«روح الحق»: وأيضأ حق بحق، وحق عوضاً عن حق، كما معز عوضاً عن معز، فالمسيح كان لهم «الحق»: «أنا هو... الحق» (يو6:14). فإن كان الفم البشري الإلهي للابن المتجسد الذي ينطق بالحق سيختفي عن ناظريهم وأسماعهم، فهوذا الآب يرسل لهم «روح الحق» الذي ينطق في أفواههم وقلوبهم, ليسمعهم العالم كله!... كان الحق الذي يقوله المسيح ويعمله هو الإعلان عن الآب الكائن في الابن والحال في تجسده؛ والحق الذي يقوله ويعمله الروح فيهم وبهم يكون هو الإعلان عن الابن، واستعلان اللاهوت في تجسده، وبالتال استعلان الآب الذي في الابن والذي لا يُعرف ولا يُرى بدونه ...
والقديس يوحنا يتدرج في كشف الحق الذي بالمسيح وفيه، والذي بالروح القدس وفينا، هكذ: فبالسبة للحق الذي هو المسيح يقول: «ونعلم أن ابن الله قد جاء، وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح, هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية. [«أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14).]» (ايو20:5)
وبالنسبة للحق الذي بالروح وفينا يقول: «بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فيناء أنه قد أعطانا من روحه, ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله, فالله يثبت فيه, وهو في الله.» (ايو13:4-15), «وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا» (1يو24:3).
وشرح كلام القديس يوحنا هو كالآتي بالنسبة للحق بالمسيح ثم بالروح القدس:
+ بالنسبة للمسيح: أنه فتح بصيرة التلاميذ ليعرفوا الحق من كلامه وحسب الكتب، وذلك قبل مجيء الروح القدس هكذا: «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم ...حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب ...» (لو44:24-45)
وهذه هي «البصرة» التي يتكلم عنها القديس يوحنا، وهي لمعرفة الحق, الذي ركزه القديس يوحنا بهذه الجملة المختصرة، والتي هي كل الحق: «هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» تماماً كما عرف المسيح نفسه لهم: «أنا هو الطريق والحق والحياة».
+ بالنسبة للروح القدس: أولاً، كانت عطية الروح القدس الاولى والعظمى أنه حل هو فيهم، وذلك باستحقاق عمل المسيح الفدائي والخلاصي، وبحلول الروح القدس فيهم تهيأ هيكلهم لقبول ألوهية المسيح، لأن الروح القدس أُرسل ليعمل لحساب المسيح، يعلنه ويعطيه، وهذا يوضحه القديس بولس غاية الوضوح: «لكي يعطيكم, بحسب غنى مجده’ ان تتأيدوا بالقوة, بروحه, في الإنسان الباطن؛ ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبكم ..., لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله (حيث ملء اللاهوت: الآب والابن والروح القدس).» (أف16:3-19)
وبحلول الروح القدس والمسيح في وعي التلاميذ، الذي انتهى إلى ملء كيانهم الروحي، فإنه ينطلق ليشهد فوراً لهذا الثبوت والملء، وبالتالي، فإن هذا الثبوت وهذا الملء يصبحان شاهداً على أن الروح القدس قد أُعطي لهم، ويشهد لعملية الخلاص العظمى، أن الآب أرسل ابنه مخلصاً للعالم, ويعترف أن يسوع هو ابن الله!! هذا هو الحق الذي بالروح القدس والذي صار في التلاميذ وكل المؤمنين.
«لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ»: نحن هنا أمام مواجهة حادة بين روح الله، وهوروح الحق؛ وروح العالم، وهوروح الضلال والتزييف. لقد دخل المسيح هذه المواجهة عينها باعتباره الحق, في مقابل رئيس هذا العالم باعتباره المضل والكذاب، فكان الصليب، الذي به دخل الخلاص إلى العالم, واكتسب الإنسان حياة ما بعد الموت.. والآن، يبدأ الروح القدس عمله على أساس الصليب، وعلى نفس المواجهة وشدتها. فكما لم يقبل العالم الحق الذي في المسيح، بل أبغضه أشد البغض، ورفضه أشد الرفض, ولم يشأ أن يعرفه أبداُ هكذا: «وأما الآن، فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي ... إنهم أبغضوني بلا سبب» (يو24:5-25), «ولكن ينبغي أولاً أن يتألم كثيراً، ويُرفض من هذا الجيل» (لو25:17)، «لستم تعرفونني أنا ولا أبي, لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً» (يو19:8)؛ كذلك على هذا المستوى، واجه العالم الروح القدس باعتباره روح الحق الذي يشهد لكل الحق. واجهه بعدم القبول, أي بالرفض والبغضة, أولاً ضد التلاميذ الذين يعمل فيهم الروح القدس: «إن كان العالم يبغضكم, فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم» (يو18:15-19)، «إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم ... لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي, لأنهم لايعرفون الذي أرسلني» (يو20:15-21). ومن بعد التلاميذ، الكنيسة كلها وإلى نهاية الدهور.
وهكذا يتضح من كلام المسيح، أن عدم قبول العالم للروح القدس هو بسبب أنه يشهد للمسيح، والمسيح غير مقبول، لأن المسيح يشهد للحق، أي للآب، باستعلان الآب الحال فيه بالكلمة والعمل: «إنما يفعلون بكم هذا كله، من أجل اسمي.» (يو21:15)
«الاسم»: اسم ابن الله الذي رفضه، يعني رفض الآب، وبالتال عدم قبول إرسالية الآب للابن لخلاص العالم. أي بصريح العبارة، فإن العالم يرفض الخلاص من أصوله، لأن العالم يعمل قت سلطان روح الضلالة ولحسابه. وهكذا، فإن الخلاص يبقى وقفاً على كل من يرفض العالم, بل ويبغض العالم, وذلك بأن يرفض أن يعرف أو يتعرف على روح الضلالة الذي في العالم! لذلك كانت الآية: «إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب.» (ايو15:2)
«لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ.»: العالم لا يعرف الروح القس ولا يعرفه. الرؤيا هنا بالاثنين: رؤيا العين المجردة, ورؤيا العقل الروحي. فـ «العالم» هنا, يُعبر به عن الأشخاص الطبيعيين الذين يعيشون بحسب ظواهر الوجود المادي, لا يرون الروح على أي حال، لأن الروح جوهر إلهى فلا هم بالعين يرونه, لأن ليس له مظهر، ولا بالعقل يدركون كنهه أو ماهيته، لانه حق, والحق درجة في المدركات أعلى وأعمق من المظهر بلا قياس. فكل مظاهر العالم من مصنوعات ومخلوقات تحوى في أعماقها بالضرورة لمسة الخالق الذي صنعهإ؟ فهي تحوي حقاً، ولكنها ليست الحق، لأن المظاهر كلها زائلة والجوهر الخالق أزلى وأبدى: «لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم، الذين يحجزون الحق بالإثم. إذ معرفة الله ظاهرة فيهم, لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات, قدرته السرمدية ولاهوته, حتى إنهم بلا عذر.» (18:1-20).
يلاحظ هنا أن محور هذه الآية، هو كلمة الوحي: «لأن الله أظهرها لهم», فهي عطية فائقة على عقل الإنسان الطبيعي المخلوق، وفوق مقدرته الطبيعية المحدودة بإدراك الظواهر فقط. هذا الإمتياز أٌعطي للانسان هبة، أن لا يكون غريباً عن الله، ولكن هذا الإمتياز ليس من روح العالم أصلا، بل من الله.
ويلزما هنا أن نوضح أن «الإنسان الطبيعي» مخلوف ليرتقي إلى «إنسان روحي». ففي صميم خلقة الله للانسان, كما نتصوره في آدم, يوجد مركز للادراك الإلهي، وإلا لما عرف آدم الله، وأحبه, واستمع إليه، وخشى منه حينما تعدى على وصيته. لذلك، نستطيع بكل يقين أن نقول، إن عقل الإنسان له مركز فوق كل مراكزه الشعورية الطبيعية، لإدراك ما هو فوق الطبيعيات، أي إدراك الله وكل «أمور الله غير المنظورة». هذا المركز الفائق والممتاز، ينشط و يترقى بالممارسة، أي بالإشتغال في أمور الله: «وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس المدربة عل التمييز بين الخير والشر» (عب14:5). وهذا يؤدي إلى يقين الشعور بالله, ثم الإيمان به، ثم التأهل لأخذ الروح القدس، أي روح الله.
فالإيمان بالله لا يأتي من فراغ, وإلا ما أصبح له ثواب وعقاب. ولكن، بإهمال الانشغال بالله والتوقف عن تشغيل هذا المركز الخاص الفائق والممتاز، تضعف وتُفقد حساسيته, فتصبح معرفة الله غير واضحة, ثم صعبة، ثم مستحيلة, ثم مجهولة كلية؛ وكأن الله صارغير موجود، وذلك بسبب نشاط مراكز العقل الحية الأخرى وانشغالها الزائد بالظواهر, والانغماس في الأخذ منها لإشباع نهم العقل, والتعدى حتى على المركز الفائق الخاص بالله وتغطية احتياجه بالأمور الحسية وظواهر الأمور. هنا ينحصر الإنسان في صفته الدنيا، وهي كونه إنساناً طبيعياً، أي إنسان العالم، وليس إنسان الله بعد. هذا ما يعبر عنه بولس الرسول بقوله: «هكذا أيضاً أمور الله، لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله, لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله, لأنها (أي أمور الروح) عنده جهالة. ولا يقدر أن يعرفها (يعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله)، لأنه إنما يحكم (أي يدرك) فيها روحياً. وأما الروحي، فيحكم في كل شيء, وهو لا يحكم فيه من أحد. لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه؟ وأما نحن فلنا فكر المسيح» (اكو11:2-16 ترجمة عن الأصل اليوناني).
واني أنتهز هذه الفرصة يا قارئي العزيز لأرسم أمامك صورة واقعية للعالم والأشياء التي في العالم القابلة كلها للزوال : «والعالم يمضي وشهوته» (ايو17:2)، في مقابل أمور الله الباقية والثابتة إلى الأبد: «مولودين ثانية، لا من زرع يفنى, بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد. لأن كل جسدا كعشب، وكل مجد إنسان كزهر العشب. العشب يبس وزهره سقط. وأما كلمة الرب فتثبت إل الأبد.» (ا بط23:1-25)
فالعالم يقوم على الظواهر والمحسوسات، وهذه كلها تتغير وتتبدل وتزول. وظواهر العالم التي يصادفها الإنسان في حياته، تأخذ وجودها في وجدانه، لأنها تتحرك ببطء نحو الزوال، فلا يشعر بزوالها إلا بصعوبة. ولكن لو أمكن تصورها وهي تتحرك بسرعة أكثر، كأن يتصور اختزال فترة تعليمه في المدارس من عشرين سنة إلى عشرين دقيقة، لظهرت وكأنها خيال عابر. ولكن هي كذلك في الحقيقة، فكل ظواهر الحياة خيالات تتحرك على شاشة العقل ببطء، فترسخ فيه، وكأنها وقائع وحقائق، وهى في حقيقتها ليست إلا صوراً تظهر لتزول. ولكن وراء هذه الصور توجد الحقيقة، وخلف هذه المظاهر والأقنعة يوجد الجوهر القائم والثابت، وهي اليد الإلهية التي تديرها وتتحكم في ظهورها وتلاشيها، والتي تحدد أزمنة بقائها وزوالها، وتبرز للنفس البشرية أهميتها أو تفاهتها، لتزداد النفس معرفة، وتنمو في الفهم والحكمة، وتترقى في أحاسيسها ومدركاتها في درجات تصاعدية تقترب بها النفس إلى جوهر الحقيقة أو الحق القائم خلف هذه المناظر والظواهر والصور المتحركة التي تسوقها الطبيعة وتتفنن فيها من جانبها، بإيعاز من الخالق، لترغب النفس فيها. وهكذا يبقى الله، في النهاية، بالنسبة للنفس الواعية، هو الغاية العظمى من حركة العالم، باعتباره الحقيقة أو الحق الذي يُشبع قلب الإنسان، أو على الوجه الأصح لن يشبع منه أبداً. فعالم الله والروحيات، هو أصدق ما تحتاجه النفس، فالنفس البشرية مخلوقة على صورة الله، والصورة لا ترتاح إلا على أصلها، كما يرتاح المثيل إلى المثيل.
ولكن أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى هذه الصور الزائلة والمناظر والخيالات وحسب، ويكتفي منها بالتغيير والتبديل، ويتعزى من زوال بعضها بظهور غيرها، فهذه مهزلة. شأنه في ذلك شأن شاب طائش لا يشبع من النظر إلى الأفلام السينمائية، يخرج من عرض ليدخل عرضا آخر، يصرف ماله وزمانه مستمتعا بخيالات، تظهر له كأنها حية وهي قد تكون لممثلين صارت أجسادهم ترابأ وقصتهم خرافة.
فالعالم، يا صديقي، عالم أقنعة وخيالات يحيطه الخداع من كل جانب. وعليك أن تدرك أن كل ما هو قابل للازدواج فهو خداع، فالفرح الذي يمكن أن ينقلب حزناً هو خداع: الفرح والحزن كليهما! ... كذلك الصحة والمرض، السلام والكآبة، النور والظلمة، الحياة والموت، الغنى والفقر، العلم والجهل، والاطمئنان والخوف. فكل ما يمكن أن ينقلب إلى ضده هو صورة متحركة، وهو خداع؛ أما «الحق» فهو قائم في كل هذه المتضادات، قائم ثابت، لا يتغير، ولا يتبدل، والذي عنده «روح الحق» يأخذ من الصورة وما هو ضدها، يأخذ من الفرح قدر ما يأخذ من الحزن ليرتفع فوق الفرح والحزن جميعاً. يأخذ من الغنى قدر ما يأخذ من الفقر، ليرتفع فوق هذا وذاك؛ ولا يطاله الغنى بغروره، ولا يطأه الفقر بنكده!
أما الذي ينحاز إلى العالم، فلن يقر له قرار؛ يعيش بين المتضادات, إلى فوق، ثم إلى أسفل وبالعكس, إلى أن يحطه اليأس، وتأكل أيامه المتغيرات. لذلك يقول الرب: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العلم أعطيكم أنا» (يو27:14). كما يقول: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو22:16)؛ «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من شرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد, بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية!!» (يو13:4-14)؛ «اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية، الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا، الله الآب قد ختمه... أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بى فلا يعطش أبداً... من يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية.» (يو27:6و35و54)
هذه هي طبيعة العالم وعطاياه، وهذه هي طبيعة الله وهباته. وهكذا، فالحق الذي يعطيه المسيح: «أنا هو الحق»، لا يزول، ولا يؤول إلى الضد أبداً، فالحق واحد دائماً، لا ينثنى ولا يتجزأ، ولا يتغير، وهو هو من طبيعة الله، وهذا هو جوهر عطاياه.
«رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ.»: كلمة «أن يقبله» تأتي باليونانية بمعنى يستقبله، والآن نستطيع أن ندرك عمق المعنى اليوناني لكلمة يستقبله, إذ أن إنسان العالم, أي الإنسان الطبيعي الفاقد لمراكز الوعي الروحي, ليس لديه جهاز الاستقبال الذي يدرك به الحق المطلق، لأن كل إدراكه العقلي حي قائم ومقصور على إدراك المظاهر والصور فقط؛ أما كل ما يخص طبيعة الله، أي الحق كجوهر، فهو مفقود عنده أو غير موجود ولا يمكن إدراكه، وبالأخص ما يتعلق باستعلان هذه الطبيعة في الآب والابن والروح القدس. على أنه يستحيل استقبال الروح القدس إلا في القبول لحقيقة المسيح متجسدُ: «هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟» (أع 2:19)
وتقول الآية أن العالم لا يستطيع أن يستقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. جيد، لأن العالم قائم على رؤية المظاهر والصور, والعرفة لدى العالم قائمة على التحليل الذهني لهذه المظاهر والصور، والروح القدس ليس له منظر ولا مظهر ولا صورة لأنه أقنوم إلهي غير مخلوق وغير متجسد، فهو ليس من هذا العالم بالمرة, ولكنه قائم فيه كمدبر، ومُحيي وضابط للخليقة، حال في كل مكان، ومالء الكل، وأصل الصلاح، ومُعطي الحياة لكل ذي جسد. يبكت العالم على خطاياه من داخل ضمير الأتقياء، وبالأكثر تجاه الذين يرفضون الإيمان بابن الله. لذلك فإن وظيفة الروح القدس الاولى في العالم أن يشهد لبر المسيح داخل قلوب المؤمنين، وينطق بأفواههم، ويدين كل الذين انحازوا وراء العالم ورئيسه. لذلك يبقى الروح القدس غير مقبول للذين أحبوا العالم الحاضر وحجتهم أنه غير منظور لديهم، وأن كل ما هو غير منظور أو محسوس غير معروف، فهم ينكرونه، كما ينكرون الابن والآب بالضرورة، لأن كل من لا يقبل الروح القدس، لا يدرك الآب والابن. هذه هى طبيعة العالم، وطبيعة الله تبقى غريبة عن طبيعة العالم، إلى أن يقبل الروح القدس، المنوط به استعلان كل أعماق الله للانسان:
+ «ما لم تر عين، ولم تسمع به أذن، ولم تخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله, لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضأ أمور الله، لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. «(اكو9:2-11)
«وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.»: ماكث معهم الآن بمكوثهم مع المسيح، ولكن لما يٌرفع المسيح سيجيء الروح القدس ليقيم فيهم !
التلاميذ هنا عينة من باكورة الإنسان الذي أفرزه الله، ليقف معه ضد العالم. فسلوك الطبيعة الجديدة للانسان في التلاميذ والمؤمنين، هو عكس سلوك طبيعة العالم تجاه الروح القدس. العالم لا يراه ولا يعرفه، وأما التلاميذ والمؤمنون فيعرفونه. العالم لا يقبله، وأما التلاميذ والمؤمنون فيقبلونه: «اقبلوا الروح القدس» (يو22:20)، وبذلك يمكث معهم, والحرف اليوناني المستخدم هنا ليوضح المعية هو ( )، وهو يفيد الشركة والوجود مع (By the side of)، كما جاء في قول المسيح: «بهذا كلمتكم وأنا عندكم ( )» (يو25:14)
«ويكون فيكم»: والحرف اليوناني هنا ( ) ويفيد السكنى الفردية الشخصية (الحلول). كما شرحها المسيح
بقوله: «الآب الحال في هو يعمل الأعمال.» (يو10:14)
وهنا، ومن استخدام الحروف اليونانية، يتبين لنا أن المسيح يمهد في أذهان التلاميذ كيفية تعامل الروح القدس معهم كشخص يحل محله: فكما كان المسيح عندهم «بهذا كلمتكم وأنا عندكم» (يو25:14)، هكذا سيدخل الروح القدس في شركة دائمة أبدية معهم ككنيسة. ثم كما كان الآب حال في المسيح, وكان هو الذي يعمل الأعمال التي كان يعملها المسيح باتفاق مدهش، هكذا سيحل الروح القدس فيهم حلولاً فردياً وشخصياً، ليعمل فيهم وبهم كل الأعمال التى كان يعملها المسيح.
ولكن هذا الحلول الذي ستناله طبيعة التلاميذ بالروح القدس، لن يكون كحلول الآب في المسيح، لأن حلول الآب في المسيح هو حلول الآب في الابن على أسامى الذات الواحدة في الجوهر الواحد والطبيعة الواحدة؛ أما حلول الروح القدس في الطبيعة البشرية، فهو حلول تقديس حيث تستهدف كل من الطبيعة والشخصية البشرية لعملية تغيير وتجديد، بشبه الخلق الجديد، لاكتساب الصفات المسيحية على نمط الصفات التي اكتسبها لنا المسيح بتجسده وتألمه وصلبه وقيامته وصعوده إلى السماء: «تعلموا مني» (مت29:11)، «اثبتوا في وأنا فيكم» (يو4:15), «أنتم في وأنا فيكم» (يو20:14)، «أنا فيهم، وأنت في، ليكونوا مكملين إلى واحد.» (يو23:17)
«روح الحق»: وأيضأ حق بحق، وحق عوضاً عن حق، كما معز عوضاً عن معز، فالمسيح كان لهم «الحق»: «أنا هو... الحق» (يو6:14). فإن كان الفم البشري الإلهي للابن المتجسد الذي ينطق بالحق سيختفي عن ناظريهم وأسماعهم، فهوذا الآب يرسل لهم «روح الحق» الذي ينطق في أفواههم وقلوبهم, ليسمعهم العالم كله!... كان الحق الذي يقوله المسيح ويعمله هو الإعلان عن الآب الكائن في الابن والحال في تجسده؛ والحق الذي يقوله ويعمله الروح فيهم وبهم يكون هو الإعلان عن الابن، واستعلان اللاهوت في تجسده، وبالتال استعلان الآب الذي في الابن والذي لا يُعرف ولا يُرى بدونه ...
والقديس يوحنا يتدرج في كشف الحق الذي بالمسيح وفيه، والذي بالروح القدس وفينا، هكذ: فبالسبة للحق الذي هو المسيح يقول: «ونعلم أن ابن الله قد جاء، وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح, هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية. [«أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14).]» (ايو20:5)
وبالنسبة للحق الذي بالروح وفينا يقول: «بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فيناء أنه قد أعطانا من روحه, ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله, فالله يثبت فيه, وهو في الله.» (ايو13:4-15), «وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا» (1يو24:3).
وشرح كلام القديس يوحنا هو كالآتي بالنسبة للحق بالمسيح ثم بالروح القدس:
+ بالنسبة للمسيح: أنه فتح بصيرة التلاميذ ليعرفوا الحق من كلامه وحسب الكتب، وذلك قبل مجيء الروح القدس هكذا: «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم ...حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب ...» (لو44:24-45)
وهذه هي «البصرة» التي يتكلم عنها القديس يوحنا، وهي لمعرفة الحق, الذي ركزه القديس يوحنا بهذه الجملة المختصرة، والتي هي كل الحق: «هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» تماماً كما عرف المسيح نفسه لهم: «أنا هو الطريق والحق والحياة».
+ بالنسبة للروح القدس: أولاً، كانت عطية الروح القدس الاولى والعظمى أنه حل هو فيهم، وذلك باستحقاق عمل المسيح الفدائي والخلاصي، وبحلول الروح القدس فيهم تهيأ هيكلهم لقبول ألوهية المسيح، لأن الروح القدس أُرسل ليعمل لحساب المسيح، يعلنه ويعطيه، وهذا يوضحه القديس بولس غاية الوضوح: «لكي يعطيكم, بحسب غنى مجده’ ان تتأيدوا بالقوة, بروحه, في الإنسان الباطن؛ ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبكم ..., لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله (حيث ملء اللاهوت: الآب والابن والروح القدس).» (أف16:3-19)
وبحلول الروح القدس والمسيح في وعي التلاميذ، الذي انتهى إلى ملء كيانهم الروحي، فإنه ينطلق ليشهد فوراً لهذا الثبوت والملء، وبالتالي، فإن هذا الثبوت وهذا الملء يصبحان شاهداً على أن الروح القدس قد أُعطي لهم، ويشهد لعملية الخلاص العظمى، أن الآب أرسل ابنه مخلصاً للعالم, ويعترف أن يسوع هو ابن الله!! هذا هو الحق الذي بالروح القدس والذي صار في التلاميذ وكل المؤمنين.
«لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ»: نحن هنا أمام مواجهة حادة بين روح الله، وهوروح الحق؛ وروح العالم، وهوروح الضلال والتزييف. لقد دخل المسيح هذه المواجهة عينها باعتباره الحق, في مقابل رئيس هذا العالم باعتباره المضل والكذاب، فكان الصليب، الذي به دخل الخلاص إلى العالم, واكتسب الإنسان حياة ما بعد الموت.. والآن، يبدأ الروح القدس عمله على أساس الصليب، وعلى نفس المواجهة وشدتها. فكما لم يقبل العالم الحق الذي في المسيح، بل أبغضه أشد البغض، ورفضه أشد الرفض, ولم يشأ أن يعرفه أبداُ هكذا: «وأما الآن، فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي ... إنهم أبغضوني بلا سبب» (يو24:5-25), «ولكن ينبغي أولاً أن يتألم كثيراً، ويُرفض من هذا الجيل» (لو25:17)، «لستم تعرفونني أنا ولا أبي, لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً» (يو19:8)؛ كذلك على هذا المستوى، واجه العالم الروح القدس باعتباره روح الحق الذي يشهد لكل الحق. واجهه بعدم القبول, أي بالرفض والبغضة, أولاً ضد التلاميذ الذين يعمل فيهم الروح القدس: «إن كان العالم يبغضكم, فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم» (يو18:15-19)، «إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم ... لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي, لأنهم لايعرفون الذي أرسلني» (يو20:15-21). ومن بعد التلاميذ، الكنيسة كلها وإلى نهاية الدهور.
