساد. فلابد أن تجري أولاً عملية الموت الارادي وبمؤازرة النعمة أيضاً, وذلك في المعمودية , عن حياة جسدية سالفة, بالنية الكاملة والضمير الطاهر؛ وهكذا يمكن التقديس حتى يتمكن الروح القدس بعدها أن يخلق في النفس حياة جديدة بالروح.
‏وبالنسبة لنيقوديموس، فالميلاد من الماء والروح, أمر ليس غريباً ولا جديدا على مسامح نيقوديموس, فكل الذين اعتمدوا على يد يوحنا المعمدان سمعوا من المعمدان أن المسيح سيعمدهم بالروح القدس, وأن معموديته إنما هي التمهيد الالهي, حسب إرسالية الله له, لكي يهيى، العمل لمعمودية المسيح بالروح القدس. فقول المسيح أن تولدوا من الماء والروح هو رنين مسموع في كل أنحاء اليهودية.
‏ولكن للأسف فإن الفريسيين رفضوا معمودية يوحنا: «وأما الفريسيون والناموسيون فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم غير معتمدين منه» (لو30:7). وهكذا قطعوا على أنفسهم فرصة عمل الروح القدس بالتالي.
‏ومعروف أنه بعد قيامة المسيح صارت معمودية الماء والروح تتمان معاً في جرن المعمودية: «لا بأعمال في بر عملناها نحن, بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني, وتجديد الروح القدس.»» (تيطس 5:3‏)
‏وهكذا أصبح الميلاد الثاني من الماء والروح بالسر هو نفسه الميلاد من الله بالوعد.
‏وأخيراً يلزمنا أن نعي تماماً أن المسيح حينما قال هنا بالولادة من الماء والروح إنما يقولها بصورة نبوية إلى حد ما، فمعمودية الروح القدس لم تكن قد بدأت بعد. حتى أن المسيح لم يذكر كلمة «المعمودية» لأن تركيزه كان على الخلقة الجديدة بالروح كنتيجة.
‏«يدخل ملكوت الله»: هنا انتقل المسيح من حالة الرؤية الفكرية أو التعرف على ماهية هذا الملكوت, إلى الدخول فيه، وهو اصطلاح قريب جداً لذهن نيقوديموس، لأن الدخول إلى أرض الموعد: كنعان الأرضية، كصورة مصغرة توضيحية, كانت ماثلة أمام نيقوديموس؛ فكما هو مواطن في أرض الميعاد؛ مطلوب منه أن يكون مواطناً في ملكوت الله. وكما كان للدخول إلى أرض الموعد شروط جسدية (الختانة)؛ هكذا للدخول إلى ملكوت الله شروط روحية (المعمودية).
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
6- اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.

في البداية نود لو يلاحظ القارىء أننا لا زلنا مح فكر إنجيل القديس يوحنا الهادف إلى توضيح استعلان رسالة المسيح، وبالتالي استعلان المسيح من وراء استعلان رسالته. فالقارىء يذكر الأية الاولى: تحويل الماء إلى خمر، وهذا التحويل يشمل تحويل العبادة من الغسلات والتطهيرات بالماء إلى شرب الروح وكأس الخلاص، وفي تطهير الهيكل وضح لنا عملية تحويل الهيكل, مركز العبادة, من صناعة يد إنسان في 46 سنة إلى هيكل جسد المسيح بالقياهة من الأموات، حيث صار جسد المسيح هو الكنيسة مركزا لعبادة بالروح والحق؛ والآن في حديث نيقوديموس دخلنا في مفهوم تحويل الإنسان نفسه من حياة قديمة حسب الجد إلى حياة جديدة حب الروح, بالميلاد الثاني من فوق.
‏والمسيح هنا في هذه الأية يقطع خط الرجعة على نيقوديموس حتى لا يفكر إطلاقأ في الخلط بين خلقة الجسد الأدمية القديمة وخلقة الروح الجديدة. فلا يوجد تطور من الجد إلى الروح، ولا امتداد، ولا تطعيم، ولا تخطي الحدود بالمعرفة, أو بالتقوى, أو بأي عمل يستطيع الإنسان أن يأتيه بقوته أو إرادته أو حتى بمواهبه! فالمولود من الجسد يبقى جسدياً, حسب أصله, والمولود من الروح لم يعد إنساناً جسدياً بعد, بل روحاً أو روحياً, حسب أصله أيضاً.
فالجسد هنا هو العنصر البشري، والروح هو العنصر الإلهي الفائق. ولا يقصد المسيح هنا بالجسدي والروحي: «جسد هو، هو روح» الإتجاه المعتاد بالتعبير عن الجسد «بالمادي»، ولكن الإتجاه في الحقيقة أعمق وأجل، فهو يقصد الإنتهاء إلى «لا شيء» بالنسبة لنهاية الميلاد من الجسد، وبلوغ «الوجود الحقيقي» بالميلاد من الروح، الوجود مع الله للبقاء والخلود، فالمولود من الجسد غريب ونزيل عل الأرض، وزائل، سواء أدرك ذلك في نفسه، أو تلاهى وتعامى عن حقيقة غربته وزواله.
‏أما المولود من الروح فقد دخل المعجزة الإلهية ليدرك وجوده الحقيقي، ويتيقن أنه صار غير مهدد بالزوال, ويحس أنه استوطن السماء بالفعل، ويمارس كل يوم وجوده برجاء حي يتجدد باستمرار.
