كلمة "حل" تأتي في اليونانية ( ). وأصل الكلمة مأخوذ من كلمة الخيمة. وهكذا فهي تشير
إلى السكنى أو الحلول كما يضرب الإنسان خيمة على الآرض.
ثم تأتي كلمة "بيننا" لتزيد معنى الإقامة في خيمة وسط شعبه، إشارة إلى الحياة التي سيحياها على الأرض. فهي لا تعني السكنى فقط بل الإقامة والمعيشة. والحياة في الجسد كما في خيمة هو تراث فكري يهودي نسمع عنه من بطرس الرسول "عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضاً (2بط 1 : 14)", وكذلك عند بولس الرسول «لأننا نعلم أنه إذا نقض بيت خيمتنا الأرضي (الجسد) فلنا في السموات بيت من الله الله غير مصنوع بيد أبدي» (2كو 1:5)
ولكن قصد القديس يوحنا الأساسي من ذكر هذا التعبير, أي الحلول في الخيمة, هو رفع أبصارنا إل ما صنع «يهوه» الرب قديماً عندما حل في خيمة الإجتماع وسط شعب إسرائيل.
"ثم غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع." (خر34:40-35)
"لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم بل كت أسير في خيمة وفي مسكن" (2صم6:7)
وبهذا يكون القديس يوحنا قد ربط بين حلول يهوه قديماً في خيمة الإجتماع وسط الشعب حيث ملأ بهاؤه المسكن، وبين حلول الكلمة في خيمة جسده الذي لم يستطع أذ يخفي بهاه عن أصحاب العيون المفتوحة "ورأينا مجده" بالرغم من الإخلاء الظاهري الذي أجراه في ذاته ومن اتضاع هيئة جسده.
والعجيب أن الروح لا يتركنا بلا توضيح، فالنبوات لم تترك حتى هذا الحلول والسكنى في أخر الأيام دون إشارة، فنسمع عنه من زكريا النبي «ترنمى وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا أتي وأسكن في وسطك يقول الرب.» (زك10:2)
هذا من جهة الحلول « في وسطنا».
كما يعطيا حزقيال النبي صورة أخرى للحلول «من فوق»: «ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لى شعباً« (حز27:37)
ولا نستغرب قوله: «مسكني فوقهم»، فهذا في الواقع كان موضع سكنى يهوه الرب العظيم داخل خيمة الإجتماع فوق "الغطاء" على التابوت. وغطاء التابوت هذا له شأن عظيم جداً سواء في اللاهوت العبري القديم, وكان اسمه عندهم «الشاكيناه» وهو "السكن" أي "موضع السكنى", وطبعا دون ذكر اسم الله احتراماً وتوقيراً, أو في اللاهوت الطقسي في الكنيسة القبطية(الايلاستيريون) .
"وصنع غطاء من ذهب نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف، وصنع كروبين (الشاروبيم) من ذهب... وكان الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق مظلين بأجنحتهما فوق الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الأخر" (خر6:37-9). وقد حدد الله مكان تواجده عل هذا الغطاء هكذا:
2- «كَلِّمْ هَارُونَ أَخَاكَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى الْقُدْسِ دَاخِلَ الْحِجَابِ أَمَامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى التَّابُوتِ لِئَلَّا يَمُوتَ لأَنِّي فِي السَّحَابِ أَتَرَاءَى عَلَى الْغِطَاءِ. (لا2:16)
22- وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (خر22:25)
وفي العبري تترجم "الايلاستيريون" بـ »الكابوراة», ويترجمها بعض العلماء بكرسي الرحمة, إشارة إلى مركز المسيح الشفاعي؛ ولكن معظم العلماء المدققين يربطون معناها بالكفارة وليس بالشفاعة, لأن المعنى الجذري في العبرية يقوم على الذبيحة، فهو معنى ذبائحي ينسجم مع الكفارة وليس الشفاعة. لأن رئيس الكهنة يدخل مرة واحدة في السنة في يوم الكفارة إلى قدس الآقداس لينضح من ذبيحة الخطية على الكبوراة أي غطاء التابوت أي الإيلاستيريون. وبولس الرسول يقطع بأن المسيح قد صار هو الايلاستيريون وقد تخضب بدم نفسه فصار الكبوراة الإلهية والكفارة الدائمة (رو25:3).
من هذا يتضح أن عبادة يهوه قديماً ارتبطت بخيمة الإجتماع وحلوله فيها وكان مركز خيمة الإجتماع الأقدس هو التابوت، وأقدس ما في التابوت هوغطاؤه حيث يسكن يهوه بصفة دائمة، كما يُفهم من الآيات السابقة.
وفي اللاهوت العبري، يعتبر الغطاء هذا أو الشاكيناه هو موضع «سكن» يهوه المقدس الدائم سواء في ترحاله قديماً أو إقامته الدائمة في الهيكل. وقد قدس العبرانيون اسم الشاكيناه »السكن» وجعلوه عوض اسم الله أو "الحضرة الإلهية"، فجاءت الترجمة العبرية للآية: «ويجعلون لى مُقدساً (هيكلاً) لآسكن في وسطهم» (خر8:25) في الترجوم هكذا: «وسأجعل الشاكيناه تسكن في وسطهم». لذلك فإن قول القديس يوحنا: "وسكن بينناً" كان يهدف بقوة إلى لفت أنظارنا إلى الحضرة الإلهية أو موضع سكناه في القديم.
وقد التقط آباء الكنيسة القبطة الآوائل هذا الوضع الفائق والممتاز لغطاء التابوت, الشاكيناه, (السكن)، وجعلوه تعبيراً عن الجسد، وجعلوا العذراء القديسة مريم هي الغطاه الذهب الذي حل عليه الله، أو سكنت فيه الحضرة الإلهية.
غير أن بولس الرسول استخدم لفظة "الغطاء" بمعنى الكفارة في الآية: "الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه" (رو25:3)، وهي الكلمة العبرية الأصل "كبوراة" المسماة أيضاً "كرسي الرحمة".
من ها جاءت النبوة «ويكون مسكي فوقهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لى شعباً» (حز27:37). فإنجيل لوقا يسجل لنا كيفية مدخل الكلمة إلى الجسد الذي حل فيه هكذا: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله« (لو35:1). فهنا واضح أنه بدأ سكناه هكذا «يحل عليك» وبدأ مجد الله وقوته تخيم «فوق» جسد البشرية الممثل في العذراء القديسة الثيئوتوكس.
ويحلو لنا أن نكمل بأن ترحال يهوه قديماً «ساكناً» وسط شعبه، من خيمة إلى خيمة ومن موضع إلى موضع مع الشعب التائه أربعين سنة, وفي العبور الإعجازي للأردن، حيث التابوت كان يتقدم المسيرة، ثم الإقامة الساخطة في وسط شعب متمرد غليظ الرقبة الذي أعطوه القفا دون الوجه جزاء ترحاله المضني معهم هذه السنين كلها، أخيراً وأخيراً جداً استقر في "جسد الإنسان: الشاكيناه الحقيقي والحضرة الحقيقية لله" التي وثق أعمدتها في السماء وعلى الأرض: «وليس أحد صعد إل السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3) ليعيش فينا ومعنا دائمأ وإلى الأ بد "وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر." (مت 20:28).
واضح أن «حل بيننا» بمفهومها المنطبق على سكنى الحضرة الإلهية في الجسد عل مستوى خيمة الإجتماع لا بد أن يرافقها استعلان المجد. وها يقدم القديس يوحنا شهادته كواحد من الذين رأوا هذا المجد.
وكلمة »«رأينا» باللغة اليونانية تتبع مجموعة الرؤية غير العضوية التي ليست بالعين بل بالإيمان للاستعلان. فكلمة «يرى» باليوناية عند القديس يوحنا وردتعل ستة تركيبات تختلف في اللفظ بعضها عن بعض، بينما هي تأتي في الترجمة العربية بتركيب واحد: «يرى»، أما في اليونانية فهي تنقسم إلى ثلاث مجموعات كل منها له موضع خاص للتعبير عن نوع من الرؤيا الخاصة, ولفظة ( ) هنا تتبع الرؤيا الخاصة بالاستعلان، سواء بخصوص حادثة أو لشخص المسيح نفسه الذي يستعلن ذاته من خلال كلماته وأعماله. وهذا النوع من الرؤيا لا يتبع الرؤيا الروحية التي للروحيين, التي يروا بها ما لا يُرى، ولكنها هنا رؤية الايمان البسيط الذي يستعلن الحق بمقدار ما يعلن الحق ذاته. وهذا كان سلوك المسيح العجيب، الذي كان يعمل ويتكلم مُعلناً الحق الذي فيه، الذي كل من كان عنده حاسة الإيمان كان يقبله ويؤمن، لأنه كان يرى الحق الذي فيه. وهذا النوع من الإيمان أو رؤية الإيمان لا يحتاج في الحقيقة للرؤية العينية وهو الذي نص عليه المسيح بقوله لتوما: »لأنك رأيتني يا توما أمنت، طوبى للذين أمنوا ولم يروا" يو29:20). هذه الطوبى المدخرة في رؤيه الإيمان بلا عيان وهي التي بقيت لنا حتى اليوم كما يقول بطرس الرسول: "الذي وأن لم ترونه تحبونه, ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد."(1بط8:1)
هنا يتحتم علينا أيها القارىء العزيز أن نوضح قيمة رؤية الايمان غير العيني, إذ أنه أصلاً قائم على رؤية علنية منظورة ومحسوسة إذ كانت تخص الكلمة المتجسد, هذه الرؤية العلنية التي ارتفعت عندهم إلى رؤية غير معتمدة على النظر والسمع، هذه هي الرؤية الإيمانية الصرف, التي سلمها الرسل للكنيسة، فصارت هي أساس الإيمان القويم غير المعتمد على المشاهدة ورؤيا العين، ولكن بقي الرسل هم أساس هذا الإيمان الوحيد. لذلك نحن نؤمن بالرسولية الكنسية عن حق وأصالة وضرورة حتمتها رؤيتهم القائمة على الرؤية العينية والمشاهدة واللمس التي اختصوا بها وحدهم دون جميع من رأوا الرب, لهذا صار الإيمان الرسولي المؤسس على ( ) هو ذخيرة الكنيسة، التي عليها نعيش، وبها نمسك كمن يمسك بالحياة الأبدية.
وهذا الأساس الرسولى الإيماني القائم على الرؤية الإيمانية غير العينية يضعه القديس يوحنا الرسول موضع الشهادة الرسولية، لكي يعتمد بختم رسول: «ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مُخلصا للعالم» (1يو14:4), «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة... » (1يو1:1). لذلك نستطيع بكل يقين أن نقول أن الإيمان غير العيني القائم على الرؤيا الصادقة هو إيمان تاريخي بالدرجة الاولى، له جذر تاريخي عاينه الرسل وعاشوه, لأن الله ظهر في الجسد وفي التاريخ. لهذا فكل من بلغ بالحقيقة إل رؤية الرسل هذه لابن الله يكون قد بلغ الرؤية الأمثل بكل تأكيد، أي يكون قد واجه معجزة التجسد ووضع يده على الجسد ورأى وشاهد ولمس، وذلك من خلال إيمان الرسل وشهادتهم, لذلك لم تصبح معجزة التجسد حبيسة تاريخ جيل الرسل, لقد استطاع الرسل بالرؤيا الغير عينية أن يجعلوا معجزة التجسد معجزة كل جيل, لتد أخرجوها من حيزها التاريخي إلى ما هو فوق التاريخ وبعده.
ولعل أقوى المواضع التي ذكر فيها كيف شوهد المجد علناً وعياناً هو حادثة التجلي، ولو أن القديس يوحنا لم يذكرها مع أنه كان أحد ثلا ثة شهود لها، وقد سجل هذه الحادثة كل من الآناجيل الثلاثة: «أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل ليصلي, وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضاً لامعاً, وإذا رجلان يتكلمان معه وها موسى وايليا, اللذان ظهرا بمجد, وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم, وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم, فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه. وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يا معلم جيد أن نكون ههنا، فلنصنع ثلاث مظال لك واحدة ولموس واحدة ولإيليا واحدة. وهو لا يعلم ما يقول, وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم فخافوا عندما دخلوا في السحابة, وصار صوت من السحابة قائلآ: هذا هو ابني الحبيب, له اسمعوا» (لو28:9-35)
وفي هذا الحادث نلتقط عدة أمور تهمنا في شرح الأية التي نحن بصددها:
1- "أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب". 2
2- "صارت هيئة وجهه متغيرة" يقول عنها القديس متى في إنجيله: «تغيرت هيئته (تجلى)، واضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور.» (مت2:17)
3- "موسى وايليا اللذان ظهرا بمجد"
4- «فلما استيقظوا رأوا مجده».
5- "فلنصع ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة".
6- "كانت سحابة فظلتهم". يقول عنها القديس متى الإنجيلي أنها "سحابة نيرة"
7- "وصار صوت من السحابة قائلأ: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا".
ونحن إذا عدنا إلى الحادثة المماثلة في العهد القديم مع موسى، نجد الآتي: «فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل وحل مجد الرب عل جبل سيناء وغطاه السحاب... وكان منظر مجد الرب كنار آكلة" (خر15:24-17). ففي هذا المنظر وكل مناظر استعلان مجد يهوه الله في العهد القديم نجد أنه بمجرد اقتراب الله من الشعب، أو بالأكثر من موس وهارون، أو اقتراب موسى وهارون أمام الله، كان يصاحب ذلك ظهور واستعلان مجد الله! فإن كان الأمر هكذا في القديم فكم وكم بالحري بعدما اقترب الله ثم اقترب ثم تواجه مع الإنسان داخل الانسان كيف لا يستعلن مجده فيه!
وإن حادثة التجلي تجمع الظهورين معاً والمجدين معاً: مجد الآب في السحابة النيرة التي ظللتهم مع صوته الأتي من المجد الأسنى، مع مجد الابن ونور الكلمة يغشى »الجسد» فيجمل الوجه يضيء كالشمس.
ثم علينا أن نعود إلى ذاكرة القديس بطرس لنسمع منه ما يتذكره عن حادثة التجلي هذه بعينها: "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. (2بط16:1-18)
واضح من هذه الشواهد أن القديس يوحنا حينما قال: "ونحن" فهو يقصد الخاصة جداً من تلاميذه وهم الثلاثة الذين كان قد انتخبهم مم الاثنى عشر ليطلعهم على سر مجده هذا، كما أطلع موسى سابقاً عل الجبل في سيناء، حيث تقول النبوة أنه «سيراه كل بشر» (إش 5:40)
وقد يظهر تعارض في قول النبوة قديماً على فم إشعياء النبي بخصوص هذه الرؤية وهذا المجد "عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عُفي عنه أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها. صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلً لإلهنا. كل وطأة يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيمأ والعراقيب سهلاً. فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر معاً لأن فم الرب تكلم" (إش 1:40-5)
ولكن كان دأب الأنبياء أن يختصروا الزمن اختصاراً، فآلاف السنين تصير غداً أو سريعاً، لأن الرؤيا تكون في وهج شدتها متجمعة معاً وليست موزعة على السنين والأجيال. وقد تم بالفعل الجزء الاول من الاعلان عن مجد الرب, ورأه الأخصاء والمقربون والمختارون والمفديون، فمجدوا صاحب المجد. أما الجزء الثاني من الإعلان عن مجد الرب فهو مؤجل للجزء الباقي من البشرية حينما يرونه في مجيئه الثاني، في ملء مجده ومجد أبيه مع ملائكته (مت 30:24 , رؤ7:1).
وقوله: «رأيناه» فهو يتكلم عن رؤيا غير عادية كانت تحت سحابة نيرة، أي في الحضرة الالهية، التي تطابق حضور "يهوه" قديمأ على جبل سيناء في السحابة التي ظللته. وهنا إشارة سرية إلى التعرف على شخصية المسيح. وحضور موسى وإيليا في التجلي بمجد هو إشارة ضمنية إلى قوله: «مشهودأ له من الناموس (موسى) والأنبياء (إيليا)» (رو 21:3). وكلمة "بمجد" بالنسبة لموسى وإيليا تفيد ارتفاع كرامة الناموس والأنبياء في أشخاص مُمثليهما موسى وإيليا.
وقوله: «ورأينا مجده» فهو يقصد مجد «الكلمة بعد أن صار جسداً» أي يسوع المسيح. وقد اتضح من تسجيلات حادثة التجلي أنه فعلاً تغيرت هيئته الجسدية ولمع وجهه كالشمس وابيضت حتى ثيابه كالنور. ويصف القديس بطرس هذا المجد الذي رأه على الجبل أنه عاين عظمته، أي جلاله وقدرته، وأنه أخذ من الآب كرامة ومجداً: "مجد كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقاً".
هنا فإن تكرار كلمة «المجد» هو بقصد التركيز ولفت الإنتباه لكي لا نتوه في تواضع «الجسد» أو في مضمون الإخلاء. فالمجد مًعلن ومنظور للعيون التي لا يلزمها الإخلاء والتي أدركت حقيقة «الكلمة» اللوغس، مهما تنازل وأخذ منظراً: «هكذا مُفسداً أكثر من الرجل» حسب قول إشعياء النبي (14:52). لأن خطيئتنا هي التي حتمت على العين الضعيفة أن تراه «لا منظر(له) فنشتهيه» (2:53)
أو ليس "الكلمة" اللوغس هو صوت الله ونداؤه, وهو قوله وأمره، فكيف نسمع صوت الله من فم اللوغس ولا نحس بالمجد المحاط به، هذا إذا أحسئا الرؤيا؛ لأنه حتى اليهود العاديون لمحوا في كلامه مجد الله وسلطانه «لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (مت29:7)!! أو بمعنى متقدم قليلاً عن الآية, إن المجد الذي رأوا ما هو إلا حب الآب منطبعاً عليه فلم يستطع أن يخفيه, واستطاعوا هم أن يستشفوه من فيض النعمة التي كانت عليه والحق الخارج منه الذي يهز كيان الإنسان الروحي.
