تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
34:12 فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟».

‏الصعوبة التي واجهت الجمع في فهم معنى «ارتفاع ابن الإنساذ»، مزدوجة. فمعروف من نبوة دانيال وبقية النبوات أن ابن الإنسان قربوه إلى عتيق الأيام: «فأُعطى سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض» (دا13:7-14). هذا لو كان ابن الإنسان بصفته العامة التي لا يفهمونها أصلاً، لأن المسيا هو ابن داود، وليس ابن الإنسان. وابن داود سيأخذ مملكة أبيه ليحكم إلى الأبد: «أقسم الرب ولن يندم، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مز4:110)، «قطعت عهداً مع مختاري. حلفت لداود عبدي، إلى الدهر أثبت نسلك، وأبني إلى دور فدور كرسيك. سلاه» (مز3:89-4)، «لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد» (إش7:9)، «ويسكنون فيها هم وبنوهم وبنو بنيهم إلى الأبد، وعبدي داود رئيس عليهم إلى الأبد.» (حز25:37)
‏وهذه النبوات الخاصة بالمسيا كابن داود كانت محفوظة في قلوب اليهود، حفظاً يتجدد كل صباح وكل مساء, بانتظار تحقيق الوعد. لذلك كانت كلمات الرب يسوع توزن في أذهانهم عليها كلمة كلمة، بل وحرفاً حرفاً، بطريقة يستحيل معها مصالحة الحرف الناموسي مع الروح الذي يتكلم به المسيح؛ حيث الكهنوت كهنوت سماوي، وحيث المملكة هي الملكوت السماوي، وحيث كرسي داود هو العرش السماوي والرئاسة هي من واقع أنه «رئيس الحياة وملك الدهور»» غير الزمنية.
‏ولكنهم فهموا، على كل حال، أن الارتفاع يعني الموت والانقطاع عن الوجود في الأرض، ولكن كان معنى الصليب غير مفهوم، وكان على كل حال مثبطاً لعزائمهم، إذ كانوا ينتظرون المسيا بوضعه السياسي، مما أوقف حماسهم في الترحاب بالمسيح والإنحياز له.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
35:12-36 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلَّا يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ. والَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ.

‏هذه هي آخر نصيحة يقدمها المسيح لليهود، على وجه الإطلاق، وهي نصيحته أيضاً لكل متشكك أومرتبك من جهة من هو المسيح. وتتلخص في أن انتهز الفرصة القليلة التي أمامك, وبالقدر الضئيل الذي يملأ فكرك وقلبك، عن صحة وصلاحية المسيح في أن يقودك ولو خطوة واحدة إلى الأمام, تقدم, تقدم ولا تقف أو تتقهقر، فالخطوة الواحدة الإيجابية كفيلة أن تدفعك إلى الأمام وباستمرار، لأن المسيح واثق من أنه هو نور العالم، وهو قادر أن يقود ويجذب ويدفع ويكشف أمام الإنسان حقيقة الحياة.
‏فما دام هاتف الخير مسموعاً، اتبع، ومادام بصيص النور يسيراً, سر, لأنك إن استسلمت للخير تصير ابنا للخير, وان سلمت للنور قلبك ورجليك، صرت ابنا للنور وقائداً لغيرك. وكل صوت يأتيك من الخلف ليشككك في النور، فهو صوت الظالم وأبي الظلمة، وهو حتماً للضلال والتضليل.
‏وكعادة المسيح دائماً، فهو لم يجب على سؤالهم، بل قطع طريق الشك عليهم بإلقاء شعاع من النور على فكرهم حتى لا يعثروا فيه، لو آمنوا. أما آمالهم في مسيا يبقى معهم إلى الأبد، فاختزلها المسيح إلى «زمان قليل بعد». وحينما قال لهم: «سيروا في النور ما دام لكم النور»، فهو يذكرهم بعمود النور الذي قاد آباءهم في سيناء وأضاء لهم ظلمة القفر, لو يتذكرون!...
«ثم مضى واختفى عنهم»: الكلام هنا، بحسب أسلوب القديس يوحنا الخفي، يعمل معى اختفاء النور، ويوحي بغشيان الظلمة لعقولهم التي لم تع النور، ولا هي سارت عل هداه. هذا هو الحبك القصصي للقديس يوحنا، لأن هنا يختم هذا القديس على كل تعاليم المسيح. فكما كانت آية إقامة لعازر من الموت آخر آياته لاستعلان حقيقة شخصه كونه «القيامة والحياة», وهي منتهى قصد الإنسان, فهنا كذلك يعطي القديس يوحنا آخر كلمة للمسيح من جهة استعلان شخصه «كنور الحياة» وهو منتهى رجاء الإنسان واخر تعاليم المسيح. وقد تحقق قول المسيح هذا عملياً، فعندما صلبوه اظلقت الدنيا، وصارت ظلمة على الأرض كلها، تعبيرا عن اختفاء النور عندما أنكروه. وهم لم يدروا أنهم قتلوا رجاءهم لما قتلوه، فلا حصلوا على مسيا يبقى لهم إلى الأبد، ولا انتفعوا بالزمان القليل بعد!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
ختام لإنجيل الأستعلان (37:12-43)
37:12-41 وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟». لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ.

‏إن عدم إيمان اليهود لا بد أن يسترعي كل من يطلع على الإنجيل، سواء من جهة الآيات أو الأعمال والتعاليم. والقديس يوحنا يضع نفسه الآن، وفي ختام سرده للآيات والتعاليم، كمن ينظر إلى رسالة الخلاص التي أكملها المسيح ككل، فهو يندهش من عدم إيمان اليهود، بل والمسيح نفسه اندهش من عدم إيمانهم, بل وحتى إشعياء النبي لم يصدق ما يقول. والحقيقة كذلك، فإنه لا يوجد شعب في العالم قاوم رسالة الخلاص، كما قاومها اليهود في شخص المسيح نفسه، مع أنهم خاصته!!
‏ويعود القديس يوحنا إلى العهد القديم، عهد النبوات والأضواء التي أرسلها الله من بعيد سابقاً ليظهر بها ويمهد لما سيكون؛ حتى إذا كان، سهل الإيمان.
‏ونبوات إشعياء فيها ما يكفي، سواء بالنسبة للمسيح من هو، وما هو عمله, أو بالنسبة لليهود، عن ما هو رد الفعل عندهم.
‏والنبوة في الواقع تصور ما سيكون، ولكن لا تتحكم في مجريات الأمور، ولا تعفي المجرم من إجرامه، أو الخاطىء من خطيته، فسبق العلم عند الله لا يؤثر في حرية وارادة من سيعمل، ولا تقلل من العقوبة المحتمة عليه. ولكن القصد الإلهي في الإعلان السابق عما سيكون، فوق أنه يمهد به الطريق والأذهان لقلوب المؤمنين، فهو يوضح مدى الإحاطة التي يشملها تدبيراته، ومدى العناية الإلهية التي تسبق وتعد المتكلم والسامع معاً، الآية، وصانعها, ورائيها معاً؟ قلب المؤمن وقلب الرافض معاً. لأن الله يشمل بكيانه كل كيان، فهو يحيط بالبداية والنهاية لكل ما كان وما سيكون، وهو سابق للزمن، وكائن بعد أن ينتهي الزمن. فالكل واقع في بؤرة رؤيته، ومشيئته تهيمن بالنهاية على كل مشيئات خلائقه.
‏وهنا نأتي إلى لاهوت القديس يوحنا, فهو حينما يلجأ إلى نبوة إشعياء فإنما يود أن يقول أنه بقدر ما كان يعمل المسيح بحسب تدبير الآب قولاً وعملاً، بقدر ما كان اليهود المعاندون يزدادون عدم إيمان. ولكن حتى عنادهم ورفضهم هذا كان واقعاً تحت سبق المعرفة، ولم يخرج عن التدبير. فكل ما قالو وعملو، سبق أن كشفه إشعياء, ليدرك به القديس يوحنا، وندرك نحن معه، أن العناية الإلهية تحيط بقصة الإنجيل. ولكن عدم إيمان اليهود لم يوقف تدبير الله للخلاص، بل دخل فيه كعنصر مكمل؛ فعدم إيمانهم وعنف رفضهم لم يزد عن أن يكون عثرة لهم وحدهم. فالصليب صار عثرة لليهود، ولكن اليهود لم يستطيعوا أن يكونوا عثرة للصليب.
«آيات هذا عددها»: من كلام القديس يوحنا يتبين لنا أنه كان ملما بآيات كثيرة جداً عملها الرب يسوع، ولكنه اكتفى بذكر بعض منها، وهي سبعة على وجه التحديد، رآها كافية لنؤمن على ضؤئها أن المسيح هو ابن الله:
‏الأولى: تحويل الماء إلى خمر_ الأصحاح الثاني.
الثانية: شفاء ابن خادم الملك - الأصحاح الرابع.
الثالثة: شفاء مقعد بيت حسدا - الأصحاح الخامس.
‏الرابعة.:إشباع الجموع من الخمس خبزات _ الأصحاح السادس.
الخامسة: السير على الماء _ الأصحاح السادس.
‏السادسة: شفاء المولود أعمى _ الأصحاح التاسع.
‏السابعة: إقامة لعازر من الموت بعد أربعة أيام _ الأصحاح الحادى عشر.
‏وفي ختام الكل أية قيامته من الأموات، مع علامات وآيات في السماء والأرض والبحر، لم يقصد بها المسيح أن يؤثر على إيمان الناس، ولكن لتُعلن فقط عن رسالته.
‏«ليتم قول إشعياء»: «ليتم» وتأتي في اليونانية بمعنى «ليكمل للملء». هنا لا يأتي يوحنا بالنبوة ليعلل بها تصرف بيت إسرائيل من نحو المسيح رجائهم، ولكن النبوة أتت لتغطي الفرغ المخيف الذي يتركه تصرف اليهود، في تفكير أي إنسان، من نحو معاملتهم للمسيح باعتباره أنه طابعهم وسلوكهم منذ القديم، وهذا لا غرابة فيه، فهو استمرار لتكميل مكيالهم (مت32:23).
‏«من صدق خبرنا؟ ولمن استعلنت ذراع الرب؟»: هذه آية إشعياء النبي (1:53), وهنا يجمع القديس يوحنا تعاليم الرب يسوع مع الآيات التي صنعها معاً، و«الخبر» هو التعليم بالكلمة ومقصده هو الإيمان» و«ذراع الرب» كناية عن القوات التي صنعها المسيح، وجاءت على مستوى الآيات أي بصفة إشارات تشير إلى لاهوت صانعها. والاثنان معاً كانا شهادة الله المنطوقة والمعمولة بواسطة ابنه. والاثنان أيضاً رُفضا، فالخبر لم يُصدق, والآية لم تفهم باعتبارها استعلاناً للمجد الإلهي لصاحبها.
‏«لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا»: هنا يتعرض القديس يوحنا إلى استحالة أخلاقية عند اليهود، موروثة عبر تذمرات بلا عدد أعلنوها في وجه الله، منذ أن كانوا في مصر، ثم في خروجهم من مصر، وفي وجه موسى. وكل قاض ونبي أتى بعد ذلك لم ينج من هياجهم م مقاومتهم: «قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقية أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها» (امل10:19). هذا كان صراخ إيليا، و يرد عليه القديس استفانوس الشهيد الأول: «يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائمأ تقاومون الروح القدس. كما كان اباؤكم، كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده اباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه، الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه» (أع51:7-53‏)
‏لهذا لم يستطيعوا أن يؤمنوا!! تركة ثقيلة جداً من مقاومة ورفض استعلانات الله على مدى الدهور, عيون أعماها عدم استعدادها للرؤيا، وآذان أصمها تكرار رفضها لصوت الله، وقلوب منعتها قساوتها عن الندم أو التوبة!!
‏«لأن إشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم, واغلظ قلوبهم, لئلا يبصروا بعيونهم, ويشعروا بقلوبهم, ويرجعوا فأشفيهم»: النص هنا من إشعياء (9:6-10)، ولكنه بالفحص، استقر العلماء أنه غير منقول لا من
‏النسخة السبعينية ولا من النسخة العبرانية الماسورتيك، والتي لجأ إليها كتاب الأسفار الأخرى.
فأما النسخة السبعينية والتى يتبعها كل من إنجيل متى وكاتب سفر الأعمال فهى ترد كالآتي: «فقد تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة تسمعون سمعاً ولا تفهمون. ومبصرين تبصرون ولا تنظرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ, واذانهم قد ثقل سماعها، وغمضوا عيونهم، لئلا يبصروا بعيونهم, ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم.» (مت14:13-15)
‏أما إنجيل القديس مرقس فجاءت فيه كالآتي: «لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا, ويسمعوا سامعين ولا يفهموا, لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم» (مر12:4)
‏والاختصار والتصرف هنا واضحان, ويرى العلماء أن النص يقترب من النسخة العبرية المأسورتيك.
‏النسخة العبرية الماسورتيك: «اجعل قلب هذا الشعب غليظاً، وثقل آذانهم، وأغمض عيونهم، لئلا ينظروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، فيعودوا ويُشفوا».
‏أما في سفر الأعمال، فإن كاتبه يتبع النسخة السبعينية حرفياً تقريباً: «حسناً كلم الروح القدس آباءنا بإشعياه النبي قائلاً: اذهب إلى هذا الشعب وقل ستسعون سمعاً ولا تفهمون، وستنظرون نظراً ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وبأذانهم سمعوا ثقيلاً، وأعينهم أغمضوها، لئلا يبصروا بأعينهم ويصغوا بأذانهم ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم». (أع25:28-27).
‏أما إنجيل القديس يوحنا فيبدو النص حراً لا يتبع السبعينية, وقد حول ما جاء في النسخة العبرية بصيغة الأمر الموجه للنبي، إلى تأكيد مخيف بعمل يضطلع به الله نفسه. فبدل «إغمض عيونهم» كأمر صادر للنبي، في النسخة العبرية، يأتي «غمضوا عيونهم»، كعمل قاموا به في أنفسهم؛ وما جاء في السبعينية جعله القديس يوحنا «قد أعمى عيونهم»، حيث الله هنا هو الذي يصنع بهم هذا كرد فعل لعصيانهم، «وأغلظ قلوبهم ... لئلا يرجعوا فأشفيهم.
‏ويلاحظ هنا أن القديس يوحنا أنهى النص على أساس أن المسيح هو الذي يشفيهم، وبذلك انتقل بالنبوة إلى الواقع بالنسبة للتاريخ الذي أُكمل على يديه! ومعناها: أني أعطيتكم فرصة لتروا وتشعروا بحقيقتي بكل الطرق فلم تستجيبوا، بل عاندتم، وقاومتم، وأسأتم إلى بلا سبب؛ ها أنا أطمس عيونكم، وأسد قلوبكم، وأقطع الرحمة عليكم فلا تعردون بعدد.
ونحن نخرج من الأوضاع المختلفة التي جاءت بها هذه النبوة بفكر واحدء وهو أن أخلاق الشعب اليهودي وملوكه مع الله اديا إلى انغلاق أعينهم عن رؤية استعلانات الله، وأصابا آذانهم بالثقل, فلم تعد تميز صوت الله أو تسمعه أصلاً. وانتهى الأمر بهم إلى أن قلوبهم فقدت الاحساسات والمشاعر التي يمكن أن تتفاعل مع محبة الله، وانتهى الأمر بأن حجز الله صوته عنهم. ويصدق فيهم القول: هذا ما جناه علي جهلي، وما جنى علي أحد. ولكن ليس من الهين مقاومة الله, لأن إمكانية التغيير والتوبة، مفتاحها في يد القدير، فإذا تمادى الإنسان أو الشعب في معاندة الله «أغلق الله عليهم في العصيان» (راجع رو32:11). وهنا يبدو الله وكأنه هو الذي أغمض عيونهم وسد آذانهم وقسى قلوبهم, بينما في الحقيقة أنهم هم الذين بعميانهم المستمر حرضوا أن يغلق عليهم فيما أغلقوا هم على أنفسهم من جهالة وحماقة. فستان أن يُقال أنهم أغمضوا عيونهم, أو أن الله أغمض عيونهم. فالذي لا يريد أن يرى الله او يسمعه لا يستطيع الله أن يظهر لهم ذاته أو يتكلم معه: «لماذا لا تفهمون كلامي. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي.» (يو43:8)
‏وهكنا انقلبت عدم الرغبة المستمرة في السماع لكلمة الله إلى عدم قدرة: «لا تقدرون أن تسمعوا».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
ختام لإنجيل الأستعلان (37:12-43)
37:12-41 وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟». لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ.