‏وكل من تأمل في وجوده وحياته وأعماله يدرك حقيقة نفسه إن كان يعيش على لا شيء أو يعيش على رجاء الوجود مع الله، وحينئذ يقيم الميلاد من الروح ويسعى نحوه بكل عزمه وتصميمه.
‏وكما أن الولادة من الجسد تعطي الإنسان صفات جسدية خاصة منها الميل لإشباع رغبات الجسد، هكذا الميلاد من الروح يعطي النفس صفات روحية أهمها الإلتصاق بالله خالقها وإمكانية النزوع إليه من كل الفكر والنفس والقدرة!
‏وبالتالي كما أن الولادة من الجسد تهيء الإنسان للحياة بالجسد في هذا العالم، هكذا الميلاد من الروح, من فوق, يهيىء الإنسان للحياة, فوق, في ملكوت الله: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوة» (كو1:3). ولأن الإنسان أصلاً هو مخلوق من جسد, ونفس عاقلة روحية, أصبحت حاجة الإنسان المولود من الجسد يقابلها بالضرورة حاجة الميلاد من الروح، كما أن تعلق الإنسان بالحياة على الأرض يقابله تعلق الإنسان بالحياة فوق بالروح.
‏إنه نزوع طبيعي في الانسان, بحسب حركة الروح الذي فيه, التي نفخها الله في أنفه, أن يتطلع إلى الخلود والامتداد في الحياة إلى ما هو أعظم وأعلى وأرقى دائماً, وحنين الإنسان إلى الله والسماء والقداسة لم ينطفىء منه قط مهما تكدست الخطية فوق رأسه. الإنسان مخلوق أصلاً على صورة الله والصورة تنزع إلى التقرب من أصلها, كما أن الله يحن دائماً إلى صورته ويودها بقربه. ولو دققنا الرؤية أو تعمقنا الإنسان, ولو أنصفنا في تقييمه، لوجدناه روحاً لا جسداً, الإنسان الذي يحيا بجسده يحيا غريباً عن نفسه النزاعة نحو الروح والله! الإنسان يشقى بجسده بسبب وجود روحه الرقيبة عليه التي تستصغر دائماً من أعماله وأفكاره وميوله حينما تتطلع إلى خالقها.
‏الإنسان لا يستمتع وجوده الحقيقي الذي يشتاق إليه ويتمناه، أو حتى الذي يجهله، ولكن الروح لا تجهل ما لها. فالإنسان يتأوة ولا يعلم ماذا يريد، فقط هو غير راض عما هو فيه، الأفضل دائمأ دائماً غائب عنه, مهما أجهد ذاته للحاق به, وكل ما يحصل عليه يبقى ليس هو الذي له. فالميلاد الروحاني الجديد للانسان هو معجزته التي يعيش على رجائها، مهما كانت مخفية عنه وغائبة عن وعيه, إنه حالما يحصل عليها، يصير هو الإنسان الذي يريده، هو نفسه تماماً، وليس أقل ولا أنملة, ميلاد الإنسان روحيأ من فوق هو بداية الوجود الحقيقي له الذي هو له حقاً، حيث تستقر نفسه على مركزها الثابت الأصيل الذي ليس على أرض الزعازع والأوهام بل فوق. الإنسان المولود من فوق يتشبث بالأبدية فلا يعود الزمن يقلقه ولا توافه الأعمال.
‏ثم ألا ترى، عزيزي القارىء، أن الإنسان ليس حراً أن يختار بين أن يعيش بالجسد أو بالروح؟ لأنه إن لم يعش بالروح, فهو لا يعيش أصلاً وأبداً. أنظر إلى نيقوديموس الذي جاء يطلب الأفضل وهو معلم إسرائيل الأعلى، فاكتشق أنه حقاً وفعلاً لا يعيش!!
‏يقولون إن الإنسان حر، يختار مصيره بنفسه، هذا غش وخداع، فمصير الإنسان هو الذي يقنع الإنسان أن يتخلى عن حريته!! ومصير الإنسان تحدده ماهيته، يحدده كيانه، يحدده أصله الذي انحدر منه والذي فقده على الطريق، فصار بدونه كلا شيء، فإذ هو أصر على حريته صار إلى لا شيء. إن نداء الأم التي تاه ابنها عنها يسمعه الولد وهو على بعد فراسخ وأميال، والإنسان يسمع في أعماقه نداء الله مهما بعد عن الله وطال بعاده.
‏المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح، الجسد لن يوصلنا إلى الله! إن الجسد لا يطيق الله: «محبة الجسد عداوة لله»!! فلكي يقبل الإنسان معجزة الميلاد الثاني من فوق يلزمه حتماً أن يُخضع الجسد لمعجزة الموت: أن يكف الجسد عن أن يحيا لنفسه, ويكف عن أن يقود مسيرة الحياة: «وكان يقتاد بالروح.» (1:4).
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
7- لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ.