وهكذا يتضح من كلام المسيح، أن عدم قبول العالم للروح القدس هو بسبب أنه يشهد للمسيح، والمسيح غير مقبول، لأن المسيح يشهد للحق، أي للآب، باستعلان الآب الحال فيه بالكلمة والعمل: «إنما يفعلون بكم هذا كله، من أجل اسمي.» (يو21:15)
«الاسم»: اسم ابن الله الذي رفضه، يعني رفض الآب، وبالتال عدم قبول إرسالية الآب للابن لخلاص العالم. أي بصريح العبارة، فإن العالم يرفض الخلاص من أصوله، لأن العالم يعمل قت سلطان روح الضلالة ولحسابه. وهكذا، فإن الخلاص يبقى وقفاً على كل من يرفض العالم, بل ويبغض العالم, وذلك بأن يرفض أن يعرف أو يتعرف على روح الضلالة الذي في العالم! لذلك كانت الآية: «إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب.» (ايو15:2)
«لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ.»: العالم لا يعرف الروح القس ولا يعرفه. الرؤيا هنا بالاثنين: رؤيا العين المجردة, ورؤيا العقل الروحي. فـ «العالم» هنا, يُعبر به عن الأشخاص الطبيعيين الذين يعيشون بحسب ظواهر الوجود المادي, لا يرون الروح على أي حال، لأن الروح جوهر إلهى فلا هم بالعين يرونه, لأن ليس له مظهر، ولا بالعقل يدركون كنهه أو ماهيته، لانه حق, والحق درجة في المدركات أعلى وأعمق من المظهر بلا قياس. فكل مظاهر العالم من مصنوعات ومخلوقات تحوى في أعماقها بالضرورة لمسة الخالق الذي صنعهإ؟ فهي تحوي حقاً، ولكنها ليست الحق، لأن المظاهر كلها زائلة والجوهر الخالق أزلى وأبدى: «لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم، الذين يحجزون الحق بالإثم. إذ معرفة الله ظاهرة فيهم, لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات, قدرته السرمدية ولاهوته, حتى إنهم بلا عذر.» (18:1-20).
يلاحظ هنا أن محور هذه الآية، هو كلمة الوحي: «لأن الله أظهرها لهم», فهي عطية فائقة على عقل الإنسان الطبيعي المخلوق، وفوق مقدرته الطبيعية المحدودة بإدراك الظواهر فقط. هذا الإمتياز أٌعطي للانسان هبة، أن لا يكون غريباً عن الله، ولكن هذا الإمتياز ليس من روح العالم أصلا، بل من الله.
ويلزما هنا أن نوضح أن «الإنسان الطبيعي» مخلوف ليرتقي إلى «إنسان روحي». ففي صميم خلقة الله للانسان, كما نتصوره في آدم, يوجد مركز للادراك الإلهي، وإلا لما عرف آدم الله، وأحبه, واستمع إليه، وخشى منه حينما تعدى على وصيته. لذلك، نستطيع بكل يقين أن نقول، إن عقل الإنسان له مركز فوق كل مراكزه الشعورية الطبيعية، لإدراك ما هو فوق الطبيعيات، أي إدراك الله وكل «أمور الله غير المنظورة». هذا المركز الفائق والممتاز، ينشط و يترقى بالممارسة، أي بالإشتغال في أمور الله: «وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس المدربة عل التمييز بين الخير والشر» (عب14:5). وهذا يؤدي إلى يقين الشعور بالله, ثم الإيمان به، ثم التأهل لأخذ الروح القدس، أي روح الله.
فالإيمان بالله لا يأتي من فراغ, وإلا ما أصبح له ثواب وعقاب. ولكن، بإهمال الانشغال بالله والتوقف عن تشغيل هذا المركز الخاص الفائق والممتاز، تضعف وتُفقد حساسيته, فتصبح معرفة الله غير واضحة, ثم صعبة، ثم مستحيلة, ثم مجهولة كلية؛ وكأن الله صارغير موجود، وذلك بسبب نشاط مراكز العقل الحية الأخرى وانشغالها الزائد بالظواهر, والانغماس في الأخذ منها لإشباع نهم العقل, والتعدى حتى على المركز الفائق الخاص بالله وتغطية احتياجه بالأمور الحسية وظواهر الأمور. هنا ينحصر الإنسان في صفته الدنيا، وهي كونه إنساناً طبيعياً، أي إنسان العالم، وليس إنسان الله بعد. هذا ما يعبر عنه بولس الرسول بقوله: «هكذا أيضاً أمور الله، لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله, لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله, لأنها (أي أمور الروح) عنده جهالة. ولا يقدر أن يعرفها (يعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله)، لأنه إنما يحكم (أي يدرك) فيها روحياً. وأما الروحي، فيحكم في كل شيء, وهو لا يحكم فيه من أحد. لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه؟ وأما نحن فلنا فكر المسيح» (اكو11:2-16 ترجمة عن الأصل اليوناني).
واني أنتهز هذه الفرصة يا قارئي العزيز لأرسم أمامك صورة واقعية للعالم والأشياء التي في العالم القابلة كلها للزوال : «والعالم يمضي وشهوته» (ايو17:2)، في مقابل أمور الله الباقية والثابتة إلى الأبد: «مولودين ثانية، لا من زرع يفنى, بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد. لأن كل جسدا كعشب، وكل مجد إنسان كزهر العشب. العشب يبس وزهره سقط. وأما كلمة الرب فتثبت إل الأبد.» (ا بط23:1-25)
فالعالم يقوم على الظواهر والمحسوسات، وهذه كلها تتغير وتتبدل وتزول. وظواهر العالم التي يصادفها الإنسان في حياته، تأخذ وجودها في وجدانه، لأنها تتحرك ببطء نحو الزوال، فلا يشعر بزوالها إلا بصعوبة. ولكن لو أمكن تصورها وهي تتحرك بسرعة أكثر، كأن يتصور اختزال فترة تعليمه في المدارس من عشرين سنة إلى عشرين دقيقة، لظهرت وكأنها خيال عابر. ولكن هي كذلك في الحقيقة، فكل ظواهر الحياة خيالات تتحرك على شاشة العقل ببطء، فترسخ فيه، وكأنها وقائع وحقائق، وهى في حقيقتها ليست إلا صوراً تظهر لتزول. ولكن وراء هذه الصور توجد الحقيقة، وخلف هذه المظاهر والأقنعة يوجد الجوهر القائم والثابت، وهي اليد الإلهية التي تديرها وتتحكم في ظهورها وتلاشيها، والتي تحدد أزمنة بقائها وزوالها، وتبرز للنفس البشرية أهميتها أو تفاهتها، لتزداد النفس معرفة، وتنمو في الفهم والحكمة، وتترقى في أحاسيسها ومدركاتها في درجات تصاعدية تقترب بها النفس إلى جوهر الحقيقة أو الحق القائم خلف هذه المناظر والظواهر والصور المتحركة التي تسوقها الطبيعة وتتفنن فيها من جانبها، بإيعاز من الخالق، لترغب النفس فيها. وهكذا يبقى الله، في النهاية، بالنسبة للنفس الواعية، هو الغاية العظمى من حركة العالم، باعتباره الحقيقة أو الحق الذي يُشبع قلب الإنسان، أو على الوجه الأصح لن يشبع منه أبداً. فعالم الله والروحيات، هو أصدق ما تحتاجه النفس، فالنفس البشرية مخلوقة على صورة الله، والصورة لا ترتاح إلا على أصلها، كما يرتاح المثيل إلى المثيل.
ولكن أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى هذه الصور الزائلة والمناظر والخيالات وحسب، ويكتفي منها بالتغيير والتبديل، ويتعزى من زوال بعضها بظهور غيرها، فهذه مهزلة. شأنه في ذلك شأن شاب طائش لا يشبع من النظر إلى الأفلام السينمائية، يخرج من عرض ليدخل عرضا آخر، يصرف ماله وزمانه مستمتعا بخيالات، تظهر له كأنها حية وهي قد تكون لممثلين صارت أجسادهم ترابأ وقصتهم خرافة.
فالعالم، يا صديقي، عالم أقنعة وخيالات يحيطه الخداع من كل جانب. وعليك أن تدرك أن كل ما هو قابل للازدواج فهو خداع، فالفرح الذي يمكن أن ينقلب حزناً هو خداع: الفرح والحزن كليهما! ... كذلك الصحة والمرض، السلام والكآبة، النور والظلمة، الحياة والموت، الغنى والفقر، العلم والجهل، والاطمئنان والخوف. فكل ما يمكن أن ينقلب إلى ضده هو صورة متحركة، وهو خداع؛ أما «الحق» فهو قائم في كل هذه المتضادات، قائم ثابت، لا يتغير، ولا يتبدل، والذي عنده «روح الحق» يأخذ من الصورة وما هو ضدها، يأخذ من الفرح قدر ما يأخذ من الحزن ليرتفع فوق الفرح والحزن جميعاً. يأخذ من الغنى قدر ما يأخذ من الفقر، ليرتفع فوق هذا وذاك؛ ولا يطاله الغنى بغروره، ولا يطأه الفقر بنكده!
أما الذي ينحاز إلى العالم، فلن يقر له قرار؛ يعيش بين المتضادات, إلى فوق، ثم إلى أسفل وبالعكس, إلى أن يحطه اليأس، وتأكل أيامه المتغيرات. لذلك يقول الرب: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العلم أعطيكم أنا» (يو27:14). كما يقول: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو22:16)؛ «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من شرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد, بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية!!» (يو13:4-14)؛ «اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية، الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا، الله الآب قد ختمه... أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بى فلا يعطش أبداً... من يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية.» (يو27:6و35و54)
هذه هي طبيعة العالم وعطاياه، وهذه هي طبيعة الله وهباته. وهكذا، فالحق الذي يعطيه المسيح: «أنا هو الحق»، لا يزول، ولا يؤول إلى الضد أبداً، فالحق واحد دائماً، لا ينثنى ولا يتجزأ، ولا يتغير، وهو هو من طبيعة الله، وهذا هو جوهر عطاياه.
«رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ.»: كلمة «أن يقبله» تأتي باليونانية بمعنى يستقبله، والآن نستطيع أن ندرك عمق المعنى اليوناني لكلمة يستقبله, إذ أن إنسان العالم, أي الإنسان الطبيعي الفاقد لمراكز الوعي الروحي, ليس لديه جهاز الاستقبال الذي يدرك به الحق المطلق، لأن كل إدراكه العقلي حي قائم ومقصور على إدراك المظاهر والصور فقط؛ أما كل ما يخص طبيعة الله، أي الحق كجوهر، فهو مفقود عنده أو غير موجود ولا يمكن إدراكه، وبالأخص ما يتعلق باستعلان هذه الطبيعة في الآب والابن والروح القدس. على أنه يستحيل استقبال الروح القدس إلا في القبول لحقيقة المسيح متجسدُ: «هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟» (أع 2:19)
وتقول الآية أن العالم لا يستطيع أن يستقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. جيد، لأن العالم قائم على رؤية المظاهر والصور, والعرفة لدى العالم قائمة على التحليل الذهني لهذه المظاهر والصور، والروح القدس ليس له منظر ولا مظهر ولا صورة لأنه أقنوم إلهي غير مخلوق وغير متجسد، فهو ليس من هذا العالم بالمرة, ولكنه قائم فيه كمدبر، ومُحيي وضابط للخليقة، حال في كل مكان، ومالء الكل، وأصل الصلاح، ومُعطي الحياة لكل ذي جسد. يبكت العالم على خطاياه من داخل ضمير الأتقياء، وبالأكثر تجاه الذين يرفضون الإيمان بابن الله. لذلك فإن وظيفة الروح القدس الاولى في العالم أن يشهد لبر المسيح داخل قلوب المؤمنين، وينطق بأفواههم، ويدين كل الذين انحازوا وراء العالم ورئيسه. لذلك يبقى الروح القدس غير مقبول للذين أحبوا العالم الحاضر وحجتهم أنه غير منظور لديهم، وأن كل ما هو غير منظور أو محسوس غير معروف، فهم ينكرونه، كما ينكرون الابن والآب بالضرورة، لأن كل من لا يقبل الروح القدس، لا يدرك الآب والابن. هذه هى طبيعة العالم، وطبيعة الله تبقى غريبة عن طبيعة العالم، إلى أن يقبل الروح القدس، المنوط به استعلان كل أعماق الله للانسان:
+ «ما لم تر عين، ولم تسمع به أذن، ولم تخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله, لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضأ أمور الله، لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. «(اكو9:2-11)
«وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.»: ماكث معهم الآن بمكوثهم مع المسيح، ولكن لما يٌرفع المسيح سيجيء الروح القدس ليقيم فيهم !
التلاميذ هنا عينة من باكورة الإنسان الذي أفرزه الله، ليقف معه ضد العالم. فسلوك الطبيعة الجديدة للانسان في التلاميذ والمؤمنين، هو عكس سلوك طبيعة العالم تجاه الروح القدس. العالم لا يراه ولا يعرفه، وأما التلاميذ والمؤمنون فيعرفونه. العالم لا يقبله، وأما التلاميذ والمؤمنون فيقبلونه: «اقبلوا الروح القدس» (يو22:20)، وبذلك يمكث معهم, والحرف اليوناني المستخدم هنا ليوضح المعية هو ( )، وهو يفيد الشركة والوجود مع (By the side of)، كما جاء في قول المسيح: «بهذا كلمتكم وأنا عندكم ( )» (يو25:14)
«ويكون فيكم»: والحرف اليوناني هنا ( ) ويفيد السكنى الفردية الشخصية (الحلول). كما شرحها المسيح
بقوله: «الآب الحال في هو يعمل الأعمال.» (يو10:14)
وهنا، ومن استخدام الحروف اليونانية، يتبين لنا أن المسيح يمهد في أذهان التلاميذ كيفية تعامل الروح القدس معهم كشخص يحل محله: فكما كان المسيح عندهم «بهذا كلمتكم وأنا عندكم» (يو25:14)، هكذا سيدخل الروح القدس في شركة دائمة أبدية معهم ككنيسة. ثم كما كان الآب حال في المسيح, وكان هو الذي يعمل الأعمال التي كان يعملها المسيح باتفاق مدهش، هكذا سيحل الروح القدس فيهم حلولاً فردياً وشخصياً، ليعمل فيهم وبهم كل الأعمال التى كان يعملها المسيح.
ولكن هذا الحلول الذي ستناله طبيعة التلاميذ بالروح القدس، لن يكون كحلول الآب في المسيح، لأن حلول الآب في المسيح هو حلول الآب في الابن على أسامى الذات الواحدة في الجوهر الواحد والطبيعة الواحدة؛ أما حلول الروح القدس في الطبيعة البشرية، فهو حلول تقديس حيث تستهدف كل من الطبيعة والشخصية البشرية لعملية تغيير وتجديد، بشبه الخلق الجديد، لاكتساب الصفات المسيحية على نمط الصفات التي اكتسبها لنا المسيح بتجسده وتألمه وصلبه وقيامته وصعوده إلى السماء: «تعلموا مني» (مت29:11)، «اثبتوا في وأنا فيكم» (يو4:15), «أنتم في وأنا فيكم» (يو20:14)، «أنا فيهم، وأنت في، ليكونوا مكملين إلى واحد.» (يو23:17)
لا يزال المسيح يعزي تلاميذه عن الفراق الذي سيواجهونه بعد موته وقيامته وذهابه إلى الآب. لقد أدرك المسيح مقدار تعلق تلاميذه به كأب وتعلقه بهم كأولاد: «يا أولادي, أنا معكم زماناً قليلاً بعد» (يو33:13)، وكلمة «أولاد» هنا تأخذ صورتها المحببة جداً على مستوى الأولاد الصغار, «إذ كان قد أحب خاصته ... أحبهم إل المنتهى. » (يو1:13). فإن كان المسيح قد شرح لهم ضرورة ذهابه إلى الآب، وأوضح لهم أن هذا الفراق سيكون لصالحهم، إذ سيرسل لهم الروح القدس المعزي، روح الحق، ليمكث معهم ويكون فيهم؛ إلا أنه كان يدرك أن ذلك لا يغنيهم عن عودته إليهم ورؤيته لهم.
«إني آتي إليكم»: حيث فعل «آتي» هو في زمن المضارع المستمر بلا حدود ولا نهاية، وهو الذي ورد في الأصحاح الأول بهذا النحو: «كان النور الحقيقي... آتياً إلى العالم» (يو9:1)، أي يظل يأتي و يأتي ليغطي كل الزمان إلى ما لا نهاية. فوعد المسيح لتلاميذه: «إني آتي إليكم»، هو وعد «المجيء الدائم» الذي تحقق أولاً بعد القيامة، بظهوره مرات معدودة. ولكن بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين، ظل مجيئه عل مستوى الإقامة الدائمة الروحية في الكنيسة: «ها أنا مكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر.» (مت20:28)
فوجود المسيح في الكنيسة، هو وجود عضوي عامل ودائم، لأن المسيح بالنسبة للكنيسة كالرأس بالنسبة للجسد: «وإياه جعل رأساً فوف كل شيء للكنيسة, التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل.» (أف22:1-23)
ومعروف أن حلول الروح القدس, سواء كان ذلك في الكنيسة أو في الأفراد المؤمنين, إنما يتم لحساب المسيح، بمعنى أن وجود الروح القدس يكشف في الحال عن وجود المسيح. وحتى العزاء الذي يضطلع به الروح القدس في قلوب المؤمنين يقوم على أساس استعلان الروح القدس لشخص المسيح، وتجليه, في كل مواقفه المحببة, داخل قلوب المؤمنين. وقد أمدنا بولس الرسول بصورة للصليب، واقعية ومؤثرة، استعلنها الروح القدس في قلب بولس لشخص المسيح بالنسبة لبولس نفسه، فتأوه معلناً عن صدقها: «الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي.» (غل20:2).
وهكذا يأخذ الروح القدس من أعمال المسيح العامة، ويصورها للمؤمن كعمل شخصي يخصه هو بالدرجة الاولى، لذلك نجد الرب يذكر إرساله للروح القدس أولاً, ثم يذكر مجيئه الشخصي لكل واحد!! لأن مجيئه إنما يٌستعلن ويصور بواسطلة الروح القدس الساكن في القلب.
ويلزم أن ننوه هنا أن الروح القدس هو روح الآب وروح الابن، فهو يحمل الوحدة الإلهية الكائنة بين الآب والابن، بقدر ما يحمل طابع الآب وطابح الابن, أي الحب الأبوي والحب البنوي معاً. فيا لغنى المجد الذي يرضع منه قلب الإنسان، حينها يحل فيه الروح القدس ويقيم . بل وإن الروح القدس يحمل ربط الالفة والانسجام للوحدة القائمة بين ابن الله وابن الإنسان، ويحمل القوة التي جعلت وصيرت الكلمة جسداً (لو35:1)، والتي أقامت المسيح من القبر في اليوم الثالث (رو11:8). والروح القدس، روح الحق، بسكناه في قلب الإنسان, يغذي فكر الإنسان على الحق بالكلمة، كما يغذي روحه بهذا الحق, إنما بالفعل والقوة, ليدرك الإنسان ويرتقي إلى نصيبه في التبني، وشركة ميراثه مع المسيح في الله. إنه يأخذ من الرأس، ويعرف بالسر الأعضاء في الجسد، ويظل يملأ، حتى إلى كل ملء الله.
«لا أترككم يتامى»: هذه إشارة بليغة إلى موته، حيث الموت الذي بدأ يخطو إليه بقدميه، والذي به يتيتم التلاميذ
إلى زمن؛ وهذه هي الجملة التي أوحت بالرد عليها مباشرة: «إني آتي إليكم»، ليرد تيتمهم إلى بنوة جديدة لابوة جديدة. التي هي بدورها إشارة بليغة إلى قيامته. فإن كان بموت المسيح يصبح التلاميذ يتامى، فبقيامته ومجيئه إليهم يدخلون تواً في عهد التبني وحنو الآب الدائم.
في الحقيقة، إن العالم لم يره أبدآ متجلياً على حقيقته «أنا هو»، وإنما كان يراه كمواطن جليلي لا أكثر, وبهذه الرؤية يكون العالم قد قارب أن يفقد هذا المواطن الجليلي، إذ لم يعد له أكثر من اثنتي عشرة ساعة يقضيها بين المحاكمات. أما تلاميذه، فقد «رأوا مجده» بالاستعلان, أي بالرؤيا الروحية, وآمنوا به. فإن كان سيختفي عنهم بالأنظار ساعات قليلة, فلكي يظهر لهم ثانية متجلياً برؤيا المجد، ولا يعود يختفي عن عيون إيمانهم قط: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطى أن يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات.» (أع40:10-41)
«إني أنا حي»: المسيح يعبر هنا على الموت، وكأنه لم يكن، ليلفت نظر تلاميذه إلى قوة القيامة الكائنة فيه، فهو يرى نفسه هنا حياً وكأن القيامة كائنة في كيانه لا تفارقه. وبهذه الحياة الأبدية التي فيه، يضمن لتلاميذه معه شركة أكيدة فيها. ألم يقل: «وكل من كان حياً وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد» (يو26:11)
هذا القول يلتقطه بولس الرسول ويشهد له، من واقع حياته هو أيضاً الكائنة في حياة يسوع وبها: «الله الذى هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح» (أف4:2-5)؛ «مع المسيح صلبت، فأحيا, لا أنا, بل المسيح يحيا في, فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان, إيمان ابن الله الذي أحبني، وأسلم نفسه لأجلي.» (غل20:2)
تركيز بولس الرسول هنا على قوة الإيمان الفعالة بالروح, لبلوغ شركة فعلية هع المسيح الحي, لنوال حياة دائمة بحياة المسيح وفيها. لأنه بحسب إيمان القديس بولس، فكل من آمن بالمسيح, يصبح له شركة في المسيح: في موته، وفي قيامته، وفي حياته، وجلوسه معه في السماويات؛ من أجل هذا تجسد ابن الله، ليعطينا هذه الحياة.
وعن كيفية حياته وامتدادها في تلاميذه بالروح يوضح المسيح هكذا:
«في ذلك اليوم تعلمون»: هنا واضح انه يوم الاستعلان, وهو بلا شك يوم الخمسين، عندها حل الروح القدس، روح المعرفة والفهم، روح الاستعلان والكشف، وأول من سيستعلنه ويشهد له الروح القدس هو المسيح, أنه ابن الله, الحقيقة التي من اجلها كتب القديس يوحنا إنجيله كله: «لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم, إذا آمنتم, حياة باسمه» (يو31:20-32)؛ الأمر الذي اكمله الروح القدس منذ يوم الخمسين فصاعداً باستعلان علاقتنا بالمسيح، إذ يشهد بولس الرسول على شهادة الروح القدس في أعماقه: «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله... اخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا ابا الآب. الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فان كنا اولاداً،´فإننا ورثة أيضاً, ورثة الله, وراثون مع المسيح...» (رو14:8-17)
وعلى مدى سفر الاعمال كله والرسائل، يشهد الروح القدس أن المسيح هو ابن الله. فأول عمل عمله بولس الرسول بعد ان اعتمد، هو الكرازة بابن الله: «وتناول طعامأ فتقتوى... وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح ان هذا هو ابن الله» (أع19:9-20), وهكذا تم قول الرب أن: «في ذلك اليوم تعلمون أني انا في ابي».
«أني أنا في أبي»: هذا اصطلاح لاهوتي، أي يختص بطبيعة الله، ويفيد الوحدة القائمة بين الآب والابن، هذه الوحدة تؤمنها وحدة الطبيعة اي الجوهر. وجوهر الله هو ألوهيته؛ فالآب والابن جوهرهما واحد، ولا يوجد ثنائية في جوهر الله، لانه بسيط غير منقسم ولا مركب. والآب والابن صفات جوهرية أي صفات لطبيعة الإله الواحد. والآب والابن ذات واحدة، كاملة كمالاً مطلقاً؛ ويستحيل ان تكون الذات الكاملة آباً فقط ´وابناً فقط، فكل ذات هي آب وابن معاً. وإذا أخذنا الذات البشرية، اي الإنسان، نجده كذلك, فكل ذات (أي أنا وأنت) هي ابن ثم هي أيضاً أب، أي أن الذات فيها البنوة وفيها الأبوة, كامنة، تظهرها عوامل زمنية ونضجية. ولكن ذات الله كاملة أزلياً وأبدياً، فيها الأبوة والبنوة معاً، لا متقدم فيهما ولا متأخر، ولا مستحدث فيهما ولا متغير.