وهذا المجد الذي رأوه فيه الذي هو حب الآب المنطبع عليه هو هو الذي جعل من الذين قبلوه أولاداً لله, أي أن هذا الحب نفسه أو المجد نفسه لما آمنوا به أدخلهم في مجاله فصاروا أولاد الله أي الحائزين على الحب الآبوي.
ونلاحظ أنه بظهور الكلمة في الجسد صار استعلان المجد الذي فيه. وقول القديس يوحنا أن هذا المجد لمحوه وتيقنوا من أنه مجد ابن وحيد لآبيه أو بالحري هو مجد الآب للابن الوحيد، هذا يوضح لنا سرا من أخطر الأسرار، أن استعلان المجد في الكلمة المتجسد كشف في الحال سر الأب والابن فيه، فبالرغم من أنه ظهر كابن، ولكن المجد كان مجد الآب في الابن. وهذا أيضاً صار كل من يرى الابن برؤية الإيمان فإنه يرى الآب بالضرورة، لأن مجد اللاهوت في الابن يشمل معه مجد الآب بآن واحد بدون شرح ولا توضيح: "الذي راني فقد رأى الآب." (يو9:14)
القديس يوحنا يجمع هنا جملة ما رآه وسعه واختبره مع الخاصة من التلاميذ ويؤكد ذلك بقوله: "ونحن", فهو سمع بنفسه الرب يسوع المسيح يخاطب الأب عن مجده الخاص له عند الأب (يو5:17 و 24)، بل وسمع الأب يوافق بأنه «مُجد وسيمجد أيضاً (يو28:12)، بل وسمع ورأى هذا المجد في حادثة التجلي المذكورة سابقاً, بل شاهد وعاين وشهد لأعمال الرب يسوع المسيح التي تنطق جيعها بمجده وأوضحها عرس قانا الجليل ومعجزة تحويل الماء خمراً التي بها أظهر المسيح مجده لتلاميذه فآمنوا به. هذا ولا ننسى المجد الذي عايشه القديس يوحنا مع كوكب الصبح المنير يسوع المسيح نفسه في سفر الرؤيا: «ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها.» (رؤ 16:1)
واضح أن «حل بيننا» بمفهومها المنطبق على سكنى الحضرة الإلهية في الجسد عل مستوى خيمة الإجتماع لا بد أن يرافقها استعلان المجد. وها يقدم القديس يوحنا شهادته كواحد من الذين رأوا هذا المجد.
وكلمة »«رأينا» باللغة اليونانية تتبع مجموعة الرؤية غير العضوية التي ليست بالعين بل بالإيمان للاستعلان. فكلمة «يرى» باليوناية عند القديس يوحنا وردتعل ستة تركيبات تختلف في اللفظ بعضها عن بعض، بينما هي تأتي في الترجمة العربية بتركيب واحد: «يرى»، أما في اليونانية فهي تنقسم إلى ثلاث مجموعات كل منها له موضع خاص للتعبير عن نوع من الرؤيا الخاصة, ولفظة ( ) هنا تتبع الرؤيا الخاصة بالاستعلان، سواء بخصوص حادثة أو لشخص المسيح نفسه الذي يستعلن ذاته من خلال كلماته وأعماله. وهذا النوع من الرؤيا لا يتبع الرؤيا الروحية التي للروحيين, التي يروا بها ما لا يُرى، ولكنها هنا رؤية الايمان البسيط الذي يستعلن الحق بمقدار ما يعلن الحق ذاته. وهذا كان سلوك المسيح العجيب، الذي كان يعمل ويتكلم مُعلناً الحق الذي فيه، الذي كل من كان عنده حاسة الإيمان كان يقبله ويؤمن، لأنه كان يرى الحق الذي فيه. وهذا النوع من الإيمان أو رؤية الإيمان لا يحتاج في الحقيقة للرؤية العينية وهو الذي نص عليه المسيح بقوله لتوما: »لأنك رأيتني يا توما أمنت، طوبى للذين أمنوا ولم يروا" يو29:20). هذه الطوبى المدخرة في رؤيه الإيمان بلا عيان وهي التي بقيت لنا حتى اليوم كما يقول بطرس الرسول: "الذي وأن لم ترونه تحبونه, ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد."(1بط8:1)
هنا يتحتم علينا أيها القارىء العزيز أن نوضح قيمة رؤية الايمان غير العيني, إذ أنه أصلاً قائم على رؤية علنية منظورة ومحسوسة إذ كانت تخص الكلمة المتجسد, هذه الرؤية العلنية التي ارتفعت عندهم إلى رؤية غير معتمدة على النظر والسمع، هذه هي الرؤية الإيمانية الصرف, التي سلمها الرسل للكنيسة، فصارت هي أساس الإيمان القويم غير المعتمد على المشاهدة ورؤيا العين، ولكن بقي الرسل هم أساس هذا الإيمان الوحيد. لذلك نحن نؤمن بالرسولية الكنسية عن حق وأصالة وضرورة حتمتها رؤيتهم القائمة على الرؤية العينية والمشاهدة واللمس التي اختصوا بها وحدهم دون جميع من رأوا الرب, لهذا صار الإيمان الرسولي المؤسس على ( ) هو ذخيرة الكنيسة، التي عليها نعيش، وبها نمسك كمن يمسك بالحياة الأبدية.
وهذا الأساس الرسولى الإيماني القائم على الرؤية الإيمانية غير العينية يضعه القديس يوحنا الرسول موضع الشهادة الرسولية، لكي يعتمد بختم رسول: «ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مُخلصا للعالم» (1يو14:4), «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة... » (1يو1:1). لذلك نستطيع بكل يقين أن نقول أن الإيمان غير العيني القائم على الرؤيا الصادقة هو إيمان تاريخي بالدرجة الاولى، له جذر تاريخي عاينه الرسل وعاشوه, لأن الله ظهر في الجسد وفي التاريخ. لهذا فكل من بلغ بالحقيقة إل رؤية الرسل هذه لابن الله يكون قد بلغ الرؤية الأمثل بكل تأكيد، أي يكون قد واجه معجزة التجسد ووضع يده على الجسد ورأى وشاهد ولمس، وذلك من خلال إيمان الرسل وشهادتهم, لذلك لم تصبح معجزة التجسد حبيسة تاريخ جيل الرسل, لقد استطاع الرسل بالرؤيا الغير عينية أن يجعلوا معجزة التجسد معجزة كل جيل, لتد أخرجوها من حيزها التاريخي إلى ما هو فوق التاريخ وبعده.
ولعل أقوى المواضع التي ذكر فيها كيف شوهد المجد علناً وعياناً هو حادثة التجلي، ولو أن القديس يوحنا لم يذكرها مع أنه كان أحد ثلا ثة شهود لها، وقد سجل هذه الحادثة كل من الآناجيل الثلاثة: «أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل ليصلي, وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضاً لامعاً, وإذا رجلان يتكلمان معه وها موسى وايليا, اللذان ظهرا بمجد, وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم, وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم, فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه. وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يا معلم جيد أن نكون ههنا، فلنصنع ثلاث مظال لك واحدة ولموس واحدة ولإيليا واحدة. وهو لا يعلم ما يقول, وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم فخافوا عندما دخلوا في السحابة, وصار صوت من السحابة قائلآ: هذا هو ابني الحبيب, له اسمعوا» (لو28:9-35)
وفي هذا الحادث نلتقط عدة أمور تهمنا في شرح الأية التي نحن بصددها:
1- "أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب". 2
2- "صارت هيئة وجهه متغيرة" يقول عنها القديس متى في إنجيله: «تغيرت هيئته (تجلى)، واضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور.» (مت2:17)
3- "موسى وايليا اللذان ظهرا بمجد"
4- «فلما استيقظوا رأوا مجده».
5- "فلنصع ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة".
6- "كانت سحابة فظلتهم". يقول عنها القديس متى الإنجيلي أنها "سحابة نيرة"
7- "وصار صوت من السحابة قائلأ: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا".
ونحن إذا عدنا إلى الحادثة المماثلة في العهد القديم مع موسى، نجد الآتي: «فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل وحل مجد الرب عل جبل سيناء وغطاه السحاب... وكان منظر مجد الرب كنار آكلة" (خر15:24-17). ففي هذا المنظر وكل مناظر استعلان مجد يهوه الله في العهد القديم نجد أنه بمجرد اقتراب الله من الشعب، أو بالأكثر من موس وهارون، أو اقتراب موسى وهارون أمام الله، كان يصاحب ذلك ظهور واستعلان مجد الله! فإن كان الأمر هكذا في القديم فكم وكم بالحري بعدما اقترب الله ثم اقترب ثم تواجه مع الإنسان داخل الانسان كيف لا يستعلن مجده فيه!
وإن حادثة التجلي تجمع الظهورين معاً والمجدين معاً: مجد الآب في السحابة النيرة التي ظللتهم مع صوته الأتي من المجد الأسنى، مع مجد الابن ونور الكلمة يغشى »الجسد» فيجمل الوجه يضيء كالشمس.
ثم علينا أن نعود إلى ذاكرة القديس بطرس لنسمع منه ما يتذكره عن حادثة التجلي هذه بعينها: "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. (2بط16:1-18)
واضح من هذه الشواهد أن القديس يوحنا حينما قال: "ونحن" فهو يقصد الخاصة جداً من تلاميذه وهم الثلاثة الذين كان قد انتخبهم مم الاثنى عشر ليطلعهم على سر مجده هذا، كما أطلع موسى سابقاً عل الجبل في سيناء، حيث تقول النبوة أنه «سيراه كل بشر» (إش 5:40)
وقد يظهر تعارض في قول النبوة قديماً على فم إشعياء النبي بخصوص هذه الرؤية وهذا المجد "عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عُفي عنه أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها. صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلً لإلهنا. كل وطأة يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيمأ والعراقيب سهلاً. فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر معاً لأن فم الرب تكلم" (إش 1:40-5)
ولكن كان دأب الأنبياء أن يختصروا الزمن اختصاراً، فآلاف السنين تصير غداً أو سريعاً، لأن الرؤيا تكون في وهج شدتها متجمعة معاً وليست موزعة على السنين والأجيال. وقد تم بالفعل الجزء الاول من الاعلان عن مجد الرب, ورأه الأخصاء والمقربون والمختارون والمفديون، فمجدوا صاحب المجد. أما الجزء الثاني من الإعلان عن مجد الرب فهو مؤجل للجزء الباقي من البشرية حينما يرونه في مجيئه الثاني، في ملء مجده ومجد أبيه مع ملائكته (مت 30:24 , رؤ7:1).
وقوله: «رأيناه» فهو يتكلم عن رؤيا غير عادية كانت تحت سحابة نيرة، أي في الحضرة الالهية، التي تطابق حضور "يهوه" قديمأ على جبل سيناء في السحابة التي ظللته. وهنا إشارة سرية إلى التعرف على شخصية المسيح. وحضور موسى وإيليا في التجلي بمجد هو إشارة ضمنية إلى قوله: «مشهودأ له من الناموس (موسى) والأنبياء (إيليا)» (رو 21:3). وكلمة "بمجد" بالنسبة لموسى وإيليا تفيد ارتفاع كرامة الناموس والأنبياء في أشخاص مُمثليهما موسى وإيليا.
وقوله: «ورأينا مجده» فهو يقصد مجد «الكلمة بعد أن صار جسداً» أي يسوع المسيح. وقد اتضح من تسجيلات حادثة التجلي أنه فعلاً تغيرت هيئته الجسدية ولمع وجهه كالشمس وابيضت حتى ثيابه كالنور. ويصف القديس بطرس هذا المجد الذي رأه على الجبل أنه عاين عظمته، أي جلاله وقدرته، وأنه أخذ من الآب كرامة ومجداً: "مجد كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقاً".
هنا فإن تكرار كلمة «المجد» هو بقصد التركيز ولفت الإنتباه لكي لا نتوه في تواضع «الجسد» أو في مضمون الإخلاء. فالمجد مًعلن ومنظور للعيون التي لا يلزمها الإخلاء والتي أدركت حقيقة «الكلمة» اللوغس، مهما تنازل وأخذ منظراً: «هكذا مُفسداً أكثر من الرجل» حسب قول إشعياء النبي (14:52). لأن خطيئتنا هي التي حتمت على العين الضعيفة أن تراه «لا منظر(له) فنشتهيه» (2:53)
أو ليس "الكلمة" اللوغس هو صوت الله ونداؤه, وهو قوله وأمره، فكيف نسمع صوت الله من فم اللوغس ولا نحس بالمجد المحاط به، هذا إذا أحسئا الرؤيا؛ لأنه حتى اليهود العاديون لمحوا في كلامه مجد الله وسلطانه «لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (مت29:7)!! أو بمعنى متقدم قليلاً عن الآية, إن المجد الذي رأوا ما هو إلا حب الآب منطبعاً عليه فلم يستطع أن يخفيه, واستطاعوا هم أن يستشفوه من فيض النعمة التي كانت عليه والحق الخارج منه الذي يهز كيان الإنسان الروحي.
وهذا المجد الذي رأوه فيه الذي هو حب الآب المنطبع عليه هو هو الذي جعل من الذين قبلوه أولاداً لله, أي أن هذا الحب نفسه أو المجد نفسه لما آمنوا به أدخلهم في مجاله فصاروا أولاد الله أي الحائزين على الحب الآبوي.
ونلاحظ أنه بظهور الكلمة في الجسد صار استعلان المجد الذي فيه. وقول القديس يوحنا أن هذا المجد لمحوه وتيقنوا من أنه مجد ابن وحيد لآبيه أو بالحري هو مجد الآب للابن الوحيد، هذا يوضح لنا سرا من أخطر الأسرار، أن استعلان المجد في الكلمة المتجسد كشف في الحال سر الأب والابن فيه، فبالرغم من أنه ظهر كابن، ولكن المجد كان مجد الآب في الابن. وهذا أيضاً صار كل من يرى الابن برؤية الإيمان فإنه يرى الآب بالضرورة، لأن مجد اللاهوت في الابن يشمل معه مجد الآب بآن واحد بدون شرح ولا توضيح: "الذي راني فقد رأى الآب." (يو9:14)
القديس يوحنا يجمع هنا جملة ما رآه وسعه واختبره مع الخاصة من التلاميذ ويؤكد ذلك بقوله: "ونحن", فهو سمع بنفسه الرب يسوع المسيح يخاطب الأب عن مجده الخاص له عند الأب (يو5:17 و 24)، بل وسمع الأب يوافق بأنه «مُجد وسيمجد أيضاً (يو28:12)، بل وسمع ورأى هذا المجد في حادثة التجلي المذكورة سابقاً, بل شاهد وعاين وشهد لأعمال الرب يسوع المسيح التي تنطق جيعها بمجده وأوضحها عرس قانا الجليل ومعجزة تحويل الماء خمراً التي بها أظهر المسيح مجده لتلاميذه فآمنوا به. هذا ولا ننسى المجد الذي عايشه القديس يوحنا مع كوكب الصبح المنير يسوع المسيح نفسه في سفر الرؤيا: «ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها.» (رؤ 16:1)
ها يقصد بحرف "كما" أن المجد الذي ظهر به الكلمة المتجسد هو المناسب والمطابق فقط لابن الله، الذي له وحده يليق كل مجد الله "الآب كالابن".
"وحيد من الآب" (مونوجانيس) والكلمة كم مقطعين "نوع" و "واحد" وهذا الوصف بالنسبة للكلمة المتجسد هو استعلان الحب الأبوي وهو من أعمق وأعز الاستعلانات التي عرفها الإنسان عن الله .
و«المونوجانيس« كأعظم وأعز استعلان للحب الإلهي فاز به العالم لما بلغ ملء أحزانه وأعوزه مجد الله، إذ انشقت السماء بالفعل وأرسل الله محبوبه ليدبر العالم ويرعى الإنسان: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد (المونوجانيس) لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3). لاحظ الارتباط بين «أحب« و«الابن الوحيد» .
وإذا أردت أن تعرف أيها القارىء العزيز قيمة هذا المحبوب الوحيد عند الله، اسمع ما يقوله: «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن بابن الله الوحيد (المونوجانيس) (يو18:3)، وقوله: «الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني.» (يو26:16)
والقديس يوحنا يصادق على هذا ويزيد: «بهذا أظيرت محبة الله فينا أن أرسل ابنه الوحيد (المونوجانيس) إلى العالم لكي نحيا به» (ايو9:4). أي أن المونوجانيس عند القديس يوحنا هو أعظم حدث من أحداث الحب الإلهي الذي استعلن لنا في يسوع المسيح.