هذه الآية مرتبة على سابقتها، أي إذا كان المولود من الجسد يبقى جسداً والمولود من الروح يصير روحاً, إذن، لا تتعجب إذا قلت لك ينبغي أن تولدود من فوق! هذا إذا كنت تريد أن تصير رجلاً روحياً وتتأهل للحياة في ملكوت الله. أو بمعنى أكثر وضوحاً إذا كنت قد جئث إلي لتتعلم كيف تحيا كما ينبغي لإنسان يريد أن يدخل ملكوت الله, فلن تنفعك الأعمال الجسدية كلها, مهما كانت، فهي من الجسد وتؤول إلى الجسد، ولكن يلزم أن تصير إنساناً روحياً تحيا بالروح وليس بالجسد: «فلا تتعجب إذا قلت لك ينبغي أن تولدود من فوق».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
8- اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ.
هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».

‏في اللغة العربية يصير كلام المسيح هنا, الذي يبرهن به على عدم قدرة الإنسان على ملاحقة عمل الروح القدس ومعرفة كيفية عمله, يصير فهمه صعباً نوعاً ما، لأنه في اللغة اليونانية التي كُتب بها الإنجيل واللغة العبرية وهي اللغة الأصلية التي تكلم بها المسيح, يأتي اسم «الروح» مطابقاً لاسم «الريح» حرفياً، بل حتى كلمة «يهب» الريح تأتي من أصل كلمة الريح.
‏ولكن القصد العام من كلام المسيح يمكن تشبيهه بشجرة هادئة وفجأة تجد أغصانها تتحرك وأوراقها تصفق وتسمع صوت الريح يتخللها بوضوح فتعرف أن الشجرة استهدفت لعمل الريح، ولكن لا تعرف من أين أتى الريح ولا إلى أين سيذهب، هكذا كل من وُلد من الروح، تظهرعليه علامات عمل الروح القدس بغاية الوضوح والقوة, في كلامه، في تصرفه, في فهمه، في حبه, في صبره، في اتضاعه، في شجاعته، في حكمته، في رؤيته للأمور الروحية وأمور العالم الحاضر. وباختصار تجده إنساناً آخر غير الذي كنت تعرفه، فتعرف بكل يقين أنه اُستهدف لعمل الروح القدس بالميلاد من فوث.
‏ولكن ليس قصد المسيح أن يوضح أن الميلاد الثاني من فوق يمكن شرحه تماماً، فهذا يبقى سراً لا يمكن أن يعرفه إلا الذي أخذه, ولكن شرح المسيح هو توضيحي يعتمد على المقارنة التي تبقى في حدود الجسديات. فالرياح لا تخرج عن كونها قوة طبيعية مادية: «كما أنك لا تعلم طريق الريح... كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع.» (جا5:11)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
9- فَسَأَلَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»​

فَقَالَ: «اذْهَبْ وَقُلْ لِهَذَا الشَّعْبِ: اسْمَعُوا سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُوا وَأَبْصِرُوا إِبْصَاراً وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمْ بِقَلْبِهِ وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى». (إش9:6-10)

أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّالاِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ. وَهَكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ. (رو25:11-26)


السؤال يطلب توضيحاً، لأن الكلمة «كيف يكون هذا» هي باليونانية: «كيفر هذا يصير أو يتم»، فالسؤال هو عن عملية الولادة الثانية كيف تكون. وفي الحقيقة إنه أمر غير محتمل من هذا المعلم أن يسأل هذا السؤال, لأن المسيح أوضح له أن هذا العمل فائق وهو من اختصاص حركة الروح القدس أي حسب قوانين عمل الله تجاه الإنسان؛ أي بمنتهى الوضوح والصراحة أدخل المسيح عملية الميلاد الثاني من فوق ومن الماء والروح في دائرة اختصاصه هو, أي في محيط معرفته وعلمه فيما يخص عمل الله.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
10- أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا!.

مراجعة بل مساءلة أليمة، يوجهها المسيح بل الله لمعلم التوراة والقّيم على إنارة شعب الله، لا يوجهها لنيقوديموس بل لكل معلمي إسرائيل وفريسييه وكتبته في شخص نيقوديموس. ألم يتكلم الله على فم كل أنبيائه ومختاريه عن عمل الروح في الإنسان وتغييره كلية حتى إنه يصير شخصاً آخر؟
«فأخذ صمؤئيل قنينة الدهن وصب على راسه وقبله وقال... يحل عليك روح الله فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر... وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صمؤيل أن الله أعطاه قلباً آ!! وأتت جميع هذه الآيات في ذلك اليوم، ولما جاءوا إلى هناك إلى جبعة، إذا بزمرة من الأنبياء لقيته. فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم.» (اصم1:10-10)
‏وهل يكون عمل الروح للتجديد وتغيير الإنسان أكثر من هذا؟
«فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه وسط إخوته وحل روح الرب عل داود من ذلك اليوم فصاعداً» (1صم13:16)
‏وهل هذا ليس على مستوى ميلاد ثان للانسان ليحيا بالروح كل أيامه؟
+ ومن جهة الخلق الجديد في الإنسان ألم نسمع من داود النبي نفسه, عندما أخطأ إل الله, كيف صرخ: «قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي» (مز10:51), أليس هذا خلقاً جديداً وبعد التجديد أيضاً! لأنه رأى أن صومه وصلاته وعبادته وتسابيحه لن تغنيه من التجديد والخلق الجديد؟