لهذا, فإن الآب والابن هما بالطبيعة متحدان ليكونا الذات الإلهية الواحدة, الله. ومن السهل بعد ذلك أن نقول أن الآب في الابن كائن, وأن الابن في الآب كائن, وأن لهما المشيئة الإلهية الواحدة التي للذات الواحدة, ومن السهل البين أن تمارس الابوة في الله رسالتها بالانعطاف والحب نحو البنوة وتعلنها، خاصة بعد التجسد، وأن تمارس البنوة رسالتها بالطاعة والحب، بعد التجسد، نحو الابوة.
فلما شاء الله أن يخلص الإنسان بنفسه بأن يرفعه إليه، ويهبه الحياة الأبدية، بذل البنوة التي فيه، أي ابنه، ليتجسد. وهكذا ظهر الله في الجسد، وهوالابن، وأطاع الآب، حتى أكمل رسالة الخلاص. وقد استطاع المسيح أن يبرهن عملياً, بحياته وموته وقيامته، أنه هو والآب واحد، قولاً وعملاً وسلوكاً. ولما حل الروح القدس على التلاميذ، أكمل الروح القدس الشهادة للمسيح أنه ابن الله، وأنه واحد مع الآب، الأمر الذي صار محور الكرازة وأساس الخلاص.
«وأنتم في وأنا فيكم»: المتكلم هنا هو المسيح ابن الله المتجسد، ولولا تجسده ما استطاع أن يقول هذا القول، ولكنه لما أخذ الطبيعة البشرية واتحد بها, استطاع أن يقول: «أنا فيكم» أي في طبيعتكم. و«أنتم فيّ» أي طبيعتكم صارت فيّ. وهذا، بحد ذاته، هو الذي فتح أمامنا المجال لننتجرأ ونطالب, بحق هذا التجسد, أن يكون لنا شركة معه أو في حياته على وجه الأصح، وأيضاً أن يكون له وجود وشركة في حياتنا، بل هو الذى دعانا إلى تلك الشركة ومنحنا حقوقها بالتجسد. هذه الشركة مع المسيح كابن الله، الذى دعانا إليها، ومنحنا كل حقوقهها، هي أيضاً حالة اتحاد. ولكن هناك فرق شاسع بين كلمة المسيح: «أنا فى أبى» وبين «أنتم فىّ وأنا فيكم». ففى الأولى، يقوم الاتحاد على أساس وحدة الطبيعة أى الجوهر الإلهي، وهو يُنشىء ذاتاً واحدة, أما الوجود المتبادل في الحالة الثانية، فهو لا يرفع الفوارق ولا يوحد الذات بل يعطي حقوقاً مجاناً ويعبر عنه بمفهوم الشركة في حياة المسيح: «فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ» (غل20:2)؛ «من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت فيّ وأنا فيه» (يو56:6)؛ «فمن يأكلي، فهو يحيا بي.» (يو57:6)
هذا الاتحاد الذي يدعو إليه المسيح في موضع آخر: «أنا فيهم وأنت فّي، ليكونوا مكملين إلى واحد» (23:17)، هو أيضآ حالة شركة، ويعبر عنها القديس يوحنا هكذا: «وأما شركتنا نحن, هي مع الآب، ومع ابنه يسوع المسيح» (ايو3:1). وهذه الشركة لا يمكن أن نبلغ مداها الحقيتي سواء بالإدراك أو بالفعل، إلا في الحياة الأخرى، حيث يكون فيها الله الكل في الكل، ولكنها تبدأ تتحقق منذ الآن جزئيأ، وقليلاً قليلاً، عل مستوى الاستعلان بواسطة الروح القدس، وعلى مستوى الفعل بتقديس الروح أيضاً، وذلك بالتغيير والتجديد المتواصل، بخلع الإنسان العتيق ولبس الجديد الذي يتجدد حسب صورة خالقه، وعلى أساس الإتفاق الكامل في العمل والمشيئة مع الروح القدس، لتكميل الحياة المسيحية.
وإليك أيها القارىء العزيز محاولة مختصرة غاية الاختصار للتعبير عن اختبار الشركة مع المسيح بالروح، حيث نتتبع النفس وهي تنطلق من عقالها، لتطلع على الطبيعة الإلهية، وتتآلف معها، من خلال نافذة الروح القدس. حيث تفاجأ النفس, من خلال وعيها الجديد المتفتح, برؤية الحقيقة لأول مرة، فتبدو الحقيقة كانكشاف فجائي في الرؤيا الشخصية، حيث تدرك النفس حقيقة المسيح المنيرة، بالإحساس الواعي لحضوره الإلهي.
هذا الإحساس ينطبع في النفس, ليخط فيها خطوطاً أبدية لا تفارق النفس مدى الحياة, وحيث صورة المسيح لا تفارق النفس الواعية بوجوده، وكأنه يلازم الروح: « أنتم فيّ وأنا فيكم». إنه نوع من الاتحاد الروحي العميق, تكتسب منه الروح تكاملاً جديداً، في كل اختبار، يقربها أكثر من المسيح، ويزيد وعيها نوراً وإدراكاً بألوهيته البسيطة المتناهية في البساطة. حيث يتذوق الإنسان حياة أخرى تماماً، بمواصفات جديدة على الفكر تماماً، أقوى ما فيها هو الفرح والسلام اللذان يسكنان في القلب: «سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم, ولا ينذع أحد فرحكم منكم.» (يو22:16)
ثم يبدأ الوعي المسيحي فيتحرك بنور حضرة المسيح، فينكشف أمامه سر الخلق، وسر التجديد، وسر القيامة والخلود، لا كأن هذه معارف جديدة, بل باعتبارها خصائص النفس ذاتها. أما الزمن، فيغيب بماضيه وحاضره ومستقبله عن وعي الإنسان، فلا يعود يشعر بمرور الساعات والأيام، أو تتابع الليل والنهار، إذ تستغرق النفس في رؤيتها وهي تتتبع المسيح في حياته وكلماته، وهومتجلي في أفق النفس بملء بهائه، فتختفي من أمام العين كل الصور والمناظر، وهي في موضعها, فلا تعود العين الروحية تصطدم إلا بالحقائق وهي تتكشف أمامها. ولا يعود للبصر الروحي حواجز مادية تمنعه عن التغلغل في الوجود الروحي اللامحدود واللامُحاصر. لا يعود البصر بالعين هو واسطة الرؤيا، بل تنفتح حواس الروح لتتعامل مع الحقائق الإلهية بوعي جديد. وهكذا تدخل الروح في بيتها الآبوي: «في بيت أبي منازل كثيرة... أنا أمضي لأعد لكم مكائاً، وان مضيت وأعدت لكم مكاناً، أتي أيضاً وأخذكم إلي، حتى حيث أكون أنا، تكونون أنتم أيضاً.» (يو2:14-3)
«في ذلك اليوم تعلمون»: هنا واضح انه يوم الاستعلان, وهو بلا شك يوم الخمسين، عندها حل الروح القدس، روح المعرفة والفهم، روح الاستعلان والكشف، وأول من سيستعلنه ويشهد له الروح القدس هو المسيح, أنه ابن الله, الحقيقة التي من اجلها كتب القديس يوحنا إنجيله كله: «لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم, إذا آمنتم, حياة باسمه» (يو31:20-32)؛ الأمر الذي اكمله الروح القدس منذ يوم الخمسين فصاعداً باستعلان علاقتنا بالمسيح، إذ يشهد بولس الرسول على شهادة الروح القدس في أعماقه: «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله... اخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا ابا الآب. الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فان كنا اولاداً،´فإننا ورثة أيضاً, ورثة الله, وراثون مع المسيح...» (رو14:8-17)
وعلى مدى سفر الاعمال كله والرسائل، يشهد الروح القدس أن المسيح هو ابن الله. فأول عمل عمله بولس الرسول بعد ان اعتمد، هو الكرازة بابن الله: «وتناول طعامأ فتقتوى... وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح ان هذا هو ابن الله» (أع19:9-20), وهكذا تم قول الرب أن: «في ذلك اليوم تعلمون أني انا في ابي».
«أني أنا في أبي»: هذا اصطلاح لاهوتي، أي يختص بطبيعة الله، ويفيد الوحدة القائمة بين الآب والابن، هذه الوحدة تؤمنها وحدة الطبيعة اي الجوهر. وجوهر الله هو ألوهيته؛ فالآب والابن جوهرهما واحد، ولا يوجد ثنائية في جوهر الله، لانه بسيط غير منقسم ولا مركب. والآب والابن صفات جوهرية أي صفات لطبيعة الإله الواحد. والآب والابن ذات واحدة، كاملة كمالاً مطلقاً؛ ويستحيل ان تكون الذات الكاملة آباً فقط ´وابناً فقط، فكل ذات هي آب وابن معاً. وإذا أخذنا الذات البشرية، اي الإنسان، نجده كذلك, فكل ذات (أي أنا وأنت) هي ابن ثم هي أيضاً أب، أي أن الذات فيها البنوة وفيها الأبوة, كامنة، تظهرها عوامل زمنية ونضجية. ولكن ذات الله كاملة أزلياً وأبدياً، فيها الأبوة والبنوة معاً، لا متقدم فيهما ولا متأخر، ولا مستحدث فيهما ولا متغير.
لهذا, فإن الآب والابن هما بالطبيعة متحدان ليكونا الذات الإلهية الواحدة, الله. ومن السهل بعد ذلك أن نقول أن الآب في الابن كائن, وأن الابن في الآب كائن, وأن لهما المشيئة الإلهية الواحدة التي للذات الواحدة, ومن السهل البين أن تمارس الابوة في الله رسالتها بالانعطاف والحب نحو البنوة وتعلنها، خاصة بعد التجسد، وأن تمارس البنوة رسالتها بالطاعة والحب، بعد التجسد، نحو الابوة.
فلما شاء الله أن يخلص الإنسان بنفسه بأن يرفعه إليه، ويهبه الحياة الأبدية، بذل البنوة التي فيه، أي ابنه، ليتجسد. وهكذا ظهر الله في الجسد، وهوالابن، وأطاع الآب، حتى أكمل رسالة الخلاص. وقد استطاع المسيح أن يبرهن عملياً, بحياته وموته وقيامته، أنه هو والآب واحد، قولاً وعملاً وسلوكاً. ولما حل الروح القدس على التلاميذ، أكمل الروح القدس الشهادة للمسيح أنه ابن الله، وأنه واحد مع الآب، الأمر الذي صار محور الكرازة وأساس الخلاص.
«وأنتم في وأنا فيكم»: المتكلم هنا هو المسيح ابن الله المتجسد، ولولا تجسده ما استطاع أن يقول هذا القول، ولكنه لما أخذ الطبيعة البشرية واتحد بها, استطاع أن يقول: «أنا فيكم» أي في طبيعتكم. و«أنتم فيّ» أي طبيعتكم صارت فيّ. وهذا، بحد ذاته، هو الذي فتح أمامنا المجال لننتجرأ ونطالب, بحق هذا التجسد, أن يكون لنا شركة معه أو في حياته على وجه الأصح، وأيضاً أن يكون له وجود وشركة في حياتنا، بل هو الذى دعانا إلى تلك الشركة ومنحنا حقوقها بالتجسد. هذه الشركة مع المسيح كابن الله، الذى دعانا إليها، ومنحنا كل حقوقهها، هي أيضاً حالة اتحاد. ولكن هناك فرق شاسع بين كلمة المسيح: «أنا فى أبى» وبين «أنتم فىّ وأنا فيكم». ففى الأولى، يقوم الاتحاد على أساس وحدة الطبيعة أى الجوهر الإلهي، وهو يُنشىء ذاتاً واحدة, أما الوجود المتبادل في الحالة الثانية، فهو لا يرفع الفوارق ولا يوحد الذات بل يعطي حقوقاً مجاناً ويعبر عنه بمفهوم الشركة في حياة المسيح: «فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ» (غل20:2)؛ «من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت فيّ وأنا فيه» (يو56:6)؛ «فمن يأكلي، فهو يحيا بي.» (يو57:6)
هذا الاتحاد الذي يدعو إليه المسيح في موضع آخر: «أنا فيهم وأنت فّي، ليكونوا مكملين إلى واحد» (23:17)، هو أيضآ حالة شركة، ويعبر عنها القديس يوحنا هكذا: «وأما شركتنا نحن, هي مع الآب، ومع ابنه يسوع المسيح» (ايو3:1). وهذه الشركة لا يمكن أن نبلغ مداها الحقيتي سواء بالإدراك أو بالفعل، إلا في الحياة الأخرى، حيث يكون فيها الله الكل في الكل، ولكنها تبدأ تتحقق منذ الآن جزئيأ، وقليلاً قليلاً، عل مستوى الاستعلان بواسطة الروح القدس، وعلى مستوى الفعل بتقديس الروح أيضاً، وذلك بالتغيير والتجديد المتواصل، بخلع الإنسان العتيق ولبس الجديد الذي يتجدد حسب صورة خالقه، وعلى أساس الإتفاق الكامل في العمل والمشيئة مع الروح القدس، لتكميل الحياة المسيحية.
وإليك أيها القارىء العزيز محاولة مختصرة غاية الاختصار للتعبير عن اختبار الشركة مع المسيح بالروح، حيث نتتبع النفس وهي تنطلق من عقالها، لتطلع على الطبيعة الإلهية، وتتآلف معها، من خلال نافذة الروح القدس. حيث تفاجأ النفس, من خلال وعيها الجديد المتفتح, برؤية الحقيقة لأول مرة، فتبدو الحقيقة كانكشاف فجائي في الرؤيا الشخصية، حيث تدرك النفس حقيقة المسيح المنيرة، بالإحساس الواعي لحضوره الإلهي.
هذا الإحساس ينطبع في النفس, ليخط فيها خطوطاً أبدية لا تفارق النفس مدى الحياة, وحيث صورة المسيح لا تفارق النفس الواعية بوجوده، وكأنه يلازم الروح: « أنتم فيّ وأنا فيكم». إنه نوع من الاتحاد الروحي العميق, تكتسب منه الروح تكاملاً جديداً، في كل اختبار، يقربها أكثر من المسيح، ويزيد وعيها نوراً وإدراكاً بألوهيته البسيطة المتناهية في البساطة. حيث يتذوق الإنسان حياة أخرى تماماً، بمواصفات جديدة على الفكر تماماً، أقوى ما فيها هو الفرح والسلام اللذان يسكنان في القلب: «سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم, ولا ينذع أحد فرحكم منكم.» (يو22:16)
ثم يبدأ الوعي المسيحي فيتحرك بنور حضرة المسيح، فينكشف أمامه سر الخلق، وسر التجديد، وسر القيامة والخلود، لا كأن هذه معارف جديدة, بل باعتبارها خصائص النفس ذاتها. أما الزمن، فيغيب بماضيه وحاضره ومستقبله عن وعي الإنسان، فلا يعود يشعر بمرور الساعات والأيام، أو تتابع الليل والنهار، إذ تستغرق النفس في رؤيتها وهي تتتبع المسيح في حياته وكلماته، وهومتجلي في أفق النفس بملء بهائه، فتختفي من أمام العين كل الصور والمناظر، وهي في موضعها, فلا تعود العين الروحية تصطدم إلا بالحقائق وهي تتكشف أمامها. ولا يعود للبصر الروحي حواجز مادية تمنعه عن التغلغل في الوجود الروحي اللامحدود واللامُحاصر. لا يعود البصر بالعين هو واسطة الرؤيا، بل تنفتح حواس الروح لتتعامل مع الحقائق الإلهية بوعي جديد. وهكذا تدخل الروح في بيتها الآبوي: «في بيت أبي منازل كثيرة... أنا أمضي لأعد لكم مكائاً، وان مضيت وأعدت لكم مكاناً، أتي أيضاً وأخذكم إلي، حتى حيث أكون أنا، تكونون أنتم أيضاً.» (يو2:14-3)
آية اختبارية يطرحها المسيح أمام عشاق الحب الإلهي، ليستكمل فيهم ظهوره الإلهي. حينما قال المسيح في موضع آخر: «ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر» (مت20:28)، لم يقلها عفوياً، وكأنه يسند قلبهم بالكلمة، ولكنه كان فعلاً وحقاً على وعد مع المحبين والعاشقين وحافظي عهده ووصاياه، وليس بمجرد التواجد غير المعلن، ولكن بالظهور الحقيقي المستعلن للروح المنفتحة الحواس والقادرة على اجتلاء الرؤية.
وهل للرب وصايا فوق بساطة المحبة، التي لا تعرف أن تفرق بين صديق وعدو، أو تميز بين جميل وذميم, أو تفضل مادحاً على قادح. أو هل له وصية أقوى من اتضاع الإخلاء الصادق من كل أدعاء الكرامة، وطلب المجد الدنيوي، والتسابق على الظهور, وشهوة المديح والسيادة. لقد أوصى الرب وأكد على أهمية الصلاة بدون ملل, حتى تستعلن قوتها، ولمح على حتمية الطلبة ليل نهار, حتى ينسكب الروح القدس الحامل لكل أسرار الحياة. لقد شرح الرب، وأوضح الشرح بالتمثيل, كيف تقوم قوة الكرازة على أيدي الكارزين حينما يغسلون أرجل بعضهم البعض، ليؤمن العالم أنهم تلاميذ الرب حقاً، ثم جعلها وصية عملية لكل الخادمين، لا حفلة تمثيل على مسرح الكنيسة.
لقد أوصى الرب الذين ثبتوا وجههم نحو أورشليم العليا، أن لا يلتفتوا إلى الوراء ليودعوا الأهل والأقرباء، محذرا إياهم أن أعداء الإنسان يكونون هم أهل بيته، إن هو طلب وجه الرب. وأنه بقدر ما يترك الإنسان من مباهج الدنيا وعواطف اللحم والدم، بقدر ما يأخذ مائة ضعف، كيلاً مهزوراً ئلبداً، من مباهج الحياة الأبدية.
لقد أوصى الرب كثيراً بالأذن التي تسمع، والعين التي تبصر، والقلب الجيد الذي تنبت فيه الكلمة لتعطى ثمارها، وطوب حبة الحنطة التي فضلت أن تموت، من أن تبقى وحدها، ووعدها بثمر كثير. ووصايا الرب تمسك بعضها بعض، والواحدة تجر الأخرى، لأن قوة خفية تنبع منها، لا تسكت ولا تهدأ، حى تأتي على الكل.
«يحبه أبي»: «الذي عنده وصاياي» هي الأساس الذي عليه تقوم كل علاقة كلية وجزئية مع الله منذ القديم. فاحترام كلمة الله، هو التكريم الحقيقي والمباشر لشخص الله: «أكرم الذين يكرموني، والذين يحقتروني يصغرون» (1صم30:2).
وأين ومتى وكيف نكرم الله؟ إلا في كلمته واسمه. فكلمات الله واسعه تحمل شخصه، وينوبون عن وجوده، ويعملون عمله، والمسيح, تبارك اسمه, هو كلمة الله مُشخصة ومنظورة، وهو الحامل لاسمه، فالتعامل الموقر مع المسيح هو تعامل مباشر مع الآب، وكيف نتعامل مع المسيح إلا في وصاياه؛ فالذي عنده وصايا يسوع، عنده الرب نفسه. والذي جلس تحت كلماته يتأدب بها ويتهذب، هو الذي اختار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منه (لو42:10). «ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جيعاً (2يو9:1)، «والذي يحب كثيراً يُغفر له الكثير» (لو47:7)، أي يصير من المقربين إلى الآب.
وفي القديم، تعلمنا أن الله, الحكمة, يمكن أن يتبادل معنا الحب مباشرة: «أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكرون إلي يجدونني» (أم17:8)، وما التبكير إلى الله, أو إلى حكمته, إلا الصلاة والهذيذ بكلمته الحية في بكور الهار وبكور الحياة معاً.
والآن، وقد تجسد الكلمة، وسمعنا من فمه وصية جديدة, صار حب الوصية هو حب الابن والآب معاً. ورد الفعل عند الله لا يزال قائما، فالذي يحب الابن يحبه الآب؛ وحينما يحبنا الآب، فهذا معناه أنه تمث المصالحة وأثمر الصليب والغفران، ودخلنا فعلاً في ميراث البنين.
«وأنأ أحبه»: محبة الرب لنا قائمة على الصليب، أما بعد الصليب فهي مخضبة بالدماء، حيث لا يمكن أن يكون حب أعظم من هذا. ولكن «الذي» عنده وصايا يسوع، وقد حفظها في قلب واع «وعمل بها وعلم» (مت19:5)، فهذا يكون قد دخل في عهد نشيد الأنشاد، وتأهل أن يطلع على سر الحب الإلهي، ويكون قد انتقل من ميراث البنين إلى ميراث العروس، هذا يقول عنه القديس بولس الرسول إن: «من التصق بالرب، فهوروح واحد.» (اكو17:6).
«واُظهر له ذاتي»: الكلمة اليونانية ( ) تفيد معنى «يعرض بوضوح وبشكل بارز»، وهي نفس الكلمة التي جاءت في ظهور المسيح أمام الله: «لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد، أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا» (عب24:9)، لذلك، فهي تفيد أكثر بكثير من معنى الاستعلان المظور لشيء كان خفياً وأُظهر والتي تأتي هكذا: ( )، ولا هي ظهور شيء كان غير معروف سابقاً: ( ). ومعروف أن ظهور المسيح العلني المجسم والواضح لا يمكن أن تحيط به العين في حالتها الطبيعية، لأن المسيح الأن هو في حالة مجده الإلهي، الذي يفوق قدرة إحساس العين، إذ يتحتم أن يكون الروح متداخلاً وفعالاً في الحواس الروحية, حتى يتمكن الإنسان المؤمن، وليس المؤمن فقط، بل من بلغت روحه درجة نقاوة القلب والصفاء، بممارسة المحبة والهذيذ في كلمة الحياة، لكي يدرك المسيح في ظهوره الإلهي الفائق لمظاهر المادة والعالم.
ويلزم أن ننتبه جداً لتصريح الرب في هذا الأمر الفائق، إذ يقول إنه هو الذي سيُظهر ذاته, بمعنى أنه سيمارس عملاً فائقا أو إعجازياً. وهذا يجعل ظهوره عملاً خاصاً به، يعطيه كيفما يشاء، ومتى شاء، ولكنه جعله في متناول كل إنسان: «الذي عنده وصاياي، ويحفظها، فهو الذي يحبني»، أي يؤدي شروط المحبة.
أما ظهور الرب، فيقين كالفجر، رآه بولس وهو ناظر إليه من السماء, في ضوء منتصف النهار، بوجه يلمع أكثر من الشمس، لأن الشمس وكل الأنوار هي ظلال وأقنعة للنور الحقيقي؛ فالأقنعة تختفي، والظلال تنمحي، حينما تنفتح عين الروح ليتجلى أمامها النور الحقيقي، و يظهر عالم الروح على حقيقته، والرب سراجه.