‏إن عدم إيمان اليهود لا بد أن يسترعي كل من يطلع على الإنجيل، سواء من جهة الآيات أو الأعمال والتعاليم. والقديس يوحنا يضع نفسه الآن، وفي ختام سرده للآيات والتعاليم، كمن ينظر إلى رسالة الخلاص التي أكملها المسيح ككل، فهو يندهش من عدم إيمان اليهود، بل والمسيح نفسه اندهش من عدم إيمانهم, بل وحتى إشعياء النبي لم يصدق ما يقول. والحقيقة كذلك، فإنه لا يوجد شعب في العالم قاوم رسالة الخلاص، كما قاومها اليهود في شخص المسيح نفسه، مع أنهم خاصته!!
‏ويعود القديس يوحنا إلى العهد القديم، عهد النبوات والأضواء التي أرسلها الله من بعيد سابقاً ليظهر بها ويمهد لما سيكون؛ حتى إذا كان، سهل الإيمان.
‏ونبوات إشعياء فيها ما يكفي، سواء بالنسبة للمسيح من هو، وما هو عمله, أو بالنسبة لليهود، عن ما هو رد الفعل عندهم.
‏والنبوة في الواقع تصور ما سيكون، ولكن لا تتحكم في مجريات الأمور، ولا تعفي المجرم من إجرامه، أو الخاطىء من خطيته، فسبق العلم عند الله لا يؤثر في حرية وارادة من سيعمل، ولا تقلل من العقوبة المحتمة عليه. ولكن القصد الإلهي في الإعلان السابق عما سيكون، فوق أنه يمهد به الطريق والأذهان لقلوب المؤمنين، فهو يوضح مدى الإحاطة التي يشملها تدبيراته، ومدى العناية الإلهية التي تسبق وتعد المتكلم والسامع معاً، الآية، وصانعها, ورائيها معاً؟ قلب المؤمن وقلب الرافض معاً. لأن الله يشمل بكيانه كل كيان، فهو يحيط بالبداية والنهاية لكل ما كان وما سيكون، وهو سابق للزمن، وكائن بعد أن ينتهي الزمن. فالكل واقع في بؤرة رؤيته، ومشيئته تهيمن بالنهاية على كل مشيئات خلائقه.
‏وهنا نأتي إلى لاهوت القديس يوحنا, فهو حينما يلجأ إلى نبوة إشعياء فإنما يود أن يقول أنه بقدر ما كان يعمل المسيح بحسب تدبير الآب قولاً وعملاً، بقدر ما كان اليهود المعاندون يزدادون عدم إيمان. ولكن حتى عنادهم ورفضهم هذا كان واقعاً تحت سبق المعرفة، ولم يخرج عن التدبير. فكل ما قالو وعملو، سبق أن كشفه إشعياء, ليدرك به القديس يوحنا، وندرك نحن معه، أن العناية الإلهية تحيط بقصة الإنجيل. ولكن عدم إيمان اليهود لم يوقف تدبير الله للخلاص، بل دخل فيه كعنصر مكمل؛ فعدم إيمانهم وعنف رفضهم لم يزد عن أن يكون عثرة لهم وحدهم. فالصليب صار عثرة لليهود، ولكن اليهود لم يستطيعوا أن يكونوا عثرة للصليب.
«آيات هذا عددها»: من كلام القديس يوحنا يتبين لنا أنه كان ملما بآيات كثيرة جداً عملها الرب يسوع، ولكنه اكتفى بذكر بعض منها، وهي سبعة على وجه التحديد، رآها كافية لنؤمن على ضؤئها أن المسيح هو ابن الله:
‏الأولى: تحويل الماء إلى خمر_ الأصحاح الثاني.
الثانية: شفاء ابن خادم الملك - الأصحاح الرابع.
الثالثة: شفاء مقعد بيت حسدا - الأصحاح الخامس.
‏الرابعة.:إشباع الجموع من الخمس خبزات _ الأصحاح السادس.
الخامسة: السير على الماء _ الأصحاح السادس.
‏السادسة: شفاء المولود أعمى _ الأصحاح التاسع.
‏السابعة: إقامة لعازر من الموت بعد أربعة أيام _ الأصحاح الحادى عشر.
‏وفي ختام الكل أية قيامته من الأموات، مع علامات وآيات في السماء والأرض والبحر، لم يقصد بها المسيح أن يؤثر على إيمان الناس، ولكن لتُعلن فقط عن رسالته.
‏«ليتم قول إشعياء»: «ليتم» وتأتي في اليونانية بمعنى «ليكمل للملء». هنا لا يأتي يوحنا بالنبوة ليعلل بها تصرف بيت إسرائيل من نحو المسيح رجائهم، ولكن النبوة أتت لتغطي الفرغ المخيف الذي يتركه تصرف اليهود، في تفكير أي إنسان، من نحو معاملتهم للمسيح باعتباره أنه طابعهم وسلوكهم منذ القديم، وهذا لا غرابة فيه، فهو استمرار لتكميل مكيالهم (مت32:23).
‏«من صدق خبرنا؟ ولمن استعلنت ذراع الرب؟»: هذه آية إشعياء النبي (1:53), وهنا يجمع القديس يوحنا تعاليم الرب يسوع مع الآيات التي صنعها معاً، و«الخبر» هو التعليم بالكلمة ومقصده هو الإيمان» و«ذراع الرب» كناية عن القوات التي صنعها المسيح، وجاءت على مستوى الآيات أي بصفة إشارات تشير إلى لاهوت صانعها. والاثنان معاً كانا شهادة الله المنطوقة والمعمولة بواسطة ابنه. والاثنان أيضاً رُفضا، فالخبر لم يُصدق, والآية لم تفهم باعتبارها استعلاناً للمجد الإلهي لصاحبها.
‏«لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا»: هنا يتعرض القديس يوحنا إلى استحالة أخلاقية عند اليهود، موروثة عبر تذمرات بلا عدد أعلنوها في وجه الله، منذ أن كانوا في مصر، ثم في خروجهم من مصر، وفي وجه موسى. وكل قاض ونبي أتى بعد ذلك لم ينج من هياجهم م مقاومتهم: «قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقية أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها» (امل10:19). هذا كان صراخ إيليا، و يرد عليه القديس استفانوس الشهيد الأول: «يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائمأ تقاومون الروح القدس. كما كان اباؤكم، كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده اباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه، الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه» (أع51:7-53‏)
‏لهذا لم يستطيعوا أن يؤمنوا!! تركة ثقيلة جداً من مقاومة ورفض استعلانات الله على مدى الدهور, عيون أعماها عدم استعدادها للرؤيا، وآذان أصمها تكرار رفضها لصوت الله، وقلوب منعتها قساوتها عن الندم أو التوبة!!
‏«لأن إشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم, واغلظ قلوبهم, لئلا يبصروا بعيونهم, ويشعروا بقلوبهم, ويرجعوا فأشفيهم»: النص هنا من إشعياء (9:6-10)، ولكنه بالفحص، استقر العلماء أنه غير منقول لا من
‏النسخة السبعينية ولا من النسخة العبرانية الماسورتيك، والتي لجأ إليها كتاب الأسفار الأخرى.
فأما النسخة السبعينية والتى يتبعها كل من إنجيل متى وكاتب سفر الأعمال فهى ترد كالآتي: «فقد تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة تسمعون سمعاً ولا تفهمون. ومبصرين تبصرون ولا تنظرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ, واذانهم قد ثقل سماعها، وغمضوا عيونهم، لئلا يبصروا بعيونهم, ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم.» (مت14:13-15)
‏أما إنجيل القديس مرقس فجاءت فيه كالآتي: «لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا, ويسمعوا سامعين ولا يفهموا, لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم» (مر12:4)
‏والاختصار والتصرف هنا واضحان, ويرى العلماء أن النص يقترب من النسخة العبرية المأسورتيك.
‏النسخة العبرية الماسورتيك: «اجعل قلب هذا الشعب غليظاً، وثقل آذانهم، وأغمض عيونهم، لئلا ينظروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، فيعودوا ويُشفوا».
‏أما في سفر الأعمال، فإن كاتبه يتبع النسخة السبعينية حرفياً تقريباً: «حسناً كلم الروح القدس آباءنا بإشعياه النبي قائلاً: اذهب إلى هذا الشعب وقل ستسعون سمعاً ولا تفهمون، وستنظرون نظراً ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وبأذانهم سمعوا ثقيلاً، وأعينهم أغمضوها، لئلا يبصروا بأعينهم ويصغوا بأذانهم ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم». (أع25:28-27).
‏أما إنجيل القديس يوحنا فيبدو النص حراً لا يتبع السبعينية, وقد حول ما جاء في النسخة العبرية بصيغة الأمر الموجه للنبي، إلى تأكيد مخيف بعمل يضطلع به الله نفسه. فبدل «إغمض عيونهم» كأمر صادر للنبي، في النسخة العبرية، يأتي «غمضوا عيونهم»، كعمل قاموا به في أنفسهم؛ وما جاء في السبعينية جعله القديس يوحنا «قد أعمى عيونهم»، حيث الله هنا هو الذي يصنع بهم هذا كرد فعل لعصيانهم، «وأغلظ قلوبهم ... لئلا يرجعوا فأشفيهم.
‏ويلاحظ هنا أن القديس يوحنا أنهى النص على أساس أن المسيح هو الذي يشفيهم، وبذلك انتقل بالنبوة إلى الواقع بالنسبة للتاريخ الذي أُكمل على يديه! ومعناها: أني أعطيتكم فرصة لتروا وتشعروا بحقيقتي بكل الطرق فلم تستجيبوا، بل عاندتم، وقاومتم، وأسأتم إلى بلا سبب؛ ها أنا أطمس عيونكم، وأسد قلوبكم، وأقطع الرحمة عليكم فلا تعردون بعدد.
ونحن نخرج من الأوضاع المختلفة التي جاءت بها هذه النبوة بفكر واحدء وهو أن أخلاق الشعب اليهودي وملوكه مع الله اديا إلى انغلاق أعينهم عن رؤية استعلانات الله، وأصابا آذانهم بالثقل, فلم تعد تميز صوت الله أو تسمعه أصلاً. وانتهى الأمر بهم إلى أن قلوبهم فقدت الاحساسات والمشاعر التي يمكن أن تتفاعل مع محبة الله، وانتهى الأمر بأن حجز الله صوته عنهم. ويصدق فيهم القول: هذا ما جناه علي جهلي، وما جنى علي أحد. ولكن ليس من الهين مقاومة الله, لأن إمكانية التغيير والتوبة، مفتاحها في يد القدير، فإذا تمادى الإنسان أو الشعب في معاندة الله «أغلق الله عليهم في العصيان» (راجع رو32:11). وهنا يبدو الله وكأنه هو الذي أغمض عيونهم وسد آذانهم وقسى قلوبهم, بينما في الحقيقة أنهم هم الذين بعميانهم المستمر حرضوا أن يغلق عليهم فيما أغلقوا هم على أنفسهم من جهالة وحماقة. فستان أن يُقال أنهم أغمضوا عيونهم, أو أن الله أغمض عيونهم. فالذي لا يريد أن يرى الله او يسمعه لا يستطيع الله أن يظهر لهم ذاته أو يتكلم معه: «لماذا لا تفهمون كلامي. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي.» (يو43:8)
‏وهكنا انقلبت عدم الرغبة المستمرة في السماع لكلمة الله إلى عدم قدرة: «لا تقدرون أن تسمعوا».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
41:12 قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ.