+ ثم ألم يتكلم حزقيال النبي معلماً وشارحاً عن ما سيتم بالحرف الواحد في أيام المسيا الذي وقف نيقوديموس أمامه ولم يتذكر كلمة واحدة مما قال: «وأعطيهم قلباً واحداً، وأجعل في داخلكم روحاً جديداً, وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم» (حز11:11)
‏أليس هذا ميلادا جماعياً كولادة شعب بمواهب روحية واحدة؟
+ ثم ألم يحزر حزقيال النبي أيضأ الذين يتوانون من مثل هذا التجديد الذي سيمنحه الله في وقته: «اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها (التوبة) واعملوا لأنفسكم قلبا جديدا وروحأ جديدة فلماذا تموتون يا بيت إسرائل» (حز31:18). فبدل أن يركض معلم التوراة والناموس وفي مقدمتهم نيقوديموس لينالوا القلب الجديد والروح الجديد، جاء يسأل بلسانهم «كيف يكون هذا؟»
+ ثم ها هوذا أيضأ حزقيال يجمح عمل الماء مع عمل الروح باعتبار ذلك سر قوة التجديد الذي سيرسله الله لهم على يدي المسيا: «وأرش عليكم ماءً طاهراً فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أطهركم، وأعطيكم قلبا جديداً, وأجعل روحااً ‏في داخلكم» (حز25:36-26)
‏+ ثم هوذا حزقيال أيضاً ينال من الله أمراً صريحاً بأن «يتنبأ للروح أن يهب», وهو بالحرف الواحد نفس الإصطلاح الذي استعمله الرب يسوع: «الريح تهب حيث تشاء...»، حتى صار معلم إسرائيل بلا عذر ان يجهل كيف يكون هذا: «فقال لي تنبتأ للروح يا ابن آدم وقل للروح هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع, وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني, فدخل فيهم الروح, فحيوا وقاموا على أقدامهم, جيش عظيم جداً جداً. ثم قال لي: يا ابن أدم هذه العظام هي كل بيت إسرائيل. ها هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا. قد انقطعنا. لذلك تنبأ وقل لهم: هكذا قال السيد الرب: هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي... وأجعل روحي فيكم فتحيون.» (حز9:37-14).
+ ثم من جهة العهد الجديد الذي وعد به الله، وكيف سيتولى الله بنفسه تعليم الشعب بأن يلقن قلوبهم علم معرفته فلا يحتاجون إلى معلم بعد بل يكون الله هو«المعلم» : «ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا, ليس كالعهد (الأول)... أجعل شريعتي في داخلهم واكتبها عل قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً. ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين اعرفوا الرب، لأنهم كلهم سيعرفوني من صغيرهم إلى كبيرهم, يقول الرب, لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد» (إر31:31-34). أليس هذا هو عهد التجديد وميلاد الإنسان الجديد وعلم الله الجديد؟
+ ثم كيف أن الله يلد أولاداً ويلد مدينة ويلد شعباً ويمخض بهم بالروح ويلدهم؟ كان إشعياء في ذلك واضحاً غاية الوضوح: «بل افرحوا وابتهجوا إلى الأبد فيما أنا خالق، لأني هأنذا خالق أورشليم بهجة وشعبها فرحاً. فأبتهج بأورشليم وأفحر بشعبي... من سع مثل هذا. من رأى مثل هذه: هل تمخض بلاد في يوم واحد، أو تولد أمة دفعة واحدة؟ فقد مخضت صهيون، بل ولدت بنيها. هل أنا أمخض ولا أولد يقول الرب.» (إش18:65-19, 8:66-9)
+ وعن عمل الروح القدس جهاراً وانسكابه بلا كيل، يقول يؤئيل النبي: «ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر, فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى؛ وعلى العبيد أيضاُ وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الآيام.» (يؤئيل 28:2-29‏)
‏فماذا إذا؟ أليس هذا دليلاً على أن معلمي الشعب تركوا تعاليم الله الحية المبهجة وتعزياته التي بلا عدد, نسوها وأهملوها, ففقدوا حاسة الرؤية العقلية والروحية لما انشغلوا بالقوانين الحرفية والوصايا الجسدية. فلما جاء العصر الموعود وتحققت كل وعود الله وظهر المسيا الذي يطلبونه وانسكب الروح, لم يعرفوه. وأمام تحقيق أجمل مواعيد الله وهي خلق الإنسان خلقاً روحيا جديداً بقلب جديد وروح جديد, وقف نيقوديموس يسأل كيف يكون هذا؟؟ بدل أن يقول ها أنذا!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
11- اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا.

‏هنا الآية امتداد للسؤال الإستنكاري الذي طرحه الرب على نيقوديموس موبخاً: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟»
‏هنا يقول الرب: أما أنا فأعلم، ويعلم معي ويشهد عليك كل الذين تنبأوا عن هذه الآيام، وعن عمل الله الذي وعد به والذي هو غريب في عينيك. والمسيح لما يتكلم يتكلم عن مصدر المعرفة والرؤية، ولما يشهد يشهد ومعه الآب الذي أرسله. وان جاءت الكلمات في هذه الأية بالجمع فهي بسبب تعذر القول بالشهادة بالمفرد، فالشهادة الشرعية لا بد أن تكون لأكثر من واحد، لذلك جمع الشهادة والعلم معاً:«نعلم ونشهد».
