شخصية لعازر غير واردة إلا في إنجيل يوحنا. ويبدو أن صداقته للمسيح ومحبة المسيح له كانت عائلية، فلم يكن يتبع المسيح في ترحاله، ولكن كان المسيح يحط ترحاله في بيته ليجد راحة هناك. ولهذا يبدو أنه لم يكن معروفاً لدى بقية التلاميذ. لذلك نجد القديس يوحنا يضيف إليه صفة أخرى معروفة أو معلومة ثابتة تجعله معروفاً، وهي أنه من بيت عنيا وأنه أخو مريم ومرثا أختها. واسم لعازر هو مختصر «أليعازر», ومعناه الحرفي «إيلي عزار»، أي الله قد آزر أو أعان.
وقرية بيت عنيا هي قريبة من أورشليم على مسافة 15 غلوة، أي ما يساوي تقريبا 2 كم على الجهة الشرقية لجبل الزيتون, وهي المسافة المسموح بها للسفر يوم السبت عند اليهود, والقرية الآن مسماة «ألعازاريا» نسبة لآية إقامة المسيح للعاز هناك. ويلاحظ أنه توجد قرية أخرى مسماة بهذا الاسم عبر الاردن والتي يُقال لها في بعض المخطوطات «بيت عبارا» (يو28:1). وبيت عنيا تعني بالعبرية «بيت العناء». وقد ذكرها سفر نحميا تحت اسم «عننية» (نح32:11)
«مريم ومرثا أختها»: بحب الشهرة الإنجيلية, تأتي مريم قبل مرثا, ولكن مرثا هي الأخت الكبرى. وهذان الاسمان كانا معروفين لدى الوسط الإنجيلي بين التلاميذ، وذكرها القديس لوقا (38:10) في موضوع المحبة للمسيح باعتبارها هي الحاجة الوحيدة التي نحتاجها حقاً في هذه الدنيا. ولكن إنجيل القديسين مرقس ومتى يعرفان مريم بأنها «امرأة معها قارورة طيب» (مت7:26), ولكنهما عادا فسجلا لها ذكراها إلى الآبد في كل أنحاء الدنيا «الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها.» (مت13:26)
ولكن القديس يوحنا يختص الأختين بكثير من التعريف والعناية والملاحظة، مما يؤكد معرفته الشخصية لهما وللعازر أخيهما، وذلك بسبب تأثره الشديد بالمعجزة التي تمت لأخيهما.
هنا تعرف مريم أنها هي التي دهنت الرب بطيب ومسحت رجليه بشعرها. وهذا العمل جاء بنصه في الأصحاح القادم (2:12-3).
«الطيب» وجاء باليوناية ( ) ويعي العطر المستخرج من النباتات ذات الروائح الذكية، وكان يستخدم إما نقياً وهو المعبر عنه بطيب «خالص», أو مخلوطا بالزيت, وكان زيت الزيتون هو الزيت الوحيد المستخدم في صناعة الميرون ويسمى ( ), وكان يستخدم أيضا في دهن أعضاء الجسم وخاصة الرجلين بعد السفر الطويل.
والرب في قصة سمعان الفريسي (لو46:7) يفرق بين الدهن «بالزيت» العادي والدهن بالميرون، وهو الزيت المعطر أو العطر الخالص: «بزيت لم تدهن راسي وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي». والدهن بالزيت العادي يعبر عنه في القديم باليونتية بالفعل ( ).
أما المسح بالزيت المقدس في العهد القديم فيسمى ( )، والعمل نفسه أي «المسحة» ( )، وهما مشتقات من ( ). أما المسحة في أسفار العهد الجديد فهي عمل يتم بالروح القدس سرا ويسمى ( ). والكنيسة القبطية تستخدم الميرون وزيت الغلاليون وزيت الزيتون البسيط مع صلوات لحضور الروح القدس في أنواع الخدم المقدسة المتعددة.
رسالة مختصرة تحمل معناها في مبناها, كمعلومة مقدمة إلى طبيب حاذق، تذكر الأعراض دون التدخل في شئون العلاج. وهذه هي من أروع الرسائل التي تقدم إلى الله كصلاة، وهي نفس النموذج الذي قدمته القديسة مريم العذراء إلى الرب من أجل إسعاد ضيوف حفل زفاف عرس قانا الجليل. أما الطبيب فملزم بالعلاج, لأن الثمن مدفوع مقدماً وهو الحب المتبادل. وعن نوع هذه الطلبات المقدمة في الصلاة إلى المسيح والآب، يقول القديس يوحنا أنها معتمدة حال النطق بها، ولا يعوز المتوسل إلا انتظار التحقيق، وأيضا يسجل القديس يوحنا هذه المعلومة الإلهية باختصار غاية في الروعة وغآية في اليقين: «وهذه هي الثقة التي لنا عنده أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا، وإن كنا نعلم أنه مهما طلبنا يسمع لنا، نعلم أن لنا الطلبات التي طلبناها منه.» (ايو14:5-15).
والذى يلفت نظرنا فى هذه الآية هو قول الأختين «الذى تحبه» حيث تأتي في اليونانية ( ) وهنا المعنى ينصب على محبة روحية خالصة تعبيرا عن مودة العلاقات الشخصية والصداقة الشديدة, الطبيعية، علمأ بأنه لا يوجد فى اليونانية كلمة «صديق»، وهذه الكلمة يحل محلها ( ) أي مُحب. وتأتي هذه الكلمة في إنجيل يوحنا ثلاث عشرة مرة، تعبيرا عن محبة الله الآب للابن، وعن محبة الله للذين يحبون ابنه، ومحبة المسيح لتلاميذه، ومحبة التلاميذ نحو المسيح. وتغيب هذه الكلمة من جميع رسائل يوحنا. أما محبة الأغابى فتنم عن الثقة والتوقير والإعجاب، وهي محبة المشاعر، وتأتي نتيجة اختبار واختيار أخلاقي وحكم عقلي.
هنا رد فعل المسر مطابق تماما لرد الفعل على سؤال التلاميذ بالنسبة للمولود أعمى «لتظهر أعمال الله فيه» (يو3:9)!! وهذا هو رد الله دائماً, ومنذ القدم, عل كل نقص أو عوز أو ألم أو ضيق أو فقدان أو خسارة أو موت بالنسبة لأولاده . فهو أولاً وقبل كل شيء «فى كل ضيقهم تضايق, وملاك حضرته خلصهم» (إش9:63)، وثانياً: «اذبح لله حمداً وأوف العلي نذورك. وادعني فى يوم الضيق أنقذك فتمجدني» (مز14:50-15)، وثالثاً: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل» (2كو9:12)
يلاحظ في الاصطلاح اليوناني ( ) أن المعنى لا يفيد «من أجل مجد الله» ولكن ( ) يفيد معنى ( ) التي تعني «لكي». فهنا قصد الله حاضر، وليس مصادفة، فالله يقصد إعلان مجده بواسطة يسوع المسيح، بقصد أن يتمجد يسوع أيضاً, وبالنهاية لكي نرى ونؤمن. فالمرض لا يتجه نحو الموت فى قصد الله، ولكنه مقصود لإعلان مجد الله بالمسيح. وذلك لا يزال المعنى يمتد ليشمل استعلان مجد الله فى المسيح نفسه، الذى سيمجده الله على نفس النمط بالقيامة من الموت.
كان هذا الرد على الرسالة المرسلة من الأختين بمثابة تأشيرة فى أسفل التذكرة الطبية مؤداها: [لا داعي للقلق, انتظروا مجد لله].
الرد مثير للايمان، ومؤكد للرجاء، ومستجيب للمحبة. وهذا هو رد الله دائماً، أقوى من أقوق رسالة تصل إلينا من خلال يأسنا ودموعنا واضمحلال رجائنا. وها نحن الآن عالمون تماما أن الرب آنئذ كان عالماً تماما بأنه قد مات فعلاً. لأنه حينما وصل الرب بيت عنيا كان لعازر له أربعة أيام في القبر، والرحلة من عبر الأردن إلى بيت عنيا تستغرق يوماً واحداً، فإذا أضيف إليها يومان تأخرهما الرب، يكون لعازر, وقت أن بلغ الرسول رسالته, قد مات وله يوم كامل في القبر.
وهكذا فإن ما يراه الرب غير ما نرى نحن، دوافعنا ليست واقعه، ولو تركنا تقديراتنا لحساباته لجاءت النتائج جد مخالفة لظنونا.
فالموت عندنا هو الموت، مهما أعطيت له من المسميات الملطفة، فهو قاسى أقسى ما تكون القسوة على مشاعر الإنسان وأفكاره وحساباته. فهو يحطم الامال، وينهي على الرجاء، ويخنق المحبة، ويكفي أن يصفه الروح على فم بولس الرسول أنه «آخر عدو» يتواجه معه الإنسان قبل الرحيل. ولكن كل هذه الاوصاف تتصفى كلها في مصفاة رؤية الله وقدراته وإمكانيته، ليأخذ الموت عنده صفة الرقاد لا غير، حيث تكون اليقظة منه حتمية, ومعها بهجة القيامة لحياة ملؤها الحياة. وهذا الذي يراه الله لأحبائه، رآه المسيح وأجراه كنموذج أبقاه لنا على الأرض في قصة لعازر المحبوب، حتى لا يستبد بنا يأس الموت أبداً, فوراء آخر عدو، أعظم حبيب لنا, ذاك يردينا التراب، وهذا يولجنا السماء.
حينما ترصد الموت للعازر وأراد أن يسخر من رباط المحبة التي تربطه بالمسيح، ونوى أن يتعالى بقوته وسطوته فوق سلطان رب الحياة, ويثير الإنزعاج والرعبة في قلوب النسوة، ويطيح بهيبة المسيح أمام التلاميذ والمحبين، ويكفي للتدليل على ذلك قول اليهود: «ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت» (يو37:11)؟ حينئذ أدرك ذلك كله المسيح من على بعد، فأرخى الحبل للعدو ليصنع بفريسته كل ما أراد! وعقد الرب العزم أن يتمجد في لعازر من أجل نفسه والمحبين، فيستعلن للعالم قوة القيامة والحياة التي فيه, ويظفر بالموت في معقله، ويشق الهاوية، ويحطم قيود الموت، ليفك النفس علناً, ويقيم الجسد بالكلمة، ويخرج لعازر وسط هتاف «المجد لله».
