أراد كثير من الشراح أن يجمعوا بين ما جاء في إنجيل القديس يوحنا وما جاء في الأناجيل الثلاثة الأخرى، عن قصة العشاء في بيت عنيا، وافترضوا أن بيت سمعان الآبرص الوارد في إنجيل القديس متى (6:26), وفي إنجيل القديس مرقس (3:14)، غير بيت مرثا ومريم ولعازر, بدليل أن لعازر كان مدعوا كضيف, على أن مرثا أيضاً حضرت لتخدم في الوليمة في بيت سمعان الآبرص، إيفاء للدين الذي صنعه الرب لأخيها لعازر. كذلك فمريم انتهزت الفرصة وأحضرت ناردينها لتطيب رجلي الرب اللتين كانت هي تجلس بجوارهما تستمع لكلمات الحياة, وأن سمعان الآبرص هو أحد العشرة البرص الذين شفاهم الرب.
ولكن من رأينا أن قصة إنجيل يوحنا ذات طابع سري ولاهوتي خاص يستلزم منا أن نأخذها كما هي بحد ذاتها.
ومرة أخرى يقدم لنا القديس يوحنا مرثا ومريم: الاولى تخدم, والثانية تتأمل وتحب. وليكن في علمك يا قارئي العزيز أن حياة التصوف بجملتها في المسيحية تأخذ منهجها وأسلوبها وفلسفتها من «مريم»، كما تأخذ حياة الخدمة أسلوبها ومنهجها وفلسفتها من «مرثا»، وما أبدع قول كتاب بستان الرهبان حينما حسم الخلاف القديم بين المتصوفين (التأمل) والنساك (التمرن بضبط الجسد والخدمة)، محاولاً أن يجمع بين خدمة مرثا وتأمل مريم بقوله إن «مريم بمرثا مُدحت»، فلولا شكوى مرثا لما مدح المسيح مريم!
ثم إن إصرار القديس يوحنا على ذكر لعازر متكئاً مع المسيح، هو في الحقيقة لفتة لا تخلو من عمق؛ فالمسيح يبدو, بينما لعازر بجواره، كمن هو قابض على زمام الموت والهاوية تحت قدميه. فكان منظره كمنظر القيامة والحياة التي تتحدى قرار السنهدريم.
«المن» هو الرطل الروماني ويساوي ثلثمائة وسبعة وعشرين جراماً وربع الجرام، أي ما يساوي ثلث اللتر.
«ناردين خالص»: في مفهوم العقاقير يعني أنه نقي أي غير مُضاف إليه شموع أو راتنجات التي تعطيه قوام المرهم أو الدهان، فهو خلاصة أو أكسير حر.
والناردين هو الزيت الطيار المستخرج من الجذور وشعيرات الساق لنبات Spikenard وينمو في شمال الهند في الجهات الجبلية العالية. وكان ثمن الرطل الروماني منه حوالي ثلئمائة دينار، علمأ بأن الدينار هو أجرة العامل في اليوم في ذلك الزمان. فإذا حولناه إلى لغة زماننا الحاضر يكون ثمن الرطل منه ما يقرب 300×5 = 1500 جنيهاً مصريا، بحساب أن أجرة العامل العادي هي خمة جنيهات في اليوم.
«ودهنت قدمي يسوع, ومسحت قدميه بشعرها, فامتلأ البيت من رائحة الطيب»: في إنجيل القديس متى نقرأ أن امرأة تقدمت إليه (دون ذكر اسمها) ومعها قارورة طيب كثير الثمن، حيث سكبته على رأسه وهو متكىء (6:26). وفي إنجيل القديس مرقس: «جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة وسكبته على رأسه.» (3:13) وفي إنجيل القديس يوحنا يقتصر الوصف على «دهن قدمي يسوع».
فلو أخذنا بهذا الوصف المزدوج معاً، يمكننا أن نستخلص القصد الذي يهدف إليه الوحي على فم هؤلاء الإنجيليين القديسين وذلك حينما نرجع إلى العهد القديم: «... والكاهن الأعظم بين إخوته الذي صُب على رأسه دهن المسحة ... لأن إكليل دهن مسحة إلهه عليه. أنا الرب.» (لا10:21و12)
وفي ذلك يتأمل العلممة والمتصوف فيلو اليهودي المعاصر للقديس يوحنا: [إن رأس اللوغس (الكلمة) بصفته الكاهن الأعظم يُمسح بالزيت, بمعنى إظهار جوهره المتألق بالنور البهي].
وكان فيلو اليهودي يرى ما يمكن أن نراه نحن أيضاً، أن دهن المسيح بالناردين، وإن جاء على يدي امرأة امتلأ قلبها حباً وإيماناً بالمسيح, إلا أن الفعل في حد ذاته كان بإيحاء من الله الآب . وهنا سر جزع يوحنا في إحجامه عن ذكر دهن رأس الرب، لأنه فوق متناول الإنسان. وعوض أن يذكر القديس يوحنا دهن رأس الرب بيدي امرأة, عاد وصحح الوضع, أنها هي التي مسحت قدميه بشعر رأسها, وهكذا تكرمت مريم وأكرمت بني جنسها إذ توجت رأس المرأة بإكليل الطيب المنحدر من جسد المسيح.
ويقيناً أن رطلاً من عطر فاخر نقي قد اندفق على ثياب الرب وقميصه أيضاً, وصح قول سليمان في نشيده الإلهي حيث تخاطب النفس البشرية ربها: «ما دام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته» (نش12:1)
وقد تمهد المعنى الإلهي لهتاف ثاني يوم أي يوم الأحد: «مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل» (13:12)
هذه المعاني البديعة لا تخرج قط عن قصد الوحي الإلهي، فكل حركة في إنجيل القديس يوحنا محسوبة بالحساب اللاهوتي. ولكي يتأكد القارىء أننا نستخلص الدرر من أعماق نهر الروح، فليسمع ما يقوله القديس يوحنا بعدما استفاق التلاميذ من عتمة الحوادث المتتابعة، إن في دهن الجسد، أو في هتاف يوم الأحد: «وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً، ولكن لما تمجد يسوع، حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه, وأنهم صنعوا هذه له» (يو16:12). ولكن، وللأسف، لم يذكر لنا القديس يوحنا «هذه المكتوبة عنه» ولكنها على كل حال نطوف على كل الزهور نلتقط من رحيق «المكتوبات» ليذوق القارىء والسامع مجرد الذوق!
«وامتلأ البيت من رائحة الطيب»: لقد استرعى انتباه القديس يوحنا، كشاهد عيان، جمال الرائحة وهى تعبق كل البيت، ويقيناً فإن هذا كان هو نفسه شعور الرب، فصمم المسيح أنه كما ملأت مريم عليه البيت برائحة ناردينها الفاخر، أن يملأ الكنيسة كلها والى آخر الدهور برائحة محبة واسم هذه المرأة التي أنابت نفسها عن بشرية الأجيال كلها, لكي تقدم م اليه سخاء فقرها عمل المحبة في يوم المحبة.
وجدير بالذكر أن هذا الإنجيل (يو1:12-8) هو أول قراءة تقرأ في أسبوع الآلام (عشية أحد الشعانين، وكأن الكنيسة بذلك تريد أن تقدم لنا في بداية هذا الأسبوع مثال المحبة التي سكبتها هذه المرأة على قدمي الرب «للتكفين»، كنموذج أعلى للمحبة التي يجب أن نقدمها للمسيح إزاء آلامه المحيية من أجلنا.
معذرة أيها القارىء العزيز، فقد كنا نحلق معاً في سماء الحب والسخاء، ورائحة المسيح الذكية, ومسحة الآب على رأس ابن الإنسان؛ واذ بنا فجأة وعلى غير انتظار نقع في نقع الطين ونتوحل في حمأة الغباء. فعوض الوجه المشرق الوديع المتواضع الذي لهذه الأخت الممدوحة، وهي في ملء سعادتها، فرحة مستبشرة أنها صنعت للرب شيئا كانت قد عبأت له طاقات حبها ومالها, يظهر في المشهد وبسرعة وجه قبيح غاضب، غاضب على إسراف «عمل المحبة» وفي حقده رأى أنه «كان يمكن أن يُباع» ... كل شيء كان عنده يمكن أن يُباع إن لم يكن بثلثمائة فبثلاثين!!!
ولكن مهما أعطينا من نظرة ناقدة نحو هذا التلميذ الذي باع سيده، فلن نستطيع أن نبلغ أعماقه لأنه كان كالهاوية. ويكفي أن نحصر، فيما حصره القديس يوحنا عنه من جهة أخلاقه، أنه سارق يلتقط ما يُلقى فى الصندوق.
فالذي يخون مال الله، سهل عليه أن يبيع المسيح. ولكن الذي يسترعي انتباهنا، أن المسيح ترك الصندوق معه ولم يمانع من أن يسرق منه كما يشاء، ولا هو مانع حتى أن يبيعه (أي يبيع المسيح): «ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة» (27:13)، وآخر كلمة قالها له الرب عندما تقدم ليسلمه: «يا صاحب لماذا جئت!!» (مت50:26)
يا إخوة، الرب لا يحصن تلاميذه أو خدامه من السرقة، والاختباء وراء صندوق الفقراء، ولكن يا ويلهم عندما يستيقظ ضميرهم .
والأن قد وضع الإنجيل هذه المفارقة أمام أعيننا، بين امرأة محبة من كل قلبها، باذلة بكل مالها، مؤمنة حقاً، ولها شهادة من المسيح؛ وبين تلميذ من الاثني عشر الأخصاء التابعين، طماع، جشع، سارق لمال الله، خائن، باع المسيح بثمن بخس. وهذه المفارقة ليست مصادفة ولا هي مجرد قصة في الإنجيل, ولكنها تقسيم قائم في كنيسة الله يمارسه من أحبوا المسيح من كل القلب حسب الوصية و«النموذج»، ومن يسلبون المسيح ويبيعونه «كالمثال» حباً في المال.
الإشارة هنا منطلقة سرا نحو الخائن الذي انتهت عشرته وخطته إلى موت المسيح, عمداً، مع لفتة سريعة نحو مريم التي, ودون أن تدري, أكرمت وعظمت موته بأعز ما ملكت حياتها. فالأول طعن الجسد طعنة الموت؛ والثانية تلقفت الجسد بعطرها ومسحته بشعرها.