‏وقد جاءت هذه الآية نفسها مرة أخرى، وفي هذا الآصحاح أيضاً، عن المسيح ولكن بمنطوق الشخص الثالث الغائب: «ما رآه وسمع به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها.» (يو32:3). أما قولنا أن الآب يشهد معه، فهذا يؤكده أيضاً بعد ذلك قول الأية: «ومن قبل شهادته، فقد ختم أن الله صادق.» (يو33:3)
‏ولكن تمشياً مع فكر نيقوديموس الأرضى والمحدود، فمن الممكن أن يكون الرب قد تماشى معه على مستوى رؤيته. فالرب يتكلم وبجواره تلاميذه الذين كانوا سابقاً أيضأ تلاميذ المعمدان، هؤلاء رأوا وعلموا يقيناً ما هو الميلاد من الماء وما هو عمل الروح القدس في الماء ومح الماء. فالمسيح يتكلم ومعه من يعلم ومن رأى ويشهد. وإن كان هذا الفكر لا يلزمنا نحن الذين نعلم من هو الذي يعرف بالحق، ومن هو الذي رأى بالحق!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
12- إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأرضيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟.

«أنا الرب إلهك الذي أسس السموات وخلق الأرض, الذي يداي صورت كل جند السموات ولكني لم أظهرها لك حتى لا تذهب وراءها.» (هو4:13- حسب الترجمة السبعينية)
‏الأرضيات هنا، بحسب لغة القديس يوحنا وحسبما تكون الكلمات صادرة من فم المسيح وتشبيهاته، فهي تعني الأمور الروحية كالميلاد الثاني إنما مشروحة على المستوى الجسدي بأمثال أرضية «كالريح التي تهب»، أو الجسد «كالخبز المكسور»، أو الدم «كالخمر الممزوج في الكأس»؛ فإذا لم يستطع اليهود أن يؤمنوا بالروحيات بالرغم من تجسيدها على مستوى فهم الأرضيات فكيف يؤمنون بها لو استعلنها لهم على مستوى جوهرها السمائي والإلهي؟
‏واضح جداً أن عجز معلم إسرائيل هذا المرموق الذي جاء ليمثل أعلى طبقة متعلمة في إسرائيل, أقول إن عجزه في ملاحقة شرح الرب للميلاد الثاني للانسان من الماء والروح بالرغم من أن الرب أعطاه مثلاً موازياً من الأمور الأرضية، هذا العجز جعل الرب يقتصد جداً في التعمق في شرح الأمور الروحية التي تتبع حتماً الميلاد الجديد والتي تختص بصورة الإنسان ومؤهلاته وكفاءته في رؤية الله والدخول إلى الملكوت، بل وجعله يكف عن الإسترسال في أمور السماء نفسها، وهذا أمر يحز في نفوسنا. هذا التعجيز عينه واجهه بولس الرسول عند الإسترسال في أسرار الروح للكورنثيين: «وأنا أيها الإخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديي ، كأطفال في المسيح سقيتكم لبناً لا طعاماً لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الأن أيضاً لا تستطيعون» (اكو1:3-2). ويرد على هذا الكلام سفر العبرانيين: «لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل وأما الطعام القوي فللبالغين, الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس (الروحية) مدربة على التمييز بين الخير والشر» (عب13:5-14). وطبعأ فإن ما يقصده الرب من قوله «الأرضيات» هو النصيب الذي يتلقاه أولاد الله من الروح هنا على الأرض، مشروحاً بأمثلة أرضية مثل الميلاد من الماء والروح, وهو يختص بالسلوك والحياة هنا. السماويات هي النصيب المعد لأولاد الله في السماء، وهو الجزء الأعظم والأكمل للخلاص الذي بُديء به هنا. لأن الميلاد الثاني وإن كان يحدث الأن في هذا الزمان وعلى الأرض, ولكنه أصلاً وبالنهاية فهو لحساب الملكوت والحياة مع الله.
‏وكلام الرب لا يفيد أنه لن يتكلم أو يعلم عن السماويات عامة، بل الكلام موجه للفريسيين الذين عجزوا عن اللحاق ببداية المسيرة الروحانية بالميلاد (من الماء والروح). فكيف سيقبلون مثلاً الأكل من الجسد والدم الإلهيين، أو «أنا والآب واحد»، أو الفداء بدم ابن الله، أو القيامة من الأموات، أو الصعود والجلوس عن يمين الآب؟
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
ب- الحديث الغير مباشر مح نيقوديموس (13:3-21‏)
وتستمر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالي:
‏القديم: الحية النحاسية المرفوعة على خشبة، والمريض الناظر إليها يشفى من عضة الحية.
الجديد: «هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الآبدية».
‏الاستعلان: موت ابن الله على الصليب.
‏القديم: ظلمة الأعمال الشريرة, بغضة النور, الدينونة.
الجديد: الإقبال إلى النور بأفعال الحق المعمولة بالله .
‏الاستعلان: «النور جاء إلى العالم».

13- وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.

يقول بعض من الشراح إن الكلام مع نيقوديموس قد انتهى عند الآية السابقة (12‏)، ولكن معظم الشراح قالوا بانتهاء الحديث مع نيقويموس عند الأية (15‏). وربما يكون بعض الآباء قد أخذوا بهذا الفكر, ولكن لا يوجد قط ما يبرر هذا وذاك. فكلام المسيح واضح ومسترسل، بل ومتحمس لكي يعطي نيقوديموس أقصى ما يمكن من عناصر التجديد والحياة الآبدية التي جاء من أجلها.
