لقد اهتم الإنجيليون الأربعة بتسجيل نبوة المسيح هذه عن «بطرس والديك»، إذ سجلوا تحقيقها تسجيلاً مؤثراً للغاية، وكان أدقهم وأقدرهم في التسجيل هو القدي مرقس، لأنه أخذ البيانات من فم بطرس نفسه.
لم يكن بطرس يدري هول المعركة التي يسير المسيح نحوها، ولا إزاء من تسجلت؟ ولا لحساب من سيكون الحساب؟ بل وفوق هذا كله لم يدر بطرس من هو المسيح الذي يقول إنه مستعد أن يضح نفسه من أجله؟ فالمعركة فوق طاقة جميع البشر مجتمعين، إنها ضد من استعلى على الله نفسه، أي الشيطان الذي دوخ العالم كله والذي قال في قلبه: «أصعد إلى السموات, أرفع كرسيّ فوق كواكب الله... أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي. لكنك انحدرت إلى الهاوية, إلى أسافل الجب.» (إش13:14-15)
لقد أشفق الرب على شجاعة بطرس المنهارة، ولكي يردعه حتى لا يرتكب حماقة، أعلن له أقصى ما يمكن أن يبلغه من حدود الدفاع عن الرب بدون الرب، ذلك قبل أن ينفجر نور النهار أو يصيح الديك, أو يظهر كوكب الصبح المنير، أو يستعلن نور العالم في القلوب، لأنه في ظلمة الرؤيا وعتمة القلب سينكر بطرس سيده ثلاث مرات، وعمداً مع الإصرار، وبلعن وحلفان وبشهود عيان .
ولكن، في النهاية, وبعد أن أمده المسيح بصلاته وروحه القدوس, استطاع القديس بطرس أن يحقق ما ظن وما قال، ووضع نفسه من أجل المسيح، وحقق أمنية حبه, ومات مصلوباً شهادة أمام العالم كله.
وهذا هو الدرس الفريد الذي يطرحه أمامنا القديس يوحنا كباقي الإنجيليين: أن بطرس كان مثلك ومثلي، بحسب الجسد لا شيء، مكابر، شجاع بلا قوة، مقدام بلا روية، معتد بلا أصل، متسرع سريع الندم، مدعي الأولوية دون دعوة أوتزكية. لكن عندما لمسته النعمة، انقلبت موازينه غير المتزنة, وصار بعد أن حل عليه الروح القدس أول من نطق بلسان يوم أن تقسمت موهبة الألسن, وأول واعظ ارتجت له المنابر، وصاحب أول حصاد لحساب رب الحصاد، ثلاثة آلاف نفس يهودية نقية اعتمدوا في يوم واحد. وكانت هي أول كنيسة في العالم.
فبطرس هو أقوى عمود من ثلاثة أعمدة, حملت سقف وأسقفية كنيسة أورشليم، وأول من ملأ كنيسه بعملة سماوية مسكوكة باسم يسوع المسيح الغالي القيمة، دفح منه ثمن شفاء أعرج من بطن أمه، كان يُحمل على الكتف أربعين سنة (راجح أع1:3 – 22:4). فكانت أول معجزة بعد معجزات المسيح أجراها من داخل الهيكل أمام كهنة وفريسيين والاف من شهود عيان في رواق سليمان؛ حيث اتخذها بطرس فرصة، وأخذ يوبخ بلا رحمة الذين بجهالة صلبوا رب المجد، ولما هددوه مع يوحنا صليا مح بقية الرفاق صلاة تزعزع لها المكان (راجح أع23:4-31). وهكذا جاهر بطرس بالإيمان، وشدد إخوته حسب الوصية، ثم منطقوه, وحيث لا يشاء صلبوه، وهكذا تبع المسيح أخيراً حسب الوعد!
(أ) المسيح يعزي تلاميذه بالرجاء السماوى.
(ب) يعّرف نفسه بأنه هو الطريق والحق والحياة، وأنه واحد مع الآب.
(ج) يعدهم بتأكيد استجابة الصلاة التي تُقدم باسمه.
(د) يوصي بالمحبة والطاعة.
(ه) الوعد بإرسال الروح القدس المعزى.
( و) يترك سلامه لهم.
تمهيد: جولة حول الاصحاح بأكمله.
القديس يوحنا، في الأصحاحات القادمة، يصف لنا المسيح من مستوى عملي وقيادى، كيف قاد تلاميذه بهدوء فائق الوصف في أعنف عاصفة هوجاء يمكن أن تواجه جماعة صغيرة للغاية, كقطيع وديع من خراف محاصرة من كل ناحية، ووسطها ذئب فاجر يعوي لتسمعه الذئاب في الخارج، لتتعرف على المكان وعلى أسراره. والراعي يطمئن خرافة أن لا تضطرب ولا تجزع، فقد اشترى حياتها بدمه، وهو ضامن سلامها، وها هو ذاهب في رحلة سماوية وسيعود بعدها إليهم محملاً بالأخبار السارة والمفرحة، ليسلمهم سر الطريق الصاعد إلى فوق، وسوف يتحدث مع الآب بخصومهم مع توصية خامة أن يستمع الآب نفسه أصواتهم. وقد أخذ يصف لهم صورة الآب، فأراهم نفسه مؤكدا لهم أنه هو هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور، وأنه هو والآب واحد في كل شيء, وفاجأهم بكشف أعظم سر عند الآب، وهو الروح القدس الذي يوحدهما بالحب, واعداً بأنه سيطلب من الآب أن يرسله إليهم ليعزيهم عن فراقه لهم بالعيان, وليملأهم بالمعرفة وكل الحق, ليتذكروا كل ما قاله لهم وما عمله أمامهم, حتى يتكلموا بكلمته عينها ويشهدوا بها ولها مقروءة ومكتوبة. ثم ترك المسيح لهم سلامه الخاص, الذي ينسكب من السماء من فوق مناطق العقل والاضطراب، فيكون لهم مصدر أمان سماوي واطمئنان دائم في كل زعازع العالم ومكايد الشيطان. وسلامه هذا سيكون عوض سلام العالم الذي يعطيه باليمين ويسحبه بالشمال، يمنحه اليوم وينزعه غداً، وبالنهاية هو قبض الريح.
وفي نهاية الحديث، اكفهر وجه الرب لمنظر، لم يتبينه يوحنا ولا التلاميذ، إذ ظهر للمسيح رئيس العالم قادماً للحرب، ولكن عبثاً يحارب، فليس له في المسيح مأخذ. لم يؤخذ المسيح، ولم يرتد، بل كف عن الحديث، وأعلن عن انتهاء زمان الأحاديث إلا قليلاً. ثم أمرهم أن يغادروا المكان فوراً، لأن العدو كان يترتص بهم, ولم يشأ الرب أن يقبض عليهم داخل البيت.
يعتقد العالم اللغوي وشارح الإنجيل بيورنى أن في الآيات من (1-10) يوجد شعر أرامي منظوم على أساس كل أربعة توقيعات وحدة شعرية. لذلك فهي تحوي خطاً فكرياً موحداً.
بعد أن حذر الرب بطرس، وهو مقدام التلاميذ, أنه سينكره هذه الليلة ثلاث مرات، صمت بطرس، وصمت أيضاً التلاميذ, مع جزع ورعبة؛ لأنه إن كان الرب ذاهباً ليموت، وإن كان هذا هو يهوذا، وهذا هو بطرس أيضاً، فمن نكون نحن؟
لتد ملأ الحزن قلوبهم ... وفجأة قطع الرب الصمت بكلمات، افتتح بها كوى السماء لتفيض سلاماً في قلوب التلاميذ. فكانت كلمات الرب هذه تُعتبر الدرة الثمينة في إنجيل المسيح.
«لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ.»:
«يضطرب»: كلمة «يضطرب» باليونانية ( ) وباللاتينية ( ). فإن كنا قد عرفنا سابقاً أن المسيح «اضطرب بالروح» (27:12, 21:13)، فاضطراب المسيح لم يكن عن فقدان الصلة بالآب، التي هي قاعدة الثبوت العليا، ولا عن خوف لأنه لم يرهب للموت جانباً، إذ وطأ هامته بقدميه، ولا كان اضطرابه بسبب الخوف من المجهول لأنه كان «عالماً بكل شيء». ولكن اضطرابه، كما علمنا، كان ردة فعل الجسد لهول المعركة الروحية التي كان قابضاً على زمامها. فاضطراب المسيح شيء واضطراب التلاميذ شيء آخر، فالاضطراب لا يتملك على الإنسان إلا إذا تخلخل رباط الإيمان بالل . فاضطراب التلاميذ كان بسبب تزعزع رباط الإيمان بالله.
«قلوبكم»: الترجة العربية متصرف فيها، فهي في الأصل اليوناني مفرد ( )، وهذا أسلوب أرامي وعبري. و«القلب» في المفهوم الشرقي هو مصدر الشعور. أما في اللغة القبطية، فالقلب هو مصدر جميع العواطف والفهم والذكاء والغباء أيضأ، فالرجل الذكي يسمى ( ), والرجل القوي الشجاع يسمى ( ) والرجل الرحيم ( ) والرجل الغبي ( ) بلا قلب أصلاً.
و«تضطرب» باليونانية تُستخدم كالعربية في اضطراب البحر أيضاً، والشبه بين اضطراب القلب واضطراب أمواج البحر مصطلح يستخدمه الوحي الإلهي في الكتاب كثيراً . فالخوف من الموت, وأخطر منه الخوف من المجهول، يطيح بفكر الإنسان فلا يعود يستقر له قرار. والمعروف في الاختبار الإيماني، أن سبب الخوف دائماً وبلا استثناء هو فقدان الصلة مع الله. فأمان الإنسان الوحيد هو في تطلعه نحو الله والإمساك به بالإيمان، فإذا ركز الإنسان فكره في الواقع المفزع أمامه يغرق في الحال, هذا كان حال القديس بطرس أيضاً، إذ لماذا بدأ يغرق والرب واقف أمامه؟, «ولكن لما رأى الريح شديدة، خاف؛ وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلاً: يا رب نجني, ففي الحال مد يسوع يده، وأمسك به، وقال له: يا قليل الإيمان, لماذا شككت» (مت30:14-31). أي، لما ركز رؤيته في الريح, فقد رؤيته للمسيح، وهكذا فقد قاعدة ثبوته فوق الماء.
وهنا الرب أيضاً لا يتكلم مجرد كلمة «لا تضطرب قلوبكم»، بل يمد يده لينتشل التلاميذ، فحينما يأمر المسيح، فأمره ينفذ بقوة الكلمة الحية، ويحمل تنفيذه في طاعته, وهو، مع المعونة الإضافية التي يمنحها لهم بالكلمة، يذكرهم بالقاعدة الثابتة التي ينبغي أن يربطوا, أو يكونوا قد ربطوا فيها, ثقتهم وهي: الإيمان بالله.
« أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي»: «الإيمان» باللغة الآرامة (لغة القديس يوحنا تعني «الثبوت»)، لأن قاعدة الثبوت الجوهرة أو «الثبوت الحق» هو الله، في الأدب العبري. فالذي يؤمن بالله يعني الذي يثبت في الله أو يشترك في ثبوته، كما في الصخر، فالله «صخر الدهور» (إش4:26)، أي الثابت على مر الأيام وكر السنين.
خطر الثنائية في اللاهوت ينبغي أن نحترس منه دائمأ، عندما نضع المسيح نفسه في مقابل الله أو الآب، فالمعنى هنا هو: إن كنتم تؤمنون بالله فأنتم تؤمنون بي أيضاً، وبالضرورة، حتى وإن كنتم لا تعرفون الآن!! وهنا يلزم أن نربط هذه الآية بالكلام الوارد بعدها، لأنه يعطيها الرؤية اللازمة والتوهج اللاهوتي المطلوب. فالمسيح بعد ذكره الله, يعود ويذكره باسم «أبي» (2:14)، ثم يذكره باسم «الآب» (6:14)، وبذلك يكون المعنى، بمد ضم الصفات، كالآتي: أنتم تؤمنون بالله، هذا جيد جداً، وأنا أترككم لأذهب إلى الله, الذي هو أبي, وهو الآب (أبوكم). فإن كتم تؤمنون بالله حقاً، وهذا صحيح وواجب، فإيمانكم بالله فيه الكفاية ليجعلكم تؤمنون بي.
إذن، فاربطوا ثقتكم ورجاءكم بما هو فوق, ولا تنظروا إلى مفازع الموت وتهديداته، لأن الموت وارد حتماً كل حين. لهذا أنا ذاهب إلى الآب لأعد لكم هناك مكاناً، حتى إذا دعاكم داعي الموت, وهو حتماً سيدعو, فأنا آتي سريعا وأخذكم.
وهو بهذا الكلام يجعل من موته مهمة عظمى في السماء تختص بهم هم، أما موته بالنسبة له فهو مجرد سفر إلى موطنه السعيد الذي يذهب إليه ليعود أيضاً لنكون معه دائماً. فلماذا الخوف ولماذا الاضطراب؟
وحتى سفره السعيد هذا، لا يكون كأنه بلا عمل بل هو، في الحقيقة وواقع الأمر، يعبد طريقاً إلى الله، ومنه إلينا، ليعود إلى الآب، ومعه دائماً أبناء كثيرون إلى المجد (عب10:2)، لأن كل ما يصنعه المسيح هو لأجلنا.
الصحيح ينبغي أن تُقرأ هذه الآية هكذا: «في بيت أبي مواضع كثيرة»، لأن البيت هو المقابل الروحي للهيكل الذى قال عنه المسيح: «بيتي بيت الصلاة يُدعى» (مت13:21)، «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (يو16:2)، وأما المواضع الكثيرة أو المساكن الكثيرة في البيت، فهي المقابل للأروقة. والأروقة بها غرف كثيرة (1مل 5:6-6)، وقد وصف القديس بولس الرسول ذلك: «فلنا في السموات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيد أبدي.» (2كو 1:5)
و«المواضع» قال عنها القديس بولس أيضاً: « فإنا في هذه أيضاً نئن، مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا, الذي من السماء.» (2كو2:5)
«مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ»: الكلمة اليوناية منحوتة من ( ) وتعني «مسكن دائم» أو «بيت» (وليس «منزل»). وهي التي جاءت في الأية (23): «وإليه نأتي وعنده نصنع بيتاً (منزلاً)», أي إقامة دائمة!!
ولكن كلمة «منزل» باللغة العربية خاطئة ومفسدة للمعنى، لأن «المنزل» غير«البيت». فالمنزل يعني مكاناً ينزل فيه الإنسان عابراً وليس مقيماً، وممه النزل أي الخان أو الاوتيل حيث الإقامة الدائمة منعدمة؛ أما البيت فللأقامة الدائمة. وفي كتابات هامة للقديس إيرينيئوس («ضد الهرطقات»، الجزء الخامس، المقطع 36:12) قطعة ينقلها لنا من أقوال الشيوخ, يقصد بهم بابياس وغيره، يُفهم منها أن الـ ( ) هي «المساكن» أو «المواضع» الدائمة للطوباويين التي تتمايز في المجد، ولكنها ليست مقيدة، بل ينتقل داخلها الطوبانيون من درجة إلى درجة أعلى.