وحينما يقول القديس يوحنا أن المونوجانيس كائن في الحضن الأبوي فهو يضع المحبة في موضعها، ويشير إلينا من أين انفتح لنا ينبوع هذا الحب. وإن كان هذا هو الموضع الذي خصصه الآب للمونوجانيس، إذن فأي موضع يليق به عند الإنسان ليضعه فيه إلا القلب!!؟
هذا الوصف ليس من عند القديس يوحنا بل هو نفس الصفة التي أعطاها الله الآتي من السماء، أو كما يقول القديس بطرس: من المجد الأسنى، والذي سعمه القديس بطرس بنفسه هكذا: "هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به" (2بط17:1). فالمونوجانيس تفيد أنه ابن حبيب وموضع مسرة أبيه الفريدة الذي لا يشاركه فيها اخر قط. وهذا الإصطلاح في الاستخدام يأتي للمذكر والمؤنث على السواء وقد جاء في مواضع كثيرة.
وكلمة المونوجانيس بحسب تحقيق العلماء لا تحمل معنى الولادة أو المولود وأدلتهم في ذلك ورود هذا الوصف في حالات يتعذر بل يمتنع فيها معنى الولادة أو المولود مثل:
1- في وصف إسحق ابن إبراهيم من فم الله نفسه: "وحدث بعد هذه الامور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له يا إبراهيم، فقال هاءنذا. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إل أرض المريا وأصعده هناك محرقة..." (تك1:22-2).
والمعروف أن إبراهيم ؤلد له ابنان وليس ابناً واحداً, فهو ليس وحيداً. ولكن كان إسحق هو "الابن الوحيد المحبوب عند أبيه" وهذا هو المونوجانيس ضبطاً وربطاً.
2- كما ورد هذا الوصف العادي على ابن أرملة نايين: «إذا ميت محمول ابن وحيد لأمه وهي أرملة» (لو12:7). ومن هنا تأتي كلمة «مونوجانيس« باعتبارها «قيمة» عالية وغالية جداً عند هذه الأرملة.
3- وإذا رجل اسمه يايرس... لأنه كان له بنت وحيدة » (لو41:8-42)
4- « ثم أتى يفتاح إل المصفاة إلى بيته. واذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص وهي وحيدة. لم يكن له ابن ولا ابنة غيرها» (قض34:11 ). وهنا أيضأ المونوجانيس تأتي كصفة تحمل قيمة عالية للغاية.
5- وقد جاءت في معان كثيرة لا علاقة لها بالبنوة ولا بالميلاد، ولكن أتت في معنى الوحيد المحبوب للغاية بالنسبة للانسان وهي نفسه: «نفس وحيدتي»: «...يا قوتي أسرع إل نصرتي. أنقذ من السيف نفسي من يد الكلب وحيدتي (مز 19:22-20 و 17:35 )
6- وجاءت بمعنى أنا وحدي. "التفت إلي وارحمني لأني وحيد ومسكين أنا"(مز16:25)
وقد جاءت هذه الكلمة ( ) في اللغة العبرية في مواضع كثيرة بمعنى المحبوب فقط ( ) وهي قريبة من كلمة المغبوط.
ولكن كانت نظرة آباء ما قبل نيقية منحصرة نوعاً ما في معنى « الولودة» وهذا لا تحتمله الكلمة .
يتبع
هنا يبدأ القديس يوحنا يضع أساس استعلان الكلمة بعد التجسد والتأنس، فهو يكشف عن درجة بنوة الكلمة لله حيث «الكلمة هو الابن» في الذات الإلهية والله هو الأب. والقديس يوحنا يعلن عن اكتشافه للابن عن طريق المجد الذي استعلن في الكلمة لما تجسد، تماماً كما أعلنت الأناجيل بفم الملاك عن الحبل الإلهي للابن بالميلاد الإعجازي الفائق من العذراء مريم وبشارة الملاك العلنية بذلك: "الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظلك، فلذلك أيضاً القدير المولود منك يدعى ابن الله." (لو35:1)
وقد أعاد المسيح نفسه صياغة نطق الملاك هذا بتأكيد قائلأ: »فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله.»» (يو36:10)
وكما استعلن للقديس بولس بالقيامة من الأموات بمجد الآب: «وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو3:1 , 4:6)
وكما تيقن القديس لوقا الإنجيلي بإعلان من المسيح نفسه أنه سيأتي كابن الله في مجده ومجد أبيه: »متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القديسين» (لو26:9)
وهكذا نرى هذه الاستعلانات كلها متدرجة من جهة يقينية استقلان درجة البنوة لله هكذا:
أولأ: بالميلاد: دُعي ابن الل بفم الملاك.
ثانياً: بالقيامة: تعين ابن بالقوة من جهة روح القداسة.
ثالثاً: بالمعايشة والمعاينة: رأيناه ابن لله _ مع القديس يوحنا.
رابعاً: بوعد المسيح نفسه أنه يأتي ثانياً كابن الله في مجده ومجد أبيه.
خامساً: بتصريح المسيح نفسه.
وقول القديس يوحنا «من الأب« يشير ويركز على «نسبة المجد والبنوة بين الآب والابن»، كما تفيد أيضاً "الإرسالية" = ابن وحيد مُرسل من الآب: »أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني» (يو29:7)
وقول القديس يوحنا: «كما لوحيد من الآب» تفيد بحسب لاهوت القديس يوحنا، وهو اللاهوت الذي استرعى انتباه آباء الكنيسة الأوائل، أنها تفيد علاقة يبدو فيها الابن مرتبطاً في وجوده بالأب ارتباطاً ذاتيأ وجوهرياً، فهو ليس فقط ابن للأب بل ومرسل منه رسالة يؤديها بحتمية (الطاعة). وحتى المجد الذي للابن فهو ليس مجرد الابن بل مجد ابن وحيد من الإب.
والقديى بطرس يوضح هذه النسبة بغاية الدقة هكذا: «لأنه أخذ من الله كرامة ومجداً (2بط17:1). إذن فهو "مجد من الآب" للابن، وبهذا ينكشف لا المعنى المختفي وراء قول القديس يوحنا: «مجداً كما لوحيد من الآب«. ولا ينبغي أن يفوتنا أن كلمة «وحيد لأبيه» تفيد معى الفرادة في الحب حيث يستحوذ الابن على كل حب الأب. هذا نسمعه من الله بغاية الوضوح والتركيز «ابني الحبيب»، أي أن «مجد ابن وحيد لأبيه» تعني بكل العمق استعلان «مجد الحب الأبوي» في المسيح للتلاميذ، وبالتال للكنيسة، لأن كل مجد الابن ورثته الكنيسة لأنها جسده المملوء نعمة وحقاً.
وهكذا فإنه بحب الأب للابن تم الخلق, وتم الفداء، وتأسست الكنيسة! لأن بحب الأب للابن "كان كل شيء" في الخليقة الجديدة مثل القديمة، وبدون حب الابن للآب لم يكن شىء مما كان, وهكذا أحب الله العالم ففداه بحياة ابنه: «بذل ابنه الوحيد.» (يو16:3)
فالعلاقة بين الأب والابن علاقة تشمل وتتغلغل كل ما للابن حتى أنه لا يوجد الابن منفردأ بصفة لاهوتية خاصة به على الإطلاق إلا كونه ابناً.
ومن الملفت للنظر أن الله الأب بالنسبة للمسيح الابن في إنجيل يوحنا مذكور 137 مرة، في حين أن إنجيل متى مذكور فيه 64 مرة فقط، وانجيل لوقا 56 مرة، وإنجيل مرقس 18 مرة.
هذا يلزم أن ينبه ذهننا أن إنجيل يوحنا يتخصص في توضيح علاقة الآب بالابن والابن بالأب، أو بتعبير أصح يركز على استعلان سر الابوة والبنوة في عملية الخلاص والفداء والتبني.
لذلك فبعد الآصحاح الآول الذي كرسه لاستعلان «الكلمة» باعتباره الشخصية المحتجبة في الله: «حقاً أنت إله محتجب يا إلة إسرائيل المخلص» (إش15:45)؛ نجد القديس يوحنا بعد تجسد الكلمة يركز على المسيح كابن الله حتى نهاية الإنجيل، كاشفاً دور الآب كأساس لعمل الابن الخلاصي.
بعد أن حلق القديس يوحنا في ذكرياته السالفة عن الأمجاد التي رأها واستعلنها في الابن الوحيد ووقعت عينه ويده عليها في المسيح, الذي اكتشف فيه سر الحياة الآبدية ومجد البنوة الوحيدة للآب؛ يعود بنا إلى ذكرياته عن «الكلمة» في شخص يسوع المسيح كما اختبره في حياته الخاصة والعامة وسلوكه مع الأحباء والأعداء. وأعطى هذه الشهادة أنه كان مملوءاً نعمة وحقاً... فالنعمة والحق هي الصفات الإلهية المتجسدة « للكلمة» المتجسد.
هي أصلاً صفات الله الكائنة فيه، ولكن بتجسد الكلمة استعلنت هذه الصفات لأنها صارت في موضع العطاء، اوتجهزت لتصير هبة تمنح للناس: «وتعرفون الحق والحق يحرركم... فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً.» (يو32:8 و 36)
«النعمة»:
لم تُستخدم في إنجيل يوحنا إلا هنا وفي الآية 17 من هذا الأصحاح فقط. وأما الحق فهو الصفة الإلهية التي تجىء في القمة بالنسبة للكلمة المتجسد، والتي أعلن عنها المسيح جهارا: «أنا هو الطريق والحق والحياة.» (يو6:14)
وهاتان الصفتان في ها المقابل في العهد الجديد اللتان تعامل بهما الله معنا في شخص يسوع المسيح، كما كان يتعامل بهما يهوه قديماً: «فنزل الرب في السحاب. فوقف عنده (موسى) هناك ونادى باسم الرب. فاجتاز الرب قدامه ونادى: الرب الرب إله رحيم ورءوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكن لن يبرىء إبراءً» (خر5:34-7). فهو "رحيم" ولكنه "لن يبرىء".
لذلك فالنعمة والحق في العهد الجديد هما المقابل الحقيقي للناموس والدينونة كما وضعهما القديس يوحنا نفسه في الآية 17 القادمة.
والنعمة في مفهوم القديس يوحنا إذا كانت في مقابل الناموس فهي عملية الفداء والخلاص بكل مشتملاتها ونتائجها، وبالأخص جداً في أنه جعلنا أولاداً وأحباء, بل وأحراراً بعد أن كنا عبيدا تحت سطوة الناموس بمقتضى سلطان الخطية المُذل. بل وتشمل النعمة حتماً كل نعم الله من مواهب؛ بل وبالاكثر جداً اتصالنا بالآب واتحادنا بالابن. أي أن النعمة عند القديس يوحنا هي التجسد الذي أجراه الكلمة في نفسه، فهي بالتالي شخص يسوع المسيح نفسه بالدرجة الاولى. لأن فيه وبه نلنا كل النعمة بل كل النعم. لذلك هكذا ظهر الكلمة لما تجسد أنه مملوء نعمة وحقاً, أي كله نعمة وكله حق, على مستوى العطاء.
فنعمة الأب لنا هي أنه بذل ابنه الوحيد من أجلنا ليكون لنا حياة أبدية باسمه، ثم ولدنا لنفسه لما قبلنا ابنه بالإيمان في قلوبنا وحياتنا. الأب ولدنا لنفسه باتصال وليس بالمجاز أو التصور. لأن نعمة الأب لنا هي انعطاف ذاتي والتحام سري. فكلمة «مولودين من الله» هي من الجدية والحقيقة العملية الروحية على مستوى أعلى من «الميلاد من الدم ومشيئة الجسد ومشيئة الرجل», أي أنها بقوة فعل سري فائق يسري في كياننا الروحي فيغيره ليكون على صورة خالقه كما ينمو الولد ويتشكل على صورة والده. «كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأنه زرع (زرع الله) يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله.» (يو9:3)
ونعمة الآب هي مكملة لنعمة الابن لنا الذي تنازل وأخذ جسدنا لذاته ليهيئنا بالتقديس الذي أجراه لنا, لنكون مؤهلين لتبتي الآب لنا.
"الحق":
الحق بالسبة للقديس يوحنا ليس هو الصدق الذي هو عكس الكذب بل الحقيقة Reality في مقابل الشبه أو الظل.
فكل أعمال ومعاملات الله قديماً كانت شبه السماويات وظلها، «إذ يوجد الكهنة النين يقدمون قرابين حسب الناموس، الذين يخدمون شبه السمويات وظلقا كما أوحي إل موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن» (عب6:4-5). وكل رؤية الله مهما سمت كانت ليس أكثر من «شبه الله يعاين» كما جاء ملى لسان الله: «فقال (الرب) اسمعا كلامي: إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له في الحلم. أما عبدي موسى فليس هكذا, بل هو أمين في كل شي، فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز، وشبة الرب يعاين« (عد6:12-8)
ولكن الآن، وباستعلان الله في الكلمة المتجسد أي شخص يسوع المسيح، ليس بعد كلام الله في حلم ولا بالآلغاز بل «كلمنا ... في ابنه»، «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة« (عب2:1؛ يو 63:6)، ولا بالشبه نعاين الله بل بالحق، «الأليثيا»: « الذي رآني فقد رأى الآب ( الله)«, «أنا هو... الحق» (يو6:14و9)
فـ «الحق» هنا عند القديس يوحنا هو استعلاذ الله في ذاته استعلاناً حقيقياً كاملآ كأب تبنانا، وعرفناه أباً ووالداً لنا, ليس بولادة مجازية أو كمنحة ولكن باتصال وفعل سري: «كل من يحب فقد ؤلد من الله» (1يو7:4)، وكابن أخذ جسدنا ومات عنا وفدانا.
فعندما يقول القديس يوحنا أنه مملوء نعمة وحقاً فهو يعني أنه بالقياس وبقدر ما يستطع الإنسان أن يقيس ويستوعب فهو الاستعلان الكلي لكل ملء الله سواء من جهة نعمته أومن جهة ذاته. والكلام كله منصب على «الكلمة صار جسداً».
ولكي ندرك صلة "الحق الأليثيا" باستعلان الابن عند القديس يوحنا نسمع من المسيح بوضوح قوله بأنه «الحق» و"الابن" واحد هكذا: «إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم» (يو31:8)، «فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو36:8)
ويلاحظ هنا أن »معرفة الابن» معرفة ثابتة توصل إلى »»معرفة الحق» ومعرفة الحق أو الابن كلتاها تحرر. والمعرفة هنا ليست بنت الفهم والدراسة بل حصيلة رؤيا واستعلان. فالذي يستعلن«الابن» ويدركه في ذاته يستعلن »الحق». أو بمعنى أكثر وضوحاً الذي يستعلن الله «كأب وابن»» يبلغ إلى منتهى الحق، لأنه يلده ابناً حرا لله! هذا كل ما نترجاه من النعمة وكل ما نطلبه من الحق، وهذا قد صار لنا لما صار الكلمة جسداً.
هنا القديس يوحنا الإنجيلي يقدم هذه الجملة الإعتراضية بعد وصفه لأمجاد الكلمة المتجسد، مشيراً ومعلناً عن دخول الكلمة المتجسد إل بدء عمله، الذي لما باشره كشف في الحال عن شخصية المسيا, »الكلمة المتجسد», أنه وإن كان قد جاء متأخراً عن المعمدان إلا أن وظيفته أعلنت جهارا أنه كائن قبله، ليس من جهة الوقت أو الزمن بل الوجود والكيان: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.» (يو58:8)
والقديس يوحنا يقدم هذه الشهادة من فم المعمدان نفسه ليثبت بها للكلمة المتجسد التقدم المطلق: »لأنه كان قبلي» ليس في العمل وحسب, بل وفي الوجود والكيان السابق على المعمدان؛ الذي وإن كان المعمدان قد سبق المسيح فهذا لكي يعلن عنه ويعد الطريق له, وليس ليتقدم عليه في الكرامة.
وتأتي شهادة المعمدان في الفعل المضارع يشهد (باستمرار)، لتوضح دوام الحقيقة التي يشهد عنها، بخصوص الشخص المرتقب والمترجى ظهوره وطبعاً هو »المسيا».
وحينما يقول: »ونادى»، فهذه في الأصل تعبير عن الصراخ الملفت للنظر والذي يكون بالصوت العالي تعبيرا عن خطورة واهمية من يشير إليه, كما تفيد بصورة خفية أنها الصرخة التي أطلقها ومات عندما ماتت الصرخة, ولم تعد تتبع التاريخ بل صارت معلومة حية قائمة أبد الدهر. كذلك فإن صراخ الشهادة هو التصوير الإنجيلي لعمل الإلهام الروحي الذي يتدفق مرة واحدة في الإنسان فيطلقه بانفعال: «وامتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك» (لو41:2-42). وهذا ما يقصده القديس يوحنا في تسجيله لشهادة المعمدان أنها كانت بنطق إلهي.
وغرض إنجيل القديس يوحنا من وضع هذه الشهادة هنا هكذا هو لحساب المؤمن الذي سيأتي عبر الزمان, الذي هو أنا وأنت أيها القارىء العزيزه ليأخذ من هذه الشهادة الهامة جداً، باعتبارها ختم آخر أنبياء العهد القديم على صدق مجيء المسيا بالجسد في ملء الزمن حسب توقعات كل الأنبياء والآباء والتاريخ اليهودي كله، وأنه وان جاء في مل ء التاريخ إلا أنه كان قائما قبل التاريخ.