لولا النور (المسيح) ما كان الظل ( الخليقة)، ولكن الظل لا وجوة له من ذاته، بل الوجود هو للنور وحده: «بنورك نرى نوراً» (مز9:36), إذ لا يعود البصر بالعين بل تنفتح حواس الروح المضيئة لرؤية النور الحقيقي، فلا تعود الرؤيا تصطدم بالظلال (جوامد المادة)، بل تخترقها بلا عائق، وكأنها شفافة, دون أن تفارق موضعها، أو تضيع معالمها وأشكالها. وليست جوامد المخلوقات وحدها هي التي تخترقها أشعة الخلود فتذوب صورها المتباينة، بل وكل ما يصدر عن المادة والإنسان من الانفعالات الثنائية الهوجاء ذات الصعود والهبوط والدفع المتواصل، من نور وظلمة, وفرح واكتئاب, ورجاء وشقاء، وراحة وعناء، وميلاد وموت، هذه كلها تخترقها أشعة الخلود الصادرة من مصدر الخلق، من النور الحقيقي من وجه يسوع فتهدأ وتكف جيعاً، ولا يبقى إلا الوجود الحقيقي الموحد, في مجال الإله المتجلي بنور لا يُدنى منه، في هدوء الأبدية اللامتناهية، وتتجلى أشعة النور تنساب من مصدرها الخالق، لتملأ كل الوجود، تنفذ وتحترق كل ما يصادفها، وبها يستنيرر الذهن الذي يطير على أجنحتها، ليغشى بها الوجود، ويستجلي بها الموجودات، وكأنه ملتحم بالوجود الكلي, لا ينتهي عند حد أو أفق، فتتسع دائرة العقل الروحي، وتتقدس حركاته، ولا يعود يرتاح أو يبتهج إلا في إرادة خالقه, وذلك حينما يخضع لها برفق ودون عناء، ويصغي إلى الصوت الآتي إليه من الأبدية: «شاول شاول لماذا تضطهدني...» (أع4:9)
القديس بولس الرسول خبرنا خبر اليقين عما رأى وسمع وعاين، حينما حُمل بالروح، وطار على أجنحة النور, واخترق كل ظلال الأرض والسموات، حتى السماء الثالثة, التي تصفو فيها الرؤيا, ليتجلى عالم الروح دون أقنعة أو ظلال أو خيالات, حيث لا تعدو الحركات المادية تؤثر على الرؤيا أو تزيف المنظور, وحيث تتحرر الروح، وينفتح الوعي المسيحي، ليرى ما لم تره عين، ويسمع ما لم تسمعه أذن, ويعي ويدرك ما لم يخطر على قلب بشر، هذا أعلنه له الله خاصة وكشف له بالروح كل مكنونات قلبه أو كما قال بولس نفسه:«حتى أعماق الله!»(اكو9:2-10)
ولكن، واحسرتاه! كنا نظن أنه قادر، بل أقدر من يستطيع أن يصف ويُسهب في الوصف عن هذا الذي رأى، ولكنه كف عن النطق! غير انه، بحذق الكاتب الماهر، حول المناظر إلى كلمات، وأخضع الرؤيا إلى تعاليم وعبارات. وظهور الرب له، بالبيان الروحي حوله إلى استعلان إنجيلي، وسلمنا الرؤيا كبشارة: «وأعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به, أنه ليس بحسب إنسان، لأني لم آقبله من عند إنسان، ولا علمته، بل بإعلان يسوع المسيح» (غل11:1-12)
وهكذا، أيها الإخوة, كان الإنجيل الذي بشر به بولس الرسول آحد مناظر الرب وإعلاناته: «إنه لا يوافقني أن أفتخر، فإني آتي إلى مناظر الرب وعلاناته، أعرف إنساناً (هو بولس نفسه) في المسيح قبل أربع عشرة سنة، أفي الجسد، لست أعلم، أم خارج الجسد، لست أعلم، الله يعلم, اختطف هذا إلى السماء الثالثة... اختطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها.» (كو1:12-4)
فقول الرب: «الذي يحبني أحبه، واُظهر له ذاتيى»، هذا حققه لبولس الرسرل إنجيلاً وبشارة، وعلماً ودراية، وحكمة روحية لم يدانيه فيها أحد. فقد وقع مناظر الرب على الكتابة، فكانت مبادىء وتعاليم, جعلت حياة ربنا يسوع المسيح وكأنها صورة إلهية متألقة بالمجد والجلال. وحول صورة ذات الرب إلى إدراك, ومعرفة للاهوت المسيح, صار العقل يلبسها كإكليل مجد، لا يدانيه إكليل, في كل معارف بني الإنسان.
والقديس يوحنا الإنجيلي رأى «ذات» الرب في رؤياه عل هيئة ابن الإنسان، بمد أن عرفه: «وسمعت ورائي صوتاً عظيماً، كصوت بوق قائلاً: أنا هو الألف والياء ، الأول والأخر... فالتفت لأنظر الصوت الذي تكلم معي، ولما التفت، رأيت سبع منائر من ذهب, وفي وسط السبع المنائر شبة ابن إنسان، متسربلاً بثوب إلى الرجلين, ومتمنطقاً عند ثدييه بمنطقة من ذهب، وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج, وعيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس النقي, كأنهما محميتان في أتون، وصوته كصوت مياه كثيرة، ومعه في يده اليمنى سبعة كواكب، وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه, ووجهه كالشمس وهي تُضيء في قوتها.» (رؤ10:1-16)
هنا لا نريد أن ندخل في شرح سفر الرؤيا. ولكننا بصدد «ظهور» علني للرب يسوع، حسب وعده الذي وعد أمام تلاميذه. ها هو يعلن ذاته, مستحسناً أن يظهر كابن الإنسان، وسط الكنائس على مدى عصورها السبعة حتى ختام الدهور، وهو قائم بينها بلباس الخدمة الأبيض المسترسل إلى القدمين، وطوق الذهب حول الصدر كرئيس كهنة الخيرات العتيدة، وشعره أبيض كالثلج بصورة «قديم الأيام»، وهو الله، عند دانيال النبي، وعيناه كلهيب نار تمحص ضمائر القائمين على الخدمة, ورجلاه كنحاس محمى في أتون، تصلح أن يدوس بها معصرة الآلام وحده على هامة أعدائه، وصوته كهدير مياه كثيرة، لأنه صوت الروح المتدفق بالحياة, تتكدس فيها كل كلماته التي خرجت من شفتيه، لأن حرفاً واحداً منها لا يسقط. وفي يده اليمنى سبعة كواكب, الحاملة لمصائر المختارين من كل الناس والشعوب, وعليها أسماؤهم, ومن فمه يخرج سيف ماض ذو حدين, وهو سيف القضاء بكلمته، وحد الدينونة, بحسب إنجيله, العتيدة أن تأتي على كل المسكونة, ووجهه المشرق كالشمس وهي تنير في ملء قوتها. فهو هو نور العالم، ومعه لا يوجد شمش ولا قمر.
هكذا يُظهر المسيح ذاته, كما يتراءى له, وحسب حاجة الناظرين. فهو يظهر كمعلم غريب ومسافر لتلميذي عمواس، والرب العالي الممجد في أعلى السموات لشاول, ورئيس الكهنة على كنائس الدهور ليوحنا الرائي، وابن الإنسان الجالس عن يمين العظمة في السماوات لإستفانوس الشهيد, ومسيح الصليب في روما لبطرس الهارب من حكم الموت!.
آية اختبارية يطرحها المسيح أمام عشاق الحب الإلهي، ليستكمل فيهم ظهوره الإلهي. حينما قال المسيح في موضع آخر: «ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر» (مت20:28)، لم يقلها عفوياً، وكأنه يسند قلبهم بالكلمة، ولكنه كان فعلاً وحقاً على وعد مع المحبين والعاشقين وحافظي عهده ووصاياه، وليس بمجرد التواجد غير المعلن، ولكن بالظهور الحقيقي المستعلن للروح المنفتحة الحواس والقادرة على اجتلاء الرؤية.
وهل للرب وصايا فوق بساطة المحبة، التي لا تعرف أن تفرق بين صديق وعدو، أو تميز بين جميل وذميم, أو تفضل مادحاً على قادح. أو هل له وصية أقوى من اتضاع الإخلاء الصادق من كل أدعاء الكرامة، وطلب المجد الدنيوي، والتسابق على الظهور, وشهوة المديح والسيادة. لقد أوصى الرب وأكد على أهمية الصلاة بدون ملل, حتى تستعلن قوتها، ولمح على حتمية الطلبة ليل نهار, حتى ينسكب الروح القدس الحامل لكل أسرار الحياة. لقد شرح الرب، وأوضح الشرح بالتمثيل, كيف تقوم قوة الكرازة على أيدي الكارزين حينما يغسلون أرجل بعضهم البعض، ليؤمن العالم أنهم تلاميذ الرب حقاً، ثم جعلها وصية عملية لكل الخادمين، لا حفلة تمثيل على مسرح الكنيسة.
لقد أوصى الرب الذين ثبتوا وجههم نحو أورشليم العليا، أن لا يلتفتوا إلى الوراء ليودعوا الأهل والأقرباء، محذرا إياهم أن أعداء الإنسان يكونون هم أهل بيته، إن هو طلب وجه الرب. وأنه بقدر ما يترك الإنسان من مباهج الدنيا وعواطف اللحم والدم، بقدر ما يأخذ مائة ضعف، كيلاً مهزوراً ئلبداً، من مباهج الحياة الأبدية.
لقد أوصى الرب كثيراً بالأذن التي تسمع، والعين التي تبصر، والقلب الجيد الذي تنبت فيه الكلمة لتعطى ثمارها، وطوب حبة الحنطة التي فضلت أن تموت، من أن تبقى وحدها، ووعدها بثمر كثير. ووصايا الرب تمسك بعضها بعض، والواحدة تجر الأخرى، لأن قوة خفية تنبع منها، لا تسكت ولا تهدأ، حى تأتي على الكل.
«يحبه أبي»: «الذي عنده وصاياي» هي الأساس الذي عليه تقوم كل علاقة كلية وجزئية مع الله منذ القديم. فاحترام كلمة الله، هو التكريم الحقيقي والمباشر لشخص الله: «أكرم الذين يكرموني، والذين يحقتروني يصغرون» (1صم30:2).
وأين ومتى وكيف نكرم الله؟ إلا في كلمته واسمه. فكلمات الله واسعه تحمل شخصه، وينوبون عن وجوده، ويعملون عمله، والمسيح, تبارك اسمه, هو كلمة الله مُشخصة ومنظورة، وهو الحامل لاسمه، فالتعامل الموقر مع المسيح هو تعامل مباشر مع الآب، وكيف نتعامل مع المسيح إلا في وصاياه؛ فالذي عنده وصايا يسوع، عنده الرب نفسه. والذي جلس تحت كلماته يتأدب بها ويتهذب، هو الذي اختار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منه (لو42:10). «ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جيعاً (2يو9:1)، «والذي يحب كثيراً يُغفر له الكثير» (لو47:7)، أي يصير من المقربين إلى الآب.
وفي القديم، تعلمنا أن الله, الحكمة, يمكن أن يتبادل معنا الحب مباشرة: «أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكرون إلي يجدونني» (أم17:8)، وما التبكير إلى الله, أو إلى حكمته, إلا الصلاة والهذيذ بكلمته الحية في بكور الهار وبكور الحياة معاً.
والآن، وقد تجسد الكلمة، وسمعنا من فمه وصية جديدة, صار حب الوصية هو حب الابن والآب معاً. ورد الفعل عند الله لا يزال قائما، فالذي يحب الابن يحبه الآب؛ وحينما يحبنا الآب، فهذا معناه أنه تمث المصالحة وأثمر الصليب والغفران، ودخلنا فعلاً في ميراث البنين.
«وأنأ أحبه»: محبة الرب لنا قائمة على الصليب، أما بعد الصليب فهي مخضبة بالدماء، حيث لا يمكن أن يكون حب أعظم من هذا. ولكن «الذي» عنده وصايا يسوع، وقد حفظها في قلب واع «وعمل بها وعلم» (مت19:5)، فهذا يكون قد دخل في عهد نشيد الأنشاد، وتأهل أن يطلع على سر الحب الإلهي، ويكون قد انتقل من ميراث البنين إلى ميراث العروس، هذا يقول عنه القديس بولس الرسول إن: «من التصق بالرب، فهوروح واحد.» (اكو17:6).
«واُظهر له ذاتي»: الكلمة اليونانية ( ) تفيد معنى «يعرض بوضوح وبشكل بارز»، وهي نفس الكلمة التي جاءت في ظهور المسيح أمام الله: «لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد، أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا» (عب24:9)، لذلك، فهي تفيد أكثر بكثير من معنى الاستعلان المظور لشيء كان خفياً وأُظهر والتي تأتي هكذا: ( )، ولا هي ظهور شيء كان غير معروف سابقاً: ( ). ومعروف أن ظهور المسيح العلني المجسم والواضح لا يمكن أن تحيط به العين في حالتها الطبيعية، لأن المسيح الأن هو في حالة مجده الإلهي، الذي يفوق قدرة إحساس العين، إذ يتحتم أن يكون الروح متداخلاً وفعالاً في الحواس الروحية, حتى يتمكن الإنسان المؤمن، وليس المؤمن فقط، بل من بلغت روحه درجة نقاوة القلب والصفاء، بممارسة المحبة والهذيذ في كلمة الحياة، لكي يدرك المسيح في ظهوره الإلهي الفائق لمظاهر المادة والعالم.
ويلزم أن ننتبه جداً لتصريح الرب في هذا الأمر الفائق، إذ يقول إنه هو الذي سيُظهر ذاته, بمعنى أنه سيمارس عملاً فائقا أو إعجازياً. وهذا يجعل ظهوره عملاً خاصاً به، يعطيه كيفما يشاء، ومتى شاء، ولكنه جعله في متناول كل إنسان: «الذي عنده وصاياي، ويحفظها، فهو الذي يحبني»، أي يؤدي شروط المحبة.
أما ظهور الرب، فيقين كالفجر، رآه بولس وهو ناظر إليه من السماء, في ضوء منتصف النهار، بوجه يلمع أكثر من الشمس، لأن الشمس وكل الأنوار هي ظلال وأقنعة للنور الحقيقي؛ فالأقنعة تختفي، والظلال تنمحي، حينما تنفتح عين الروح ليتجلى أمامها النور الحقيقي، و يظهر عالم الروح على حقيقته، والرب سراجه.
لولا النور (المسيح) ما كان الظل ( الخليقة)، ولكن الظل لا وجوة له من ذاته، بل الوجود هو للنور وحده: «بنورك نرى نوراً» (مز9:36), إذ لا يعود البصر بالعين بل تنفتح حواس الروح المضيئة لرؤية النور الحقيقي، فلا تعود الرؤيا تصطدم بالظلال (جوامد المادة)، بل تخترقها بلا عائق، وكأنها شفافة, دون أن تفارق موضعها، أو تضيع معالمها وأشكالها. وليست جوامد المخلوقات وحدها هي التي تخترقها أشعة الخلود فتذوب صورها المتباينة، بل وكل ما يصدر عن المادة والإنسان من الانفعالات الثنائية الهوجاء ذات الصعود والهبوط والدفع المتواصل، من نور وظلمة, وفرح واكتئاب, ورجاء وشقاء، وراحة وعناء، وميلاد وموت، هذه كلها تخترقها أشعة الخلود الصادرة من مصدر الخلق، من النور الحقيقي من وجه يسوع فتهدأ وتكف جيعاً، ولا يبقى إلا الوجود الحقيقي الموحد, في مجال الإله المتجلي بنور لا يُدنى منه، في هدوء الأبدية اللامتناهية، وتتجلى أشعة النور تنساب من مصدرها الخالق، لتملأ كل الوجود، تنفذ وتحترق كل ما يصادفها، وبها يستنيرر الذهن الذي يطير على أجنحتها، ليغشى بها الوجود، ويستجلي بها الموجودات، وكأنه ملتحم بالوجود الكلي, لا ينتهي عند حد أو أفق، فتتسع دائرة العقل الروحي، وتتقدس حركاته، ولا يعود يرتاح أو يبتهج إلا في إرادة خالقه, وذلك حينما يخضع لها برفق ودون عناء، ويصغي إلى الصوت الآتي إليه من الأبدية: «شاول شاول لماذا تضطهدني...» (أع4:9)
القديس بولس الرسول خبرنا خبر اليقين عما رأى وسمع وعاين، حينما حُمل بالروح، وطار على أجنحة النور, واخترق كل ظلال الأرض والسموات، حتى السماء الثالثة, التي تصفو فيها الرؤيا, ليتجلى عالم الروح دون أقنعة أو ظلال أو خيالات, حيث لا تعدو الحركات المادية تؤثر على الرؤيا أو تزيف المنظور, وحيث تتحرر الروح، وينفتح الوعي المسيحي، ليرى ما لم تره عين، ويسمع ما لم تسمعه أذن, ويعي ويدرك ما لم يخطر على قلب بشر، هذا أعلنه له الله خاصة وكشف له بالروح كل مكنونات قلبه أو كما قال بولس نفسه:«حتى أعماق الله!»(اكو9:2-10)
ولكن، واحسرتاه! كنا نظن أنه قادر، بل أقدر من يستطيع أن يصف ويُسهب في الوصف عن هذا الذي رأى، ولكنه كف عن النطق! غير انه، بحذق الكاتب الماهر، حول المناظر إلى كلمات، وأخضع الرؤيا إلى تعاليم وعبارات. وظهور الرب له، بالبيان الروحي حوله إلى استعلان إنجيلي، وسلمنا الرؤيا كبشارة: «وأعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به, أنه ليس بحسب إنسان، لأني لم آقبله من عند إنسان، ولا علمته، بل بإعلان يسوع المسيح» (غل11:1-12)
وهكذا، أيها الإخوة, كان الإنجيل الذي بشر به بولس الرسول آحد مناظر الرب وإعلاناته: «إنه لا يوافقني أن أفتخر، فإني آتي إلى مناظر الرب وعلاناته، أعرف إنساناً (هو بولس نفسه) في المسيح قبل أربع عشرة سنة، أفي الجسد، لست أعلم، أم خارج الجسد، لست أعلم، الله يعلم, اختطف هذا إلى السماء الثالثة... اختطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها.» (كو1:12-4)
فقول الرب: «الذي يحبني أحبه، واُظهر له ذاتيى»، هذا حققه لبولس الرسرل إنجيلاً وبشارة، وعلماً ودراية، وحكمة روحية لم يدانيه فيها أحد. فقد وقع مناظر الرب على الكتابة، فكانت مبادىء وتعاليم, جعلت حياة ربنا يسوع المسيح وكأنها صورة إلهية متألقة بالمجد والجلال. وحول صورة ذات الرب إلى إدراك, ومعرفة للاهوت المسيح, صار العقل يلبسها كإكليل مجد، لا يدانيه إكليل, في كل معارف بني الإنسان.
والقديس يوحنا الإنجيلي رأى «ذات» الرب في رؤياه عل هيئة ابن الإنسان، بمد أن عرفه: «وسمعت ورائي صوتاً عظيماً، كصوت بوق قائلاً: أنا هو الألف والياء ، الأول والأخر... فالتفت لأنظر الصوت الذي تكلم معي، ولما التفت، رأيت سبع منائر من ذهب, وفي وسط السبع المنائر شبة ابن إنسان، متسربلاً بثوب إلى الرجلين, ومتمنطقاً عند ثدييه بمنطقة من ذهب، وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج, وعيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس النقي, كأنهما محميتان في أتون، وصوته كصوت مياه كثيرة، ومعه في يده اليمنى سبعة كواكب، وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه, ووجهه كالشمس وهي تُضيء في قوتها.» (رؤ10:1-16)
هنا لا نريد أن ندخل في شرح سفر الرؤيا. ولكننا بصدد «ظهور» علني للرب يسوع، حسب وعده الذي وعد أمام تلاميذه. ها هو يعلن ذاته, مستحسناً أن يظهر كابن الإنسان، وسط الكنائس على مدى عصورها السبعة حتى ختام الدهور، وهو قائم بينها بلباس الخدمة الأبيض المسترسل إلى القدمين، وطوق الذهب حول الصدر كرئيس كهنة الخيرات العتيدة، وشعره أبيض كالثلج بصورة «قديم الأيام»، وهو الله، عند دانيال النبي، وعيناه كلهيب نار تمحص ضمائر القائمين على الخدمة, ورجلاه كنحاس محمى في أتون، تصلح أن يدوس بها معصرة الآلام وحده على هامة أعدائه، وصوته كهدير مياه كثيرة، لأنه صوت الروح المتدفق بالحياة, تتكدس فيها كل كلماته التي خرجت من شفتيه، لأن حرفاً واحداً منها لا يسقط. وفي يده اليمنى سبعة كواكب, الحاملة لمصائر المختارين من كل الناس والشعوب, وعليها أسماؤهم, ومن فمه يخرج سيف ماض ذو حدين, وهو سيف القضاء بكلمته، وحد الدينونة, بحسب إنجيله, العتيدة أن تأتي على كل المسكونة, ووجهه المشرق كالشمس وهي تنير في ملء قوتها. فهو هو نور العالم، ومعه لا يوجد شمش ولا قمر.
هكذا يُظهر المسيح ذاته, كما يتراءى له, وحسب حاجة الناظرين. فهو يظهر كمعلم غريب ومسافر لتلميذي عمواس، والرب العالي الممجد في أعلى السموات لشاول, ورئيس الكهنة على كنائس الدهور ليوحنا الرائي، وابن الإنسان الجالس عن يمين العظمة في السماوات لإستفانوس الشهيد, ومسيح الصليب في روما لبطرس الهارب من حكم الموت!.
«يهوذا» اسم مزعج. لقد تيقظ له القديس يوحنا بسرعة وأضاف ما ينفي عنه عار سميه؛ ربما كان هذا في بدء المناداة بإنجيل يوحنا على مستوى الوعظ من على منبر كنيسة أفسس. فحينما نطق بهذا الاسم رأى الوجوه قد اكفهرت، فاستطرد في الحال، وأصلح الحال: «ليس الإسخريوطي»!
كان آخر منظر ليسوع خط خطوطه العميقة والمفرحة في قلب التلاميذ ويكرهم هو يوم أحد الخوص, يوم دخول أورشليم الأخير، حين أعلن يسوع نفسه ملكاً بفم تلاميذه والأطفال، والمفهوم سرا لديهم أنه, ولا شك, هو المسيا الآتي، والباقي إلى الأبد. ألم ينادي علانية باقتراب ملكوت الله؟ إذاً، فلماذا هذا التغيير المفاجىء في الخطة؟ لماذا يحبس ظهوره على خاصته دون العالم؟ ولكن الفارق بين ما قاله الرب، وها فهم يهوذا ليس الإسخريوطي هو: على أي مستوى يملك يسوع المسيا؟ وعلى أي مستوى يظهر ويعلن ذاته؟ فالرب يتكلم عن السموات، ويهوذا يفكر في الأرض. الرب يعلن عن ألوهيته، ويهوذا ينظر إلى الجسد.
«إليه نأتي»: مفتاح هذه الآية وما قبلها يأتي في كلمة «نأتي» بالجمع, الآب وأنا, حيث كأنما يرد المسيح على يهوذا, ليس الإسخريوطي, قائلأ: إن أردت أن تعرف ماذا حدث، وماذا سيحدث، وأين أظهر، وكيف ولمن أظهر، فاعلم أني سأكون مع الآب؛ وهذه إشارة مباشرة إلى لاهوته ووحدانيته مع الآب، والكلام هنا يأتي موازياً لما قاله لفيلبس: «االذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14)، وحيثما سيكون الآب سأكون أنا!! فإن أردث أن تراني، وأن أردتني أُظهر لك ذاتي، فاعمل ها يحبه الآب, والآب يحب من أحبني، وليس أحد يستطيع أن يحبني إن لم يحفظ كلامي!... حيث «كلام» المسيح يعني هنا الإنجيل, بل الكتات المقدس ككلمة موحدة الهدف، وليست الوصايا المقسمة والمتعددة الأهداف، وحيث الحفظ هو حفظ القلب، لا العقل وحده، وحفظ القلب لا يكون ولا يدوم، إلا بالممارسة عن حب وشغف!
«وعنده نصنع منزلاً»: «عمنده» باليونانية ( ) وهي تفيد إقامة المعية، وليس إقامة الحلول. ونحن نذكر أن علاقة الروح القدس بالتلاميذ والمؤمنين كانت: «ماكث معكم», «يكون فيكم» (يو17:14). أي التواجد أولاً على مستوى تواجد المسيح, قبل الصليب, معهم كمعلم وقائد وملهم ومخلص، ثم تواجد المسيح فيهم بعد القيامة والصعود والجلوس عن يمين الله «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:3)، وهذا لا يتم إلا بالروح القدس.
فهنا، في هذه الآية، يعود المسيح ويخبرهم، أنه في جو المحبة، ومن خلال التمسك بالوصايا، وباللهج في «الكلمة» التي أعطاها ككل، ليس فقط يأتي الروح القدس والمسيح ويكونان معهم للقيادة والتعليم والشهادة والدفاع عن الإيمان؛ بل ويأتي الآب أيضاً مع المسيح ليصنع منزلاً في قلوبهم, كأب يسكب عليهم من روح أبوته, فيستمتعون بالبنوة لله، وينادونه بالروح الصارخ فيهم بالحب: «أيا أبا الآب»: «لننال التبني، ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخأ: يا أبا الآب.» (غل5:4-6).