‏ويلزم هنا أن ننبه ذهن القارىء لبداية حديث نيقوديموس بقوله: «يا معلم نعلم أنك أتيت من الله مُعلماً..». هنا في الواح يقسم نيقوديموس نظرته للمسيح إلى جزئين: الاول: شخص المسيح, والجزء الثاني: رسالته .
‏وعلى هذا القياس، كان رد المسيح المسترسل الطويل. فبدء كل زي بدء هو أن المسيح لم يجىء معلما يعلم بعلم أفضل, بل جاء ليعطي حياة أفضل, من فوق حيث أتى, فهو لا يعلم علم الملكوت بل يلد من روحه، من السماء، أبناء جدد للملكوت. أما من جهة شخصه أنه أتى من الله معلما فقد رد المسيح أنه نزل من السماء, بعمل سيشرحه حالاً, (الإرتقاع على الصليب والبذل والحياة الآبدية)، وسيصعد إلى السماء, ليبقى هناك. لأنه هو من هناك! وهكذا يستمر المسيح.
‏كذلك ينبغي أيضاً أن ننتبه، لأن الميلاد الذي جاء المسيح ليعطيه «من فوق», هذا الذي صعب على نيقوديموس فهمه وتفسيره، سيبدأ المسيح ليوضح له سهولة الميلاد من فوق كونه هو«من فوق» وكون ارتفاعه (على الصليب) سيعطي الحياة الأبدية التي هي عنصر الحياة في الميلاد من فوق. لهذا ينبغي الإلتفات إلى الترابط بين عناصر الحديث، لأنها غاية في العمق.
‏تبتدىء الآية هنا بحرف «و» وهي تصل الكلام بالسابق مع إعطاء فكر جديد يفوق في قوته. ما ذُكر سابقاً. فالمعنى في جملته يكون هكذا: ولو أنه يوجد من لا يصدق أمور السماء، ولكن الذي يتكلم هنا عن أموو السماء هو من نزل من السماء، ابن الإنسان (بالتجسد) وهو اصلاً في السماء! إلا أنه لن يمكث على الأرض كثيراً فهو سيصعد إلى السماء كما كان. والكلام يحوي معاني أخرى داخل مضمون هذا النزول والصعود وهي أسرار السماء، ويلزم أن ننفتح لقبولها كما أنه يلزم أن نفتح أعين قلوبنا لإدراك من هو هذا: «ابن الإنسان» الذي نزل من السماء لنتعرف عليه شخصياً لأنه سيوضح نفسه بأعماله.
‏«ليس أحد صعد إلى السماء»: «دصعد» هنا الفعل في المضارع التام الذي يفيد الحدوث المكتمل والمستمر إلى الآن. ولذلك أضاف «ابن الإنسان الذى في السماء (الآن)»، ويلزم هنا أن نذكر ما سبق أن قاله القديس يوحنا: «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر».
‏والمعنى أنه ليس إنسان قط استطاع أن يرتفع إلى مناطق الحق العليا ليتحقق منها، ولا أحد أيضأ أُعطيت له أسرار السموات إلا «ابن الإنسان» الذي يحمل في كيانه البشرية كلها ويمثلها تمثيلاً. فهو وحده عنده معرفة الحق المطلق بجملتها، ليس كمن يستقبلها أويتعلمها، بل هي تنبع فيه كمن يمتلكها. وهو لما صعد إلى السماء، لا يكون كمن يرتفع، أو يُرفع، فهو يحمل مجد الصعود في ذاته, لأنه هو على الأرض ليس كمن يقيم أو يستوطن بل كزائر نزل من السماء لمهمة ورسالة, بالتجسد، فالسماء هي وطنه. لذلك فأمور السماء كلها هي معرفته الخاصة، وليس كأنه يتعرف عليها كشيء ليس له، فهي صورة من حياته جاء ليورثها لنا. وهنا فعل «الصعود» تم مرة واحدة مكتملة الفعل.
«نزل من السماء»: ‏«نزل» وهو فعل في زمن الماضي البسيط. ويلزم أن ننتبه أن قوله «نزل من السماء» هو التعبير الذي يتجسم لنا في قوله: «والكلمة صار جسداً» حيث جاء الفعل «صار» وهو أيضأ في زمن الماضى البسيط, كتعبير عن صحة حدوث التجسد في صميم الزمن. غير أن زمن الماضى البسيط لا ينفي استمرارية النزول، ولذلك جاء نفس الفعل في أية أخرى في زمن المضارع المستمر الذي يفيد دوام النزول، لأن التجسد أو النزول فعل حدث ولا يزال حادثاً وقائماً إلى الأبد.
«لأن خبز الله هو النازل من السماء، الواهب حياة للعالم» (يو33:6), يلاحظ ها أن النزول في حالة الدوام, وموطن صاحب هذا الجسد هو السماء أصلاً: «ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء».