وقد اكتفى الإنجيليون الثلاثة في ذلك بقولهم وبصفة عامة: «ياتي بعدي من هو أقوى مني»؛ ثم في تقييمهم لارتفاع كرامة المسيح بالنسبة للمعمدان سجلوا ما قاله بنفسه:
* لست أهلاً أن أحل حذاءه. (مت11:3)
* لست أهلاً أن أنحني وأحل سيور حذائه. (مر 7:1)
* لست أهلاً أن أحل سيور حذائه. (لو16:3)
أما القديس يوحنا فقد حدد شخصية المعمدان بالنسبة للمسيح، فالمسيح كائن قبل المعمدان. كذلك فعل المسيح سابق على عمل المعمدان. هذا هو معنى «كان قبلي»" كائنا وعاملاً.
وشهادة المعمدان التي يقدمها القديس يوحنا هنا تخدم قضية طبيعة وشخصية الكلمة المتجسد تأكيدا أن التجسد أبقى على لاهوت وأزلية الكلمة كما كان. فكأذ مجمل قول القديس يوحنا هو أن الكلمة لما صار جسداً بقي كما هو إذ رأينا مجده واستعلنا فيه أنه مجد وحيد لأبيه مملوء نعمة وحقاً، والمعمدان شهد لسمو طبيعته الفائقة ولأسبقيته عليه بلا حدود.
القراءة الصحيحة باللغة اليونانية حسب آباء الإسكندرية تقول: «وبسبب هذا نحن جيعا أخذنا من ملئه، ونعمة فوق نعمة».
وهذه الآية ولو أنها معتمدة على الآية 14 قبل السابقة لدبقة«(ونحن) رأينا مجده .. مملوءاً نعمة وحقاً«، إلا أن هذه الأية هنا تؤكد حقيقة الأية 14 عمليأ بسبب أخذنا من عطاياه. وهكذا يأتي فعل «أخذنا» تأكيدا وتصديقا لفعل «رأينا». هذا يزيد التركيب اللغوي اليوناني قوة وإيضاحأ بسبب أن فعل "أخذنا" الذي يعني أكثر من «أخذنا» خاصة حينما يأتي بعد شهادة أو معتمداً عليها, إذ يفيد معنى الأخذ على مستوى المسك أو القبض أو الاستحواذ سواء فعلاً أو فهمأ, وحينئذ ترسخ معنى الإيمان اليقيني أو مل ء الإيمان؛ حيث »الأخذ أو القبض على» تفيد الفهم والإيمان والقبول والاستحقاق معاً.
وينكشق هذا المعنى حيما نسمع العكس في قول المسيح: «روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله (يأخذه) لأنه لا يراه ولا يعرفه« (يو17:14). أي أن الأخذ على مستوى القبول يعتمد مل رؤيا وتأمل وملاحظة واستحقاق، وإلا يمتنع. وهذا السبب بالذات، أي لأنهم رأوا مجده رؤية التحقق، لذلك أو«لهذا السبب» أخذوا نعمة فوق نعمة.
ولقد ظن بعض آباء العصر الآول مثل أوريجانس وهيراكليدس وغيرها، الذين اضطلعوا بشرح إنجيل يوحنا أن هذه الآية هي تكملة لحديث المعمدان وشهادته، ولكن تسلسل الكلام والمعنى يمنع ذلك، بالإضافة إل أن قول القديس يوحنا «نحن جميعا» ليس أسلوب المعمدان، ولا هو من حقه أن يقول ذلك، لأنه جاء كصوت واحد صارخ يعد الطريق وليس ليمتلئ. فالمكلم هنا هو القديس يوحنا الإنجيلي, كما يقول كل من القديس ذهبي الفم وأغسطينوس وكيرلس الكبير. فبعد أن قدم شهادته مع التلاميذ في قوله "ونحن" رأينا مجده يقدم لنا شهادة الكنيسة معه: "ونحن جيعاً أخذنا".
وبهذا تكون هذه الآية هي أول إشارة إل علاقة الكلمة المتجسد الملوء نعمة وحقاً بالكنيسة التي أخذت من ملئه. وتسلسل الكلام يكون هكذا: «ونحن التلاميذ رأينا مجده مجد وحيد لآبيه، وعرفنا وتيقنا أنه مملوء نعمة وحقاً، وبسبب هذا نحن جميعاً, أي الكنيسة كلها, أخذت من ملئه».
الإشارة هنا بليغة وتشير إلى فيض الحب الذي يتفجر من الكلمة المتجسد على هيئة نعم وعطايا متلاحقة الواحدة تمسك بالأخرى. فكل نعمة تؤدي إلى نعمة أكثر. ثم انظر كيف يركز القديس يوحنا على »جميعاً»، وكأنه لم يترك أحداً في الكنيسة دون أن يغدق عليه نعمة ولو لم يدر.
«ملئه»:
متصلة بسابقتها »مملوء» وهي تشير إل االكثرة والفيض، كما تجيء في اللاتينية Plenitudo. (كما وردت في نسخة Vulgate).
فإذا علمنا أن ( ) هي صيغة الحال المأخوذ من الفعل ( ) الذى معناه يكمل (To make complete)، إذن، فالكلمة تعني كمال الملء أو منتهى الملء. وهذا ما يقصده القديس بولس الرسول بقوله: «لأنه فيه سر(الآب) أن يحل "كل" الملء» (كو19:1). والملء ها تعبير لاهوتي يختص بطبيعة الله، فهو الوحيد الملء الكلي والمالىء الكل. ومن روح إنجيل يوحنا يأتي عمل الملء على أساس الحياة الأبدية. فمن ملء الحياة الآبدية يملأ "الله الكلمة" الفرد أو الكنيسة، بالحياة الآبدية.
وفي الحقيقة، وبنظرة واحدة ثاقبة، نرى أن ملء اللوغس المتجسد الأتي إلينا من جهته هو، هو ملء الحياة والمجد وحب الآب, ولكن من الجهة الأخرى بالنسبة لنا فهو الخلاص الكلي بكل مشتملاته من موت وقيامة وفداء وتبرير وصعود وحياة أبدية ومجد وشركة في الطبيعة الإلهية، بكل ما يتبع ذلك من مواهب ضرورية وعطايا امتياز وتبني وحب إلهي فائق:
«لأن الذي ارسله الله يتكلم بكلام الله, لانه ليس بكيل يعطي الله الروح» (يو35:3)
«كما ارسلني الآب الحي وانا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6)
وكلمة "الملء" محبوبة جداً عند القديس بولس, فهي تملأ قلبه بالأحساس الغامر بفيض النعمه فى المسيح يسوع بصورة طاغية. فقد وردت خمس مرات فى رسالتى افسس وكولوسي. وهذه الكلمة بالذات تعتبر هنا وصلة ذات اعتبار كبير بين لاهوت القديس بولس ولاهوت القديس يوحنا، وبالاخص التي جاءت في الرسالة إلى كولوسي:
* "لأنه فيه سر أن يحل كل الملء, وأن يصالح به الكل لنفسه، عاملاً الصلح بدم صليبه، بواسطته, سواء كان ما على الأرض أم فى السموات" (كو19:1-20)
* "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ل, وأنتم مملوؤون فيه" (كو9:2-10)
* «واخضح كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده ملء الذى يملأ الكل فى الكل" (اف22:1-22).
* "ونعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفه، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله" (أف 19:3)
* "إلى أن ننتهي جيعنا إلى وحدانية الايمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح» (اف13:4)
بولس الرسول يرى ملء المسيح هو ملء الله, وأن الإيمان بالمسيح والدخول في محبته الفائقة المعرفة هو الطريق للأخذ من هذا الملء الكامل الذى للمسيح, وذلك عندما يتحد المؤمنون في وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله. وكل واحد يأخذ من هذا الملء قدر ما تؤهله رؤية إيمانه لمجد المسيح وحبه، وايضا قدر ما توهله صلته في الكنيسة كعضو في جسدها. لانه للكنيسة المتحدة فقط أعطي ملء المسيح كل الملء, على اساس شدة الحب الذي يجمع اعضاءها ليصير لها ما للرأس بالضرورة الحتمية؛ لان مجد الرأس هو للجسد، وفخر الجسد هو الرأس.
القديس يوحنا في هذه الأية يتول قول القديس بولس تماماً، إنما باختصار شعري بليغ، كما يجعل هذا المبدأ اللاهوتي في صلاة المسيح قائلآ للآب القول المستجاب: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد» (يو22:17)، هذا هو المجد الذي أخذ من ملئه القديس يوحنا وأخذت الكنيسة معه.
وهنا لا يفوتنا لمحة لاهوتية نخرج بها من هذا المضمار في القول عن الملء من جهة نصيب التجسد من هذا الملء الذي يؤكده ويرسخه بولس الرسول بقوله: «لأنه فيه سر أن يحل كل الملء»، و «فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً»، والذي يرد عليه القديس يوحنا بقوله: «والكلمة صار جسداً... مملوءا نعمة وحقاً». هنا ظفر الجسد بالملء الإلهي، ملء اللاهوت، فدخلته البشرية من أوسع أبوابه لأنه جسد »الكلمة»، الذي انفرش عليه اللاهوت، فمدد أطرافه ووسع تخمه وأبعاده حتى وسع ما للاهوت من ملء. هنا دخلت الكنيسة التي هي جسده إلى اللانهائية، لا باستحياء، بل بجراءة الذي خلقها وفداها ورفعها من التراب إلى السماء.
«..أخذنا, ونعمة فوق نعمة»:
«أخذنا» تأتي هنا بدون مفعول به, »من ملئه نحن جيعاً أخذنا». لأن الملء ليس مجزءا، هو فعلاً عطايا ونعم كثيرة وبلا حصر أوعلى الأصح «بلا كيل». ولكن الملء يوزع ليعود فيتجمع, فهو ملء واحد, ولا بد حتماً بعد أن يتوزع لكل واحد حسب حاجته وبمسرة الله، أن يصير وينتهي إلى واحد, »إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح.» (أف13:4)
«ونعمة فوق نعمة»:
في هذه الآية ذهب الشُراح كل مذهب، فمنهم من قال, وهم بعض آباء الكنيسة ومنهم ذهبي الفم وكيرلس الكبير, أن نعمة مقابل نعمة تعني نعمة العهد الجديد مقابل نعمة العهد القديم، أي الناموس، ولكن قولهم مردود عليه في الآية 17 التي جعلت الناموس هو المقابل للنعمة ومتدني عنها: «لأن الناموس بموسى أعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا».
وبولس الرسول يضح الناموس مضاداً للنعمة، وليس مساوياً لها أو حتى بديلا عنها: ""لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ. لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَباً إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ. لِهَذَا هُوَ مِنَ الإِيمَانِ كَيْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ النِّعْمَةِ لِيَكُونَ الْوَعْدُ وَطِيداً لِجَمِيعِ النَّسْلِ. لَيْسَ لِمَنْ هُوَ مِنَ النَّامُوسِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً لِمَنْ هُوَ مِنْ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ أَبٌ لِجَمِيعِنَا." (رو14:4-16)
ولكن علماء الشرح المدققين اتفقوا حديثأ على أنها تفيد اللاحقة والمتابعة التي لا تنتهي لعطايا النعم المتجددة دائمأ وإلى الأبد من لدن الرب يسوع المسيح: أي أن كل نعمة تأتي تنادي نعمة أخرى فترد عليها تلك وتأتي.
فكل نعمة يقابلها نعمة أعمق وأعلى، ونعمة الرب لا تقف ولا تحد: «لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح.» (يو34:3)
القديس أغسطينوس في عظته الثالثة على الأصحاح الأول لإنجيل القديس يوحنا يشرحها شرحا مطولا بما يفيد أن من ملئه نحن أخذنا, هذا مجمل الأخذ، ثم أضاف الإنجيل: «ونعمة فوق نعمة»، فمثلاً الإيمان نعمة ويقابل الإيمان نعمة أخرى وهي الحياة الأبدية، وهكذا.
فإذا عاد القارىء بذاكرته إل ما قلناه بخصوص طابع إنجيل القديس يوحنا الاستعلاني والمتدرج في استعلانه للمسيح والأب، نجد في هذا القول: «ومن ملئه نحن جيعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة» بما يفيد أيضاً الامتداد الاستعلاني للمسيح حتى وإلى الأبد. لأن تلاحق النعم وتلاحق الامتلاء من ملئه, أي من ملء النعمة والحق, هو أساساً وبالدرجة الاولى يخدم قضية استعلان حقيقة المسيح الذي لا نهاية لملئه. وفي المنهج الروحي العملي معروف أن كل نعمة يحصل عليها الإنسان إنما ترفعه إلى نعمة أخرى أعلى، لأن النعمة هي بحد ذاتها قوة رافعة، لذلك نسمع القول أن «من يضع نفسه يرتفع» (مت12:23, لو11:14, 14:18), وما ذلك إلا لأن الإتضاع نعمة, فنعمة الإتضاع ترفع إلى نعمة المجد. وقد يتهيأ أحياناً للانسان الروحي الذي يمارس الحب الإلهي أنه بلغ المنتهى من النعم والسعادة، ويكاد يقول: كفى، هنا قد بلغت النهاية. ولكن إذ بالنعمة ترفعه إلى مستوى أعلى فينظر وراءه وكأنه لم يكن سابقاً قد بلغ شيئاً!!، وهكذا فلينتبه القارىء أننا أمام قديس إنجيلي متمرس يتكلم من أعماق يعيشها وبكلمات قليلة يسلمها لمن يسير على دربه.
وكما سر الآب «أن يحل في المسيح كل ملء اللاهوت جسدياً», كذلك سر المسيح بنفس القدر والسخاء والحب أن يصب كل ملء نعم اللاهوت الذي له في الكنيسة التي هي جسده، لتمتلىء إلى كل ملء نعم الله، لأنها تأسست على دم الحب وشربت منه الروح الأزلي الذي لن يكف عن أن يأخذ مما للمسيح ويصب فيها صباً حتى تمتلىء إلى كل ملء الله. فلا تستغربن أيها القارىء قول القديس يوحنا: «ونعمة فوق نعمة»، لأن المنعم صمم على أن «المجد الذي لي أنا أعطيتهم»، بل ونفذ بالفعل السري حالة حلول واتحاد وعطاء نعم بلا حد ولا عد للذين أمنوا وتبعوا وشهدوا له في كل عصر: «أنا فيهم وأنت فيى» (يو23:17). لذلك فسريان النعمة لن بكف، طالما كان الاتحاد مفتوحاً.
وشهادة القديس يوحنا هنا خاصة بإضافة «جميعاً»، و«نحن جيعاً»، هي ليست شهادة فقط، بل واعتراف، بل وصلاة شكر بلسان الكنيسة كلها ولسان القارىء.
فهي تسبحة اعتراف بفضل المسيح يسوع الدائم والآبدي، فلا يوجد مكان أو زمان في الكنيسة يخلو من نعمته، ولا دخل إليه أحد وخرج فارغاً؛ فمراحمه لا تزال تتجدد كل صباح، وفي الفجر تتساقط نعمته كالطل على الكلأ، من يبكر إليه يجده، ومن يسهر إليه يتمشى معه. هو هو وحده وليس أخر يعطي ولا حدود لعطائه، ونحن جيعاً جميعاً نأخذ بلا عد ولا مكيال.
القراءة الصحيحة باللغة اليونانية حسب آباء الإسكندرية تقول: «وبسبب هذا نحن جيعا أخذنا من ملئه، ونعمة فوق نعمة».
وهذه الآية ولو أنها معتمدة على الآية 14 قبل السابقة لدبقة«(ونحن) رأينا مجده .. مملوءاً نعمة وحقاً«، إلا أن هذه الأية هنا تؤكد حقيقة الأية 14 عمليأ بسبب أخذنا من عطاياه. وهكذا يأتي فعل «أخذنا» تأكيدا وتصديقا لفعل «رأينا». هذا يزيد التركيب اللغوي اليوناني قوة وإيضاحأ بسبب أن فعل "أخذنا" الذي يعني أكثر من «أخذنا» خاصة حينما يأتي بعد شهادة أو معتمداً عليها, إذ يفيد معنى الأخذ على مستوى المسك أو القبض أو الاستحواذ سواء فعلاً أو فهمأ, وحينئذ ترسخ معنى الإيمان اليقيني أو مل ء الإيمان؛ حيث »الأخذ أو القبض على» تفيد الفهم والإيمان والقبول والاستحقاق معاً.
وينكشق هذا المعنى حيما نسمع العكس في قول المسيح: «روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله (يأخذه) لأنه لا يراه ولا يعرفه« (يو17:14). أي أن الأخذ على مستوى القبول يعتمد مل رؤيا وتأمل وملاحظة واستحقاق، وإلا يمتنع. وهذا السبب بالذات، أي لأنهم رأوا مجده رؤية التحقق، لذلك أو«لهذا السبب» أخذوا نعمة فوق نعمة.
ولقد ظن بعض آباء العصر الآول مثل أوريجانس وهيراكليدس وغيرها، الذين اضطلعوا بشرح إنجيل يوحنا أن هذه الآية هي تكملة لحديث المعمدان وشهادته، ولكن تسلسل الكلام والمعنى يمنع ذلك، بالإضافة إل أن قول القديس يوحنا «نحن جميعا» ليس أسلوب المعمدان، ولا هو من حقه أن يقول ذلك، لأنه جاء كصوت واحد صارخ يعد الطريق وليس ليمتلئ. فالمكلم هنا هو القديس يوحنا الإنجيلي, كما يقول كل من القديس ذهبي الفم وأغسطينوس وكيرلس الكبير. فبعد أن قدم شهادته مع التلاميذ في قوله "ونحن" رأينا مجده يقدم لنا شهادة الكنيسة معه: "ونحن جيعاً أخذنا".