المنازل السماوية المعدة لنا فوق, والمنازل التي يصنعها المسيح والآب معنا الآن: وهكذا يستعلن لنا المسيح «المنازل السماوية» فوق، التي أعدها المسيح ليأخذنا إليها، لنكون معه ومع الآب: ربما كل حين ومنذ الآن، ويقيناً عندما نخلع الإنسان الترابي ونستوطن عند الرب في النهاية. والقديس بولس عاين المنازل السماوية العليا، واطلع على أمجادها، ولم يكن واثقأ هل كان ذلك بالجسد أم خارج الجسد، ولكنه كان واثقاً أنه رأى وعاين، وشاهد وشهد، لعظمة تلك المنازل العليا. وأيضاً هو القديس بولس نفسه، الذي يؤكد لنا مراراً أن الرب كان ينزل عنده من حين إلى حين، ليتكلم معه في وسط الضيقات مرشداً ومشجعاً: «فقال الرب لبولس برؤيا في الليل: لا تخف، بل تكلم، ولا تسكت. لأني أنا معك, ولا يقع بك أحد ليؤذيك, لأن لي شعباً كثيراً في هذه المدينة.» (أع9:18-10)
والرب نفسه وصف تواجده مع بولس، كمن يوجد في إناء مختار يستريح فيه: «فقال له (لحنانيا) الرب: اذهب، لأن هذا إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل.» (اع15:9).
وهكذا، أُعطينا هذه السكنى بالروح مع الآب والابن، فوق، في المنازل العليا. وتنازل الآب والابن ليسكنا عندنا هنا، تحت، في منازل كخيمة مؤقتة يعدانها في قلوبنا، ليحملا معنا حر النهار، ويشتركا معنا في ضيق الحياة. وهذا تنازل ما بعده تنازل من جهتهما، وتكريم ما بعده تكريم من نحونا، إذ بذلك نفهم أننا لسنا يتامى، بل صرنا فعلاً «أهل بيت الله»» (أف19:2)؛ وأذ قد صدق الوعد الذي ومد: «وها أنا معكم كل الأيام، إلو انقضاء الدهر.» (مت20:28)
ثم علينا أن ندرك ونتحقق، أن هذه السكنى لها ما يشهد عليها في أعماقنا، فهي حقيقة ناطقة ومحسوسة، هذا يؤكده القديس يوحنا: «ومن يحفظ وصاياه، يثبت فيه (في المسيح)، وهو(المسيح) فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا, من الروح الذي أعطانا» ( ايو13:4). وأيضاً: «بهذا نعرف أنا نثبت فيه وهو فينا, أنه قد أعطانا من روحه.» (ايو13:4)
«فإنكم أنتم هيكل اله الحى, كما قال الله، إني سأسكن فيهم, وأسير بينهم, وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً.» (2كو16:6)
وهذه الآية مجموعة من عدة نبوات كالآتي:
خر45:29 [وَأَسْكُنُ فِي وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً.]
لا 11:26-12 [وَأَجْعَلُ مَسْكَنِي فِي وَسَطِكُمْ وَلاَ تَرْذُلُكُمْ نَفْسِي, وَأَسِيرُ بَيْنَكُمْ وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْباً.]
أر 33:31 [بَلْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً.]
أر 38:32 [وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً.]
حز 20:11 [لِيَسْلُكُوا فِي فَرَائِضِي وَيَحْفَظُوا أَحْكَامِي وَيَعْمَلُوا بِهَا, وَيَكُونُوا لِي شَعْباً فَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً.]
حز 28:36 [وَتَسْكُنُونَ الأَرْضَ الَّتِي أَعْطَيْتُ آبَاءَكُمْ إِيَّاهَا, وَتَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً.]
حز 26:37-27 [وَأَقْطَعُ مَعَهُمْ عَهْدَ سَلاَمٍ, فَيَكُونُ مَعَهُمْ عَهْداً مُؤَبَّداً, وَأُقِرُّهُمْ وَأُكَثِّرُهُمْ وَأَجْعَلُ مَقْدِسِي فِي وَسَطِهِمْ إِلَى الأَبَدِ. وَيَكُونُ مَسْكَنِي فَوْقَهُمْ, وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً.]
وينبغي أن نلاحظ أن ما صنعه الله قديما من تواجده في وسط الشعب في خيمة الاجتماع وحلوله في الهيكل المصنوع بالآيادي، الذي كان صورة أو شبه السماويات وظلها، هذا حققه الله بالفعل بذاته بسكناه في الكنيسة كجسده السري: [أيها الإكليروس وكل الشعب، بطلبة وشكر، بهدوء وسكوت، ارفعوا أعينكم إلى ناحية المشرق، لتنظروا المذبح وجسد ودم عمانؤئيل إلهنا موضوعين عليه. الملائكة ورؤساء الملائكة قيام، السارافيم ذوو الستة الأجنحة, والشاروبيم الممتلئون أعيناً، يسترون وجوههم من بهاء عظمة مجده, غير المنظور ولا المنطوق به، يسبحون بصوت واحد, صارخين قائلين: قدوس، قدوس، قدوس، رب الصاباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس.]
وبحلوله في قلب المؤمن، كهيكله الخاص تماماً، يكون كمن أعاد كتابة نواميسه وكلمته من على الألواح الحجرية إلى ألواح القلب اللحمية والى أذهانهم الروحية: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء ... أما أنا فأقول...» (راجع مت 5)
واليك، أيها القارىء العزيز، أسوق كلمة توضيح، أن هذه الوعود تمت بكل صدق ودقة، وقد عاشها القديسون واختبروها، وشهدوا لها في الكنيسة الحية الخالدة. فعليك يقع اللوم، إذا لم تكن قد اختبرت شهادة الروح القدس في قلبك, واستقعت بالوعي الروحي المسيحي الذي فيك إلى صوت الروح، وهو يهتف في أعماقك: يا أبا الآب، وتلذذت بتعطفات أبوة الآب الحانية، وعاشرت المسيح الوديع المتواضع بالحت المتبادل، وامسكت بيده، ومسك بيدك ليعبر بك مضايق العالم وأهواله، وذقت تعزيات الروح القدس، وانسكبت من عينيك دموع الفرح، وطفر قلبك فيك من قوة الروح المشتعلة بنار المسيح. فهذه حقائق أشد يقيناً من كل ما وعيناه في هذا العالم، والحب يعرف هذا.
المسيح، هنا، ينفي إمكانية مجيئه وسكناه في القلوب، عن الذين أحبوا الظلمة, فأبغضوا النور لزاماً، والذين أحبوا العالم الحافر فانجرفوا في تياره وعدموا حي الله تماماً، والذين حفظوا علوم الدنيا وغرقوا في فلسفات هذا العالم وأغانيه ولهوه ومسراته, فجهلوا وتنكروا لله وكلماته.
والمسيح، هنا، يشهد على نفسه، أن كل ما قاله وسمعوه منه هو من الآب وله؛ لذلك فالذين لم يقبلوه ولم يحفظوه, هؤلاء صيروا أنفسهم غرباء عن الآب وأعداء: «محبة العالم عداوة لله» (يع4:4). والمسيح، هنا، يرد من بعيد على كلام يهوذا, ليس الإسخريوطي, لماذا سيظهر لهم وليس للعالم. هنا المسيح يبرز السبب بدقة ووضوح، وهو انعدام المحبة وتجاهل الوصية. فمحبة العالم تفصل الإنسان عن الله, ومحبة الله تفصل الإنسان عن العالم. والذي يمارس أعمال الظلمة، يبغض النور وأعمال النور رغماً عنه، بل ويحقد على أبناء النور.
«وَالْكلاَمُ (الأصح «الكلمة» اللوغس بالمفرد) الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي»: كرر المسيح, في أوضاع كثيرة, أن الآب هو المصدر الذي يتكلم منه المسيح, ويستمد فكره، بقصد استعلان الآب في ذاته، واستعلان وحدته الذاتية مع الآب، ورفع الكلام الذي يتكلم به إلى مستوى الرسالة الإلهية, اللوغس الخارج من عند الآب, الكلمة, التي إذا قبلها الإنسان بالأذن الروحية، واحتفظ بها في قلبه, ومارس محتواها الروحي، فإنه يدرك سر الآب والابن، سر الحب الإلهي، ويحياه ويلتحم به.
المسيح هنا يُجمّل جميع ما قاله في هذا المساء. وقد شر المسيح، مرارا، أن التلاميذ لم يكونوا على مستوى الفهم الصحيح لهذا الكلام, الأمر الذي لم يمنع المسيح من الاستمرار في الحديث, مستنداً على أن الروح القدس حينما يحل عليهم, سيذكرهم بكل ما قاله ويشرحه لهم. وهذا ما تم بالفعل، إذ نحن هنا فى إنجيل يوحنا بصدد تسجيلات هي من إلهام الروح القدس بلا نزاع، والتي بلغت من العمق والدقة في المعاني، والترتيب في سردها، درجة أرهقت أذهان جميع العلماءء بسبب الحكمة المذهلة التي كُتبت بها هذه الأحاديث. ويكفي أن يطلع القارىء على الأصحاح السابع عشر، ثم يسأل كيف سجل القديس يوحنا صلاة المسيح هذه بكل العمق والدقة اللذين فيها, والوقت كان مساء (وغالبأ كان المكان جبل الزيتون)، والظلام يلف المكان كله، والعقول متحيرة مما يحدث أمامهم، والمخاطر التي كانوا يتوقعونها كل لحظة؟ نعم, كيف كتب القديس يوحنا، أو كيف وعى كلمات هذه الصلاة التي جاءت كلماتها، بل وحروفها, موزونة بكل دقة بميزان اللاهوت بما يفوق كل حكمة الإنسان وإدراكاته. نعم, كيف تم ذلك؟ وكيف احتفظ بها الفديس يوحنا أكثر من ستين سنة حتى دونها؟ أليس هذا هو الروح القدس الذي كان حاضراً في ذهن القديس يوحنا، حسب وعد المسيح، ليرفع فكره كلمة كلمة إلى فكر المسيح نفسه: «أما نحن فلنا فكر المسيح» (كو16:2). فكما كان المسيح يتكلم بفم الآب، هكذا كان القديس يوحنا يكتب بفكر المسيح، والروح القدس يوحي إليه بالإنجيل كلمة كلمة, كما يقول القديس بطرس: «مسوقين من الروح القدس.» (2بط 21:1)
«البارقليط الروح القدس»: ويلاحظ هنا أن الاسم الكامل لشخص الروح سبق أن وضعه الإنجيل: «الباراكليت» وهو اسم علم مذكر، بعد أن كان «روح الآب» و «روح الابن» و «الروح القدس» كلها تأتي في حالة الحياد الجنسي أي لا مذكر ولا مؤنث. أما البارا كليت فهو، وإن كان يعبر عن صفة، إلا أنه يجيء كاسم شخص مذكر عاقل، تماماً على مستوى ألـ آب وألـ ابن.
«يرسله الآب باسمى»: هنا يتذكر القارىء أن المسيح جاء باسم الآب: «أنا قد أتيت باسم أبي» (يو43:5) = أنا هو؛ وها هو الروح القدس يأتي باسم المسيح, فكما كانت مهمة المسيح هي الإعلاء والتعريف بالآب وتمجيده، هكذا الروح القدس، فمهمته هي الإعلان عن المسيح، والتعريف بالابن وتمجيده: «ذاك يمجدنى, لأنه يأخذ مما لى ويخبركم» (يو14:16), «....روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يو26:15). وكما كان المسيح لا يتكلم من نفسه بل من الآب، هكذا الروح القدس «لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به» (يو13:16). وكما أن المسيح اقتصرت رسالته التعليمية على التلاميذ، كذلك الروح القدسى، فإن رسالته تقتصر على الكنيسة.
المسيح فتح وعي الرسل ليتقبلوا سر الآب؛ والروح القدس أعطى الكنيسة الوعي المسيحي لتتقبل سر التجسد: أن «يسوع رب» (1كو3:12)، وأن «الله ظهر في الجسد.» (1تى16:3)
ويلزم أن ندرك المعنى الإنجيلي لكلمة «الاس» الذي طالما شرحناه, والذي يفيد الشخص الإلهي وطبيعته وقوته وعمله وقوله ومشيئته. لذلك جاء قول المسيح: «يرسله الآب "باسمي"»، أي يرسله حاملاً مهمة الكشف والإعلان والتسليم لشخص المسيح، من حيث أقنومه الإلهي، وطبيعته، وقوته ء وعمله ء وقوله، ومشيئته.
وهذا المعنى يوضحه، على المستوى العملي، قول القديس بولس: «أن تتأيدوا بالقوة بروحه, في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة» (أف16:3-18)
«يرسله الآب»: «يرسله» هنا فعل يأتي في صيغة المستقبل الدائم؛ فالروح القدس هو في حالة إرسال دائم من الآب، للاعلان وللتكميل والشهادة فيما يخص الابن المتجسد، وإرساليته, أي الخلاص؛ كما أن «يرسله الآب» تجيء في زمن المستقبل الدائم بمعنى امتداد إرسالية الابن, فكأن المسيح لا يزال يكمل إرسالية الآب له، من واقع إرسالية الروح القدس للكنيسة كلها!
«يعلمكم كل شيء, ويذكركم بكل ما قلته لكم»: عمل الروح القدس كان يؤدي هاتين الوظيفتين: يعلم ويذكر. أي يعلم بحسب قدرته الفائقة في الاستعلان لكل الأمور التي تخص المسيح في شخصه, والتي تختص بالخلاص، وأسرار الحياة مع الله؛ وأيضاً يذكر التلاميذ بأقوال المسيح وكلماته، كما خرجت من فم المسيح، بمزيد من الاستنارة وقوة البصيرة، وحدة الذكاء والذاكرة. وهذه كلها واضحة في إنجيل يوحنا ورسائله، و بقية الأناجيل والرسائل .
وقوله: «يعلمكم كل شيء»، يوضح قول المسيح لتلاميذه: «إن لى أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو12:16-13)
«وأقطع معهم عهد سلام, فيكون معهم عهداً مؤبداً» (حز26:37)
«ويُدعى امه عجيباً، مشيراً، إلهاً، قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام.»(إش6:9)
«سلام»: أصل الكلمة العبرية هو «شالوم ، وهي في العهد القديم ذات معان واستخدامات كثيرة، وأكثرها يختص بالحياة في الدنيا. ويقابلها باليونانية: «إيريني». وفي الاستخدامات المدنية ينحصر معناها في المعنى المقابل للعداوة؛ أما في الاستخدامات في أسفار العهد الجديد، فتنطلق انطلاقة رأسية بارعة لتشرح العلاقة الصحيحة مع الله, التي هي أصل ومنبع كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وما يتحكم في سلوكه وصفاته وأهدافه وكل حياته، ليس الحاضرة فقط بل والمستقبلة أيضاً!!
ولا تكفي مئات الصفحات لنجمع فيها أصل وتفرعات هذه الكلمة الخصبة جداً، فهي نظير «المحبة». فالله محبة، والمسيح هو إله «السلام» (2كو11:13, فى9:4)، وهو الذي صالحنا مع الله، بعد عداوة، فأسس فينا «السلام» «بدم صليبه» (كو20:1). أخذاً وعطاءَ، فنحن الأن «لنا سلام مع الله» (رو1:5)، «والمسيح هو سلامنا» (أف14:2)، والسلام الذي يعطيه الله يسكن عقولنا، وهو «يفوق العقل» (في7:4)، أي يرفعه فوق ذاته، ويدخله في الهدوء والسكينة الإلهية، وكذلك يسكن قلوبنا «ويملك عليها» (كو15:3)، فيوقف اضطرابها وجزعها ويدخلها في مجال الفرح الإلهي الذي يسود على الضيق والألم ويملك فوقه: «فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق» (رو12:12)، «وسلام الله الذي يفوق كل عقل، يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع.» (في7:4)
وهكذا، فإن مجال سلام الله في الإنسان هو في القلب والعقل كليهما، القلب منبع والعقل مصب.
«سلاماً أترك لكم. سلامي اعطيكم»: السلام الذي يتركه المسيح، والسلام الذي يعطيه، هنا، هو في موضعه اللائق تماماً، لأن الرب يتكلم ويركز على الفراق. وفي الآية (25) قال: «بهذا كلمتكم وأنا عندكم»، فهو الآن على أهبة الذهاب، وكأنه يقرؤهم السلام قبل ذهابه.
ولكن السلام عند المسيح يعني شيئاً مختلفاً عن السلام عند العالم: «ليس كما يعطي العالم أعطيكم». والمسيح هنا يذكر السلام في وضعين: الوضع الأول عهد، إنه يقطع عهداً مؤبداً يتركه لهم, بوضعه العام بدون تعريف: «سلاماً أترك لكم». والوضع الثاني، سلامه الخاص: «سلامي أعطيكم». أما السلام الأول بغير تعريف، فهو ليس التحية التي اعتاد أن يقولها لهم: «شالوم»، ولكنه في مفهومه الوداعي الأخير: «أتركه»، بمعنى «التركة» كميراث، بعد عشرة ستدخل تسجيلها النهائي لبداية عهد جديد. أما سلامه الخاص في وضعه الثاني، فهو «عطية» أو هبة، من نوع عطية الحياة الأبدية، وصفة دائمة لها: «وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد.» (يو28:10).
فالمسيح هنا يهب تلاميذه هبة السلام الإلهي الذي يفوق العقل (في7:4)، ويملك على القلب (كو15:3)، ويهدي الأقدام إلى طريق السلام (لو79:1)، وثمر بره يُزرع في السلام (يع18:3)، ويحل على أبناء السلام (لو6:10)، وأخيراً، سرف يتجلى بحلول الروح القدس ليدوم معهم ولهم إلى الأبد.
ويلاحظ أن المسيح كرر عطيته للفرح مع السلام، وأيضاً فرحه الخاص: «وأتكلم بهذا في العالم، ليكون لهم فرحي كاملآ فيهم» (يو13:17). لأن الفرح والسلام صنوان عزيزان لا يفترقان. والسلام، إذا اقترن مع الفرح، فهو في مفهوم الإنجيل سبق تذوق لطبيعة الحياة الأبدية، مشتهى أمل الإنسان في الوجود: «لأنكم بفرح تخرجون، وبسلام تضضرون. الجبال والأكام تشيد أمامكم ترنماً، وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي، عوضاً عن الشوك ينبت سروّ، وعوضاَ عن القريس يطلع آس، ويكون للرب اسماً علامة أبدية لا تنقطع» (إش12:55-13)، «لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو17:14)، «وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام, طول أناة، لطف، صلاح، إيمان.» (غل22:5)
ويلاحظ أن كل من الفرح والسلام الذي يهبه المسيح، سواء للتلاميذ أو للذين يؤمنون به، هو عطية روحية سماوية فائقة، يعطيها المسيح للذين يحبونه، الأن في هذا الزمان الحاضر ليحول به طبيعة الموت داخلنا (بسبب الخطية) إل حياة (بسبب بره الشخصي). الأمر الذي لخصه في قوله: « بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)
كما يلاحظ بشدة قوله: «ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو22:16)، بمعنى أنه يوازن كل أتعاب وضيقات الزمان الحاضر ويغلبها، على مستوى: ليس كما يعطيكم العالم, أعطيكم أنا سلامي!!
والير في هذا السلام القوي الدائم والفرح الكامل المقيم, هو انهما سلام المسيح الشخصي وفرح المسيح الشخصى. الذي يمارس بهما الإعلان عن حضوره وعمله في القلب: «كلمتكم بهذا، لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم» (يو11:15)، بمعنى أن فرحي يتحول فيكم إلى فرحكم, فيصبح فرحا ثابتاً في المسيح وبه!! وهذه هي النتيجة الحتمية لقوله: «اثبتوا في محبتي» (يو9:15)، «اثبتوا في وأنا فيكم» (يو4:15). وهذا هو ميدان الجهاد المطروح أمام المسيحي.
«ليس كما يعطي العالم اعطيم أنا, لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب»: نعم، فعطية المسيح إلهية، روحية، ثابتة باقية إلى الأبد؛ أما عطية العالم فهي تبدو ناضرة، مخضرة, زاهية، وجميلة إلى زمن، كالزرع اليانع والزهرة الجميلة، ولكن سرعان ما يذبل الزرع ويجف الزهر فيسقط. فسلام العالم مع الناس ومع الجسد إل يوم أو إلى ساعة، وحزنه وغمه وقلقه إلى أيام وسنين. ما يعطى باليمين يأخذه بالشمال, وما يوهب في الشباب يُنزع في الشيخوخة. وأن يدوم في العالم سلام فهذا ضرب من المحال, فأعظم سلام يعطيه العالم للانسان هو سلام الموت؛ أما سلام المسيح ففوق أنه يبقى ويدوم، فهو يسود فوق اضطرابات انحياة، ويرفع القلب والفكر فوق زعازع الدنيا: «ثقوا, أنا قد غلبت العالم.» (يو33:16)
«لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب»: موقف التلاميذ بفراق المسيح سيكون غاية في الحرج, غنمات مستضعفة وسط ذئاب شرهة للقتل وسفك الدماء، ولكن هوذا المسيح يستودعهم وديعة السلام، ضامناً لهم وللكنيسة كلها بهم، ومن بعدهم، هذا السلام كعطية فائقة. وقد أثبتت كل الأزمنة السالفة، بكل محنها البالغة حد الهول، صدق الرب.
و«السلام» في الأصل العبري يأتي من أصل «سالم»، أي غير منقوص أومفقود شيء مهما اعتدي عليه. وبهذا تغنى إشعياء النبي: «يجعل الخلاص أسوارا ومترسة. افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة. ذو الرأي الممكن تحفظه سالماً سالماً, لأنه عليك متوكل» (إش1:26-3)
المسيح لما أعطى سلامه الخاص، حق له أن ينبههم عن الاضطراب، لأن سلامه يعتبر قوة غالبة ومنتصرة فوة كل أسباب الاضطراب. ثم ينبغي أن نفهم أن المسيح هنا يعطي «أمراً»: «لا تضطرب قلوبكم، ولا ترهب», هذا أمر واضح وصريح، فهو وصية، ووصية المسيح تحمل وعداً إلهيأ وكأنها دعاء، ودعاء الله له قوة التنفيذ في داخله. فكل أمر للسميح يحمل في طاعته قوة التنفيذ. وقد شرحنا الاضطراب سابقاً (انظر شرح الأية1:14)، أنه يكون بسبب الخوف من المجهول، كنتيجة لانقطاع الربط التي تربط القلب بقاعدته الثابتة الأمينة، وهو الل. كذلك الرهبة، وهي الجزع، وتكشف عن فقدان الإيمان، أيضأ كنتيجة للارتباط بالجسد والعالم, والرهبة والخوف هما على قمة الخطايا التي تحرم الإنسان من الحياة الأبدية (رؤ8:21).
وقد صارت عطية السلام، كقوة، توهب من فم الرسل والتلاميذ ضمن أهم مؤهلاتهم: «وأي بيت دخلتموه، فقولوا أولاً سلام لهذا البيت. فإن كان هناك ابن السلام، يحل سلامكم عليه, وإلا فيرجع إليكم» (لو5:10-6). وقول الرب إن السلام يرجع إليهم في حالة عدم استحقاق آخذه، يفيد إفادة قاطعة أن السلام قوة روحية فعالة من الله، تخرج مع النطق لتسكن القلب والفكر، وتملأ النفس. فإذا لم تجد لها مكاناً في الأخرين, تعود مرة أخرى إلى ناطقها، لتسكن فيه وتزيده سلاماً، لأن كلمة الله لا تعود فارغة: «هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إلي فارغة، بل تعمل ما سررت به، وتنجح فيما أرسلتها له.» (إش11:55)
والرسل والتلاميذ وكل خدام الله الأمناء الأقوياء بالروح، أُعطي لهم أن يمنحوا سلام الله الذي يتبعهم أينما صاروا وأينما حلوا، كقوة روحية مرافقة .
وقد أخذت الكنيسة هذا الدعاء الوداعي للمسيح «سلامي أعطيكم»، ووضعته في فم الكاهن ليعطيه للشعب, أهل بيت الله, عند بدء كل صلاة: السلام للجميع, وختاماً لكل صلاة : «اذهبوا بسلام، سلام الرب مع جميعكم». وفي كلا الدعائين يكون رد الشعب: «ومع روحك أيضاً». وهذا الدعاء يستمد قوته من عطاء المسيح، فسلام المسيح هو قوة الصلح الذي أقامه المسيح بين الإنسان والله بدم صليبه (كو20:1)، وكأنما يفتتح الكاهن الصلاة باستحقاق دم المسيح، ليملك سلام المسيح على عقول المؤمين، ليشتركوا في العبادة بأذهان صاحية، وبختمها بعطاء السلام، كوديعة في قلوبهم، يعيشرن بها في مواجهة أتعاب الحياة.
كانت هذه الأية موضع اجتهاد ونقاش ومساجلة وحوار؛ بل ومقاومة، وقد اتخذها الهراطقة أساساً لإيمانهم الخاطىء وعقائدهم المنحرفة، إذ اعتبروها تفيد أن الابن أقل من الآب من جهة طبيعته، أي أنه ليس مساوياً للآب من جهة اللاهوت.
