لقد ظن بطرس في نفسه أكثر مما ينبغي أن يظن. ظن أنه بعودته إلى مركزه في الجماعة الرسولية بهذا السخاء، ونواله صك تكريم الشهادة بين الشهداء، أن يسود على الجماعة ويقود. وكان أول اختباره على القديس يوحنا، نده في الحب وفي القربى, فكان بطرس يتلهف على أن يعرف مستواه بالنسبة لموقع هذا التلميذ الآخر بين الرسل التابعين وبين الشهداء المكمين، فابتدر الرب بالسؤال «وهذا ما له؟». يقصد: أنا عرفت موقعي وبدايتي، وهذا ما نصيبه؟ فكان السؤال برمته خارج اختصامه بل وخارج اللياقة؛ ورحم الله امرئاً عرف قدر نفسه!! فلقد كان وقع السؤال عند الرب موقعاً غير حسن وهل يُسأل الرب عن مشيئته؟
الرد هنا عميق ومتشعب! يضرب في الواقع، ويضرب حتى إلى منتهى الزمن؛ يكشف عن إلوهية متفوقة، وسلطان على الزمن وعلى الموت والحياة، وعلى مصائر الناس وأقدارهم. فالمسيح يستعلن وجوده القائم والدائم، وكيف يقبض على زمام الكنيسة في تحركها عبر الزمن برسلها وأبائها وأنبيائها, يحدد أيامهم ويقيس أعمارهم بخطة تنتهي حتماً بمجيئه.
كان سؤال بطرس يختص بمشيئة المسيح قبل أن يختص بحياة يوحنا، لأن حياة رسول لا تحددها الأقدار المحتومة، بل مشيئة الله المحتومة التي لا يفك ختومها إلا المسيح، مضيفاً عليها، أو مختزلا منها كما يشاء؛ لأنه كالآب يُحيى من يشاء!
وقول المسيح: «إن كنت أشاه أنه يبقى إلى أن أجيء», ليس هو افتراضاً للجدل، بل هو حق قائم بالحقيقة. فالذي أقام لعازر من الموت بعد أن أنتن، أعسير عليه أن يُبقي يوحنا لا يموت؟ والذي قام من بين الأموات ناقضاً الموت وأوجاعه, أكثير عليه أن يفصل بين يوحنا والموت؟
ولكن هل قالها الرب كمجرد رد لبطرس كي لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي؟ أم يقصد بها قصداً يلوح بإجراء ينوي أن يأتيه؟
لم يكن سؤال القديس بطرس نابعاً من ذاتية تتحرق شوقاً لمعرفة مصائر الرسل، بقدر ما كان يشعر أنه يمثل في كنيسة الله حركة ناشطة وعملاً, هما من واقع طبيعته التي هذبها له المسيح لتعمل على مستوى الروح.
وكان يشعر أن القديس يوحنا يمثل الحب الهادىء الوديع المتأمل والمتأجج كالنار شديدة الفعل بطينة الحركة. فكان بطرس يصبو أن يدرك في يوحنا مسار هذه القوة الفعالة، كما أدرك هو في نفسه مسار حركته التي ستنتهي بالشهادة! كانت غيرة بطرس من يوحنا كغيرة مرثا من مريم. لقد ضجت مرثا من قعود أختها تحت رجلي المسيح تسمع كثيراً ولا تعمل شيئاً؛ بينما هي قد هدها الجهد وأجهدتها الحركة في أعمال كثيرة لخدمة ضيافة الرب. وأخيراً انفجرت، لا في مريم، بل في المسيح تؤاخذه بصراحة: «يا رب اما تبالى بان اختي قد تركتني أخدم وحدي، فقل لها أن تعينني» (لو40:10). فكان الرب لها لائمأ، ولسلوكها مؤاخذاً، وعلى أسلوبها معنفاً، مع أنه كان يحبها، وأعطى لمريم الطوبى لأنها اختارت النصيب الصالح «الذي لن يُنزع منها.» (42:10)
وهنا تجيء كلمة: «لن يُنزع منها» بالنسبة لمريم موازياً ومطابقاً لقوله لبطرس بالنسبة ليوحنا: «أنه يبقى حتى أجيء». فحياة القديس يوحنا ومنهجه وأسلوبه، واضح أنه يمت بصلة وثيقة لأسلوب مريم ومنهجها. فكل منهما اختار المحبة والاستماع إلى «الكلمة» والتأمل فيها واتباع الرب من كل القلب، وكلاها فاز بإعجاب المسيح واستحوذ على محبته. وهذا كان بالنسبة لمريم «النصيب الصالح الذي لن ينزع منها»، وبالنسبة ليوحنا كان يشاء أن يبقى إلى الأبد. ولكنه، فيما يبدو لنا، أن المسيح أبقى على منهجه وإنجيله يحياه عاشقوه في كل العالم عوضا عنه إلى أن يجيء. وأليست الرهبانية الباقية إلى الأبد صورة لحياة يوحنا؟ هذا هو القديس يوحنا وهذه هي حياته الهادئة التي تحياها له الكنيسة ولسوف تحياها له الرهبنة إلى الأبد!