لقد بدأت مريم ما أكمله يوسف ونيقوديموس، فالأولى كفنت الجسد حيا برطل واحد من الطيب، والأخرون كفنوه ميتاً بمائة رطل، ولكن ذُكر عمل الأولى من فم المسيح بالجميل والعرفان والشكر والذكرى الأبدية، أما عمل الأخرين فلم يذكره إلا التاريخ.
يا إخوة، إن تكريم الأحياء خالد خلود الروح, أما تكريم الأموات فهو سريع الزوال لا يقوى على حفظه وعي الإنسان!
«هى ليوم تكفيني قد حفظته»: وتأتي هذه الجملة باللاتينية ( )، حيث «تكفيني» تعني «يوم القبر». مريم أجهدت نفسها في حصولها على هذا العطر الكثير الثمن، ولا نعلم كم قترت على نفسها حتى اكتمل عندها ثمنه، ثم حفظته عندها دون أن تدري أنه كان ليوم القبر.
وإنجيل القديس مرقس يشرحها بالتفصيل : «أما يسوع فقال: اتركوها لماذا تزعجونها، قد عملت بي عملاً حسناً, لأن الفقراء معكم في كل حين، ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيراً. وأما أنا فلست معكم في كل حين. عملت ما عندها. قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين. الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها» (مر6:14-9)
«الفقراء معكم في كل حين»: المسيح ها يستعيد على أذهان التلاميذ كلام الناموس: «لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض. لذلك أنا أوصيك قائلاً: افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك» (تث11:15). ومن الجانب الآخر السري في كلام المسيح، والذي سبق أن استعلنه، أن المسيح نفسه موجود في الفقراء، فالمساكين والفقراء يمثلون شخص المسيح: «الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم.» (مت40:25)
والمعنى واضح أن إمكانية خدمة المسيح ومحبته الشخصية قائمة بصورة دائمة في خدمة ومحبة الفقراء؛ حتى بعد أن يختفي المسيح عن أعينهم عائداً إلى حيث كان.
القديس يوحنا يضع أمام القارىء المقارنة المخزية بين حاسة الشعب العامة التي لا تخطىء، وسياسة الرؤساء التي دائمأ تضلل البسطاء ... فالحجاج بدأوا يتقاطرون من أورشليم إلى يت عنيا، منذ أن أقام المسيح لعازر من الأموات، وازدادوا الآن عندما علموا أن الرب هناك، وهكذا تشكل أمام الرؤساء خطر وجود لعازر كبينة لا تدحض على قوة المسيح وتفوقه. وهكذا أضيف إل قرار قتل المسيح قتل لعازر أيضاً: «لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس.» (لو31:23)
2- دخول المسيح إلى أورشليم
(14-19)
أحد السعف, بدء أسبوع الآلام حسب الطقس
12:12-13 وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ. فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».
كان حفل العشاء، بعد غروب شمس السبت، وهكذا حُست الأحد أنه «الغد» بحساب النهار. والذي حدث أن اليهود الذين حضروا حفل العشاء الذي عمل في بيت عنيا عادوا إلى أورشليم وأشاعوا النبأ السار، أن يسوع قادم إلى أورشليم. وحالما سمع «الجمع», وهنا كلمة «الجمع» كما سبق وعرفنا يقصد بها أهل الجليل، وهم أصدق أصدقاء الرب, هؤلاء احتشدوا في صورة موكب عظيم. ولكي نأخذ صورة عن قرب لهذا المشهد الصاخب الرائع نقرأ في الأناجيل الأخرى: «فذهب التلميذان، وفعلا كما أمرهما يسوع. وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق، واخرون قطعوا أغصاناً من الشجر وفرشرها في الطريق. والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي. ولما دخل أورشليم، ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل.» (مت6:21-11)
وهكذا تحققت كل مخاوف رؤساء الكهنة والفريسيين، ووقفوا ينظرون خائفين وحاقدين، وفاقدين كل قدرة عل تحجيم الموقف.
ويضيف القديس لوقا إضافات ذات أهية بالغة في تصوير الموقف، وفي توضيح رعبة الفرسيين وفقدانهم السيطرة على الجماهير: «ولما قرب عند منحدر جبل الزيتون ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم لأجل جميع القوات التي نظروا. قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب. سلام في السماء، ومجد في الأعالي. وأما بعض الفريسيين من الجمع فقالوا له: يا معلم, انتهر تلاميذك, فأجاب وقال لهم: أقول لكم إنه ان سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ. وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلأ: إنك لو علمت أنت أيضاً، حتى في يومك هذا، ما هو لسلامك (أي المسيح المخلص). ولكن الأن قد أُخفي عن عينيك (حتى يتم الصلب). (وبناء على ذلك) فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك، ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً عل حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك.» (لو37:19-44)
يُفهم من إنجيل القديس متى أن الرب أرسل تلميذين ليستحضرا جحشاً (ابن أتان) ليركب عليه، ومن إنجيل القديس لوقا أن الرب كان راضياً بهتاف التلاميذ، ورفض رجاء الفريسيين أن ينتهر التلاميذ. هذا معناه أن الرب كان راضياً بهذا الموكب وهذا الهتاف الذي يتضمن الهتاف بملك إسرائيل، وهذا الاستقبال الملكي بكل ملابساته. فلو تذكرنا موقفاً سابقاً للرب يوم صنع معجزة الخمس الخبزات والسمكتين، إذ كان رفضه حاسماً لمثل هذا الاتجاه كله، لأنه أولاً لم تكن ساعة استعلان ملكه قد حانت بعد؛ وثانياً لأنهم ظنوه ملكاً سياسياً: «وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده.» (يو15:6)
لوعلمنا هذا، لأدركنا أن الرب هنا يستعلن حضور ساعة ملوكيته إلهياً على إسرائيل: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو32:12). فالموكب الملكي الذي ارتجت له المدينة، لم يكن في نظر الرب واعتباره إلا موكب الصليب: «أفأنت إذاً ملك. أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم.» (يو37:18)
ويلاحظ أن القديس يوحنا هو الوحيد الذي أضاف إلى جمل الهتاف جملة »ملك إسرائيل»، إمعاناً في توضيح المعاني الخفية في مفهوم دخوله أورشليم كاستعلان لملوكيته التي ليست من هذا العالم.
«فأخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه»: كان المعروف أن الملوك والقادة حينما يعودون من محواقع الحرب كانوا يُستقبلون بسعف النخل, وهذا نقرأه في 1مك51:13 و2مك4:14 «ودخلها في اليوم الثالث والعشرين من الشهر الثاني في السنة المئة والحادية والسبعين بالحمد وبالسعف والكنارات والصنوج والعيدان والتسابيح والأناشيد لانحطام العدو الشديد من إسرائيل» (1مك51:13)
«فأتى ديمتريوس الملك في السة المئة والحادية والخمسين، وأهدى إليه إكليلاً من ذهب وسعفة وأغصاناً من زيتون مما يختص بالهيكل وبقي في ذلك اليوم ساكتاً.» (2مك4:14)
وتوجد عملات مسكوكة أيام سمعان المكابي سنة 141-135 ق م وعليها سعف النخل رمز النصرة.
وفي سفر الرؤيا نجد موكب أحد الخوص يتكرر بكل بهائه في منظر المسيح آت وهو مُتجل بخلاصه لتستقبله كل شعوب الأرض: «بعد هذا نظرت واذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف، متسربلين بثياب بيض، وفي أيديهم سعف النخل, وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص (= أوصنا) لإلهنا الجالس على العرش وللخروف.» (رؤ9:7-10)
وتصوير دخول الرب بهذا الوصف المتضمن معنى النصرة، كان بمثابة اللطمة الأخيرة على وجه أعداء المسيح من رؤساء الكهنة والفريسيين، والتي عجلت جداً بعملية الصليب، الذي هو في الحقيقة التعبير الإلهي الأخير والأبدي لنصرة المسيح، ليس على الناس بل من أجل الناس.
كما كانت سعوف النخل تُستخدم في أعياد المظال والتجديد. والنخلة شجرة محبوبة كونها ترتفع شامخة نحو السماء، فارشة أغصانها مثل التاج، كأذرع تتوسل، خضراء على الدوام, تزهر وتثمر إلى مئات السنين. لذلك ترنم بها صاحب المزمور كصورة للصديق: «الصديق كالنخلة يزهو ... مغروسين في بيت الرب في ديار إلهنا» (مز12:92-13)
وقد استخدم سليمان الملك النخلة في نشيد الأ نشاد ليعبر بها عن النفس المحبوبة للمسيح: «ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة ... قامتك هذه شبيهة بالنخلة ... قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها.» (نش6:7-8)
وللكنيسة القبطية شغف بها يفوق الوصف. ففي يوم أحد السعف, أو أحد الخوص الذي نحن بصدده يتبارى كل بيت وبلا استثناء في اقتناء عدة أغصان منها, ويستمرون السبت مساء (عشية الأحد) في جدل الخوص بأشكال ومناظر غاية في الأبداع, والحاذقون في جدلها يملأونها بالزهور والورود، ويصنعون في الجريدة جيوباً يضعون فيها «قربانة» ويحتفظون بها في البيوت على مدار السنة. ويقوم بعض الكهنة, وهذا خطأ فاحش, بتكريسها بماء طقس «لقان الموتى» الذي يجريه الكهنة تحسباً لمن يموت في أسبوع الألأم، حيث يُمنع إجراء الصلوات على الميت، ويكتفى برشه بماء اللقان الخاص بالموتى. كما يتبارى الباعة بالنداء على الخوص المجدول على شكل قلوب: «قلبك يا سيحي، قلبك». وأصبح الخوص في هذا اليوم يشكل أجل مظاهر الفرح، ليس عند الصغار فقط بل والكبار أيضاً. وقل من يدخل الكنيسة وليس في يده سعفة يعود بها إلى بيته يحتفظ بها للتذكار والبركة. وقد احتفظت الكنيسة القبطية بهذا التراث منذ العصور الأولى.
«أوصنا, مبارك الآتى بأسم الرب ملك أسرائيل»: هو ترديد لمقاطع المزمور 117 (حسب الترجمة السبعيتية) وخاصة الآية 25: «احمدوا الرب لأنه صالح إلى الأبد رحمته ...»