‏وكأنما الرسالة الأصلية للمسيح التي نزل إليها من السماء هي ليعطينا جسده, على الدوام, خبزاً حقيقياً لنحيا به, على الدوام. أما الذين يعرضون عن هذا الخبز الحقيقي المحيي ويرفضونه، فحجتهم هي هذه: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه فكيق يقول هذا إني نزلت من السماء» (يو42:6)، «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكله؟» (يو52:6‏). هذه هي عثرة «إتضاع المسيح»!! «وطوبى لمن لا يعثر فيّ.» (يو42:6‏)
‏وليلاحظ القارىء أن «النزول من السماء» هو اصطلاح خاص بالله في العهد القديم: «... ويكونوا مستعدين لليوم الثالث، لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء» (خر11:19)، «فأنزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب.» (عد17:11)
‏وتعتبر الآية التي نحن بصددها: «... إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان, الذي هو في السماء» شرحاً مبسطاً غاية التبسيط للتجسد على أساس آيات العهد القديم التي ذكر فيها «نزول الله» ولكن استبدل فيها «ابن الإنسان» بدل كلمة «الله»» بسبب «ظهور الله في الجسد» (اتي16:3). فإذا علمنا أن الذي «نزل من السماء» هو ابن الله حنئذ تتضح الآية: «لأني نزلت مز الساء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني.» (يو38:6)
‏والأن إذا انتبهنا إلى مفهوم «النزول من السماء» بصورته العامة، نرى أن نزول ابن الإنسان في هذه الآية التي نحن بصددها (13‏) لا يختص فقط باستعلان أسرار السماء بل توصيل رسالة الخلاص والحياة الأبدية، أو باللغة التي تناسب نيقوديموس إعطاء الدخول إلى ملكوت الله.
‏كما يلاحظ أن هذه الأية (13‏) لو دققنا في مشتملاتها من حيث رسالة النزول ورسالة الصعود, نجد أنها تجمع كل أعمال المسيح: التجسد, أعمال الفداء والخلاص حتى الصعود. لذلك لا نستغرب أن الآية التي تأتي بعدها مباشرة (14) تتكلم عن أول فعل من أفعال الخلاص وهو الصليب, ولكن في صورة «ارتفاع». تعبيرا عن المجد الذي سيليه حتماً وذلك باستخدام رمز الحية.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
14- «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ.
15- لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.

(لقد راجعنا الآباء في ما قالوه عن الحية النحاسية غير اننا لم نعثر على كبد الحقيقة. فالقديس يوستين في حواره مع تريفو عندما سأله تريفو اليهودي عن هذا الرمز كان جوابه: [أنا لا أستطيع أن أعطي جواباً في هذا لأني طالما سألت معلميني فلم يعطوني جوابأ شافياً]. ويقول ‏القديس أمبروسيوس: [إن حيتي هي حية صالحة لأنه لا يخرج سم من فمها بل الدواء الشافي] في شرحه للمزمور143
‏يقول أوريجانومس: [إن الحية النحاسية هي الشبه للمخلص، وكنه لم يكن هو الحية لكنه كان يمثلها].
‏القديس غريغوريوس النيسي يشرح ذلك مطولاً فيقول: [إن الناموس يوضح لنا أن المنظور على الصليب كان على شبه الحية, ولكن لم يكن حية كما يقول بولس الرسول: «في شبه جسد الخطية» (رو3:8) لأن الحية الحقيقية هي الخطية, والذي يلجأ للخطية يأخذ طبيعة الحية. فالإنسان أُخلي من الخطية بواسطة الذي أخذ شكل الخطية وصار على شكلها وهو الذي تغير بشبه الحية]. وقد حذا حذوه ذهبي الفم وثيئوفيلس الأنطاكي
‏ويقول القديس إبيفانيوس أسقف قبرص نفس الفكرة تقريبأ وأضاف: [إن الحية كانت تمثل المسيح. فاليهود حينما عاملوا المسيح كأنه حية، فقد أصابهم سم الحية أي الشيطان. وحنئذ جاء الشفاء للذين عضتهم الحية حينما رُفعت الحية)
القديس أغسطينوس يقول: [إن رفع الحية هو موت المسيح].)


‏هنا بداية عمل ابن الانسان، شرحها المسيح على مستوى فكر نيقوديموس معلم إسرائيل:
‏ويمكن شرح الموضوع هكذا: قصة سقوط الإنسان بدأت بالحية التي استطاعت أن تسرب الخطية القاتلة للانسان. وقد أفلح الناموس (التوراة) على يد موسى (عد7:21) أن يصور بالرمز الخلاص المزمع أن يتم للانسان المسموم بشوكة الموت, أي الخطية التي هي من صنع الحية. فانتهز موسى فرصة انتشار الحيات المحرقة أي التي تتلمظ بلونها الضارب إلى الحمرة كالنار المحرقة, التي ترمز إلى جهنم, التي بدأت تفتك بالشعب غليظ الرقبة جزاء تمرده على الله مرة ثانية كأبيهم أدم. فأقام مومى بمشورة الله الذي يصور أشباه السمويات وظلها، تمثال حية نحاسية حمراء وأقامها على عود من الخشب عالياً في وسط الشعب؛ وأمر أن كل من تلدغه حية, عليه فقط أن ينظر الى الحية بإيمان فيشفى.