ويقول في ( )، أيضاً، القديس كلمندس الإسكندري، أنها أماكن متراقية من مجد إلى مجد، وأن الله له ( ) الخاصة به.
وهنا يلزمنا أن نشير إلى المكان الرهباني الجغرافي المجاور لمنطقة القلال، بجوار هرموبوليس بارفا (دمنهور الآن)، والذي كان يسمى ( )؛ هذه الكلمة سُميت بالعربية «الُمنى» بالمدة المفتوحة دون ترجمة لجهل المترجم. وحقيقة الأمر أن الآباء الرهبان كانوا يرون في حياتهم وسكناهم صورة سماوية على الأرض، فأطلقوا على مساكنهم هذه اللفظة المستعارة من إنجيل يوحنا، أي ( ).
«وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً»: احتار علماء الكتاب في شرح هذه الآية ولكنهم استقروا على أنها استفهامية منفية هكذا: (إذا لم يكن هذا حقيقياً, أي أنه ليس في بيت أبي منازل كثيرة، فهل كنت قد قلت لكم إنى أمضى وأعد لكم مكاناً)
والمعنى يزداد وضوحاً إذا أخذنا أيضاً بمفهوم المسكن في سفر العبرانيين: «وأما المسيح, وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل, غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة. وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبدياً» (عب11:9-12). «حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا» (عب20:6). هذه الأية تنطبق انطباقاً عجيباً وعميقاً على آية إنجيل يوحنا، وتشرحها، وتشرح كيف وبماذا هيأ لنا المسكن السماوي، وكيف دشنه بدمه، حتى يصلح لسكنى الخطاة.
«أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً»: الموضوع كله تعزية، الرب يهون على أحبائه ثقل الفراق, ويدخل إلى الحقيقة الروحية مباشرة، فالإقامة في الأرض خرافة، الإقامة الحقيقية والدائمة هي فوق, الأرض ليست «موضعأ» للروح بل هي أولاً وأخيراً مقبرة حزينة للجسد, والجسد مهما تجمل فالذبول مآله. إذن، فالرجاء كله يتحتم أن يُربط بالموطن الحقيقي وعند من؟ عند الآب. وللابن عند الآب مجال إلهي، كله مجد وبهاء وسلطان، كان قد تخلى عنه ليتفرغ إلى مهمته على الأرض بالجسد.
والآن قد آن الأوان للعودة إلى الأحضان الأبوية واستعادة المجد الذي له عند الآب واستلام كل سلطانه على قوات السموات، ليس كابن الله فقط، بل وابن الإنسان أيضاً, فالابن يعود إلى الآب حاملاً البشرية فيه, فعندما يوطد سلطانه بوضعه الجديد من جهة «بشريته», أي عندما يوطد «للانسان» مكانة جديدة لدى الآب، ويوطن الإنسان بعد غربته الطويلة في موطنه الأول مع الله, من داخل البنوة العزيزة والفريدة التي له عند الآب، ويطمئن أن الحضن الأبوي يسع الإنسان الجديد المتبنى في ميراث بنوته الإلهية الوحيدة، حينئذ يعود ليأخذ الإنسان المفدي والمبرر والمتقدس والمولود جديداً من الماء الحي والروح المُحيي, المغسول بالدم الإلهي، المتهييء بالنعمة، والمستضيء بالنور الإلهي لميراثه الجديد في النور الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ في السموات.
وربما تكون هذه المهمة، أي توطين الإنسان عند الله مرة أخرى، هي أعظم وأخطر عمل للمسيح سيقوم به عند الآب بعد تكميل مهمة الصليب، فهي النتيجة النهائية وختام التدبير الإلهي المتحمل من عمليتي التجسد والفداء.
أما تعدد «المنازل» في البيت الأبوي فراجع إلى درجات الاستنارة والإنارة. فعالم الله فوق، هو عالم النور, ولا يوجد فيه أية خليقة غير منيرة. لذلك يقول عنه سفر الرؤيا إنه ليس فيه شمس ولا قمر، بل الله والخروف سراجه (رؤ23:21). فالمسيح هو النورالحقيقي، وباتحادنا به بالسر الآن يعطينا استنارة فقط, تنشط الذهن الروحي لإدراك ما لا يُدرك ورؤية ما لا يُرى، وهذا عربون ما سيكون بالقيامة أي بالا ستعلان والتجلي، حينها يتغير جسدنا المعتم, جسد الخطية المظلم، ليكون على شبه جسد مجد المسيح المضيء (في21:3). وهذا هو قول المسيح نفسه: «حينئذ يضيء الآبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (مت43:13), بأنوار تتعدد وتترقى درجاتها، تبعاً لتعدد وتميز درجات الاستنارة الذهنية فيما يخص الإلهيات الآن.
والكلام يكاد يكون واضحاً أنه، منذ الآن، أمامنا طريق الاستنارة بالكلمة وعمل البر مفتوحاً لتنقية القلب، لأن أنقياء القلب هم الذين يعاينون الله (مت8:5)، لنستزيد منه قدر ما نشتهي، وقدر ما نطلب ونسعى ونجتهد بالحب والحق، بانتظار القيامة والتجلي بنور المسيح, حينئذ نأخذ مواضعنا المناسبة لاستنارتنا في المنازل العليا المعدة في نور القديسين: «حينئذ يضىء الآبرار كالشمس في ملكوت أبيهم.» (مت43:13)
هنا يلطف المسيح من أثر صدمة الفراق، ويجعلها كأنها ضرورة حتمية، من أجل التلاميذ والعالم، فالمعنى يحمل العودة، والعودة ذات شأذ وشئون، من أجل ضمان الخلود، فكأني بالمسيح يقول لهم: أنتم الآن «غرباء» و «يتامى» ولا يمكن أن أترككم كذلك, فلابد أن أمضى لأعد لكم «موطناً» في «ينوة» الله، وآتي مرة أخرى، لا من أجل الخطية وغفرانها بعد، بل من أجل ميراث ومجد مُعد!! «هكذا المسيح أيضاً بعدما قُدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثاية بلا خطية، للخلاص للذين يتتظرونه» (عب28:9)، وبالأسلوب اللاهوتي: هي فرقة وقية الآن، لحساب اتحاد أبدي آت.
«آتي أيضاً»: مجيء المسيح الثاني أمر، وإن كان قد وقعه المسيح مسبقاً على مستوى الزمن، إلا أنه لا يستعلن زمنياُ، فلا هو معروف متى سيكون أو كيف سيكون، لأن ظهوره سيكون مقصوراً على ذوي البصائر المفتوحة بالروح فقط: «قال له يسوع: إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء, فماذا لك؟! اتبعني انت» (يو22:21)
+ «والآن، أيها الأولاد، اثبتوا فيه، حتى إذا أٌظهر، يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه.» (1يو28:2)
+ «أيها الأحباء، الأن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو.» (1يو2:3)
+ «وأخيراً قد وُضع لى إكليل البر، الذي تهبه لى، في ذلك اليوم, الرب الديان العادل، وليس لى فقط، بل لجميع الذي يحبون ظهوره أيضاً.» (2تى8:4)
+ «متى أُظهر المسيح حياتنا, فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
+ «فإن سيرتنا نحن هي في السموات، التي منها ننتظر أيضأ مخلصأ هو الرب يسوع المسيح, الذي سيغير شكل جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شىء»(فى20:3-21)
و«مجيء المسيح» في لاهوت إنجيل القديس يوحنا غير محدد، فهو، كما لخصه في المقدمة, في صورته الدائمة والمستمرة على مدى الزمن والأزمان كلها: «كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان أتيا إلى العالم» (يو9:1)، أي أن المسيح, كنور العالم, هو في حالة مجيء مستمر ومتعدد «آتياً». فهو أتى, ويأتي, وآت, وسيأتي. «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية, يقول الرب الكائن والذي كان, والذي يأتي, القادر على كل شيء» (رؤ8:1 )؛ «لأنه بعد قليل جداً سيأتي الآتي ولا يبطىء» (عب27:10)؛ «لا أترككم يتأمى، إني آتي إليكم.» (يو18:14)
وواضح أن مجيء المسيح خبرة إيمانية, فهو حالة استعلان أو ظهور أو حلول الحضرة الإلهية في الحياة الحاضرة كاختبار فرحة الإيمان بحضور المسيح، أو حالة انطلاق الروح بعد الموت واستعلان المسيح المفاجىء للروح وحصولها على حالة غبطة فائقة, أو مع مجيء الروح القدس للتوبيخ والتبكيت والإنذار، وظهور المسيح بمظهر القاضي والديان لردع النفس وفتح طريق التوبة أمامها، أو في مجيئه اليومي والأسبوعي في الكنيسة لقيادة صلواتها ومسيرتها، وتقديس أسرارها، ومنح نفسه لأولادها، أو في مجيئه الأخير لإخضاع كل شيء ولتغيير هيئة العالم واستعلان سماء جديدة وأرض جديدة, كل هذا واقع في صميم مجيء المسيح كحقيقة أبدية فائقة على الزمان ولكنها مُستعلنة فيه.
«آخذكم إلي»: التعبير اليوناني أغنى من العربى، وأكثر عمقاً: ( ) أي « أستقبلكم إلى نفسي», حيث كلمة ( ) باليونانية تفيد استمرار الاندفاع نحو الآخر, وكأنما التلاميذ، وهم مدفوعون بالشوق الشديد ومنجذبون بالروح نحو المسيح، من جراء الحب أو العشق الإلهي الذي احترقت به قلوبهم، إذ بالمسيح يستقبلهم ويضمهم إلى حضنه فيكمل عجز اندفاعهم نحوه، يجذبهم إلى نفسه حسب شدة قوة حبه الفائق على حبهم؛ وما نقص من استحقاقهم للقرب منه، يعوضه باستحقاق بره القادر أن يوحدهم بنفسه.
وهنا يلزمنا أيها القارىء العزيز أن ننوه بالفارق الكبير بين ما نستمتع به الآن من استعلانات حضرة المسيح التي ننعم بها في صلواتنا وحبنا وشدة فرحتنا التي تغمر مشاعرنا وكأننا بلغنا المنتهى، وبين ما أعده لنا المسيح في ملكوته؛ الأ مر الذي لو تأملناه لهانت علينا الآن كل آلام الزمان الحاضر مع أوجاع الجسد وهموم العالم...
«حتى حيث أكون أنا, تكونون أنتم أيضاً»: ما دفعه المسيح في تعذيبات الذبح وكل التغريمات التي فُرضت عليه ودفعها راضياً، سيذهب إلى الآب ليأخذ ثمنها بالكامل, كحقوق ثابتة تضاف بكاملها لحسابنا. فالمجد الذي يسترده، يُعطى له مضافاً إليه اتساعات تسع كل مدعويه الذين دعاهم ولبوا الدعوة لوليمة مجد سمائي، تهتز لها كل العروش والسيادات. إنها حفلة عرس الخروف والكنيسة، مزينة بكامل زينة المسيح عريسها. وتاج البنوة الإلهية. الذي للمسيح الفريد والوحيد في السلطان والعظمة والرئاسة، يتسع ليشمل رؤوس كل المدعوين، الذين رفعهم من درجات العبيد إلى درجة أصدقاء وأحباء العريس، بصك التبني المكتوب والمختوم بالدم؛ لأن العريس، وهو ابن الله الوحيد, المونوجانيس, أخذ في تغربه على الأرض جنسية البشر، وبهذا أعطى البشرية حق التجنس بجنسية العريس، فنالوا استحقاق التواجد الدائم معه، وكأنهم صاروا أهلية له، أو «أهل بيت الله» (أف19:2)، أو عروسأ مع عريسها فى خدر سمائى واحد.
قول المسيح: « حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً»، تعبير لاهوتي يعبر عن كيان غير مفترق، بحسب عمل شدة قوته, وتفاضل غنى نعمته، التي أكمل بها عجز الإنسان في عيني الله، هذا العمل الذي انتهى إلى عمل وحدة غير مفترقة مع المسيح والله (يو17). أما بحسب العيان, فقد رأى القديس يوحنا هذه الكينونة غير المفترقة على صورة راع ورعية: «... هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب... لأنهم بلا عيب قدام عرش الله (رؤ4:14-5)
وقد عاد المسيح وركز على هذا الوجود أو الكيان المتلازم بينه وبين أحبائه في صلاته الأخيرة للآب: «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني، يكونون معي حيث أكون أنا يكونون معى لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.» (يو24:17)
لذلك كان مئتهى شهوة القديسين أن يفلتوا من سطوة الجسد ويكونوا مع المسيح: «فإني محصور من الاثنين، لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم.» (في23:1-24)
المسيح يفترض في تلاميذه، أو هو يدعوهم إلى هذا الافتراض، أنه بحسب كل ما سمعره منه حتى الآن وكل ما صنعه أمامهم، فهم يعرفون أنه ذاهب إلى الصليب, ومن الصليب إلى أبيه, وبذهابه إلى الصليب بإرادته، وكأنه ذاهب إلى مهمة خاصة وعاجلة، ثم بارتفاعه, عن طريق الموت, إلى الآب كمن يقدم تقريراً عن اكتمال مهمته، يكون قد افتتح طريقاً جديداً من الأرض إلى السماء ومن الإنسان إلى الله، طريقأ صالحاً لعبور كل الذين نالوا العتق من حكم الموت.
تم جاء سؤال توما وسؤال فيلبس، فاستقبلهما المسيح كما استقبل حديث تلميذي عمواس, فما بعد, حيث أكمل عحز الفكر البشري وتخلفه عن متابعة استعلانات الروح من واقع الحوادث.
ألم يقدم لهم، منذ ساعة، جسده المكسور ودمه المسفوك؟ ألم يخرج أمامهم يهوذا بعد أن أخذ شهادة من الرب أنه المعين من قبل الشيطان لتسليم الرب للموت؟
ما معنى الذهاب إلى الآب، وما معنى إعداد المكان، وكيفية العودة؟ ما أسرار هذه الرحلة التي لم يسمح بها أحد قط ولا خطرت على قلب بشر؟ هل ستأخذه مركبة نارية؟ هل ستقوده ملائكة؟ هل على سلم يعقوب؟ ثم إلى أين، هل إلى حضن إبراهيم؟ أم إلى حضن أعلى؟ وكيف يتبعونه فى طريق لا يعرفونه, فكيف يقول لهم: تعرفون الطريق؟ تسرع على كل حال!!
ثم إن الصعوبة التي قامت في ذهن التلاميذ كانت تدور حول كيف يُنشىء الموت أملاً ورجاءً لأن «القيامة» كانت مختفية عن أذهانهم. والموقف هنا شبيه بموقف مرثا، فهي تعرف أن أخاها سيقوم في اليوم الأخير، ولكن ما علاقة ذلك بالمسيح؟ مما جعل المسيح يعلن نفسه لها أنه هو «القيامة والحياة»، وبرهن لها ذلك بالفعل، إذ أقام أخاها من الموت.