وبهذا تكون هذه الآية هي أول إشارة إل علاقة الكلمة المتجسد الملوء نعمة وحقاً بالكنيسة التي أخذت من ملئه. وتسلسل الكلام يكون هكذا: «ونحن التلاميذ رأينا مجده مجد وحيد لآبيه، وعرفنا وتيقنا أنه مملوء نعمة وحقاً، وبسبب هذا نحن جميعاً, أي الكنيسة كلها, أخذت من ملئه».
الإشارة هنا بليغة وتشير إلى فيض الحب الذي يتفجر من الكلمة المتجسد على هيئة نعم وعطايا متلاحقة الواحدة تمسك بالأخرى. فكل نعمة تؤدي إلى نعمة أكثر. ثم انظر كيف يركز القديس يوحنا على »جميعاً»، وكأنه لم يترك أحداً في الكنيسة دون أن يغدق عليه نعمة ولو لم يدر.
«ملئه»:
متصلة بسابقتها »مملوء» وهي تشير إل االكثرة والفيض، كما تجيء في اللاتينية Plenitudo. (كما وردت في نسخة Vulgate).
فإذا علمنا أن ( ) هي صيغة الحال المأخوذ من الفعل ( ) الذى معناه يكمل (To make complete)، إذن، فالكلمة تعني كمال الملء أو منتهى الملء. وهذا ما يقصده القديس بولس الرسول بقوله: «لأنه فيه سر(الآب) أن يحل "كل" الملء» (كو19:1). والملء ها تعبير لاهوتي يختص بطبيعة الله، فهو الوحيد الملء الكلي والمالىء الكل. ومن روح إنجيل يوحنا يأتي عمل الملء على أساس الحياة الأبدية. فمن ملء الحياة الآبدية يملأ "الله الكلمة" الفرد أو الكنيسة، بالحياة الآبدية.
وفي الحقيقة، وبنظرة واحدة ثاقبة، نرى أن ملء اللوغس المتجسد الأتي إلينا من جهته هو، هو ملء الحياة والمجد وحب الآب, ولكن من الجهة الأخرى بالنسبة لنا فهو الخلاص الكلي بكل مشتملاته من موت وقيامة وفداء وتبرير وصعود وحياة أبدية ومجد وشركة في الطبيعة الإلهية، بكل ما يتبع ذلك من مواهب ضرورية وعطايا امتياز وتبني وحب إلهي فائق:
«لأن الذي ارسله الله يتكلم بكلام الله, لانه ليس بكيل يعطي الله الروح» (يو35:3)
«كما ارسلني الآب الحي وانا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6)
وكلمة "الملء" محبوبة جداً عند القديس بولس, فهي تملأ قلبه بالأحساس الغامر بفيض النعمه فى المسيح يسوع بصورة طاغية. فقد وردت خمس مرات فى رسالتى افسس وكولوسي. وهذه الكلمة بالذات تعتبر هنا وصلة ذات اعتبار كبير بين لاهوت القديس بولس ولاهوت القديس يوحنا، وبالاخص التي جاءت في الرسالة إلى كولوسي:
* "لأنه فيه سر أن يحل كل الملء, وأن يصالح به الكل لنفسه، عاملاً الصلح بدم صليبه، بواسطته, سواء كان ما على الأرض أم فى السموات" (كو19:1-20)
* "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ل, وأنتم مملوؤون فيه" (كو9:2-10)
* «واخضح كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده ملء الذى يملأ الكل فى الكل" (اف22:1-22).
* "ونعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفه، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله" (أف 19:3)
* "إلى أن ننتهي جيعنا إلى وحدانية الايمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح» (اف13:4)
بولس الرسول يرى ملء المسيح هو ملء الله, وأن الإيمان بالمسيح والدخول في محبته الفائقة المعرفة هو الطريق للأخذ من هذا الملء الكامل الذى للمسيح, وذلك عندما يتحد المؤمنون في وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله. وكل واحد يأخذ من هذا الملء قدر ما تؤهله رؤية إيمانه لمجد المسيح وحبه، وايضا قدر ما توهله صلته في الكنيسة كعضو في جسدها. لانه للكنيسة المتحدة فقط أعطي ملء المسيح كل الملء, على اساس شدة الحب الذي يجمع اعضاءها ليصير لها ما للرأس بالضرورة الحتمية؛ لان مجد الرأس هو للجسد، وفخر الجسد هو الرأس.
القديس يوحنا في هذه الأية يتول قول القديس بولس تماماً، إنما باختصار شعري بليغ، كما يجعل هذا المبدأ اللاهوتي في صلاة المسيح قائلآ للآب القول المستجاب: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد» (يو22:17)، هذا هو المجد الذي أخذ من ملئه القديس يوحنا وأخذت الكنيسة معه.
وهنا لا يفوتنا لمحة لاهوتية نخرج بها من هذا المضمار في القول عن الملء من جهة نصيب التجسد من هذا الملء الذي يؤكده ويرسخه بولس الرسول بقوله: «لأنه فيه سر أن يحل كل الملء»، و «فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً»، والذي يرد عليه القديس يوحنا بقوله: «والكلمة صار جسداً... مملوءا نعمة وحقاً». هنا ظفر الجسد بالملء الإلهي، ملء اللاهوت، فدخلته البشرية من أوسع أبوابه لأنه جسد »الكلمة»، الذي انفرش عليه اللاهوت، فمدد أطرافه ووسع تخمه وأبعاده حتى وسع ما للاهوت من ملء. هنا دخلت الكنيسة التي هي جسده إلى اللانهائية، لا باستحياء، بل بجراءة الذي خلقها وفداها ورفعها من التراب إلى السماء.
«..أخذنا, ونعمة فوق نعمة»:
«أخذنا» تأتي هنا بدون مفعول به, »من ملئه نحن جيعاً أخذنا». لأن الملء ليس مجزءا، هو فعلاً عطايا ونعم كثيرة وبلا حصر أوعلى الأصح «بلا كيل». ولكن الملء يوزع ليعود فيتجمع, فهو ملء واحد, ولا بد حتماً بعد أن يتوزع لكل واحد حسب حاجته وبمسرة الله، أن يصير وينتهي إلى واحد, »إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح.» (أف13:4)
«ونعمة فوق نعمة»:
في هذه الآية ذهب الشُراح كل مذهب، فمنهم من قال, وهم بعض آباء الكنيسة ومنهم ذهبي الفم وكيرلس الكبير, أن نعمة مقابل نعمة تعني نعمة العهد الجديد مقابل نعمة العهد القديم، أي الناموس، ولكن قولهم مردود عليه في الآية 17 التي جعلت الناموس هو المقابل للنعمة ومتدني عنها: «لأن الناموس بموسى أعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا».
وبولس الرسول يضح الناموس مضاداً للنعمة، وليس مساوياً لها أو حتى بديلا عنها: ""لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ. لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَباً إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ. لِهَذَا هُوَ مِنَ الإِيمَانِ كَيْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ النِّعْمَةِ لِيَكُونَ الْوَعْدُ وَطِيداً لِجَمِيعِ النَّسْلِ. لَيْسَ لِمَنْ هُوَ مِنَ النَّامُوسِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً لِمَنْ هُوَ مِنْ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ أَبٌ لِجَمِيعِنَا." (رو14:4-16)
ولكن علماء الشرح المدققين اتفقوا حديثأ على أنها تفيد اللاحقة والمتابعة التي لا تنتهي لعطايا النعم المتجددة دائمأ وإلى الأبد من لدن الرب يسوع المسيح: أي أن كل نعمة تأتي تنادي نعمة أخرى فترد عليها تلك وتأتي.
فكل نعمة يقابلها نعمة أعمق وأعلى، ونعمة الرب لا تقف ولا تحد: «لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح.» (يو34:3)
القديس أغسطينوس في عظته الثالثة على الأصحاح الأول لإنجيل القديس يوحنا يشرحها شرحا مطولا بما يفيد أن من ملئه نحن أخذنا, هذا مجمل الأخذ، ثم أضاف الإنجيل: «ونعمة فوق نعمة»، فمثلاً الإيمان نعمة ويقابل الإيمان نعمة أخرى وهي الحياة الأبدية، وهكذا.
فإذا عاد القارىء بذاكرته إل ما قلناه بخصوص طابع إنجيل القديس يوحنا الاستعلاني والمتدرج في استعلانه للمسيح والأب، نجد في هذا القول: «ومن ملئه نحن جيعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة» بما يفيد أيضاً الامتداد الاستعلاني للمسيح حتى وإلى الأبد. لأن تلاحق النعم وتلاحق الامتلاء من ملئه, أي من ملء النعمة والحق, هو أساساً وبالدرجة الاولى يخدم قضية استعلان حقيقة المسيح الذي لا نهاية لملئه. وفي المنهج الروحي العملي معروف أن كل نعمة يحصل عليها الإنسان إنما ترفعه إلى نعمة أخرى أعلى، لأن النعمة هي بحد ذاتها قوة رافعة، لذلك نسمع القول أن «من يضع نفسه يرتفع» (مت12:23, لو11:14, 14:18), وما ذلك إلا لأن الإتضاع نعمة, فنعمة الإتضاع ترفع إلى نعمة المجد. وقد يتهيأ أحياناً للانسان الروحي الذي يمارس الحب الإلهي أنه بلغ المنتهى من النعم والسعادة، ويكاد يقول: كفى، هنا قد بلغت النهاية. ولكن إذ بالنعمة ترفعه إلى مستوى أعلى فينظر وراءه وكأنه لم يكن سابقاً قد بلغ شيئاً!!، وهكذا فلينتبه القارىء أننا أمام قديس إنجيلي متمرس يتكلم من أعماق يعيشها وبكلمات قليلة يسلمها لمن يسير على دربه.
وكما سر الآب «أن يحل في المسيح كل ملء اللاهوت جسدياً», كذلك سر المسيح بنفس القدر والسخاء والحب أن يصب كل ملء نعم اللاهوت الذي له في الكنيسة التي هي جسده، لتمتلىء إلى كل ملء نعم الله، لأنها تأسست على دم الحب وشربت منه الروح الأزلي الذي لن يكف عن أن يأخذ مما للمسيح ويصب فيها صباً حتى تمتلىء إلى كل ملء الله. فلا تستغربن أيها القارىء قول القديس يوحنا: «ونعمة فوق نعمة»، لأن المنعم صمم على أن «المجد الذي لي أنا أعطيتهم»، بل ونفذ بالفعل السري حالة حلول واتحاد وعطاء نعم بلا حد ولا عد للذين أمنوا وتبعوا وشهدوا له في كل عصر: «أنا فيهم وأنت فيى» (يو23:17). لذلك فسريان النعمة لن بكف، طالما كان الاتحاد مفتوحاً.
وشهادة القديس يوحنا هنا خاصة بإضافة «جميعاً»، و«نحن جيعاً»، هي ليست شهادة فقط، بل واعتراف، بل وصلاة شكر بلسان الكنيسة كلها ولسان القارىء.
فهي تسبحة اعتراف بفضل المسيح يسوع الدائم والآبدي، فلا يوجد مكان أو زمان في الكنيسة يخلو من نعمته، ولا دخل إليه أحد وخرج فارغاً؛ فمراحمه لا تزال تتجدد كل صباح، وفي الفجر تتساقط نعمته كالطل على الكلأ، من يبكر إليه يجده، ومن يسهر إليه يتمشى معه. هو هو وحده وليس أخر يعطي ولا حدود لعطائه، ونحن جيعاً جميعاً نأخذ بلا عد ولا مكيال.
هنا يدفع القديس يوحنا الاستعلان إلى أقصاه فيبرز الاسم الذي ملأ خياله منذ أن بدأ يكتب إنجيله. هنا برز ختم الرسالة حيث يقرأ بغاية الوضوح اسم صاحبها: «يسوع المسيح».
وهذا هو آخر درجات استعلان مؤهلات «الكلمة»، وقد وضعه في مقابل الناموس أي التوراة جملة, بل والعهد القديم برمته, موضحاً أن الناموس أي التوراة لم تأت لا بنعمة ولا بحق، لا بسبب قصور فيها فهي «كلمة الله" بالدرجة الاولى, ولكن كان القصور في الشعب برؤسائه وكهنته الذين لم يلتصقوا بالله ليدركوا النور الذي فيها، مما حدا بالله أن يأتي بنفسه ويلتصق بالإنسان ويسكب فيه من روحه النعمة والحق.
فإذا عدنا بالذاكرة إلى مخطط استعلاناته لشخص يسوع المسيح السابقة نجدها هكذا:
1- «الكلمة في البدء» أي الآزلية.
2- «الكلمة عند الله».
3- «اكلمة الله".
4- «الكلمة» كخالق. «كل شيء به كان».
5- "الكلمة" كحياة. «فيه كانت الحياة».
6- «دالكلمة» نور. "و لحياة كانت نور الناس».
7- «الكلمة» ضد الظمة. "والنور أضاء في الظمة».
8- «الكلمة» أتياً إلى العالم. «كان في العالم» كنور.
9- «الكلمة» أتى إلى خاصته. كلمة الله في الأنبياء_ "المسيا».
10- «الكلمة» "صار جسداً».
11- «الكلمة" في هيكله الجديد «حل (سكن) بيننا».
12- استعلان الكلمة المتجسد أنه "ابن الله" مملوء نعمة وحقاً.
13- أستعلان الكلمة كملء الكنيسة: "نحن جيعاُ مملوؤون فيه.
14- استعلاذ الكلمة في شخص «يسوع المسيح" والعهد الجديد والإعلان عن انتهاء عهد الناموس: «لأن الناموس بموسى اعطي, أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا».
تأتي هذه الآية موازية للأية السابقة ومترتبة عليها. فظهور النعمة والحق بالملء الالهي الكلي هو إيذان بانتهاء عصر الناموس، عصر العقوبة والظل. وظهور شخص يسوع المسيح الذي تفسيره اللاهوتي من الآيات السابقة هو «يسوع», الكلمة المتجسد، المسيح, المسيا الآتي، هو إيذان حتمي بانتهاء عصر موسى.
فيكون الله قد بدأ "يكلمنا في المسيا ابنه», فهذا معناه أن عهد «الكلمة في موسى والانبياء» انتهى، والآن قد صار يكلمما الله بلا وسيط! ليس على أساس القانون والعصا بل بالنعمة والحق.
فعهد المسيح أو المسيحية مبني على النعمة، النعمة تغطى حياة المسيحي منذ أن يعتمد وحتى يلتحق بوطنه السمائي. ولكن ليست النعمة عطية واحدة على وتيرة واحدة، بل هي نعمة بانية وممتدة لملء حياة المسيحي: "نعمة فوة نعمة». والنعمة ليست وحدها تبني وليست وحدها توصل، بل النعمة في المسيحية مؤسسة على الحق، ليس على الشكل ولا الخارج أو الشبه ت أو الزائل، بل هي نعمة الله الموصلة إلى الله.
ولكي يتأكد القارىء أن «اسم يسوع المسيح» كان يملأ فكر القديس يوحنا ويملي عليه كل استعلاناته بتدرجها المدهش هذا، نقدم هاتين الآيتين:
* «وهذه هي الحياة الأبدية أذ يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 3:17)
* «وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم حياة إذا أمنتم باسمه." (يو 30:20-31)
هذا وإن اسم يسوع يحتل أكبر ساحة إنجيلية عل الإطلاق عند القديس يوحنا، فقد ورد 237 مرة في حين أنه ورد في إنجيل القديس متى 150 مرة وإنجيل القديس مرقص 81 وانجيل القديس لوق 89 مرة.
ولقد انتحى كثير من الشراح نحو كشف المفارقة بين الناموس والنعمة، أي العهه القديم والجديد، أو موسى والمسيح . ولكن في الحقيقة نحن نسترشد بقول المسيح نفسه ما جئت لأنقض بل لأكمل: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل» (مت17:5)
ولكي نوضح مدى التكميل أو مدى الكمال في ناموس المسيح بالنسبة لناموس موسى, نقدم للقارىء هذه الوصية الجديدة لعهد ناموس النعمة: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً.» (مت 38:5-39)
إذن، إذا أردنا أن نعمل مقارنة بين عهد الناموس وعهد النعمة، فهذه المقارنة لن تخرج عن قول المسيح أنها مقارنة بين الناقص والكامل الذي أكمله المسيح على الصليب بموته الفدائي: «قد أُكمل» (يو30:19) فكان هو سر النعمة كلها.
فكل ما كان ناقصأ في ناموس موسى، أكمله المسيح في نفسه ثم أعطاه لنا مجاناً. وهذه هي النعمة, كل النعمة. أو بأكثر دقة ووضوح فإن المقارنة بين الناموس والنعمة هي في حقيقتها مقارنة بين الجسد والروح!