القديس يوحنا هنا ينقل عن نسخة «الترجوم»، أو النسخة الأرامية. وهي التي جاء فيها نص (إش1:6) بدل «رأيت السيد (أدوناي) جالسا...»، جاء «رأيت مجد السيد (أدوناي)...». لأنه بحسب القديس يوحنا, وبالتال بحسب فكر المسيح, أن: «الله لم يره أحد قط» (يو18:1). وهذا هو التقليد القديم (الأرامي). وبهذا يكون القديس يوحنا بقوله: قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه»، قد فسر النبوة أيضاً على أساس أن إشعياء رأى «مجد المسيح» وتكلم عنه، باعتبار أن إشعياء كان يتنبأ عن المسيح وعن استعلان مجده، وأنه رأى المسيح على أنه هو «أدوناي». وفي نفس أصحاح إشعياء 5:6 يقول: «لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود». وفي الترجة الأرامية أي «الترجوم» تأتي هكذا: «لأن عيني رأتا شاكيناه الرب»، حيث الشاكيناه هي الحضرة المنيرة أو نور الله. وهو التعبير عن المسيح أيضاً باعتباره «نور الرب», «بهاء, شعاع مجده ورسم جوهره.» (عب3:1)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
42:12-43 وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ. لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ.

‏هنا يورد القديس يوحنا نوعاً من الإيمان يساوي عدمه, وهو الإيمان الفاقد الاعتراف أو الشهادة. وهذا إيمان مصاب بإصابة مرضية قاتلة، فهو يؤدي إلى الانكار, وهو أشر من عدم الإيمان.
‏أما السبب الذي جعل الايمان فاقداً الاعتراف والشهادة، فهوالخوف. والخوف بالنسبة للخطايا التي تحرم الإنسان من القيامة والحياة، يأتي في المقدمة كأخطر معوق: «وأما الخائفون, وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة, فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني» (رؤ8:21). ووضع الخوف هنا لا يغتفر، فهو ليس خوفاً على الحياة أو خوفاً من الآلام والتعذيب، بل الخوف لئلا يفقدوا كرامتهم ومجدهم الدنيويين, كأعضاء في مجمع اليهود!! الأمر الذي فضحه القديس يوحنا: «لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله»؛ وبهذا يكونون قد وضعوا الله في مركز أحط من مركزهم. وهذا وصفه المسيح هكذا: «كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الاله الواحد لستم تطلبونه.» (يو44:5)
‏ولكن هذا لا يمنع أن كثيرين آمنوا واعترفوا, والرسالة إلى العبرانيين هي رسالة مكتوبة إلى رؤساء وكهنة قبلوا الإيمان واعترفوا به:
+ «من ثم، أيها الإخوة القديسون, شركاء الدعوة السماوية, لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع.» (عب1:3)
‏ومكتوب أيضاً:
+ وكان «جمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان.» (أع7:6)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
42:12-43 وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ. لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ.

‏هنا يورد القديس يوحنا نوعاً من الإيمان يساوي عدمه, وهو الإيمان الفاقد الاعتراف أو الشهادة. وهذا إيمان مصاب بإصابة مرضية قاتلة، فهو يؤدي إلى الانكار, وهو أشر من عدم الإيمان.
‏أما السبب الذي جعل الايمان فاقداً الاعتراف والشهادة، فهوالخوف. والخوف بالنسبة للخطايا التي تحرم الإنسان من القيامة والحياة، يأتي في المقدمة كأخطر معوق: «وأما الخائفون, وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة, فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني» (رؤ8:21). ووضع الخوف هنا لا يغتفر، فهو ليس خوفاً على الحياة أو خوفاً من الآلام والتعذيب، بل الخوف لئلا يفقدوا كرامتهم ومجدهم الدنيويين, كأعضاء في مجمع اليهود!! الأمر الذي فضحه القديس يوحنا: «لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله»؛ وبهذا يكونون قد وضعوا الله في مركز أحط من مركزهم. وهذا وصفه المسيح هكذا: «كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الاله الواحد لستم تطلبونه.» (يو44:5)
‏ولكن هذا لا يمنع أن كثيرين آمنوا واعترفوا, والرسالة إلى العبرانيين هي رسالة مكتوبة إلى رؤساء وكهنة قبلوا الإيمان واعترفوا به:
+ «من ثم، أيها الإخوة القديسون, شركاء الدعوة السماوية, لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع.» (عب1:3)
‏ومكتوب أيضاً:
+ وكان «جمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان.» (أع7:6)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
ملخص لإنجيل الاستعلان (44:12-50)
‏بعد أن ختم إنجيل يوحنا على أقوال المسيح، وبعد أن سجل في يوميات المسيح أنه «مضى واختفى عنهم» (يو36:12)، عاد وسجل بعضاً من أقوال المسيح أتت بصورة جديدة غير مكررة، وبتلخيص جميل ومركز للمبادىء العامة: النور, والدينونة، والحياة. ويختص جزؤها الأول بالمؤمنين وعلاقتهم مع المسيح، وبالتالي مع الآب, والجزء الآخر يختص بغير المؤمنين، وكيفية وقوع الدينونة عليهم.

44:12-45 فَنَادَى يَسُوعُ: «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. والَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي.»

‏«فنادى»: وتأتي في اليونانية «صرخ»، والمعنى ليس مجرد مناداة، فالمسيح هنا ليس في موقف تعليم بين الناس.
‏وكلمة «يصرخ» في العهد الجديد عامة تفيد الانفعال العاطفي في صورة نطق. وقد جاءت في مواضع متغيرة لمواقف وأشخاص متباينة جداً.
‏فصراخ الجموع المنفعلة بالفرح هو ( ): «والذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين أوصنا» (مر9:11)؛ وصراخ الجموع الغاضبة هو ( ): «فصرخوا أيضاً أصلبه» (مر13:15‏)؛ وكذلك الصراخ لطلب المعونة: «ابتدأ يصرخ ويقول يا يسوع ابن داود ارحمني» (مر47:10‏)؛ كما جاءت أيضاً بخصوص يوحنا المعمدان: «يوحنا شهد له ونادى (صرخ) (يو15:1). ولكن القديس يوحنا حصر كلمة ( ) في معنى الإعلان دون الانفعال أو مجرد الصراخ.
‏لم ترد مثل هذه الأقوال سابقاً في تعاليم المسيح، فهي صياغة جديدة لمجمل أقوال المسيح.
‏والمسيح في هاتين الآيتين يربط ربطاً وثيقاً, مع التأكيد, بين الآب وبين كل من يؤمن به، وكذلك بين الآب وبين كل من يراه رؤية الاستعلان الإيماني, كابن الله, وليس رؤية العين.
‏وهدف المسيح من ذلك عدم الفصل بين اختبار الإيمان به واختبار الإيماذ بالآب، باعتبار أن ذات الآب وذات الآبن ذات واحدة وجوهر إلهي واحد. فالإيمان بالمسيح هو الإيمان بالله، لأن الابن والآب واحد: «أنا والآب واحد» (يو30:10)، وهذا هو الإيمان المسيحي، فالمسيح والآب ذات واحدة, ولاهوت واحد، آب وابن معاً، وانما شخصان هما أو أقنومان.
‏علماً بأن اختفاء المسيح باستمرار وراء من أرسله، قولاً وعملاً، هو محاولة جد خطيرة للاحتفاظ بوحدانية الفكر والمشيئة والعمل والقول بين الابن المرسل والآب المُرسيل، لأن هذا هو صميم جوهر اللاهوت، فلا ثنائية في الله قط.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
46:12 أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ.

‏أن يعرف الإنسان حقيقة الله، فهذا هو النور. فالله نور، بمعنى «الحق المدرك الكامل», وكل إدراك لله هو إدراك للحق، وإدراك جزئي للكمال، لأن الحق في الله لا يُدرك كماله، فهو فائق على كل الإدراكات. لذلك، من يستنير بمعرفة الله، يظل كلما يمتد في نوره يمتد في معرفته، ومعرفة كل شيء إلى مالانهاية.
‏والمسيح جاء ليستعلن ذات الله المخفية، ويستعلها في ذاته هو، أي في شخصه، لأنه ابن الله الوحيد الحامل لكل حقيقة الله في ذاته؛ لذلك، فبتجسده دخل نور الله إلى العالم، فصار نور الله, أو حق الله, مُستعلناً ومُدركاً للإنسان. علمأ بأن معرفة حقيقة الله في ذاته، وهي اكتشاف ذات الله كآب وابن، هي النور الحقيقي، أو الحق المنير الذي لا يمكن أخذه أو إدراكه كمعلومة أو كمعرفة قائمة بذاتها منفصلة عن ذات الله، هذا أمر مستحيل. فكل معرفة حقيقية عن الله بدون الاتصال الفعلي بالله، هي معرفة الظل، وليست معرفة النور. ولكن المسيح أعطانا معرفة الآب في ذاته هو: «الذي رآني فقد رأى الآب» و «أنا والآب واحد» (يو9:14 و 30:10)؛ وذلك بالإتصال والاتحاد الروحي بشخصه: «بنورك نرى نوراً» (مز9:36)، «من التصق بالرب فهو روح واحد» (1كو17:6)
وهكذا جعل المسيح الطريق إلى الله عبر نفسه التي وضعها على المستوى الإفخارستي هكذا: «من يأكلني فهو يحيا بي» ‏(يو57:6). فالمسيح هو نور العالم، وذلك لحساب الله، بمعنى أن حياته وكلماته هي الاستعلان الدائم لله. على أن الوصول النهائي إلى الله نبلفه، إن بلغنا مستوى الاتحاد بالمسيح: «لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه (شخص‏) يسوع المسيح.» (2كو6:4‏)
‏ومعروف أن الله ليس فيه ظلمة البتة، بمعنى أن الله حق مطلق، والحق هو الضد للباطل، والباطل هو كل ما يتغير إلى زوال.
‏لذلك، فكل من يؤمن بالمسيح، أي يتحد به بالروح، يعيش بالحق، ولا يطيق حتى شبه الباطل، إنه يتغير إلى النور، ولا يتغير قط إلى الباطل: «وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه، ونخبركم به, أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. إن قلنا إن لنا شركة معه, وسلكنا في الظلمة، نكذب، ولسنا نعمل الحق.» (ايو5:1-6)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
47:12 وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ.

‏اتفق معظم علماء الكتاب المقدس، بل وعلماء المخطوطات، أن القراءة الصحيحة لهذه الآية هي كالأتي: «إن سمع أحد كلامي، ولم يحفظه ‏(guard)»، لأن السمع لكلام المسيح جاء هنا إيجابياً، بمعنى أنه سماع وفهم. فالمفروض أن يأتي بعده إما حفظ أو اهمال، إما قبول أو رذل.
‏والأن، وبعد أن أوضح المسيح أنه جاء نوراً للعالم حتى كل من يؤمن به لا يمكث في الظلمة، يعود ويأتي باللوم على من لا يحفظ كلامه ، إذ هو كلام الله وهو روح وحياة؛ وهو، بحسب القديس بولس الرسول، السيف ذو الحدين، الذي يخترق ويميز أفكار القلب ونياته، حتى إلى مفارق النفس والروح، فهو ميزان القلوب والأفكار. فكلام السيح، بحد ذاته، لأنه نور، فهو يحمل قوة الكشف والإدانة؛ فكل من لا يحفظه، سيقع تحت كشف النور، لذلك فهو حتماً سيدين نفسه على ضوء الكلمة اللوغس التي سمعها ورفضها.
ولكن المسيح وعد أنه لن يدين, بمعنى يعاقب, من لا يحفظ كلامه، ولكن الكلام نفسه سيدينه، لأن عمله الأساسي بالنسبة للعالم هو عمل الخلاص والحياة والإنارة وليس الدينونة.
‏قد يلاحظ القارىء التقليدي الملم بعقيدة الكنيسة أن قانون الإيمان ينص مراحة وبوضوح على أن المسيح سيأتي في ملكه «ليدين الأحياء والأموات» وهنا يبدو أنه توجد مناقضة بينه وبين هذه الآية ومثيلاتها (يو15:8, يو17:3). ولكن لكي نزيل هذا التعارض، يلزمنا أن نعيد فهم كلمة «يدين»، فهي لا تعني الحكم بالعقاب أو إيقاع غير المؤمنين تحت التأديب أو التغريم, بل تعني مجرد التمييز أو التفريق، أي التمييز بين المستحق وغير المستحق للحياة الأبدية، وهذا يتم بفعل النور. فالمسيح بصفته نور العالم ونور الحياة، فقد جاء ليميز بين أبناء النور الذين قبلوا النور، وأبناء الظلمة الذين رفضوا النور. والمسيح نور وحياة معاً، لذلك يكرر المسيح باستمرار أنه جاء إلى العالم كنور وحياة, لتخليص العالم من الظمة، وليس ليحكم على العالم. ولكن لأن المسيح نور، والعالم ظلمة، فبالضرورة ودون قصد منه، فضح الظلمة لأنه دان أي ميز النور عن الظلمة، والظلمة لم تطقه.
‏وهذا واضح جداً في فهم بولس الرسول لمعنى الدينونة بالنسبة للظلمة والنور: «لأنكم كنتم قبلاً ظلمة, وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور... ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبخوها... ولكن الكل إذا توبخ، يظهر بالنور، لأن كل ما أُظهر، فهو نور. لذلك يقول: استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات, فيضيء لك المسيح.» (أف8:5-14)
‏المسيح هنا هو المضيء والمنير في مواضع العالم المظلمة, وهو بالتالي الموبخ والمميز بين أعمال الظلمة وأعمال النور، بين النائم الميت وبين اليقظ الحي.
‏هذا فو عمل المسيح، كديان العالم, وديان الأحياء والأموات. بمعنى أنه عندما يضيء على النائم والميت بالخطيئة، العائش في الظلمة, يدينه في الحال ويوبخه، فيبتدىء النائم في الخطية والميت بسمها يميز بين الظلمة التي يعيشها وبين نور المسيح، فيستيقظ ويضيء له المسيح فيحيا، لأن المسيح هو النورالمحيي: «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس».
‏فالمسيح جاء نوراً للعالم, وفي الحال صار نور المسيح (الكلام والتعليم) بمثابة دينونة للعالم، ليس على أساس القضاء السلبي والهدم, بل على أساس التمييز والتفريق الإيجابي بين ما هو للنور وما هو للظلمة:
+ «فقال يسوع لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يبصرون (محبو النور) ويعمى الذين يبصرون (مبغضوا النور)» (يو39:9)
‏وقد شرح القديس يوحنا معنى الدينونة وفعلها بوضوح في قوله: «وهذه هي الدينونة, أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة.» (يو19:3-21‏)
‏إذن، فالدينونة التي صارت بمجيء المسيح, كنور، ليست هدامة أو سلبية، بل إيجابية مطلقة وخالقة ومحيية، ولكنها مميزة تمييزاً حاداً وقاطعاً بين الحق والباطل، بين الخير والشر. وهكذا أصبح نور المسيح، أي «كلامه» دياناً للأحياء والأموات. فبالنسبة للأحياء، فالدينونة (أي النور، أي كلام المسيح) تستعلن استحقاقهم للحياة، وفي نفس الوقت تفرز الأموات الرافضين للمجيء إلى النور، فيدركون من أنفسهم أنهم غير مستحقين للحياة: «فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين، وقالوا له: ألعلنا نحن أيضأ عميان» (يو41:9). فإن كانت الدينونة قائمة منذ الآن،
‏فهي ستستعلن بصورة شاملة في اليوم الأخير.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
48:12-50 مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ, لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ»