«قوتي وتسبحتي هو الرب وقد صار لى خلاصاً ...»
«افتحوا لى أبواب البر لأدخل فيها ...»
« هذا هو باب الرب والصديقون يدخلون فيه ...»
«الحجر الذي رذله البناؤون صار رأساً للزاوية ...»
«هذا هو اليوم الذي صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه ...»
«آه يا وب خلص (أوصنا). آه يا رب أنقذ. مبارك الآتي باسم الرب»
«باركناكم من بيت الرب ...»
«الرب هو الله ...»
ومن الآية «اوصنا مبارك الله الآتي باسم الرب» يبدأ في نشيد أحد الخوص لحن «إفلوجيمينوس»، مع إضافة «أوصنا لابن داود. أوصانأ في الأعالى. أوصانا لملك إسرائيل».
ويُستخدم من المزمور الآية: «قوتي وتسبحتي هو الرب وقه صار لى خلاصاً» في الكنيسة القبطية مئات المرات طوال ساعات الليل والنهار ليوم الجمعة الكبيرة في أسبوع الآلام، كمقطع ترديدي. كما تغدو الآية: «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنبتهج ونفرح فيه» في كل أيام الأحاد عند تقديم الذبيحة.
وهذا المزمور يبدو أنه أُلف ليكون تسبحة لتدشين الهيكل الثاني، وربما عند وفع حجر أساسه: «الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية.» (مز22:118)
والطقس اليهودي الحالي يستخدم هذا المزمور بعناية فائقة ويحتل في العبادة مركزاً أساسياً, وذلك في عيد ظهور الهلال كل شهر.
وأما الآن، فقد تحولت النبوة وتحول الطقس بجملته إلى حقيقة واقعة تاريخية، استعلن فيها كل المعنى والقصد الإلهي من المزمور والطقس، إذ صار هذا المزمور كله موقعاً على حياة المسيح آية آية، بصورة إعجارية.
وكلمة «أوصنا» أصلها الأرامي «هوشعنا» ومعناها: «من فضلك خلصنا»، وقد أصبحت صلاة لطلب المعونة وخاصة أيام عيد المظال ولطلب المطر. ولكنها أصبحت هتافاً للتحية والتكريم كما جاءت في 2صم4:14 «وكلمت المرأة التقوعية الملك, وخرت على وجهها إلى الأرض، وسجدت، وقالت: هوشعنا (أعن) أيها الملك».
والسبب في أن الإنجيل لم يترجمها إلى اللغة العربية (أو أي لغة أخرى) بل بقيت بلفظها الأرامي تقريباً، هو أنها تثبتت كاصطلاح للمديح. ولكن الكنيسة تصرفت فيها وجعلتها مقطعاً للصلاة أيضاً.
أما كلمة «مبارك الآتي باسم الرب»» فكان يقولها الكهنة واللاويون ترحيبأ بالحجاج الأتين إلى الهيكل من الأماكن البعيدة، وهوذا الرب يأتي إلى هيكله بغتة (ملا1:3)، ليس حاجاً، بل كصاحب البيت، كابن على بيته، وبيته نحن (عب6:3) الحاجون إليه.
ولكن في التعبير المسيحي: «الذي كان والذي يأتي» (رؤ8:11) مأخوذ على أنه تعبير عن لقب الرب يسوع «الآتي إلى العالم» (يو27:11) من عند الآب:
+ «أنت هو المسيح ابن الله الآتي إلى العالم .» (يو27:11)
+ «أنا أتيت باسم أبي, ولستم تقبلوني، إذ أتى أخر باسم نفسه فذلك تقبلونه» (يو43:5). أما اسم أبيه فهو ( )، الذي طالما استخدمه المسيح ليعلن عن نفسه أنه والآب واحد.
+ «وعرفتهم اسمك» (يو26:17)، «كنت أحفظهم في اسمك» (يو12:17)، «إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتوز في خطاياكم.» (يو24:8)
«ملك إسرائيل»: لسيت واردة في النص النبوي في المزمور، ولكنها واردة في نص نبوي أخر مأخوذ من نبوة صفنيا النبي والذي سيأتي ذكره في شرح الأية 15.
«جحشا» أي «حماراً» والكلمة الآرامية حيمور واليونانية هيبوزيحبيون (زك9:9)، ومعناها «حيوان للحمل»، أي لحمل الأثقال. والحمار (أو الأتان) ( ) وتصغيره ( ) وجحش ابن أتان ( ). ولقد أخذ القديس يوحنا الكلمة من أصلها المكتوب في سفر زكريا «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم ، هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور، وديع، وراكب على حمار, وعلى جحش ابن أتان» (زك9:9)
ومعروف أن في الأدب النبوي اليهودي، وخاصة ما يأتي منه بالأشعار، يأتي تكرار الكلام لتحسين النغم والوزن ولتوضيح المعنى. وهنا يتضح في هذه الآية عملية التكرار، أولاً في «يا ابنة صهيون» ثم «يا بنت أورشليم»، ثم عاد يكرر «راكباً عل حمار», ثم أراد أن يوضح أنه حمار صغير «ابن أتان»، فأخطأ النساخ وبعدهم المترجمون وكتبوها «على حمار» وعلى «جحش ابن أتان» بإضافة الواو فجاء المعنى مغلوطا، وكأنه جالس على حمار وعلى جحش معاً. والصحيح أنه حمار صغير أي جحش.
ولكن كلمة «صغير» لا تستخدم للتعبير عن صغار الحمير فقط بل وصغار الخيل أيضاً، فلزم أن تميز كلمة «صغير» فجاءت «صغير» (جحش بالعربية) مضافة إلى أنثى الحمار أي الأتان. فصار المعنى الصحيح هكذا: حمار صغير ابن أتان. ولكن كما فهم النساخ للترجمة السبعينية، هكذا نقل عنها القديس متى في إنجيله كما هي, واضطر أن يعدل المعاني والألفاظ لتصير بالمثئى, أي حمار وجحش ابن أتان معاً، فجاءت هكذا: «فللوقت تجدان أتاناً مربوطة وجحشاً معها، فحلاهما وأتياني بهما. وان قال لكما أحد شيئاً، فقولا: الرب يحتاج إليهما, فللوقت يرسلهما. فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيرن: هوذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان. فذهب التلميذان وفعلا كما أمرها يسوع، وأتيا بالأتان والجحش, ووضعا عليهما ثأبهما فجلس عليهما.» (مت2:21-7)
هذا الخطأ بالنقل غير المقصود، تلافاه كل من القديسين مرقس ولوقا ويوحنا، حيث ذكروا أنه جحش واحد فقط. ويزيد كل من القديس مرقس والقديس لوقا كلمة: «جحشاً لم يجلس عليه أحد من الناس» (مر2:11، لو30:19) كما جاءت في النسخة السبعينية: «جحشاً صغيراً» (زك9:9)
«جالساً»: لم يشأ القديس يوحنا أن ينقل الكلمة الأصلية التي جاءت في النبوة، أنه «يأتي راكباً» بل جعلها «يأتي جالساً» («فجلس عليه») كما يليق بالمسيح كملك.
«لا تخافي يا ابنة صهيون»: جاءت في أصل نبوة زكريا: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم».
وفي إنجيل القديس متى اختزلها وصارت «قولوا لابنة صهيون»، أما القديس يوحنا فيبدو أنه أضاف على نص زكريا النبي نصاً آخر من نبوة صفنيا النبي: «لا تخافي يا صهيون... الرب إلهك في وسطك جبار يُخلص... ملك إسرائيل، الرب في وسطك» (صف15:3-17). وواضح جداً أن القديس يوحنا أخذ هذا التعبير«ملك إسرائيل» في تسبحة الهتاف: «أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل».
وكلمة «لا تخافي»، المضافة إلى ركوبه على جحش رمز التواضع والوداعة والمسكنة، والتي استرعت انتباه القديس يوحنا فالتقطها من نبوة صفنيا، توضح أنه ليس ملكاً للنقمة من الأعداء, يهوداً ورومانيين، بل للسلام: «لا تخافي». فدخول المسيح إلى أورشليم بهذه الصورة السلامية، هو الذي عبر عنه التلاميذ في إنجيل القديس لوقا: «سلام في السماء، ومجد في الأعالي.» (لو38:19)
فهذا الموكب المتواضع، بقدر ما أبهج التلاميذ والأخصاء العارفين بمقاصد المسيح السلامية، بقدر ما ألهب قلوب الطالبين للخلاص من الرومان وسيادة اليهود على الأمم، وظنوا أنه بمثابة إعلان بقيام ثورة, ما أرعب قلوب الفريسيين.
ولكن بقية نبوة زكريا كانت هي وحدها التي استقرت في قلب الرب ومقاصده: «هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل، ومنصور، وديع، وراكب على حمار(بل) على جحش ابن أتان. وأقطع المركبة (مركبة الحرب) من أفرايم، والفرس من أورشليم (جيوش الحرب)، وتُقطع قوس الحرب, ويتكلم بالسلام للأمم ...» (زك9:9-10)
ولكن حتى التلاميذ لم يفهموا ما هو حادث أمامهم، فاشتركوا في الموكب وهللوا مع المهللين، وظلوا غير مدركين للقيم الحقيقية التي تقوم عليها الحوادث التي كانت تجري أمامهم.
يقول القديس كيرلس الكبير الإسكندري في تعليقه على هذه الآية: [ إن القديس يوحنا الإنجيلي لم يخجل من أن يعترف بجهل التلاميذ، ثم عاد فأظهر معرفتهم؛ لأنه لم يكن يضع في اعتباره احترام الناس، ولكنه كان يدعو لمجد الروح].
والحقيقة أن القديس يوحنا أراد أن يكشف عن مدى الخطأ الذي وقعت فيه كل الفئات، على وجه العموم، بالنسبة لدخول المسيح أورشليم ليكمل عمله الخاص ويختمه.