أما بطرس فليس له أن يتذمر، فالرب سبق وثبت اسمه وثبت إيمانه النشيط الشجاع العامل في الكنيسة، على نفس المنوال والى الأبد: «أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت18:16), وها هي الكنيسة تحيا إيمانه, فتزلزل أبواب الجحيم كل يوم.
لقد استؤمن بطرس على مفاتيح ملكوت السموات، وأما يوحنا فاستؤمن على أسرار السماء ذاتها واطلع على كل ما هو عتيد أن يكون، وشاهد السماء الجديدة والأرض الجديدة، وقاس مع الملاك أورشليم السماوية، وعاين عرش الله، وتعرف على كل الأجناد السماوية!
والآن: «بطرس» مات وإيمانه لا يزال يتكلم بعد! ... و«يوحنا» مات ولا يزال حبه يُسبح به تسابيح الأزل...
«فماذا لك؟ أتبعني أنت»: ليس من شأن القديس بطرس أن يتابع حياة الرسل الآخرين، إن حدود مسئوليته تقف عند اتباعه هو للمسيح وحسب. فإن عاش يوحنا حتى مجيء المسيح فهذا ليس «له» ولا يخصه، وإن مات شهيداً أو بغير شهادة، فهذا أيضأ ليس له، يكفيه هو أن يتبع المسيح. هذا الرد ينفي أن يكون المسيح قد أعطى لبطرس حق الرئاسة على الرسل ولا حتى الإشراف أو القيادة. الرب أعطى بطرس أن يشدد إخوته عندما يرجع من محنته بعد أن ذاق مرارة الإنكار وحيرة الجحود. فكما تثبت إيمانه بصلاة الرب عنه، هكذا كان ينبغي أن «يثبت» بإيمانه إخوته عن اختبار.
ولقد كان بطرس حقاً عموداً ثابتاً وقوة مركزية ذات إشرع وسط التلاميذ. وقد أبدى شجاعته في مواجهة رؤساء الكهنة وعنف سلوكهم واتهمهم علنا وبكل قوة بتحمل جرم قتل المسيح «رئيس الحياة قتلتموه» (أع15:3)، حتى ضج منه رؤساء الكهنة واستصرخوه ليكف عنهم: «فلما أحضروهم، أوقفوهم في المجمع, فسألهم رئيس الكهنة قائلآ: أما أوصيناكم وصية أن لا تعلموا بهذا الاسم، وها أنتم قد ملأتم أورشليم بتعليمكم وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان. فأجاب بطرس والرسل وقالوا: ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس. إله آبائنا أقام يسوع الذي أنتم قتلتموه معلقين إياه على خشبة, هذا رفعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً، ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا.» (أع27:5-31)
كان بطرس بالنسبة للكنيسة قلبها الخفاق، ولسانها الناطق، وروحها الوثابة، جريء جرأة الأسد، لا يلين ولا يهادن في مواجهة النظام اليهودي وعتق الرئاسة الكهنوتية. فاستطاع أن يحفظ «الكيان الرسولى» مستقلاً عن سطوة النظام اليهودي، فجعل له مكانة لا تقل عن مكانة السنهدريم وسلطانه، وعلى يديه بزغ نجم الكنيسة الأولى في فلسطين مبشراً بشروق شمس المسيحية على العالم كله.