رذل المسيح هو درجة أحط من الدرجة السابقة, فليس هنا عدم سماع لكلمة المسيح وحسب بل رفض وعدم قبول, وهذا ناتج من رذل شخص المسيح، حيث الرذل هنا يحمل معنى الإزدراء، وهي خطية عامدة متعمدة، تدخل تحت السلوك الأخلاقي الردىء الذي هو أشر من عدم الإيمان ومضاف إليه.
‏هنا كلمة المسيح بالمفرد «اللوغس» يفرزها المسيح لتقوم بحد ذاتها بالشهادة والإدانة ضد من لم يقبلها، وبالأكثر والأخطر ضد من يرذل أو يزدري بشخص المسيح. فكلمة المسيح بقدر ما تقدس، وتطهر، وتحيي، وتلد من جديد وتحرر؛ فهي لها جانبها الخطر, لأن الذي يُحيي بسلطان كلمته, هو بسلطان كلمته أيضاً يُميت؛ والكلمة التي لها قوة الخلاص لها بالضرورة قوة الدينونة.
‏وكلمة المسيح، التي هي الآن وعلى طول المدى تذكر وتبكت، في النهاية ستحكم حتماً وتدين «في اليوم الأخير». وهذا التحذير الأخير الذي يعلنه الرب لسامعيه، هو ما جاء بالنص في سفر التثنية كنبوة عن المسيح: «أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه, فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسميء أنا أطالبه.» (تث18:18-19)
‏ويلاحظ هنا، في نبوة موسى عن المسيح، أنه لا يدين، بل الآب هو الذي يدين: «أنا أطالبه». كما يلاحظ التكرار فيما يخص الكلام:
فأولاً: «الآب يضع كلامه في فمه»
وثانياً: «يتكلم بكل ما أوصيه به»
ثالثاً: الذي لا يسمع لكلامي»
‏رابعاً: «الذي يتكلم به باسمي».
‏ويكاد هذا التكرار يطابق التكرار الذي أعلنه المسيح:
أولاً: «إن سع أحد كلامي ولم يؤمن...».
‏ثانياً: «من رذلني ولم يقبل كلامي...».
ثالثاً: «الكلام الذي تكلمت به, هو يدينه في اليوم الأخير».
‏رابعاً: «لأني لم أتكلم من نفسي».
‏خامساً: «الآب الذي أرسلني أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم».
‏سادساً: «وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية».
سابعاً: «فما أتكلم أنا به, فكما قال لى الآب, هكذا أتكلم».
كلام المسيح
«إن سمع أحد كلامي» ...
‏«فما أتكلم أنا به، فكما قال لى الآب هكذا أتكلم».
‏«من رذلني ولم يقبل كلامي، فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به هو يدينه».
«الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم».
‏«وأنا أعلم أن وصيته هى حياة أبدية»
‏كلام موسى
«يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون.» (تث15:18)
‏«الإنسان الذي لا يسمع لكلامي (أنا) ‏الذي يتكلم به (هو) باسمي» ‏«أنا أطالبه» (تث19:18)
كلام الله يدينه« (ممرا إلوهيم بحسب الترجوم النسخة الأرامية).
‏«وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» (تث18:18)
‏«أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكي توصوا بها أولادكم ... لأنها هي حياتكم.» (تث46:32-47
كما يلاحظ الباحث أن الوارد في سفر التثنية (النسخة السبعينية) من جهة «أنا أطالب»، أي «أنا أنتقم»، أي الدينونة التي يضطلع بها الآب، جاءت في نسخة الترجوم (الأرامية) أن الذي سينتقم ليس «أنا» بل «كلام الله». «ممرا إلوهيم». وهو المطابق لما قاله المسيح في إنجيل يوحنا: «الكلام الذي تكلمت به (وهو كلام الآب) هو يدينه في اليوم الاخير». وما جاء في التوراة مطابقاً لما قاله المسيح يدعو للدهشة، لأن الله كرر مراراً أن كلام التوراة أي كلامه سيكون شاهداً عليهم (أي سيدينهم):
‏«خذوا كتاب التوراة هذا، وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم, ليكون هناك شاهدا عليكم, لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هوذا، وأنا بعد حي معكم, اليوم، قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي.»(تث26:31-27‏)

‏كما يلاحظ الباحث أن الله كلم موسى بهذا الكلام وأوصاه أن يقول لبني اسرائيل قبل موته مباشرة وبعد أن أكمل كتابة التوراة: «وقال الرب لموسى هوذا أيامك قد قربت لكى تموت ... فالأن اكتبوا لأنفسكم هذا النشيد, وعلم بني إسرائيل إياه, ضهه في أفواههم. فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، فيكون هناك شاهداً عليكم.» (تث14:31-26)
فإذا عدنا إلى كلام المسيح في إنجيل يوحنا بخصوص سماع كلامه وحفظه، وأنه «كلام الآب», «ووصية الآب», وأن الكلام الذي قاله هو شاهد عليهم وسيدينهم في اليوم الأخير، نجد التطابق الشديد، ليس في نص الكلام فقط، بل وفي المناسبة، لأن المسيح قال هذا في نهاية خدمته، وقبل أن يموت مباشرة، إذ نقرأ بعد هذا الكلام مباشرة: «أما يسووع قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت ...» (يو1:13)
‏من هذا يتضح, بأبلغ بيان، أن اختيار القديس يوحنا هذا الموضع المناسب لكلام المسيح في نهاية الأصحاح الثاني عشر, أي قبل موته مباشرة, جزء أساسي وهام جدأ من خطة تنسيق الإنجيل, وليس كما طلع علينا النقاد أن هذا الكلام غير مناسب وليس له موضع في هذا الأصحاح، وعلى حد قولهم أنه إضافة غريبة من وضع كاتب آخر غير القديس يوحنا!! وأنه جاء غير مناسب في نهاية سرد حياة المسيح؛ ولكن ورود هذه الوصية على فم المسيح، في نهاية سرد القديس يوحنا لحياة المسيح، تجيء محكمة غاية في الحكمة والاحكام، ومتوازية تماماً مع ما جاء في نهاية سيرة موسى النبي وقبل موته مباشرة وعن المسيح أيضاً، وهذا بحسب رأيى إعجاز يضع صياغة إنجيل يوحنا على مستوى الإلهام الرفيع الذي يهز القلوب ويبهرها.
‏والذي يسترعي انتباهنا أيضاً هنا، في ختام خدمة المسيح، تكرار كلمة «الكلام» سبع مرات في ثلاث آيات, مع توضيح أن كلمة «الكلام» باللغة العربية في هذه الآية: «الكلام الذي تكلمت به، هو يدينه في اليوم الأخير»، لم تأت بصيغة الجمع بل بصيفة المفرد, الكلمة». اللوغس فالذي سيدين هو «الكلمة» اللوغس.
‏نستخلص من هذا أنه، كما بدأ إنجيل القديس يوحنا بـ «الكلمة» في البدء، انتهى بـ «الكلمة» في النهاية كديان. ولكي يضع ذلك أمام ذهن القارىء‏، نورد أول آية يفتتح بها القديس يوحنا إنجيله، وأخر كلمة ينهي بها سرد روايته «في البدء كان الكلمة» ...... «الكلام (الكلمة اللوغس) الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير.»
هذه هي أيضأ لفتة من اللفتات التي تجعلنا على قناعة أن وراء قلم القديس يوحنا روحاً يشهد ويملي ويبدع!

تم الأصحاح الثانى عشر
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الأصحاح الثالث عشر

أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآب إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ. يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآب قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي. قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا. ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ». فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟. أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ. لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ. لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لَكِنْ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ: الَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ. أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي والَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هَذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ وَشَهِدَ وَقَالَ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي». فَكَانَ التّلاَمِيذُ يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَهُمْ مُحْتَارُونَ فِي مَنْ قَالَ عَنْهُ. وَكَانَ مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ. فَاتَّكَأَ ذَاكَ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ». فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ. فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ». وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِه. لأَنَّ قَوْماً إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ. فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ: «الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً. يَا أَوْلاَدِي أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ. وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ». أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الجزء الرابع: إنجيل المحبة
العشاء الأخير وأحاديث الوداع مع التلا ميد الأخصاء
‏من الأصحاح الثالث عشر إلى الأصحاح السابع عشر

‏في هذه الأصحاحات، يرتفع القديس يوحنا في تسجيلاته إلى أعلى خصائص أسلوبه الروحي في التعبير عن المحبة, حيث لا يتخللها ما يجرح المحبة ويدميها إلا التنويه عن خيانة يهوذا، أحد المحبوبين الذي باع المحبة وذبحها.
‏ويمكن تقسيم ما جاء في هذه الأصحاحات إلى:
1- آخر أعمال المحبة وتاجها، وجرحها القاتل: (الأصحاح 13).
2- الأحاديث الأخيرة، والمواعيد السخية: (الأصحاحات 14- 15 - 16).
3- صلاة التكريس، والوجه متجه نحو السماء: (الأصحاح 17).
‏وأهم محتويات هذه الأجزاء هي:
‏عشاء المحبالقديس(1:13-20)
+ «إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى»
+ قام عن العشاء‏، وخلع ثيابه، وابتدأ يغسل أرجل تلاميذه ...
+ فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض ...
+ ليس رسول أعظم من مرسله.
‏فرز الخائن: «فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا» (26:13).
الوصية الجديدة: وصية المحبة (34:13-35)
التحذير لبطرس (36:13-38)
‏حديث الوداع: الذهاب والعودة . (الأصحاح 14).
+ «أنا أمضى لاعد لكم مكاناً ... (ثم) آتي أيضاً وآخذكم إلي».
+ «أنا هو الطريق، والحق، والحياة».
+ «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بى».
+ «الذي رآني ، فقد رأى الآب».
+ «أنا في الآب، والآب في».
+ «إن كنتم تحبونني ، فاحفظوا وصاياي».
+ « أنا أطلب من الآب، فيعطيكم معزياً آخر, ليمكث معكم إلى الآبد».
+ «لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم».
+ «إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً».
+ «سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم».
‏حديث الوداع الثاني: الوحدة العضوية مع المسيح : (الأصحاح 15).
+ «أنا الكرمة الحقيقية، وأبي الكرام».
+ «أنا الكرمة، وأنتم الأغصان».
+ «كما أحبني الآب، كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي».
+ «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضا، كما أحببتكم».
+ «أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به».
+ «إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم».
+ «ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عد الآب يبثق، فهو يشهد لى وتشهدون أنتم أيضاً».
‏حديث الوداع الثالث: الانطلاق والعودة: (الأصحاح 16).
+ «إنه خير لكم أن أنطلق, لأنه إن لم أنطلق، لا يأتيكم المعزي».
+ «ولكن إن ذهبت أرسله إليكم».
+ «ومتى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق».
+ «سأراكم أيضاً (ثانية)، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم».
+ «كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم».
+ «تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضاً بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية»
+ «الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني».
+ «تأتي ساعة تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي».
‏ختام أحاديث الوداع. (33:16).
+ «كلمتكم بهذا ليكون لكم فى سلام
+ في العالم سيكون لكم ضيق
+ لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم».
‏صلاة المسيح التي غيرت مجرى الدهور: (الأصحاح 17)
‏صلاة المسيح رفعت الإنسان إلى أعلى من رتبته الأولى: (21:17-24)
صلاة المسيح سلمت الإنسان المفدى صك الحياة الأبدية: (2:17).
‏صلاة المسيح فتحت معرفته وقدسته لاستيعاب طبيعة الله في ذاته: (3:17 و17 و26)
صلاة المسيح استعلنت وحدة أبوة وبنوة الله في ذاته: (5:17 و10 و21).
‏صلاة المسيح أدخلت الإنسان الجديد في الوجود الإلهي الفائق، ليفقد أنانيته وتفتنه إلى الأبد: (21:17و23)
‏صلاة المسيح أنعمت عليه بحب الآب، بوساطة الابن الوحيد، ليعيش فيه التبني: (23:17-26)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الجزء الرابع: إنجيل المحبة
العشاء الأخير وأحاديث الوداع مع التلا ميد الأخصاء
‏من الأصحاح الثالث عشر إلى الأصحاح السابع عشر