توما هنا يسأل عن معنى الذهاب وكيفية الذهاب وإلى أين يكون الذهاب, فكيف بعد هذا يعرفون الطريق؟ لقد بدا لهم الموضوع على مستوى جسدي، فتحيرت عقولهم كتلميذي عمواس, مما اضطر المسيح أن يقول له كما قال لمرثا: «أنا هو القيامة والحياة» ولكن بصورة أخرى: «أنا هو الطريق والحق والحياة». مرثا لم تفهم علاقة القيامة بالمسيح، وتوما لم يفهم علاقة «الطريق» بالمسيح. الموت وقف ليسد كل منافذ التفكير والأمل عند مرثا, وكذلك أيضاً عند توما. ولكن عند توما كانت العقبة هي في «حقيقة» الموت كطريق حياة، هذا كان أمراً صعباً «كحقيقة».
فالمسيح فسر كل هذه الخفيات واستعلنها «في نفسه» أنه هو الطريق، وهو الحقيقة التي تعلن الطريق وتقود إليه، وهو الحياة كنهاية وغاية. وبمعنى مختصر ولكن يفوق التصور الجسدي ولا يمكن أن يمسكه العقل، أن الذي يمسك بالمسيح يكون قد عبر الطريق دون أن يجوزه، وعبر الموت دون أن يعبر رُعبته، ويكون قد قام دون أن يموت، بل يكون قد بلغ موضعه في السماء واستقر دون أن يغادر الأرض، أو يكون قد غادرها، سيان. ألم يقل المسيح مرة أنه هو ابن الإنسان الذي على الأرض الذي هو في السماء؟ «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.» (يو13:3)، وكأنه هنا وهناك بآن واحد، ونزل وصعد دون أن يغادر لا هنا ولا هناك، وأنه وهو معنا لم يغادر حضن الآب، وألم يقل لهم في بكور أيام تلمذتهم أنهم من الأن... «يرون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان» (يو51:1)؟ فلمن كانت الملائكة تصعد بهذه السهولة؟ إلا للانسان، لتمهد له الصعود؟ ولمن كانت تنزل؟ إلا لنا، لكي تمسك بأيديا لنصعد بسهولة، فكيف لا يصعد الإنسان؟ والسلم قد أقامه لنا من جسده الذي ثبت به الأرض بالسماء، وأطعمهم به علنا ليثبت فيهم إلى الأبد ويثبتون فيه، فلا يحتاجون إلى من يعرفهم الطريق بعد، إذ هو قائم في داخلهم، وسقاهم دمه ليسكن فيهم روحه الأزلى، ليصيروا من الروحيين إلى الأبد، إذا نفضوا غربتهم عن الأرض والأرضيين.
ألم يظهر الله في الجسد، فصار معنا، لكي بالجسد نصير في الروح ونظهر معه؟ ألم يلتصق ببشريتنا، فصار واحداً منا، لنلتصق بروحه، فنصير فيه واحداً مع أبيه؟ «وأما من التصق بالرب فهو روح واحد» (اكو17:6)، ألم يتغرب عندنا قليلاً ليفك أسر غربتنا، ويأخذنا لنستوطن عنده إلى الأبد؟ ألم يأخذ من الآب كل شيء: «وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه...» (يو3:13)، ليعطيه لنا، ليمكننا من العودة معه إلى الآب، لنرث كل شيء: «وأنه من عند الله خرج (إلينا)، والى الله يمضي (ونحن معه)»؟ (يو3:13)
ثم ما هو الطريق؟ نحن قلنا، كما قالت الرسالة إلى العبرانيين، أن: «... لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأ قداس، بدم يسوع طريقاً كرسه لنا حديثاً، حيا، بالحجاب أي جسده» (عب19:10-20). ولكن أيضاً ما هو الطريق؟
لو علمنا أن جوهر رسالة المسيح تقوم على فعلين أساسيين أكملهما المسيح:
الفعل الأول: هو استعلان الآب السماوي. فالمسيح، وهوالابن المتجسد، استطاع بصفته هذه، أي من خلاء بنوته المطيعة المحبة للآب، أن يعلن لنا الآب, والأفضل أن نقول يستعلن لنا الآب, لأن الإعلان يختص بالمعرفة عن شيء مُدرك, أما الاستعلان فهو معرفة الخفيات وما لا يُدرك. فالمسيح استطاع بتعليمه وبروحه الأزلى وطاعته المطلقة للآب، أن يستعلن لنا الآب غير المُدرك، ولا معروف. وذلك من خلال تكميل مشيئته والعمل بوصاياه: «أنا قد حفظت وصايا أبي» (يو10:15), «الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يو18:1)
هذا هو الفعل الأول والهام جداً الذى قام به المسيح، وهو استعلان الآب للعالم.
أما الفعل الثاني: فهو أنه, وهو حامل لجسد البشرية, سمتطاع كابن الصعود به إلى الآب من حيث جاء, وذلك من خلال قوة قيامته, وبواسطة روح الحياة الأبدية التى فيه «... أنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي.» (يو3:13)
بهذين الفعلين: أي باستعلان الآب للعالم، وبرفع البشرية التي فيه إلى الآب السماوي، يكون المسيح هو الطريق الوحيد الموصل إلى الآب, باستعلان شخص الآب فى نفسه, وبالوصول إلى الآب وهو حامل لجسم بشريتنا, وبذلك يكون المسيح حقاً وبالفعل الطريق الوحيد إلى الآب, ولا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلا به.
أما فيما يخص الرد على سؤال توما فقد أصبح على توما أن يفهم من كلام المسيح أن المسيح ذاهب إلى الآب، رداً على قوله: «لسنا نعرف أين تذهب»؛ وأن المسيح، بموته عنا وقيامته بنا وصعودنا معه إل الآب, يكون هو الطريق الوحيد المؤدي بنا إلى الآب، ردا على قوله: «فكيف نعرف الطريق».
والمسيح بقوله المختصر والمركز والمشدد: «أنا هو الطريق», حيث التشديد يأتي مركزاً في اللفظ «أنا هو»، وحيث «أنا» ككيان حي إلهي, أنا وليس أي كيان أو شيء آخر, حيث تأتي «أنا» لتجيب عل كل ما هو مطلوب للمعرفة، وكل ما هو«كيف», وبأي «قوة», وبأي «استحقاق», وبأي «عمل». فتكون المسألة لا تعود تحتمل سؤالاً واستفساراً عن الذهاب وعن الط يق، يكفي الإنسان أن يمسك بالمسيح ليصل إلى الآب: «لأن به لنا كلينا قدوماً، في روح واحد، إلى الآب» (أف18:2)، لأنه هو الطريق بكل مستلزماته، من معرفة كل الحقائق عنه، ومن الحصول على جوهر الحياة اللائقة به.
وبقول الرب هذا، يكون المسيح قد قطع خط الرجعة على أي ادعاء بأي وساطة أخرى، لأي علم أو معرفة أو روح، ليشترك من قريب أو بعيد في الوصول إلى الله. فهو طريق الخلاص الوحيد الموصل للأب، كما رأيناه سابقاً «نَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (9:10) أنه هو الباب الوحيد أيضاً .
«أنا هو... الحق والحياة»: المسيح لا يعلم الحق عن الله، بل هو الحق الإلهي, هو الله الابن، وهو استعلان «الآب» في ذاته مباشرة وبلا أي وسيط آخر. فهو «الحق» وهو الوحيد الذي يشهد للحق: «لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق.» (يو37:18)
أي أن الذي يدرك المسيح، يدرك الله الآب. فالمسيح هو استعلان الآب، يستعلن في ذاته من خلال «الكلمة والعمل».
كذلك «الحياة», فالمسيح لا يمنح حياة غير حياته، وحياته هي ذاته: «فيه كانت الحياة» (يو4:1)؛ «فمن يأكلني، فهو يحيا بي» (يو57:6). وحياته هي الحياة الأبدية، وهي حياة الآب، وهي رسالته: «أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل» (يو10:10)، وكلماته هي روح وحياة (يو 63:6)، والذي يسمع كلام المسيح يحيا ولو كان ميتاً(يو24:5)، «ولكي تكون لكم، إذا آمنتم، حياة باسمه.» (يو31:20)
كثير من الشراح لم ينتبهوا إلى أن المسيح يركز على الفصل بين الطريق، والحق، والحياة، فهو كل واحد من هذه؛ فهو الطريق، وهو الحق، وهو الحياة, والحق طريق يؤدي إلى الآب, والحق هو استعلان الآب, والحياة هى فى ذاته وفى الآب.
لذلك لا يستقيم القول بأن الطريق يؤدي إلى الحق والحق يؤدي إلى الحياة، هذا خلط بين النظريات الفكرية والواقع الالهي القائم بالكيان الذاتي في المسيح . فالمسيح, بالكيان الذاتي، هو الطريق الموصل إلى الآب، وبالكيان الذاتي يستعلن الحق، وهو الآب فيه, وبالكيان الذاتي هو الحياة, فيه وفي الآب. فالمجال هنا لا يتسع لنظريات يصطنعها الفكر البشري، لتولف بين الطريق والحق والحياة وكأنها مراضيع، هذا خروج عن المعنى اللاهوتي الصحيح، فهي «ذات» وليست موضوعاً.
كذلك يقول أحد العلماء الكبار، وهو توما الأكويني، في نظريته التي وضعها في القرون الوسطى بأن المسيح هو طريق بحسب بشريته، ولكنه هو الحق والحياة بلاهوته. هذا تمزيق للمسيح لا يقبله الفكر اللاهوتي الصحيح. فبشرية المسيح لا وجود لها بدون لاهوته، ولا عمل لها خارج عمل لاهوته. وجسد المسيح صار طريقاً حديثاً إلى الأقداس العليا بلاهوته لأنه ««جسد الكلمة», و «الكلمة المتجسد» قام بقوة الحياة الإلهية التي فيه، وصعد كجسد مجد الابن الوحيد. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنه وهو يقول: «أنا هو الطريق»، فهو يعبر عن كيانه الذاتي الإلهي الكلي وليس عن «جزء» منه أى جسده؟؟؟ وللأسفر قد جرى مجرى هذا العالم الكبير كثير من العلماء المحدثين, بلا وعى.
كذلك أيضأ يرى بعض علماء اللاهوت الغربيين أن «الطريق» هو الأساس ويأتي بعد ذلك «الحق» و «الحياة». بمعنى أن المسيح هو الطريق وأن الحق والحياة هما مجرد شرح للطريق، وهذا خلط لا ينبغي أن يكون, والخطأ واضح هنا، لأن المسيح اتخذ كل من الطريق والحق والحياة معياراً لاهوتياً قائمأ بذاته، وكل منهم بمفرده جعله هويته، أي منسوباً لذاته وكأنه هو، بمعنى: أنا هو الطريق, أنا هو الحق, أنا هو الحياة, فالطريق والحق والحياة لم تعد صفات في ذاتها يمكن التمايز والتواصل بينها، بل صفات لذاته, وذاته يستحيل التمايز فيها ما هو أول وثان وثالث, هذه الصفات التي اتخذها هوية ذاتية له، طرحها أمام تلاميذه لتكون ملكاً لهم بالإيمان به، فيعرفون الطريق به، ويعرفون الحق فيه، ويعرفون الحياة معه؛ والمعرفة في الإلهيات خبرة وممارسة وشركة, وهكذا يطرح المسيح أمامهم معرفته، لتكون لهم منهجاً كاملاً للحياة الأبدية مح الله.
لذلك سنسمعه يوضح هذا، بكل بيان، بقوله: «لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً. ومن الأن تعرفونه وقد رأيتموه... الذي رآنى فقد رأى الآب». كلام الرب هنا يؤكد للقارىء أن المسيح يركز على نفسه، أي على ذاته هو، «أنا هو»، فلا طريق خارجاً عنه، ولا حق بدونه، ولا حياة إلا فيه, ولا آب إلا بواسطته وفيه.
كذلك، لا ينبغي أن تغيب عنا البداية التي بدأ بها الحديث: «لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي». فالرب وجد التلاميذ في حالة انزعاج لأنهم شعروا أنهم على وشك أن يفقدوا المسيح، وأنهم بذلك سيصيرون يتامى، فاختلت موازين إيمانهم، وضاعت من أمامهم علامات الطريق. وأصبح على الرب أن يثبتهم في قاعدة إيمانهم بالله، ويقدم لهم نفسه, أي ذاته, كحقيقة دائمة حية، كغاية لكل شيء، فهو باق لهم، وان ذهب إلى الآب فسيأتى, وفي ذهابه ومجيئه يكون قد عبد الطريق لهم في ذاته، وأنه هو باقي لهم بذاته وبجسده ودمه، مصدر الحق لاستعلان كل حقأثق الله في ذاته, وهو أيضاً باق لهم ينبوع الحياة الأبدية التي تسري لهم من ذاته فلا يخافوا من الموت.
«ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي»: الأن قد استعلن لهم أن الله هو آب وابن معأ، فأصبح من البين والواضح أن القصد الأساسي للاستعلان الذي جاء في ملء الزمان, بواسطة تجسد الابن وظهوره، هو وصول الله للانسان، ثم وصول الإنسان إلى الآب. هذا أكمله الابن بتجسده أولاً، ثم بموته وقيامته وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب. فهي عملية أكملها الابن في ذاته حسب مشورة الآب، ليُصالح العالم لنفسه بواسطة المسيح، فأصبح الوصول إلى الآب في المسيح وبواسطته حقيقة إلهية وبشرية فى آن واحده يتحتم الإيمان بها وقبولها. كما أصبح الدخول إلى الآب هو من داخل الحياة الأبدية التي في المسيح والتي يتحتم الإيمان بها وقبولها. كما أصبح واضحاً أنه من المستيل الوصول إلى الله بدون المسيح، لأن الله «آب وابن»، إذن: «كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً» (1يو23:2)، حتماً وبالضرورة، لأن الآب لا يوجد ولا يُرى إلا بالابن وفيه.
وهكذا يقرر المسيح أن: «ليس أحد يأتي إل الآب إلا بي». وواضح أن الطريق الذي اتحذه الله بواسطة المسيح» ليبلغ به الإنسان إلى الحقيقة الإلهية والحياة الأبدية معه كان:
أولاً: نزل باللاهوت إلى الطبيعة البشرية في ذاته بسر إلهي لا يُنطق به.
ثئانياً: استعلن هذا السر منظوراً ومحسوساً ومدركاً في ذاته بالقول والعمل, ليوصله إلى كل إنسان «كحق».
ثالثاً: ثم سكب حياته بموته, ليمنحها لكل من يتقبلها بالسر وبالروح القدس، ليحيا في الله الى الأبد.
هذه الثلاث الخطوات يقدمها السيح لتلاميذه وللعالم في ثلاث عمليات أو ثلاثة أعمال روحية:
أولاً: الإيمان بابن الله آتياً إلى العالم بالجسد.
ثانيا: قبول حقيقة استعلان سر الله الآب في المسيح.
ثالثا: قبول حياة المسيح المنسكبة بالموت والمستعلنة بالقيامة والممنوحة بالروح القدس في السر.
هذه الثلائة أعمال الروحية هي المعبر عنها: «أنا هو الطريق والحق والحياة»، والمشروحة باختصار في قوله: «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي».