«أتبعني أنت»: وكانت كلمة المسيح هذه لبطرس هي آخر كلمة قالها المسيح بحسب إنجيل يوحنا، والمعتقد أن بعدها اختفى عنهم! وهي لم تُكتب لبطرس فقط، بل كدعوة لكل قارىء وسامع.
المعنى الذي دافع به القديس يوحنا عن الخطأ الذي ارتكبه الإخوة (التلاميذ) بقولهم أن القديس يوحنا لا يموت، ينتهي بنا إلى فهم حقيقة أراد القديس يوحنا أن نفهمها دون أن يكتبها، وهي أن بقاءه إلى أن يجيء المسيح شيء وأنه لا يموت شيء آخر؛ أو بمعنى أخر أن بقاءه إلى أن يجيء المسيح لا يستلزم حتماً أن لا يموت؛ أو بمعنى أوضح، أن بقاءه إلى أن يجيء المسيح يمكن أن يكون حتى ولو مات, وهذا ما اعتبرناه لغة القديس يوحنا السرية التي قصد بها قيام ودوام الكنيسة الروحية التأملية المتبتلة، التي تحيا روح روح القديس يوحنا وانجيله من بعده، تسبح المسيح وتمارس الحب والتصوف, أي الحياة بحسب أسرار الروح التي يمثلها إنجيل القديس يوحنا وتمثلها الحياة الرهبانية الحية المتعففة, والمتخصصة في الصلاة والتسبيح، والتي ستبقى إلى أن يجيء الرب!!
ويحاول بعض شراح إنجيل القديس يوحنا أن يتخذوا من دفاع هذا القديس عن ضرورة موته، أذ كان قد مات بالفعل. ولكن الرد على هذا أنه لو كان قد مات فما هي الحاجة للدفاع من ضرورة موته؟
وأيضا فالآية القادمة (24:21) توضح بأجلى بيان أن القديس يوحنا الذي قال هذا، كاذ ما زال حيآ وأنه هو الذي كتب هذا وشهد بهذا!! وأنه بقوله هذا، يكون قد نقل هذه القضية لحكم الزمن والتاريخ, إن كان هذا الأمر سيحدث من عدمه!
وكما كان القديس بطرس يترقب كل يوم الضيف الذي سيمنطقه ويحمله حيث لا يشاء: «عالماً أن خلع مسكني قريب، كما أعلن لى ربنا يسوع المسيح أيضاً» (2بط14:1)، كذلك كان القديس يوحنا يشتهي كل يوم مجيء الرب ليحمله على السحاب. هكذا كتب بيده خاتمة سفر رؤياه، ردا على ما جاء على لسان الرب في الرؤيا: «أنا آتي سريعاً. آمين. تعال أيها الرب يسوع.» (رؤ20:22)
هذه الآية تبرز شخصية القديس يوحنا كتلميذ، ورسول, وشاهد لحياة المسيح وموته وقيامته، ثم كاتباً لهذا الإنجيل، ملقياً بكل ثقله ومؤهلاته السابقة للتصديق على كل ما جاء في إنجيله.
وبصورة سرية ومبدعة, ينقل كل هذه المؤهلات من شخصه لإنجيله، فهو يقدم لنا إنجيلاً يحمل ختم التلمذة المدموغة بالحب والأمانة والصلة الفريدة بالمسيح؛ ويحمل ختم الرسولية المستودع فيها كل أسرار المسيح التي اطلح عليها بصفة خاصة جدا، لا نعلم إلا بعضا من أسبابها وخصوصيتها بسبب شخصيته المحافظة المقترة في الشرح والمحجمة عن الإسهاب!
ويحمل ختم الشهادة, ولا نقصد هنا شهادة العين بل شهادة الروح. وشهادة الروح هى الحق، لأنها تقوم على الاستعلان، أى على رؤية ما لا يُرى، بتدخل المشيئة الإلهية لازدياد المعرفة.