‏في هذه الأصحاحات، يرتفع القديس يوحنا في تسجيلاته إلى أعلى خصائص أسلوبه الروحي في التعبير عن المحبة, حيث لا يتخللها ما يجرح المحبة ويدميها إلا التنويه عن خيانة يهوذا، أحد المحبوبين الذي باع المحبة وذبحها.
‏ويمكن تقسيم ما جاء في هذه الأصحاحات إلى:
1- آخر أعمال المحبة وتاجها، وجرحها القاتل: (الأصحاح 13).
2- الأحاديث الأخيرة، والمواعيد السخية: (الأصحاحات 14- 15 - 16).
3- صلاة التكريس، والوجه متجه نحو السماء: (الأصحاح 17).
‏وأهم محتويات هذه الأجزاء هي:
‏عشاء المحبالقديس(1:13-20)
+ «إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى»
+ قام عن العشاء‏، وخلع ثيابه، وابتدأ يغسل أرجل تلاميذه ...
+ فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض ...
+ ليس رسول أعظم من مرسله.
‏فرز الخائن: «فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا» (26:13).
الوصية الجديدة: وصية المحبة (34:13-35)
التحذير لبطرس (36:13-38)
‏حديث الوداع: الذهاب والعودة . (الأصحاح 14).
+ «أنا أمضى لاعد لكم مكاناً ... (ثم) آتي أيضاً وآخذكم إلي».
+ «أنا هو الطريق، والحق، والحياة».
+ «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بى».
+ «الذي رآني ، فقد رأى الآب».
+ «أنا في الآب، والآب في».
+ «إن كنتم تحبونني ، فاحفظوا وصاياي».
+ « أنا أطلب من الآب، فيعطيكم معزياً آخر, ليمكث معكم إلى الآبد».
+ «لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم».
+ «إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً».
+ «سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم».
‏حديث الوداع الثاني: الوحدة العضوية مع المسيح : (الأصحاح 15).
+ «أنا الكرمة الحقيقية، وأبي الكرام».
+ «أنا الكرمة، وأنتم الأغصان».
+ «كما أحبني الآب، كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي».
+ «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضا، كما أحببتكم».
+ «أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به».
+ «إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم».
+ «ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عد الآب يبثق، فهو يشهد لى وتشهدون أنتم أيضاً».
‏حديث الوداع الثالث: الانطلاق والعودة: (الأصحاح 16).
+ «إنه خير لكم أن أنطلق, لأنه إن لم أنطلق، لا يأتيكم المعزي».
+ «ولكن إن ذهبت أرسله إليكم».
+ «ومتى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق».
+ «سأراكم أيضاً (ثانية)، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم».
+ «كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم».
+ «تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضاً بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية»
+ «الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني».
+ «تأتي ساعة تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي».
‏ختام أحاديث الوداع. (33:16).
+ «كلمتكم بهذا ليكون لكم فى سلام
+ في العالم سيكون لكم ضيق
+ لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم».
‏صلاة المسيح التي غيرت مجرى الدهور: (الأصحاح 17)
‏صلاة المسيح رفعت الإنسان إلى أعلى من رتبته الأولى: (21:17-24)
صلاة المسيح سلمت الإنسان المفدى صك الحياة الأبدية: (2:17).
‏صلاة المسيح فتحت معرفته وقدسته لاستيعاب طبيعة الله في ذاته: (3:17 و17 و26)
صلاة المسيح استعلنت وحدة أبوة وبنوة الله في ذاته: (5:17 و10 و21).
‏صلاة المسيح أدخلت الإنسان الجديد في الوجود الإلهي الفائق، ليفقد أنانيته وتفتنه إلى الأبد: (21:17و23)
‏صلاة المسيح أنعمت عليه بحب الآب، بوساطة الابن الوحيد، ليعيش فيه التبني: (23:17-26)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
مكان البشاره: أورشليم للمره الاخبره
خدمة المحبة: غسل الأرجل
أ‌- الرب يقوم عن العشاء، ليغسل أرجل تلاميذه، لتكريسهم للخدمة، كنموذج لما ينبغي أن تكون عليه المحبة بين المرسلين، وما هوا لاتضاع، كسر الكمال للكرازة والرسالة (1:13-20)
ب‌- الرب يكف مسبقاً عن خيانة يهوذا. ويعطي يوحنا علامة خاصة ليتعرف عليه (21:13-33)
ت‌- الوصية الجديدة: المحبة (34:13-35).
ث‌- الرب يحذر بطرس من تجربة الانكار التي سيسقط فيها (36:13-38).
بذل المحبة (1:13-20)
في صميم سر العشاء، ومن جوهر لاهوت الإفخارستيا، يقدم إنجيل يوحنا سرده التاريخي الفريد لطقس «غسل الأرجل» كنموذج حي لكرازة المحبة، في جو روحي مشبع بالعواطف. والرواية تمتاز بالدقة الحركية والحيوية الناطقة، وتسودها شفافية المسيح الحساسة والرقيقة والخجولة في إشارته نحو التلميذ الخائن الذي اندس وسط الأطهار. كمأ يظهر القديس بطرس، بملامحه المتدفقة حيوية، سواء في اندفاعه أو في إحجامه .
‏ورواية غسل الأرجل تنقسم إلى قسمين: قسم يسرد عملية غسل الأرجل بملابساتها (2-11‏)، والقسم الآخر يسرد ‏الدرس المتحصل منها (12-20)

1:13 أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى.

‏قبل الفصح: الحديث عن زمن العشاء الأخير الذي حدده إنجيل يوحنا قبل الفصح أي قبل 14 نيسان، وهو يختلف في ذلك عن الثلاثة الأناجيل الأخرى التي حددته بوقت الفصح نفسه، أي أن عشاء الفصح كان في 14 نيسان.
‏ولكن سواء إنجيل يوحنا أو الأناجيل الثلاثة الأخرى فكل منها كان يجتهد لإثبات أن الفصح اليهودي قد أكمل والى الأبد سواء بهذا العشاء الأخيرا لذي ذبح فيه المسيح نفسه بالنية، أو بذبح المسيح فعلاً على الصليب على أيدي اليهود، عوض خروف الفصح.
‏ومن جهة القديس يوحنا، فقد أكد أن الفصح الحقيقي, الذي كانت كل أعياد الفصح السابقة رمزا له, قد أُكمل والى الأبد بذبح «حمل الله» يسوع المسيح، على الصليب لرفع خطايا العالم؛ وذلك في نفس ميعاد ذبح خروف الفصح في 14 ‏نيسان، ليصح المسيح فصح الدهور كلها: «الخروف القائم في السماء كأنه مذبوح». وهذه الصورة الفصحية الدائمة للمسيح في السماء، باعتباره خروف الفصح الأبدي، ملأت كل رؤيا القديس يوحنا حيث ظهر المسيح بصورته الفصحية هذه، كخروف الفصح، ما يقرب من خمس عشرة مرة!!
‏وحتى الكنيسة المعتبرة جسده, ظهرت في الرؤيا كامرأة «الخروف» التي جُبلت من ضلعه، بل «من لحمه وعظامه». بل من دم صليبه، ورآها القديس يوحنا متهيئة ومزينة بصلوات وتبررات القديسين, وأنها وشيكة الظهور معه: «لنفرح ونتهلل ونعطه المجد، لأن عرس الخروف (استعلان الملكوت الأخير) قد جاء، وامرأته هيأت نفسها، وأعطيت أن تلبس بتزا (كتان أبيض وهو لباس خدمة الكهنوت ) نقيا بهيا، لأن البز هو تبررات القديسين.» (رؤ7:19-8)
‏والعجيب جداً أن الكنيسة المجيدة المحبوبة والمعشوقة لدى عريسها «الخروف» الفصحي، الذي ذُبح من أجلها فامشتراها بدمه وولدها من روحه يوم 14 نيسان، هي نفسها التي رأها القديس يوحنا في رؤياه بصورة أورشليم الجديدة عينها، مدينة الملك العظيم, وطن القديسين, بأسوارها الكريمة وأبوابها اللؤلؤية: «تُسمين أسوارك خلاصاً وأبوابك تسبيحاً» (إش18:60)؛ «ثم جاء إلي واحد من السبعة الملائكة... وتكلم معي قائلاً: هلم فأريك العروس امرأة الخروف. وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عال، وأراني المدينة العظيمة، أورشليم المقدسة، نازلة من السماء من عند الله. (لها) مجد الله... ولم أر فيها هيكلاً, لأن الرب... والخروف هيكلها... والخروف سراجها... ولن يدخلها شيء دنس، ولا ما يصنع رجساً وكذباً، إلا المكتوبين في سفر حياة الخروف !!» (رؤ9:21-27)
‏لقد تجلى المسيح في سفر الرؤيا، ليأخذ أقصى صورة للفداء والخلاص الذي أكمله على الصليب في 14 نيسان, أمام عيني التلميذ المحبوب، ليظهر في سفر الرؤيا بشكل خروف الفصح, كأعمق تعبير عن بذل المحبة الدائم والخالد والأبدي, وكصفة ثابتة أزلية للمسيح «الفادي».
«وهو عالم أن ساعته قد جاءت, لينتقل من هذا العالم إلى الآب»: القديس يوحنا يتكلم عن «علم» المسيح، ليس كأنه وليد الظروف والحوادث، بل هو العلم الفائق على الزمن وحوادثه، فهو العلم الكلي الذي يرى ويفحص كل الدهور، وما وراء الدهور، كل ما للانسان، وكل ما ما لله بآن واحد. لذلك تأتي الكلمة كحال دائم «هو عالم» بصورة العلم المطلق. وأمام الحوادث القادمة، يقف علم المسيح المسبق، لا كمحرك للحوادث، بل كمصور للآلام القادمة في نفسه ليعطيها مزيداً من الواقعية، وقد استخدم المسيح علمه بآلامه, المزمع أن تكون، ليستعلن لاهوته، ويكشف عن صدق حبه لأخصائه, الذي هو مزمع أن يتركهم في العالم ليمضي هو إلى الآب. ثم طرح آلامه المزمعة وراء ظهره، ليتفرغ لتعزية أحبائه ويمارس عمل محبته.
‏«ساعته قد جأءت»: ‏قبل أن «تأتي ساعته» لم يكن لأحد عليه سلطان. وطالما رفع أعداؤه الأيدي بالحجارة، ولكن أن يكملوا مشيئتهم فهذا مستحيل، ولكن الآن «أتت الساعة» فانفك قيد سلطانهم الأثيم، وانطلقت حريتهم الشريرة ليصنعوا كل ما شاءوا: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (لو53:22)
‏وهكذا يبدو مجيء الساعة وكأنها حتمية، ولكن الحتمية الزمنية لا تخضع إلا لمشيئة الله: «لأن الرب يصنع أمراً مقضياً به على الأرض» (رو28:9). وقضاء الله وحتمياته ذو غايات وأهداف. فحتمية الله لا بد وأن تنشىء حتمية، فحتمية الساعة (الموت) كان وراءها بالضرورة حتمية القيامة: «لأنهم لم يكونوا، بعد, يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم مم الأصوات.» (يو9:20)
‏والترجمة العربية «ينبغي» يلزم هنا أن تكون «حتماً». فالقيامة بالنسبة للمسيح المسجى في القبر ليست هي أمراً لائقاً وحسب, بل هي أمر حتمي بأقصى ما تكون الحتمية.
‏في إنجيل القديس لوقا نجد المسيح يسير نحو هذه «الساعة» متجهاً إليها بكل مشيئته: «وحين تمت الأيام لارتفاعه، ثبت وجهه لينطلق إلى أورشثليم» (لو51:9‏). فهو لم يكن عالماً بها وحسب، بل وكان يريدها، بل جاء من أجلها: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة» (يو27:12). كان المسيح يتجاوز مرارتها بسهولة لأنه كان يتطلع إلى غايتها السعيدة: «لينتقل إلى الآب», «الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي.» (عب2:12)
‏لم يقلق المسيح من مجيء «الساعة»، فقد غطى حبه لأخصائه كل مرارة ما قبلها. وحبه للآب غطى ما بعدها، أما الساعة نفسها فكانت فرصته العظمى ليكشف حباً: «ليس لأحد حب أعظم من هذا» (يو13:15), حيث سيرى العالم سلطانه الفريد, كيف سيضع نفسه من أجل من أحبهم إلى المنتهى, وكيف سيأخذها مستهيناً بالموت وظلام القبر وظلم القاتلين. وحينئذ ستصبح «الساعة» بكل آلامها سجل مجد في السماء وسجل شرف في الأرض، يتوق ملوك ورؤساء وأنبياء كثيرون لو يفوزوا بوضع إمضائهم على صفحاته، شهوداً أو شهداء، ليحسبوا من أبناء هذه «الساعة».
‏فالأن، لو نظرنا إلى هذه «الساعة» وما تحمله من معان ومفاعيل وعواطفت مزدحمة، لوجدنا أنها لحظة القمة في حياة المسيح، فهي ساعة العودة إلى الآب، إلى الحضن الأبدي، حيث المجد القائم من قبل إنشاء العالم، وهي ساعة ختام مسيرة الحب بين الرفاق، الحب إلى المنتهى أو الذى بلا نهاية، وهي ساعة الضربة القاضية لدحر سلطان الموت والخطية لخلاص الإنسان, الساعة التي رأتها كل الأجييال السالفة بالرؤى والأحلام، فنظروها من بعيد وحيوها (عب13:11). وقد سلح الآب ابنه بكل سلطانه الخاص. «قد دفع كل شيء إلى يديه» (يو3:13)، حتى اسمه الخاص، ليجوز هذه الساعة ضد كل قوى الأعداء المتضافرة, ليخرج منها غالباً لحسابنا، ولكي يغلب دائمأ: «وقد أعطي إكليلاً، وخرج غالباً ولكي يغلب» (رؤ2:6)~ فهي ساعة النصرة والمجد للإنسان، كل إنسان.
‏«إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم, أحبهم إلى المنتهى»: القديس يوحنا هو المتكلم، وهو خير من يتكلم عن حب الرب لخاصته الذين اختارهم من العالم. ولكن الحب هنا يُستعلن بروح يوحنا وروح المسيح على مستوى «المنتهى»، أى نهاية قدرة المسيح على العطاء، عطاء الذات، وقدرة الأحبة على الأخذ. فهو حب الشركة، شركة الروح مع الروح, وهي الشركة التي استعلنها بل استكملها على العشاء, فيوحنا يتكلم الآن بعد أن أدرك وقاس وذاق طعم الدم في كأس الخلاص، وقوة الجسد المُقام في الخبزة المكسورة في تلك الليلة الخالدة، التي فيها أذاب حبه، كل حبه، مع روحه في كأس!!
+ ‏«لأن حبك أطيب من الخمر... نبتهج ونفرح بك, نذكر حبك أكثر من الخمر، بالحق يحبونك» (نش2:1-4‏)
‏لقد اختفى طعم الخمر وبقي حبه مع روحه، فكيف لا يقول يوحنا «أحبهم إلى المنتهى»؟
+ «اشربوا واسكروا أيها الأحباء.» (نش1:5)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
مكان البشاره: أورشليم للمره الاخبره
خدمة المحبة: غسل الأرجل
أ‌- الرب يقوم عن العشاء، ليغسل أرجل تلاميذه، لتكريسهم للخدمة، كنموذج لما ينبغي أن تكون عليه المحبة بين المرسلين، وما هوا لاتضاع، كسر الكمال للكرازة والرسالة (1:13-20)
ب‌- الرب يكف مسبقاً عن خيانة يهوذا. ويعطي يوحنا علامة خاصة ليتعرف عليه (21:13-33)
ت‌- الوصية الجديدة: المحبة (34:13-35).
ث‌- الرب يحذر بطرس من تجربة الانكار التي سيسقط فيها (36:13-38).
بذل المحبة (1:13-20)
في صميم سر العشاء، ومن جوهر لاهوت الإفخارستيا، يقدم إنجيل يوحنا سرده التاريخي الفريد لطقس «غسل الأرجل» كنموذج حي لكرازة المحبة، في جو روحي مشبع بالعواطف. والرواية تمتاز بالدقة الحركية والحيوية الناطقة، وتسودها شفافية المسيح الحساسة والرقيقة والخجولة في إشارته نحو التلميذ الخائن الذي اندس وسط الأطهار. كمأ يظهر القديس بطرس، بملامحه المتدفقة حيوية، سواء في اندفاعه أو في إحجامه .
‏ورواية غسل الأرجل تنقسم إلى قسمين: قسم يسرد عملية غسل الأرجل بملابساتها (2-11‏)، والقسم الآخر يسرد ‏الدرس المتحصل منها (12-20)

