هنا عمل الكرام في الكرمة هو، بالدرجة الاولى ، مع الأغصان وليس مع المسيح؛ لأن بقية الصفات التركيبية للكرمة خلاف الأغصان، سواء الجذر وما يتبعه من ري ومخصبات، لا وجود لها في تشبيه المسيح لنفسه وللمؤمنين بالكرمة. وأي محاولة اجتهادية لاقتحام مجال التفكير فيها يخرج تشبيه المسيح عن الغرض والهدف والواقع. فالكرمة، فوق كل شيء، ليست نباتاً، والأغصان ليست خشباً وورقاً، والثمر ليس عنباً، وإلا نصبح وكأننا نشرب دم أنفسنا؛ فالكرمة هي جسد المسيح، وجسد المسيح السري هو الكنيسة ، والأغصان هم المؤمنون «من لحمه وعظامه» ، والثمار هي الإيمان والمحبة والشهادة.
فقول المسيح أنه الكرمة الحقيقية هو على مستوى قوله: «أنا هو الطريق». فالمسيح, بتجسده ثم موته ثم قيامته، أؤصل الإنسان بالله. والمسيح، ككرمة, أعطى فرصة للانسان، من خلال التحامنا بجسده الذي فيه ملء اللاهوت, أن يجعلنا في مواجهة الآب وفي متناول يده للتنقية والمزيد من الاثمار.
عملان يقوم بهما «الآب» في صميم حياة الكرمة، فهو ككرام يطلب الثمر، وعلى أساس الثمر يتعامل مع الأغصان. فالغصن الغير مثمر ينزعه، لأنه يعطل نمو الكرمة، وينزل بمستوى الإثمار (أي مجد الله)، والغصن المثمر يعتني به, وينقيه، ليأتي بمزيد من الثمر(أي مزيد من المجد).
* أما النزع أو القطع، فبقدر ما هو كارثة للغصن، إلا أنه نافع وجيد ولائق للكرمة؛ علماً بأن الغصن الغير مثمر لا ينفع فيه التنقية أو التقليم. والأمثلة على هذا الغمن المنزوع من الأصل كثيرة: فأمامنا يهوذا، كيف لما قطعه الله، قطع هو نفسه، ووقع ومات وجف، ولكن ربما كان القطع الأكثر خطورة في حياة الكرمة, أي في حياة الكنيسة، قديمها وجديدها، هو قطع إسرائيل ذاتها، ولو أن الوصف يعطيه بولس الرسول على الزيتونة: «فستقول: قُطعت الآغصان (إسرائيل) لأُطعم أنا، حسناً، من أجل عدم الايمان قُطعت, وأنت بالايمان ثُبت ...» (رو19:11-20)
+ وأما التنقية: فهي غريبة على مفهوم الأغصان والشجر، لأنها تفيد التطهير الروحي, والتطهير يتعامل مع النجاسة والشهوة بكل أصنافها! واضح من ذلك أن المسيح, باستخدامه لفظة التطهير، أراد أن يعطي للكرمة هنا مفهومها الروحي الصافي. أما بالنسبة للغصن» في مفهومه كغصن شجرة: فإذا انشغل بكثرة الأوراق مثلاً فإزالة الزائد منه هو تطهير، الذي يوازي التباهي بالأعمال والجمال والشكل عند المؤمن المسيحي؛ الذي يستحق، إزاء هذا، نوعاً من إختزال شيء من جماله أو قوته: «ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أُعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان، ليلطمني، لئلا أرتفع.» (2كو7:12)
«ليأتي بثمر أكثر»: الله, منذ القديم، يعطي الاعتبار في اقتنائه لشعبه على مستوى الثمر الأكثر، وقد أوضح ذلك مراراً ، وعلى مستوى الكرمة والعنب!! « لأنشدن عن حبيبي نشيد مُحبي الكرمه. كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة، فنقبه, ونقى حجارته، وغرسه كرم سورق (كلمة عبرية = طيب الثمر), وبنى برجاً في وسطه، ونقر فيه أيضاً معصرة، فانتظر أن يصنع عنباً, فصنع عنباً رديئاً, والآن يا سكان أورشليم ورجال يهوذا (هم المقصودون), احكموا بيني وبين كرمي. ماذا يُصنع أيضاً لكرمي وأنا لم أصنعه له؟ لماذا إذ انتظرت أن يصنع عنباً صنع عنباً رديئا؟ فالأن، أعرفكم ماذا أصنع بكرمي, أنزع سياجه، فيصير للرعي، أهدم جدرانه، فيصير للدوس (تخريب أورشليم والهيكل)، وأجعله خراباً لا يُقضب ولا يُنقب، فيطلع شوك وحسك، وأوصي الغيم أن لا يُمطر عليه مطراً.»