أولاً: فرؤساء الكهنة والفريسيون، رأوا ذلك أنه بمثابة إعلان ملكيته ببرهان هتاف تلاميذه، فكان ذلك مأخذهم الحاسم لاستخلاص سبب حكم الصلب من فم بيلاطس: «كانوا يصرخون قائلين: إن أطلقت هذا، فلست محباً لقيصر. كل نن يجعل نفسه ملكاً، يقاوم قيصر» (يو12:19)
ثانياً: اليهود والجموع الذين احتشدوا لتحيته بصفته المسيا الآتي لإعلان بدء مملكة داود، لتخليص إسرائيل من أيدي الرومان.
ثالثاً: التلاميذ، وقد لخص القديس يوحنا موقفهم بأنهم لم يفهموا هذه الأمور. وقد توضح لهم أن كل ما عملوه، تلقائياً, كان موضوعاً في خطة الله لاستعلان أعماله من جهة الخلاص المعد.
أما تعليق المسيح على هذا الموكب وهذا الاستقبال فجاء في نفس الأصحاح: «وأما يسوع فأجابهما قائلاً: قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم، إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت, فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت، تأتي بثمر كثير.» (يو23:12-24)
وهذا هو عين موقف الكنيسة الآن من الاحتفال بأحد الخوص. إذ تشترك فيه وتهتف للمسيح باعتباره قادما للصليب، لكي يعلن من عليه انتصاره الحقيقي على الموت والخطية، من أجل خلاص العالم واستعلان حقيقة شخصه كملك المجد.
يلاحظ القارىء أن القديس يوحنا يضع في إنجيله السبب الواضح جداً والمباشر للاحتفال المهيب الذي لاقاه به الشعب يوم أحد السعف كاستقبال الملوك، كل الشعب على كافة طبقاته, ليس الجليليون فقط الذين رافقوه في رحلته بل واليهود عامة حتى من سكان أورشليم ذاتها، وهذا على غير العادة، وذلك بسبب معجزة إقامة لعازر من الموت، وهي الآية التي صنعها الرب قبل مجيئه مباشرة إلى أورشليم:
«فكثيرون من اليهود الذين جاءوا إلى مريم ونظروا ما فعل يسوع، آمنوا به.» (يو45:11), «لهذا أيضاً لاقاه الجمم، لأنهم سمعوا أنه كان قد صنع هذه الآية.» (يو18:12)
في حين أن الأناجيل الثلاثة الأخرى للقديس مرقس والقديس متى والقديس لوقا لم توضح لماذا لاقاه الشعب بالسعف والهتاف في دخوله أورشليم، بل ذكروا حادثة دخوله أورشليم مقطوعة عما قبلها وعما بعدها.
كذلك يوضح هنا القديس يوحنا أن إقامة لعازر من الموت كانت هي السبب المباشر والقوي الذي جعل رؤساء الكهنة والفريسيين يجمعون مجمعهم الأخير والخطير ويتخذون قرارهم بالقتل المسبب: «فكثيرون من اليهود الذين جاءوا إلى مريم ونظروا ما فعل يسوع، أمنوا به. وأما قوم منهم فمضوا إلى الفريسيين وقالوا لهم عما فعل يسوع. فجمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعاً، وقالوا: ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة؟ إن تركناه هكذا، يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا... إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب... » (يو45:11-50).
«فمئ ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه» (يو53:11)؛ بل ويؤكد القديس يوحنا أن آية إقامة لعازر من الموت هي التي أنهت على كل أمل الفريسيين في محاولة محاصرته سلمياً, واستسلموا لقرار القتل
هذه آخر مقارنة يعقدها الإنجيل بين المؤمنين والرافضين, بين أبناء النور وأبناء الظلمة والموت؛ بين الجمع الذي شاهد وآمن وشهد بحماس, وبين الفريسيين الذين رفضوا, وأخيراً شهدوا ليأسهم. وفي كلام اليأس الذي عبروا به عن عدم نفعهم، وعن ذهاب العالم وراء يسوع, كانت آخر نبوة من فم الأعداء عما سيكون حتماً: «هوذا العالم قد ذهب وراءه», وإنهم لن ينفعوا شيئاً وأبداً
وهكذا يصور لنا القديس يوحنا الوجه المقابل من الغرب للمجوس الذين أتوا من المشرق، أولئك أتوا لتحية «المولود ملك اليهود» (مت2:2)؛ وهؤلاء لتحية «المصلوب ملك اليهود»، لكي يجمع المسيح في حياته ومماته الشرق بالغرب، وليحمل له الكل الشهادة والعبادة والسجود والتمجيد.
المجوس قالوا: «أتينا لنسجد له»، واليونانيون «صعدوا ليسجدوا في العيد»، والاثنان كانا طلائع الخراف اللأُخر التي ليست من هذه الحظيرة»، جاءوا ليفتتحوا عصر الأمم. ولكن كانت بعثة شرف الشرق مبكرة للغاية إذ سجلت نفسها في نفس محل الميلاد، لتحفظ حقها بأولوية الانضمام لرعية القديسين وأهل بيت الله، وهذه سمة النشاط في أهل الشرق, أما بعثة الغرب فتأخرت للغاية، ولكها لحقت الساعة الحادية عشرة، فأخذوا وعداً, من خلف الباب, بنصيبهم الكامل من الثمر الكثير: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلي الجميع» (يو32:12). ولكن هذا كله يتم بعد أن تقع حبة الحطة وتموت أولاً، لكي تملأ حقول الغرب كلها، مبشرين وقديسين ومعلمين وعلماء!!
كان صوت هؤلاء اليونانيين الأتقياء, بالنسبة لصخب هذا الموكب الزاخر، يبدو في المظهر خافتاً وغير ملفت للنظر إزاء هتاف الآلاف. ولكن في مقدرات الأمم وسجلات أمجاد المؤمنين، كان صوت هؤلاء اليونانيين كالرعد كما في بلاد الغرب, كصوت مياه كثيرة، كصوت الله نفسه الذي تراءى لبولس في الحلم على هيئة الرجل المكدوني (يوناني) يطلب المعونة (أع9:16)؛ أو بلغة أحد الخوص: «هوشعنا خلصنا»!...
«قد أتت الساعة»: الرب يعلن انتهاء الخدمة العامة في الرواقات الخارجية، وبدء خدمته الخاصة أمام أبيه في قدس الأقداس، كرئيس كهنة ينضح بدمه سرا على العالم من فوق الصليب. الزمن بعد ليس زمن رؤية وحديث مع الناس، ولكنها الآن ساعة معصرة الدم، وينبغي أن أدوسها وحدي: «قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد» (إش3:63). لذلك حينما سمع باليونانيين (الشعوب)، علم أن المعصرة قد أُعدت.
على طول خدمة الرب، سمعنا منه أن ساعته لم تأت بعد، وحينئذ لم يقو عليه أعداؤه, لا بالتهديد ولا بالوعيد، ولا حتى برفع الحجارة، ولا رفع الأيادي، إذ كان يعبر من وسطهم دون أن يروه وأيديهم قابضة على الهواء. ولكن هذه ساعتهم وسلطان الظلمة (لو53:22)، وقد أحنى رأسه للصليب وعلى الصليب برضاه، لأنه كان يرى السرور الموضوع أمامه (عب2:12)، والمجد الذي كان ينتظره. لأنه بالصليب غلب الموت، وقام مكللاً بالمجد، وظهر «يسوع قائماً عن يمين الله.» (أع55:7)
إذن، فكانت هي الساعة التي ينتظرها للعودة إلى الآب. ولكن كان عليه أن يضع نفسه أولاً لكي يأخذها ثانياً، يضعها في هوان ويأخذها في مجد، والموت والقيامة متشابكان تشابكاً مستتراً، لا يُفهم الواحد بدون الأخر، ولكن الموت كان فريضة على الواحد (يسوع), أما القيامة فصارت عطاءً للجميع.
«حبة الحنطة»: يلاحظ القارىء أن إجابة المسيح على سؤال اليونانيين بخصوص رؤيته والتمتع به وبالتالي التلمذة له, تأتي على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: التشبيه بالطبيعة، وهو سقوط حبة الحنطة، وأن موتها الظاهري هو الذي يحولها إلى ثمر كثير.
المستوى الثاني: التطيق على مستوى النفس، على أساس إماتة الذات عن وفي هذا العالم، فهو الذي يُقيمها ويُحييها إلى حياة أبدية، حيث العالم هنا هو بمثابة الأرض بالنسبة لحبة الحنطة.
المستوى الثالث: الإلتصاق بالنموذج الإلهي، فالمسيح مات بإرادته وقام. فإذا اتبعناه تماما, نصير مثله، ونأخذ تجربته، فنموت معه ونقوم معه، إذ نأخذ قوة موته وقوة حياته: «وهم غلبوه (أي غلبوا المشتكى علينا) بدم الخروف, وكلمة شهادتهم, ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.» (رؤ11:12)
والنتيجة التي نخرج بها من طرح هذه المستويات الثلاثة هي:
أولاً: أن المسيح سيموت ليعبر إلى اليونانيين والى العالم كله، بل والى ملء السموات والأرض.
ثانياً: ليس مجرد رؤية المسيح وسماعه يحولنا إلى تلاميذه بل يتحتم من جانبنا أن نكون مثل حبة الحنطة نموت عن ذواتنا التي تحدنا وتربطنا بالأرض والعالم، وذلك حتى نرى المسيح والحياة.
ثالثاً: موت المسيح وقيامته سيكون النموذج الفعال الذي إذا التصقنا به وخدمناه, نأخذ قوته ونشترك في نتائجه، وهذا متوفر لدى كل إنسان في العالم.
وبهذه الثلاثة المستويات، نبلغ إلى تلمذة المسيح وشركة حياته. فبدل أن يأتوا إليه ليروه، يمكنهم أن يعيشوا معه دون أن يأتوا إليه.