محبة المسيح لهذه العائلة تأتي بالكلمة أغابي, التي تنم عن الاختيار والأفضلية الأخلاقية. وبهذا نفهم من هذه الكلمة، أن هذه العائلة اختارها المسيح لدخوله وخروجه بعد فحص ومراقبة، فارتاح إلى أفرادها جميعاً, فأحبهم جميعاً. وبالملاحظة نجد أن الفعل الذي استخدمته الأختان للتعبير عن محبة المسيح للعازر، جاء من الأصل ( ) تعبيراً عن المودة الروحية أو الصداقة الخاصة والطبيعية. أما الكلمة التي عبر بها القديس يوحنا عن محبة المسيح للعائلة كلها فجاءت عن الأصل ( )، التي تعني أن المحبة تأتي بعد فحص عقلي ومعرفة وتقدير وحكم شخصي. وهكذا، لك أيها القارىء العزيز، أن تدرك مقدار الدقة التي يسجل بها القديس يوحنا إنجيله، وليس الدقة فحسب، بل ومقدار المطابقة الشديدة الإحكام بين مشاعر كل شخص والكلام المسجل عنه، كل على حدة، جملة جملة.
ولكن هذه الآية يصعب فهمها بحسب ترتيب الكلام الذي كُتبت به، إذ يفهم منها القارىء لأول وهلة أن المسيح تأخر يومين خصيصاً وعن قصد لكي يصنع معجزة لعازر لأنه كان يحبه. ولكن بحسب الحساب الذي سبق أن أجريناه، فإنه حينما بلغ المسيح خبر مرض لعازر، كان لعازر في الحقيقة قد مات ودفن ليوم كامل، فلو كان قد تحرك في الحال لكان قد بلغ بيت عنيا ولعازر في القبر وله يومان، من هذا يتضح لنا أن تأخير الرب لم يكن عن قصد.
لذلك فإن ترتيب الكلام ينبغي أن يكون هكذا: (فلما سمع يسوع أن لعازر مريض قال لتلاميذه بعد أن مكث يومين في الموضع الذي كان فيه، لنذهب إلى اليهودية أيضاً، لأن يسوع كان يحب مرثا وأختها ولعازر).
أما حبه لمرثا فكان بحكم أنها كانت, كما يبدو, كبيرة العائلة، فكانت هي دائماً صاحبة الضيافة، وكانت شديدة العناية بخدمة الرب، وهذا يتضح في إنجيل القديس لوقا «وفيما هم سائرون دخل قرية، فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها. وكانت لهذه أخت تدعى مريم، التي جلست عند قدمي يسوع، وكانت تسمع كلامه، وأما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة» (لو38:10-40)
وأما محبة المسيح لمريم، فكانت بسبب كونها شديدة الإنتباه، تسمع كلامه بوعي وباتضاع، كتلميذة تركت كل شيء لتتبعه روحيا. وهذا العطاء النفسي والروحي يتضح أشد الوضوح من احتفاظها بكمية كبيرة من عطر الناردين النقي الكثير الثمن، لتضمخ به جسد المسيح المتعب، والذي حسبه لها المسيح بصفة التكفين.
أما حب المسيح للعازر، فكان بشهادة الأختين حباً شخصياً.
أما الموضع الذي مكث فيه الرب يومين فكان إقليم بيريه, كما جاء في نهاية الأصحاح السابق، على جبال موآب.
أما لماذا مكث اليومين وهو يعلم أن البيت الذي يحبه قد اشتعل حزناً وغما وعويلا كثيرا، وهو بنية أن يرفع عنهم هذا الكرب الشديد، وقد عقد العزم على إقامة لعازرعن الموت منذ أن بلغه الخبر، بدليل قوله: «هذا المرض ليس للموت... لكني أذهب لاوقظه... وكان يسوع يقول عن موته... فقال لهم يسوع علانية لعازم مات...»، سؤال لا يجيب عليه إلا سؤال آخر أثار حيرة التلاميذ إلى حد الغضب, لماذا مكث المسيح نائماً في مؤخرة السفينة والرياح والأمواج تعصف بها حتى إلى حد الغرق؟ «وكان هو في المؤخر على وسادة نائماً. فأيقظوه وقالوا له: يا معلم أما يهمك أننا نهلك» (مر38:4). هنا ينبغي علينا أن لا ننسى أن المسيح كان يتصرف بين أحبائه وأعدائه كإنسان وإله معاً. فهو كان نائماً فعلاً ولكن حضرته الإلهية قائمة؛ كذلك كان المسيح بعيدا عن بيت عنيا على سفر يوم كامل، ولكنه كان حافراً في بيت محبيه، وغيابه بالجسد لا يمنع عمله كإله. فهو الذي شفى ابن خادم الملك من الموت وهو بعيد على سفر يوم كامل, بكلمة!
ولكن الرب أعلن لتلاميذه أن غيابه عن بيت عنيا، هو الذي آل إلى كل الحوادث التي صارت من مرض شديد وموت: «وأنا أفرح لأجلكم أني لم أكن هناك, لتؤمنوا...»، وهذا تماماً كما تصوررته مرثا: «لو كنت ههنا لم يمت أخي». وهذا بحد ذاته صار فرصة جديدة لتلاميذه ليروا فيها الرب وهو يقيم لعازرعن الموت, فيؤمنوا بالقيامة والحياة في المسيح. وهذا بعينه ما سيحدث بالرغم من الإرتباك والحزن اللذين أصابا الأسرة المحبوبة, إلا أنه سيؤول إلى إيمان تلاميذه ومحبيه.
وهكذا وبنظرة متسعة, نرى أن تأخر الرب يومين عبر الأردن لم يغير في الموقف إلى أسوأ بل ربما إلى أفضل. لهذا لم نر الرب في عجلة للعودة, كمن تؤثر فيه الحوادث لاتخاذ عمل أو تحرك انفعالي تمليه عليه الظروف أو الحوادث. بل كان الرب يتحرك, ولا يزال, بحسب رؤيته الشاملة وسبق معرفته للأمور والحوادث . فعمل الله ينبع من مسرة مشيئته، ليخضع كل شيء لإرادته . لهذا فكل صمت من قبل الله إزاء إلحاحات توسلاتنا، إنما يخفي غرضا أسمى!
وعلى مستوى أسلوب القديس يوحنا في فهمه وتسجيله لأقوال المسيح فالرد هنا يحمل معنيين: معنى ظاهر مؤداه أن على الإنسان أن يعمل طالما أن النهار قائم بنوره وساعاته، فقد وُفع على الإنسان أن يعمل ليغطي ساعات النهار الاثنتي عشرة جميعاً. والعمل هو على نمط المسيرة، فالسائر في النور وفي النهار لا يعثر، أما إذا جازف وسار في عتمة الليل, أي في غياب النور, فالعثرة واردة. وهذا بعينه يراه المسيح أنه مأخوذ في الإعتبار بالنسبة له كما هو للتلاميذ.
ولكن المعنى الخفي متجه رأسأ نحو الصليب. فتخويف التلاميذ له غير لائق، ولا هو وارد في حساباته, فنهاره بالنسبة للعالم لا يزال قائماً ولا يزال هو نوره، فساعته لم تتحدد بعد، وساعة أعدائه لا تزال على بعد، وهي التي تمثل ظلمة هذا العالم بكل كثافتها وثقلها: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (لو53:22). فهو إذن لا يزال يسير في وقته المحدد، ولم يدخل بعد في منطقة ليل العالم بعثراته واعثاره. وقد أوضح المسيح ذلك لهم فيما بعد بأكثر وضوح: «فقال لهم يرع: النور معكم زمانا قليلاً بعد، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام» (يو35:12). أما بالنسبة للمسيح, فقد سبق وأن أوضح ذلك أيضاً فيما يخص عمله: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دمت في العالم فأنا نور العالم»(يو4:9-5), مشيراً بذلك إلى ظلمة العالم القادمة، التي تمثل بالنسبة للصيح الآلام والموت.
وبالنهاية نلتقط إشارة خفية من وراء هذه الآية، تفيد أن المسيح يريد أن يطمئن التلاميذ أن يستبعدوا الموت أو العثرات طالما هم معه, لأنه هو نور العالم، وذلك بالنسبة لرحلته القادمة. فإن كانوا قد امتلكوا النور فكيف يخافون؟ لأن الخوف يكون حينها لا يكون «النورفيهم» ، ولم تقل: «النور حولهم». وهنا ينكشف قصد المسيح من النور والظلمة والنهارو الليل. فنهار الإنسان هو المسيح في القلب والفكر، وغياب المسيح من القلب (النور ليس فيهم) هو هو ليل الإنسان، الذي حتماً يكون متوازيا مع الخوف والموت، ومنفتحاً عليه. وإن كان الموت وارداً بالنسبة للمسيح, طالما أن وراء ساعات النهار الاثنتي عشرة ليلاً قادماً, إلا أن الظلمة لن تدرك النور أبداً. ولكن التلميذ الذي تعود أن يضع إصبعه في كل ثغرة، أدرك بحساسيته الحسابية الشكاكة، أن الخطورة لا بد محدقة بهم من جراء هذه الرحلة. وله رأي في ذلك سنقدمه في حينه.
الرب هنا يعبر عن العلاقة الروحية التي لا تزال قائمة بينه وبين لعازر، ويضم التلاميذ معه فيها، وهي علاقة الصداقة الروحية, لأن كلمة «حبيبنا» هنا تأتي في معنى الصداقة أكثر منها في الحب» وهي نفس الكلمة الواردة على فم المعمدان: «أما صديق العريس» (يو29:3). كذلك هو نفس الاصطلاح الوارد في الآيات 13و14و15 من الأصحاح 15: «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه ... أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. لا أعود أسميكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكني قد سميتكم أحباء ...»». وهكذا نرى كيف أن اللغة اليونانية تجعل الصداقة الروحية على مستوى المحبة بنوع ما. ونرى أيضاً كيف قصرت اللغة العربية في التقاط هذه الفوارق الجوهرية في التعبيرات الروحية.
وينبغي أن نلاحظ أن المسيح أبقى على العلاقة الروحية التي على مستوى صداقة المحبة, كما هي، بعد موت لعازر؛ ما يشير ان نفس لعازر ظلت تتمتع بهذه الصداقة والمحبة الروحية في الموت، ليس مع المسيح فقط بل ومع التلاميذ. وهذه هي حال النفس في العالم الآخر بالنسبة لألفة الجماعة هنا وهناك. «لعازرحبيبنا قد نام, لكني أذهب لأوقظه.»
هذا الاصطلاح الجديد (تقريباً) الذي وضعه الرب للتعبير عن الموت بأنه مجرد «نوم» هو نموذج لمعيار تفكير الرب وتعبيره عن الروحيات, ويتضح منه كيف يسعى المسيح لرفع مستوى الفكر البشري للتلامس مع الواقع الروحي الفائق على الطبيعة، وقد صار هو التعبير الطقسي الرسمي في الكنيسة في كل صلواتها ولكن بإضافة هامة: «فلان رقد في الرب» تعبيرا عن «موت القيامة». لأنه طالما كان الموت في الإيمان بالمسيح, فإنه يكون مؤديا إلى قيامة وحياة. لذلك، فهو مجرد رقاد, حتى وإن طال زمنه, لأن الزمن غير محسوب بالنسبة للحياة بعد الموت. [ليس موت لعبيدك، بل هو انتقال) (القداس القبطي, أوشية الراقدين).