ثم ما هو الطريق؟ نحن قلنا، كما قالت الرسالة إلى العبرانيين، أن: «... لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأ قداس، بدم يسوع طريقاً كرسه لنا حديثاً، حيا، بالحجاب أي جسده» (عب19:10-20). ولكن أيضاً ما هو الطريق؟
لو علمنا أن جوهر رسالة المسيح تقوم على فعلين أساسيين أكملهما المسيح:
الفعل الأول: هو استعلان الآب السماوي. فالمسيح، وهوالابن المتجسد، استطاع بصفته هذه، أي من خلاء بنوته المطيعة المحبة للآب، أن يعلن لنا الآب, والأفضل أن نقول يستعلن لنا الآب, لأن الإعلان يختص بالمعرفة عن شيء مُدرك, أما الاستعلان فهو معرفة الخفيات وما لا يُدرك. فالمسيح استطاع بتعليمه وبروحه الأزلى وطاعته المطلقة للآب، أن يستعلن لنا الآب غير المُدرك، ولا معروف. وذلك من خلال تكميل مشيئته والعمل بوصاياه: «أنا قد حفظت وصايا أبي» (يو10:15), «الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يو18:1)
هذا هو الفعل الأول والهام جداً الذى قام به المسيح، وهو استعلان الآب للعالم.
أما الفعل الثاني: فهو أنه, وهو حامل لجسد البشرية, سمتطاع كابن الصعود به إلى الآب من حيث جاء, وذلك من خلال قوة قيامته, وبواسطة روح الحياة الأبدية التى فيه «... أنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي.» (يو3:13)
بهذين الفعلين: أي باستعلان الآب للعالم، وبرفع البشرية التي فيه إلى الآب السماوي، يكون المسيح هو الطريق الوحيد الموصل إلى الآب, باستعلان شخص الآب فى نفسه, وبالوصول إلى الآب وهو حامل لجسم بشريتنا, وبذلك يكون المسيح حقاً وبالفعل الطريق الوحيد إلى الآب, ولا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلا به.
أما فيما يخص الرد على سؤال توما فقد أصبح على توما أن يفهم من كلام المسيح أن المسيح ذاهب إلى الآب، رداً على قوله: «لسنا نعرف أين تذهب»؛ وأن المسيح، بموته عنا وقيامته بنا وصعودنا معه إل الآب, يكون هو الطريق الوحيد المؤدي بنا إلى الآب، ردا على قوله: «فكيف نعرف الطريق».
والمسيح بقوله المختصر والمركز والمشدد: «أنا هو الطريق», حيث التشديد يأتي مركزاً في اللفظ «أنا هو»، وحيث «أنا» ككيان حي إلهي, أنا وليس أي كيان أو شيء آخر, حيث تأتي «أنا» لتجيب عل كل ما هو مطلوب للمعرفة، وكل ما هو«كيف», وبأي «قوة», وبأي «استحقاق», وبأي «عمل». فتكون المسألة لا تعود تحتمل سؤالاً واستفساراً عن الذهاب وعن الط يق، يكفي الإنسان أن يمسك بالمسيح ليصل إلى الآب: «لأن به لنا كلينا قدوماً، في روح واحد، إلى الآب» (أف18:2)، لأنه هو الطريق بكل مستلزماته، من معرفة كل الحقائق عنه، ومن الحصول على جوهر الحياة اللائقة به.
وبقول الرب هذا، يكون المسيح قد قطع خط الرجعة على أي ادعاء بأي وساطة أخرى، لأي علم أو معرفة أو روح، ليشترك من قريب أو بعيد في الوصول إلى الله. فهو طريق الخلاص الوحيد الموصل للأب، كما رأيناه سابقاً «نَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (9:10) أنه هو الباب الوحيد أيضاً .
«أنا هو... الحق والحياة»: المسيح لا يعلم الحق عن الله، بل هو الحق الإلهي, هو الله الابن، وهو استعلان «الآب» في ذاته مباشرة وبلا أي وسيط آخر. فهو «الحق» وهو الوحيد الذي يشهد للحق: «لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق.» (يو37:18)
أي أن الذي يدرك المسيح، يدرك الله الآب. فالمسيح هو استعلان الآب، يستعلن في ذاته من خلال «الكلمة والعمل».
كذلك «الحياة», فالمسيح لا يمنح حياة غير حياته، وحياته هي ذاته: «فيه كانت الحياة» (يو4:1)؛ «فمن يأكلني، فهو يحيا بي» (يو57:6). وحياته هي الحياة الأبدية، وهي حياة الآب، وهي رسالته: «أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل» (يو10:10)، وكلماته هي روح وحياة (يو 63:6)، والذي يسمع كلام المسيح يحيا ولو كان ميتاً(يو24:5)، «ولكي تكون لكم، إذا آمنتم، حياة باسمه.» (يو31:20)
كثير من الشراح لم ينتبهوا إلى أن المسيح يركز على الفصل بين الطريق، والحق، والحياة، فهو كل واحد من هذه؛ فهو الطريق، وهو الحق، وهو الحياة, والحق طريق يؤدي إلى الآب, والحق هو استعلان الآب, والحياة هى فى ذاته وفى الآب.
لذلك لا يستقيم القول بأن الطريق يؤدي إلى الحق والحق يؤدي إلى الحياة، هذا خلط بين النظريات الفكرية والواقع الالهي القائم بالكيان الذاتي في المسيح . فالمسيح, بالكيان الذاتي، هو الطريق الموصل إلى الآب، وبالكيان الذاتي يستعلن الحق، وهو الآب فيه, وبالكيان الذاتي هو الحياة, فيه وفي الآب. فالمجال هنا لا يتسع لنظريات يصطنعها الفكر البشري، لتولف بين الطريق والحق والحياة وكأنها مراضيع، هذا خروج عن المعنى اللاهوتي الصحيح، فهي «ذات» وليست موضوعاً.
كذلك يقول أحد العلماء الكبار، وهو توما الأكويني، في نظريته التي وضعها في القرون الوسطى بأن المسيح هو طريق بحسب بشريته، ولكنه هو الحق والحياة بلاهوته. هذا تمزيق للمسيح لا يقبله الفكر اللاهوتي الصحيح. فبشرية المسيح لا وجود لها بدون لاهوته، ولا عمل لها خارج عمل لاهوته. وجسد المسيح صار طريقاً حديثاً إلى الأقداس العليا بلاهوته لأنه ««جسد الكلمة», و «الكلمة المتجسد» قام بقوة الحياة الإلهية التي فيه، وصعد كجسد مجد الابن الوحيد. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنه وهو يقول: «أنا هو الطريق»، فهو يعبر عن كيانه الذاتي الإلهي الكلي وليس عن «جزء» منه أى جسده؟؟؟ وللأسفر قد جرى مجرى هذا العالم الكبير كثير من العلماء المحدثين, بلا وعى.
كذلك أيضأ يرى بعض علماء اللاهوت الغربيين أن «الطريق» هو الأساس ويأتي بعد ذلك «الحق» و «الحياة». بمعنى أن المسيح هو الطريق وأن الحق والحياة هما مجرد شرح للطريق، وهذا خلط لا ينبغي أن يكون, والخطأ واضح هنا، لأن المسيح اتخذ كل من الطريق والحق والحياة معياراً لاهوتياً قائمأ بذاته، وكل منهم بمفرده جعله هويته، أي منسوباً لذاته وكأنه هو، بمعنى: أنا هو الطريق, أنا هو الحق, أنا هو الحياة, فالطريق والحق والحياة لم تعد صفات في ذاتها يمكن التمايز والتواصل بينها، بل صفات لذاته, وذاته يستحيل التمايز فيها ما هو أول وثان وثالث, هذه الصفات التي اتخذها هوية ذاتية له، طرحها أمام تلاميذه لتكون ملكاً لهم بالإيمان به، فيعرفون الطريق به، ويعرفون الحق فيه، ويعرفون الحياة معه؛ والمعرفة في الإلهيات خبرة وممارسة وشركة, وهكذا يطرح المسيح أمامهم معرفته، لتكون لهم منهجاً كاملاً للحياة الأبدية مح الله.
لذلك سنسمعه يوضح هذا، بكل بيان، بقوله: «لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً. ومن الأن تعرفونه وقد رأيتموه... الذي رآنى فقد رأى الآب». كلام الرب هنا يؤكد للقارىء أن المسيح يركز على نفسه، أي على ذاته هو، «أنا هو»، فلا طريق خارجاً عنه، ولا حق بدونه، ولا حياة إلا فيه, ولا آب إلا بواسطته وفيه.
كذلك، لا ينبغي أن تغيب عنا البداية التي بدأ بها الحديث: «لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي». فالرب وجد التلاميذ في حالة انزعاج لأنهم شعروا أنهم على وشك أن يفقدوا المسيح، وأنهم بذلك سيصيرون يتامى، فاختلت موازين إيمانهم، وضاعت من أمامهم علامات الطريق. وأصبح على الرب أن يثبتهم في قاعدة إيمانهم بالله، ويقدم لهم نفسه, أي ذاته, كحقيقة دائمة حية، كغاية لكل شيء، فهو باق لهم، وان ذهب إلى الآب فسيأتى, وفي ذهابه ومجيئه يكون قد عبد الطريق لهم في ذاته، وأنه هو باقي لهم بذاته وبجسده ودمه، مصدر الحق لاستعلان كل حقأثق الله في ذاته, وهو أيضاً باق لهم ينبوع الحياة الأبدية التي تسري لهم من ذاته فلا يخافوا من الموت.
«ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي»: الأن قد استعلن لهم أن الله هو آب وابن معأ، فأصبح من البين والواضح أن القصد الأساسي للاستعلان الذي جاء في ملء الزمان, بواسطة تجسد الابن وظهوره، هو وصول الله للانسان، ثم وصول الإنسان إلى الآب. هذا أكمله الابن بتجسده أولاً، ثم بموته وقيامته وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب. فهي عملية أكملها الابن في ذاته حسب مشورة الآب، ليُصالح العالم لنفسه بواسطة المسيح، فأصبح الوصول إلى الآب في المسيح وبواسطته حقيقة إلهية وبشرية فى آن واحده يتحتم الإيمان بها وقبولها. كما أصبح الدخول إلى الآب هو من داخل الحياة الأبدية التي في المسيح والتي يتحتم الإيمان بها وقبولها. كما أصبح واضحاً أنه من المستيل الوصول إلى الله بدون المسيح، لأن الله «آب وابن»، إذن: «كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً» (1يو23:2)، حتماً وبالضرورة، لأن الآب لا يوجد ولا يُرى إلا بالابن وفيه.
وهكذا يقرر المسيح أن: «ليس أحد يأتي إل الآب إلا بي». وواضح أن الطريق الذي اتحذه الله بواسطة المسيح» ليبلغ به الإنسان إلى الحقيقة الإلهية والحياة الأبدية معه كان:
أولاً: نزل باللاهوت إلى الطبيعة البشرية في ذاته بسر إلهي لا يُنطق به.
ثئانياً: استعلن هذا السر منظوراً ومحسوساً ومدركاً في ذاته بالقول والعمل, ليوصله إلى كل إنسان «كحق».
ثالثاً: ثم سكب حياته بموته, ليمنحها لكل من يتقبلها بالسر وبالروح القدس، ليحيا في الله الى الأبد.
هذه الثلاث الخطوات يقدمها السيح لتلاميذه وللعالم في ثلاث عمليات أو ثلاثة أعمال روحية:
أولاً: الإيمان بابن الله آتياً إلى العالم بالجسد.
ثانيا: قبول حقيقة استعلان سر الله الآب في المسيح.
ثالثا: قبول حياة المسيح المنسكبة بالموت والمستعلنة بالقيامة والممنوحة بالروح القدس في السر.
هذه الثلائة أعمال الروحية هي المعبر عنها: «أنا هو الطريق والحق والحياة»، والمشروحة باختصار في قوله: «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي».
مراجعة وعتاب لا بد منهما. كم سنة وأنا معكم أعلن لكم نفسي «أنا هو» وآستعلن في ذلك أبي أيضاً؟ كم من الإعلانات قدمتها لكم عن من هو انا ومن هو أبي؟ ثم كم من الآيات والمعجزات الكاشفة, الواحدة تلو الأخرى والواحدة أوضح من الأخرى، لتدركوا رسالتي وتدركوا من آرسلني؟ والآن تسألونني عن أين أنا ذاهب؟ وتسألونني عن الطريق التي تذهبون أنتم فيها ورائي.
لقد لخص القديس يوحنا في مقدمة إنجيله رسالة الابن الكلمة المتجسد في آية واحدة: «الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يو18:1), لقد استعلن الابن ظاهراً في الجسد، ليعلن الآب غير المرئي، ليكون منظوراً فيه؛ وهذا ما أوضحه سفر العبرانيين بقوله: «الله... كلمنا... في ابنه... الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي, وهوبهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته, بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرأ أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم» (عب1:1-4), «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14)، لأن الابن والآب واحد، فإن نظر الواحد (بالروح) نظر الآخر، وان عرف الواحد (بالروح) عرف الآخر. الابن والآب ذات واحدة, إن قال الابن: «أنا هو الكائن بذاتى, كان الآب هو المتكلم بفم الابن, لأن هذا هو اسم الآب, وكان الابن متكلماً باسم الآب. إن صنع الابن آية، فهي مشيئة الآب مُعلنة. وان أجرى الابن قوات، فهي قوة الآب مُعلنة. وإن رأيتموني مصلوباً، فهذه وصية الآب مُطاعة، وإن رأيتموني أسلم الروح، ففي يد الآب أستودعها، ومن يده آخذها. وموتي هو موتكم أموته لأجلكم لاحييكم بقيامتي. حياتي هي بالآب، وفي الآب قائمة، حياتي أعطيكم، فاعطيكم الآب الذي في، أنا أظهرت ثبوتي في الآب بتكميل وصيته حتى الموت، فإن ثبتم في وصيتي حتى الموت ثبتم في، وثبتم في أبي أيضاً. لقد عرفتكم نفسي بحياتي، وعرفتكم حياتي بموتي، وعرفتكم أبي الذي يعمل فىّ.
«ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه»: «من الآن» هنا، تعني «من هذه الساعة»، ساعة المحنة العظمى التي تُكمل فيها كل مشيئة الآب وكل طاعة الابن، فتستعلن رسالة الحب الآبوي في قمة بذلها، ورسالة حب الابن في قمة طاعتها وسحقها. والرائي يرى الآب من خلال تكميل عمل حبه الفائق في ابنه من نحونا, سواء بالصليب أو بالقيامة: «لا أزال شاكرا لأجلكم، ذاكراً إياكم في صلواتي، كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد وروح الحكمة والإعلان في معرفته, مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا (لتروا) ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدررته الفائقة نحوناء نحن المؤمنين, حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح, إذ أقامه من الأموات, وأجلسه عن يمينه في السماويات.» (أف16:1-20)
وليلاحظ القارىء أن كلمة «تعرفونه» هنا: «من الآن تعرفونه» تأتي في زمن المضارع القابل للامتداد, كما يوحي اللفظ اليوناني ( ) أي من ساعة الآلام هذه التي تبلغ شدتها بالموت, وقوتها بالقيامة، واستعلان كل ذلك يوم الخمسين, ولكن الألام عند المسيح, وفي إتجيل القديس يوحنا، هي هي المجد بعينه، والمجد في قمة استعلانه، حيث تُرى المحبة متجلية بدمها، ومسرة الآب تحيطها من كل جانب: «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم» (إش10:53)، «الآن تمجد ابن الإنسان, وتمجد الله فيه» (يو31:13).