أولاً: التشبيه بالطبيعة: حبة الحطة المهيأة للدفن في الأرض هي الواحد (يسوع)، بكل معنى الوحدة في العزلة عن الكل. هذا كان عمق أعماق شعور المسيح الذي كاذ يعتصره ويهز كل كيانه: «نفسي قد اضطربت» (يو27:12)، «نفسي حزينة جداً حتى الموت» (مت38:26)، «ايها الآب نجني من هذه الساعة» (يو27:12)، «وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض» (لو44:22) ولولا شعوره الدائم بحلول الآب فيه، لسمعنا أكثر وأكثر، ولكنه كان يعود سريعاً لأعماقه فيرى راحته في الآب: «وأنا لست وحدى, لأن الآب معي.» (يو32:16)
ولكن كما أن حبة الحنطة تغلب وحدتها بموتها ودفنها في الأرض فتصير كثيراً، هكذا رأى المسيح «يسوع» في موته عبوراً من وحدته أي فرادته التي عانى منها، إذ لم يفهمه أحد ولم يسمعه أحد، وإلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، وحتى إخوته لم يكونوا يؤمنون به (يو5:7)، ورئيس الكهنة مزق ثيابه لأنه لم يفهم كلامه، وتلاميذه خانوه وواحد منهم باعه، والمتقدم فيهم أنكره والباقون تركوه وهربوا؛ تم تمت معجزة حبة القمح التي دُفنت في الأرض، إذ خرجت منها السنبلة تحمل ثمراً كثيراً, كله من جسم حبة الحنطة, «من لحمه ومن عظامه» (أف30:5)، «وجيش عظيم جداً جداً» (حز10:37)، «فقال لى تنبأ للروح, تنبأ يا ابن آدم, وقل للروح هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح، فحيوا، وقاموا على أقدامهم، جيش عظيم جداً جداً» (حز9:37-10). «بعد هذا نظرت، وذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده، من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف متسربلين بثياب بيض، وفي أيديهم سعف النخل.» (رؤ9:7)
انتقل المسيح من وحدته إلى كليته، من فرادته إلى مطلقه، من انحصاره في فلسطين إلى ملئه للسماء والأرض: «صعد فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف10:4). بموته عبر المسيح إلى كل إنسان كان أو سيكون، وعوض أن كان على كل إنسان أن يعبر إليه، صار هو الذي يعبر إلى الكل في كل مكان وزمان. عوض أن نذهب إليه ونقرع، صار هو الذي يقف على كل باب ويقرع: «هأنذا واقف على الباب، وأقرع، إن سع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه، وأتعشى معه وهو معي.» (رؤ20:3)
بموت المسيح ودفنه، استعلنت القيامة والروح والحياة الأبدية التي فيه, والتي طرحها الروح القدس مع الرياح الأربع على قتلى الشعوب يهوداً و يونانيين، فدخل فيهم روح المسيح فحيوا، وقاموا، جيش عظيم جداً جداً.
وهكذا كان رد الرب على سؤال اليونانيين، متضمناً رسالته الإلهية المحيية لهم من داخل آلامه وموته ومجده الذي حانت ساعته. فكأن المسيح يخاطبهم: أتركوني الآن وحدي، لأدوس معصرتي, لأنضح دمي عليكم فتحيون. سأطرح روحي عليكم، وحياتي, وكلمتي، ورسالتي، لتصيروا شعبي.
+ «ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد، التي أيضاً دعانا نحن إياها، ليس من اليهود فقط، بل من الامم أيضاً. كما يقول في هوشع أيضاً: سأدعو الذي ليس شعبي شعبي, والتي ليست محبوبة محبوبة. ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه (رواق الأمم) لستم شعبي، أنه هناك يدعون أبناء الله الحي» (رو23:9-26)
ئانياً: التطبيق على مستوى النفس 25:12 مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.
هنا التطبيق على المستوى الأعلى، إذ نحن لسنا بصدد موت طبيعي ولا أرض طبيعية ولا حياة طبيعية ولا ثمر طبيعي، ولكن التطبيق على الطبيعة فقط نقلنا إلى المستوى الروحي الأعلى.
وهذا هو قانون الحياة المسيحية، فكل ارتقاء إلى مستوى أعلى يحتاج أو يتم على أساس خسارة المستوى الأقل: «إن كنتم قد سمعتموه، وعُلمتم فيه، كما هو حق في يسوع (الموت الطبيعي بالجسد)، أن تخلعوا (الموت أو الإماتة للنفس)، من جهة التصرف السابق، الإنسان العتيق الفاسد (أهواء وشهوات النفس) بحسب شهوات الغرور، وتتجددوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (الحياة الأعلى) في البر وقداسة الحق» (أف21:4-23). وهذا هو عين مثل حبة الحنطة، وانما على المسترى الأعلى. ويشرحه القديس بولس الرسول عملياً: «لكن ما كان لي ربحاً (فريسي ومعلم إسرائيل), فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضأ خسارة، من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي, الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح» (في7:3-8). وواضح هنا أن الربح الروحي هو على أساس الخسارة المادية والمعنوية، والخسارة أصابت الذات والربح هو الحصول على المسيح عوض الذات: «فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في.» (غل20:2)
وهكذا، فإن التضحية بما هو أقل، مهما كان شهيا ومرغوباً ومريحاً لعظمة الذات، يفتح الطريق إلى بلوغ ما هو أعظم بكثير بالنسبة لروح الإنسان وحياته الأبدية.
كذلك, فإن بذل الذات واخضاعها لمطالب الحياة الروحية، يعوض بالربح الذي يفوق البذل، وهو ربح المسيح؛ فالمسيح يحل محل الذات. كذلك أيضاً, فإن قبول الموت الإرادي، أي الإماتة، والإماتة تصيب كل ما هو قابل للفناء, يفتح باب الحياة الأبدية خطوة بخطوة.
وباختصار، فإن الذي يلتصق بما هو فان، يفنى معه؛ وكل من يلتصق بالحياة يمتلىء بها.
وهكذا كل طماع يأخذ ويخزن ويضيف إلى ذاته من مسرات الدنيا وأمجادها، يُحطم ويُهلك ذاته، بعنى أنه يجعلها بلا قيمة بالنسبة للوجود الروحي ومسراته. وكل جاحد لمشتهيات ومسرات وأمجاد الذات، تصبح ذاته نفسها هي السلم الذي يصعد به إلى السماء.
هنا المسيح على ضوء سؤال اليونانيين الذين يطلبون المجيء إليه لرؤيه، يجيب ويوضح كيفية المجيء إليه؛ فرؤية المسيح ليست بالسهولة التي يراها هؤلاء اليونانيون، أو يراها الحجاج الذين يذهبون إلى أورشليم أو الهيكل أو الجبل المقدس ليروا الله ويجتمعوا إليه: «قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب ... ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيوي يسجدون للآب بالروح والحق» (يو21:4-23)
ولكي يكون السجود لله بالروح, يتحتم أن يسبقه إخضاع واماتة عن العالم للجسد. وحبة الحنطة هي هنا النفس, والأرض هي هنا العالم، والثمر هو هنا الحياة الأبدية.
والملاحظ في هذه الآية أن المسيح يضع المحبة الخاطئة في مقابل البغضة الممدوحة بالنسبة للذات. ولو رجعنا إلى المحبة الخاطئة في الإنجيل نجدها محصورة في الخمسة الاتجاهات أو المجالات التي تؤدي إلى الهلاك:
1- محبة الظلمة 2- محبة العالم 3- محبة المجد بين الناس 4- محبة الجسد 5- محبة المال
وهذه الخمسة هي المداخل المتوازية لمملكة الشر أو الشيطان. والانحياز لأي اتجاه أو مجال من هذه المجالات يظهر عدم رغبة في محبة المسيح والله.
1- والظلمة, هي الضد لـ «نور» الكلمة: «وهذه هى الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم, وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة.» (يو19:3)
2- والعالم هو الضد للمسيح ولله: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو26:18)، «محبة العالم عداوة لله.» (يع4:4)
3- ومجد الناس, هو الضد لمجد الله. «كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض. والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه.» (يو44:5)
4- والجسد هو ضد لله: «لأن اهتمام الجسد هو موت ... هو عداوة لله.» (رو6:8-7)
5- والمال, هو ضد الإيمان بالله: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان.» (1تى10:6)
فإن كان موت المسيح حتمياً، للحصول لنا عل القيامة والحياة الأبدية، فلا مفر من أن يكون الموت الإرادي حتمياً لنا (شركة الموت مع المسيح)، لنحمل ونشترك في القيامة والحياة الأبدية.
لو أننا وضحنا هذا المثل، سهل علينا التفسير، والمثل الأمثل هنا هو التلاميذ الذين ساروا على درب المعلم: «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (مت25:10). هؤلاء خدموا المسيح، حيثما سار بهم المسيح في مشارق الأرض ومغاربها، وهؤلاء كرمهم الآب السماوي أيما تكريم:
+ «فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك, فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً عل اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر... وكل من ترك ... من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف، ويرث الحياة الأبدية.» (مت27:19-29)
وعن الذين أحبوا وصمموا أن يخدموا المسيح, قدم المسيح عنهم صلاة خاصة للآب: «أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني، يكونون معى حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني ...» (يو24:17)
الملاحظ هنا في طلب المسيح من الآب: «يكونون معي حيث أكون أنا», أنها ليست هي نفس الطلبة التي طلبها من التلاميذ: «حيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي», لأن طلبة المسيح من الآب هي النتيجة: «الينظروا مجدي» أما طلبة المسيح من التلاميذ فهي المنهج, أي شركة الآلام والموت: «في العالم سيكون لكم ضيق» (يو33:16), «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (مت25:10). والذي يتبع المسيح, يتحتم أن يحمل صليبه حتى يستطيع أن يتبعه, ولكن الذي يتبع المسيح حاملاً الصليب، فهو حتماً سيبلغ القيامة والحياة والمجد. فخدمة المسيح، هي بحد ذاتها تبدأ بالموت وتنتهي بالمجد، أي بتكريم الآب, كالمسيح وفي المسيح. ولكن لا كرامة من الآب لإنسان ما بدون المسيح، كما أنه لا كرامة مع المسيح بدون الصليب!! من أجل هذا يقول بولس الرسول عن خبرة ويقين: «لأن لى الحياة هي المسيح، والموت هو ربح.» (فى21:1)
لو أننا وضحنا هذا المثل، سهل علينا التفسير، والمثل الأمثل هنا هو التلاميذ الذين ساروا على درب المعلم: «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (مت25:10). هؤلاء خدموا المسيح، حيثما سار بهم المسيح في مشارق الأرض ومغاربها، وهؤلاء كرمهم الآب السماوي أيما تكريم:
+ «فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك, فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً عل اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر... وكل من ترك ... من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف، ويرث الحياة الأبدية.» (مت27:19-29)
وعن الذين أحبوا وصمموا أن يخدموا المسيح, قدم المسيح عنهم صلاة خاصة للآب: «أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني، يكونون معى حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني ...» (يو24:17)
الملاحظ هنا في طلب المسيح من الآب: «يكونون معي حيث أكون أنا», أنها ليست هي نفس الطلبة التي طلبها من التلاميذ: «حيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي», لأن طلبة المسيح من الآب هي النتيجة: «الينظروا مجدي» أما طلبة المسيح من التلاميذ فهي المنهج, أي شركة الآلام والموت: «في العالم سيكون لكم ضيق» (يو33:16), «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (مت25:10). والذي يتبع المسيح, يتحتم أن يحمل صليبه حتى يستطيع أن يتبعه, ولكن الذي يتبع المسيح حاملاً الصليب، فهو حتماً سيبلغ القيامة والحياة والمجد. فخدمة المسيح، هي بحد ذاتها تبدأ بالموت وتنتهي بالمجد، أي بتكريم الآب, كالمسيح وفي المسيح. ولكن لا كرامة من الآب لإنسان ما بدون المسيح، كما أنه لا كرامة مع المسيح بدون الصليب!! من أجل هذا يقول بولس الرسول عن خبرة ويقين: «لأن لى الحياة هي المسيح، والموت هو ربح.» (فى21:1)
الحديث عن الموت والحياة حديث، والمذاقة مرعبة. والمبادىء العامة يعبر عليها العقل بخفة، ولكن الإختبار الشخصي محنة.