ولكن تأتي في العهد القديم: «رقد وانضم إلى أبائه» (أع36:13 راجع امل10:2) بمعنى الموت المقيم. وإن كان يحتج بعض النقاد أن هذا الاصطلاح كان مستخدما عند الربيين وعند غير اليهود أيضا؛ ولكن أن يقوله المسيح وينطقه بروحه, فقد صار ذا معنى غير كل ما كانت تعنيه الفئات الأخرى من يهودية ووثنية، خاصة وأن الرب أكمل ما يقول بالفعل. فإقامة لعازر من الموت كانت بمثابة اليقظة الجسدية العظمى للانسان, والتي لم يكن لها مثيل ولا مُشابه لرجل أنتن جسده في القبر لأربعة أيام، بعد لعنة الموت الدائم التي حلت عليه، توطئة ليقظة القيامة الروحية العتيدة أن تكون، وقد صارت بقيامة الرب من الموت.
فالمسيح الآن له هذا القدوم العظيم والمبارك، لإيقاظ النفوس التي غرقت في بحر الخطيئة وأخرجت نتن رائحتها لتزكم الأنوف: يأتيها المُبشر ببشرى الخلاص من ليلها الطويل: «يقول، استيقظ أيها النائم, وقم من الأموات, فيضيء لك المسيح» (أف14:5)، حيث يتلقفه صوت صاحب الرؤيا: «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني (موت الدينونة) سلطان عليهم.» (رؤ6:20)
هذه هي القيامة الاولى الروحية, الشخصية والفردية, من موت الخطية القاتل، التي هي بمثابة جواز الدخول إلى الأمجاد العليا عند استعلان القيامة الأخيرة العامة العتيدة أن تكون على كل العالم. وكما أن نوم الجسد محدد بالساعات؛ هكذا نوم الموت فهو حتماً إلى ميعاد، وكما أن النفس تأخذ خبرة الأحلام، إن بأفراح أو بأحزان هي شبه الحقيقة أثناء نوم الجسد؛ هكذا قد أعطي للنفس أن تأخذ خبرة الأفراح والأحزان الحقيقية, كسبق تذوق للقيامة العامة, أثناء نوم الموت الطويل إلى أن تحين القيامة العامة لتعيش أفراحها أو أحزانها الآبدية.
والصوت الذق أيقظ لعازر من نوم موت الأربعة الأيام، هو هو نفس الصوت الذي يسمعه جميع الذين في القبور، «فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو29:5). والصوت هو صوت الله، ينطقه الآبن بالسلطان الذي أعطي له أن يضع النفس ويأخذها أيضاً. وواهب الحياة هو وحده الذي يستطيع أن يعيدها بأقوى وأشمل صورة، إذا تعدى عليها الموت إلى حين. فالموت دائماً إلى زمن، والحياة دائماً إلى الآبد!... «لأني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو19:14). وكلمة الله التي نطقت هذا هي حية وفعالة ...
يلزمنا هنا الرجوع إلى اللغة اليونانية لندرك سبب هذا الالتباس عند التلاميذ. فكلمة نام ( ) فى اليونانية تأتي بصيغتين:
الصيغة الاولى بمعنى رقاد الراحة ( )، وتفيد بالتالى إمكانية الرقاد الثقيل بالمرض، كالحمى مثلاً، أو الموت, كما جاءت في مواضع كثيرة جداً فى العهد الجديد، بل وتفيد أيضاً بصيغة التورية مكان رقاد راحة الموت، وهي الصيغة التي أخذتها اللغات الأخرى من الأصل اليوناني ( ) ولكن نطقها كالآتي ( ) حيث قلبواk إلى c وهي مكان القبور وأصلاً نوم الراحة الطويل.
أما الصيغة الثانية فهي «النوم» بمعنى فقدان الوعي أو الشعور الوقتي، والذق يوضحه جداً تركيب هذه الصيغة ( )، حيث مقطع ( ) يعني العقل, و ( ) يعني تحت أو دون. ولكن لم تأت كلمة ( ) قط بمعنى الموت، في حين أن كلمة ( ) تأتي لتفيد معنى الموت في العهد الجديد ، وقد تأتي أيضأ بمعنى النوم كراحة.
فالتلاميذ اعتبروا قول الرب أن لعازر ( ) رقد رقاد المرض كالحمى مثلاً. وهكذا، فلا داعي أن يرتحل الرب والتلاميذ معه هذه الرحلة الخطرة التي تحمل في طياتها شبح الموت للمعلم ولهم, فالذي رقد للمرض فهو يُشفى. ولكن «يُشفى» ( ) جاءت في اليونانية بلغة التلاميذ بقصد «يتعافى» أو يعود صحيحا وهذا هو المعنى الذي أخذت به في اللغة الإنجليزية he will get well ولكن بالمعنى الأكثر شمولاً فهي تأتي بمعنى «يخلص» (سوتيس باليونانية). وهنا تنفذ اللغة السرية لإنجيل يوحنا لتبلغ, دون أن يقصد التلاميذ, إلى معنى الخلاص الحقيقي بالقيامة.
ثم يعود إنجيل يوحنا ليفسر أن التلاميذ ظنوا أن المسيح يتكلم عن «رقاد النوم» أو راحة النوم، على وجه الأصح, وهنا ضم الإنجيل الرقاد إلى النوم الخفيف ( )، حيث استبعد التلاميذ رقاد الموت. وتضيف الآيات: لكن «كان يسوع يقول عن موته» وهنا يكشف القديس يوحنا بوضوح عن لغة المسيح الفائقة للطبيعة وللفكر العادي حينما قال عن الموت أنه نوم.
قتول القديس يوحنا هنا أن المسيح عاد وابتدأ يتكلم «علانية» أي بدون تورية. والتورية التي تكلم بها الرب سابقاً هي أسلوبه الخفي, الرمزي, والفائق عن الطبيعة والفكر المادي، الذي يصيب المعنى الروحي أكثر مما يفيد المعنى الظاهري العادي. فقول الرب سابقاً: «لعازر... نام لكي أذهب لأوقظه» أربك التلاميذ، لأنه استخدم كلمة النوم التي تفيد إما معنى الموه أومعنى الرقاد للراحة، مع كلمة اليقظة ( ) التي تفيد الاستيقاظ من النوم العادي. ولكن هنا كلمة «علانية» ( ) تفيد الوضوح وبلا خوف، حيث تخلى الرب, مؤقتاً, عن المعنى الروحي من رقاد النوم بما يفيد إمكان اليقطة أو القيامة منه. علماً بأن الفعل المستخدم في «لعازر قد نام ( ) وأنا أذهب لأوقظه» جاء في زمن المضارع التام وهو يفيد حالة دوام النوم التي تحتمل النوم واليقظة، أما الفعل المستخدم هنا «لعازر مات»
فقد جاء في زمن الماضي البسيط وهو يفيد الوصول إلى نقطة تغير مفاجىء قاطعة.
وذكر استخدام المسيح لهذه التورية لا يقتصر على إنجيل يوحنا، ففي إنجيل القديس مرقس في الأصحاح الخامس عدد39، نجد المسيح يستخدم نفس الأسلوب في نفس الموقف وبنفس المعنى: «فدخل وقال لهم لماذا تضجون وتبكون، لم تمت الصبية ولكنها نائمة. فضحكوا عليه ...»، لأنها كانت ميتة ولزمن ليس بقصير. وهذا الأسلوب السائد في إنجيل يوحنا يتناسب مع مستوى الإنجيل في تقديم الرب بصفته المستعلن لله: Revealer of God.
وحينما يسبق المسيح ويتكلم عن أمور قادمة، لا يقدم نفسه كمن يتنبأ عن بعد زمني، ولكن يقدم نفسه ككاشف ومستعلن للحقائق، باعتبارها واقعة وكائنة في معرفته، ويعلنها قبل حدوثها الزمنيه حتى إذا حدثت أدرك منها التلاميذ قدرته الإلهية كمستعلن لله ذاته: «أقول لكم الآن قبل أن يكون, حتى متى كان تؤمنون أني أنا هو» (يو19:13). وقد كرر نفس القول في 29:14، وكذلك بالأكثر عن آلامه التي ظل يكشف عن مجيئها الحتمي وقبولها بسرور: «لكني قد كلمتكم بهذاء حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم» (يو4:16). وقد لاحظ التلاميذ ذلك بالفعل، واقتنعوا بأن سبق إعلانات الرب هي لتثبيت إيمانهم: «الآن نعلم أنك عالم بكل شيء, ولست تحتاج أن يسألك أحد، لهذا نؤمن أنك من الله خرجت» (يو30:16). ويلاحظ أن الإيمان الذي كان يهدف إليه المسيح من إعلانه المسبق ليثبت به تلاميذه، ليس مجرد إيمان بقدرته على الشفاء والإقامة من الموت بحد ذاتها، ولكن الإيمان به هو: «حتى تؤمنوا أني أنا هو» ابن الله والمرسل من الله. والقصد الأساسي من آية إقامة لعازر من الموت التي كانت موضوع فرح المسيح لأجل التلاميذ، هو ليثبت إيمانهم من جهة قدرته على إقامة نفسه هو من الموت الحتمي القادم، وبالتالى سلطانه الأعظم في القيامة العامة والدينومة وإعطاء حياة للعالم. وأما الآن، فإعطاء النصرة في الضيقات: «في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)
«وأنا أفرح لأجلم أني لم أكن هناك, لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه»: معروف قطعا أن الموت لا يجرؤ أن يتسحب على حبيب للمسيح وفي حضرته، فإن كان المسيح قد أبى أن يموت لعازم، حتى في غيبته، وصمم على إقامته من الموت فكم بالحري في وجوده؟
هذه قضية مُسلم بها, قالها الأعداء من اليهود: «ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟», كما قالتها أخت الميت: «فقالت مرثا ليسوع: يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي». وهذا حقاً وبالحقيقة، لأنه في حضرة رئيس الحياة يختشي الموت أن يفرد جناحيه. ولقد سبق للمسيح أن شل حركة الموت في جميع السقماء، الذين أتوا إليه, وهم مشرفون على الموت؟ واستخلص من براثنه كل فرائسه.
أما فرح المسيح من أجل الذهاب إلى بيت الحزن في بيت عنيا, فهو كفرح حضوره إلى بيت الفرح في قانا الجليل, تماماً وبلا تمييز. في هذه أعلن مجده، فآمن به تلاميذه (يو11:2)؛ وفي تلك سيعلن أيضاً مجده، ليؤمن به تلاميذه. فرح المسيح هو دائمأ إيماننا، وهو يسعى إليه دائماً، ليظهر مجده من وراء أحزاننا وأفراحنا على السواء.
كانت هذه بداية آياته التي صنعها أمام تلاميذه؛ وتلك ختام آياته وإنجيله الذي سلمه إليهم. سلسلة من الآيات ينتقل فيها كل من آمن بالمسيح من مجد إلى مجد، وكما المجد ليس له نهاية كذا الإيمان يكون. وهذا هو بعينه المعيار الروحي البديع الذي يقوم عليه إنجيل يوحنا: فرح المسيح، الذي لا يُحد, في إيماننا الذي ينمو من وراء كل آياته التي صنع.