ولكن نقص الناموس لم يكن بسبب موسى ولا من الله الذي أعطاه، فالمسيح يقول بهذا الصدد: «ما جئت لأنقض بل لاكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (مت17:5-18). ولكن الناقص كان ناقصأ بسبب الذين أُعطي لهم. والمسيح يقول بهذا الصدد: "فتقدم الفريسيون وسألوه: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته ليجربوه. فأجاب وقال لهم: بماذا أوصاكم موس؟ فقالوا: موسى أذن أن يكتب كتاب طلاق فتطلق. فأجاب يسوع وقال لهم: من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية. ولكن من بدء الخليقة ذكرأ وأنثى خلقهما الله، من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأنه، ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان.» (مر2:10-9)
وبولس الرسول يؤكد ذلك تأكيداً موضحاً أن الخطية كانت قد ملكت الإنسان واستعبدته حتى صيرت له الصالح موتاً: «لأن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية خدعتني بها وقتلتني، إذاً الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة. فهل صار لي الصالح موتاً؟ حاشا، بل الخطية، لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتاً، لكي تصير الخطية خاطئة جداً بالوصية» (رو11:7-13). وهذا هو سر الإثم الكائن في العالم الذي دوخ الإنسان. أي أن علة ضعف الناموس وعجزه عن أن ينشىء شيئاً صالحاً للانسان هي الخطيئة التي كانت قد ملكت وسادت وقتلت!! وهذه العلة, أى الخطية, التي ألغت قوة الناموس ومسخت روحانيته وجعلته غير صالح، مع أنه صالح, هي التي ألغاها المسيح», وقتلها في جسده. وهذا ما يوضحه بولس الرسول أيما توضيح:
* " إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ (الناموس) بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ (النعمة. لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَ الْمَوْتِ. لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ فِي مَا كَانَ (الإنسان) ضَعِيفاً بِالْجَسَدِ فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ (اى بدون خطية) وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ (التى عطلت عمل موسى) دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ (الصليب). لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا (ونأخذ صك براءة ممض باسم المسيح ومختوم بالدم) نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ (الناموس) بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ (الإنجيل). (رو1:8-4)
فعوض الخطية أعطى المسيح النعمة!! وعوض حكم الناموس بموت الخاطىء، أعطى المسيح بره الشخصى لتبرير الخاطىء ليحيا إلى الأبد ولا يموت أبداً.
وبينما كان الناموس وكل وصايا وفرائض وعبادة الناموس بالجسد هي شبه السمويات وظلها، إذ بالمسيح يجعل الوصية والعبادة بالروح والحق هي السمويات عينها التي جاء منها، وهي طبيعة الله وحياته التي جاء ليخبر بها.
هذه هي آخر آية في منظومة مقدمة إنجيل يوحنا. وهي بمثابة الرتاج أو صمام الأمن الذي يغلق ¬في وجه كل محاولة كانت أو ستكون، إن هي وقفت لتناطح صاحب هذا الاسم الآخير المستعلن, يسوع المسيح, في كونه الوحيد بصفته الابن المحبوب لله, الذي استطاع ويستطيع إلى الآبد أن يخبر عن الله أبيه الخبر اليقين والبشارة المفرحة. فليست هذه الآية تقع كسابقتها في مواجهة موسى أو غيره من الآنبياء، بل وكل ادعاء يجىء ليتحدث ويخبر عن الله: «الآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي، لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته» (يو37:5). ولكن كان هم القديس يوحنا ليس إسكات أصوات إدعاء المتكلمين بفم الله في زمانه أو غير زمانه، بل كان همه بالأساس إرساء قاعدة حق إنجيل يسوع المسيح ابن الله، على أساس أن يسوع المسيح ابن الله هو الاستعلان الكامل والوحيد لله، الذي به نرى الله، وفيه نرى الآب، ومنه نعرف كل ما عند الآب:
* وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». (يو26:8)
* وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ (يو40:8)
* «أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي (يو32:10)
* 7- لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ». (يو7:14)
* لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي. (يو15:15)
* لاَ أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ بَلْ أُخْبِرُكُمْ عَنِ الآبِ علاَنِيَةً. (يو25:16)
فجميح طرق الاستعلان السالفة لم تكن كافية لتبلغ الإنسان حقيقة الله؛ وبواسطتها جميعاً أخفق الإنساذ أن يرى الله أو يسمع صوته. أما في الابن الوحيد الكائن في حضن الآب فقد استعلن الله، مرئياً ومسموعاً:
الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ. (يو9:14)
وَالْكلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (يو24:14)
والآية بحد ذاتها تضع الله في السمو المطق وتقنع الإنسان الذي انطلق يفحص الله أن يعود إلى بيته ودائرة محدوديته. كما تقنع الإنساذ الطموح الذي يتحرق اشتياقاً وحباً لله أن يلتجىء إلى الابن المتجسد ليشبع منه وفيه كل اشتياقاته وحبه، فالأبن المتجسد هو الابن المحبوب الحامل ليس فقط لمعرفة الآب بل لكل حبه. فـ «دالمونوجانيس» كصفة الابن يجمع صفتين جوهريتين لله: البنوة الفريدة، والحب الفريد.
فلو انتبهنا إل الأية السالفة (17) باعتبارها الأية الفاعلة بين العهد القديم والعهد الجديد سواء من جهة طبيعته أو صاحبه: «الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا»، نجد أنها ينقصها المزيد من التوضيح. وهذا هو الذي تكمله الأية التي نحن بصددها. فموسى وكل الشخصيات العظيمة والمقربة إلى الله على مدى العهد القديم كله لم يحظ أحد منهم برؤية الله رؤية حقيقية، وإنما كان كله بالشبه، وبالتالي تكون كذلك كل توصيات ووصايا العهد القديم هي حتماً «شبه السماويات وظلها»، وحتى الإنسان نفسه، كل إنسان، فهو مخلوق أصلاً على شبه الله وصورته. ولكن الآن وفي المسيح ليس الأمر كذلك، فهو الصورة الحقيقية لله، بل هو«الحق» في ذاته وفي كل أقواله:
* فقال (موسى) أرني مجدك, فقال أجيز كل جودتي قدامك وأنادي باسم الرب قدامك. وأتراءف على من أتراءف وأرحم من أرحم. وقال لا تقدر أن ترى وجهي, لأن الإنسان لا يراني ويعيش.» (خر18:33-20)
هذا في مقابل صاحب العهد الجديد ومؤسسه يسوع المسيح الابن الوحيد، فهو ليس كذلك بل هو وكما أشارت الأية السابقة ملء النعمة والحق:
«(ابن) وحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً». و«الابن الوحيد (الإله) الذي هو في حضن الآب هو خبر».
فهو الابن الحقيقي والفريد لله، الذي ليس فقط رأى الله ويعرفه بل هو قائم فيه في موضع الحضن أو على الأصح في حالة الحضن أي العمق الخفي والخاص والسري جداً، المستريح والفعال في الله الذي لا يحتلة إلا "الابن الحبيب الذي سررت به».
"في حضن الآب»:
يلاحظ أنها لم تجيء ( ) ولكن ( ) وهذا في التعبير اليوناني الدقيق يفيد ليس ««في حضن الآب» بل «داخل حضن الآب". وحتى هذا الوجود في الداخل ليى جامداً غير متحرك، بل هو وجود «متداخل», أي دائم الإتجاه نحو الحضن الأبوي. وبهذا يصبح هذا التعبير مشابهاً للتعبير الأول في الآية الأولى ( ) "عند الله", فهو وجود قائم متداخل ممتد في الله, وبذلك يكون التشديد في المعنى متركزاً نحو كيفية الصلة الذاتية «الابن بالآب»، فهي صلة تداخل وتضام كلي ومطلق، لأن الابن والآب هما الواحد المطلق.
وبهذا التعبير اللاهوتي الدقيق يمتنع تصور الثنائية بين الأب والابن، لأنه حتى بعدما أرسل الابن في مهمة الخلاص العظمى حسب مسرة الآب وحبه للعالم والإنساذ، ظل الابن هو كما هر قائماً في الآب ومتجهاً نحوه بتداخل كلي ومطلق، فهو كائن على الأرض وفي السماء، في جسد إنسان، وهو هو في الآب دون أدنى مفارقة ذاتية «وليس أحد صعد إلى السماء إلآ الذي نزل من السماء، ابن الانسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
وفي هذا يقول القديس أغسطينوس في عظاته عن إنجيل يوحنا: [لقد أُضيف الانسان إليه، أما الله فلم يُفقد منه، لقد أخلى نفسه ليس بأنه فقد شيئا مما له، ولكن بأخذه لنفسه ما لم يكن له.]
من موضع هذا الحضن، أو على الأصح من واقع هذه الحالة, يخبرنا الابن عن الله كأبيه، أو بالحري يكشف لنا عن حقيقة طبيعة ذات الله.
ويجيء التعبير عن ذلك هنا في الآية باللغة اليونانية بترجمتها الصحيحة عن أقدم المخطوطات، وهو الوضع الذي أخذ به معظم الآباء، هكذا: ( ), أى «الابن الوحيد الاله الكائن بذاته في حضن الآب». وهي الصفات الكاملة التي كانت تنقص ألقاب المسيح في الآية السالفة: "أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا»: وهو تعبير يتجه مباشرة نعو العلاقة الحميمة بين الآب والابن، وتفيد أن الابن كائن بالحب في الآب، والمسيح عبر عن هذه العلاقة أصدق تعبير بقوله:
* لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (يو16:8)
* والَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ». (يو29:8)
* وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي. (يو32:16)
* أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ (يو10:14)
وهذا هو التعبير الشخصي المعبر عن علاقة الكينونة التي تربط الآب بالابن، مقابل التعبير الفكري الذي صور علاقة الكلمة بالله على مستور العمل والخلق، «والكلمة كان عند الله». فإذا أردنا أن نقارن بين التعبيرين فإنه يكون هكذا : فكما أن الكلمة تكون دائمأ في حضن العقل، أو كما يكون الفعل مختفياً في الإرادة, هكذا الابن في حضن الآب.
وهذا الا ستعلان يخدم قضية الانجيل كله. لأنه بالتالي يكون «كل ما يقول ويعمل ويشرح» عن الله "ابيه" هو الحق الواحد والوحيد لأنه يخبرنا بما يرى ويعرف.
ويجيء الفعل «يخبر» ( ) يحمل هذه المعاني مجتمعة، فهو يخبر بالخبر الإنجيلي الذي يشرح ويفسر ما خفي عن الله ويعلم ويوضح.
ومعروف أن اللغات الحديثة أخذت هذه الكلمة ( ) دون أي تحريف لتجعل منها نفس المعنى أي الشرح والتفسير والتوضيح للأمور المخفية (علم التفسير). وفي الحقيقة إذ المعنى لهذه الكلمة ينسحب على المسيح نفسه بكل ارتياح، فهو بذاته وبحياته وتجسده هو هو الآب. فالمسيح هو "الله المُعلن», "والله هو من أعلنه المسيح" في ذاته وأقواله وأعماله. بل إن المسيح في عرف الآباء القديسين هو "الإنجيل" لأنه هو «الخبر المفرح"، أليس هو «الكلمة"؟
وبهذه الكلمة يسلم القديس يوحنا فكرالقارىء إلى بداية رواية الإنجيل مباشرة في الآية القادمة بثقة وبكل هدوء. فانظر أيها القارىء وتعجب لهذه الدقة المتناهية وهذا الحبك اللفظي والمعنوي، هذا ليس حرفاً بل هو روح!!
كما يلاحظ أنه عن قصد ودراية يقدم لنا القديس يوحنا هذه الآية الأخيرة واصفاً صاحب العهد الجديد بل وصاحب الإنجيل بهذه الصفات، فهو يقصد التأكيد على أن كل ما سيجىء, في هذا الإنجيل, على لسان المسيح هو «الحقد"، فهو أولاً "كلمة الله» وهو «المملوء نعمة وحقاً», وهو "الابن الإله القائم فى حضن الآب» هذه هي مؤهلات الذي أتى بالخبر الإنجلي. وهو يخبرنا، نحن البشر، خبر القُربى, والسكنى في البيت الواحد. فهو يكلمنا ليس بالرؤيا ولا بالحلم، "فالكلمة صار جسداً وحل بيننا"، فهو وهو كزنه "كلمة الله" يكلمنا «بالجسد" كإنسان وهو الله.
وفي ختام هذه المقدمة يمكن أن نضع أمام القارىء أهم وأخطر الكلمات التي جمعها وكدسها القديس يوحنا في المقدمة، والتي ستقوم عليها كل رواية الانجيل باعتبارها أساس لاهوت إنجيل يوحنا:
الحياة، النور، الظمة، الشهادة، العالم، المجد، ابن الله الوحيد، الحق، يقبل، يؤمن، اسمه، يولد من الله.
أما الكلمات الهامة جداً التي جاءت في المقدمة فقط واختفت من باقي الإنجيل فهي: «الكلمة»، «النعمة", «الملء»، لأنها بعد التجسد أخذت صورة الفعل والعمل. فالكلمة صار متكلماً، والنعمة صارت عطية، والملء صار توزيعاً.
وهي تختص بالشهادة أن يسوع هو المسيح ابن الله. وهي تشمل:
شهادة القديس يوحنا المعمدان, وهي تمثل شهادة الوحي النبوي بالإلهام. وقد جاءت على عدة مراحل:
أ- الجواب بالنفي: 19ك1-22.
ب- الجواب بالإيجاب: 23:1-28
ج- الشهادة للمسيح:29:1-34 .
د- المعمدان يبدأ يسلم الوديعة:35:1-37.
2- شهادة التلاميذ: وهي شهادة الرؤية الإيمانية "وقد رأينا مجده» وهي تشمل:
أ- شهادة أندراوس: 40:1-42
ب- شهادة فيلبس:43:1-46.
ج- شهادة نثنائيل: 47:1-51 .
1- شهاده القديس يوحنا المعمدان:
لقد سبق للقديس يوحنا أن أورد المعمدان كشاهد مرتين:
الاولى: 7:1 كشاهد للنور: «هذا جاء للشهادة ليشهد للنور لكي يؤمن الكل بواسطته». وهذه الشهادة لا تدخل في سياق التاريخ، بل وُضعت كمعيار شخصي للمعمدان تحدد حجم شخصه وعمله.
والثانية: 15:1 «يوحنا (المعمدان) شهد له ونادى قائلاً: هذا هو الذي قلت عنه إن الذي يأتي بعدي صار قدامي (27:1) لأنه كان قبلي».
وهي منسوبة لشهادة قادمة 27:1، التقطها القديس يوحنا وقدمها عن موضعها لتخدم واقعية «الكلمة صار جسداً"، أي أن الكلمة دخل التاريخ في حيز محدد جاء ترتيبه بعد المعمدان: «يأتي بعدي»؛ ولكن، وبسرعة، يستدرك المعمدان هذه المعلومة الزمنية بإعطاء معلومة غير زمنية عن الكلمة الذي صار جسداً بأنه كان قبله، ليس زمنياً، بل كيانياً، بما يفيد تجاوز البشرية ككل. وهذه الشهادة سجلها القديس يوحنا الرسول ليؤكد بها ضمنياً تدنى رتبة المعمدان عن رتبة المسيح: «صار قدامي لأنه كان قبلي".
وهنا في 19:1 يبدأ القديس يوحنا انجيله تاريخيً على مستوى الوقائع اليومية، مبتدئاً بالمعمدان حسب التقليد الرسولي الذي استلمته الكنيسة وتسجل لها في مفر الأعمال: «فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج "منذ معمودية يوحنا" إلى اليوم الذي ارتفح فيه عنا.» (أع21:1-22 )
وهكذا يحصر التقليد الرسولى في سفر الأعمال, بفم بطرس الرسول, زمان ظهرم المسيح وعمله، أي إنجيل البشارة ابتداء من المعمدان.
والقديس بطرس يؤكد ذلك مرة أخرى وفي سفر الأعمال أيضاً: "أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة. (أع37:10-38)
وواضح أيضاً من شهادة بولس الرسول أنه استلم هذا التقليد الرسولى وعلم به كما هو: « فقام بولس وأشار بيده وقال : ... أقام الله لإسرائيل مخلصاً يسوع إذ سبق يوحنا فكرز قبل مجيئه بمعمودية التوبة لجميع شعب إسرائيل. (أع16:13و23و24)
وهذا هو النص الذي ابتدأ القديس مرقس به إنجيله: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن اللة كما هو مكتوب في الأنبياء ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيىء طريقك قدامك. صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة. كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا.» (مر1:1-4 )
أما القديس يوحنا فلم يلتفت إلى شخصية المعمدان في حد ذاته، مثلما صارت عليه الأناجيل، من حيث ميلاده وحياته في البرية ولبسه وأكله وشربه والظروف التي أحاطت به جيعاً، كذلك موقفه مع هيرودس رئيس ربع الجليل وهيروديا والسجن والسيف، والامور التي انتهت بموت المعمدان. كما لم يذكر القديس يوحنا خدمة المعمدان الفريدة من نوعها في أخذ اعترافات الشعب وقبول توبتهم قبل التعميد، الذي كان في اعتبار الإنجيليين, وخامة القديس متى, ئفطة انطلاق لخدمة المسيح، إذ اعتبر أن عماد المسيح بمعمودية التوبة على يد المعمدان هو عملية استقطاب عظمى ينوب فيها المسيح عن كل الشعب تائبأ: "هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به»، وذلك عوض إسرائيل الابن الذي أخطأ وزغ وأعوزه الخلاص. ولكن حتى هذا الزخم الروحي في التقليد الإنجيلي تحاشاه القديس يوحنا، لأنه كان مهتماً في مستهل إنجيله بكشف العلاقة بين المعمدان كمجرد إنسان مرسل من الله، وصوت صارخ يشهد للمسيح، وبين المسيح كنور حقيقي يضيء لكل إنسان .