وما أبهج الحديث عن الخلاص والمجد هللويا!! ولكن لا يأتي الخلاص إلا بمرارة النفس وذوق الحنظل. ويكفي يا قارئي العزيز، أن تسمع من فم المسيح, الذي أقام لعازر بكلمة, وهو يئن هكذا: «نفسي قد اضطربت»، «أيها الآب نجني». فالخلاص لم يكسبه لنا المسيح سهلاً: «لأنه لاق بذاك ... أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام.» (عب10:2)
«نفسي» = ( ) وباللاتينية anima: نفس المسيح هي المركز الذي يجمع فيه ملء الحياة البشرية, وقاعدة المشاعر الإنسانية. أما الروح ( ) وباللاتينية spiritus. فهي، في المسيح ، قاعدة التأثرات الروحية، استقبالا وانعكاسا؛ استقبالاً بالحديث مع الله، وانعكاساً للتعبير والتأثير.
والنفس في المسيح جاءت بهذه الصور:
+ «الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (يو11:10)
+ «ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.» (مت28:20)
+ «نفسي حزينة جداً حتى الموت.» (مت38:26)
+ «لأنك لن تترك نفسى في الهاوية.» (مز10:16 و أع27:2)
أما الروح فجاءت في:
+ «ونكس راسه وأسلم الروح.» (يو30:19)
+ «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي.» (لو46:23)
والموت في المسيح تم هكذا:
1- بانفصال النفس عن الجسد، ولكن اللاهوت بقوة القيامة التي له لم ينفصل قط، لا عن النفس التى باشرت نزولها إلى عالم الأرواح المحبوسة, ولا عن الجسد الذى بقى مسجى فى القبر ميتاً ينتظر عودة النفس.
2- وبتسليم الروح ليد الآب.
وموقع هذه الآية: «الآن نفسي قد اضطربت» بالنسبة للآيات السابقة مهم للغاية. لأن المسيح، رداً على طلب اليونانيين، طرح ثلاثة افتراضات يتحتم أن تتم أولاً، حتى يستطيع لا اليونانيون فقط بل وكل الناس أن يروه ويتعرفوا عليه ويقبلوه ويتحدوا به!
أولاً: أن يموت هو، هنا أعطى لصورة موته وقيامته المثل من الطبيعة في حبة الحنطة.
ثانيا: أن يموت الإنسان بإرادته (الإماتة) عن الذات ومتعلقاتها المادية والدنيوية.
ثالثاً: أن يكون الإنسان مستعدأ لأن يخدم المسيح بأن يتبعه أينما سار، للآلام، ثم الموت، وبالتالي القيامة والمجد.
وأخيراً جاءت هذه الآية لتنزل بهذه النظرية كلها، بفروضها الثلاثة، إلى مستوى التجربة العملية الواقعة حالاً «الآن», لكي يكشف المسيح لتلاميذه واليونانيين وكل العالم, أن الموت الذي جازه لم يكن سهلاً, ولا كأنه بدون مجاهدة، فكشف عن رعدة الموت التي بدأت تداهم نفسه البشرية, عندما قرر, وانتهى من قراره, قبول الموت، وجاءت ساعته فعلاً.
وهذا أوضحه القديس يوحنا من عنده، بصورة تكشف عن قدرة هذا القديس في فهم حركات النفس داخل المجال الإلهي بصورة مبدعة: «قال هذا مشيراً إلى اية ميتة كان مزمعاً أن يموت» (يو33:12). القديس يوحنا هنا يرى أن كلام المسيح مهو كشف عن حقيقة وعنف وطريقة الموت الذي سيواجهه. فالنفس البشرية, وهي قاعدة المشاعر ومجتمع ملء الحياة البشرية فيه, بدأت تنوء تحت ثقل قبوله الدخول في تجربة الموت. وهذه هي غصة الموت!! التي هي بعينها المعروضة علينا دائماً حيننا نقرر ونباشر عملية الإماتة عن العالم, بقمع النفس, وبغضة ميولها وشهواتها التي تبدو لها كأنها حيوية بنوع من خداع البصر.
«نفسي قد اضطربت»: «اضطربت» باليونانية ( ), وباللاتينية Turbata، والاضطراب لا يعني الخوف (وقد جاءت أيضأ في يو33:11 و21:13)، بل هو انفعال عاطفي شديد داخل النفس.
القديس يوحنا هنا يقدم نفس الوصف الذي قدمه الإنجيليون الثلاثة عن المجاهدة التى عاناها الرب في جثسيماني. ولكن لاهوت المسيح عند القديس يوحنا يستحيل أن يتداعى أمام سطوة الموت، حتى وان تداعت النفس البشرية فيه نحو الاضطراب، بل يقدم القديس يوحنا لاهوت المسيح دائماً دائماً منتصراً وساحقاً للعدو. لذلك يسجل القديس يوحنا القول المقابل لهذا الاضطراب النفسي من الموت من جهة الرب, بالرعبة والانحدار اللذين أصابا الشيطان بالمقابل: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يٌطرح رئيس هذا العالم خارجاً.» (يو31:12)
«وماذا أقول؟»: يعتقد بعض الشراح أنه سؤال استنكاري، الرد عليه جاء بكلمة «لا» في الكلمة «ولكن». ولكن الحقيقة أن المسيح هنا لا يسأل أحداً, ولكنه ينبه السامع ليدرك معنى الانفعال الناتج عن اضطراب النفس إزاء التجربة. فهو ليس موتاً عادياً، بل أعنف موت ماته إنسان في الوجود. فهو ليس حكم موت واقع عليه، بل صراع مع الموت ذاته ومع من له سلطان الموت (عب14:2)، والذي سينتهي بموت الموت ذاته، واستعلان الغلبة على الموت بالقيامة التي ستضاف إلى حقوق الإنسان. نعم، سيموت المسيح بكل معنى الموت، ولكن في المقابل سيندحر الشيطان, وتنكسر شوكة أو سيف الخطية في يده. علماً بأن ما جاء بعد سؤال: «وماذا أقول», لم يكن بالسلب بل بالايجاب، فهو يطلب، والطلب اسُتجيب بالفعل.
«أيها الآب نجني من هذه الساعة»: والجواب جاء من الآب بعد ذلك: «مجدتُ وأُمجد أيضاً». هذه صلاة وتوسل لدى الآب، ليس لإلغاء هذه الساعة من حياة المسيح، لأنه من أجلها جاء, ولكنه يطلب النجاة من التجربة الآتية عليه فيها, بمعنى أن يخرجه منها سالماً ومنتصراً.
والتعبير اليوناني أكثر توضيحاً؛ فهو يطلب الخروج خارج هذه السامة سالماً وهنا ( ) تفيد خارجاً، وباللاتينية تجيء بأكثر وضوح أيضاً، فتعنى الخلاص خارج، أو الخروج من، وليس الخلاص من.
والقديس يوحنا يهتم بأقصة اهتمام أن لا يجرح اللاهوت من أي جانب. فالموضع الذي جاء في الأناجيل الأخرى عن هذه الصلاة بصورة مسترسلة مثل: «أيا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك. فأجز عني هذه الكأس» (مر36:14)، يدقق فيها القديس يوحنا ليشرحها على مستوى «النجاة منها», أي الخروج من التجربة بصورة تمجد الآب: «أيها الآب مجد اسمك»، وليس إلغا،ها بأي حال من الأحوال. ثم يؤكد المسيح طاعتة للآب بقبوله التجربة: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة». فليست السامة بحد ذاتها التي يطلب المسيح الخلاص منها بل التجربة، وهي تجربة الصراع الرهيب مع الموت «لأجل هذا». فهو جاء «لأجل هذا الصراع» وهو يطلب أن يخرج من هذا الصراع سالماً بصورة تمجد اسم الآب.
هذا واضح في قول سفر العبرانيين: «الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات (في جثسيماني) للقادر أن يخلصه من الموت, وسمع له من أجل تقواه.» (عب7:5)
إذا، فالمسيح كان محقاً في توسله: «نجني من هذه الساعة» أي نجني من تجربة الصراع مع الموت, بأن أخرج منها منتصراً. التي جاءت هنا في سفر العبرانيين «أن يخلصه من الموت» والنتيجة جاءت كما توقع المسيح وكما كلب, «وسُمع له»!!
«أيها الآب مجد اسمك»: وها ينبغي أن ننتبه لئلا يفوت منا المعنى، فاسم الآب «أنا هو»، قد أُعطي للمسيح أن يعمل به، ويستعلن نفسه فيه، ويبرهن به أنه والآب واحد، كيان واحد؛ و«أنا هو» يعني «أنا الكائن بذاتي»، قد صار كاسم المسيح.