«ولكن لنذهب إليه»: لا يقول الرب نذهب هناك، بل نذهب إليه. لعازر الميت والمنتن لا يزال حياً أمام المسيح، والرب يبصره حياً في مخيلة التلاميذ. الجسد لا يهم ولا يفيد شيئاً، فلعازر هو هو، قبل أن يموت وبعد أن مات، هذه هي حقيقة الذين يؤمنون بالمسيح: «من آمن بي ولو مات فسيحيا» (يو25:11). هذا هو أساس «الرجاء» الكائن في الإيمان: «لس هو(الله) إله أموات بل إله أحياء.» (لو38:20)
كان سهلاً على توما أن يموت, استجابة لمحبة المسيح؛ ولكن كان صعباً عليه أن يؤمن بالقيامة من الموت!
كان سهلاً عليه أن يقدم الذي يملكه بالفعل، وهو المحبة. واستحال عليه أن يقدم ما ليس عنده وهو الإيمان. توما كاك يسير وإصبعه يسبق عقله، وعقله يسبق قلبه.
ولكن العجيب حقاً أن تلقائية الإستجابة عند توما لقول المسيح: «لكي تؤمنوا (بقيامة لعازر)»، جاءت لتكون: «لنموت معه» عوض أن نحيا معه!! ولكن كم صار هذا التلميذ الشكاك مؤمناً قويا بعد رؤيته المسيح قائماً من الأموات بلمس إصبعه، فصار مبشراً ورسولا لأكبر بلاد العالم عدداً آنئذ وهي الهند، لأنه صار رسولاً لها.
يبقي أن ننبه ذهن القارىء بخصوص إصرار الإنجيل على تعريف اسم توما «الذي يقال له التوأم». ذلك هو بسبب أن «توما» بالعبرية تعني التوأم، وقد ترجت كلمة «توما» إلى اليونانية بالكلمة «ديديموس». لهذا يحاول الإنجيل دائماً التعريف بأصل الاصطلاح اليوناني» لأنه وان كان عبرانياً وطناً ولغة، إلا أنه يكتب للأمم.
حينما وصل المسيح مع تلاميذه إلى بيت عنيا، «وجد» ما كان يترقبه، أو ما كان يعرفه تماماً: ليس أن لعازر قد مات فقط, بل وله أربعة أيام في القبر. وذكر عدد الأيام في القبر هو لتأكيد انحلال الجسد انحلالاً يؤدي إلى تهرؤ هيئة الجسم والوجه وفساده. والإمعان في ذكر الأربعة الأيام في القبر لثاني مرة في الآية: «يا سيد قد أنتن, لأن له أربعة أيام (في القبر)», هو لوضع الرمز اللاهوتي في المقابلة بين رعبة انحلال الجسد ونتانته، إزاء الفرحة بمجد الله التي ينتقل إليها المؤمن الذي يشاهد القيامة من الموت ويشهد لها. كما أن هذه الآية تتوازى في العمق اللاهوتي مع آية تفتيح عيني الأعمى المولود أعمى، الذي انتقل من الظلام الدامس في عالمه المظلم إلى إشراق النور بكلمة المسيح.
كما أن القصد من ذكر عدد الأيام، هو استبعاد دخول الروح في الجسد استبعاداً مطلقاً. لأنه بحسب إيمان اليهود وتقليدهم الموروث من جهة الميت، فإن الروح تبقى في الأرض ثلاثة أيام تتردد فيها على القبر وتحاول الدخول في الجسد، ولكن بعد تغيره وانحلاله وفساده, وذلك بعد ثلاثة أيام, تشمئز الروح ولا تعود إلى الجسد مرة أخرى، حيث تذهب وتنضم إلى بقية أرواح الموتى. هذا التقليد اليهودي سجله الرابي اليهودي «بار كبارا» سنة 200 تقريباً، وكذلك رابي «ليفي» سنة 300 تقريباً. وهذا التقليد القديم هو الذي تأخذ به الكنيسة القبطية منذ القديم، حث تقيم صلاة خاصة لروح الميت في اليوم الثالث في المزل الذي توفي فيه، بقصد مساعدة الروح لانطلاقها إلى مكان راحتها.
أما بقية التقليد القديم الذي يذكره التلمود بالنسبة للميت فهو كالآتي:
[ثلاثة أيام للبكاء على الميت. ثم سبعة أيام نواح (تراتيل حزينة). ثم ثلاثين يوماً حداداً يُمنع فيها قص الشعر ولبس الملابس الثمينة]
إذن، فمجيء اليهود من أورشليم لتعزية مرثا ومريم, لمدة سبعة أيام حسب طقس اليهود كأعلى تعبيرات المحبة التي لا يمكن لليهودي أن يفرط فيها, لا تأتي في القصة مصادفة، بل هي الوصلة الملتهبة التي تفجرت في أورشليم بسرعة بعد قيامة لعازرعن الموت، حيث بلغ الخبر للرؤساء المتربصين, فطار صوابهم. وتشكل الصليب في أفق جنونهم في الحال.
ومجيء هؤلاء اليهود لم يكن بقصد التلصص على أخبار الرب، ولكن بانفعال صادق لما رأوه سابقاً من الآيات في أورشليم, وبالأخص الآية الأخيرة التي تم فيها تفتيح عيني الأعمى بحضورهم. وهذا واضح من قولهم عندما رأوا المسيح يبكي: «ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت».
رد فعل خبر مجيء «المعلم» المحبوب يسوع بالنسبة لمرثا ومريم، هو مطابق لما جاء عنهما في إنجيل القديس لوقا 38:10 من جهة طبيعة كل واحدة. فمرثا خرجت في الحال لاستقباله، فهي كانت ربة البيت ذات الإحساس بالواجب وصاحبة الضيافة بنشاط والخدمة الكثيرة. ولا ننسى كيف رأت في نفسها الكفاءة أن تلفت نظر المعلم أن يزجر مريم أختها لتساعدها، وكأنها ذات إدارة وإمارة. ولم تر أنه كان من الواجب عليها أن تدعو أختها قبل أن تسرع للخروج. لذلك ظلت مريم جالسة في البيت وسط المعزين، ولم تعلم بخروج أختها , علمأ بأن طبيعة مريم كانت هادئة مذعنة، ليست كثيرة الحركة، تتقن الجلوس تحت أقدام من يعلمها، ولكن كانت قد «أحبت الرب كثيراً» في صمت بالغ يشهد عليه الناردين الخالص الكثير الثمن.
مرثا تطرح انفعالها أمام الرب في صورة إيمانية بسيطة، مع حسرة على حاجة فلتت من يديها ومن يد الزمن. ولكن عادت تتعلق برجاء. والرجاء دائماً أبداً يغطي قصور ما لم يحققه الزمن، رجاء يستند، لا على الإيمان الشخصي فقط، بل وعلى العلم بقدرة المسيح, «أنا أعلم», مرثا ألقت بكل ما تبقى لها من أمل على وعد المسيح: «من آمن بي ولو مات فسيحيا»، مستندة على يقينها أن طلب المسيح مستجاب لدى الله. وهنا تكرر مرثا حضور الله إزاء طلب المسيح مرتين: «أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إيا،»، وذلك تأكيدا للعلاقة التي تربط المسيح بالله.
ثم، لا بد أن أحد التلاميذ أسر إليها بقول المسيح لهم: «أنا أذهب لاوقظه». لذلك اشتد يقينها بأن شيئاً عظيماً سيحدث على يدي المسيح، فبدأت تستحث الرب على ذلك، مؤكدة له أنها على يقين أن «كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه». لقد انطلق إيمانها مع هذه الكلمات، يحلق بقوة الرجاء في قوة الحياة التي يمكن أن يهبها المسيح, ولكن كيف؟ لم تجرؤ مرثا أن تطلب علانية ما يعز على أي إنسان طلبه. ولكن الحبة التي كانت تتأجج في قلبها كانت تضيء أمامها المجهول، وأن لا شي ء مستحيل لدى الرب.
«وكل» التي قالتها مرثا من عمق أعماق قلبها كفيلة بأن تغطي كل شي ء حتى القيامة من الموت: «أنا أعلم أن كل ما تطلب...«. و«كل» تترجم بالإنجليزية: whatsoever أى «مهما»
«قال لها يسوع: سيقوم أخوك. قالت له مرثا: أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير»: المسيح يتكلم عن القيامة كقوة إلهة فيه، سيستعلنها في شخصه كحقيقة حاضرة لا يحصرها زمان ولا تحدها أية قوة في العالم، وسيمارسها تجاه الموت ليلغي وجوده علنا، ويُظهر الحياة كقوة غالبة ومنتصرة من داخل الموت.
والغاية من قول المسيح هذه الحقيقة: «سيقوم أخوك»، هو ليعلن لمرثا أن الموت ليس هو العدو الذي ينتصر فوق الحياة، إذ توجد القيامة التي تبطله، يقولها هنا المسيح كخبر، قبل أن يكمله كفعل, ليصير هذا هو معيارنا الجديد بالمسيح يسوع تجاه الموت: «سيقوم اخوك». وفعلاً فإن مرثا أخذت قول المسيح كتعليم وفلسفة، وليس كعمل سيتم تجاه الميت. فوافقت عليه وشرحته حسب تقديرها الإيماني, كحقيقة عامة معروفة، وليس كفعل شخصي: «أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير».
وبهذا تكون مرثا قد أخذت قول المسيح على مستوى التعزية ليس إلا، وذلك حسب أصول المجاملة في حالة الموت. وعززته باستذكار التعليم اليهودي من جهة قيامة الأجساد، الذي كان الفريسيون يعلمون به ضد الصدوقيين الذين لم يكونوا يؤمنون بالقيامة على وجه الإطلاق (مر18:12, أع8:23). وهذا التعليم اللاهوتي اليهودي ظهر بوضوح منذ القرن الثاني قبل اليلاد: «وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الآبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الآبدي.» (دا2:12)
وقد دخلت هذه الحقيقة الإيمانية كجزء في العبادة الرسمية اليومية حيث تقال في البركة الثانية ضمن الثماني عشرة بركة: [أنت الجبار إلى الآبد يا رب، أنت الذي تحيي الموتى].
ولكنها كانت حقيقة مفهومة من جهة الأمور الأخروية, ولا تدخل قط في مفهوم إمكانية القيامة في الحاضر، الأمر الذي حققه المسيح لنفسه وللآخرين.
وهكذا أراد إنجيل يوحنا أن يضع في مقابلة ومواجهة: قانون الإيمان اليهودي، تجاه قانون الإيمان المسيحي، من جهة التعليم بالقيامة. فالأول يرى القيامة مجرد مقولة إيمانية في أمور أخر الزمان، والثاني يراها حقيقة خلاصية حاضرة الآن وكل يوم، في المسيح، وبالمسيح. وهذا هو رد المسيح الاستعلاني.