فلينتبه القارىء إلى أسلوب المسيح في إنجيل القديس يوحنا, الغصن الحي في الكرمة لا يُترك وشأنه، فكل غصن مُطالب بالثمر، فإما ثمر، فحياة؛ وإما لا ثمر فلا حياة! ليست هناك أنصاف حلول. حتى الثمر القليل مُطالب بأن يصير كثيراً!
هذا الثمر في الكرمة الإلهية الحقيقية ليس كالثمر في كرمة إسرائيل، أي مجرد الإنتظام في أعمال الناموس. فالثمر في العهد الجديد ثمر روحي، وفي إنجيل القديس يوحنا بالذات هو «المحبة»، الثمرة الممجدة التي لها رائحة المسيح الذكية، بحسب بولس الرسول (2كو15:2). وأما بحسب القديس يوحنا الرسول: «كل من يُحب فقد وُلد من الله، ويعرف الله؛ ومن لا يُحب، لم يعرف الله، لأن الله محبة» (1يو7:4-8)، «من يثبت في المحبة، يثبت في الله، واللع فيه» (ايو16:4). وبالنهاية تكون المحبة هي علامة «الحياة»، وغيابها علامة الموت. «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الإخوة» (1يو14:3). «من لا يحب أخاه، يبقى في الموت؛ كل من يبغض أخاه، فهو قاتل نفس.» (ا يو14:3-15)
القديس أغسطينوس يوضح ذلك بقوله: [الغصن يصلح فقط لواحد من اثنين ، إما في الكرمة مثمراً، أو للحريق.]
«اذهبوا وامشوا بين صفوف كرمهم وحطموها... انزعوا أغصانها, لأنهم ليسوا للرب» (إر10:5 حسب الترجمة السبعينية).
ما سبق المسيح وقاله عن الكرمة والكرام والأغصان بصفة عامة, الكنيسة, يعود ويوضحه بصفة خاصة للتلاميذ. فأولاً، أراد أن يوضح لهم أنه هو شخصياً قد أكمل عمله من نحوهم الأن. فالتعليم الذي أعطاهم، على مستوى الكلمة الحية، الفاحصة، والبانية, والمؤنبة، والمعزية، والمستعلنة للحق الإلهي، قد أجزله لهم بكل حكمة، حتى إنهم أصبحوا فعلاً أطهاراً بسبب هذا التعليم . ولا ننسى أنه سمبق أن أعلن لهم ذلك: «الذي قد اغتسل، ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله، وأنتم طاهرون، ولكن ليس كلكم. لأنه عرف مُسلمه» (يو10:13-11). وسنرى فى الآيات القادمة ماذا كاذ ينقص التلاميذ بالفعل. فهم بالرغم من أنهم أنقياء بسبب التعليم، إلا أنه كان ينقصهم الثبات فيه، وهذا ما ركز عليه المسيح كثيراً . وهذا ما ظهر في تفرقهم ساعة المحنة وتركهم المسيح وحده!! مما يكشف عن إرادة غير متتلمذة جيداً للحق آنئذ. فالثبوت في المسيح لا يظهر إلا في ساعة الضيق، في أوقات الخسارة والاضطهاد، في المرض الشديد والألم، في التهديد با لتعذيب أو النقمة. هنا قوة الكلمة في تثبيت الغصن أو العضو, والإرادة الثابتة في إرادة المسيح لا تتزعزع، بل ترتقي إلى سلام داخلي، وهدوء، وصبر بديع!
والملاحظ هنا أن الآب ينقي، والابن ينقي، فهو عمل مشترك؛ الآب ينقي بالتجارب النافعة، والابن ينقي بالكلمة المطهرة.