أما معمودية التوبة التي هى وظيفة المعمدان، فيراها القديس يوحنا أن هدفها الوحيد هر استعلاذ المسيح: "فى وسطكم قائم الذي لستم تعرفوئه»، وذلك على مستويين:
المستوى الاول. أن بدء عمل المعمدا بإعلان معمودية التوبة للشعب هو، بحساب الساعة السماوية، إيذانا بافتتاح عهد المسيا, أي المسيح، وذلك بعلامة سماوية لقنها الروح للمعمدان، حتى إذا رأها يشهد في الحال لصاحب العهد الذي من أجله جاء ليفتح الطريق أمامه.
المستوى الثائي: أن بخدمة التوبة والتعميد بالماء و «مغفرة خطايا» تفتح بصيرة الشعب فيتهيأ لقبول المسيا: «ليؤمن الكل بواسطته». وهذا هو ما قصده إشعياء وردده المعمدان من «إعداد الطريق قدامه"(راجع لو76:1-77)
هدف إنجيل يوحنا كان منصباً على تجميع الشهادات الموثوق بها للمسيح. لذلك نجده يهتم جداً في بدء ذكر المعمدان (6:1) أنه كان مرسلاً من الله ليشهه. «كان إنسان مرسل من الله اسمه يوحنا هذا جاء للشهادة». كما يعتني القديس يوحنا أن يجعل شهادة المعمدان القائمة عل رؤيته للروح القدس، وهو يستقر على المسيح وسماعه الصوت الآتي من السماء، أن تشهد لبتوته لله, ليست شهادة ذاتية ترتكز عل موهبة طبيعية أو إلهام خاض با لمعمدان, ولكن ترتكز على توجيه إلهي وإعطاء علامة سماوية خطيرة يلتزم بها المعمدان للاستعلان، وذلك ضماناً لصدق الشهادة ودقتها: «وأنا لم أكن أعرفه, لكن لكى يظهر لإسرائيل، لذلك جئت لأعمد بالماء... وأنا لم أكن أعرفه, لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لى: الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس، وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو31:1-34)
لأول مرة يذكر القديس يوحنا اللاويين! فالمسألة مسألة تطهير, وهي الامور الخاصة بهم وحدهم. أما الكهنة، فالأمر بالنسبة لهم جد خطير، لأن هناك إجراء طقسي عام على مستوى الشعب: اعتراف وتوبة وتعميد, أمر لم يحدث من قبل في تاريخ شعب إسرائيل وهو من صميم اختصاص الكهنة.
أما كلمة «اليهود» فهي تعبير عن الهيئة العامة الرئاسية للشعب أي السنهدريم. فقد شكل لجنة لتقصي الحقائق. إنه تكليف من الناموس، هو قانون يرتكز على وصية: «وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصيه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم ألهة أخرى فيموت ذلك النبي. وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه.» (تث20:18-22)
وهذه الوصية أعطاها الله, أي جاءت في التوراة, بعد ذكر الوعد بمجيء «النبي» من وسط شعب إسرائيل مثل موسى، ويقصد «المسيا»: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك، مثلي، له تسمعون.» (تث15:18)
ماذا حدث؟
القديس يوحنا يعتمد هنا اعتماداً كلياً على رواية الأناجيل فيما يخص الأمور التي واكبت قيام المعمدان بوظيفته «كمرسل من الله» لأخذ أعترافات الشعب والتعميد وقبول التوبة.
لم يكن من السهل أن يتحرك السنهدريم ويرسل هذه اللجنة للفحص، إلا بعد أن بلغت حركة المعمدان أقصاها بعماد المسيح وإعطاء الشهادة العلنية أن: «هذا هو ابن الله» و«حمل الله الذي يرفع خطية العالم». أمر أصاب الرؤساء على كل مستوياتهم بالذهول والإضطراب والقلق. هل جاء المسيا؟ وكيف لم يمر أولاً على الهيكل والسنهدريم؟ ويتعرف عليه الرؤساء أولاً ويخضع لموجبات الناموس؟
«فأجابهم الفريسيون: ألعلكم أنتم أيضأ ضللتم، ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفرسيين آمن به. ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون.» (يو47:7-49)
الأخبار ترد للرؤساء كل يوم: جموع الشعب الحاشدة تتسابق لعبور الاردن لرؤيته والإستماع إليه، شخص مديد القامة نحيف، متمنطق بالجلد، وجهه كالنار، نبي الهيئة، جهوري الصوت، يوبخ الفريسيين، وهم أمراء التعليم؛ يعنفهم أعنف توبيخ، يدعوهم أولاد الثعابين, ومعهم ومثلهم الصدوقيون، يهددهم ويهدد رؤساءهم بالقطع، كشجرة لا تصنع ثمراً جيداً مأواها النار!
أورشليم واليهودية وجيع الكور وما حول الاردن، جماعات جماعات، تزحف بلا توقف تبكي وتنوح معترفة بخطاياها، تتسابق لتعتمد تحت يده. هو لا يكف عن فضح خطاياها، كل فئة بعارها، وكل وظيفة بعثراتها، وهي ترتعد تحت تهديد قضاء الله الخارج من فمه كالسيف. لقد هطلت السماء, بعد أن توقف غيث الله أربعمائة سنة لم يُسمع فيها أحد صوت نبي.
أما تقليد الأناجيل الأخرى فيعطي صورة لعماد المسيح تحت يد يوحنا المعمدان: المسيح قادم، المعمدان يلمحه فيخقض صوته وترتخي يداه، يحزج من الماء ويقف أمامه خاشعاً، المسيح يدعوه لمتابعة عمله، المعمدان يتنحى ويطلب أن ينعكس الوضع، المسيح يدرك أنه مولود تحت الناموس، يطلب: «ينبغي أن نكمل كل بر»» ليكفي احتياج كل العالم, المعمدان يُجري الطقس والعهد ينتقل من يد ليد ومن الماء إلى الروح، السماء تنفتح، الروح القدس ينحدر «ليستقر» عليه واستقر ليغطيه، صوت الأب من السماء: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». المعمدان يؤمن ويشهد على مرأى ومسمع من تلاميذه، وينقص لينطفئ، لأن النور الحقيقي جاء. ولكن إنجيل يوحنا لا يذكر عماد المسيم.
«وهذه هي شهادة يوحنا»:
الشهادة للمسيح عند القديس يوحنا تعتبر ذات قيمة إيماية عظمى، نظراً لأن الكلمة المتجسد ابن الله لم يكشف لاهوته بصورة علنية ولا طرح طبيعته ومجده للمارة، بل اختزنها للعين المؤمنة لترى وتشهد وتبلغ القصد. لذلك اعتنى القديس يوحنا ليقدم في بداية إنجيله شهادات قوية وقويمة من أشخاص موثوق بهم تحت عهدته كتلميذ محبوب مختار ومؤتمن، يسجل لهم كمن سمع وعاين بنفسه. أليس هو تلميذ المعمدان أصلاً؟
«حين أرسل إليه اليهود من أورشليم كهنة ولاويين»:
يلاحظ القارىء مقدار الحبك القانوني بل القضائي الذي خرجت من تحت يده هذه الشهادة، فليس عبساً أن يدقق القديس يوحنا في نوع اللجنة القضاية وتشكيلها القانوني مز الطبقتين الموكل إليهما من الله فحص وبحث وخدمة قضايا العشب: «كهنة ولاويين». وهي موفده من قبل محكمة اليهود, الرئيسية في أورشليم, السنهدريم (71 عضواً). وليس ذلك فقط بل عاد القديس يوحنا في معرض الإنجيل ليكرر أن شهادة المعمدان معتمدة لدى المسيح نفسه أنها حق!
«الذي يشهد لى هو آخر(المعمدان) وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لى هي حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق» (يو32:5-33). وكل هذا التوثيق الذي يوثق به القديس يوحنا شهادة المعمدان، إنما هو ليقبل القارىء هذه الشهادة لتكولا عنصراً لإيمان لا يتزعزع. ومرة أخرى ننبه ذهن القارىء إل مدى أهمية القول إننا نؤمن بكنيسة واحدة «رسولية». فبالرسل ومن خلال الرسل استعلن المسيح نفسه لهم، وثاهدوه وشهدوا له، واعتمدنا نحن عل مشاهدتهم وشهادتهم.
«ليسألوه من أنت»:
ها يلذ لنا أن نكرر ما قاله القديس يوحنا سابقأ عن المعمدان: «كان إنساناً مرسل من الله اسمه يوحنا». ولكن من الأمور البديعة الملفتة للنظر التطابق المحبوك بين ما قاله القديس يوحنا وما جاء أصلاً في ملاخي النبي عنه: «هأنذا أرسل ملاكي فيهيىء الطريق أمامى (ملا1:3). فالذي قاله الله عن نفسه «هأنذا ارسل»، حوله القديس يوحنا كما هو إلى صاحب الإرسالية «مُرسل من الله». ثم حدث التصويب المباشر نحو المسيح أنه هو هو الله «يهوه» العهد القديم المتكلم في فم الأنبياء. وهذا يتضح من قول الله: «أنا (الله) أرسل ملاكي أمامى», حيث «أمامي» صارت «أمام المسيح».
أ- الجواب بالنفي:
كانت التعليمات المعطاة لآعضاء لجنة تقصي الحقائق المرسلة من السنهدريم هي التحقق الشخصي من المعمدان بأسئلة محددة يتحتم أن يجاوب عليها واحدة فواحدة, حتى يتحققوا من شخصيته «هل هو المسيا»؟ وهذا أهم سؤال، لأن الذي شاع أنئذ أنه هو المسيا وقد جاء. لذلك وُضع السؤال قاطعأ مانعاً. «من أنت؟»، هذا في البداية.
والذي ضخم في أسماع السنهدريم خطورة قيام هذا النبي هو تجرؤه على توبيخ الفريسيين أنفسهم بعنف بالغ وهم أئمة الأمة علمأ وتعليماً، والصدوقيين وهم طبقة الكهنوت، مطالباً إياهم بالتوبة وأن لا يتكلوا على بر أنفسهم أو نسبهم: «يا أولاد الآفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الأتي؟ فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً.» (مت7:3-9).
ولم يفت على المسيح هذا الشموخ النبوي الذي لم يبلغه نبي، فقال عنه أنه أعظم من نبي: كونه شاهد النور وشهد له، وكونه لم يجفل أمام علماء الأمة ومعلميها, بل ولم يحفل بكاهن أو لاوى!!
لأول مرة يذكر القديس يوحنا اللاويين! فالمسألة مسألة تطهير, وهي الامور الخاصة بهم وحدهم. أما الكهنة، فالأمر بالنسبة لهم جد خطير، لأن هناك إجراء طقسي عام على مستوى الشعب: اعتراف وتوبة وتعميد, أمر لم يحدث من قبل في تاريخ شعب إسرائيل وهو من صميم اختصاص الكهنة.
أما كلمة «اليهود» فهي تعبير عن الهيئة العامة الرئاسية للشعب أي السنهدريم. فقد شكل لجنة لتقصي الحقائق. إنه تكليف من الناموس، هو قانون يرتكز على وصية: «وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصيه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم ألهة أخرى فيموت ذلك النبي. وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه.» (تث20:18-22)
وهذه الوصية أعطاها الله, أي جاءت في التوراة, بعد ذكر الوعد بمجيء «النبي» من وسط شعب إسرائيل مثل موسى، ويقصد «المسيا»: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك، مثلي، له تسمعون.» (تث15:18)
ماذا حدث؟
القديس يوحنا يعتمد هنا اعتماداً كلياً على رواية الأناجيل فيما يخص الأمور التي واكبت قيام المعمدان بوظيفته «كمرسل من الله» لأخذ أعترافات الشعب والتعميد وقبول التوبة.
لم يكن من السهل أن يتحرك السنهدريم ويرسل هذه اللجنة للفحص، إلا بعد أن بلغت حركة المعمدان أقصاها بعماد المسيح وإعطاء الشهادة العلنية أن: «هذا هو ابن الله» و«حمل الله الذي يرفع خطية العالم». أمر أصاب الرؤساء على كل مستوياتهم بالذهول والإضطراب والقلق. هل جاء المسيا؟ وكيف لم يمر أولاً على الهيكل والسنهدريم؟ ويتعرف عليه الرؤساء أولاً ويخضع لموجبات الناموس؟
«فأجابهم الفريسيون: ألعلكم أنتم أيضأ ضللتم، ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفرسيين آمن به. ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون.» (يو47:7-49)
الأخبار ترد للرؤساء كل يوم: جموع الشعب الحاشدة تتسابق لعبور الاردن لرؤيته والإستماع إليه، شخص مديد القامة نحيف، متمنطق بالجلد، وجهه كالنار، نبي الهيئة، جهوري الصوت، يوبخ الفريسيين، وهم أمراء التعليم؛ يعنفهم أعنف توبيخ، يدعوهم أولاد الثعابين, ومعهم ومثلهم الصدوقيون، يهددهم ويهدد رؤساءهم بالقطع، كشجرة لا تصنع ثمراً جيداً مأواها النار!
أورشليم واليهودية وجيع الكور وما حول الاردن، جماعات جماعات، تزحف بلا توقف تبكي وتنوح معترفة بخطاياها، تتسابق لتعتمد تحت يده. هو لا يكف عن فضح خطاياها، كل فئة بعارها، وكل وظيفة بعثراتها، وهي ترتعد تحت تهديد قضاء الله الخارج من فمه كالسيف. لقد هطلت السماء, بعد أن توقف غيث الله أربعمائة سنة لم يُسمع فيها أحد صوت نبي.
أما تقليد الأناجيل الأخرى فيعطي صورة لعماد المسيح تحت يد يوحنا المعمدان: المسيح قادم، المعمدان يلمحه فيخقض صوته وترتخي يداه، يحزج من الماء ويقف أمامه خاشعاً، المسيح يدعوه لمتابعة عمله، المعمدان يتنحى ويطلب أن ينعكس الوضع، المسيح يدرك أنه مولود تحت الناموس، يطلب: «ينبغي أن نكمل كل بر»» ليكفي احتياج كل العالم, المعمدان يُجري الطقس والعهد ينتقل من يد ليد ومن الماء إلى الروح، السماء تنفتح، الروح القدس ينحدر «ليستقر» عليه واستقر ليغطيه، صوت الأب من السماء: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». المعمدان يؤمن ويشهد على مرأى ومسمع من تلاميذه، وينقص لينطفئ، لأن النور الحقيقي جاء. ولكن إنجيل يوحنا لا يذكر عماد المسيم.
«وهذه هي شهادة يوحنا»:
الشهادة للمسيح عند القديس يوحنا تعتبر ذات قيمة إيماية عظمى، نظراً لأن الكلمة المتجسد ابن الله لم يكشف لاهوته بصورة علنية ولا طرح طبيعته ومجده للمارة، بل اختزنها للعين المؤمنة لترى وتشهد وتبلغ القصد. لذلك اعتنى القديس يوحنا ليقدم في بداية إنجيله شهادات قوية وقويمة من أشخاص موثوق بهم تحت عهدته كتلميذ محبوب مختار ومؤتمن، يسجل لهم كمن سمع وعاين بنفسه. أليس هو تلميذ المعمدان أصلاً؟
«حين أرسل إليه اليهود من أورشليم كهنة ولاويين»:
يلاحظ القارىء مقدار الحبك القانوني بل القضائي الذي خرجت من تحت يده هذه الشهادة، فليس عبساً أن يدقق القديس يوحنا في نوع اللجنة القضاية وتشكيلها القانوني مز الطبقتين الموكل إليهما من الله فحص وبحث وخدمة قضايا العشب: «كهنة ولاويين». وهي موفده من قبل محكمة اليهود, الرئيسية في أورشليم, السنهدريم (71 عضواً). وليس ذلك فقط بل عاد القديس يوحنا في معرض الإنجيل ليكرر أن شهادة المعمدان معتمدة لدى المسيح نفسه أنها حق!
«الذي يشهد لى هو آخر(المعمدان) وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لى هي حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق» (يو32:5-33). وكل هذا التوثيق الذي يوثق به القديس يوحنا شهادة المعمدان، إنما هو ليقبل القارىء هذه الشهادة لتكولا عنصراً لإيمان لا يتزعزع. ومرة أخرى ننبه ذهن القارىء إل مدى أهمية القول إننا نؤمن بكنيسة واحدة «رسولية». فبالرسل ومن خلال الرسل استعلن المسيح نفسه لهم، وثاهدوه وشهدوا له، واعتمدنا نحن عل مشاهدتهم وشهادتهم.
«ليسألوه من أنت»:
ها يلذ لنا أن نكرر ما قاله القديس يوحنا سابقأ عن المعمدان: «كان إنساناً مرسل من الله اسمه يوحنا». ولكن من الأمور البديعة الملفتة للنظر التطابق المحبوك بين ما قاله القديس يوحنا وما جاء أصلاً في ملاخي النبي عنه: «هأنذا أرسل ملاكي فيهيىء الطريق أمامى (ملا1:3). فالذي قاله الله عن نفسه «هأنذا ارسل»، حوله القديس يوحنا كما هو إلى صاحب الإرسالية «مُرسل من الله». ثم حدث التصويب المباشر نحو المسيح أنه هو هو الله «يهوه» العهد القديم المتكلم في فم الأنبياء. وهذا يتضح من قول الله: «أنا (الله) أرسل ملاكي أمامى», حيث «أمامي» صارت «أمام المسيح».