إن محور الجدل والمحاولات الكثيرة التي أرهقت اللاهوت المسيحي في هذه الآية هي قول المسيح: «لأن أبي أعظم مني». وفي هذه المعلومة، إذا انحرف الفكر عن البساطة الإعجازية التي فيها، يسقط في هوة تقسيم اللاهوت إلى أعظم وأقل، وبالتال وضع الابن في وضع متدني عن الآب، ورفع الآب إلى درجة المسئول عن الابن.
وسنعرض للقارىء الشرح ونقدمه على جزئين:
الجزء الأول: «لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون».
الجزء الثاني: «لأن أبي أعظم مني».
وسوف نقدم الجزء الثانى على الجزء الأول لأن هذا يستلزمه الشرح، بسبب تقديم المسيح كلمة «لأن» في الجزء الثاني من الأية، وهذا يجعل الجزء الأول «كنتم تفرحون» تابعاً للجزء الثاني من الأية: «لأن أبي أعظم مني».
فترتيب الشرح يكون هكذا:«لأن أبي أعظم مني، لو علمتم ذلك، لكنتم تفرحون لأني أنا ذاهب ثم أتي إليكم». ولكن قوة الآية تكمن في جزئها الثاني الذي قدمناه هنا.
وبادىء الأمر نقول، إن شرح الآية يستلزم دائمأ التمسك بموضعها في الكلام. فلا يصح إطلاقاً أن نخلع الآية من مجرى الحديث ومن موضعها في الكلام، لكي نشرحها بمفردها، ونقسيها على الأصول اللاهوتية، بطرق اجتهادية تأملية.
فإذا أخذنا الآية التي نحن بصددها، ومحورها هو: «لأن أبي أعظم مني»، نجد أن الظروف التي أوحت إلى قولها هي كالأ تي:
أولاً: المسيح يتكلم في هذا الأصحاح وما قبله وما بعده عن الفراق الذي سيتم بينه وبين التلاميذ، بذهابه إلى الآب، وهو يجتهد ليوضح لهم أهميته.
ثانياً: روح التعزية التي حاول المسيح أن يحيط بها تلاميذه، حتى يخفف عنهم الحزن والضيق الذي ألم بهم.
ثالثا: محاولة التهوين من شأن الموت الذي سيجوزه، باعتباره فترة قصيرة, يقوم بعدها ويتراءى لهم ويكون معهم وهم معه.
رابعاً: إن الموت الذي سيجوزه هو الوسيلة الهامة جداً التي بها سينطلق إلى الآب, مفتتحاً طريق الخلود، حاملأاً معه المختارين.
خامساَ: ان في ذهابه إلى الآب هو مرتبط ارتباطاً أساسياً بإرسال الروح القدس، الذي سيقوم بتعزيتهم وتعليمهم وتذكيرهم بكل ما قاله لهم وعمله لهم، وأنه سيكون معهم وفيهم عوضاً عنه، بل ويكشف لحم حضوره الدائم.
سادساً: تأكيده لهم أن ذهابه إلى الآب، ولو أنه سيفقدهم رؤيته، إلا أنه «خير لهم أن ينطلق» (راجع يو7:16) من ان يبقى معهم. فهنا, ذهاب المسيح إلى الآب هو حالة قيمها المسيح, أها أعظم وأكثر خيراً بالنسبة لهم هم.
واضح, إذن، أن قول المسيح: «لأن أبي أعظم مني» هو مقولة خاصة بالظروف المحيطة بها وهي ذهاب المسيح إلى الآب، الذي هو حالة أفضل للتلاميذ وأكثر خيراً بالنسبة لهم. وهذا يجب أن يجعلهم يفرحون. لأن النتائج المتحصلة من ذهابه إلى الآب قد أجملها لهم بقوله أنه إذا انطلق، سيطلب من الآب أن يرسل لهم باسمه معزياً أخر، هو الروح القدس. والروح القدس سيتولى شرح وتذكير التلاميذ بكل ما قاله المسيح، بالإضافة إلى أنه سيستعلن لحم كلق الحق, ويعرفهم بكل شيء, ويكشف لهم حقيقة المسيح وكل ما يختص به، لأنه سيكون واسطة حلول المسيح فيهم، بالإضافة إلى أنه سيمجد المسيح فيهم وبهم، أي يجعلهم شهودا وآلات لتمجيد المسيح.
هذا كله سيكون ثمرة ذهابه إلى الآب، فكيف لا يفرحون, إن كانوا قد أحبوا المسيح حقاً؟
الجزء الثاني: «لأن أبي أعظم مني».
حينما يقول الابن إن أبي أعظم مني، فهو يتعرض لقانون الأبوة والبنوة, في وضعه الإلهي الأمثل, الذي منه خرجت كل أبوة وبنوة في العالم, فالآب أعظم من الابن ليس لأنه أعظم جنساً, فاللاهوت في هذا واحد لا ينقسم ولا يتعالى أو يتعاظم في نفسه على نفسه, فالجوهر، أي الطبيعة، في الله واحد وبسيط غير متجزىء.
ولكن لما يقال أن جنس بني آدم هو بنوة وابوة، أو بالاختصار أن جنس الإنسان كجنس هو وحدة أو «واحد» يقوم على الذات الإنسانية التي فيها الابوة البنوة، فالإنسان ذكراً كان أو أنثى هو إنسان، أي جنس واحد، وأصلاً خلق الله الجنس الإنساني ليكون واحداً وأتت المرأة كجزء منه وضلعاً من ضلوعه، لذلك يقال أن الرجل والمرأة حينما يتزاوجان يصيران مرة أخرى جسداً واحداً.
فلو ارتفعنا إلى جنس الألوهة، وهو واحد حتماً، فهو حتما يقوم على الذات الواحدة التي تمثله أو تكونه، وهذا الجنس يقوم بالتال على الأبوة الواحدة الوحيدة والبنوة الواحدة الوحيدة فى الذات الكاملة الواحدة. وكون الآب أعظم من الابن في ذات الله الواحدة لا يفرق ولا يثني في الذاات, ولكن هذا هو قانون الا الأبوة والبنوة في الله, الذي انبثقت منه كل ابوة وبنوة في العالم بقانونها الأدبي, أن الآب يكون دائماً أعظم من الابن أدبيا, وليس طبيعة, ولا جنساً، ولا موهبة, ولا قوة, لأن الأعظم في الأبوة الإنسانية لا يفيد أي صفة كانت سوى صفة الابوة, أو اسم الآب في الذاتية البشرية وحسب.
فكون الآب أعظم من الابن, فهذا هو قانون قيام الذات الذي يضمن وحدتها وكمالها, فالله الآب يعطي الله الابن ليس لأنه أغنى ولا أقوى, ولكن منطق الذات المتكاملة يحتم بالحب عطاءً وأخذاً لتصير الذات مكتفية بذاتها وفي ذاتها. والحب يمثل العطاء الأعظم والأقوى في الذات الإلهية: «فالآب يحب الابن» لأن هذا هو قانون الأبوة الحتمي, والابن يحب الآب, إنما كرد فعل مساو تماماً, فهذا أيضأ قانون وفعل البنوة الحتمي, وهذا الحب المتبادل, يعطي للذات اكتفاءها. لذلك حينما يقول المسيح باعتباره الابن. «أبي أعظم مني» فهو يشير إلى علاقة, فالحب في الله هو طبيعة العلاقة القائمة في الذات المتكاملة. لذلك, فالذات الإلهية هي «الاكتفاءه» المطلق الوحيد (الكائن بذاته).
لذلك يقول المسيح في الأصحاح الخامس: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته» (يو26:5)، فهو لم يعطه حياة بل «أعطاه أن تكون له حياة في ذاته». هذا أيضأ هو قانون الأبوة والبنوة العام. وفي الإنسان يكون نفس الوضع، لو أخذناه ليس على مستوى الفرد الواحد كأب إنما لو أخذناه على مستوى الذات الإنسانية الواحدة كجنس، فإن الآبوة في الذات الإنسانية أعطت بكيانها أن يكون للبنوة حياة في ذاتها, وهذه الحقيقة لا تظهر على مستوى الفرد الواحد في الجنس البشري إلا على مستوق النسل، حيث يعطي الآب حياة لابنه بالنسل، فتظهر الحياة، وهي تنتقل من الآب إلى الابن, وهذا حتمه حكم الموت, لأنه بدون أن ينسل الإنسان تتوقف حياته على الأرض وتتلاشى الذات الإنسانية من العالم المادي. فلكي تظل الذات الإنسانية كائنة، وقائمة على الأرض، تحتم عليها أن تسلم شعلة الروح التي فيها، بالنسل، إلى خلف لها، لتبقى وتدوم على الأرض.
أما الله فهو الكائن بذاته، والحي بجوهره الذي لا يعرف الموت ولا التغيير، وهو قائم دائم بذاته ليس فيه ظل دوران (الحركة ويتبعها الزمن), فهو فوقة الزمان والأكوان، وكل كيان يستمد منه كيانه، وهو هو، لا يتغير، ولا يتبدل، وسنوه لا تفنى!!
لذلك, فالذات الإلهية منزهة عن النسل لذاتها. لأن الابوة فيها دائمة بحياتها الازلية فيها, والبنوة دائمة بحياتها الأزلية فيها أيضا. فلا الآبوة تحتاج إلى من يقيمها, فهي قائمة دائمة, ولا البنوة تحتاج إلى من يكملها, فهي كاملة مع الآب في ذات واحدة.
والأبوة في الله غير منحصرة في ذاتها، بل تعطي عطاءَ أزلياً وأبدياً, فكل ما لها للابن. والابن غير منحصر في هذا الميراث الأبوي, بل يعمل به لحساب الآب, فكل غنى ميراثه في الآب يرده للآب, عملاً, سواء كان الحب أو المجد أو الكرامة, حتى أن الابن, كما عرفناه في المسيح, سُمى بل تعين لنا رباً, لمجد الآب!! «ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب.» (في11:2)
والمجد الذي أعطاه الآب للابن: «المجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم (يو5:17)، رده الابن للآب أعمالاً: «أنا مجدتك على الأرض» (يو4:17)؛ والحب الذي أعطاه الآب للابن: «الحب الذي أحببتني به» (يو26:17)، رده المسيح للآب بصورة منظورة لنا، في ذبيحة محبته على الصليب، صلحاً للعالم كله مع الآب: «أي إن الله كان في المسيح مُصالحا العالم لنفسه» (2كو19:5)، وتطهيراً لكل خطاة الأرض: «الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة؛ كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي، به أيضاً عمل العالمين؛ الذي، وهو بهاء مجده, ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالى.» (عب1:1-3)
وبالاختصار, وبشمول يفوق العقل, فإن كل ميراث الابن في الآب, أو بمعنى آخر كل غنى الروح والمعرفة والمجد كميراث للابن, منحه الابن للذين آمنوا بالآب وبه. فورث الإنسان مع الابن في الله, الأمر المذهل للعقل, فقد صرنا بالمسيح وفيه «ورثة الله, وارثون مع المسيح» (رو17:8). وأهم ما في هذا الميراث هو «البنوة»» الدائمة, فهذا هو الملكوت الممنوح للانسان, ميراث خيرات الله الروحية كبنين. وهكذا, بقدر ما ورث الابن الآب, رده للآب مشمولا بدخول الإنسان هذا الميراث عينه, ليستوعب هذا الغنى الأبدي اللانهائي.
ولكن ميراث الابن للآب لا يشمل عطايا خارج الكيان الجوهري في الذات الإلهية، لأن كل ما للآب هو للابن، وكل ما هو للابن هو للآب: «وكل ما هو لى، فهو لك. وما هو لك، فهو لى« (يو10:17). لهذا يقول المسيح: «أنا والآب واحد» (يو30:10). ولكن يتضمن العطاء والأخذ في الله بين الآب والابن تواجد الآب في الابن والابن في الآب. فكل واحد يعطي ذاته للآخر, بصورة فائقة, بحسب الطبيعة الفائقة لله. ولكن حتى هذا التواجد المطلق بين الآب والابن, استثمره الابن في الإنسان, لحساب غنى اللاهوت. فكما تواجد «الابن» في الجسد البشري فتجسد وصار «ابناً للانسان», وهو حامل البنوة الإلهية وكل غناها وميراثها؛ هكذا أعطى الإنسان، بصورة ما، كل من يؤمن ويقبل الابن المتجسد، أي المسيح، أن يتواجد الابن فيه، على قدر ما يطيق الإنان ويحتمل: «اثبتوا فيّ، وأنا فيكم» (يو4:15). وعاد يخاطب الآب بهذا القول العجيب: «ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط (التلاميذ), بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم, ليكون الجميع واحداً, كما أنك أنت أيها الآب فّي وأنا فيك, ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا.» (يو20:17-21)
والمسيح, لكي يمهد هذا التواجد العالى القدر ويجعله مناسباً وممكنا يقول: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداء كما أننا نحن واحد.»(يو23:17)
ثم يعود المسيح ليطبق التوازي في الوجود, مع حفظ الفارق بين ما للاهوت وما للانسان, هكذا: «أنا فيهم, وأنت فيّ, ليكونوا مكملين إلى واحد.» (يو23:17)
وهنا، وفي كل مرة يشدد المسيح أن هذا الوجود الجديد للانسان في عمق الصلة الأبوية والبنوية في الله هو آية، دائمأ تكون لحساب الآب ليراها العالم: «ليعلم العالم أنك أرسلتني» وأحببتهم كما أحببتنى.» (يو23:17)
وهكذا تبدو رسالة الابن المتجسد في العالم كلها لحساب الآب.
وهكذا أيها القارىء العزيزه ينكشف سر الإيمان المسيحي الأعظم ، الذي كان مخفيا مدى كل الدهور السالفة، الذي أعلنه الله بإرساله الابن إلى العالم متجسداً، ليستعلن لنا «سر الآب والابن» الذي به صار تجديد الخليقة البشرية ورفعها إلى مستوى البنوة لله، ومنحها كل مميزاتها، لحياة أبدية مجيدة، لسعادة الإنسان وفرحه، عوض كآبة عبودية الدهور السالفة والحزن والتنهد والبكاء تحت سخرة الشيطان والجسد، الذي كتب به الإنسان تاريخه السالف
نستخلص من هذا, أن الآب أعظم من الابن لأن هذا هو قانون الأبوة والبنوة؛ كذلك فالآب يعطي والابن يأخذ، وهذا أيضأ قانون الأبوة والبنوة، وهذا يرتد على الذات ليعطيها الاكتفاء والكمال والوحدانية الخصبة.
وبالنهاية، نكون قد بلغنا العمق والغنى في قول المسيح: «أبي أعظم مني»، والذي ينتهي إلى الاكتفاء والتكامل في الذات الإلهية, على أساس هذه الصفة التي تميز الابوة تمييزاً أدبياً مطلقاً، وهذا التمييز يجعل الذات الإلهية محبة ومحبوبة, عاملة غير ساكنة، متكلمة غير صامتة، بل متكلمة سامعة, مريدة فاعلة، ناظرة ومنظورة، راسلة ومرسلة, عالمة ومتعلمة, مجيدة وممجدة.
وباختصار, هي ذات كاملة كمالاً مطلقاً، مكتفية في كيانها اكتفاءً مطلقاً. فالذات الإلهية، كأب وابن، واحدة، ووحدتها غير واقعة تحت العجز والعوز. فوحدانية الله خصبة, ومن خصوبتها يغتني العالم. هذا، وعلى أساس ذلك، نسمع من فم المسيح أسرار هذا التكامل بين الآب والابن:
+ «لأن الآب يحب الابن، ويريه جيع ما هو يعمله.» (يو20:5)
+ «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني، وأتمم عمله.» (يو34:4)
+ «لا يقدر الابن أن يعمل من نقسه شيئاً، إلا ما ينظر الآب...» (يو19:5)
+ «أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين، وديونتي عادلة.» (يو30:5)
+ «لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني.» (يو16:7)
+ «تعليمي ليس لى، بل للذي أرسلي.» (يو16:7)
+ «أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي.» (يو28:8)
+ «الذي أرسلني هو معي، ولم يتركي الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه.» (يو29:8)
+ «أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يو40:8)
+ «لأني لم آت من نفسي، بل ذاك آرسلني.» (يو42:8)
+ «لكي أكرم أبي، وأنتم تهينوني.» (يو49:8)
+ «لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني، هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم.» (يو49:12)
+ «الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال.» (يو10:14)
هذه هي الابوة في الله، وهذه هي البنوة في الله، ليس بينهما أي تنافر أو شقاق أو تعال. يستحيل لأي إنسان يتمعن فى هذه الآيات أن يعثر على أي انقسام أو ثنائية، فالوحدة المطنقة بين الآب والابن والتكامل المطلق في الذات، يضمنها الحب المطلق من الآب نحو الابن، والطاعة المطلقة من الابن للآب. فالآب يشاء، والابن يكمل المشيئة بنفس القوة، والآب يتكلم والابن يعلم بنفس الكلام وبنفس الحكمة، والآب يعمل والابن يعمل بنفس القوة والاقتدار.
فإذا قال الابن أن «الآب أعظم مني»، فلأنه «آب» فقط والابن يكرم الآب لأنه «ابن»: «لكني أكرم أبي، وأنتم تهينونني» (يو49:8). ولكن إذا خرجنا خارج هذه الدائرة الخاصة جداً والنورانية الفائقة بين الآب والابن, أي ندخل إلى ما يخصنا نحن من هذه الابوة والبنوة الإلهية، نسمع من المسيح التساوي المطلق فى الكرامة والمجد.
«لكي يكرم الجميع الابن, كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن، لا يكرم الآب الذي ارسله (يو23:5)= كرامة واحدة للآب والابن = إله واحد.
«أنتم تؤمنون بالله, فآمنوا بى» (يو1:14) = الإيمان بالآب يُحتم الإيماذ بالابن، لأنهما ذات واحدة.
« أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل» (يو17:5) = العمل واحد بين الآب والابن
«أنا والآب واحد.» (30:10) = واحد فى الجوهر والذات = إله واحد.
«وكل ما هو لى فهو لك، وما هو لك فهو لى.» (يو10:17) = ¬كل صفات ومميزات الآب هي في الابن وكل صفات وميراث الابن هي في الآب = وحدة الصفات والمميزات .
«الذي رآني، فتد رأى الآب» (يو9:14) = الله الآب غير منظور. الله الابن هو منظور الآب. = الآب والابن منظور واحد.
« أنت أيها الآب في، وأنا فيك.» (يو21:17) = الكيان الواحد.
«وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي ارسلته = معرفة الآب والابن فيها الحياة الأبدية.
هذه الآيات، تشير، بتأكيد، أن عمل الآب غير الظاهر يعمله الابن في الظاهر، كذلك المشيئة وكل شيء, فالآب والابن لهما عمل واحد ومشيئة واحدة.
وفي الختام نقول إن المسيح إذا قال: «أبي أعظم مني»، فذلك لأنه هكذا ينبغي أن يرى الابن أباه، فالآب يتحتم أن يكون عظيمأ في عين الابن، لتكون الذات الإلهية كآب وابن عظيمة في تكاملها ووحدتها. أما من جهة العمل، فالتساوي في المشيئة والقدرة والحكمة هو مطلق بين الآب والابن، وأما من جهة الكرامة والمجد والعبادة والسجود فهو واحد بلا تفريق.
الجزء الأول: «لو كنتم تحبونني, لكنتم تفرحون»: يلاحظ القارىء أن هناك صلة قوية وأساسية بين قوله: «لو كنتم تحبوننى لكنتم تفرحون» وبين قوله: «لأني قلت أمضي إلى الآب لأن أبي أعظم مني».
«لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون»: هذه المعادلة قائمة بذاتها، كحقيقة أساسية في الإيمان المسيحي, لأن كل من أحب المسيح، آحبه المسيح! وحب المسيح معه الفرح الدائم، الفرح الذي لا يُنطق به ومجيد: «الذي, وإن لم تروه، تحبونه. ذلك, وإن كنتم لا ترونه الآن, لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.» (ابط8:1)
هذا ليس تعليماً بل اختباراً، وهو اختبار صادق مفتوح لكل من يريد. ولكن المسيح يكمل هذا الاختبار، بأن ينسبه بسبب آخر هام، وهو: «لأني قلت أمضي إلى الآب» أى أن هذا بحد ذاته ينبغي أن يكون سبباً أيضاً لكي تفرحوا، إن كنتم تحبوننى!
فلماذا يكول ذهاب المسيح إلى الآب سببأ لكى نفرح، إن كنا صادقين فى محبة المسيح.
هنا يمكن أن نفهم أن فرحنا يكون، إما للمسيح الذق نحبه لأنه سيكتسب مكاسب أخرى لحسابه، أو يكون فرحنا لأنفسنا بسبب المسيح الذق نحبه لأنه سيكتسب مكاسب أخرق لحسابنا.
أولاً: مكاسب المسيح حينما يمضي إلى الآب لأن الآب أعظم منه:
واضح أن مضي المسيح إلى الآب، معناه أنه يختم رسالته الجسدية على الأرض ليبدأ رسالته عند الآب، أي ينتقل من الرسالة الأقل إلى الرسالة الأعظم, وهذا يشمل عدة مكاسب لا تعد ولا تحصى، نذكر منها القليل الذي يسعفنا به درايتنا بسر الإنجيل.
+ بادىء ذي بدء، سيقدم إلى الآب ذبيحته الحية، ليقف أمام الآب بجسده، كخروف قائم على عرش الله كأنه مذبوح (رؤ6:5). وهذه إضافة عجيبة ورهيبة لمركز الابن عند الآب, إذ سيأخذ الابن وصفاً جديدا دائماً لدى الآب بالنسبة لنا.
+ «بعد هذا نظرت، وإذا باب مفتوح في السماء، والصوت الاول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلاً: اصعد إلى هنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا. وللوقت صرت في الروح، وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس ... يخر الأربعة والعشرون شيخاً (قسيساً) قدام الجالس على العرش، ويسجدون للحي إلى أبد الأبدين, ويطرحون أكاليلهم أمام العرش، قائلين: أنت مستحق، أيها الرب، أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء وهي بإرادتك كائنة وخُلقت.
ورأيت على يمين الجالس على العرش سفراً مكتوبأ من داخل ومن وراء, مختوماً بسبعة ختوم (سفر الدينونة). ورأيت ملاكأ قويا ينادي بصوت عظيم: من هو مستحق أن يفتح السفر ويفك ختومه؟ ... فقال لي واحد من الشيوخ: لا تبك، هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود، ليفتح السفر ويفك ختومه السبعة. ورأيت فإذا وسط العرش ... خروف قائم كأنه مذبوح ... فأتى وأخذ السفر.... ولما أخذ السفر، خرت الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون شيخاً أمام الخروف، ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخوراً، هي صلوات القديسين، وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه, لأنلك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك, من كل قبيلة ولسان وشعب وامة, وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة, فسنملك على الأرض, ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش ... وكان عددهم وبوات ربوات وألوف ألوف قائلين بصوت عظيم: مستحق هو الخروف المذبوح, أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة.
وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر، كل ما فيها، سمعتها قائلة للجالس على العرش وللخروف: البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين ... فقال لى: هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة، وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف، من أجل ذلك هم أمام عرش الله، ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش يحل فوقهم. لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر، لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم, ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية, ويمسح الله كل دمعة من عيونهم» (رؤ 4و5و7)
فكيف لا يفرح، ليس التلاميذ فقط, بل كل من آمنوا بذبيحة المسيح الحية! وهو جالس وسط عرش الله أبيه.
+ ونفرح له لأنه سيدخل ملكوته: أما كان يبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده» (لو26:24)
هذا الملكوت الذي أعطاه إياه أبوه العظيم في أبوته: «شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو12:1-13)، فكيف لا يفرحون، إن كانوا فعلاً قد أحبوا المسيح، لأنه ذاهب إلى أبيه؟
+ «لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات, وأجلسه عن يمينه في السماويات, فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمى, ليس في هذا الدهر فقط, بل في المستقبل أيضاً؛ وأخضع كل شي تحت قدميه, وإياه جعل رأسأ فوة كل شيء, للكنيسة التي هي جسده, ملء الذي يملأ الكل في الكل.» (أف18:1-23)
فكيف لا يفرحون بالمسيح وللمسيح، لأنه ذاهب إلى أبيه، إذ كانوا يحبونه حقاً؟
+ «فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دُفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض, فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت18:28-19)
فكيف لا يفرحون لأنه ذاهب إل الآب إن كانوا يحبونه حقاً؟
+ «إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً (خلص المسبيين تحت الخطية وأخذهم كأسرى الرجاء)، وأعطى الناس عطايا. وأما أنه صعد، فما هو إلا إنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكى يملأ الكل» (أف8:4-10)
فكيف لا يفرحون للمسيح لأنه ذاهب إلى أبيه، إن كانوا يحبونه حقاً؟
ثانياً: مكاسبنا التي تدعونا أن نفرح, لأن المسيح ذاهب إلى أبيه إن كنا نحبه.