فالمسيح هنا يطلب من الآب أن يمجد اسمه الذي منحه للمسيح, بأن يمجد الآب نفسه في المسيح, وبالمسيح. وذلك بأن يمجد المسيح من خلال تجربة الموت, فيقوم منتصراً على الموت, وبهذا يتمجد اسم الآب في المسيح. وحينئذ يدرك الناس من قيامة المسيح من الموت أن الاسم الإلهي «أنا هو», قد صار اسم المسيح لمجد الآب حقاً، وأن «المسيح هو رب لمجد الله الآب» (في11:2)، وهذا ما سبق أن نبه عليه المسيح لندركه في حينه.
«فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان (الصليب وبعده القيامة)، فحينئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8). «لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8)، أي «اني أنا حامل لاسم الآب».
أي أن القيامة من الموت ستكون بمثابة إعلان مجد الله في المسيح, على أساس غلبة المسيح على الموت والخطية، وبالتال تكميل التكفير عن الخطايا وغفرانها لحساب الإنسان، الأمر الذي من أجله جاء إلى العالم وجاء إلى هذه الساعة.
واضح إذاً كل الوضوح، أن المسيح يطلب االخروج من الموت وليس إلغاءه, والخروج بصورة تمجد «اسم الآب» الذي عليه. وهذا هو الرد على السؤال الذي سبق أن سأله: «والآن ماذا أقول (أطلب)» نعم هذا هو الذي يطلبه.
وفي هذا نرى أن المسيح لم يفصل بين آلامه التي عبر عنها بأن نفسه قد اضطربت, وبين هدفه الذي هو الصراع مع الموت: «من أجل هذا أتيت إلى هذه الساعة». أي أن المسيح أوضح أن آلامة جاءت جزءاً من عمله: «من أجل هذا أتيت». كما لم يفصل المسيح في رؤيته وإحساسه وانفعاله بين الموت والمجد, أي القيامة, لذلك كانت «الساعة» تحمل له إحساس الألم والموت والقيامة بصورة مترابطة، حرص المسيح أن تكون هكذا عند الآب: «الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟» (يو11:8). ورد الآب على سؤال: «مجد اسمك»، جاء كموافقة كاملة من الآب لقبول الابن الكأس التي أعطاه الآب ليشربها، مع وعد باستمرار تمجيد عمل المسيح حتى النهاية: «مجدت وأمجد أيضاً».
«فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجد أيضاً»: يلاحظ قارىء إنجيل يوحنا أن حادثة «التجلي» لم يذكرها هذا الإنجيل كحادثة قائمة بذاتها. ولكنه هنا يكشف بهذا الصوت العلني الآتي من السماء، والذي سمعه كل التلاميذ والجمع واليونانيون، عن تصميم الآب على استمرار رفح اسمه, في المسيح, إلى مستوى المجد؛ سواء في الماضي الذي يشمل كل حياة المسيح منذ أن أعلن عن ميلاده بيد ملاك، ثم بواسطة جمهور من جند الملائكة, ثم بالملائكة التي جاءت لتخدمه في تجربة صومه الأربعين يوماً وغلبته على الشيطان، وبعد ذلك بالآيات المستمرة واخرها إقامة لعازرعن الموت، والتي سجلها المسيح على أنها «لأجل مجد الله، ليتمجد ابن الله به» (يو4:11)، على أن المجد متبادل.
ثم يضيف الآب أنه «يمجد أيضاً» في زمن المستقبل بمعنى الاستمرار. والمعنى يشمل «الساعة» بكل مشتملاتها حتى النهاية, وما بعد الساعة من قيامة. ففي حادثة التجلي ناداه الآب من السماء: «هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا» (مر7:9)، وتكلم معه موسى وإيليا عن الخروج المزمع أن يكمله في أورشليم (لو31:9)؛ وهنا، وقد أصبح بالفعل ميعاد خروجه على الأبواب، فهوذا صوت الآب من السماء يؤكد استمرار تمجيده لاسمه في المسيح على طول المدى، وعلى مستوى العالم أجمع.
لم يكن هذا الصوت لتقوية المسيح, أو استجابة شخصية له، لأن المسيح سبق وأعلن بصوت مسموع وفي خطابه للآب: «وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لى» (يو42:11). بل إن هذا الصوت العلني، والشديد كالرعد، قد كان ليسمعه جميع الواقفين, وليس المسيح, ومفاده هو إعلان الآب لقبوله طاعة الابن وخضوعه, وموافقته على دخول التجربة مع وعد علني بالمجد! وهذا يدخل حتماً في «الشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه» (ايو10:5). تماما كما جاء صوت الآب من السماء في التجلي ليسمعه التلاميذ، وليس المسيح: «هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا» (لو35:9). لأن الموت الذي سيكمله المسيح هو لأجلهم, ولأجل العالم كله.
لهذا أسرع المسيح لكي يصحح ما فهمه الجمع خطأ، أن ملاكاً قد كلمه، وقال لهم: «ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم»، فهو شهادة علنية مسموعة من الآب للمسيح، وموافقة علنية أمام الجميع بقبول طاعة الابن للدخول في مواجهة العدو من داخل الموت. وبذلك يعتبر موت المسيح تكليفاً من الآب السماوي، ووعداً علنياً أيضاً بالمجد المتبادل، الآب بالابن والابن بالآب، بالقيامة العتيدة أن يكملها المسيح بسلطانه وتدبير الآب.
ولكن المسيح، بسماعه صوت الآب من السماء بالموافقة النهائية وقرار المجد من داخل الموت، تهلل وأدرك في الحال انهزام الشيطان وسقوط مملكته من السماء.
يلاحظ أن المسيح لم يقل «الدينونة» بصورتها النهائية، بل «دينونة» بدون تعريف، كدينونة أولى بالنسبة لدينونات قادمة, كل في ميعادها. ولكن هنا دينونة حاسمة أيضاً وذات مفعول خطير، لأن آلام المسيح التي بدأ يدخلها، يقع وزرها على نظام العالم القضائي من جهة العدالة المذبوحة, والتي يمسك زمامها الشيطان، ويحركها ضد الأتقياء والضعفاء، لذلك تعتبر هذه الدينونة الأولى للعالم جزاء جرم القضاة والرؤساء، وتحريماً لروحهم التي يمتلكها الحقد والكراهية لكل ما هو حق وعدل. وهذه هي الدينونة التي ألمح إليها الروح القدس على فم سمعان الشيخ, الرجل البار الذي تكلم بروح النبوة للقديسة مريم، والمسيح كان ما زال رضيعاً في حضنها: «وباركهما سمعان، وقال لمريم أمه: ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل, ولعلاهة تقاوم» (لو34:2), حيث بدأ هنا السقوط الفعلي لرأس الحية المدبرة لهلاك الإنسان منذ البدء.
«هذا العالم»: لم يفرق المسيح بين عالم اليهود أو اليونانيين، فهو عالم الشر المستحوز على الرؤوس والرؤساء بلا تفريق، فشر اليونانيين، وان كان قد بلغ حد السف والمجون، فهو لا يزيد بأي حال عن شر اليهود الذين قاوموا الله والروح القدس وذبحوا ابن صاحب الكرم، لتؤول الكرامة لهم من دون الله.
«الآن دينونة ... الآن يُطرح»: تكرار كلمة «الآن» يوضح الحد الحاسم بين المد والجزر، مد العالم الكاذب اللاهي عن الله والحق، ومد الشيطان في استغلال النفوس الخاضعة له، وجذر القوة الإلهية الرادعة للاثنين.
وهنا يقف الزمن عند كلمة الآن, وهي التي عرفها المسيح هكذا: «قد أتت الساعة», وهي الفاصلة بين مرحلة الظلمة القاتمة التي ختمت على العالم بتضامن الشيطان، وبين مرحلة انبساق النور العتيد أن يسطع على العالم وشيكاً، بقيامة المسيح.
«الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً»: «رئيس هذا العالم» هو الآن في مواجهة علنية أمام «رئيس الحياة» صاحب الموت رفع قرنه على حامل جوهر الحياة!
«أنتم أنكرتم القدوس البار, وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل, ورئيس الحياة قتلتموه, الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك.» (أع14:3-15)
وهكذا لم يقو سلطان الموت في يد الشيطان على سلطان الحياة في جسد المسيح.
«فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضأ كذلك فيهما، لكى يبيد, بالموت, ذاك الذي له سلطان الموت, أي إبليس.» (عب14:2)
«يُطرح خارجاً»: وقد جاءت في اليونانية بصيغة المستقبل «سيطرح». الطرح هو السقوط أو الإسقاط إلى أسفل بعنف نتيجة لطمة قاضية، أخرجت الشيطان من دائرة نفوذه وخارج حلقة مصارعيه، والتي كسب فيها سابقاً كل الجولات ضد الإنسان، ولكن هنا: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو30:14)، وهكذا خسر كل جولاته مع المسيح.
ومعروف من الكتاب أن «العالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5), فكانت دائرة نفوذ الشيطان تشمل العالم كله، ولكن بصورة مستورة. كلما طرح رئيس هذا العالم في معركة ضد المسيح ، تعرى القائمون بتنفيذ مشوراته, ووقعوا تحت نور المسيح الكاشف، ودينت كل أعمالهم. وها الآن قد عُرف لدى كل المسكونة، بكل شعوبها وأجيالها، فضيحة رؤساء إسرائيل وقضاته، في مدى تزييفهم للحق والعدل والإيمان في معاملة المسيح ، كما تعرى قضاة روما أمام ضمير العالم فيما صنعه بيلاطس بالمسيح ضد المنطق والعدل والقانون. وهكذا لم يعد الشيطان ولا أعوانه مخفيين: «لأننا لا نجهل أفكاره.» (2كو11:2)
وهكذا, ومنذ صلب المسيح وقيامته, قد نُصبت على الأرض محكمة الله العليا من داخل ضمير الإنسان المستنير بنور المسيح, أي كل المؤمنين, لمحاكمة كل أعمال الشيطان وأعوانه، «كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير» (ايو14:2)، «لأن كل من وٌلد من الله يغلب العالم, وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم, إيماننا.» (1يو5:4)
«الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه. لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً. وهم غلبوه بدم الخروف، وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.» (رؤ10:12-11)
وهكذا فقد العالم وجوده وإغراءه بالنسية للمؤمنين بالمسيح, وفقد الشيطان سلطانه على أولاد الله, كما فقد الموت فاعليته على حياة الذين وُلدوا جديداً من الله؛ وهذا هو المفهوم الواقعي والجوهري لمعنى دينونة العالم وطرح رئيسه خارجاُ, تمهيداً لانحلال هيئة هذا العالم انحلالاً نهائياً من دائرة حياة المؤمنين, بالانتقال إلى ملكوت الله وتلاشي الشيطان تلاشياً كليا من الوجود, بالنسبة لحياة المؤمنين، وذلك بدخولهم تحت سلطان المسيح والله، بل وتلاشي الموت من كيان المفديين, بدخولهم نهائياً في دائرة الحياة الأبدية مع الله.