رد المسيح لا يخطىء من قول مرثا واعترافها بالإيمان اليهودي. ولكن التصحيح هو أن القيامة ليست تعليماً ولكن حقيقة, ليست للمستقبل بل هي للحاضر, ليست لجماعة (قيامة جماعية) ولكن لكل فرد من واقع فردية حياته، ليست نعمة يتحصل عليها المسيح من (الله) كطلب مرثا, بل هى كيان المسيح نفسه «أنا هو» حينما يتصل بنا، سواء الآن وكل أوان أو المستقبل.
وينبغي الآن أن نفرق بين أقوال المسيح السابقة عن: «أنا هو» التي ينسب فيها إلى لاهوته تشبيهات بنور العالم والطريق والكرمة وباب الخراف والراعي الصالح وخبز الحياة، هذه كلها تصويرات لفظية تصور عمل المسيح لقيادة الإنسان وتقويته وبنائه روحياً، وضمان صلته بالحياة الآبدية. أما هنا فقوله: «أنا هو القيامة» ، ليس تشبيهاً ولا تصويراً، ولكن استعلان حقيقة كائنة فيه, وهي من صميم كيانه وطبيعته, تلك التي كان يظن, كما كانت مرثا أيضاً تظن, أن فاعليتها متوقفة على اليوم الأخير، وأن قوة هذه الإقامة من الموت هي من عمل الله. ولكن هنا يستعلن المسيح أنها من عمله هو، وأنها ليست عمله الخاص وحسب, بل هي طبيعته: «أنا هو القيامة». المسيح هنا يستعلن نفسه، أو كما سبق وقال: «أنا الشاهد لنفسي» (يو18:8). هنا «فعل» الإقامة من الموت المستقبلي ينسبه المسيح إلى حاضر طبيعته الإلهية، أو على الوجه الأصح، إلى لاهوته القائم الآن فيه والى الآبد، وليس هو مجرد «فعل إقامة», بل «مصدر» القيامة: «أنا هو القيامة (ذاتها)» (بخصوص أن القيامة هي من صميم كيان المسيح وطبيعته وليست مجرد عمل يقوم به، فإن القديس كيرلس الكبير يدعو المسيح بعبارة تكررت مئات المرات في كتاباته وهي: «الذي هو بطبيعته الحياة».). وهكذا وبهذا يكون قد أضاف المسيح إلى كل أقواله السابقة عن «وأنا أقيمه في اليوم الأخير»: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير» (يو39:6-44) إضافة جديدة في غاية الأهية وهي عمله في الحاضر أيضاً للاقامة من الموت، وبالتال إعطاء الحياة الآبدية الأن في الحاضر: «أنا هو القيامة والحياة».
وبالتوازي مع الإقامة من الموت الآن واعطاء الحياة الان, يؤكد المسيح في إنجيل يوحنا أنه أيضاً يباشر الدينونة والإعفاء من الدينونة الآن أيضاً, أو على وجه أصح منذ الآن: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
والمسيح لا ينفي هنا الدينونة في اليوم الأخيره ولا القيامة في اليوم الأخير، ولا استعلان الحياة الآبدية في اليوم الأخير، ولكن يضيف ويكمل الإيمان اليهودي بالقيامة في اليوم الأخير بالإيمان المسيحي، أن القيامة والدينونة والحياة تبدأ من الآن، وذلك في المسيح وبالإتحاد معه. وكأن المسيح يخاطب الذين يبكون وينوحون على ميتهم الذي يكون قد آمن بالمسيح وأحبه وعاش في حضرته، هكذا: [لا تبكوا ولا تحزنوا بل ثقوا وآمنوا أن أخاكم حي الآن، وهو معي، لقد «انتقل من الموت إلى الحياة», «لأنه قد أحب الإخوة» (راجع 1يو14:3) وهو يستمتع بالحياة الآبدية بلا حزن ولا كآبة ولا تنهد في النور الآبدي، لقد قام أخوكم بالروح، ولكن الجسد هو الذي اسُتهدف وحده للفساد والفناء, الجسد لا يفيد شيئاً، الروح هو المؤهل للحياة الآبدية. الله روح وهو طالب الساجدين له بالروح والحق. لا تهتموا بعد بما هو على الأرض، «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد» (كو1:3-4)].
و«أنا هو القيامة قبل الحياة»، لأن المسيح سيبدأ من الموت ليعلن الحياة. ولكن لا بد من الاثنين معاً، لأن القيامة والحياة استعلان واحد وهو شخصه. فهو لم يقل أن القيامة عمل يحضره لنا أو يقودنا إليه أو يعدنا به، ولكنه يقول: «أنا هو القيامة». والقيامة التي يعلنها المسيح أنها كيانه الخاص: «أنا هو»، لا يعلنها لنعرفها فيه مجرد معرفة، بل إنه يعلنها باعتبارها لنا ومن أجلنا. هي كائنة أصلاً في صمميم لاهوته، لأنه هو الحياة ذاتها (القديس أثانسيوس الرسولي يدعر المسيح: «الذي هو بذاته الحياة, أو الحياة بذاتها») التي ليس فيها الموت. ولكن لأنه تجسد وأخذ بشرية الفرد الكاملة التي يمكن أن يموت بها، صارت القيامة كائنة في ناسوته أيضاً، لذلك إن مات فهو حتماً يقوم، وهكذا حقق المسيح للبشرية فردية الإنسان الدائمة والقائمة والحية إلى الآبد. ولكن قبل أن يموت، باشر إقامة لعازر من الموت، لندرك أن القيامة كائنة فيه، بل هي كيانه الذي نوى أن يمنحنا إياه، بالاتصال بنا أو باتحادنا به، فنقوم به وفيه، أو نصير به قائمين. ويصير كل فرد مؤمن ومتحد به، حياً به, أو أن المسيح يصير حياة كل أحد: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل20:2)، «... احسبوا أنفسكم... أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا.» (رو11:6)
لذلك، كان الإيمان بالمسيح غلبة للموت وقيامة في الحياة، لأن الايمان بالمسيح الذي هو الإتحاد بالمسيح, هو إتحاد بالقيامة والحياة: «من يسمح كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية, ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)، «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6). المسيح هنا يعطي ذاته بكيانها القائم والحي. لذلك نستطيع أن نفهم قوله: «من آمن بي ولو مات فسيحيا»، و «من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الآبد».
فلأنه هو القيامة = فمن يؤمن به، فهو حتى ولو مات موت الجسد، فهو سيحيا ثانية، الآن أو في القيامة.
ولأنه هو الحياة = فمن كان حياً بالروح، أي مؤمناً به, فهو لن يذوق الموت الروحي إلى الآبد، لأن الحياة الآبدية التي فيه قائمة وستتجلى حتماً.
وواضح أن هذا القول يشمل فئتين:
فئة الذين آمنوا وماتوا, ويهدف إلى لعازر كمثل؛ وفئة الذين هم أحياء وامنوا فنالوا عطية الحياة الآبدية، ويهدف إلى مرثا على سبيل المثال أيضا. فالأول سيحيا بالرغم من أنه مات، وذلك بسبب إيمان لعازر وحبه للمسيح. والثاني, وهو مرثا، فلن تذوق الموت (الروحي), لأنها نالت الحياة الآبدية بالإيمان بالمسيح، الإيمان الذي أعلنته واضحاً: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
كما يلاحظ أن في المثل الأول: «الذي مات وقام», يكون المسيح له هو«القيامة والحياة», حيث تأتي القيامة قبل الحياة لأنها سببها وعلتها: «أنا هو القيامة والحياة».
أما في المثل الثاني، مثل الذي وُهب الإيمان وهو الآن يتمتع بمواهب الحياة الآبدية ويأكل الجسد ويشرب الدم بمعنى الشركة القائمة والإتحاد الكائن مع المسيح, يكون المسيح له هو«الحياة والقيامة» حيث تأتي الحياة قبل القيامة، وحيث تكون الحياة الآبدية هي سبب وعلة القيامة: «كل من يرى الآبن ويؤمن به تكون له حياة أبدية, وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو40:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة ابديه, وانا اقيمه في اليوم الاخير» (يو54:6). بمعنى أننا الآن نتمتع بالحياة الآبدية التي من فوق، والتي نلناها بالإيمان بالمسيح وبفعل الروح القدس, للاتحاد به بشركة تناول جسده ودمه، وهذه الحياة الآبدية التي من فوق هي هي قوة القيامة التي في كياننا منذ الآن، وهي التي سنعبر بها الموت وكأنه لم يكن!! «لأنه ليس موت لعبيدك بل هو انتقال» (أوشية الراقدين).
وباختصار شديد يكون المسيح [حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا], القداس الإلهي القبطي (أوشية الإنجيل): «متى أظهر المسيح حياتنا, فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
ولكن علينا أن نلمح أن محور قيامتنا وحياتنا الآبدية هو الإيمان,» فالإيمان هو الحياة الآبدية. ليس الإيمان بالقيامة في حد ذاتها، بل الإيمان بالمسيح أنه هو حقاً وبالحقيقة قيامتنا وحياتنا، لذلك يكون الموت قد أصبح طريقاً للحياة لا غير!! «من آمن بي ولو مات فسيحيا, ولأن الحياة الآبدية قوة ذات كفاءة إلهية قادرة أن تصرع الموت, أينما كان, وتلغي وجوده، لذلك: «من كان حيا وآمن بي لن يموت إلى الآبد»، «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من الساء، إن أكل~ أحد من هذا الخبز يحيا إلى الآبد» (يو51:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو54:6)، «الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يرى الموت إلى الآبد» (يو51:8), «وهذه هي الحياة الآبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو3:17)
هكذا يستعلن المسيح ذاته بالنسبة لنا، أنه حقاً القيامة والحياة، وأن الموت لا يزيد عن كونه نعاساً مؤقتاً، لا يلغي الحياة الآبدية التي صارت في كياننا الروحي. فهبة الحياة الآبدية التي ننالها بالإيمان بالمسيح وبالميلاد من الروح القدس من فوق، هي بحد ذاتها إلغاء صريح وواضح لعقوبة الموت التي دخلت إلى العالم بالخطية. فإذا فقد الموت عامل العقوبة واللعنة، أصبح الموت لا يزيد عن كونه راحة للجسد الذي أشقاه العالم، أو أصبح كالنوم أو النعاس حسب ما وصفه المسيح، حيث الإنسان (الصالح) لا يفقد بالموت إلا عوامل الفناء فقط التي دخلت عليه!!