أسباب لا حصر لها تدعونا أن نفرح ونتهلل لذهاب المسيح إلى أبيه.
+ «بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس, فوجد فداءً أبدياً» (عب12:9)
+ «لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد، أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها، ليظهر الأن أمام وجه الله لأجلنا. (عب24:9)
+ «وأما هذا، فمن أجل أنه يبقى إل الأبد، له كهنوت لا يزول، فمن ثم يقد رأن يخلص أيضأ إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله, إذ هو حي في كل حين, ليشفع فيهم.» (عب24:5-25)
+ «وإن أخطأ أحد، فلنا شفيع عند الآب, يسوع المسيح البار.» (1يو1:2)
+ «أنا أمضى لاعد لكم مكاناً, وإن مضيت، وأعددت لكم مكاناً، آتي أيضاً وآخذكم إلىّ, حتى حيث أكون أنا, تكونون أنتم أيضاً» (يو2:14-3)
+ «الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا أعملها، يعملها هو أيضأ، ويعمل أعظم منها، لأني ماضى إل أبي. ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله, ليتمجد الآب بالابن» (يو12:14-13)
+ «وأنا أطلب من الآب, فيعطيكم معزياً آخر, ليمكث معكم إلى الأبد ... وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم, ويكون فيكم, لا أترككم يتامى, إني آتي إليكم» (يو16:14-18)
+ «واما المعزي, الروح القدس, الذي سيرسله الآب باسمي, فهو يعلمكم كل شيء, ويذكركم بكل ما قلته لكم.» (يو26:14)
+ «الحق أقول لكم، إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده, تجلسون أنتم أيضأ على اثني عشر كرسياً, تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر.» (مت28:19)
+ «وأنا أجعل لكم, كما جعل لى أبي, ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي ...» (لو29:12)
+ «لأنه إن كنا، ونحن أعداء، قد صولحنا مع الله بموت ابنه, فالأولى كثيراً, ونحن مصالحون, نخلص بحياته. وليس ذلك فقط, بل نفتخر أيضآ بالله بربنا يسوع المسيح, الذي نلنا به الآن المصالحة.» (رو10:5-11)
+ «الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً، فإننا ورثة أيضاً, ورثة الله, ووارثون مع المسيح.» (رو16:8-17)
وهكذا، في هذه الآية المزدحمة بالمعاني اللاهوتية (يو28:14)، التي اُعثر فيها ذوو البصائر الكليلة، وطوحت بهم في عدم الإيمان بوحدة الابوة والبنوة, وبمساواة الابن للآب في المجد والكرامة، رأينا كيف أسس بها هذا الإنجيل مبدأ تعظيم الابوة, ليس على حساب تعالي الآب عن الابن في أي القدرات أو الاختلاف بينهما في أي الصفات, بل على أساس تكريم الابن للآب المردود من الآب للابن بنفس المقدار والقوة. فإن كان الآب أعظم من الابن، فالابن هو الوارث والمالك لهذه العظمة وحده، وهي مردودة له، لأنه الواحد الوحيد الذي له أن يقول لله «أبي» بنوع الملكية والتخصص. فالله هو أبوه خاصة، والابن وحده هو الذي يملك الله كآب.
فإن قال الابن: «أبي أعظم مني»، فعظمة أبيه هي له، وهي له خاصة، وهو يملكها، بل وقد أتى هو لكي يستعلنها في نفسه، وذهب إلى الآب ليغدق منها علينا.
وبالنهاية، يلزم أن نفهم وننظر إلى تسامي عظمة الأبوة الإلهية على لسان المسيح «الابن» في هذه الآية، أنها في نطاق الوحدة والتساوي المطلق بين الآب والابن في جوهر اللاهوت الواحد، بكل خصائصه وشمائله.
أما بالنسبة للآية، ككل، فإن الذى يحب المسيح حقاً ويؤمن أنه ذهب إلى الآب فعلاً، فهو الذى ينال وعد مجيئه، ووعد إرساله الروح القدس من عند الآب.
«الآن»: «الآن» هنا هي ساعة المحنة التي ابتدأت بالفعل. «الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو31:12). لقد أحاط المسيح ذهن التلاميذ بكل الجوانب الظلمة لهذه التجربة القادمة، فكان «صادقاً وأميناً» (رؤ14:3)، ولكنه أعطاهم كل الدلائل الواثقة، التي يمكن أن يعتمدوا عليها ليعبروا هذه المحنة، دون أن يتزعزعوا. «لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله, فآمنوا بي» (يو1:14). ولكن المسيح اعتمد كثيراً على ما بعد المحنة, حينما يكتشف التلاميذ, ونحن معهم, صدق وأمانة المسيح في كل ما قال، قبل أن يحدث، بخصوص المحنة العظمى التي سيجوزها: الموت!! بكل أهواله, ليجدوا في القيامة تحقيق الوعد، ليصير إيمانهم بالمسيح وثيقاً، وإلى الأبد, وعلى مستوى الإيمان بالله: «أقول لكم الآن، قبل أن يكون، حتى متى كان, تؤمنون أني أنا هو» (يو19:13)
«قلت لكم»: ما قاله المسيح في كل ما يختص بالآلام المزمعة والمحنة التي سيواجهها التلاميذ لفترة قصيرة للغاية، هي بحساب الزمن لم تزد عن ثلاثة أيام، ولكنها بحساب استعلان أعمال الله فهي مخاض الدهور السالفة كلها، منذ واجه الإنسان خروجه من لدن الله.
لقد تحمل التلاميذ أصعب فترة انتقال واجهتها البشرية، ولا يمكن وصف صعوبتها وحقيقتها، إلا بما وصفه المسيح: «أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح. المرأة وهى تلد تحزن، لأن ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل، لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح ، لأن قد وُلد إنسان في العالم. فأنتم كذلك، عندكم الأن حزن. ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم.» (يو20:16-22).
ولكن اسمع الوجه الأخر لهذا الحزن وهذه المحنة، إنها «التجديد»: «أنتم الذين تبعتموني في التجديد» (مت28:19). حيث هذه الكلمة اليونانية من أصل ( )، حيث يصير معنى الكلمة: يولد ثانية, أو يولد من جديد, أو تفيد معنى «العودة من السبي». وعلى العموم تفيد في العهد الجديد: «القيامة», أو التجديد بالمعمودية.
هذا الوصف، بكل عمقه، ينطبق على كل إنسان مسيحي، حينما يعاني نفس المحنة بكل أبعادها، لينتقل من الظلمة إلى النور، فيجوز المخاض بعينه، ليٌستعلن له المسيح المُقام، ليشرق عليه نور القيامة، فيقوم، ليعيش جدة الحياة كإنسان جديد، خليقة جديدة تحيا في فرح المسيح الدائم وسلامه ونصرته فوق العال . حيث لا يعود ينظر الماضي بحزنه وضيقه وكآبته، إلا كفترة تحضير قصيرة للغاية، مهما تكون قد أكلت من طول العمر وعرضه، يكفي أن يصير ما بقي من العمر في دائرة الوعد الإلهي بقيادة الروح القدس (يو26:14)
«كَثِيراً»: لا يمكن أن يستقيم المعنى هنا بدون كلمة «كَثِيراً» لأن المسيح استمر بالفمل يتكلم ويعلم، وكن لقدر محدود. أما لماذا قال المسيح: «لا أتكلم أيضاً معكم...». فهو بسبب إحساسه الفائق باقتراب الشيطان، «رئيس هذا العالم»، ممثلاً في الأشخاص الذين استخدمهم في مهمته المفضوحة، وبالتال انتهاء زمن الكرازة والتحضير لعملية الخلاص العظمى. أو بمعى أوضح، أن المسيح أكمل رسالة استعلان الآب بالكلمة، سواء بالتعليم، أو الآيات، وقد حان تكميل رسالة الخلاص بذبيحة نفسه المحددة منذ الدهور. فالشيطان لا يتجاسر أن «يأتي»، دون إذن صادر من الآب ومن الابن أيضاً: «فبعد اللقمة دخله الشيطان، فقال له يسوع: ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة» (يو27:13)
والمسيح قدير في الإحساس بخطوات العدو: «قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب» (مر42:14)، ويهوذا ليس في الحسبان، فهو مجرد آلة، ولكن إحساس الرب مُركز تجاه رئيس العالم نفسه.
«رئيس هذا العالم»: هذا الاصطلاح لم يرد في أسفار العهد الجديد إلا في هذه الآية، وفي الآية الأخرى (31:12, 11:16)، وذلك في إنجيل القديس يوحنا. ولكن الاصطلاح المقابل الذي ورد في إنجيل القديس لوقا يُفهم من الحديث الذي جرى له مع المسيح على جبل التجربة: «ثم أصعده إبليس إلى جبل عال، وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن، لأنه إلي قد دُفع, وأنا أعطيه لمن أريد.» (لو5:4-6)
أما القديس بولس الرسول فقد أعطاه لقب «إله الزمان»: «ولكن إن كان إنجيلنا مكتوماً، فإنما هو مكتوم في الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله» (2كو3:4-4). حيث كلمة الدهر= ( ), تفيد هذا الزمان أو هذا العالم. كما سماه بولس الرسول: «رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.» (أف2:2)
كما سمى أعوان إبليس: «ولاة العالم من «رؤساء وسلاطين« شريرة، وأجناد الشر الروحية«:
+ «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات.» (أف12:6)
ولكن إزاء كل الأسعاء الضخمة التي خُلعت على الشيطان، وكل جنوده، وبالرغم من سلطانه الذي يدعيه على ممالك العالم ومجدها، فقد أثبت المسيح تفاهة منتهاه، فمظهره مرعب حقاً: «عندما يأتي العدو كنهر», ولكن نهايته تافهة جداً, «فنفخه الرب تدفعه» (إش19:59 – قارن مع 2تس8:2). ولقد صال يهوذا الإسخريوطي وجال، كأخطر آلة استخدمها الشيطان فعلاً (تلميذ من التلاميذ الاثني عشر), ولكنه انتهى إلى خنق نفسه.
كذلك، فإن لنا أن نتأمل تلك الثورة الكبرى التي قادها الشيطان ضد المسيح، أثناء خدمته على الأرض، والتي انتهت بأعظم انتصار شكلي ضد المسيح، بأن استطاع استصدارحكم صلب ضده من أعظم محكمتين للعدل في العالم: محكمة السنهدريم، ومحكمة روما؛ وكيف انتهت إلى فضيحة المحكمتين مع فضيحة الشيطان وأعوانه: «إذ جرد الرياسات والسلاطين، أشهرهم جهاراً، ظافراً بهم فيه (في الصليب).» (كو15:2)
ولينتبه القارىء, ويتشجع، فإنه إزاء قوة الشيطان على القتل: «ذاك كان قتالاً للناس من البدء (يو44:8)، تقف قوة «الحياة الأبدية» في المسيح
وإزاء الكذب, قوة الشيطان الاولى للتزييف والقتل, تقف قوة «الحق» التى تُحيى في المسيح.
فالقتل جسدي, والجسد زائل بطبيعته؛ أما الحياة الأبدية فهي الخلود بالروح مع الله. الكذب هو حيلة الشيطان للغش، التي يحيك بها المكائد و يزور بها الحقائق إلى حين، أما الحق «الآليثيا» فهو القائم الدائم، الذي له الغلبة النهائية بالحياة الأبدية.
فشكرا لله، الذي أعطانا في المسيح يسوع الحق والحياة، لنغلب بهما العالم ورئيسه.
«وليس له فّي شيء»: بمعنى أن ليس في شيء يقع تحت سلطانه. كل إنسان، للشيطان فيه شيء، لهذا يطالب بدعوى الموت ثمناً للخطية، ولكن المسيح يقدم نفسه للموت بحرية إرادته، ثمناً لخطايا غيره. المسيح لم يكن من هذا العالم: «لأنهم ليسوا من العالم، كما أني أنا لست من العالم» (يو14:17)، «أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم» (يو23:8)، قال هذا لليهود.
فالمسيح ليس من هذا العالم، لذلك فرئيس هذا العالم ليس له فيه شيء بالضرورة. هذا يعني، بصورة غير مباشرة، أنه بلا خطية واحدة! «من منكم يبكتني على خطية.» (يو46:8)
هذا، من جهة لاهوت الخلاص، غاية في الأهمية، لأنه يكون بالتالى قد مات من أجل غيره، وهذه هي الكفارة العظمى:
+ «عل قدر ذلك، قد صار يسوع ضامناأ لعهد أفضل. وأولئك (كهنة العهد القديم) قد صاروا كهنة كثيرين، من أجل منعهم بالموت عن البقاء. وأما هذا، فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام، الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم، لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا, قدوس, بلا شرولا دنس، قد انفصل عن الخطاة, وصار أعلى من السموات. الذي ليس له اضطرار كل يوم؛ مثل رؤساء الكهنة, أن يقدم ذبائح, أولاً عن خطايا نفسه, ثم عن خطايا الشعب, لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه!» (عب22:7-27)
الكلام هنا يحتاج إلى توضيح، لأن الآيتين مرتبطتان معاً, والمعنى هو: ولو أني لست من هذا العالم، وليس لي خطية واحدة مدين بها لرئيس هذا العالم، إلا أني سمحت للشيطان أن يأتي إليّ, وسمحت لنفسي أن أموت، كمديون عن خطايا كل العالم, ولكن ليس هذا تطوعاً مني, ولكن ليفهم العالم أني أحب الآب، والآب أوصاني أن أموت، وأفدي العالم بحياتي, لذلك أنا أفعل هذا مدفوعاً بحب أبي وطاعتي لوصيته.
ثم أن المسيح يعلم أن هذه التضحية العظمى، بأن يقف أمام رئيس العالم، مديونا بالخطية، مسفوكاً دمه، وهو ديان العدل لكل المسكونة أحياءً وأمواتاً؛ نعم كان يعلم أن ثمن كل هذا هو مغفرة خطايا كل العالم، وانتزع سلطان الإدانة من الشيطان إلى الآبد, لذلك قال: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم.» (يو33:16)
«قوموا ننطلق من ههنا»: هيا نواجه الصليب، أليس عمله أن يعلن حب الآب وينفذ وصيته؟
لقد تلكأوا في الجلوس، بل وناموا في جثسيماني، مثلما نعمل نحن الآن؛ ولكن إن آجلاً أو عاجلاً سنتبعه: «ولكنك ستتبعني أخيراً.» (يو36:13)
إنه القائد، يهتف بجنوده أن لا يهابوا، وأن يتقدموا، هوذا رئيس هذا العالم آت، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب، قوموا ننطلق للمقابلة! «والسيد الرب يعينني، لذلك لا أخجل. لذلك جعلت وجهي كالصوان، وعرفت أني لا أخزى. قريب هو الذي يبررني. من يخاصمني؟ لنتواقف! من هو صاحب دعوى معي، ليتقدم إلىّ: هوذا السيد الرب يعينني، من هو الذي يحكم عليّ...» (إش7:50-9), «السيد الرب فتح لى أذناً، وأنا لم أعاند، إلى الوراء لم أرتد!!!» (إش5:50)
عودة على ذي بدء: لقد بدأ حديث المسيح مع تلاميذه على العشاء، بعد غسل أرجلهم, يشرح معنى هذا الإجراء كإعداد للارسالية العظمى، حيث كان التركيز على اتضاعهم بعضهم لبعض كمرسليين أو كرسل وتلاميذ. فكما غسل هو أرجلهم, وهو الذي أرسلهم, ينبغي أن يصنعوا كذلك بعضهم لبعض، ضماناً لنجاحهم وألفتهم وسلامهم لحساب الرسالة. ثم بدأ المسيح حديث الوادع الأول, وكان عن فراقه لهم، وذهابه إلى الآب، وكان أكثر الأحاديث عاطفية، وكان كله للتشجيع والاطمئنان أنه سيعود إليهم.
والمسيح يبدأ هنا حديثاً فردياً دون أي تحاور مع أحد ، حيث يعتبر هذا الحديث المفرد (مونولوج) أطول حديث في إنجيل يوحنا، وهو يستغرق الأصحاح الخامس عشر كله وحتى الآية 15 من الأصحاح السادس عشر. ويأتي الفكر فيه مترابطاً, أولاً عن اتحاده بتلاميذه والمؤمنين، ثم ثمن هذا الاتحاد من اضطهاد العالم. فالمسيح يؤكد، بصورة قاطعة وعملية, أنه متحد بتلاميذه اتحاد الأصل في الكرمة بالأغصان. وهذه الحقيقة ممتدة إلى جيع المؤمنين به. فالحديث عن فراق مؤقت, يوازيه حضور ثابث في سر الشركة الأبدية. وكما عانى المسيح من اليهود، عداوة وبغضة واضطهاد، فلا بد أن يشترك معه في هذا النصيب كل من اتحد به.
الكرمة: المسيح يصور شكل الكنيسة، وعلاقته الدائمة بالمؤمنين بعد انطلاقه.
الكنيسة: سر دوامها، وسر قوتها هو من الداخل، وهو «المحبة», كأغصان مثمرة، وكأعضاء املة معاً وفي المسيح وفي الآب.
العالم: يضطهد الكنيسة بدون سبب، على مستوى المسيح، ولأجل اسمه! لأن رسالة المسيح يمارسها تلاميذه.
الباراكليت: روح الحق، يشهد للمسيح في التلاميذ، والتلاميذ يشهدون في العالم.
وكأنما يعلن المسيح هنا أنه أكمل حضوره التاريخي في العالم، بل وما هو فوق التاريخ أيضاً، فقد زُرعت الكرمة، إسرائيل الجديدة, جذرها في السماء وأغصانها على أرض الإنسان, وأكمل كيانها المنظور وغير المنظور، فقد أخرجت أغصانها الغضة، وجرى فيها عصيرها ودبت الحياة الإلهية في أعماقها, وهي على وشك أن تعطي ثمارها!!
ونحن هنا لا زلنا نعيش جو العشاء الأخير, إفخارستيا الذبيحة, و«عصير الكرمة« وكأسها الخلاصي هو عنصرها الأول السرائري, ثم نحن لا زلنا في حديث الوداع, ومشاعر الفراق الأليم. المسيح يتكلم عن الذهاب إلى الآب والمجيء, كل هذا ضمنه استعلان نفسه «بالكرمة» تصويراً يحمل الحقائق في شكل الرموز، هي ليست رموزاً ولكن حقائق في سر, لا يخفى عن الذهن المفتوح, لأن الكرمة وكأسها الممزوج على العشاء الأخير تضمن، بالفعل، الذهاب إل الآب وكذلك المجيء.
+ «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء.» (1كو26:11)
فإن كان المسيح، في الأصحاح الرابع عشر، قد تكلم شارحاً الذهاب والمجيء، ففي الأصحاح الخامس عشر وضح كيف نعيش هذا الذهاب وهذا المجيء، وكيف نشهد له!
وحينما يقول المسيح: «أنا هو» فهو يتكلم عن حقائق سماوية ثابتة ( الأليثيا) تدخل لأول مرة إيماننا وحياتنا. فالكرمة عندما أخذت هذه السمة الإلهية: «أنا هو»، أصبحت حقيقة ممتدة عبر الدهور وفي السماء: «وأقول لكم، إني من الأن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا، إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي» (مت29:26). ولكن هذا لا يُفهم على أن المسيح يشرب من كأس الخلاص في السماء ، بل المعنى أنه, وهو في السماء الأن، وهو في ملكوت أبيه, لا يزال يشاركنا كأس الخلاص في إفخارستية الأحد، التي يمارس حضورها، ويتولى بنفسه تقديم سر الدم والجسد فيها لكل مختاريه: «لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة، حتى يأتي ملكوت الله» (لو18:22). فانقطاع المسيح من مشاركة تلاميذه في وليمة الإفخارستيا لم يتعوق كثيراً, فلم يكن أكثر من أيام حينما عاد إليهم بعد القيامة وشاركهم إفخارستيته من جديد. وهذا هو إيمان الكنيسة الارثوذكسية، أن المسيح يقوم بإجراء سر العماد وسر الإفخارستيا بنفسه، أما الكاهن فهو خادم السر وحسب.
«أنا هو الكرمة»: المسيح يتكلم على مستوى الذات الإلهية: «أنا الكائن بذاتي». المجال هنا لا يحتمل المقارنة أو التشبيه. فما يجيء بعد ذلك من صفات، لا يحتمل القول بأنه مثل من الأمثال . فـ «الكرمة» هنا هي في موضع ذات المسيح وصفته الإلهية, «أنا هو» إنما في الواقى البشري، الكنيسة!! هذا هو المقابل السرائري للقول: «والكلمة صار جسداً». فالامتداد بالمعنى هو: والكلمة صار جسداً ليصبح كنيسة! فالكنيسة هي غاية التجسد: «وإياه جعل رأساً فوق كل شيء، للكنيسة» (أف22:1)، «وهو رأس الجسد، الكنيسة.» (كو18:1)
فملء المسيح الإلهي انفتح علينا لما تجسد، أي لما اتحد بجسدنا:
+ «د فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً, وأنتم مملوؤن فيه.» (كو9:2-10)
وبالمقابل، لما اتحدنا بالمسيح, إيماناً وثبوتاً ومحبة, صرنا أعضاء لجسده:
+ «هكذا، نحن الكثيرين، جسد واحد، في المسيح، وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر» (رو5:12)
+ «وأما أنتم فجسد المسيح، وأعضاؤه أفراداً.» (1كو27:12)
+ «لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه.» (أف30:5)
«الكرمة الحقيقية»: أول ما تكلم إنجيل القديس يوحنا عن «الحقيقي» كان بالنسبة للنور الحقيقي باعتباره نور الله الفائق للطبيعة فى كيانه وعمله.
ثم تكلم عن «الحق» باعتبار ان المسيح هو الذي أعلنه وأدخله إل العالم، في شخصه، إذ هو حامل لملء اللاهوت.
وبعد ذلك تكلم المسيح عن «الخبز الحقيقي» باعتبار أنه عطية الله، وهو هو المسيح ذاته متجسداً، حيث صار جسد المسيح ذبيحة مقدمة لله للفداء، صُرح للانسان أن يأكل منها سراً بالإيمان، ليعيش إلى الأبد.
والآن، يقدم لنا المسيح نفسه كرمة حقيقية, على أساس أن الآب هو الكرام، فهي كرمة ذات مصدر إلهي سماوي. هنا الجسد والحياة في المسيح، وشخصه الكلي ككلمة، ينفتح على الإنسان ليقبل الاتحاد به بسر إلهي، ليصير الإنسان عضواً حياً في المسيح على مستوى الغصن في الكرمة. ويقف الآب حارساً لهذا الإلتحام والثبوت، لأنه ثبوت إلهي وليس مادياً، ينفتح على الآب حينما ينفتح على الابن.
المقارنة هنا بين هذه الكرمة الحقيقية والكرمة التي هي ليست حقيقية, تقوم على أساس صفة «الحق»: الأليثيا، وهي صفة الطبيعة الإلهية التي لها البقاء الأزلى، أي الخلود، وعدم التغير أو الفساد؛ حيث الكرمة التي في المقابل، لا بد وأنها وقعت تحت التحول والفساد. إرميا النبي يصف هذا التحول المؤسف لشعب إسرائيل، والمكنى عنه بالكرمة: «وأنا قد غرستك كرمة سورق، زرع حق كلها, فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة, فإنك وإن اغتسلت بنطرون وأكثرت لنفسك الأشنان، فقد نقش إثمك أمامي يقول السيد الرب» (إر21:2-22). والترجمة عن الأصل السبعيني تكون هكذا: «رأنا قد غرستك كرمة ذات ثمار طيبة، صنفها المزروع جيد بالحق كلياً، فكيف تحولت إلى كرمة غريبة مُرة؟ فإنك حتى وإن اغتسلت بالنطرون، وأكثرت لنفسك الصابون، فقد نُقش إثمك أمامي، يقول السيد الرب».