«نعلم أن شهادته حق»: القديس يوحنا يدرك الأصول التقليدية اليهودية في الشهادة، فهى لا تستقيم بواحد يشهد لنفسه حيث تكون شهادته ليست حقاً. هذا قاله المسيح نفسه عن نفسه سابقاً: «إن كنت أشهد لنفسي, فشهادتي ليست حقاً» (يو31:5), ولو أنه عاد ونفى أن يخضع لمقولة يهودية وهو ابن الله: «وإن كنت أشهد لنفسي ، فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت والى أين أذهب... لأنى لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني.» (يو14:8و16)
فالقديس يوحنا يعطي شهادته بصورة الجمع: «نحن نعلم»، فمن هم «نحن»؟ لقد تهرب الشراح من تفسير هذه الآية. ولكننا بصورة مبدئية، إذا عدنا إلى كيفية وظروف كتابة إنجيل يوحنا, نرى أن التقليد يقول إن بعض الرسل (كما يذكر نص للعلممة اكلمندس الإسكندري، ووثيقة موراتوري) مع بعض الأساقفة فيما حول أفسس، كانوا العامل المحرك للقديس يوحنا بمحاولتهم المتكررة ورجواتهم له أن يكتب إنجيله. هنا يقول بعض الشراح إن هؤلاء في مجموعهم يحملون مسئولية التصديق الأخير، فقد أعطاهم القديس يوحنا أن يكتبوا, عن أنفسهم, هذا المقطع من الآية: «ونحن نعلم أن شهادته حق».
ولكن ليست هذه هي الحقيقة, لأننا إذا عدنا إلى أسلوب القديس يوحنا في الكتابة عن نفسه فيما يخص المسيح والحق، نجده دائمأ يتكلم بصيغة «الجمع» معتبرا نفسه جزءاً لا يتجزأ من جسم الجماعة الرسرلية بكاملها، أي الكنيسة المعاصرة للمسيح والشاهدة له. لذلك نجده قد استهل رسالته الأولى بهذه الشهادة الجماعية هكذا:
+ «الذي كان من البدء، الذي سمعناه, الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا, من جهة كلمة الحياة.» (يو1:1-1)
وعلى هذا المنوال ظل يكتب الرسالة كلها بصيغة الجمع من أول آية إلى آخر آية:
+ «ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً.» (ايو4:1)
+ «ولكن نعلم أنه إذا اُظهر، نكون مثله، لأننا سنراه كما هو.» (ايو2:3)
+ «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الإخوة.» (ايو14:3)
+ «ونن قد نظرنا ونشهد, أن الآب قد أرسل الابن مخلصا للعالم.» (1يو14:4)
+ «نحن نحبه, لأنه هو أحبنا أولاً.» (1يو19:4)
+ «ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية.» (ايو20:5)
إذاً، فواضح من هذا كله، ومن خاتمة إنجيل يوحنا التي أتت بصيغة الجمع هذه، أن شخصية القديس يوحنا نفسه تقف تماماً وراء هذه الشهادة التي ختم بها إنجيله كما هي في رسالته أيضاً.
وهكذا يتبين للقارىء أن موضوع شك العلماء في أن القديس يوحنا هو الكاتب لهذه الخاتمة، هذا الفرض الذي استنبطوه من هذه الآية, أنه هو نفسه موضوع اليقين عندنا بكل يقين!!
العجيب في هذه الآية أنها تكشف أنه لا يزال فكر القديس يوحنا ووعيه الروحي بعد المائة سنة التي بلغها من عمره يحتفظ بهذه الصور ال****ة من أعمال الرب وكلماته، وما تشعه في قلبه من معان، والتي يهذ بها في ليله ونهاره. والقديس يوحنا لا يلجأ إلى التهويل ليصف ضخامة الحصيلة الروحية التي يعيها من حياة المسيح وأعماله، ولكن الأعماق التي تتوالى في ذهنه من خلف كل حادثة، والعمق منها ينادي عمقاً، هي التي صورت له كيف تضيق الدنيا بعجائب المسيح! وهل يمكن أن يتسع العالم لمعطيات الله وملكوته؟ (انتهى فى 22/8/1989)
ما كنت يا عزيزي القارىء أود أبداً أن انتهي من شرح إنجيل القديس يوحنا ، فعلى مدى سنوات ثلاث كاملات عشت في نعيم هذا السفر، أستمتع كل يوم بل كل ساعة بأضوائه التي تبهر النظر الروحي. ولكن الذي يعزيني أن الرب قواني بالرغم من ضعفي ووهن إمكانياتي لكي أنقل للقارىء شيئاً من ذخائر نعمته في هذا الإنجيل، ليعيش فيها، ليس ثلاث سنوات بل الحياة كلها.