المسيح أراد أن يرفع إيمان مرثا، لتفهم وتتذوق طعم الحياة الآبدية الحقيقية الآن بالإيمان بالمسيح، فيصغر سلطان الموت في عينيها، وتدرك أن القيامة صارت الأن بالمسيح حقيقة قائمة حاضرة فينا بالروح، بقوة الإيمان الذي يوحدنا بالمسيح ويملكن ما لطبيعته، وأن القيامة ليست هي رجاء المستقبل. وهذا بدا واضحاً من إجابة مرثا على سؤال المسيح: «أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم يا سيد أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
ويلاحظ هنا، أن سؤال الرب واضح في اللغة اليونانية، أنه لا يعني «هل توافقين على هذا»؛ بل: «هل هذا هو إيمانك, أتؤمنين بهذا؟». وهكذا استنفر المسيح إيمان مرثا الخاص، لمواجهة المعجزة قبل أن يباشرها، واستحضر مرثا في مواجهة القيامة أو الإقامة من الموت العتيد أن يكمله في الحال، كفعل قائم في المسيح الآن في الحاضر، يقبله لعازر بالروح ويتقبله بالإيمان الذي له, والذي لا يفنى ولا يضمحل بالموت, كحق من حقوق من أحب السيح والتصق به, ليقوم من الأموات ويشهد للقيامة وللحياة التي في المسيح والتي صارت أيضاً فيه وله: «الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن, حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون!!!» (يو25:5)
لقد عبرت مرثا عن إيمانها بالمسيح مباشرة، دون أن تذكر الموت أو القيامة, وهو تعبير ليس ابن وقته، بل يبدو أنه كان محفوظأ في قلبها، وهو نفس إيمان المعمدان أن المسيح هو ابن الله الآتي إل العالم, وهو إيمان نثنائيل, وإيمان الأعمى المفتوح العينين والقلب، وإيمان بطرس نيابة عن التلاميذ وعن نفسه، الإيمان الذي بدأ يشرق على العالم بتؤدة ويقين، والذي كان العالم يتلهف عليه ويتطلع بشوق نحوه، باعتباره رجاء الدهور الذي سينقذنا من الموت، الذي سبق أن رآه الأنبياء بالروح، المسيا الآتي للخلاص، وها هوذا قد أتى: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم» (يو27:11). المسيا الآتي إلى العالم، رجاء الأنبياء بل وأكثر من رجاء الأنبياء، لأنه ابن الله الذي يقيمنا من الموت، ويهبنا الحياة، ويصالحنا مع أبيه. لأن «الإيمان بالمسيح» ليس معلومة قائمة بذاتها, بل الإيمان بالمسيح ينشىء خلاصاً, ينشىء علاقة, ينشىء شركة معه, ينشىء إتحاداً, ينشىء قبول القيامة التي في المسيح والحياة الآبدية التي فتحها علينا وعلى الآب، لتسري في كياننا كأعظم عطية يمكن أن ينالها الإنسان، لأن بها يبدأ الإنسان كالأول يعيش مع الله، هنا كما هناك وإلى الآبد.
كلمة «ابن الله» التي أضافتها مرثا إل اسم «المسيح» ترفع المسيح فوق كل رجاء اليهود والآباء والأنبياء وتوضح أي انفتاح قد صار لنا مع الله.
لقد نطقت مرثا أعظم وأصدق قانون إيمان يطلبه الله والمسيح والإنجيل والأنبياء. انظر إلى ختام رواية القديس يوحنا التي يبلور فيها كل الإنجيل وكل حياة المسيح وأعماله وآياته هكذا: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح (المسيا) ابن الله, ولكي تكون لكم، إذا آمنتم, حياة باسمه» (يو30:20-31). هذه الخلاصة الإيمانية المسيانية للانجيل هي هي بذاتها التي عبرت عنها مرثا، تعبيراً تسنده المحبة القوية، والعشرة الصادقة، والأمانة، والخدمة، في أحلك ساعات تجربتها ومرارة نفسها!!
انظر، أيها القارىء العزيز، واعلم وتعلم، أننا لنا بقوانين ومفردات كثيرة للايمان نعيش، بقدر ما يكون لنا حياة صادقة باسمه لا تزعزعها أعنف التجارب، حينئذ يصير إيماننا بابن الله حقيقة حية فينا!
رد المسيح لا يخطىء من قول مرثا واعترافها بالإيمان اليهودي. ولكن التصحيح هو أن القيامة ليست تعليماً ولكن حقيقة, ليست للمستقبل بل هي للحاضر, ليست لجماعة (قيامة جماعية) ولكن لكل فرد من واقع فردية حياته، ليست نعمة يتحصل عليها المسيح من (الله) كطلب مرثا, بل هى كيان المسيح نفسه «أنا هو» حينما يتصل بنا، سواء الآن وكل أوان أو المستقبل.
وينبغي الآن أن نفرق بين أقوال المسيح السابقة عن: «أنا هو» التي ينسب فيها إلى لاهوته تشبيهات بنور العالم والطريق والكرمة وباب الخراف والراعي الصالح وخبز الحياة، هذه كلها تصويرات لفظية تصور عمل المسيح لقيادة الإنسان وتقويته وبنائه روحياً، وضمان صلته بالحياة الآبدية. أما هنا فقوله: «أنا هو القيامة» ، ليس تشبيهاً ولا تصويراً، ولكن استعلان حقيقة كائنة فيه, وهي من صميم كيانه وطبيعته, تلك التي كان يظن, كما كانت مرثا أيضاً تظن, أن فاعليتها متوقفة على اليوم الأخير، وأن قوة هذه الإقامة من الموت هي من عمل الله. ولكن هنا يستعلن المسيح أنها من عمله هو، وأنها ليست عمله الخاص وحسب, بل هي طبيعته: «أنا هو القيامة». المسيح هنا يستعلن نفسه، أو كما سبق وقال: «أنا الشاهد لنفسي» (يو18:8). هنا «فعل» الإقامة من الموت المستقبلي ينسبه المسيح إلى حاضر طبيعته الإلهية، أو على الوجه الأصح، إلى لاهوته القائم الآن فيه والى الآبد، وليس هو مجرد «فعل إقامة», بل «مصدر» القيامة: «أنا هو القيامة (ذاتها)» (بخصوص أن القيامة هي من صميم كيان المسيح وطبيعته وليست مجرد عمل يقوم به، فإن القديس كيرلس الكبير يدعو المسيح بعبارة تكررت مئات المرات في كتاباته وهي: «الذي هو بطبيعته الحياة».). وهكذا وبهذا يكون قد أضاف المسيح إلى كل أقواله السابقة عن «وأنا أقيمه في اليوم الأخير»: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير» (يو39:6-44) إضافة جديدة في غاية الأهية وهي عمله في الحاضر أيضاً للاقامة من الموت، وبالتال إعطاء الحياة الآبدية الأن في الحاضر: «أنا هو القيامة والحياة».
وبالتوازي مع الإقامة من الموت الآن واعطاء الحياة الان, يؤكد المسيح في إنجيل يوحنا أنه أيضاً يباشر الدينونة والإعفاء من الدينونة الآن أيضاً, أو على وجه أصح منذ الآن: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
والمسيح لا ينفي هنا الدينونة في اليوم الأخيره ولا القيامة في اليوم الأخير، ولا استعلان الحياة الآبدية في اليوم الأخير، ولكن يضيف ويكمل الإيمان اليهودي بالقيامة في اليوم الأخير بالإيمان المسيحي، أن القيامة والدينونة والحياة تبدأ من الآن، وذلك في المسيح وبالإتحاد معه. وكأن المسيح يخاطب الذين يبكون وينوحون على ميتهم الذي يكون قد آمن بالمسيح وأحبه وعاش في حضرته، هكذا: [لا تبكوا ولا تحزنوا بل ثقوا وآمنوا أن أخاكم حي الآن، وهو معي، لقد «انتقل من الموت إلى الحياة», «لأنه قد أحب الإخوة» (راجع 1يو14:3) وهو يستمتع بالحياة الآبدية بلا حزن ولا كآبة ولا تنهد في النور الآبدي، لقد قام أخوكم بالروح، ولكن الجسد هو الذي اسُتهدف وحده للفساد والفناء, الجسد لا يفيد شيئاً، الروح هو المؤهل للحياة الآبدية. الله روح وهو طالب الساجدين له بالروح والحق. لا تهتموا بعد بما هو على الأرض، «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد» (كو1:3-4)].
و«أنا هو القيامة قبل الحياة»، لأن المسيح سيبدأ من الموت ليعلن الحياة. ولكن لا بد من الاثنين معاً، لأن القيامة والحياة استعلان واحد وهو شخصه. فهو لم يقل أن القيامة عمل يحضره لنا أو يقودنا إليه أو يعدنا به، ولكنه يقول: «أنا هو القيامة». والقيامة التي يعلنها المسيح أنها كيانه الخاص: «أنا هو»، لا يعلنها لنعرفها فيه مجرد معرفة، بل إنه يعلنها باعتبارها لنا ومن أجلنا. هي كائنة أصلاً في صمميم لاهوته، لأنه هو الحياة ذاتها (القديس أثانسيوس الرسولي يدعر المسيح: «الذي هو بذاته الحياة, أو الحياة بذاتها») التي ليس فيها الموت. ولكن لأنه تجسد وأخذ بشرية الفرد الكاملة التي يمكن أن يموت بها، صارت القيامة كائنة في ناسوته أيضاً، لذلك إن مات فهو حتماً يقوم، وهكذا حقق المسيح للبشرية فردية الإنسان الدائمة والقائمة والحية إلى الآبد. ولكن قبل أن يموت، باشر إقامة لعازر من الموت، لندرك أن القيامة كائنة فيه، بل هي كيانه الذي نوى أن يمنحنا إياه، بالاتصال بنا أو باتحادنا به، فنقوم به وفيه، أو نصير به قائمين. ويصير كل فرد مؤمن ومتحد به، حياً به, أو أن المسيح يصير حياة كل أحد: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل20:2)، «... احسبوا أنفسكم... أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا.» (رو11:6)
لذلك، كان الإيمان بالمسيح غلبة للموت وقيامة في الحياة، لأن الايمان بالمسيح الذي هو الإتحاد بالمسيح, هو إتحاد بالقيامة والحياة: «من يسمح كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية, ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)، «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6). المسيح هنا يعطي ذاته بكيانها القائم والحي. لذلك نستطيع أن نفهم قوله: «من آمن بي ولو مات فسيحيا»، و «من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الآبد».
فلأنه هو القيامة = فمن يؤمن به، فهو حتى ولو مات موت الجسد، فهو سيحيا ثانية، الآن أو في القيامة.
ولأنه هو الحياة = فمن كان حياً بالروح، أي مؤمناً به, فهو لن يذوق الموت الروحي إلى الآبد، لأن الحياة الآبدية التي فيه قائمة وستتجلى حتماً.