والمعنى واضح: فشعب إسرائيل هو الكرمة التي غرسها من أصول جيدة جداً وكلياً، سواء في الإثمار أو في نوعها المؤسس على الحق، وهو الإيمان بالله والتقوى بفضائل العبادة. ولكن تحول الشعب مع السنين عن الله, واقترف أعمالاً رديئة, وصار كالعنب المر. وإذا تحولت الكرمة إلى مثل هذه المرارة, فلن تفيدها تطهيرات الناموس ولا إلى ألف مرة, أو تنفعها المخصبات ولا إلى أقصى حد من الكثرة!! هنا كان ولابد أن تُقطع الكرمة الردية لتُزرع كرمة الأليثيا! نعم, كان ولابد لكي يحيا آدم مح الله مرة أخرى بعد أن تعدى وفسد، أن يزرع له الله شجرة حياة ليأكل منها ويحيا؛ عوض الشجرة التي أكل منها عن تعد، فمات.
كانت شجرة الحياة التي في وسط الجنة هي بعينها المنوط بها استعلان الله الآب في الميعاد المعين، حينما يبلغ آدم قامة الإنسان الكامل في الإدراك، فكان الأكل منها آنذاك يفتح عينيه لإدراك معرفة سر الله والحق والخلود، فيخلد. ولكنه أكل قبل الميعاد، وعن تعد، فانفتحت عيناه على المعرفة للخير والشر معاً, دون أن يكون له قوة على التمييز ولا قوة على الإنحياز إلى الخير.
فلما أكل عن تعد, نال المعرفة. ومع المعرفة، لصق به الانحياز إلى الشر.
فمجداً لله! الذي أقام لنا الكرمة الحقيقية التي تُثمر «الحق» والحق كلياً، «أنا هو... الحق» (يو6:14)، فالذي يأكل منه تنفتح عيناه على «الحق» وعلى «الحياة»، فيعرف الحق والله، ويحيا: «فمن يأكلي فهو يحيا بي.» (يو57:6)
وليلاحظ القارىء، أن المسيح في الكلام قدم «أنا هوى» على كلمة «الكرمة». «أنا هو الكرمة الحقيقية»، لكي يقطع خط الرجعة على كل فكر يحاول أذ يفلت من هذه الحقيقة، ليحولها إلى مجرد التأمل، أو التحليق في المثل العليا: «فأنا هو الكرمة» يعني أنه قد أدخل بالفعل والحق والواقع «الكرمة الحقيقية» بكل خصائصها الإلهية، إلى عالم الإنسان الجديد، ليأكل منها بالحق أكلاً حقيقياً، لينشىء في الإنسان ليس فقط معرفة «الحق»، بل والحياة في الحق: «فمن يأكلني فهو يحيا بي»، وليس فقط معرفة الحياة الأبدية مع االله وفي الله بل والثبوت في هذه الحياة: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه.» (يو56:6)
فلينظر القارىء ويتحقق، بل ويتثبت، فهنا في الأصحاح الخامس عشر من إنجيل القديس يوحنا يؤسس المسيح جنة جديدة للانسان، وفي وسطها الكرمة الحقيقية، شجرة الحياة الأبدية, حيث هنا لا يحذر الله من أن لا يأكل منها الإنسان وإلا يموت، بل إن الله يحرضنا، بلسان ابنه، أنه إن لم نأكل منها موتاً نموت!!! «الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم.» (يو56:6)
الكرمة هنا سماوية، حية ومُحيية, وبثرية فى آن واحد، قائمة فى العالم وهي ليست من العالم، بسبب الأغصان، لذلك فقد دخلت تحت عناية الآب مباشرة. الإنسان أصبح على امتداد يد الله، بكل حنو الآب، وصرامة الكرام.
ولكن منذ القديم، والوحي الإلهي يتنقل بين الكرمة وشخص ابن الإسان, وكأنما هما معاً، أو واحد.
+ «يا إله الجنود ارجعن، اطلع من السماء، وانظر وتعهد هذه الكرمة، والغرس الذي غرسته يمينك، والابن الذي اخترته لنفسك ... لتكن يدك على رجل يمينك، وعلى ابن آدم الذي اخترته لنفسك. فلا نرتد عنك. أحينا فندعوا باسمك. يا رب إله الجنود، أرجعنا، أنر بوجهك فنخلص.» (مز14:80-19)
المسيح في هذا الأصحاح يحدد هوية الكرمة الحقيقية، حيث لا يذكر قط إسرائيل؛ ولكنه يعلن، بقوة، ما جاء في المزمور عن «رجل يمين الله» ، «والابن»، «وابن الإنسان» بقوله « أنا هو».
وفي الكرمة الحقيقية، التي هي جسد المسيح السري وأعضاؤه نحن، تتوزع الأعمال بين الآب والابن هكذا: فالابن يحمل في جسده المؤمنين الذي ثبتوا فيه, كأنهم أعضاء له من لحمه وعظامه, يعطيهم من جسده طعاماً ومن دمه شراباً, وهكذا من خلال المفهوم السرائرى, إذ بمد أن حملهم في جسده أعضاء، حمل خطاياهم عنهم غافراً ومسامحاً لكل ذنوبهم، مقدماً إياهم إلى أبيه الكرام.
أما الآب وهو الذي، في القديم، غرسها على الآرض: «كرمة من مصر نقلث, طردت أمماً وغرستها» (مز8:80)؛ فهو في الجديد أيضاً، الغارس في الماء. وبولس الرسول يصف عمل الله الآب في الكنيسة بكل قوة ووضوح هكذا: «كي يعطيكم الله ربنا يسوع المسيح، أبو المجد، روح الحكمة والإعلان في معرفته (معرفة الله الآب), مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاء دعوته (دعوة الله الآب» وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين (ميراث الله الآب)، وما هي عظمة قدرته الفائقة (قدرة الله الآب) نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدة قوته (قوة الله الآب)، الذي عمله (الله الآب) في المسيح إذ أقامه من الأصوات، وأجلسه عن يمينه في السماويات (رجل يمينه)، فوق كل رياسة، وسلطان، وقوة، وسيادة، وكل اسم يُسمى، ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً. وأخضح كل شيء تحت قدميه (قدمي يسوع المسيح)، واياه جعل رأساً فوق كل شيء, للكنيسة (الكرمة) التي هي جسده, ملء الذي يملأ الكل في الكل.» (أف17:1-23)
واضح هنا عمل الله الآب بالنسبة للكنيسة، أي الكرمة. فهو الذي «جعل» المسيح رأساً لها. وهو الأصل والسبب الذي يقف وراء كل ما عمله المسيح من أجلنا. و«من أجلنا» تجيء واضحة كل الوضوح في رسالة أفسس هكذا: «وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين (أعضاء الجسد، أغصان الكرمة)، حسب عمل شدة قوته، الذي عمله في المسيح ... » (أف19:1-20)
إذن، فالله الآب هو الذي أقام الرأس، وثبت الأعضاء حسب عمل شدة قوته في المسيح: «لا يقدر أحد أن يقبل إليّ، إن لم يجتذبه الآب» (يو44:6). لذلك، يجيب المسيح نفسه على هذه الحقيقة بقوله: «كل ما يعطيني الآب فإلي يقبل، ومن يقبل إلي، لا أخرجه خارجاً» (يو37:6)، «الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك، ليتم الكتاب.» (يو12:17)
وقصد المسيح، كابن، هو ألن تثمر الأعضاء، وذلك لكي يقدم أثمارهم للآب، كما قدم هو نفسه للآب: «بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير، فتكونون حقاً تلاميذي.» (يو8:15)
فإذا نظرنا إلى الكرمة (الكنيسة) ككل، فإنا نسمع من القديس بولس أن الله هو الذي يُنميها، بمعنى أنه هو يعتني بها ويسيطر عل كيانها: «إذآ، ليس الغارس شيئاً، ولا الساقي، بل الله الذي ينمي ... فإننا نحن عاملان مع الله، وأنتم فلاحة الله، بناء الله» (1كو7:3-9). ولكن يلزم أن ندرك ان الأب لا يعمل بدون الابن، أي المسيح: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.» (يو4:17)
عودة على ذي بدء: لقد بدأ حديث المسيح مع تلاميذه على العشاء، بعد غسل أرجلهم, يشرح معنى هذا الإجراء كإعداد للارسالية العظمى، حيث كان التركيز على اتضاعهم بعضهم لبعض كمرسليين أو كرسل وتلاميذ. فكما غسل هو أرجلهم, وهو الذي أرسلهم, ينبغي أن يصنعوا كذلك بعضهم لبعض، ضماناً لنجاحهم وألفتهم وسلامهم لحساب الرسالة. ثم بدأ المسيح حديث الوادع الأول, وكان عن فراقه لهم، وذهابه إلى الآب، وكان أكثر الأحاديث عاطفية، وكان كله للتشجيع والاطمئنان أنه سيعود إليهم.
والمسيح يبدأ هنا حديثاً فردياً دون أي تحاور مع أحد ، حيث يعتبر هذا الحديث المفرد (مونولوج) أطول حديث في إنجيل يوحنا، وهو يستغرق الأصحاح الخامس عشر كله وحتى الآية 15 من الأصحاح السادس عشر. ويأتي الفكر فيه مترابطاً, أولاً عن اتحاده بتلاميذه والمؤمنين، ثم ثمن هذا الاتحاد من اضطهاد العالم. فالمسيح يؤكد، بصورة قاطعة وعملية, أنه متحد بتلاميذه اتحاد الأصل في الكرمة بالأغصان. وهذه الحقيقة ممتدة إلى جيع المؤمنين به. فالحديث عن فراق مؤقت, يوازيه حضور ثابث في سر الشركة الأبدية. وكما عانى المسيح من اليهود، عداوة وبغضة واضطهاد، فلا بد أن يشترك معه في هذا النصيب كل من اتحد به.
الكرمة: المسيح يصور شكل الكنيسة، وعلاقته الدائمة بالمؤمنين بعد انطلاقه.
الكنيسة: سر دوامها، وسر قوتها هو من الداخل، وهو «المحبة», كأغصان مثمرة، وكأعضاء املة معاً وفي المسيح وفي الآب.
العالم: يضطهد الكنيسة بدون سبب، على مستوى المسيح، ولأجل اسمه! لأن رسالة المسيح يمارسها تلاميذه.
الباراكليت: روح الحق، يشهد للمسيح في التلاميذ، والتلاميذ يشهدون في العالم.
وكأنما يعلن المسيح هنا أنه أكمل حضوره التاريخي في العالم، بل وما هو فوق التاريخ أيضاً، فقد زُرعت الكرمة، إسرائيل الجديدة, جذرها في السماء وأغصانها على أرض الإنسان, وأكمل كيانها المنظور وغير المنظور، فقد أخرجت أغصانها الغضة، وجرى فيها عصيرها ودبت الحياة الإلهية في أعماقها, وهي على وشك أن تعطي ثمارها!!
ونحن هنا لا زلنا نعيش جو العشاء الأخير, إفخارستيا الذبيحة, و«عصير الكرمة« وكأسها الخلاصي هو عنصرها الأول السرائري, ثم نحن لا زلنا في حديث الوداع, ومشاعر الفراق الأليم. المسيح يتكلم عن الذهاب إلى الآب والمجيء, كل هذا ضمنه استعلان نفسه «بالكرمة» تصويراً يحمل الحقائق في شكل الرموز، هي ليست رموزاً ولكن حقائق في سر, لا يخفى عن الذهن المفتوح, لأن الكرمة وكأسها الممزوج على العشاء الأخير تضمن، بالفعل، الذهاب إل الآب وكذلك المجيء.
+ «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء.» (1كو26:11)
فإن كان المسيح، في الأصحاح الرابع عشر، قد تكلم شارحاً الذهاب والمجيء، ففي الأصحاح الخامس عشر وضح كيف نعيش هذا الذهاب وهذا المجيء، وكيف نشهد له!
وحينما يقول المسيح: «أنا هو» فهو يتكلم عن حقائق سماوية ثابتة ( الأليثيا) تدخل لأول مرة إيماننا وحياتنا. فالكرمة عندما أخذت هذه السمة الإلهية: «أنا هو»، أصبحت حقيقة ممتدة عبر الدهور وفي السماء: «وأقول لكم، إني من الأن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا، إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي» (مت29:26). ولكن هذا لا يُفهم على أن المسيح يشرب من كأس الخلاص في السماء ، بل المعنى أنه, وهو في السماء الأن، وهو في ملكوت أبيه, لا يزال يشاركنا كأس الخلاص في إفخارستية الأحد، التي يمارس حضورها، ويتولى بنفسه تقديم سر الدم والجسد فيها لكل مختاريه: «لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة، حتى يأتي ملكوت الله» (لو18:22). فانقطاع المسيح من مشاركة تلاميذه في وليمة الإفخارستيا لم يتعوق كثيراً, فلم يكن أكثر من أيام حينما عاد إليهم بعد القيامة وشاركهم إفخارستيته من جديد. وهذا هو إيمان الكنيسة الارثوذكسية، أن المسيح يقوم بإجراء سر العماد وسر الإفخارستيا بنفسه، أما الكاهن فهو خادم السر وحسب.
«أنا هو الكرمة»: المسيح يتكلم على مستوى الذات الإلهية: «أنا الكائن بذاتي». المجال هنا لا يحتمل المقارنة أو التشبيه. فما يجيء بعد ذلك من صفات، لا يحتمل القول بأنه مثل من الأمثال . فـ «الكرمة» هنا هي في موضع ذات المسيح وصفته الإلهية, «أنا هو» إنما في الواقى البشري، الكنيسة!! هذا هو المقابل السرائري للقول: «والكلمة صار جسداً». فالامتداد بالمعنى هو: والكلمة صار جسداً ليصبح كنيسة! فالكنيسة هي غاية التجسد: «وإياه جعل رأساً فوق كل شيء، للكنيسة» (أف22:1)، «وهو رأس الجسد، الكنيسة.» (كو18:1)
فملء المسيح الإلهي انفتح علينا لما تجسد، أي لما اتحد بجسدنا:
+ «د فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً, وأنتم مملوؤن فيه.» (كو9:2-10)
وبالمقابل، لما اتحدنا بالمسيح, إيماناً وثبوتاً ومحبة, صرنا أعضاء لجسده:
+ «هكذا، نحن الكثيرين، جسد واحد، في المسيح، وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر» (رو5:12)
+ «وأما أنتم فجسد المسيح، وأعضاؤه أفراداً.» (1كو27:12)
+ «لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه.» (أف30:5)
«الكرمة الحقيقية»: أول ما تكلم إنجيل القديس يوحنا عن «الحقيقي» كان بالنسبة للنور الحقيقي باعتباره نور الله الفائق للطبيعة فى كيانه وعمله.
ثم تكلم عن «الحق» باعتبار ان المسيح هو الذي أعلنه وأدخله إل العالم، في شخصه، إذ هو حامل لملء اللاهوت.
وبعد ذلك تكلم المسيح عن «الخبز الحقيقي» باعتبار أنه عطية الله، وهو هو المسيح ذاته متجسداً، حيث صار جسد المسيح ذبيحة مقدمة لله للفداء، صُرح للانسان أن يأكل منها سراً بالإيمان، ليعيش إلى الأبد.
والآن، يقدم لنا المسيح نفسه كرمة حقيقية, على أساس أن الآب هو الكرام، فهي كرمة ذات مصدر إلهي سماوي. هنا الجسد والحياة في المسيح، وشخصه الكلي ككلمة، ينفتح على الإنسان ليقبل الاتحاد به بسر إلهي، ليصير الإنسان عضواً حياً في المسيح على مستوى الغصن في الكرمة. ويقف الآب حارساً لهذا الإلتحام والثبوت، لأنه ثبوت إلهي وليس مادياً، ينفتح على الآب حينما ينفتح على الابن.
المقارنة هنا بين هذه الكرمة الحقيقية والكرمة التي هي ليست حقيقية, تقوم على أساس صفة «الحق»: الأليثيا، وهي صفة الطبيعة الإلهية التي لها البقاء الأزلى، أي الخلود، وعدم التغير أو الفساد؛ حيث الكرمة التي في المقابل، لا بد وأنها وقعت تحت التحول والفساد. إرميا النبي يصف هذا التحول المؤسف لشعب إسرائيل، والمكنى عنه بالكرمة: «وأنا قد غرستك كرمة سورق، زرع حق كلها, فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة, فإنك وإن اغتسلت بنطرون وأكثرت لنفسك الأشنان، فقد نقش إثمك أمامي يقول السيد الرب» (إر21:2-22). والترجمة عن الأصل السبعيني تكون هكذا: «رأنا قد غرستك كرمة ذات ثمار طيبة، صنفها المزروع جيد بالحق كلياً، فكيف تحولت إلى كرمة غريبة مُرة؟ فإنك حتى وإن اغتسلت بالنطرون، وأكثرت لنفسك الصابون، فقد نُقش إثمك أمامي، يقول السيد الرب».
والمعنى واضح: فشعب إسرائيل هو الكرمة التي غرسها من أصول جيدة جداً وكلياً، سواء في الإثمار أو في نوعها المؤسس على الحق، وهو الإيمان بالله والتقوى بفضائل العبادة. ولكن تحول الشعب مع السنين عن الله, واقترف أعمالاً رديئة, وصار كالعنب المر. وإذا تحولت الكرمة إلى مثل هذه المرارة, فلن تفيدها تطهيرات الناموس ولا إلى ألف مرة, أو تنفعها المخصبات ولا إلى أقصى حد من الكثرة!! هنا كان ولابد أن تُقطع الكرمة الردية لتُزرع كرمة الأليثيا! نعم, كان ولابد لكي يحيا آدم مح الله مرة أخرى بعد أن تعدى وفسد، أن يزرع له الله شجرة حياة ليأكل منها ويحيا؛ عوض الشجرة التي أكل منها عن تعد، فمات.
كانت شجرة الحياة التي في وسط الجنة هي بعينها المنوط بها استعلان الله الآب في الميعاد المعين، حينما يبلغ آدم قامة الإنسان الكامل في الإدراك، فكان الأكل منها آنذاك يفتح عينيه لإدراك معرفة سر الله والحق والخلود، فيخلد. ولكنه أكل قبل الميعاد، وعن تعد، فانفتحت عيناه على المعرفة للخير والشر معاً, دون أن يكون له قوة على التمييز ولا قوة على الإنحياز إلى الخير.
فلما أكل عن تعد, نال المعرفة. ومع المعرفة، لصق به الانحياز إلى الشر.
فمجداً لله! الذي أقام لنا الكرمة الحقيقية التي تُثمر «الحق» والحق كلياً، «أنا هو... الحق» (يو6:14)، فالذي يأكل منه تنفتح عيناه على «الحق» وعلى «الحياة»، فيعرف الحق والله، ويحيا: «فمن يأكلي فهو يحيا بي.» (يو57:6)
وليلاحظ القارىء، أن المسيح في الكلام قدم «أنا هوى» على كلمة «الكرمة». «أنا هو الكرمة الحقيقية»، لكي يقطع خط الرجعة على كل فكر يحاول أذ يفلت من هذه الحقيقة، ليحولها إلى مجرد التأمل، أو التحليق في المثل العليا: «فأنا هو الكرمة» يعني أنه قد أدخل بالفعل والحق والواقع «الكرمة الحقيقية» بكل خصائصها الإلهية، إلى عالم الإنسان الجديد، ليأكل منها بالحق أكلاً حقيقياً، لينشىء في الإنسان ليس فقط معرفة «الحق»، بل والحياة في الحق: «فمن يأكلني فهو يحيا بي»، وليس فقط معرفة الحياة الأبدية مع االله وفي الله بل والثبوت في هذه الحياة: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه.» (يو56:6)
فلينظر القارىء ويتحقق، بل ويتثبت، فهنا في الأصحاح الخامس عشر من إنجيل القديس يوحنا يؤسس المسيح جنة جديدة للانسان، وفي وسطها الكرمة الحقيقية، شجرة الحياة الأبدية, حيث هنا لا يحذر الله من أن لا يأكل منها الإنسان وإلا يموت، بل إن الله يحرضنا، بلسان ابنه، أنه إن لم نأكل منها موتاً نموت!!! «الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم.» (يو56:6)
الكرمة هنا سماوية، حية ومُحيية, وبثرية فى آن واحد، قائمة فى العالم وهي ليست من العالم، بسبب الأغصان، لذلك فقد دخلت تحت عناية الآب مباشرة. الإنسان أصبح على امتداد يد الله، بكل حنو الآب، وصرامة الكرام.
ولكن منذ القديم، والوحي الإلهي يتنقل بين الكرمة وشخص ابن الإسان, وكأنما هما معاً، أو واحد.
+ «يا إله الجنود ارجعن، اطلع من السماء، وانظر وتعهد هذه الكرمة، والغرس الذي غرسته يمينك، والابن الذي اخترته لنفسك ... لتكن يدك على رجل يمينك، وعلى ابن آدم الذي اخترته لنفسك. فلا نرتد عنك. أحينا فندعوا باسمك. يا رب إله الجنود، أرجعنا، أنر بوجهك فنخلص.» (مز14:80-19)
المسيح في هذا الأصحاح يحدد هوية الكرمة الحقيقية، حيث لا يذكر قط إسرائيل؛ ولكنه يعلن، بقوة، ما جاء في المزمور عن «رجل يمين الله» ، «والابن»، «وابن الإنسان» بقوله « أنا هو».
وفي الكرمة الحقيقية، التي هي جسد المسيح السري وأعضاؤه نحن، تتوزع الأعمال بين الآب والابن هكذا: فالابن يحمل في جسده المؤمنين الذي ثبتوا فيه, كأنهم أعضاء له من لحمه وعظامه, يعطيهم من جسده طعاماً ومن دمه شراباً, وهكذا من خلال المفهوم السرائرى, إذ بمد أن حملهم في جسده أعضاء، حمل خطاياهم عنهم غافراً ومسامحاً لكل ذنوبهم، مقدماً إياهم إلى أبيه الكرام.
أما الآب وهو الذي، في القديم، غرسها على الآرض: «كرمة من مصر نقلث, طردت أمماً وغرستها» (مز8:80)؛ فهو في الجديد أيضاً، الغارس في الماء. وبولس الرسول يصف عمل الله الآب في الكنيسة بكل قوة ووضوح هكذا: «كي يعطيكم الله ربنا يسوع المسيح، أبو المجد، روح الحكمة والإعلان في معرفته (معرفة الله الآب), مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاء دعوته (دعوة الله الآب» وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين (ميراث الله الآب)، وما هي عظمة قدرته الفائقة (قدرة الله الآب) نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدة قوته (قوة الله الآب)، الذي عمله (الله الآب) في المسيح إذ أقامه من الأصوات، وأجلسه عن يمينه في السماويات (رجل يمينه)، فوق كل رياسة، وسلطان، وقوة، وسيادة، وكل اسم يُسمى، ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً. وأخضح كل شيء تحت قدميه (قدمي يسوع المسيح)، واياه جعل رأساً فوق كل شيء, للكنيسة (الكرمة) التي هي جسده, ملء الذي يملأ الكل في الكل.» (أف17:1-23)
واضح هنا عمل الله الآب بالنسبة للكنيسة، أي الكرمة. فهو الذي «جعل» المسيح رأساً لها. وهو الأصل والسبب الذي يقف وراء كل ما عمله المسيح من أجلنا. و«من أجلنا» تجيء واضحة كل الوضوح في رسالة أفسس هكذا: «وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين (أعضاء الجسد، أغصان الكرمة)، حسب عمل شدة قوته، الذي عمله في المسيح ... » (أف19:1-20)
إذن، فالله الآب هو الذي أقام الرأس، وثبت الأعضاء حسب عمل شدة قوته في المسيح: «لا يقدر أحد أن يقبل إليّ، إن لم يجتذبه الآب» (يو44:6). لذلك، يجيب المسيح نفسه على هذه الحقيقة بقوله: «كل ما يعطيني الآب فإلي يقبل، ومن يقبل إلي، لا أخرجه خارجاً» (يو37:6)، «الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك، ليتم الكتاب.» (يو12:17)
وقصد المسيح، كابن، هو ألن تثمر الأعضاء، وذلك لكي يقدم أثمارهم للآب، كما قدم هو نفسه للآب: «بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير، فتكونون حقاً تلاميذي.» (يو8:15)
فإذا نظرنا إلى الكرمة (الكنيسة) ككل، فإنا نسمع من القديس بولس أن الله هو الذي يُنميها، بمعنى أنه هو يعتني بها ويسيطر عل كيانها: «إذآ، ليس الغارس شيئاً، ولا الساقي، بل الله الذي ينمي ... فإننا نحن عاملان مع الله، وأنتم فلاحة الله، بناء الله» (1كو7:3-9). ولكن يلزم أن ندرك ان الأب لا يعمل بدون الابن، أي المسيح: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.» (يو4:17)