«أطهار»: كلمة «أطهار» ولو أنها تختص بالروحيات، ولكن العهد القديم استخدمها أيضاً في مواضع مشابهة للكرمة. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى المنبع الذي أشار إليه المسيح في العهد القديم، بصورة سرية غاية في الروعة:
«ومتى دخلتم الأرض، وغرستم كل شجرة للطعام، تحسبون ثمرها غرلتها (أي نجاستها) ثلاث سنين, تكون لكم غلفاء (غير طاهرة) لا يؤكل منها، وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسا لتمجيد الرب، وفي السة الخامسة تأكلون ثمرها لتزيد لكم غلتها، أنا الرب إلهكم.» (لا23:19-25)
ويكاد هذا التشبيه بألفاظه هو الذي قيل في الكرمة: «غرستم», «ثمرها», «لتمجيد الرب», «بهذا يتمجد أن أن تأتوا بثمر كثير» (يو8:15), «لتزيد لكم غلتها» = «يأتي بثمر كثير».
واذا لاحظنا أن المسيح يتكلم هنا في نهاية خدمته على الأرض التي استغرقت بحسب إنجيل يوحنا «ثلاث سنوات» ونصف تقريباً، إذن فمثل الكرمة قيل في السنة الرابعة، حيث أصبحت أغصان الكرمة طاهرة وثمرها قدسأ لتمجيد الرب. وهنا ينطلق أمامنا المجال لمعان أعمق لكلمة «أنتم أطهار». فالأمر لا يختص بالخطايا، شأنهم شأن الشجرة في أرض الميعاد، وقد جازت سنين الإختبار الثلاث. فالآن، ليس ما يمنع أن تصبح إثمارهم قدسأ للرب، بمعنى النضج الكامل الذي يليق بالأب «إذ طهر بالإيمان قلوبهم.» (أع9:15)
ولكن في ختام هذه الآية، نود أن نحتفظ بقول الرب: «أنتم أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به». فكلمة المسيح لها هذه القوة، لها أن تطهر وتقدس، وتحيي، وتلد من جديد!! فهل يمكن أن نسهر لها كل يوم متعلمين ومتتلمذين؟ إن الإنجيل هو سر القداسة!
«أثبتوا»: هذه الكلمة جاءت في أسفار العهد الجديد 112 مرة, منها 66 مرة في إنجيل ورسائل القديس يوحنا وحده: 40 مرة في إنجيله و23 مرة في رسالته الاولى و3 مرات في رسالته الثانية.
وإنجيل القديس يوحنا يستخدم هذا الفعل للتعبير عن الحلول، أو التلازم الغير قابل للتغيير، بنوع من التحصين بين المؤمنين ممثلين في التلاميذ. ويقصد بذلك الحلول الغير متغير، أن يرفع الواقع المسيحي في العبادة والإيمان على ما يدعيه فلاسفة اليونان من خبرات التأمل وبلوغ العقل حالات الإتصال بالنور، التي تكون في أعظم حالاتها وقتية، وإلى لحظات خاطفة. كذلك يفرق بين العبادة المسيحية وبين تلك اليهودية القائمة على حالات حلول الروح وقتياً على الآنبياء، وهذا كان أفخر خبرات إسرائيل.
لذلك يقرر الإنجيل، أولاً وبوضوح، أن الله يثبت في المسيح: «الآب الحال في» هو يعمل الأعمال» (يو10:14).
هنا كلمة «الحال في» تُترجم: « الآب الحال في بثبوت دائم». هذا هو نموذج الحلول الثابت المحصن. ثم يستخدم الإنجيل هذا الثبوت نفسه بنفس الكلمة في حالة ثبوت المؤمنين في المسيح كما المسيح فيهم: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فىّ وأنا فيه» (يو56:6). هنا تطبيق عملي لثبوت الله في المسيح، حيث إذ يتناول المؤمن جسد المسيح ودمه يحل المسيح ويثبت في المؤمنين على مستوى عمل جسده ودمه؛ وعمل الجسد والدم هو: الفداء والتقديس وإعطاء الحياة التي فيهما لتبقى وتدوم في المؤمنين.