إن أعظم استعلان للآب حققه المسيح، هو بتكميل مشيئته في قبوله للموت, إذ من هذا المنطلق تفجرت «الحياة الأبدية» من دمه المسفوك, والتي فيها اُستعلن الآب: «وهذه هي الحياة الأبدية, يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض, العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته ... أنا أظهرت اسمك للناس ... وعرفتهم اسمك وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذي أحببتي به، وأكون أنا فيهم» (يو 17)
فالآب غير مُدرك ولا منظور، استطاع الابن أن يعلنه في نفسه ويعرف العالم به قولاً وعملاً، إنما فقط للذين آمنوا وقبلوا الابن. لأن الآب لا يُدرك ولا يُرى قط إلا في الابن (أي في البنوة التي له): «ليس أحد يعرف من هو الابن، إلا الآب ولا من هوا لآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له.» (لو22:10)
وفي لحظات تجلي الابن، التي انفعل لها التلاميذ مراراً وتكراراً وصرخوا وشهدوا أنه هو ابن الله الحي، لفت المسيح نظرهم: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك, لكن أبي الذي في السموات» (مت17:16)
أي أن بتجلي الابن، كان الآب يتجلى للتلاميذ من خلال الرؤية الإيمانية الروحية: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14). على أن معرفة الآب لم تكتمل للتلاميذ إلآ بعد الصعود وحلول الروح القدس، الذي استعلن لهم سر الابن والآب، استعلانأ هو الرؤيا بعينها. لذلك نسمع القديس يوحنا يفتخر بمعرفة الآب التي سلمها للأبناء: «أكتب إليكم أيها الأحداث, لأنكم قد غلبتم الشرير، أكتب إليكم أيها الأولاد لأنكم قد عرفتم الآب» (1يو13:2)، حيث تقع معرفة الآب عملياً عند القديس يوحنا على التوازي مع غلبة الشرير، رافعاً أمام أولاده بعد ذلك المضادة العظمى بين محبة العالم ومحبة الآب:«إن أحب أحد العالم» فليست فيه محبة الآب» (ايو15:2)؟ بمعنى أن معرفة الآب, يكون صدق وجودها من واقع فعلها المنحصر في بغضة شهوة الأشياء الزائلة التي في هذا العالم. والقديس بولس الرسول يعطي نفسه نموذجاً: «... قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم.» (غل14:4)
ويا قارئي العزيز، إن الذي يذوق صليب المسيح من داخل بغضة واضطهاد العالم له، وبغضته هو للعالم واحتقاره لأباطيله, يدرك عملياً معنى معرفة الآب بل وتستعلن له، بل وتنسكب فيه محبته.
لذلك، فقول المسيح: «ومن الآن تعرفونه»، أي من ساعة الصليب، قول صادق يحمل سر نصرة المسيح في معركته مع العالم: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء»؛ «ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو30:14, 33:16)، لأنه حيما اكتملت وصية الآب بالموت، وجب كذلك أستعلان شخصه.
كذلك يلزم، للغاية، أن ندرك كم كانت «معرفة الآب» رسالة هامة جداً عند المسيح، بل وكأعز ما جاء ليعلنه ويسلمه للتلاميذ, وبالتالي للعالم كله, وعلينا أن نتمعن في قوله عن ذلك:
«وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ (معرفة الآب) عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابن إِلاَّ الآبُ وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابن وَمَنْ أَرَادَ الابن أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَه (شخص الآب فى صورة المسيح). لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (الله) وَلَمْ يَنْظُرُوا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (صوت الآب) وَلَمْ يَسْمَعُوا».» (لو21:10-24)
ولم يدرك التلاميذ معنى هذه الطوبى وقيمتها العظمى، إلا بعد أن حل عليهم الروح القدس وعرفهم سر الآب في الابن: «وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو3:1)
على أنه يتبقى أمامنا استجلاء إضافي لمعنى «ومن الآن تعرفونه، وقد رأيتموه»، فإن كنا قد رأينا أن الذي استطاع أن يؤمن حقاً بالمسيح ويحبه في ذاته، يكون قد رأى فعلاً الآب، لأن المسيح هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور:« الله ظهر في الجسد» (1تي16:3)؛ كذلك، والعكس أيضاً صحيح، فإن كل من بلغ الإيمان الحقيقي بالله وأحبه من كل قلبه بإخلاص العبادة والتقوى، فإنه حتماً سيكشف له الآب عن المسيح أنه هو صورته الخاصة ورسم جوهره.
لذلك، فالذين رفضوا المسيح يكونون قد برهنوا عملياً أن ليس لهم إيمان حقيقي كامل بالله، ولا محبة صادقة أو تقوى مخلصة، وإلا كيف يرفضون وينبذون صورة من أحبوه وآمنوا به؟
أما التلاميذ فيقول لهم الرب: «من الآن»، أي من خلال الصليب والقيامة، سيبلغون حتماً إلى الإيمان الصحيح بالمسيح أنه فعلاً ابن الله، وبالتالي سيستعلن لهم الآب في المسيح على أساس إيمانهم الصادق بالله، لهذا بدأ المسيح قوله بهذه الحقيقة: «أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي».
وفي موضع قادم سينعي المسيح إيمان اليهود الكاذب بالله، مؤكداً أنه بسبب عدم إيمانهم الحقيقي أو الصادق بالله أخطأوا معرفة المسيح، وعثروا فيه، وأبغضوه: «الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً ... وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي ... إنهم أبغضوني بلا سبب.» (يو23:15-25).
كما أنه في موضع سابق أراد المسيح أن يؤكد لسامعيه, أنه جاء حاملاً كل ملامح من أرسله قولاً وعملاً، واسماً وروحاً، ومشيئة وحباً, لذلك فإنه يصبح من تحصيل الحاصل أن الذي يراه يكون قد رأى من أرسله بالفعل وبالصدق: «الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني. والذي يراني، يرى الذي أرسلني» (يو44:12-45). وهكذا يتضح أمامنا الآن بكل جلاء قوله عن الآب: «من الأن تعرفونه وقد رأيتموه».
مراجعة وعتاب لا بد منهما. كم سنة وأنا معكم أعلن لكم نفسي «أنا هو» وآستعلن في ذلك أبي أيضاً؟ كم من الإعلانات قدمتها لكم عن من هو انا ومن هو أبي؟ ثم كم من الآيات والمعجزات الكاشفة, الواحدة تلو الأخرى والواحدة أوضح من الأخرى، لتدركوا رسالتي وتدركوا من آرسلني؟ والآن تسألونني عن أين أنا ذاهب؟ وتسألونني عن الطريق التي تذهبون أنتم فيها ورائي.
لقد لخص القديس يوحنا في مقدمة إنجيله رسالة الابن الكلمة المتجسد في آية واحدة: «الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يو18:1), لقد استعلن الابن ظاهراً في الجسد، ليعلن الآب غير المرئي، ليكون منظوراً فيه؛ وهذا ما أوضحه سفر العبرانيين بقوله: «الله... كلمنا... في ابنه... الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي, وهوبهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته, بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرأ أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم» (عب1:1-4), «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14)، لأن الابن والآب واحد، فإن نظر الواحد (بالروح) نظر الآخر، وان عرف الواحد (بالروح) عرف الآخر. الابن والآب ذات واحدة, إن قال الابن: «أنا هو الكائن بذاتى, كان الآب هو المتكلم بفم الابن, لأن هذا هو اسم الآب, وكان الابن متكلماً باسم الآب. إن صنع الابن آية، فهي مشيئة الآب مُعلنة. وان أجرى الابن قوات، فهي قوة الآب مُعلنة. وإن رأيتموني مصلوباً، فهذه وصية الآب مُطاعة، وإن رأيتموني أسلم الروح، ففي يد الآب أستودعها، ومن يده آخذها. وموتي هو موتكم أموته لأجلكم لاحييكم بقيامتي. حياتي هي بالآب، وفي الآب قائمة، حياتي أعطيكم، فاعطيكم الآب الذي في، أنا أظهرت ثبوتي في الآب بتكميل وصيته حتى الموت، فإن ثبتم في وصيتي حتى الموت ثبتم في، وثبتم في أبي أيضاً. لقد عرفتكم نفسي بحياتي، وعرفتكم حياتي بموتي، وعرفتكم أبي الذي يعمل فىّ.
«ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه»: «من الآن» هنا، تعني «من هذه الساعة»، ساعة المحنة العظمى التي تُكمل فيها كل مشيئة الآب وكل طاعة الابن، فتستعلن رسالة الحب الآبوي في قمة بذلها، ورسالة حب الابن في قمة طاعتها وسحقها. والرائي يرى الآب من خلال تكميل عمل حبه الفائق في ابنه من نحونا, سواء بالصليب أو بالقيامة: «لا أزال شاكرا لأجلكم، ذاكراً إياكم في صلواتي، كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد وروح الحكمة والإعلان في معرفته, مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا (لتروا) ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدررته الفائقة نحوناء نحن المؤمنين, حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح, إذ أقامه من الأموات, وأجلسه عن يمينه في السماويات.» (أف16:1-20)
وليلاحظ القارىء أن كلمة «تعرفونه» هنا: «من الآن تعرفونه» تأتي في زمن المضارع القابل للامتداد, كما يوحي اللفظ اليوناني ( ) أي من ساعة الآلام هذه التي تبلغ شدتها بالموت, وقوتها بالقيامة، واستعلان كل ذلك يوم الخمسين, ولكن الألام عند المسيح, وفي إتجيل القديس يوحنا، هي هي المجد بعينه، والمجد في قمة استعلانه، حيث تُرى المحبة متجلية بدمها، ومسرة الآب تحيطها من كل جانب: «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم» (إش10:53)، «الآن تمجد ابن الإنسان, وتمجد الله فيه» (يو31:13).
إن أعظم استعلان للآب حققه المسيح، هو بتكميل مشيئته في قبوله للموت, إذ من هذا المنطلق تفجرت «الحياة الأبدية» من دمه المسفوك, والتي فيها اُستعلن الآب: «وهذه هي الحياة الأبدية, يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض, العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته ... أنا أظهرت اسمك للناس ... وعرفتهم اسمك وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذي أحببتي به، وأكون أنا فيهم» (يو 17)
فالآب غير مُدرك ولا منظور، استطاع الابن أن يعلنه في نفسه ويعرف العالم به قولاً وعملاً، إنما فقط للذين آمنوا وقبلوا الابن. لأن الآب لا يُدرك ولا يُرى قط إلا في الابن (أي في البنوة التي له): «ليس أحد يعرف من هو الابن، إلا الآب ولا من هوا لآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له.» (لو22:10)
وفي لحظات تجلي الابن، التي انفعل لها التلاميذ مراراً وتكراراً وصرخوا وشهدوا أنه هو ابن الله الحي، لفت المسيح نظرهم: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك, لكن أبي الذي في السموات» (مت17:16)
أي أن بتجلي الابن، كان الآب يتجلى للتلاميذ من خلال الرؤية الإيمانية الروحية: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14). على أن معرفة الآب لم تكتمل للتلاميذ إلآ بعد الصعود وحلول الروح القدس، الذي استعلن لهم سر الابن والآب، استعلانأ هو الرؤيا بعينها. لذلك نسمع القديس يوحنا يفتخر بمعرفة الآب التي سلمها للأبناء: «أكتب إليكم أيها الأحداث, لأنكم قد غلبتم الشرير، أكتب إليكم أيها الأولاد لأنكم قد عرفتم الآب» (1يو13:2)، حيث تقع معرفة الآب عملياً عند القديس يوحنا على التوازي مع غلبة الشرير، رافعاً أمام أولاده بعد ذلك المضادة العظمى بين محبة العالم ومحبة الآب:«إن أحب أحد العالم» فليست فيه محبة الآب» (ايو15:2)؟ بمعنى أن معرفة الآب, يكون صدق وجودها من واقع فعلها المنحصر في بغضة شهوة الأشياء الزائلة التي في هذا العالم. والقديس بولس الرسول يعطي نفسه نموذجاً: «... قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم.» (غل14:4)
ويا قارئي العزيز، إن الذي يذوق صليب المسيح من داخل بغضة واضطهاد العالم له، وبغضته هو للعالم واحتقاره لأباطيله, يدرك عملياً معنى معرفة الآب بل وتستعلن له، بل وتنسكب فيه محبته.
لذلك، فقول المسيح: «ومن الآن تعرفونه»، أي من ساعة الصليب، قول صادق يحمل سر نصرة المسيح في معركته مع العالم: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء»؛ «ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو30:14, 33:16)، لأنه حيما اكتملت وصية الآب بالموت، وجب كذلك أستعلان شخصه.
كذلك يلزم، للغاية، أن ندرك كم كانت «معرفة الآب» رسالة هامة جداً عند المسيح، بل وكأعز ما جاء ليعلنه ويسلمه للتلاميذ, وبالتالي للعالم كله, وعلينا أن نتمعن في قوله عن ذلك:
«وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ (معرفة الآب) عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابن إِلاَّ الآبُ وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابن وَمَنْ أَرَادَ الابن أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَه (شخص الآب فى صورة المسيح). لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (الله) وَلَمْ يَنْظُرُوا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (صوت الآب) وَلَمْ يَسْمَعُوا».» (لو21:10-24)
ولم يدرك التلاميذ معنى هذه الطوبى وقيمتها العظمى، إلا بعد أن حل عليهم الروح القدس وعرفهم سر الآب في الابن: «وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو3:1)
على أنه يتبقى أمامنا استجلاء إضافي لمعنى «ومن الآن تعرفونه، وقد رأيتموه»، فإن كنا قد رأينا أن الذي استطاع أن يؤمن حقاً بالمسيح ويحبه في ذاته، يكون قد رأى فعلاً الآب، لأن المسيح هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور:« الله ظهر في الجسد» (1تي16:3)؛ كذلك، والعكس أيضاً صحيح، فإن كل من بلغ الإيمان الحقيقي بالله وأحبه من كل قلبه بإخلاص العبادة والتقوى، فإنه حتماً سيكشف له الآب عن المسيح أنه هو صورته الخاصة ورسم جوهره.
لذلك، فالذين رفضوا المسيح يكونون قد برهنوا عملياً أن ليس لهم إيمان حقيقي كامل بالله، ولا محبة صادقة أو تقوى مخلصة، وإلا كيف يرفضون وينبذون صورة من أحبوه وآمنوا به؟
أما التلاميذ فيقول لهم الرب: «من الآن»، أي من خلال الصليب والقيامة، سيبلغون حتماً إلى الإيمان الصحيح بالمسيح أنه فعلاً ابن الله، وبالتالي سيستعلن لهم الآب في المسيح على أساس إيمانهم الصادق بالله، لهذا بدأ المسيح قوله بهذه الحقيقة: «أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي».