وواضح أن هذا القول يشمل فئتين:
فئة الذين آمنوا وماتوا, ويهدف إلى لعازر كمثل؛ وفئة الذين هم أحياء وامنوا فنالوا عطية الحياة الآبدية، ويهدف إلى مرثا على سبيل المثال أيضا. فالأول سيحيا بالرغم من أنه مات، وذلك بسبب إيمان لعازر وحبه للمسيح. والثاني, وهو مرثا، فلن تذوق الموت (الروحي), لأنها نالت الحياة الآبدية بالإيمان بالمسيح، الإيمان الذي أعلنته واضحاً: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
كما يلاحظ أن في المثل الأول: «الذي مات وقام», يكون المسيح له هو«القيامة والحياة», حيث تأتي القيامة قبل الحياة لأنها سببها وعلتها: «أنا هو القيامة والحياة».
أما في المثل الثاني، مثل الذي وُهب الإيمان وهو الآن يتمتع بمواهب الحياة الآبدية ويأكل الجسد ويشرب الدم بمعنى الشركة القائمة والإتحاد الكائن مع المسيح, يكون المسيح له هو«الحياة والقيامة» حيث تأتي الحياة قبل القيامة، وحيث تكون الحياة الآبدية هي سبب وعلة القيامة: «كل من يرى الآبن ويؤمن به تكون له حياة أبدية, وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو40:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة ابديه, وانا اقيمه في اليوم الاخير» (يو54:6). بمعنى أننا الآن نتمتع بالحياة الآبدية التي من فوق، والتي نلناها بالإيمان بالمسيح وبفعل الروح القدس, للاتحاد به بشركة تناول جسده ودمه، وهذه الحياة الآبدية التي من فوق هي هي قوة القيامة التي في كياننا منذ الآن، وهي التي سنعبر بها الموت وكأنه لم يكن!! «لأنه ليس موت لعبيدك بل هو انتقال» (أوشية الراقدين).
وباختصار شديد يكون المسيح [حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا], القداس الإلهي القبطي (أوشية الإنجيل): «متى أظهر المسيح حياتنا, فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
ولكن علينا أن نلمح أن محور قيامتنا وحياتنا الآبدية هو الإيمان,» فالإيمان هو الحياة الآبدية. ليس الإيمان بالقيامة في حد ذاتها، بل الإيمان بالمسيح أنه هو حقاً وبالحقيقة قيامتنا وحياتنا، لذلك يكون الموت قد أصبح طريقاً للحياة لا غير!! «من آمن بي ولو مات فسيحيا, ولأن الحياة الآبدية قوة ذات كفاءة إلهية قادرة أن تصرع الموت, أينما كان, وتلغي وجوده، لذلك: «من كان حيا وآمن بي لن يموت إلى الآبد»، «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من الساء، إن أكل~ أحد من هذا الخبز يحيا إلى الآبد» (يو51:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو54:6)، «الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يرى الموت إلى الآبد» (يو51:8), «وهذه هي الحياة الآبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو3:17)
هكذا يستعلن المسيح ذاته بالنسبة لنا، أنه حقاً القيامة والحياة، وأن الموت لا يزيد عن كونه نعاساً مؤقتاً، لا يلغي الحياة الآبدية التي صارت في كياننا الروحي. فهبة الحياة الآبدية التي ننالها بالإيمان بالمسيح وبالميلاد من الروح القدس من فوق، هي بحد ذاتها إلغاء صريح وواضح لعقوبة الموت التي دخلت إلى العالم بالخطية. فإذا فقد الموت عامل العقوبة واللعنة، أصبح الموت لا يزيد عن كونه راحة للجسد الذي أشقاه العالم، أو أصبح كالنوم أو النعاس حسب ما وصفه المسيح، حيث الإنسان (الصالح) لا يفقد بالموت إلا عوامل الفناء فقط التي دخلت عليه!!
المسيح أراد أن يرفع إيمان مرثا، لتفهم وتتذوق طعم الحياة الآبدية الحقيقية الآن بالإيمان بالمسيح، فيصغر سلطان الموت في عينيها، وتدرك أن القيامة صارت الأن بالمسيح حقيقة قائمة حاضرة فينا بالروح، بقوة الإيمان الذي يوحدنا بالمسيح ويملكن ما لطبيعته، وأن القيامة ليست هي رجاء المستقبل. وهذا بدا واضحاً من إجابة مرثا على سؤال المسيح: «أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم يا سيد أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
ويلاحظ هنا، أن سؤال الرب واضح في اللغة اليونانية، أنه لا يعني «هل توافقين على هذا»؛ بل: «هل هذا هو إيمانك, أتؤمنين بهذا؟». وهكذا استنفر المسيح إيمان مرثا الخاص، لمواجهة المعجزة قبل أن يباشرها، واستحضر مرثا في مواجهة القيامة أو الإقامة من الموت العتيد أن يكمله في الحال، كفعل قائم في المسيح الآن في الحاضر، يقبله لعازر بالروح ويتقبله بالإيمان الذي له, والذي لا يفنى ولا يضمحل بالموت, كحق من حقوق من أحب السيح والتصق به, ليقوم من الأموات ويشهد للقيامة وللحياة التي في المسيح والتي صارت أيضاً فيه وله: «الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن, حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون!!!» (يو25:5)
لقد عبرت مرثا عن إيمانها بالمسيح مباشرة، دون أن تذكر الموت أو القيامة, وهو تعبير ليس ابن وقته، بل يبدو أنه كان محفوظأ في قلبها، وهو نفس إيمان المعمدان أن المسيح هو ابن الله الآتي إل العالم, وهو إيمان نثنائيل, وإيمان الأعمى المفتوح العينين والقلب، وإيمان بطرس نيابة عن التلاميذ وعن نفسه، الإيمان الذي بدأ يشرق على العالم بتؤدة ويقين، والذي كان العالم يتلهف عليه ويتطلع بشوق نحوه، باعتباره رجاء الدهور الذي سينقذنا من الموت، الذي سبق أن رآه الأنبياء بالروح، المسيا الآتي للخلاص، وها هوذا قد أتى: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم» (يو27:11). المسيا الآتي إلى العالم، رجاء الأنبياء بل وأكثر من رجاء الأنبياء، لأنه ابن الله الذي يقيمنا من الموت، ويهبنا الحياة، ويصالحنا مع أبيه. لأن «الإيمان بالمسيح» ليس معلومة قائمة بذاتها, بل الإيمان بالمسيح ينشىء خلاصاً, ينشىء علاقة, ينشىء شركة معه, ينشىء إتحاداً, ينشىء قبول القيامة التي في المسيح والحياة الآبدية التي فتحها علينا وعلى الآب، لتسري في كياننا كأعظم عطية يمكن أن ينالها الإنسان، لأن بها يبدأ الإنسان كالأول يعيش مع الله، هنا كما هناك وإلى الآبد.
كلمة «ابن الله» التي أضافتها مرثا إل اسم «المسيح» ترفع المسيح فوق كل رجاء اليهود والآباء والأنبياء وتوضح أي انفتاح قد صار لنا مع الله.
لقد نطقت مرثا أعظم وأصدق قانون إيمان يطلبه الله والمسيح والإنجيل والأنبياء. انظر إلى ختام رواية القديس يوحنا التي يبلور فيها كل الإنجيل وكل حياة المسيح وأعماله وآياته هكذا: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح (المسيا) ابن الله, ولكي تكون لكم، إذا آمنتم, حياة باسمه» (يو30:20-31). هذه الخلاصة الإيمانية المسيانية للانجيل هي هي بذاتها التي عبرت عنها مرثا، تعبيراً تسنده المحبة القوية، والعشرة الصادقة، والأمانة، والخدمة، في أحلك ساعات تجربتها ومرارة نفسها!!
انظر، أيها القارىء العزيز، واعلم وتعلم، أننا لنا بقوانين ومفردات كثيرة للايمان نعيش، بقدر ما يكون لنا حياة صادقة باسمه لا تزعزعها أعنف التجارب، حينئذ يصير إيماننا بابن الله حقيقة حية فينا!
عجيب القديس يوحنا في سرده للرواية، فهو يعلق من عنده تعليقات تجعل القصة حية ناطقة.
«ولما قالت هذا مضت»: يقصد أنها قالت كل ما عندها، كل ما تملك من الإيمان الذي ارتفع فوق الموقف كله, لقد استجابت لاستعلان المسيح، وردت عليه بما ملأ قلبها راحة وسلاماً. وبقدر ما ارتاحت مرثا ودخل قلبها مناطق ألنور والرجاء، فإنها دعت أختها لتغترف من مراحم الرب وتعزياته, وكلمة «سرا» تتجه ناحية اليهوء الذين جاءوا من أورشليم حتى لا يعكروا صفو اللقاء بفكرهم المريض.
ولقب «المعلم» الى احترفه التلاميذ بحكم تلمذتهم، اختطفته الأختان، إذ اعتبرتا نفسيهما من التابعين, حتى وإن كانتا قد قبعتا في عقر دارهما. فقد أتقنتا فن السماع والحب. ودعوة المعلم لمريم ذكية, فهو يعلم مقدار الحزن والأسى الذي يعتصر قلبها. وكما سقى مرثا من ماء الحياة فارتوت, وانطفأت نار قلبها، هكذا أراد أن يسقي هذه الأخرى العزاء بعيدا عن عقول المرائين. لقد صدق الرب حينما ألمح عن نفسه بقدرة التعزية وسلطان العزاء، حينما وعدهم بإرسال الباراقليط المعزي قائلأ: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الآبد» (يو16:14)؛ باعتبار أنه هو المعزي الأول!!
مريم لما سمعت، «قامت سريعاً»، وجاءت إلى المعلم حيث لاقى مرثا، لأنه لم يشأ أن يدخل القرية مباشرة. ولكن خروج مريم السريع نبه اليهود خطأ أنها ذاهبة لتبكي في القبر, فتبعوها، فكانت مقابلة الرب لمريم في وسط جمع اليهود. ولم تستطسع مريم, بانفعالها البادى عليها من جراء هيبة الرب, إلا أن تخر عند رجليه ساجدة، الأمر الذى فات على مرثا، لكنها احتفظت بتكريم الرب بمشاعر قلبها الخفية. ولكن كان الفكر الطاغي على قلب مريم هو نفس ما فكرت فيه مرثا وقالته للرب: «يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي». أمل مفقود، ولكن كان وراءه نوع من التوسل يملأ قلبها، فالمحبة تصدق كل شيء، وترجو كل شيء، ولا تسقط أبداً، حتى وإن وقف العقل حائلاً دون النطق. لم تسعفها الكلمات أكثر من ذلك، فقدمت أعز وأ قوى ما تملك المرأة: دموعها!!
مريم تبكي, واليهود يبكون, والمسيح يبكي, هنا تنفرد اللغة اليونانية بتعبيرات البكاء، التي تفرق فيها بين بكاء مريم واليهود وبين بكاء المسيح، في هذا الموقف بالذات. فبكاء مريم واليهود عبرت عنه اللغة اليونانية بكلمة ( )، وهي تفيد المعنى العربي «بكاء بصوت مسموع للتعبير الظاهري عن الحزن»، وهو كمهنة عند النسوة له أصول. أما كلمة «بكى يسوع» بتأتى ( ) وهي بمعنى »أدمعت عيناه بدون صوت». وتأتي كتأثر مباشر عفوي للحزن غير المنضبط، في صمت.