‏فالحية، كرمز، هي حاملة الموت؛ ولكن تمثال الحية النحاسية، هو حية ميتة, سمها مقتول. هكذا اختار الله أن تكون الحية النحاسية هي رمز المسيح الذي أخذ خطية الانسان ككل في جسده ومات بها، فقتل الخطية بالجسد. لهذا يقال أن المسيح أمات الموت!! ودان الخطية بالجسد, أي حكم عليها حكماً مؤبداُ بالعدم حينما مات بها ثم قام. وبقيامته أعطانا الصليب الذي صُلب عليه كصك ينص حكم إعدام الخطية, وموت الموت حتى نُشهره أمام الضمير، وفي يوم الدينونة العتيد. فالآن، الذي ينظر إلى الصليب والجسد عليه ميتا، مؤمناً بما صنع المسيح بالخطية، فهو يحيا «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده ‏على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر» (1بط24:2)
‏فلكي نفهم كل سر رفع الحية النحاسية في البرية, يلزم أولاً فهم الحقيقة التي قام عليها هذا الرمز قديماً. أي أن موت المسيح على الصليب وما تم بسببه من الخلاص والحياة من موت محقق, هو الذي يشرح معنى رفع الحية النحاسية في البرية. أي أنه يلزم قراءة الأية من الآخر كالآتي: «ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان, كما رفع موسى الحية في البرية»، لأنه بدون سر الحياة التي تمت بموت المسيح على الصليب, يبقى مثل الحية النحاسية المرفوعة في البرية لغزاً يستحيل حلة.
«هكذا »ينبغى» «أن يرفع» ابن الإنسان».
‏كلمة «ينبغي» ضعيفة في تعبيرها عن المقصود في الأصل اليوناني, فكان الواجب أن تكون الترجمة «يتحتم». ولماذا يتحتم؟
‏في الحقيقة إن استخدام كلمة «ابن الإنسان» هنا هي تعبير مكشوف من التجسد، فيلزم للقارىء أذ ينتبه دائماً حينما يقابل كلمة «ابن الإنساذن» أن يترجمها في ذهنه إلى ما تم في التجسد، وخاصة اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح. فلأن ابن الله «تجسد», أي صار «ابناً للانسان»، فهنا سر الضرورة الحتمية أن يتألم أي يرتفع على الصليب؛ لأنه لم يتجسد إلا لكي يتألم بالجسد ويموت ليتم الخلاص للانسان: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة»! (يو27:12) ولكن لأن الجسد متحد باللاهوت، فبمقتضى لاهرت ابن الإنسان أصبح من المحتم وبالضرورة أن يقوم ابن الإنسان ويرتفع، أي يصعد إلى السماء حيث كان!
‏ولكن لأن أسلوب القديس يوحنا في التسجيل عميق غاية العمق ومتسع غاية الإتساع، وكل ذلك في اختصار بالغ الشح، استخدم هنا بلسان المسيح «الإرتفاع» لكي يشمل الإرتفاع على الصليب في ألم، ثم بالتال الإرتفاع أي الصعود إلى السماء في مجد.
‏والآن إذا عدنا لقراءة الآية مرة أخرى من الأول: «وكما رفع موسى الحية في البرية...» يظهر المعنى القوي المقصود وهو أنه كما حدث الشفاء للذين عضتتهم الحية في البرية عندما رفع موسى الحية النحاسية، «هكذا يتحتم أن يُرفع ابن الإنسان» ليحدث الشفاء من الخطية والموت الذي من صنع الحية القديمة.
‏لاحظ أن في «الرفع» سواء كان للحية النحاسية أو المسيح يكمن سر الخلاص.
«لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية»:
‏لا زلنا ننظر، بالتوازي، شعب إسرائيل في البرية وهو منطرح على الأرض جثثاً هالكة من سم الحية، ولكن كل من أطاع وامن ونظر إلى تمثال الحية النحاسية عاش.
‏المنظر هنا يعود ويصور المسيح مرفوعاً, في لغز, لأن ميعاد الصليب لم يحن بعد, والكلام لنيقوديموس. فكل من يرفع قلبه بالإيمان إليه ينجو من الهلاك الأكثر من هلاك سم الحية المحرقة، الذي يورد الجسد إلى العطب، لأن هلاك عدم الإيمان بالمسيح يغلق على الإنسان في حضن الحية القديمة (إبليس) التي تمتص منه رحيق الحياة أولاً بأول، ولا ينتظر بعد الموت إلا الموت، حيث نشيد الهاوية: «إذا رجوت الهاوية بيتاً لي وفي الظلام مهدت فراشي، وقلت للقبر أنت أبي وللدود أنت أمي وأختي, فأين إذاً آمالي، آمالي من يعاينها؟ تهبط إلى مغاليق الهاوية إذ ترتاح معاً في التراب.» (أي13:17-16)
«تكون له الحياة الأبدية»:
‏الذي كان ينظر إلى الحية النحاسية كان يقوم ويحيا، تماماً وهكذا من بالإيمان ينظر إل المسيح تدب فيه عناصر الخلود, وتنسحب منه قوى الموت والفساد فلا يسود عليه الموت بعد، لأنه بعد الموت تكون له الحياة الأبدية!!
‏ويلذ لنا أن نتأمل في أسلوب الأية البديع في قوله «تكون "له" الحياة الأبدية»، وليس مجرد «يحيا إلى الأبد» وكأن الحياة الأبدية لم تعد منة أو حسنة من حسنات الله, بل تصبح الحياة الأبدية له وكأنه يمتلكها, فتحل كل بركاتها عليه. وبأسلوب القديس بولس الرسول لا يمتلكها فقط بل «يرثها»!!
 
أعلى