1:13 أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى.

‏قبل الفصح: الحديث عن زمن العشاء الأخير الذي حدده إنجيل يوحنا قبل الفصح أي قبل 14 نيسان، وهو يختلف في ذلك عن الثلاثة الأناجيل الأخرى التي حددته بوقت الفصح نفسه، أي أن عشاء الفصح كان في 14 نيسان.
‏ولكن سواء إنجيل يوحنا أو الأناجيل الثلاثة الأخرى فكل منها كان يجتهد لإثبات أن الفصح اليهودي قد أكمل والى الأبد سواء بهذا العشاء الأخيرا لذي ذبح فيه المسيح نفسه بالنية، أو بذبح المسيح فعلاً على الصليب على أيدي اليهود، عوض خروف الفصح.
‏ومن جهة القديس يوحنا، فقد أكد أن الفصح الحقيقي, الذي كانت كل أعياد الفصح السابقة رمزا له, قد أُكمل والى الأبد بذبح «حمل الله» يسوع المسيح، على الصليب لرفع خطايا العالم؛ وذلك في نفس ميعاد ذبح خروف الفصح في 14 ‏نيسان، ليصح المسيح فصح الدهور كلها: «الخروف القائم في السماء كأنه مذبوح». وهذه الصورة الفصحية الدائمة للمسيح في السماء، باعتباره خروف الفصح الأبدي، ملأت كل رؤيا القديس يوحنا حيث ظهر المسيح بصورته الفصحية هذه، كخروف الفصح، ما يقرب من خمس عشرة مرة!!
‏وحتى الكنيسة المعتبرة جسده, ظهرت في الرؤيا كامرأة «الخروف» التي جُبلت من ضلعه، بل «من لحمه وعظامه». بل من دم صليبه، ورآها القديس يوحنا متهيئة ومزينة بصلوات وتبررات القديسين, وأنها وشيكة الظهور معه: «لنفرح ونتهلل ونعطه المجد، لأن عرس الخروف (استعلان الملكوت الأخير) قد جاء، وامرأته هيأت نفسها، وأعطيت أن تلبس بتزا (كتان أبيض وهو لباس خدمة الكهنوت ) نقيا بهيا، لأن البز هو تبررات القديسين.» (رؤ7:19-8)
‏والعجيب جداً أن الكنيسة المجيدة المحبوبة والمعشوقة لدى عريسها «الخروف» الفصحي، الذي ذُبح من أجلها فامشتراها بدمه وولدها من روحه يوم 14 نيسان، هي نفسها التي رأها القديس يوحنا في رؤياه بصورة أورشليم الجديدة عينها، مدينة الملك العظيم, وطن القديسين, بأسوارها الكريمة وأبوابها اللؤلؤية: «تُسمين أسوارك خلاصاً وأبوابك تسبيحاً» (إش18:60)؛ «ثم جاء إلي واحد من السبعة الملائكة... وتكلم معي قائلاً: هلم فأريك العروس امرأة الخروف. وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عال، وأراني المدينة العظيمة، أورشليم المقدسة، نازلة من السماء من عند الله. (لها) مجد الله... ولم أر فيها هيكلاً, لأن الرب... والخروف هيكلها... والخروف سراجها... ولن يدخلها شيء دنس، ولا ما يصنع رجساً وكذباً، إلا المكتوبين في سفر حياة الخروف !!» (رؤ9:21-27)
‏لقد تجلى المسيح في سفر الرؤيا، ليأخذ أقصى صورة للفداء والخلاص الذي أكمله على الصليب في 14 نيسان, أمام عيني التلميذ المحبوب، ليظهر في سفر الرؤيا بشكل خروف الفصح, كأعمق تعبير عن بذل المحبة الدائم والخالد والأبدي, وكصفة ثابتة أزلية للمسيح «الفادي».
«وهو عالم أن ساعته قد جاءت, لينتقل من هذا العالم إلى الآب»: القديس يوحنا يتكلم عن «علم» المسيح، ليس كأنه وليد الظروف والحوادث، بل هو العلم الفائق على الزمن وحوادثه، فهو العلم الكلي الذي يرى ويفحص كل الدهور، وما وراء الدهور، كل ما للانسان، وكل ما ما لله بآن واحد. لذلك تأتي الكلمة كحال دائم «هو عالم» بصورة العلم المطلق. وأمام الحوادث القادمة، يقف علم المسيح المسبق، لا كمحرك للحوادث، بل كمصور للآلام القادمة في نفسه ليعطيها مزيداً من الواقعية، وقد استخدم المسيح علمه بآلامه, المزمع أن تكون، ليستعلن لاهوته، ويكشف عن صدق حبه لأخصائه, الذي هو مزمع أن يتركهم في العالم ليمضي هو إلى الآب. ثم طرح آلامه المزمعة وراء ظهره، ليتفرغ لتعزية أحبائه ويمارس عمل محبته.
‏«ساعته قد جأءت»: ‏قبل أن «تأتي ساعته» لم يكن لأحد عليه سلطان. وطالما رفع أعداؤه الأيدي بالحجارة، ولكن أن يكملوا مشيئتهم فهذا مستحيل، ولكن الآن «أتت الساعة» فانفك قيد سلطانهم الأثيم، وانطلقت حريتهم الشريرة ليصنعوا كل ما شاءوا: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (لو53:22)
‏وهكذا يبدو مجيء الساعة وكأنها حتمية، ولكن الحتمية الزمنية لا تخضع إلا لمشيئة الله: «لأن الرب يصنع أمراً مقضياً به على الأرض» (رو28:9). وقضاء الله وحتمياته ذو غايات وأهداف. فحتمية الله لا بد وأن تنشىء حتمية، فحتمية الساعة (الموت) كان وراءها بالضرورة حتمية القيامة: «لأنهم لم يكونوا، بعد, يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم مم الأصوات.» (يو9:20)
‏والترجمة العربية «ينبغي» يلزم هنا أن تكون «حتماً». فالقيامة بالنسبة للمسيح المسجى في القبر ليست هي أمراً لائقاً وحسب, بل هي أمر حتمي بأقصى ما تكون الحتمية.
‏في إنجيل القديس لوقا نجد المسيح يسير نحو هذه «الساعة» متجهاً إليها بكل مشيئته: «وحين تمت الأيام لارتفاعه، ثبت وجهه لينطلق إلى أورشثليم» (لو51:9‏). فهو لم يكن عالماً بها وحسب، بل وكان يريدها، بل جاء من أجلها: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة» (يو27:12). كان المسيح يتجاوز مرارتها بسهولة لأنه كان يتطلع إلى غايتها السعيدة: «لينتقل إلى الآب», «الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي.» (عب2:12)
‏لم يقلق المسيح من مجيء «الساعة»، فقد غطى حبه لأخصائه كل مرارة ما قبلها. وحبه للآب غطى ما بعدها، أما الساعة نفسها فكانت فرصته العظمى ليكشف حباً: «ليس لأحد حب أعظم من هذا» (يو13:15), حيث سيرى العالم سلطانه الفريد, كيف سيضع نفسه من أجل من أحبهم إلى المنتهى, وكيف سيأخذها مستهيناً بالموت وظلام القبر وظلم القاتلين. وحينئذ ستصبح «الساعة» بكل آلامها سجل مجد في السماء وسجل شرف في الأرض، يتوق ملوك ورؤساء وأنبياء كثيرون لو يفوزوا بوضع إمضائهم على صفحاته، شهوداً أو شهداء، ليحسبوا من أبناء هذه «الساعة».
‏فالأن، لو نظرنا إلى هذه «الساعة» وما تحمله من معان ومفاعيل وعواطفت مزدحمة، لوجدنا أنها لحظة القمة في حياة المسيح، فهي ساعة العودة إلى الآب، إلى الحضن الأبدي، حيث المجد القائم من قبل إنشاء العالم، وهي ساعة ختام مسيرة الحب بين الرفاق، الحب إلى المنتهى أو الذى بلا نهاية، وهي ساعة الضربة القاضية لدحر سلطان الموت والخطية لخلاص الإنسان, الساعة التي رأتها كل الأجييال السالفة بالرؤى والأحلام، فنظروها من بعيد وحيوها (عب13:11). وقد سلح الآب ابنه بكل سلطانه الخاص. «قد دفع كل شيء إلى يديه» (يو3:13)، حتى اسمه الخاص، ليجوز هذه الساعة ضد كل قوى الأعداء المتضافرة, ليخرج منها غالباً لحسابنا، ولكي يغلب دائمأ: «وقد أعطي إكليلاً، وخرج غالباً ولكي يغلب» (رؤ2:6)~ فهي ساعة النصرة والمجد للإنسان، كل إنسان.
‏«إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم, أحبهم إلى المنتهى»: القديس يوحنا هو المتكلم، وهو خير من يتكلم عن حب الرب لخاصته الذين اختارهم من العالم. ولكن الحب هنا يُستعلن بروح يوحنا وروح المسيح على مستوى «المنتهى»، أى نهاية قدرة المسيح على العطاء، عطاء الذات، وقدرة الأحبة على الأخذ. فهو حب الشركة، شركة الروح مع الروح, وهي الشركة التي استعلنها بل استكملها على العشاء, فيوحنا يتكلم الآن بعد أن أدرك وقاس وذاق طعم الدم في كأس الخلاص، وقوة الجسد المُقام في الخبزة المكسورة في تلك الليلة الخالدة، التي فيها أذاب حبه، كل حبه، مع روحه في كأس!!
+ ‏«لأن حبك أطيب من الخمر... نبتهج ونفرح بك, نذكر حبك أكثر من الخمر، بالحق يحبونك» (نش2:1-4‏)
‏لقد اختفى طعم الخمر وبقي حبه مع روحه، فكيف لا يقول يوحنا «أحبهم إلى المنتهى»؟
+ «اشربوا واسكروا أيها الأحباء.» (نش1:5)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2:13 فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ.

‏لا يستطيع الإنسان أن يحيط بهذا المنظر وما احتواه، كيف جمع أقدس حب مع أشنع خيانة وعلى مائدة واحدة، حتى في أقدس ليلة من ليالي الحياة على الأرض، والله قائم على مائدة حبه، ممثلاً بابنه وسط آخير مختاريه، يسقيهم حبه، يسقيهم من روحه، ويطعمهم من لحمه، كيف يندس هكذا الشيطان، بعد أن وجد له مسكناً في إنسان؟
‏أي قلب هذا الذي ليهوذا ابن سمعان الإسخريوطي؟ هل قد من حديد بارد، حتى يتقمصه هكذا الشيطان المارد؟ ألم يأخذ نصيبه الكامل من الحب المنسكب من قلب الله كبقية المختارين، كيف بدده، بل كيف مزقه وداسه برجليه، والتفت ليفتك بالقلب الذي أحبه؟ ولكن هذه هي الخطية، وهذا هو الإنسان حينما يغويه الشيطان! «لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان, وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة.» (اتي10:6‏)
إنهما زيارتان مشنومتان استضاف فيهما يهوذا صديقه المُهلك، الاولى ألقى في قلبه المشورة، فقبلها, وهان عليه أن يسلم من أحبه؛ والثانية جاءه ساكناً كصاحب بيت لينفذ معه الخطة.
‏لهفي على قلب يوحنا الملتهب حباً ورقة، كيف استطاع وهو يتأمل يهوذا أن يحتمل جرأته وفجوره وهو يجلس بجوار الرب يصطنع التلمذة ويتصنع المودة ة بلسانه الألين من الزيت وهو نصال؟ أي دموع كتمها هذا الحبيب؟ وأية غصة أصابت حلقه فمنعته من الصراخ؟
‏ولكن إن كان مثل هذا قد جرى ليوحنا, فماذا كان يجري في قلب المخلص؟ وهو لا يرى فقط النصال الذي يخفيه يهوذا، بل كان يحسه في جنبه بل في قلبه! ولكن العجيب في الرب, وهو صانع العجائب كلها, أن قلبه لم يهتز بالبفضة إزاء يهوذا ولا قيد شعرة، ألا يشرق الرب شمسه على الابرار والأشثرار؟ بل ظل يلاطفه ويغمس اللقمة ويعطيها له بيده كما يحنو الأب ‏على صغيره بما لم يصنعه مع الآخرين، وحتى حينما جاء بقبلة التسليم بادره الرب بنداء الصداقة: «يا صاحب لماذا جئت؟» (مت50:26). وهذه هي قدرة الرب التي لا يبلغها عقل بشر، كيف يعزل، في حبه، الخاطىء عن خطيئته. فمعركته الاولى والأخيرة هي مع الخطيئة، وليس مع الخاطىء‏، ولكنه نعى يوم مولده, فتمنا لو لم يولد، لأنه علم كيف سيخنق نفسه رافضاً الحياة التي أخذ!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3:13-4 يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي. قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا.

«وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه»: ‏القديس يوحنا هو المتكلم، وكأنه بلسان المسيح، يمهد لصورة العبد الخديم التي استعارها لنفسه منحنياً على أرجل تلاميذه. فيوحنا يحاول أن يرفع ذهن القارىء ليدرك من أي مركز علوي يتنازل المسيح وهو قابض بيديه عل أعنة كل ما في السمرات والأرض من سلطان، وهو يستخدم هاتين اليدين في غسل أرجل تلاميذه. ويشدد يوحنا، هنا، على كلمة «يديه» لأنها مركز الأعجوبة الإلهية، فهي وهي قابضة على مصائر العالمين استطاعت أن تتعامل مع وسخ الأقدام بآن واحد.
‏إبهتى أيتها السموات وافرحى يا أرض الإنسان! فالذى جاء من العلاء ليغسل قذر بتى آدم, ليس فقط إلى مواضع القلب الداخلية بل إلى وسخ السيرة والمسيرة.
ويجىء سفر العبرانيين ليكمل هذه العجيبة, فبعد أن نزل وتنازل هكذا, يقول سفر العبرانيين: «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا, جلس فى يمين العظمة فى الأعالى, صائراً أعظم من الملائكة ....» (عب3:1-4)
«وأنه من عند الله خرج, والى الله يمضي»: ولكنه كما لم يخرج ببهاء مجده، إذ استلزم منه التجسد أن يخلي ذاته من عظمة لاهوته فتسربل باتضاع قامة الأرضيين، هكذا وفي طريق العودة استكثر على نفسه أن يعود ببهاء البشريين، بل ذهب وجروحه في يديه وجنبه مفتوح، حتى إذا تعذر علينا أن نتمثل بإخلاء الالوهية في نزوله، لا يتعذر علينا أن نتمثل باتضاع بشريته في صعوده. ومن ذا الذي يتأمل في إخلاء ألوهيته ولا يبهت؟ إنها معجزة الله!! ولكن أن نتأمل في إخلاء حتى بشريته فهذا أمر يذهل؛ إنها معجزة ابن الإنسان!!
ولكن إن كان قانون الخروج من عد الله يخص ابن الله وحده وهي معجزته، فالمضي إلى الله قد صار قانون الإنسان وهي معجزتنا. فبالأولى: «ظهر الله في الجسد» (1تى4:3) وهو أمر يفوق طاقة تصورنا؛ ولكن بالثانية «نُظهر نحن معه» ‏(راجح كو4:3)، وهي بالإيمان في حدود رؤيتنا .
‏وهكذا, بحسب تدبير نعمة الله وحكمته الفائقة بالإخلاء، اقتحم ابن الله الطريق إلينا، خرج من عد الله وحيداً فريداً ومه تهليل السمائيين، ليعود إليه باتضاع العبيد محملا بأبناء كثيرين، مفتتحا الطريق وسط تهليل الأرضيين والسمائيين حتى إلى قلب الله!! وصادقة هي الكلمة التي قالها: «أنا هو الطريق» (يو6:14)، إن في مجيئه إلينا من عند الله ما يساير ذهابه بنا إليه!!
«والى الله يمضي»: هنا بيت القصيد، فبسبب هذا المضي إلى الله، وهو عالم أنه سيترك تلاميذه لخدمة هذا طولها وهذا عرضها: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (مت19:28)، رتب المسيح إعداد تلاميذه لهذه الخدمة بإجراء تقديسي يحمل الرمز والحقيقة معاً, وهو غسل أرجلهم بيديه لتقديسها واعدادها لمسيرة التبشير عبر جيع الأمم، ثم دعمهم بقوله: «الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله، يقبلني ... » (يو20:13)
‏وكأني بالرسل المبشرين الأطهار، كلما أعياهم المشي وكلت أقدامهم عن السير، جلسوا يتحسسون لمسات أصابع المسيح التي مرت على أقدامهم، فيجددون قوة، ثم يرفعون أعينهم إلى فوق فيجدونه ناظراً عليهم!
‏وليس عبثأ، أيها القارىء العزيز، أن نجد في الإنجيل هاتين الآيتين ملتصقتين معاً: «يسوع وهو عالم ... أنه إلى الله يمضي, قام عن العشاء وخلع ثيابه ...»»
‏وغسل الأرجل, الذي أجراه المسيح، قصره على تلاميذه من جهة الإرسالية لتبشير الأمم «أنتم الدين ثبتوا معي فى تجاربي» (لو28:22‏). لذلك لم يجر بعد ذلك في الكنيسة إلم من وجهة اتضاع المحبة، وتذكاراً سنويأ لخدمة غسل أرجل الرسل.
«قام عن العشاء»: إذن، لم يكن غسل الأرجل استعداداً للعشاء كإجراء يستلزمه سر الإفخارستيا، بل هو إجراء ‏قائم بذاته، فهو مواز لقوة العشاء وملتحم به، لم يصنعه المسيح قبل العشاء ولا بعد العشاء. فبعد غسل الأرجل، جلسوا مرة أخرى وأكملوا العشاء. ومن شرح الرب لإجراء غسل الأرجل ومن ملابسات امتناع بطرس في البداية, نفهم أنه كما كان للعشاء, كشركة مع الرب, فرصة لتوزيع الأنصبة في ملكوت الله، هكذا فإن لقوة غسل الأرجل, كشركة مع الرب, فرصة لنوال ذات النصيب: «إن كنت لا أغسلك, فليس لك معي نصيب.» (يو8:13)
‏إذن، فغسل الأرجل قد صار سراً ملتحمأ بسر الإفخارستيا. فإن كان سر الإفخارستيا يقوم على سر بذل الجسد والدم على الصليب، أي هو شركة في موت الرب وقيامته، فسر غسل الأرجل يقوم على سر انحناء الأكبر للأصغر بشبه العبد لسيده، فهو سر «أخذ شكل العبد» (راجع في7:2)، أحد أسرار المسيح الجوهرية, الأول سرائري يُجرى بالطقس، حيث يصير التحولل من خبز وخمر إلى جسد ودم؛ والثاني سري يجرى بخلع الكرامة، وبالائتزار بالاتضاع، بشبه المسيح. الأول صورته عشاء، وجوهره شركة مع المسيح في موته وقيامته؛ والثاني صورته غسل أرجل، وجوهره شركة مع قامة بر المسيح في اتضاع الألوهية؛ حيث يأخذ كل من الإفخارستيا وغسل الأرجل كلاهما صورة «السر» وقوته, من منطلق لاهوت المسيح المتحد بناسوته, فكلا السرين إلهي وبشري بآن واحد.
‏لذلك، فاتضاع المسيح لا يُحسب عملاً بشريا مجرداً، بل هو عمل إلهي في جوهره، بشري في مظهره، خلاصى المفعول والهدف. لذلك نسمع المسيح يقول للمعمدان، الذي جفل وارتعب أن يضع يده على رأس المسيح لتكميل العماد: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (مت15:3‏)» بر ماذا؟ بر الاتضاع!! أما المعمدان فيكمل بر الطاعة لصوت الله؛ وأما المسيح فليكمل بر الاتضاع الإلهي ومسحة المعمودية معاً، كعمل يهيىء لسر الصليب, وكما اقترنت المعمودية ببر الاتضاع توطئة لسر الصليب، هكذا اقترنت الافخارستيا أيضاً في سري العشاء وغسل الأرجل، لأنهما الصليب بعينه. فاتضاع المسيح الخلاصي كان هو كل حياة المسيح الذي تُوج بالصليب.
‏«وخلع ثيابه, وأخذ منشفة, واتزر بها»: الثياب هنا هي «ثياب العشاء»، وهي أفخر ما يلبس الداعي أو المدعو لحفل العشاء الفصحي؛ وهي غالباً ما تكون مخصصة على مستوى كرامة الداعي والمدعوين. ولا يغيب عن بالنا أن المسيح عالم بأنه العشاء الأخير، ومن رواية الصليب ندرك أنه كان لباسأ خاصاً جداً تعارك عليه جنود الرومان، وأخيراً اقترعوا عليه.
‏ونقرأ في المثل الذي وصفه المسيح عن حفل عشاء العرس: «فلما دخل الملك لينظر المتكئين، رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس. فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا، وليس عليك لباس العرس.» (مت11:22-12)
‏من هذا نستشف قيمة الثياب التي يرتديها الإنسان لحضور حفل عشاء. فخلع المسيح لثيابه، أي ليس فقط الثوب المطرز غالباً والمفتوح من أمام، بل وما تحته لأن الكلمة اليونانية لم تأت بالمفرد لتخصيص «الروب» الخارجي فقط، بل جاءت بالجمع.
‏وهذا الإجراء, أي خلع الثياب, يُحتسب خارجاً عن اللياقة بالنسبة لكرامة أي إنسان وسط جماعة، لأنه سيظهر بالملابس الداخلية فقط، هذا الأمر لا يدركه علماء الكتاب الغربيون، فهذا الخلع هو من شأن الخدم والعبيد: أن يقف العبد بالقميص واللباس الداخلي يغسل أرجل أسياده! ولكن المسيح قصد ذلك قصداً ليتراءى أمامهم كعبد وبصورة لا تُنسى. كان يمكن للسيح أن يغسل أرجل تلاميذه، دون أن يخلع ثيابه، ولكه أصر على أن «يأخذ شكل العبد» (في7:2)، لأنها في عرف اللاهوت هي «درجة» دون درجة «شكل الإنسان».
‏ومعروف رسمياً لدى قوانين العصور الأولى، وفي صميم القانون الروماني، أن «العبد» فاقد لحقوقه الإنساية، يُباع، ويُشترى، ويُرتهن، ويُعاقب، ويُقتل بيد صاحبه أو سيده، دون مؤاخذة.
‏والمسيح في تجسده، «أخذ شكل العبد» لا اتضاعاً فحسب، بل ونزولاً إلى الدرجة الحقيقية التي نزل إليها الإنسان بالخطية. فالإنسان لم يعد حراً أمام الله، أو حتى أمام الشيطان، وبالأكثر أمام الخطية. فقد اسُتعبد الإنسان فعلاً تحت سلطان الخطيئة القاتل وتحت سيادة الشيطان المستبد المهلك، وهذا هو واقع طبيعة الإنسان التي نزل إليها المسيح. فالمسيح لما تراءى أمام تلاميذه خلوا من ثياب كرامة الإنسان، فهو كان على حقيقة ما نزل إليه وليس مجرد تراء. ولم يكن مجرد «شكل العبد» بل وظيفته!! وهي هي الوظيفة التي سيرتفع فيها وبها إلى قمة المجد، إلى ما فوق شكل الانسان وطبيعته، حيث نستدعى نحن لكي نتغير عن «شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في21:3)» أي من عبودية الخطية إلى حرية مجد أولاد الله.
‏ولا ننسى أننا على مائدة الفصح، والفصح الأول في القديم هو فصح مصر، فصح الخروج من عبودية فرعون, حيث كان كل من وقف حوله ليتناول منه كان عبدا. وكان من شأن هذا الفصح الأول، أو من أعمق أسراره أنه أكلة التحرير، وطعام الفكاك والقوة، التي عبرت بهم أهوال الخروج وعبور البحر والبرية والتيه أربعين سنة، حتى أوصلتهم أرض الوعد والميعاد. ودمه، أي دم الخروف، بقدر ما كان كفارة للعبيد وأماناً لهم وسلاماً، كان رعبة على المستعبدين وهلاكاً للمستبدين.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»:
‏والمسيح هنا، أمام الفصح، يعود بالبشرية في نفسه, ممثلاً للبشرية كلها, إلى وضعها الحقيقي كعبيد مستعبدين، وليعود بذهن التلاميذ إلى حال ابائهم المبيعين عبيدا تحت السخرة. فإلى تحت الصفر, هكذا نزل المسيح، حتى لا يغيب عبد واحد عن التحرير وحرية الخلاص.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»: ‏هذا طقس العبيد المتضعين، بحسب قول العلامة اليهودي المتنصر إدرزهيم، وتأتي كلمة «اتزر» باليونانية ( )‏، كما وردت في موضع آخر عن بطرس حينما كان عرياناً وعلم أنه الرب: «فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس. هو الرب. فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب، اتزو بثوبه, لأنه كان عرياناً وألقى نفسه في البحر.» (يو7:21)
‏وبذلك يظهر لنا أن كلمة «اتزر بالمنشفة» تفيه معنى ربط المنشفة حول الوسط، على أن يكون جزء كبير منها حراً للتنشيف به، وهذا هو السائد في طقس غسل الأرجل يوم خميس العهد في الكنيسة القبطية.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3:13-4 يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي. قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا.

«وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه»: ‏القديس يوحنا هو المتكلم، وكأنه بلسان المسيح، يمهد لصورة العبد الخديم التي استعارها لنفسه منحنياً على أرجل تلاميذه. فيوحنا يحاول أن يرفع ذهن القارىء ليدرك من أي مركز علوي يتنازل المسيح وهو قابض بيديه عل أعنة كل ما في السمرات والأرض من سلطان، وهو يستخدم هاتين اليدين في غسل أرجل تلاميذه. ويشدد يوحنا، هنا، على كلمة «يديه» لأنها مركز الأعجوبة الإلهية، فهي وهي قابضة على مصائر العالمين استطاعت أن تتعامل مع وسخ الأقدام بآن واحد.
‏إبهتى أيتها السموات وافرحى يا أرض الإنسان! فالذى جاء من العلاء ليغسل قذر بتى آدم, ليس فقط إلى مواضع القلب الداخلية بل إلى وسخ السيرة والمسيرة.
ويجىء سفر العبرانيين ليكمل هذه العجيبة, فبعد أن نزل وتنازل هكذا, يقول سفر العبرانيين: «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا, جلس فى يمين العظمة فى الأعالى, صائراً أعظم من الملائكة ....» (عب3:1-4)
«وأنه من عند الله خرج, والى الله يمضي»: ولكنه كما لم يخرج ببهاء مجده، إذ استلزم منه التجسد أن يخلي ذاته من عظمة لاهوته فتسربل باتضاع قامة الأرضيين، هكذا وفي طريق العودة استكثر على نفسه أن يعود ببهاء البشريين، بل ذهب وجروحه في يديه وجنبه مفتوح، حتى إذا تعذر علينا أن نتمثل بإخلاء الالوهية في نزوله، لا يتعذر علينا أن نتمثل باتضاع بشريته في صعوده. ومن ذا الذي يتأمل في إخلاء ألوهيته ولا يبهت؟ إنها معجزة الله!! ولكن أن نتأمل في إخلاء حتى بشريته فهذا أمر يذهل؛ إنها معجزة ابن الإنسان!!
ولكن إن كان قانون الخروج من عد الله يخص ابن الله وحده وهي معجزته، فالمضي إلى الله قد صار قانون الإنسان وهي معجزتنا. فبالأولى: «ظهر الله في الجسد» (1تى4:3) وهو أمر يفوق طاقة تصورنا؛ ولكن بالثانية «نُظهر نحن معه» ‏(راجح كو4:3)، وهي بالإيمان في حدود رؤيتنا .
‏وهكذا, بحسب تدبير نعمة الله وحكمته الفائقة بالإخلاء، اقتحم ابن الله الطريق إلينا، خرج من عد الله وحيداً فريداً ومه تهليل السمائيين، ليعود إليه باتضاع العبيد محملا بأبناء كثيرين، مفتتحا الطريق وسط تهليل الأرضيين والسمائيين حتى إلى قلب الله!! وصادقة هي الكلمة التي قالها: «أنا هو الطريق» (يو6:14)، إن في مجيئه إلينا من عند الله ما يساير ذهابه بنا إليه!!
«والى الله يمضي»: هنا بيت القصيد، فبسبب هذا المضي إلى الله، وهو عالم أنه سيترك تلاميذه لخدمة هذا طولها وهذا عرضها: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (مت19:28)، رتب المسيح إعداد تلاميذه لهذه الخدمة بإجراء تقديسي يحمل الرمز والحقيقة معاً, وهو غسل أرجلهم بيديه لتقديسها واعدادها لمسيرة التبشير عبر جيع الأمم، ثم دعمهم بقوله: «الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله، يقبلني ... » (يو20:13)
‏وكأني بالرسل المبشرين الأطهار، كلما أعياهم المشي وكلت أقدامهم عن السير، جلسوا يتحسسون لمسات أصابع المسيح التي مرت على أقدامهم، فيجددون قوة، ثم يرفعون أعينهم إلى فوق فيجدونه ناظراً عليهم!
‏وليس عبثأ، أيها القارىء العزيز، أن نجد في الإنجيل هاتين الآيتين ملتصقتين معاً: «يسوع وهو عالم ... أنه إلى الله يمضي, قام عن العشاء وخلع ثيابه ...»»
‏وغسل الأرجل, الذي أجراه المسيح، قصره على تلاميذه من جهة الإرسالية لتبشير الأمم «أنتم الدين ثبتوا معي فى تجاربي» (لو28:22‏). لذلك لم يجر بعد ذلك في الكنيسة إلم من وجهة اتضاع المحبة، وتذكاراً سنويأ لخدمة غسل أرجل الرسل.
«قام عن العشاء»: إذن، لم يكن غسل الأرجل استعداداً للعشاء كإجراء يستلزمه سر الإفخارستيا، بل هو إجراء ‏قائم بذاته، فهو مواز لقوة العشاء وملتحم به، لم يصنعه المسيح قبل العشاء ولا بعد العشاء. فبعد غسل الأرجل، جلسوا مرة أخرى وأكملوا العشاء. ومن شرح الرب لإجراء غسل الأرجل ومن ملابسات امتناع بطرس في البداية, نفهم أنه كما كان للعشاء, كشركة مع الرب, فرصة لتوزيع الأنصبة في ملكوت الله، هكذا فإن لقوة غسل الأرجل, كشركة مع الرب, فرصة لنوال ذات النصيب: «إن كنت لا أغسلك, فليس لك معي نصيب.» (يو8:13)
‏إذن، فغسل الأرجل قد صار سراً ملتحمأ بسر الإفخارستيا. فإن كان سر الإفخارستيا يقوم على سر بذل الجسد والدم على الصليب، أي هو شركة في موت الرب وقيامته، فسر غسل الأرجل يقوم على سر انحناء الأكبر للأصغر بشبه العبد لسيده، فهو سر «أخذ شكل العبد» (راجع في7:2)، أحد أسرار المسيح الجوهرية, الأول سرائري يُجرى بالطقس، حيث يصير التحولل من خبز وخمر إلى جسد ودم؛ والثاني سري يجرى بخلع الكرامة، وبالائتزار بالاتضاع، بشبه المسيح. الأول صورته عشاء، وجوهره شركة مع المسيح في موته وقيامته؛ والثاني صورته غسل أرجل، وجوهره شركة مع قامة بر المسيح في اتضاع الألوهية؛ حيث يأخذ كل من الإفخارستيا وغسل الأرجل كلاهما صورة «السر» وقوته, من منطلق لاهوت المسيح المتحد بناسوته, فكلا السرين إلهي وبشري بآن واحد.
‏لذلك، فاتضاع المسيح لا يُحسب عملاً بشريا مجرداً، بل هو عمل إلهي في جوهره، بشري في مظهره، خلاصى المفعول والهدف. لذلك نسمع المسيح يقول للمعمدان، الذي جفل وارتعب أن يضع يده على رأس المسيح لتكميل العماد: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (مت15:3‏)» بر ماذا؟ بر الاتضاع!! أما المعمدان فيكمل بر الطاعة لصوت الله؛ وأما المسيح فليكمل بر الاتضاع الإلهي ومسحة المعمودية معاً، كعمل يهيىء لسر الصليب, وكما اقترنت المعمودية ببر الاتضاع توطئة لسر الصليب، هكذا اقترنت الافخارستيا أيضاً في سري العشاء وغسل الأرجل، لأنهما الصليب بعينه. فاتضاع المسيح الخلاصي كان هو كل حياة المسيح الذي تُوج بالصليب.
‏«وخلع ثيابه, وأخذ منشفة, واتزر بها»: الثياب هنا هي «ثياب العشاء»، وهي أفخر ما يلبس الداعي أو المدعو لحفل العشاء الفصحي؛ وهي غالباً ما تكون مخصصة على مستوى كرامة الداعي والمدعوين. ولا يغيب عن بالنا أن المسيح عالم بأنه العشاء الأخير، ومن رواية الصليب ندرك أنه كان لباسأ خاصاً جداً تعارك عليه جنود الرومان، وأخيراً اقترعوا عليه.
‏ونقرأ في المثل الذي وصفه المسيح عن حفل عشاء العرس: «فلما دخل الملك لينظر المتكئين، رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس. فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا، وليس عليك لباس العرس.» (مت11:22-12)
‏من هذا نستشف قيمة الثياب التي يرتديها الإنسان لحضور حفل عشاء. فخلع المسيح لثيابه، أي ليس فقط الثوب المطرز غالباً والمفتوح من أمام، بل وما تحته لأن الكلمة اليونانية لم تأت بالمفرد لتخصيص «الروب» الخارجي فقط، بل جاءت بالجمع.
‏وهذا الإجراء, أي خلع الثياب, يُحتسب خارجاً عن اللياقة بالنسبة لكرامة أي إنسان وسط جماعة، لأنه سيظهر بالملابس الداخلية فقط، هذا الأمر لا يدركه علماء الكتاب الغربيون، فهذا الخلع هو من شأن الخدم والعبيد: أن يقف العبد بالقميص واللباس الداخلي يغسل أرجل أسياده! ولكن المسيح قصد ذلك قصداً ليتراءى أمامهم كعبد وبصورة لا تُنسى. كان يمكن للسيح أن يغسل أرجل تلاميذه، دون أن يخلع ثيابه، ولكه أصر على أن «يأخذ شكل العبد» (في7:2)، لأنها في عرف اللاهوت هي «درجة» دون درجة «شكل الإنسان».
‏ومعروف رسمياً لدى قوانين العصور الأولى، وفي صميم القانون الروماني، أن «العبد» فاقد لحقوقه الإنساية، يُباع، ويُشترى، ويُرتهن، ويُعاقب، ويُقتل بيد صاحبه أو سيده، دون مؤاخذة.
‏والمسيح في تجسده، «أخذ شكل العبد» لا اتضاعاً فحسب، بل ونزولاً إلى الدرجة الحقيقية التي نزل إليها الإنسان بالخطية. فالإنسان لم يعد حراً أمام الله، أو حتى أمام الشيطان، وبالأكثر أمام الخطية. فقد اسُتعبد الإنسان فعلاً تحت سلطان الخطيئة القاتل وتحت سيادة الشيطان المستبد المهلك، وهذا هو واقع طبيعة الإنسان التي نزل إليها المسيح. فالمسيح لما تراءى أمام تلاميذه خلوا من ثياب كرامة الإنسان، فهو كان على حقيقة ما نزل إليه وليس مجرد تراء. ولم يكن مجرد «شكل العبد» بل وظيفته!! وهي هي الوظيفة التي سيرتفع فيها وبها إلى قمة المجد، إلى ما فوق شكل الانسان وطبيعته، حيث نستدعى نحن لكي نتغير عن «شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في21:3)» أي من عبودية الخطية إلى حرية مجد أولاد الله.
‏ولا ننسى أننا على مائدة الفصح، والفصح الأول في القديم هو فصح مصر، فصح الخروج من عبودية فرعون, حيث كان كل من وقف حوله ليتناول منه كان عبدا. وكان من شأن هذا الفصح الأول، أو من أعمق أسراره أنه أكلة التحرير، وطعام الفكاك والقوة، التي عبرت بهم أهوال الخروج وعبور البحر والبرية والتيه أربعين سنة، حتى أوصلتهم أرض الوعد والميعاد. ودمه، أي دم الخروف، بقدر ما كان كفارة للعبيد وأماناً لهم وسلاماً، كان رعبة على المستعبدين وهلاكاً للمستبدين.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»:
‏والمسيح هنا، أمام الفصح، يعود بالبشرية في نفسه, ممثلاً للبشرية كلها, إلى وضعها الحقيقي كعبيد مستعبدين، وليعود بذهن التلاميذ إلى حال ابائهم المبيعين عبيدا تحت السخرة. فإلى تحت الصفر, هكذا نزل المسيح، حتى لا يغيب عبد واحد عن التحرير وحرية الخلاص.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»: ‏هذا طقس العبيد المتضعين، بحسب قول العلامة اليهودي المتنصر إدرزهيم، وتأتي كلمة «اتزر» باليونانية ( )‏، كما وردت في موضع آخر عن بطرس حينما كان عرياناً وعلم أنه الرب: «فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس. هو الرب. فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب، اتزو بثوبه, لأنه كان عرياناً وألقى نفسه في البحر.» (يو7:21)
‏وبذلك يظهر لنا أن كلمة «اتزر بالمنشفة» تفيه معنى ربط المنشفة حول الوسط، على أن يكون جزء كبير منها حراً للتنشيف به، وهذا هو السائد في طقس غسل الأرجل يوم خميس العهد في الكنيسة القبطية.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
5:13 ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا.

‏واضح أن الرب قام بعملية غسل الأرجل بكل جزئياتها، وكان القديس يوحنا دقيق الملاحظة للغاية في تسجيل الحركات وكأنها حية ناطقة. فالرب هنا أمسك بالإبريق الذي به الماء، وصب الماء في «المغسل» الذي يجيء في الترجة القبطية «لقان»، وابتدأ يغسل أرجل تلاميذه واحداً بعد واحد.
‏المنظر هنا يفوق قدرة أي إنسان أن يمسك بطرفيه، فهذا هو ابن الله الإله المنحدر من المجد الأسنى، من أعلى السموات، منحنياً على أرجل ملؤثة تملأها الوسخ والتراب، منشغلاً في غسلها. ولكن، أليس هذا هو بمقتضى الطبيعة التي نزل إليها: أخذ شكل العبد؟ ثم أليس هذا هو عمل المسيح وصميم رسالته، أن يستعلن ما هو عمل المحبة الإلهية في أقصى حدودها؟
‏هنا يستعلن المسيح حدود محبة الله وموضوع انشغالها ومسرتها. ماذا؟ غسل رجل الإنسان! إلى هذا الحد بلغ المسيح في استجلاء «المنتهى»، ألم يقل أنه أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى «المنتهى»؟ نعم هذا «منتهى اتضاع المحبة» وهل بعد ذلك يمكن أن يكون شيء؟ صعب على الإنسان أن يغسل إنساناً، وعسير غاية العسران يغسل رجلي خادمه، ومستحيل أن يغسل رجلي عبد له. نعم، هذه هي طبيعة الإنسان، لا يستطيع أن ينزل دون ذاته، ولكن الله ليس كذلك!! اسمعه وهو يقول في سفر حزقيال النبي، مخاطباً أورشليم، أو بالحري الشعب الذي لوثته الخطية، والمزمع أن يلد منه الكنيسة: «فحممتك بالماء, وغسلت عنك دماءك, ومسحتك بالزيت.» (حز9:16)
‏وهكذا جاء المسيح ليتمم وعد الله. لهذا، فعمل المسيح يٌحسب عمل الألوهية وفي صميم الفداء لميلاد الكنيسة.
 
أعلى