انزعج بالروح: وتأتي باليونانية ( ) وتفيد الانفعال الانعكاسي للمنظر الذي أمامه (تأثر)، وهي لا تفيد الانزعاج كما تجيء في الترجمة العربية، ولكن تفيد التأثر بعدم الرضا، وهي نفس الكلمة التي جاءت في المواقف الأتية بمعنى الانتهار:
+ «فانفتحت أعينهما, فانتهرما يسوع قائلا: انظرا لا يعلم أحد.» (مت30:9)
+ «فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص، وطهر، فانتهره, وأرسله للوقت.» (42:1-43)
+ وتأتي بمعنى التأنيب: «لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلثمئة دينار ويعطى للفقراء. وكانوا يؤنبونها.» (مر5:14)
وهكذا يظهر أن هذا الاصطلاح «انزعج»، كما جاء في الترجمة العربية، يفيد مجرد التأثر ولا يفيد الحزن.
أما كلمة «بالروح»، فهي تفيد أن الرب تحرك أو تأثر بالروح إزاء منظر البكاء في عدم ارتياح, وتحرك روحيا ليصنع أمراً (إقامة لعازر) يوقف به هذا العويل والنواح.
فقد يؤخذ هذا الانزعاج الروحي على أنه استنفار الروح للقيام بالهمة الخطيرة، وهي إقامة الميت إلى الحياة. ونحن نعلم أن هذا العمل يستلزم خروج قوة هائلة من المسيح ، كما حدث في نازفة الدم : «فقال يسوع قد لمسني واحد، لأني علمت أن قوة قد خرجت مني.» (لو46:8)
ويلاحظ أن الكلمة اليونانية ( ) التي تُرجمت هنا «انزعج» جاءت بالترجمة «انتهر» في إثر المعجزات ذات الثقل العال التي استلزمت انفعالاً روحيأ من الرب لا يستهان به، وهي معجزة شفاء الآبرص (مر43:1), وشفاء الأعمى (مت30:9)، وإقامة لعازر (يو33:11و38). لذلك لا ينبغي أن نستخفت بما تستلزمه المعجزة من الضغط الروحي العال الواقع على جسد المسيح الذي جعله يهتز ويئن وتدمح عيناه في مواقع كثيرة.
«واضطرب»: وهذا طبعاً نتيجة ما تحمله جسده من أحزان واضطراب الآخرين, تلك التي أخذها على نفسه في تعاطف ومشاراكة وبمحض إرادته, فجاءت كلمة «واضطرب» للتعبير عن ذلك، والتي تفيد حرفياً «جعل نفسه تضطرب»، وتفيد أيضاً الارتجاف والقشعريرة .
وبذلك تكون الأصول النفسية والروحية التي استهدفها المسيح في جسده للانزعاج والاضطراب، هي عملية طوعية إرادية، اعتبرها الله أبوه، واعتبرها هو، واعتبرها علم اللاهوت بناء على ذلك وبناء على سبق النبوة عنها، أنها جزء لا يتجزأ من عملية الخلاص الكبرى التي جاء المسيح وتجسد من أجلها، فهو لم يحمل خطايانا على نفسه فقط، بل وحمل أحزاننا وأوجاعنا واضطرابنا وموتنا، ويصفها إشعياء النبي بقوة بالغة العمق في قوله:
«رجل أرجاح ومختبر الحزن».
«لكن أحزاننا حملها, وأوجاعنا تحملها, ونحن حسبناه مضروباً من الله ومذلولاً».
«وهو مجروح لأجل معاصينا, مسحوق لأجل آثامنا ...»
«والرب وضع عليه إثم جيعنا».
«أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن» (إش 53)
إذن، فانزعاج المسيح بالروح واضطرابه، بل و بكاؤه، هذا كله وهو يمثل ضعف الإنسان عامة, حمّل المسيح نفسه به، وثقل روحه تحت عبئه, وأخذه وتبتاه، واشترك فيه كمقدمة ومؤخرة للموت ذاته الذي أخذه لنفسه وهو غريب عن هذا كله، بل وإن الله الآب سر بهذه المشاركة الحزينة والأليمة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من «ذبيحة الإثم» التي قدمها المسيح (عن خطية الإنسان) قدمها بجسده ونفسه وروحه!!!
ويلزم هنا أن نوضح أن القديس يوحنا، في إنجيله، ميز بين النفس والروح للمسيح في شركة الألم والموت:
«لما قال يسوع هذا، اضطرب بالروح، وشهد وقال: الحق الحق أقول لكم إن واحداً ممكم سيسلمني.» (يو21:31)
«فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل. ونكس رأسه وأسلم الروح.» (يو30:19)
«أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (يو11:10)
«الآن نفسي قد اضطربت, وماذا أقول، أيها الآب نجي من هذه الساعة ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة.» (يو27:12)
والآن يلزم أن نفهم أن آية إقامة لعازر من الموت، مع كل ما لابسها من مشاعر وعواطف وأحزان واضطراب وانزعاج، لا يمكن اعتبارها أنها حادثة قائمة بذاتها تمثل ظروفها فقط، بل هي نموذج، وصورة واقعية توضح صلة المسيح، وليس صلة المسيح فقط، بل وصلة الله بموتنا وقيامتنا، وما يلابس موتنا من جميع النواحي البشرية كما حدث في قصة لعازر، ويكفي أن نسع عن الله أنه «في كل ضيقهم تضايق ... » (إش9:63). المسيح يكرر حضوره، ويمارس إظهار مشاعره وعواطفه من جهة كل إنسان في الكنيسة يتألم أو يموت لحسابه: «إن عشنا فللرب نعيش، وان متنا فللرب نموت» (رو8:14). ونحن أيضاً نمارس إيمان قيامتنا في كل ميت يموت لنا، وبهذا الإيمان بالقيامة نرى مجد الله: «إن آمنت ترين مجد الله».
إذن، إقامة لعازر من الموت هي منهج إيماني للكنيسة. لقد رفع إنجيل يوحنا «إقامة لعازر من الموت» من حادثة إلى آية لاستعلان مجد الله، لتدخل في الكنيسة كآية لكل من يموت، ولكل من يموت له أحد.
«وقال: أين وضعتموه. قالوا. يا سيد تعال وانظر. بكى يسوع»: لأول مرة يذكر الإنجيل عن الرب أنه يستفسر، أي يطلب معرفة عن شيء. ولكن يبدو في الحقيقة أنه يعلن بذلك عن نيته في إقامة لعازر من الموت، وليس مجرد معرفة المكان. وهذا أيضاً بدوره هو رد الفعل المباشر في إظهار تأثره ومشاركته لعواطف الباكين, باعتبار أن الرب لا يشارك بالعواطف أو الكلمات وحسب، بل وبالعمل المباشر.
«بكى يسوع»: (والرب قد بكى لما رأى الإنسان المخلوق على صورته الخاصة منساقاً للفساد, وذلك حتى ببكائه يضع حدا لدموعنا. فإنه لهذه الغاية أيضاً قد مات حتى يخلصنا من الموت. (القديس كيؤلس الكبير فى تفسير يو35:11. )
الكلمة اليونانية ( )، ويقابلها باللغة اللاتينية في الفولجاتا ( )، وهى المرة الوحيدة في كل أسفار العهد الجديد التي ذُكرت فيها هذه الكلمة ولا تفيد أكثر من أن: « أدمع يسوع»، أي سالت دموعه. وهي تعتبر أصغر آية وردت في الإنجيل. ولكن قد ذكر أن المسيح بكى بكاء الحزن بصوت مسموع في إنجيل القديس لوقا: «وفيما هو يقترب، نظر إلى المدينة، وبكى عليها» (لو41:19). ولكن كان هذا البكاء على هلاك شعب، وكنيسة، وليس على صديق.
دموع يسوع هنا هي صورة لأحزان الرب عل مصير الإنسان, ككل, الذي جلبه على نفسه بالخطية. والقديس يوحنا أسهب في تصوير بشرية المسيح الكاملة وذلك بالأنواع، التي تعبر عن الإنسانية التي فيه:
التعب: «فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا عل البئر.» (يو6:4)
العطش: «فقال لها يسوع أعطيني لأشرب.» (يو7:4)
«قال أنا عطشان» (يو28:19)
المحبة: «.... وجاءت إلى سمعان بطرس والى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه.» (يو2:20)
كما جاءت تعبيرات أخرى مكملة في الأناجيل الأخرى:
الجوع: «فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، جاع أخيراً.» (مت2:4)
التهليل: «وفي تلك الساعة، تهلل يسوع بالروح, وقال: أحمدك أيها الآب...» (لو21:10)
الغضب: «فنظر حوله إليهم بغضب, حزينا على غلاظة قلوبهم...» (مر5:3)
الحزن: «فقال لهم: نفسي حزينة جداً حتى الموت...» (مت38:26)
لذلك كان من المستحيل على المسيح الذي تعب وعطش وجاع وأحب وفرح وغضب وحزن حزناً ثقيلاً حتى الموت، أن لا يبكي وتدمع عيناه، ليس مع الإنسان وحسب بل وعلى الإنسان أيضاً. فالذي ارتضى أن يقبل غصة الموت من أجلنا، كيف لا يترك عيناه تنهمر منها الدموع علينا، والذي ارتضى أن يحمل خطايانا في جسده على الصليب، كيف يمتنع عن أن يذرف الدمع علينا حينما يحل البكاء؟ لقد أحل لنفسه البكاء علينا، ولكنه أبى أن يبكي عليه أحد: «يا بنات أورشليم لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن.» (لو28:23)
يقول اللاهوتيون أن بكاء المسيح أكبر شهادة على كمال ناسوت المسيح، ونحن نقول أيضاً إن بكاء يسوع هو أكبر شهادة على استعلان كمال مشاعر قلب الل !... إن دموع يسوع هي حبات الياقوت التي سقطت علينا من جوهر الله الأزلى، لنصنع منها عقوداً للبهاء والجمال وللتباهي بها لدى الملائكة والرؤساء التي لا تملك أن تبكي.
وكما أبطل المسيح الموت بموته, فلم يعد الموت للعار والعقاب، بل للقيامة والحياة؛ كذلك فالمسيح ببكائه مسح الدمع من العيون, فلم تعد دموعنا لليأس والقنوط، ولكن للحب والعزاء، كدموعه... «يبلع الموت إلى الآبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض، لأن الرب قد تكلم.» (إش8:25)
ويا لفخرنا بدموع الرب هذه، فبعد أن مُسحت دموعنا، وقفت هذه الدموع عينها شهد أن «ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مُجرب في كل شيء مثلنا, بلا خطية، فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات، يسوع ابن الله، فلنتمسك بالإقرار.» (عب14:4-15)