أ- الجواب بالنفي:
كانت التعليمات المعطاة لآعضاء لجنة تقصي الحقائق المرسلة من السنهدريم هي التحقق الشخصي من المعمدان بأسئلة محددة يتحتم أن يجاوب عليها واحدة فواحدة, حتى يتحققوا من شخصيته «هل هو المسيا»؟ وهذا أهم سؤال، لأن الذي شاع أنئذ أنه هو المسيا وقد جاء. لذلك وُضع السؤال قاطعأ مانعاً. «من أنت؟»، هذا في البداية.
والذي ضخم في أسماع السنهدريم خطورة قيام هذا النبي هو تجرؤه على توبيخ الفريسيين أنفسهم بعنف بالغ وهم أئمة الأمة علمأ وتعليماً، والصدوقيين وهم طبقة الكهنوت، مطالباً إياهم بالتوبة وأن لا يتكلوا على بر أنفسهم أو نسبهم: «يا أولاد الآفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الأتي؟ فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً.» (مت7:3-9).
ولم يفت على المسيح هذا الشموخ النبوي الذي لم يبلغه نبي، فقال عنه أنه أعظم من نبي: كونه شاهد النور وشهد له، وكونه لم يجفل أمام علماء الأمة ومعلميها, بل ولم يحفل بكاهن أو لاوى!!
رفض المعمدان رفضأ قاطعاً أن يعرف نفسه على قياس أية شخصية سابقة مرصودة في عالم رؤى اليهود: لا المسيا ولا إيليا ولا النبي ولا أي أخر. لأنه يعلم تماماً أنه جاء ليحمل شهادة لمن هو أقوى منه، الذي يأتي بعده وهو لا يعرفه الأن, فإن أردتم أن تعرفوا من أنا، فأنا صوت صارخ! يعد الطريق لقادم.
«فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ.»
يبدو النفي هنا أنه للتأكيد. فالمعمدان عُرف لدى الكثيرين أنه المسيا, والأخطر أن بعضأ من تلاميذه تمسكوا بهذا الإدعاء وكونوا شيعة تمجده باعتباره المسيا.
فسؤال لجنة الفحص وتقصي الحقائق لم يُسأل من فرغ، فهي تواجهه بسؤال حرج للغاية، لأن التلاميذ الذين يتبعونه والشعب الواقف والسامع كان قد أخذ بهيبته وظنوه أنه فعلاً المسيا:
• «وإذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح...» (لو15:3)
• «ولما صار يوحنا (المعمدان) يكمل سعيه، جعل يقول: من تظنون أني أنا؟ لست أنا إياه لكن هوذا يأتي بعدي الذي لست مستحقاً أن آحل حذاء قدميه.» (أع25:3)
لهذا أسرع المعمدان ولم يتنكر لحقيقته مؤكداً, والتأكيد هنا بسبب الإشاعات التي ملأت اليهودية وأورشليم, أني لست أنا المسيح. والجملة المنفية هنا ذات تركيب يوناني خاص تزيد معنى التصحيح في ذهن السامع وليس كمجرد رد على سؤال؟ بمعنى: أنا لست أنا المسيح, فالمسيح في وسطكم ولستم تعرفونه! وكأنه يرد على أفكارهم وليس على مجرد سؤالهم.
وليلاحظ القارىء أن المعمدان استخدم النفي ملى كل الأسئلة، «لست أنا», فهنا «أنا» منفية, تاركاً للمسيح فقط «أنا هو»، أو «أنا القادر على كل شىء».
هنا يتضح للغاية حيرة اللجنة التي تفحص وتتحقق, لأنهم جاءوا وهم متأكدون أنه سيعلن أنه المسيا حسب كل ما سمعوه وحسب سلطان التعليم والتوبيخ الذي في فمه، بل وحسب جرأته في إجراء التعميد وأخذ اعترافات الشعب وقبول توبتهم، حتى الفريسيين وا لصدوقيين ورجال الجيش!
ويلاحظ القارىء أن اللجنة كانت تتوق أن تسمع منه أنه المسيا، لأن الجو الذي ملأ ربوع فلسطين كان جوا ماسيانياً على أعلى درجة, لأنه بدأ بالحقيقة والفعل حسب وعد كل الآنبياء وبالأكثر ملاخي النبي (5:4 )، وحسب لغة الملاك لزكريا الكاهن (لو17:1) أبو المعمدان، بل وحسب نبوة زكريا الكاهن نفسه. فهذه الحوادث سرعان ما طار خبرها ليملأ ربوع أورشليم والبلاد. ولكن لم يكن للمعمدان أي حق في هذا الإدعاء قط، فهو من سبط كهنوتى أما المسيا فهو معروف أنه سيأتي من نسل داود سبط يهوذا.
إذاً ماذا بالأكثر جداً وبحسب الواقع فهوذا المعمدان قد جاء بقوة إيليا وروحه.
»إيليا أنت؟ فقال لست أنا»:
إذا لم يكن المعمدان هو المسيا، فيلزم أن يكون هو الآتي قبل يوم الرب العظيم حسب نبوة ملاخي. وهنا تعارض واضح أن يقول: «لست أنا». لأن كل الأناجيل الثلا ثة تقول إنه إيليا, ومن فم المسيح:
*«وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي ، من له أذنان للسمع فليسمع.» (مت14:11)
* »ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم» (مت12:17)
وهذا التصريح كرره القديس مرقس في إنجيله (13:9). وهذه الإعتمادات كلها قائمة على نبوات واضحة:
ملاخي 1:3 (450 قبل الميلاد): «ها أنا أرسل ملاكي فيهيىء الطريق أمامى. ويأتي بغتة إل هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تُسرون به، هوذا يأتي، قال رب الجنود».
ملاخى 5:4 «ها أنا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم المخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على ابائهم، لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن»!
إشعياء 1:40-5 (أدُعى للنبوة حوالى 600 قبل الميلاد): «عزوا عزوا شعبي، يقول إلهكم، طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عفي عنه... صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا. كل وطاء يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيماً والعراقيب سهلاً، فيُعلن مجد الرب ويراه كل بشر معاً، لأن فم الرب تكلم».
لقد احتار جميع الشراع لانجيل يوحنا في هذا التعارض، لأن شخصية إيليا مهيأة من كل الوجوه بحسب تقارير الأنبياء في العهد القديم أن تكون هي الشخصية المسيانية الأولى قبل المسيح، فهو رُفع إلى السماء حيا (2مل11:2) باستعداد المجيء, وهو الذي ربط السماء فلم تمطر ثلاث سنوات، ثم هو الذي صلى فهطلت الأمطار؛ إمعانأ في تعريفنا بشخصيته أنه أعطي أن يتعامل مع الله مباشرة. وملاخي النبي يكشف الستار عن شخصية إيليا أنها معدة ليوم الرب العظيم، لرد القلوب على القلوب أي إعداد طريق الحب الإلهي الذي سينسكب من السماء على كل بشر.
ولكن نحن لا نرى أي تعارض إذا تمسكنا بأسلوب القديس يوحنا السري, فالسؤال المباشر للمعمدان: «هل هو المسيا»، كان يعني في ذهن اللجنة الفاحصة أن المعمدان هو شخص المسيا، وعلى السؤال كان الرد القاطع: «أنا لست المسيا», ثم يجيء السؤال الثاني على نفس النمط, «هل أئت هو إيلياء»؟ هنا في الحقيقة المعمدان يعلم تمامأ أنه يوحنا المعمدان فقط, هكذا وُلد وهكذا تسمي وهكذا عاش وهكذا دُعي بالروح ليؤدي رسالة الشهادة. أما النبوات التي قالت إن إيليا يأتي فقد أساء فهمها اليهود بأن إيليا سيظهر بالجسد كإيليا «إيليا أنت»؟ طبعاً لا, أنا يوحنا بن زكريا.
ولكن المعمدان كان يعلم بالروح الذي فيه أنه أخذ من الله قوة إيليا وبأس روحه، وقد مارس القوة فى توبيخ معلمي إسرائيل ورؤسائه, ومارس بأس الروح في معاملته لهيرودس. لهذا كان المعمدان يحمل مؤهلات إيليا, ولكن ليس شخصه ولا جسده؛ لذلك لما أعطي الفرصة أن يتكلم إيجابيأ قال: «أنا صوت صارخ في البرية...». وهي نبوة إشعياء النبي عن مجيء عهد المسيا، عهد «عزاء أورشليم». فهو هنا يصرح ويعلن ويشهد أنه القادم لإعداد طريق الرب وأنه وان كان ليس المسيا فهو المتقدم عليه وظيفياً: «يأتي بعدي الذي لست مستحقاً أن أحل سيور حذائه», وكأنما يقول صراحة للذي يريد أن يفهم ويؤمن: «نعم أئا الذي قيل عنه إيليا يأتي، ولكني أنا يوحنا».
لأنه في كل شرح للعهدين القديم والجديد معروف أن نبوة ملاخي هي التوضيح الدقتيق لنبوة إشيعاء، أي أن الصوت الصارخ في البرية هو صوت بروح إيليا وقوته!!
إذن, فإجابة يوحنا وإن كانت بالسلب، فهي حسب أسلوب القديس يوحنا فرصة ليؤمنوا من خلالها, إذا أرادوا, أن هوذا عهد المسيا قد أتى، وهوذا إيليا أمامكم بروحه وقوته، ولكنه لم يسلمهم نفسه ليهزأوا بها, لأنه كمعلمه كان يعرف ما في صدورهم!! لقد أخفى الحقيقة الروحية عن الذين لن يصدقوها وأبقى لهم الجسد!
ثم أليس هذا هو نفس رد المسيح على الثلاثة التلاميذ الآخصاء بطرس ويعقوب ويوحنا, بعد أن امضؤا معه ساعة من ساعات أمجاد المجد الآسنى على الجبل المقدس، ورأوا إيليا وموسى في حالة تجلي أيضاً وقد حضرا وتكلما معه، تعبيراً عن التحام العهد القديم بناموسه وأنبيائه بالجديد، وأن بالتجلي والإستقلان يُدرك المسيح على ضوء الناموس والآنبيا، أما التلاميذ فظنوا أن إيليا لا بد وأن يبقى كما راوه ليعد للرب حسب وعد النبوة، وأن موسى سيبقى حتمأ ليشهد للرب؛ لذلك أسرع بطرس وهولا يدري ما يقوله, لأنه يقول بالروح, أن تُصنع ثلاث مظال واحدة للرب وأخرى لموسى والثالثة لإيليا، هكذا كان منظر العهد الجديد منظوراً في مخيلة بطرس. لذلك لما ذهبت السحابة (الحضرة الإلهية) ونظروا المسيح وحده تحسروا. وفيما هم نازلون من الجبل سأله تلاميذه, إن كان إيليا هكذا تركهم واختفى, »فلماذا يقول الكتبة (اللاويون) أن إيليا ينبغي أن يأتي أولأ؟» (مت10:17)، فكانت إجابة الرب أن إيليا جاء بالروح والقوة في شخص المعمدان ولم ينتبهوا إليه أو يدركوه لأنهم كانوا يعتقدون أنه سيأتي بشخصه وجسده القديم، لذلك أهانوه وقتلوه، نفس الأمر الذي سيقترفونه بجنونهم معي: «فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء. ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا؛ كذلك ابن الانسان أيضأ سوف يتألم منهم, حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان.» (مت11:17-13)
««ألنبي أنت؟ فأجاب لا»
ليلاحظ القارىء الإقتضاب التنازل في النفي، الأسلوب الذي استخدمه المعمدان وكأنه نوع من التحدي. وهذا يظهر في اليونانية بوضرح أيضاَ:
1- لست أنا, وباليونانية «أنا لست هو»
2- لست أنا.
3- لا.
شخصية «النبي» هذا لم تكن معروفة لا في أذهانهم ولا في أذهان الشعب. وهي ربما تكون الشخصية التي قال عنها الله فى (تث18:18): «أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به»، وهي إحدى النبوات التي تصوررشخصية المسيا.
وكان رد المعمدان بالنفي، مع ملاحظة أن كلمة «النبي» جاءت معرفة بـ «أل». فالسؤال لم يرد: «هل أنت نبي»؟ وإلا كان الرد معروفاً مسبقاً، فهو كان محسوباً أنه نبي لدى كل الشعب، والمسيح نفسه أمن على هذا وزاد عليه «وأعظم من نبي».
عجيب هو تعبير إشعياء النبي عن الصابغ السابق يوحنا المعمدان هذا, لقد وضعه قبل أن يجيء بستمائة سنة. فهذا التعبير «صوت صارخ» يخلو من تحقيق الذات بل يفقدها في مسار عملها كالصراخ الذي ما يفتأ إلا ويتلاشى ولا يوجد له وجود. اسمع ما يقوله المعمدان عن نفسه تحقيقاً لهذا الوصف الذي أعطاه إياه إشعياء النبي: «ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص»!! وكأنما صراخ الشهادة أضيف إلى المسيح لتتلاش قوته من الصارخ الشاهد!
لقد تبارى جميع الإنجيليين ليسجلوا له نبوة إشعياء بأكملها خاصة القديس لوقا, حباً وكرامة, أما هو, المعمدان, فاكتفى لنفسه بجملتين منها. وهل يحتاج أعضاء لجنة الفحص وتقصي الحقائق الموقرون إلى التعريف بما آلت إليه حال البلاد في عهدهم وما يحتاجه هذا الحال من إصلاح ليناسب الملك الآتي؟
المعنى هنا عميق وخبيث جدا، فهو نوع من الإصطياد للادانة. فالتعميد بالنسبة للفكرا ليهودي لا يجوز إلا للأجانب الذين يريدون الإنضمام للشعب المختار, لأن الأمم أنجاسى مناكيد, فكيف يجرؤ هذا الإنسان، الذي هو ليس المسيح وليس إيليا وليس النبي, أن يعمد الأمة المقدمة, والشعب المبارك المختار وكأنه نجس يحتاج إلى التطهير أو غريب عن الله يحتاج إلى التبتي؟ إنها إساءة لقداسة الأمة ولكرامة اليهود والرؤساء والسلطات!!
كذلك كان أخوف ما يخافه الرؤساء أن تكون هذه المعمودية مسيانية الهدف، أي خلاصية من قبل الله، ويجريها إنسان لا يمت للهيئات الكهنتوتية والفريسية، فيكون معناه أنهم قد عٌزلوا. لذلك تركز سؤالهم أخيرا في معنى عماده: «لماذا تُعمد»؟
وكأني بالمعمدان يقول: أنا أعمد بماء ومعموديتي ليست كمعمودية المسيا، فمهما كان مظهرها الجماعي، فهي أيضاً تمهيد أو إظهار لعمل أعظم هو وشيك أن يقوم به صاحبه القائم في وسطكم. فإن كنتم لستم تعرفونه (وهي خطية اليهود المتكررة على مدى الإنجيل كله)، لكني أنا أعرفه وأنا بالنسبة له لست أكثر من عبد يحمل له حذاءه، يخلعه من قدميه: يفك سيوره، وحتى هذا يكون فوق استحقاقي ومقامي. فعملي كوني أعمد ليس أكثر من عمل خادم يمهد لعمل سيده ليظهره. إذن، فمعموديتي وخدمتي ينبغي أن لا تقلقكم. ألم يقل إشعياء تمهيداً لعصر المسيا: «اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر» (إش16:1)
ولينتبه القارىء أن المتكلم بهذه الكلمات الإنسحاقية أمام لجنة تقصي الحقائق هو في حقيقته, التي يعرفها المسيح, نبي وأعظم من نبي، ولم يقم من بين مولودي النساء من هو أعظم منه.
فهل ننسى قامة إيليا الذي أرعب قلب ملك، والذي فلق الأردن بردائه، وأغلق السماء بكلمة وفتحها بصلاة؟ ومن جهة قوته حتى من جهة الجسد، دخل سباقاً مح أقوى فرسان إسرائيل في مركبة ملكية فسبق!!
هذا هو روح المعمدان الأن، مضافاً إليه النور الذي انطبع على وجهه لما تطلع في وجه عريس البشرية، والسماء مفتوحة, والروح القدس حال عليه والأب ينادي: «ابني الحبيب الذي به سررت»!!
نحن نمسك القلم عن الإسهاب في دور يوحنا المعمدان في الكرازة وكيف آلهب قلب الشعب من جهة النسك والتقوى ومخافة الله والتوبة عن المعاصي، لأن هذا الدور لم يشأ القديس يوحنا أن يخوض فيه لئلا تختلط الكرازة في الظل مع الكرازة في النور، فالمعمدان عند القديس يوحنا لم يجيء ليكرز بل ليشهد.
لذلك وقف أعضاء اللجنة في حيرة من أمرهم، فقد ذاب قلبهم من هيبة الواقف أمامهم وانسحاق المتكلم في آن واحد، ولعلهم انسحبوا من الكبير إلى الصغير كما فعل المشتكون على تلك الرأة البائسة (يو9:8)!
ولا يذكر القديس يوحنا ماذا تم من جهة لجنة الفحص، ولكن الواضح أنها انسحبت دون أي لفت نظر، فلم تجد في المعمدان ما يقلقها، هذا بالإضافة إلى أن المعمدان، وهوكان معروفاً عند الشعب أنه «نبي»، دخل هذا في الإعتبار لدى اللجنة لأن الرؤساء غير الواثقين من كفاءتهم يخافون الشعب دائماً. كما أن الآنبياء وهم دائمأ مرسلون من الله رأسأ لم يكونوا في حاجة أبدأ أن يتملقوا الرؤساء أو الشعب، بل على العكس, كانت رسالتهم توبيخ الرؤساء وايقاظ الشعب.