هذه هي غاية المسيح التي من أجلها قبل أن يدخل إلى «ساعة» الصراع مع «هذا العالم» ومع رئيس هذا العالم، الذي طرحه أرضاً ليرتفع هو عن الأرض إلى أعلى لأنه ماذا بعد أن يكون قد دان «عالم الشر» وفضح مداخل الظلمة والشر فيه, وحكم عليه، وأعلن الحق عالياً فوق الكذب والخداع، إلا افتتاح عالم النور ونقل مركز الجذب من الأرض إلى السماء؟ ثم ماذا بعد أن يكون قد طرح رئيس هذا العالم من دائرة نفوذه وسلطانه المتعال فوق أفق الإنسان، وبعد أن حطه إلى أسفل تحت موطىء قدميه, إلا أن يرفع الإنسان فوق هامة الشيطان ليتسامى بروحه إلى حيث المسيح؟
لأن السيح، بموته´مرتفعاً على الصليب, رفع الإنسان معه من داخل الموت إلى القيامة والحياة، فتحرر الإنسان من جذب الارض المستمر والمستبد المؤدي إلى الموت الأبدي. ولأن المسيح، بموته، قد ظفر بالشيطان على الصليب وفضحه وأشهره جهاراً، صار الصليب هو مركز الجذب الأقوى والأعلى للانسان. وهذا هو المعنى المباشر الذي يتضمنه موت المسيح «مرتفعاً» على الصليب, مرتفعاً عن الأرض، ومرتفعاً فوق هامة الشيطان.
وقد سبق أن ركز إنجيل يوحنا على معنى ارتفاح المسيح بالموت على الصليب بقوله: «وكما رفع موسى الحية في البرية, هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو14:3). حيث رفع ابن الإنسان» هنا يتضمن القيامة بالموت أو الحياة من داخل الموت. فالحية النحاسية المرفوعة بواسطة موسى، كان مجرد النظر إليها يحيي من الموت أولئك الذين عضتهم الحية وسكبت سمها في أجسادهم.
والتطبيق هو أن المسيح ألغى على الصليب فعل الحية، أي الشيطان، وأبطل الموت المتحصل منها؛ إذ عوض سم الحية المميتة، أعطانا دمه ترياق الحياة الأبدية. فكل من نظر، نظرة الإيمان, إلى المسيح مرفوعاً على الصليب، تبطل فيه قوة الخطية التي هي سم الموت أو مشوكته القاتلة: «لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد (على الصليب)، لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو16:3)
كذلك يعود إنجيل يوحنا في موضع آخر ليركز أيضاً على ارتفاع المسيح, على الصليب، كونه يتضمن أيضاً استعلان حقيقة المسيح: «متى رفعتم ابن الإنسان، فحيئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8)، لأنه بصلب المسيح اُستعلنت قيامته «وتعين ابن الله، بقوة، من جهة روح القداسة، بالقيامة من الأموات.» (رو4:1)
وهكذا يصر إنجيل يوحنا دائمأ على أن لا يفصل الموت عن القيامة عن المجد, ويجعل مفهوم «الارتفاع» على الصليب هو«ارتفاع» القيامة أيضاً، بل «ارتفاع» الصعود!
لذلك فقول المسيح هنا: ووأنا إن ارتفعت ... أجذب إلى الجميع»، يشير إلى الموت على الصليب وما يتبعه بالضرورة من قيامة وصعود ومجد، والذي يتضمن جذب المؤمنين واتحادهم بجسده.
«ارتفعت» عن الأرض» ( ) وتفيد ليس الارتفاع فوق الأرض بالمعنى الموضعي فقط، بل وبالمعنى الروحي، فهو ارتفاع عن مستوى الفكر الأرضي والجذب الأرضي، الذي يتضمن, ليس معنى الصلب فقط بل والقيامة بمفهومها الروحي العالي.
«أجذب إلي»: المعنى هنا يتضمن شيئاً من العنف بسبب الجذب المضاد من الأرض ومن العدو، وهذا المعنى يوضحه الروح القدس في إلعهد القديم : «كنت أجذبهم بحبال البشر، بربط المحبة, وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم, ومددت إليه مطعماً إياه.» (هوشع4:11)
وعملية الجذب هي عملية روحية بحتة، تدخل في وظيفة الروح القدس مباشرة.
«الجميع»: وتأتي بدون تخصيص، فهو «الكل»، حتى ما في السموات والأرض: «وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات.» (كو20:1)
ولكن ليس الكل كمجموع كلي، ولكن «الكل» بالمعنى الفردي واحداً واحداً: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد.» (عب9:2)
وعملية الجذب لا تقتصر على التقريب إلى المسيح، بل وتمتد إلى داخل المسيح، كعملية تجميع في شخص المسيح، في جسده السري الذي يملأ السماء والأرض: «لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح, ما في السموات وما على الأرض، في ذاك.» (أف10:1)
هذه هي غاية المسيح التي من أجلها قبل أن يدخل إلى «ساعة» الصراع مع «هذا العالم» ومع رئيس هذا العالم، الذي طرحه أرضاً ليرتفع هو عن الأرض إلى أعلى لأنه ماذا بعد أن يكون قد دان «عالم الشر» وفضح مداخل الظلمة والشر فيه, وحكم عليه، وأعلن الحق عالياً فوق الكذب والخداع، إلا افتتاح عالم النور ونقل مركز الجذب من الأرض إلى السماء؟ ثم ماذا بعد أن يكون قد طرح رئيس هذا العالم من دائرة نفوذه وسلطانه المتعال فوق أفق الإنسان، وبعد أن حطه إلى أسفل تحت موطىء قدميه, إلا أن يرفع الإنسان فوق هامة الشيطان ليتسامى بروحه إلى حيث المسيح؟
لأن السيح، بموته´مرتفعاً على الصليب, رفع الإنسان معه من داخل الموت إلى القيامة والحياة، فتحرر الإنسان من جذب الارض المستمر والمستبد المؤدي إلى الموت الأبدي. ولأن المسيح، بموته، قد ظفر بالشيطان على الصليب وفضحه وأشهره جهاراً، صار الصليب هو مركز الجذب الأقوى والأعلى للانسان. وهذا هو المعنى المباشر الذي يتضمنه موت المسيح «مرتفعاً» على الصليب, مرتفعاً عن الأرض، ومرتفعاً فوق هامة الشيطان.
وقد سبق أن ركز إنجيل يوحنا على معنى ارتفاح المسيح بالموت على الصليب بقوله: «وكما رفع موسى الحية في البرية, هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو14:3). حيث رفع ابن الإنسان» هنا يتضمن القيامة بالموت أو الحياة من داخل الموت. فالحية النحاسية المرفوعة بواسطة موسى، كان مجرد النظر إليها يحيي من الموت أولئك الذين عضتهم الحية وسكبت سمها في أجسادهم.
والتطبيق هو أن المسيح ألغى على الصليب فعل الحية، أي الشيطان، وأبطل الموت المتحصل منها؛ إذ عوض سم الحية المميتة، أعطانا دمه ترياق الحياة الأبدية. فكل من نظر، نظرة الإيمان, إلى المسيح مرفوعاً على الصليب، تبطل فيه قوة الخطية التي هي سم الموت أو مشوكته القاتلة: «لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد (على الصليب)، لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو16:3)
كذلك يعود إنجيل يوحنا في موضع آخر ليركز أيضاً على ارتفاع المسيح, على الصليب، كونه يتضمن أيضاً استعلان حقيقة المسيح: «متى رفعتم ابن الإنسان، فحيئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8)، لأنه بصلب المسيح اُستعلنت قيامته «وتعين ابن الله، بقوة، من جهة روح القداسة، بالقيامة من الأموات.» (رو4:1)
وهكذا يصر إنجيل يوحنا دائمأ على أن لا يفصل الموت عن القيامة عن المجد, ويجعل مفهوم «الارتفاع» على الصليب هو«ارتفاع» القيامة أيضاً، بل «ارتفاع» الصعود!
لذلك فقول المسيح هنا: ووأنا إن ارتفعت ... أجذب إلى الجميع»، يشير إلى الموت على الصليب وما يتبعه بالضرورة من قيامة وصعود ومجد، والذي يتضمن جذب المؤمنين واتحادهم بجسده.
«ارتفعت» عن الأرض» ( ) وتفيد ليس الارتفاع فوق الأرض بالمعنى الموضعي فقط، بل وبالمعنى الروحي، فهو ارتفاع عن مستوى الفكر الأرضي والجذب الأرضي، الذي يتضمن, ليس معنى الصلب فقط بل والقيامة بمفهومها الروحي العالي.
«أجذب إلي»: المعنى هنا يتضمن شيئاً من العنف بسبب الجذب المضاد من الأرض ومن العدو، وهذا المعنى يوضحه الروح القدس في إلعهد القديم : «كنت أجذبهم بحبال البشر، بربط المحبة, وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم, ومددت إليه مطعماً إياه.» (هوشع4:11)
وعملية الجذب هي عملية روحية بحتة، تدخل في وظيفة الروح القدس مباشرة.
«الجميع»: وتأتي بدون تخصيص، فهو «الكل»، حتى ما في السموات والأرض: «وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات.» (كو20:1)
ولكن ليس الكل كمجموع كلي، ولكن «الكل» بالمعنى الفردي واحداً واحداً: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد.» (عب9:2)
وعملية الجذب لا تقتصر على التقريب إلى المسيح، بل وتمتد إلى داخل المسيح، كعملية تجميع في شخص المسيح، في جسده السري الذي يملأ السماء والأرض: «لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح, ما في السموات وما على الأرض، في ذاك.» (أف10:1)