وفي موضع قادم سينعي المسيح إيمان اليهود الكاذب بالله، مؤكداً أنه بسبب عدم إيمانهم الحقيقي أو الصادق بالله أخطأوا معرفة المسيح، وعثروا فيه، وأبغضوه: «الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً ... وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي ... إنهم أبغضوني بلا سبب.» (يو23:15-25).
كما أنه في موضع سابق أراد المسيح أن يؤكد لسامعيه, أنه جاء حاملاً كل ملامح من أرسله قولاً وعملاً، واسماً وروحاً، ومشيئة وحباً, لذلك فإنه يصبح من تحصيل الحاصل أن الذي يراه يكون قد رأى من أرسله بالفعل وبالصدق: «الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني. والذي يراني، يرى الذي أرسلني» (يو44:12-45). وهكذا يتضح أمامنا الآن بكل جلاء قوله عن الآب: «من الأن تعرفونه وقد رأيتموه».
سؤال حسي, يخرج بالذهن، أو ينم عن ذهن, خارج دائرة اللاهوت كلية, فيلبس يريد أن يرى بعينيه اللامحدود والمطلق، كطفل يحاول ان يقيس الاوقيانوس (المحيط) بمسطرة, او يجمع الرياح في كفه. لقد تهيأ له أن يرى المسيح بالعين وهو الابن، إذن فالآب قد يُرى على هذا القياس, غير مدرك أن تجسد الابن هو الذي وفر للعين أن تراه جسديأ فقط، ورؤية العين لا توفر رؤيا اللاهوت قط. وهذا يعني أن فيلبس لم ير المسيح قط ، ولم يعرفه بعد.
فالله لم يره أحد قط (يو18:1). وان كان الله قد ظهرفي الجسد فهو ظهور بسر الإيمان وليس بالعيان؛ أما الجسد فوعاء حل فيه كل مل ء اللاهوت جسدياً، «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا» (يو16:1). الجسد يُرى ويُسمع ويُلمس بالحواس, واللاهوت فيه لا يُرى ولا يُحس إلا بالروح. فاته أخذ جسد إنسان ليتكلم مع الإنسان بالكلمة، والكلمة هي أيضاً منطوقة جسدياً, فالجسد للكلمة وعاء، ومن داخل وعاء الصوت المسموع والمحدود يسكن اللاهوت بكل ملئه الفعال، وهو الذي لا تسعه السموات والأرض.
فإذا أخذت كلمة المسيح جسدياً، فلن تسمع إلا مجرد صوت إنسان نعرف أباه وأمه (يو42:6) )، وإخوته وأخوانه أليسوا جميعاً عندنا (مت55:13-56)؟... ولكن إذا سكنت « الكلمة» قلب الإنسان بغنى اللاهوت الذي فيها, احتضن الإنسان الله وأدرك أبعاده التي لا تُدرك ولا تُحد: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا كلمتي (أي اللوغس)» (يو43:8). هنا سمع الكلمة، هو تقبل حقيقة المسيح، بمعنى انفتاح الوعي المسيحي لتقبل الله: «وتعرفون محبة الله الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3).
الله لاهوت، لاهوت خالص، ليس له جسد ولا وعاء يظهر فيه أو يتكلم منه. ولكن من أجل هذا، تجسد الابن، فصار وعاؤه يتكلم فيه الله الآب ويعمل. جسد الابن يُظهر الابن للعين جسداً فقط؛ ولكن إذا تكلم الابن أو عمل، يظهر فيه الله الآب غير المنظور المتكلم والعامل في الابن وبه.
فيلبس أخفق تماماً فى أن يرى الآب المتكلم والعامل بالابن وفيه، هذه السنين كلها!! وبكل صراحة، فإن فيلبس لم ير اللاهوت في الابن، وإلا لكان رأى الآب حتماً؛ لهذا فإن سؤال فيلبس أحزن قلب المسيح، وجعله ينظر إلى تعب السنين هذه وكأنها بلا فائدة ...
المسيح يندهش كيف أنه لم يُستعلن بعد كما ينبغي عند التلاميذ، حتى يتعرف عليه فيلبس؟ حيث يجيء التركيز على «أنا معكم» ولم يقل المسيح «أنت معي». فالملامة التي يطرحها المسيح يطرحها على أساس احتجاب لاهوته عن فيلبس والبقية دون سبب، فلا هو يوم واحد قضاه متكلماً أو عاملاً أعمالاً لم يعملها أحد غيره قط, ولا هو شهر ولا سنة, بل ثلاث سنوات ويزيد وعن قرب شديد، وهو يستعلن الآب الذي فيه بالكلمة والعمل! ولكن إخفاق فيليس في إدراك لاهوت المسيح, وهو التعرف الصحيح على المسيح: «لم تعرفني», لم يكن نتيجة تقصير في اجتهاد فيلبس. فالاستعلان لا يأتي كثمرة للاجتهاد بل بانفتاح الذهن الروحي، الأمر الذي يتوقف أساساً على مقدار عدم ارتباط الروح بالماديات وعلى الاستعداد لفقدان الصلة بالعالم.
فحينما يتحرر الإنسان من جذب العالم، ويتحرر من الجسد والخوف من الموت، يبدأ يستعلن ما وراء العالم وما وراء الموت, وهذا الأمر قد أثبتته الأيام, بل الاعوام القليلة القادمة, أن فيلبس كان مربوطاً فعلاً بالعالم ولا يزال, بل لا يزال أيضاً يخاف من الموت، فقد ترك معلمه وهرب مع البقية ساعة المحنة، خوفا من القبض عليه والمحاكمة والعقاب: «هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي...» (يو32:16). فكيف يستقيم مثل هذا السلوك مع ذهن يفترض أنه قد استعلت لاهوت المسيح، وتعرف على حقيقة المسيح، كابن الله وكحامل للآب في كيانه؟
لذلك صح أن تجيء مراجعة المسيح لفيلبس على أساس طول الزمان الذي توفر لفيلبس, لكي يقرر وينفذ فك ربطه من العالم والجسد والخوف, كاستجابة لوعظ المسيح وارشاده وإعلانه واستعلانه، حتى يتسنى له الدخول في مجال الروح والإلهيات، فيدرك حقيقة المسيح، وتنفك من أمام ذهنه رموز استعلان الآب في المسيح، وهو ما كان شغل المسيح الشاغل.
يستحيل لأي إنسان أن يتعرف عى المسيح كإله, ومعرفة الإلهيات أخذ واشتراك, أو يستعلن له لاهوته ووحدته مع الآب, والاستعلان بصيرة من الله، والإنسان لا يزال منجذباً نحو محبة العالم، لأن: «محبة العالم عداوة لله» (يع4:4)، أي بعد ورفض .
«الذي رآني, فقد رأى الآب, فكيف تقول أنت أرنا الآب»: هنا حقيقة صارخة مفضوحة، وهي أن فيلبس لم ير المسيح بعد. هنا عتاب آخر لا يخلو من الملامة، وهو لفت نظر حزين إلى حقيقة مقطوع بها ما كان ينبغي أن تفوت على فيلبس وهي: أن الآب منظور في الابن بالنظرة الروحية العميقة. فحياة المسيح كلها استقلان للآب فيه, فإن كان فيلبس يطلب رؤية الآب، فعليه أن يعيد النظر في رؤية المسيح، لأن كل رسالة المسيح قولاً وعملاً، هي لاستعلان الآب الذي فيه.
هنا دعنا نترك موضوع الرؤيا جانباً، ونعود إلى الإيمان من حيث كونه حقائق الله في الحياة مع الإنسان، والتي أعلنها المسيح مراراً وتكراراً، وهي أن المسيح، كابن، كيانه هو في كيان الآب، ويظل قائمأ فيه، وغير مفصل منه، لأنهما كيان واحد، ذات واحدة: «أنا والآب واحد» (يو30:10). أما الجسد الذي أخذه الابن لذاته ووحده بلاهوته، فقد دخل في هذا الكيان دخولاً أبدياً متميزاً، كإنسان في ابن الله، فشملته وحدة الابن بالآب بالضرورة. وهكذا صار المسيح فى آن واحد يٌعبر عنه بـ «ابن الإنسان, الذي هو على الأرض, الذي هو في السماء» (يو13:3)، بل وإنه، وهو متجسد، بقي كما كان في حضن الآب، كأعظم تعبير عاطفي من الكيان المتحد، أو وحدة الكيان للمسيح في الآب والآب في المسيح: «الابن الوحيد، الذي هو في حضن الآب، هو خبر.» (يو18:1)
هنا يلزم العقل البشري أن يرتفع فوق القصور المادى للأمور، لأننا الآن نتكلم عن طبيعة الله التي ليست من طبيعة الماديات، ولكننا مرغمون، أو بالأصح، مُصرح لنا أن نتكلم كبشر عن ما هو للمسيح بسبب الجسد الذي أخذه منا وكيف وحده بذاته الإلهية.
أما في الماديات، فلا يوجد قط هذا التصور الذي نتصور به تساوي شيئين أو شخصين تساويا مطلقا أى تساوياً كلياً، لأن المطلقات أو الكليات هي صفة ما فوق الطبيعة، وبالتحديد هي صفة الله. فالله مُدرك كامل يُدرك، ولكن لا يُدرك كماله.
والحقيقة العظمى المطروحة للادراك بالنسبة للانسان، هي الابوة والبنوة في الله «الذي يراني يرى الذق أرسلني» (يو45:12)؛ وصفة الابن صفة مطلقة وكلية في الله، لأنها من صميم جوهره وطبيعته، والآب كذلك صفة مطلقة وكيلة في ذات الله, لذلك، فبسهولة غاية السهولة، نقول إنهما واحد، لأن جوهرهما واحد وذاتهما واحدة، أى متحدان كلية الاتحاد عل وجه الإطلاق الإلهي، فهما واحد. هذا سهل الإدراك فيما نحن نتكلم عن الله، ولكن تصوره مادياً يكون عسيراً غاية العسر، بل تعترضه الاستحالة، لأنه لا يوجد في الخليقة كلها أو في المخلوقات عامة ما يناظر هذا التساوى. لأن جوهر المخلوقات، عموماً وبلا استثناء قط، مركب، أما جوهر الله فبسيط لا ينقسم قط، وذات الله كاملة أزلية.
لذلك لا يلجأ المسيح في شرح وحدته مع الآب إلى التشبيه، ولا إلى أسلوب التعليم، ولا يستحث الفهم البشرق ليدرك هذه الحقيقة الإلهية، ولكنه يلجأ إلى الايمان، وهو التصديق على حقائق ليست أصلاً من اختصاص العقل وليست من اختصاص طبيعة الإنسان، ولكن مجرد التصديق عليها يرفع مخصصات الذهن فوق طبيعته ليدخل بالروح أو بالنعمة الموهوبة إليه والمضافة عليه إلى مجال الإلهيات ليتقبل معرفة حقائق الله. وتقبل حقائق الله والتصديق عليها, وهو المعبر عنه بالإيمان، يعطي الإنسان شركة فيها. لأن إدراك الله بالتصديق والإيمان لا يمكن فصله عن طبيعة الله، حتى يصبح معلومة قائمة بذاتها؛ هذا مستحيل.
فمعرفة الله بالايمان هي دخول إلى الله مُصرح به، والدخول في طبيعة الله هو أخذ وشركة وامتلاك، وهذه هي نعمة الله في عطاء ذاته المجاني. هذا العمق، أدركه الآباء العظماء اللاهوتيون الأوائل، فقالوا باختصار إن اللاهوتي هو من دخل إلى الله وخرج وخبّر.
والمسيح، بقوله لفيلبس: «ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في؟»، وهو سؤال يستنكر النفي، يستحثه أن يخرج من دائرة الجهالة ليدخل إلى دائرة معرفة طبيعة الله، يدخلها بسهولة الإيمان، بتصديق كلمة الله. المسيح يأخذ يد فيلبس، أو بالأصح، يأخذ بيد عقله ليدخل إلى دائرة ما فوق العقل ليتقبل بالإيمان، ليس مجرد معرفة حقيقة الابن في الآب والآب في الابن، بل يتقبل معرفة أخذ واستيعاب ليتبرر بها ويحياها أو يحيا بها، إنها هي الحق، بل هي روح الحياة: «من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو في الله» (ايو15:4). هذا هو الدخول بالإيمان إلى طبيعة الله، والثبوت فيها!!
+ «من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (1يو5:5). هذا هو الخروج من طبيعة العالم والمادة، الذي يؤهل للدخول إلى طبيعة الله، حيث الغلبة هنا هي العبور المنتصر فوق العالم.
+ «من له الابن (بالإيمان)، فله الحياة (في الله). ومن ليس له ابن الله، فليست له الحياة» (1يو12:5)، هذا الامتلاك للحياة الأبدية هو بالدخول بالإيمان إلى حقيقة طبيعة الله، وذلك بإدراك حقيقة ابن الله:
+ «الذي يؤمن بالابن (دخل بالإيمان في طبيعة الله)، له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالابن (لم يدخل إلى معرفة حقيقة الله)، لن يرى حياة، بل يمكث (في الطبيعة البشرية الساقطة) عليه غضب الله» (يو36:3). هذا هو الفارق الهائل بين البقاء في محيط العقل المادي، وبين تجاوزه بالإيمان، لإدراك ما هو ليس من طبيعة الماديات. وهو نفس الفرق بين الموت والحياة، بين البقاء في الخطية تحت الغضب الإلهي والدخول إلى نعمة الله، وهذا هو قيمة الإيمان وعمله .
«الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي, لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال»: هذا ما يعبر عنه سفر العبرانيين بقوله: «الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه...» (عب1:1-2)
فالله كلمنا في المسيح, لم يكن الكلام الذي تكلم به المسيح كلاماً بشرياً بل هو كلام الله، لذلك وصفه المسيح أن: «الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6), وأن من يسمعه يحيا ولو كان ميتاً (يو24:5 و 28 و 29)، لأن الكلام يحمل طبيعة الله الحية والمحيية. فكلام المسيح فعل نافذ المفعول, لا يرتد فارغاً (إش11:55)، ولعازر يشهد على ذلك.
ويلاحظ أن المسيح يقدم برهان وحدة كيانه في الآب والآب فيه على مستويين، الأول: الكلام، والثاني: الأعمال، وواضح أن الرب يهدف بهما إلى تحديد شخص الآب الحال فيه على مستوى الفكر والقوة, وهو تغطية كاملة لوجود الآب كأقنوم إلهي فعال. فكان كلام المسيح بمثابة استعلان لصفات الآب جميعاً، كما كانت أعمال المسيح استعلاناً لسلطان الآب ومشيئته من نحو الإنسان. فكان الآب يهدف بكلامه، بفم المسيح، إلى مخاطبة ذهن الإنسان، لإنارة بصيرته بقوة الروح القدس في كلمته ولفتح آفاق رؤيته الروحية، ليدخل الإنسان أكثر في أعماق معرفة الآب ليعده للحياة معه بواسطة المسيح. كما كان الآب يهدف من وراء أعماله الإعجازية التي كانت كآيات تشير إلى شخصه العامل والفعال، إلى توصيل «الفعل» الإلهي الناطق إلى الطبيعة، لكي يبدأ يأخذ عمله في طبيعة الإنسان العاجزة, ليرفعها إلى مستوى خليقة أخرى جديدة ومنيرة.
فمعجزة تحويل الماء إلى خمر تحوي سر التحول من طبيعة ميتة إلى طبيعة حية؛ ومعجزة شفاء المقعد المشلول بعد 38 سنة تحوي سر تصحيح ما فسد في الطبيعة العتيقة، ورفعها إلى مستوى الصحة؛ ومعجزة تفتيح الأعمى المولود هكذا من بطن أمه تحوي سر عمل النور الإلهي في الطبيعة العتيقة المظلمة لتأخذ النور والاستنارة؛ ومعجزة إقامة الميت بعد أن أنتن تحوي سر القيامة الجديدة للانسان للحياة الأبدية.
وهكذا كانت أعمال المسيح هي استعلاناً لمشيئة الآب بخصوص القوة الإلهية، التي قصد أن يبثها في طبيعة الإنسان، ليؤهله للحياة الأفضل، أي الروحية.
وبكلام أكثر وضوحاً, كان الآب العامل والمتكلم في المسيح قد بدأ خطته العظمى في تجديد طبيعة الإنسان وصياغة ذهن جديد فيه، منذ أن بدأ المسيح يكرز للانسان بملكوت الله. وكان المسيح يقدم نفسه للناس دائماً كالمثل الأعلى للانسان الجديد, الذي يسمع الآب ويطيع, ولكن كانت طاعة المسيح بصورة ممتازة, إذ كانت طاعة المثيل للمثيل!!
ولا ينبغي أن يفوتنا أبداً أن الآب أرسل ابنه متجسدا ليتكلم فيه معنا، ولنسمع بآذاننا صوت الآب غير المسموع الذي انحجب عنا كل الأزمنة السابقة، أزمنة تغرب الإنسان على الأرض.
فالمسيح عاد بالإنسان إلى جنة عدن الجديدة, فردوس الله الروحي، حيث اجتمعنا فيه مع الآب مرة أخرى، في شخص ابنه, وسمعنا صوت تعزيته وانسكبت علينا محبته ونعمته، عوض اللعنة القديمة.
لذلك، ينبهنا المسيح دائماً أبداً: «الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال».
هنا دعنا نترك موضوع الرؤيا جانباً، ونعود إلى الإيمان من حيث كونه حقائق الله في الحياة مع الإنسان، والتي أعلنها المسيح مراراً وتكراراً، وهي أن المسيح، كابن، كيانه هو في كيان الآب، ويظل قائمأ فيه، وغير مفصل منه، لأنهما كيان واحد، ذات واحدة: «أنا والآب واحد» (يو30:10). أما الجسد الذي أخذه الابن لذاته ووحده بلاهوته، فقد دخل في هذا الكيان دخولاً أبدياً متميزاً، كإنسان في ابن الله، فشملته وحدة الابن بالآب بالضرورة. وهكذا صار المسيح فى آن واحد يٌعبر عنه بـ «ابن الإنسان, الذي هو على الأرض, الذي هو في السماء» (يو13:3)، بل وإنه، وهو متجسد، بقي كما كان في حضن الآب، كأعظم تعبير عاطفي من الكيان المتحد، أو وحدة الكيان للمسيح في الآب والآب في المسيح: «الابن الوحيد، الذي هو في حضن الآب، هو خبر.» (يو18:1)
هنا يلزم العقل البشري أن يرتفع فوق القصور المادى للأمور، لأننا الآن نتكلم عن طبيعة الله التي ليست من طبيعة الماديات، ولكننا مرغمون، أو بالأصح، مُصرح لنا أن نتكلم كبشر عن ما هو للمسيح بسبب الجسد الذي أخذه منا وكيف وحده بذاته الإلهية.
أما في الماديات، فلا يوجد قط هذا التصور الذي نتصور به تساوي شيئين أو شخصين تساويا مطلقا أى تساوياً كلياً، لأن المطلقات أو الكليات هي صفة ما فوق الطبيعة، وبالتحديد هي صفة الله. فالله مُدرك كامل يُدرك، ولكن لا يُدرك كماله.
والحقيقة العظمى المطروحة للادراك بالنسبة للانسان، هي الابوة والبنوة في الله «الذي يراني يرى الذق أرسلني» (يو45:12)؛ وصفة الابن صفة مطلقة وكلية في الله، لأنها من صميم جوهره وطبيعته، والآب كذلك صفة مطلقة وكيلة في ذات الله, لذلك، فبسهولة غاية السهولة، نقول إنهما واحد، لأن جوهرهما واحد وذاتهما واحدة، أى متحدان كلية الاتحاد عل وجه الإطلاق الإلهي، فهما واحد. هذا سهل الإدراك فيما نحن نتكلم عن الله، ولكن تصوره مادياً يكون عسيراً غاية العسر، بل تعترضه الاستحالة، لأنه لا يوجد في الخليقة كلها أو في المخلوقات عامة ما يناظر هذا التساوى. لأن جوهر المخلوقات، عموماً وبلا استثناء قط، مركب، أما جوهر الله فبسيط لا ينقسم قط، وذات الله كاملة أزلية.
لذلك لا يلجأ المسيح في شرح وحدته مع الآب إلى التشبيه، ولا إلى أسلوب التعليم، ولا يستحث الفهم البشرق ليدرك هذه الحقيقة الإلهية، ولكنه يلجأ إلى الايمان، وهو التصديق على حقائق ليست أصلاً من اختصاص العقل وليست من اختصاص طبيعة الإنسان، ولكن مجرد التصديق عليها يرفع مخصصات الذهن فوق طبيعته ليدخل بالروح أو بالنعمة الموهوبة إليه والمضافة عليه إلى مجال الإلهيات ليتقبل معرفة حقائق الله. وتقبل حقائق الله والتصديق عليها, وهو المعبر عنه بالإيمان، يعطي الإنسان شركة فيها. لأن إدراك الله بالتصديق والإيمان لا يمكن فصله عن طبيعة الله، حتى يصبح معلومة قائمة بذاتها؛ هذا مستحيل.
فمعرفة الله بالايمان هي دخول إلى الله مُصرح به، والدخول في طبيعة الله هو أخذ وشركة وامتلاك، وهذه هي نعمة الله في عطاء ذاته المجاني. هذا العمق، أدركه الآباء العظماء اللاهوتيون الأوائل، فقالوا باختصار إن اللاهوتي هو من دخل إلى الله وخرج وخبّر.
والمسيح، بقوله لفيلبس: «ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في؟»، وهو سؤال يستنكر النفي، يستحثه أن يخرج من دائرة الجهالة ليدخل إلى دائرة معرفة طبيعة الله، يدخلها بسهولة الإيمان، بتصديق كلمة الله. المسيح يأخذ يد فيلبس، أو بالأصح، يأخذ بيد عقله ليدخل إلى دائرة ما فوق العقل ليتقبل بالإيمان، ليس مجرد معرفة حقيقة الابن في الآب والآب في الابن، بل يتقبل معرفة أخذ واستيعاب ليتبرر بها ويحياها أو يحيا بها، إنها هي الحق، بل هي روح الحياة: «من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو في الله» (ايو15:4). هذا هو الدخول بالإيمان إلى طبيعة الله، والثبوت فيها!!
+ «من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (1يو5:5). هذا هو الخروج من طبيعة العالم والمادة، الذي يؤهل للدخول إلى طبيعة الله، حيث الغلبة هنا هي العبور المنتصر فوق العالم.
+ «من له الابن (بالإيمان)، فله الحياة (في الله). ومن ليس له ابن الله، فليست له الحياة» (1يو12:5)، هذا الامتلاك للحياة الأبدية هو بالدخول بالإيمان إلى حقيقة طبيعة الله، وذلك بإدراك حقيقة ابن الله:
+ «الذي يؤمن بالابن (دخل بالإيمان في طبيعة الله)، له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالابن (لم يدخل إلى معرفة حقيقة الله)، لن يرى حياة، بل يمكث (في الطبيعة البشرية الساقطة) عليه غضب الله» (يو36:3). هذا هو الفارق الهائل بين البقاء في محيط العقل المادي، وبين تجاوزه بالإيمان، لإدراك ما هو ليس من طبيعة الماديات. وهو نفس الفرق بين الموت والحياة، بين البقاء في الخطية تحت الغضب الإلهي والدخول إلى نعمة الله، وهذا هو قيمة الإيمان وعمله .
«الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي, لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال»: هذا ما يعبر عنه سفر العبرانيين بقوله: «الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه...» (عب1:1-2)
فالله كلمنا في المسيح, لم يكن الكلام الذي تكلم به المسيح كلاماً بشرياً بل هو كلام الله، لذلك وصفه المسيح أن: «الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6), وأن من يسمعه يحيا ولو كان ميتاً (يو24:5 و 28 و 29)، لأن الكلام يحمل طبيعة الله الحية والمحيية. فكلام المسيح فعل نافذ المفعول, لا يرتد فارغاً (إش11:55)، ولعازر يشهد على ذلك.
ويلاحظ أن المسيح يقدم برهان وحدة كيانه في الآب والآب فيه على مستويين، الأول: الكلام، والثاني: الأعمال، وواضح أن الرب يهدف بهما إلى تحديد شخص الآب الحال فيه على مستوى الفكر والقوة, وهو تغطية كاملة لوجود الآب كأقنوم إلهي فعال. فكان كلام المسيح بمثابة استعلان لصفات الآب جميعاً، كما كانت أعمال المسيح استعلاناً لسلطان الآب ومشيئته من نحو الإنسان. فكان الآب يهدف بكلامه، بفم المسيح، إلى مخاطبة ذهن الإنسان، لإنارة بصيرته بقوة الروح القدس في كلمته ولفتح آفاق رؤيته الروحية، ليدخل الإنسان أكثر في أعماق معرفة الآب ليعده للحياة معه بواسطة المسيح. كما كان الآب يهدف من وراء أعماله الإعجازية التي كانت كآيات تشير إلى شخصه العامل والفعال، إلى توصيل «الفعل» الإلهي الناطق إلى الطبيعة، لكي يبدأ يأخذ عمله في طبيعة الإنسان العاجزة, ليرفعها إلى مستوى خليقة أخرى جديدة ومنيرة.
فمعجزة تحويل الماء إلى خمر تحوي سر التحول من طبيعة ميتة إلى طبيعة حية؛ ومعجزة شفاء المقعد المشلول بعد 38 سنة تحوي سر تصحيح ما فسد في الطبيعة العتيقة، ورفعها إلى مستوى الصحة؛ ومعجزة تفتيح الأعمى المولود هكذا من بطن أمه تحوي سر عمل النور الإلهي في الطبيعة العتيقة المظلمة لتأخذ النور والاستنارة؛ ومعجزة إقامة الميت بعد أن أنتن تحوي سر القيامة الجديدة للانسان للحياة الأبدية.
وهكذا كانت أعمال المسيح هي استعلاناً لمشيئة الآب بخصوص القوة الإلهية، التي قصد أن يبثها في طبيعة الإنسان، ليؤهله للحياة الأفضل، أي الروحية.
وبكلام أكثر وضوحاً, كان الآب العامل والمتكلم في المسيح قد بدأ خطته العظمى في تجديد طبيعة الإنسان وصياغة ذهن جديد فيه، منذ أن بدأ المسيح يكرز للانسان بملكوت الله. وكان المسيح يقدم نفسه للناس دائماً كالمثل الأعلى للانسان الجديد, الذي يسمع الآب ويطيع, ولكن كانت طاعة المسيح بصورة ممتازة, إذ كانت طاعة المثيل للمثيل!!
ولا ينبغي أن يفوتنا أبداً أن الآب أرسل ابنه متجسدا ليتكلم فيه معنا، ولنسمع بآذاننا صوت الآب غير المسموع الذي انحجب عنا كل الأزمنة السابقة، أزمنة تغرب الإنسان على الأرض.
فالمسيح عاد بالإنسان إلى جنة عدن الجديدة, فردوس الله الروحي، حيث اجتمعنا فيه مع الآب مرة أخرى، في شخص ابنه, وسمعنا صوت تعزيته وانسكبت علينا محبته ونعمته، عوض اللعنة القديمة.
لذلك، ينبهنا المسيح دائماً أبداً: «الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال».
يلتجىء المسيح إلى شهادة نفسه لنفسه, حينها يتحدث إلى أخصائه، معتمداً على ما سبق وقاله: «وان كنت أشهد لنفسي، فشهادتي حق» (يو14:8), وهذا يعتبر بالنسبة لنا تنازلاً ما بعده تنازل. فإلحاح الرب على توصيل رسالة الآب التي تنفجر في أحشائه جعلته وكأنه يتوسل لدينا أن نقبل ما هو لحياتنا وما هو لسلامنا. إن أقصى ما يشتهيه المسيح,» وكأنه طعامه الفاخر, هو أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله. ومشيئة الآب تتركز في إسعاد البشرية وعودتها إلى الحياة مح الله، أما سعادة المسيح الخاصة جداً فتتركز فى توصيلنا إلى الآب، لنشترك فى نفس الحب الذى به يحب الآب الابن: «وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني، وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.» (يو25:17-26)
المسيح هنا انتقل من مخاطبة فيلبس إلى مخاطبة التلاميذ، فهي رسالة للجميع. وعوض أن يقول: «الحق الحق أقول لكم»، أراد هنا أن يسند هذا الحق بشهادته الخاصة, وكأنه يرهن نفسه ويجازف بكل ثقله الإلهي والبشري معاً ليرفع ما يقوله إلى مستوى الصدق المختوم بختم الله، لكي يقبلوا هذه الحقيقة الجوهرية بكل يقين، والتي يتوقف عليها كل الإيمان، بل كل الخلاص، وينتهي عندها كل غاية استعلان المسيح للآب: «أني في الآب والآب في». هذا الوجود المتبادل يجعل بالفعل كل ما للآب للابن وكل ما للابن للآب، ويستعلن, بقوة، الذات الواحدة للآب والابن؛ وهذا هو السر الأعظم للثالوث، باعتبار الروح القدس هو ثالث الأقانيم, وهو ينبثق من الآب في الابن، وهو الذي يوثق هذه الوحدة وينقلها إلى أذهاننا كحقيقة محيية!
أما إذا أخفق أي إنسان في تصديق المسيح، كشاهد صادق فيما لنفسه، فإن المسيح يعود ويتنازل عن حتمية شهادته, مشيراً إلى أعماله الفائقة للطبيعة التي عملها كآيات تشير وتحكي عن سلطان الآب الذي يعمل به المسيح وكأنه سلطانه: «... وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها».
فالأعمال تتكلم من ذاتها وتؤمن أن ما يقوله المسيح عن نفسه صدق؛ لأن ما يعمله، يشهد أن سلطانه هو من سلطان الله وعلى مستواه. أما كون الآب هو العامل بالمسيح أو أن المسيح هو العامل بالآب، فسيان, يكفي أن المسيح في الآب والآب في المسيح، فهذه حقيقة العمل ذاته.
في الآيات السابقة (8-11) كان التركيز على العلاقة الداخلية بين الآب والابن, والآن ينتقل المسيح لتوضيح هذه العلاقة بالنسبة للتلاميذ.
وفي الآيات الأخيرة، كان التركيز على الأقوال والأعمال التي يعملها المسيح بأنها معمولة بالآب، أو أن الآب الحال في المسيح هو الذي يعمل الأعمال.
ومن هذا المنطلق، يبدأ المسيح يسلم تلاميذه هذه الحقيقة الإلهية. والحقائق الإلهية أو اللاهوتية لم يستعلنها المسيح من أجل أن يدركها العالم في ذاتها كحقائق الله وحسب, بل ولكي يحياها المؤمنون ويعملوا بها. فهنا نحن بصدد الأعمال التي يعملها المسيح، والتي هي في حقيقتها يعملها الآب الحال في المسيح، هذه الأعمال عينها أعطي للذين يؤمنون بالمسيح (وبالآب حتماً) أن يعملوها.
والنقطة الهامة في الموضوع والتي لا ينبغي أن تفوت على عقولنا، هي أن المؤمنين يعملون أعمال المسيح نفسها, ولكنهم بحسب مجرى الكلام لن يكونوا هم العاملين لهذه الأعمال, بل المسيح، بل الآب في الحقيقة وعين الأمر! أما تلك الأعمال التي كان يعملها المسيح، فقد كانت قاصرة على فترة محددة وعلى غاية محددة, محورها استعلان الآب والتمهيد لرسالة الخلاص بالصليب. أما بعد صعود المسيح إل الآب, ونواله كل سلطان مما في السماء وما على الأرض واستعادة مجده الأسنى, فالمسيح سوف يعمل حتماً فيهم وبهم هم أعمالاً أعظم, تتناسب مع طول الأجيال وضيق الأيام وشدة اضطهاد العالم، وتتناسب كذلك مح استعلان الخلاص وتكميله، ومجد المسيح العامل فيهم والحال فيهم، ومع أعوازتنا الكثيرة وطلباتنا مهما غالينا فيها: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم ... لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله, والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفكر بحسب القوة التي تعمل فينا.» (أف17:3-20)
ونعود وننبه ذهن القارىء، أن ذهاب المسيح إلى الآب هو محور الحديث كله، ولسان حال الواقع, حسب موضوع الحديث والحاح الساعة، فالمسيح يعدد لتلاميذه مميزات موته وصعوده وذهابه إلى الآب، من حيث أنها ستعود عليهم بفيض من القوة الغامرة ليعملوا ما كان يعمله هو أمامهم، تلك الأمور التي أبهرتهم, بل وكيف أنهم سيعملون أعظم منها بسبب صعوده وذهابه إلى الآب. وهو في ذلك يجاهد ليرفع عنهم مسحة الحزن والكآبة والخوف من جهة, ومن جهة أخرى هو يسبق الزمن والحوادث ويكشف لهم ما سيكون، حتى إذا كان، يزدادون إيماناً وثقة وقوة، ويشعرون بحقوقهم الممنوحة لهم رسمياً حسب الوعد، ليطالبوا بها ويتمسكوا بسلطانها، لتكميل خدمة الخلاص وتمجيد المسيح والآب.
والآن، أيها القارىء العزيز, أرجو أن ألفت نظرك إلى أن هذا الوعد غير مقصور على التلاميذ، فأرجو الرجوع إلى نص الآية إذ تقرأ: «الحق الحق ... من يؤمن بي (أي كل من يؤمن بي)» ... فأنت مستهدف لهذه العطية الفائقة. فإن كنت تشعر بالخجل والصغر دون ألطاف الله وعظم سخائه، فلا مانع، ولكن لا تشك في صدق وعده. ثم إني أشرح لك لماذا تستكثر على نفسك أن تعمل أعمالاً أعظم مما عمل المسيح، فالسبب ينطوي على نقطتين:
الأولى: ظنك أنك أنت الذي ستعمل, وهنا أحيلك لما سبق وأوضحنا: «لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا.» (في13:2)
والثانية: أن عمل المسيح فينا يبدو، بحسب خدع البصر، غير متكافى, مع ضعفنا وهوان طبيعتنا وأخطائنا التي يحسبها علينا الضمير بإلحاح.
ولكن أنبه ضميرك, أن الرب سبق وقاس هذه المفارقة الخطيرة بين ما هو لائق لناء وما هو لائق له، بقوله في الآية السابقة أن عطاياه ستكون: «أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر»، لأنها ستكون «بحسب القوة التي تعمل فينا». فالأمر يخص المسيح أولاً وأخراً، فأمسك به، يمسك بك ...
هنا مزيد من التوضيح بحسب الشرح الذي قدمناه، أن المسيح هو العامل فينا. ولكنه يتمادى في رفع حدود الطلب إلى أقص تصورنا ويزيد: «مهما». وهنا يسأل سائل: هل هذا معقول أن كل ما يطرأ على فكري أو قلبي، أطلبه، فآخذه؟
هنا أيضاً الرد منبث ضمنا في «القوة التي تعمل فينا» التي تباشر التنفيذ من قبل الله. وهي لن تكون غير قوة الروح المشير والمدبر. لأن كلمة «مهما سألتم» تفيد حالة صلاة وتوسل ولجاجة، والصلاة الصحيحة الفعالة هي تحت هيمنة الروح القدس بصورة قانونية: «لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نقسه يشفع فينا بآنات لا يُنطق بها» (رو26:8). هكذا يتبين أن «مهما سألتم» تقع ضمن اختصاصات الروح القدس، الذي يقدم السؤالات بفمنا، بكل حكمة وفطنة بما يليق أن يُقدم لله الآب، ليكون السؤال حسب مشيئة الله!!
ويلاحظ أن السؤال يقدم إلى الآب باسم المسيح, والمسيح يقوم بالتنفيذ: «أنا أفعله»، والاستجابة هنا تكون أكيدة بقدر استيفاء تقديم السؤال، بحسب القوانين المعمول بها في دائرة الله، وهي كالآتي:
1- يلزم أن يكون الروح القدس هو صاحب الاستشارة والموكل إليه التدبير على طول المدى, سواء في حالة ما قبل السؤال، أو حالة السؤال، أو حالة ما بعد السؤال، بمعنى أن يكون الإنسان عائشاً في ملء تدبير الروح القدس.
2- أن يكون الروح القدس مشتركاً إشتراكاً محسوساً في تقديم السؤال، ولدى الضمير شهادة برضى الروح القدس وموافقته على كل كلمة من كلمات السؤال. وهنا إذا توفر ذلك حقاً، فإن الإنسان يحس في الحال أثناء الصلاة أن الصلاة استجيبت.
3- أن يكون السؤال مقدما للآب، كما من فم ابنه يسوع، لأن الذي يوازن سؤالنا ويزيد هو بر المسيح الشخصي.
4- أن يكون السؤال مُقدماً باسم المسيح، لأنه يستحيل أستحالة كلية أن تبلغ كلماتنا مسامع الآب إلآ بواسطة المسيح: «لأن به لنا كلينا قدوما في روح واحد إلى الآب» (أف18:2)، لأنه هو الطريق الوحيد والباب الوحيد الموصل إل الآب؛ «لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو5:15)، لأن المسيح هو الحامل لصك غفران خطايا كل إنسان وهو يتراءى أمام الله الآب «ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا» (عب24:9)، حاملاً أسماءنا المكتوبة على كفه, كل واحد باسمه, محسوباً: «برا وقداسة وفداءً» (اكو30:1)، لكل من يتقدم به إلى الله (عب25:7). وهكذا إذ نرفق اسم المسيح بسؤالنا الذي نقدمه للآب، نكوذ كمن يرفق كل وثائق الصلاحيات التي تجعل السؤال مستجاباً.
«ليتمجد الآب بالابن»: واضح من تسلل المعاني أن الاستجابة تكون من عند الآب, والتنفيذ بواسطة المسيح. وهنا يكمن سر تمجيد الآب, لأن المسيح إنما ينفذ بكل سخاء الآب وحبه, بحسب صلاحياته لدى الآب, والتي حازها لنا بالصليب، حتى إنه أصبح قادراً أن «يملأنا إلى كل ملىء الله» (أف19:3), أي أن يملأنا بالعطايا والنعم والمواهب المدخرة لنا في قلب الآب بلا حدود، والتي كانت محجوزة عنا بسبب عدم لياقتنا روحيا؛ ثم لما صار المسيح وسيطاً مؤتمناً، فك حجوزاتها، واستعلن كل سخاء الآب من نحونا: «لأن الآب نفسه يحبكم» (يو27:16)
وهكذا صار المسيح، بتنفيذه لكل استجابة ننالها من الآب من جهة سؤالاتنا، هو سبب تمجيد للآب دائماً، وسبب استعلان حبه وسخاء عطائه الذي لا يُحد. ونحن لا يمكن أن ننسى ما كرره المسيح كثيراً جداء أن الابن لا يعمل من نفسه شيئاً, أي أن أعمال المسيح التي يعملها لنا لتغطية كل أعوازنا وسؤالاتنا هي بالآب معمولة ولمجده. وبالنهاية، تكون طلباتنا وسؤالاتنا التي نطلبها هى لمجد الله! فكيف لا نطلب وكيف لا نلح في السؤال والطلبة، إن كان ذلك لحساب مجد الله؟
«إن سألتم شيئا باسمي فإني أفعله». تكرار حرفي للآية السابقة, فهل من جديد فيها؟ واضح في الآية 13 السابقة، أن عمل المسيح في الاستجابة لسؤالنا، وضعه المسيح كعمل يدخل ضمن رسالته الخاصة بالنسبة للآب: «ليتمجد الآب بالابن»، فهو يقرب من أن يكون واجباً على المسيح بالنسبة للآب، أو بتعبر أصح، عملآ وظيفياً من اختصاص الابن المتجسد نحو الآب، فهو يدخل ضمن رسالة الخلاص. وهذاء بحد ذاته أمر يسعدنا إسعاداً, إذ يجعل سؤالاتنا وطلباتنا لدى الآب عملاً يهم الآب جداً، وبالتالي يهم المسيح ويسره.
أما في الآية 14، فهو عمل يدخل في العلاقة المتوطدة بيننا وبينه. فهو بمثابة وعد خاص يضع فيه المسيح كل إمكانياته رهن سؤالنا، وأنه وإن كان ليس له هدف مباشر، إلا أنه يتضمن استعلان قدرته الفائقة بالضرورة، لذلك فهو لمجد المسيح بلا نزاع. كذلك «باسمى» تشير إلى اسم المسيح الخاص، حيث الاسم في لاهوت العهد القديم يعبر عن الشخص بكل قوته وكرامته. هذا بالإضانة لما كان يقوله المسيح ( )، الذي هو في الحقيقة اسم الهوية لله، الذي كان يعمل المسيح تحته وبقوته وفي وجوده وحلوله.
وهكذا يكون الدعاء بالاسم، أو الصلاة أو السؤال باسم المسيح، حالة تواجد شخصى للمسيح، وهو استدعاء ودخول في الحضرة الإلهية لابن الله المتجسد بكل يقين. لذلك فصراخ الكاهن: «باسم الآب والابن والروح القدس» في بداية صلاة الافخارستيا، وعلى الخبز والخمر، هو استدعاء الثالوث للحلول، كما هو أيضاً نقلة للموجودين في الهيكل للدخول في الحضرة الإلهية التي للثالوث الأقدس، فهي عملية تقديس وتجلي فى آن واحد.
وهكذا، فكأن المسيح باعطائهم حق النداء والسؤال «باسمه» يكون كمن أبقى على حضوره السري معهم في كل حين، كلما احتاجوه كمصدر قوة وعمل وعزاء. كل هذا وفره المسيح لتلاميذه ولكل المؤمين به، تعويضاً عن غيابه في المنظور الجسدي.
ترتيب الآيات يبرز هنا نوراً باهراً يخطف الأبصارء ويلهب القلوب: ففي الآية (12) وضع المسيح الإيمان كأساس، ثم بنى فوقه في الآية (15) برج المحبة، بارتفاع الوصايا؛ وعلى القمة, كتاج، يستقر الروح القدس ككشاف يضىء إلى أقص حدود النواحي البعيدة، إلى الأبد!
أما الإيمان, فالمسيح جعل طبيعته تُختبر بالأعمال والأسئلة الفائقة عن الحب حينما تُستجاب! (اقرأ الأعداد12-14). أما المحبة, فجعل المسيح طبيعتها تُختبر بالفضيلة المحفوظة والمصونة (15). أما بيت الروح القدس ففي القمة، أو في القلب, فيشع منه عزاء ونعيم وسرور عوض عزاء على وشك أن يفقدوه ظاهراً!
في الآية (15)، صوت الودع وبيان الموصي. فالمعلم حدد الساعة، وحديثه السابق صار كله في حكم الوصايا: وصايا الحب والتراضع والوداعة، وأمانة الراعي، وقول الحق، والصفح عن الجهالات وعدم الدينونة، حتى ولو كانت الخطية قائمة على يد شهو عيان، ومكافأة الإساءة بالصلاة، واللعنة بالبركة، والعداوة بالمحبة، وأُلفة الخدام حتى إلى غسل الأرجل لئلا تُلاة الخدمة، وعدم الجري وراء الكرامة، وأخيراً أمانة الشهادة. فإذا كان المسيح قد صادف هوى النفس وصار لها كعريس، كانت هذه الوصايا كلها وأكثر؛ وإلا عثر على النفس حتى احتمال الإساءة! ... هي وصايا الروح، عوض وصايا العدو والجسد، فالروح إلى نمو، والجسد إلى زوال.
أما في الأية الثانية (16)، فيفيح منها عطر أزكى من الناردين الخالص، ولكن يتخللها رنة حزن، فهي تحمل بروتوكول وداع الأقانيم على مستوى التسليم والتسلم: فمعزى ذاهب ومعزى آت. الذاهب ذاهب ليجلس في المقدس الأعلى, ليغيب بالنظر عن أرض الإنسان؛ والآتي آت ليقيم بغير رؤيا في معية الإنسان إلى أبد الأبدين. والآب سُر بأن يستقبل (الذاهب) حاملاً روح الإنسان؛ ومبتهج بأن يرسل الآتي وهو ملء روح الله!!
أما نسبة الآية الثانية (16) إلى الآية الاولى (15), فهي علاقة حب بحب؛ فإن أحببناه أحبنا، وإن حفظنا وصاياه أرسل لنا من يذكرنا بها ويشرحها لنا، ويحفطها في قلوبنا، ويعزينا عن كل غرامة يفرضها العالم علينا بسبب الأمانة. لأن وصايا يسوع يبغضها العالم ولا يطيق من ينطقها، ويفرض عليها غرامات فادحة، فيتلقف الروح القدس هذه الغرامات عنا ويحولها براً وسلاماً ...
وأخيراً نود أن نلفت نظر القارىء إلى أن الرب هنا يقصر وصيته الختامية على حفظ وصاياه الخاصة, التي تأخذ سلطانها الإلهي من فمه, ولا ذكر لوصايا سيناء وموسى والألواح التي كانت سراجاً منيرا، في سماء ليل شعب، ضاق بها وضاقت به، إلى أن انفجر نور النهار، واستعلن شمس البر ليضيء على العالم كله.