وفي الرسالة الاولى للقديس يوحنا يضح التوازي بين ثبوت المسيح في الأب وثبوت المؤمنين في المسيح على المستوى العملي هكذا: «من قال إنه ثابت فيه (في المسيح)، ينبغي أنه كما سلك ذاك (المسيح)، هكذا يسلك هو أيضاً» (ايو6:2)، بمعنى أن المسيح أثبت ثبوته في الآب بطاعته حتى الموت، هكذا يكون ثبوتنا نحن في المسيح. ثم ينتقل القديس يوحنا من الثبوت الشخصي في المسيح إلى الثبوت في «المسحة»، أي نعمة الروح القدس التي نالها المؤمن وقت العماد بدهن الزيت ووضع اليد, ليس من جهة الشكل بل بالفعل، وهو الإستنارة الروحية والإفراز:
«وأما أنتم، فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم, ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد، بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء، وهي حق وليست كذباً؛ كما علمتكم، تثبتون فيه» (1يو27:2).
أما عن قوله: «فهي ثابتة فيكم»، فهذا وعد الله, الحق, من جهة عطاياه, فهي بلا ندامة (رو29:11)، أي أنه يتحتم علينا أن نؤمن، ونثق, ونشكر، معاً، أن مسحة القدوس التي نلناها منه مرة هي ثابتة فينا إلى الأبد, هذا من جهته هو. أما ما تعلمه هذه المسحة لنا، فهو أن نثبت فيه كما هي ثابتة فينا, وهذا حق، ولا يحتاج إلا إلى ثقة الإيمان واليقين بصدق عمل الله.
ثم ينتقل القديس يوحنا من الثبوت في المسحة، إلى الثبوت في عمل المسحة, وهو المحبة: «من يثبت في المحبة, يثبت في اله، والله فيه» (1يو16:4). وهذا هو قمة الثبوت المتبادل على المستوى العملي والواقعي. فالحب الحقيقي من كل القلب والفكر والقدرة موصل إلهي جيد بين الله والإنسان والإنسان والله، حيث يتجلى ثبوت الله بثبوت «الكلمة» (يو38:5, 7:15), وثبوت الحق (2يو2)، وثبوت الحياة (1يو15:3)، وهذه كلها هي علائق الخلاص المشتهى.
لقد أعطى المسيح لنفسه هذا التقبيم أنه هو الكرمة الحقيقية, بقصد واحد, هو أن يحدد موضع التلاميذ أو المؤمنين منه. وهنا يحدد المسيح مدى قوة الوحدة السرية والإلهية التي تربطه بالتلاميذ, والتي تربط التلاميذ به بالتالي. ولكن يعود ويوضح، أن هذا الأتحاد العضوي الوثيق الذي يربط التلاميذ والمؤمنين به, يتوقف على الثبوت، وهنا الشرط القاطع المانع : فإما ثبوثت فإثمار، وإلا فلا إثمار البتة.
«لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته»: الثمر الروحي من إيمان ومحبة وشهادة هو من عمل المسيح، كمنبع، والروح القدس كموصل؛ وهو ليس اجتهاداً من صنع الذات البشرية، وإلا تصير ثماراً مزيفة، لها الشكل والاسم وليى لها الفعل والقوة: «لهم صورة التقوى، ولكنهم منكرون قوتها، فأعرض عن هؤلاء.» (2تى5:3)
وللأسف الشديد، فإن الكثرة في العاملين باسم المسيح فاقدون لهذا الثبوت الداخلي والعضوي، الذي عن طريقه يأخذون بالروح القدس ثمر بر المسيح ويقدمونه كما هو، بل هم يجتهدون من ذواتهم، ويعرضون ثمر فكرهم وتصوراتهم، وهذا كله ينطق بأنه من صنع ذواتهم، إذ يكون فاقداً لقوة تقوى الإيمان والثبوت في المسيح:
«واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في ساردس ... أنا عارف أعمالك أن لك اسماً أنك حي وأنت ميت.. كن ساهراً وشدد ما بقي، الذي هو عتيد أن يموت، لأني لم أجد أعمالك كاملة أمام الله.» (رؤ1:3-2)
« ... إن لم يثبت فى الكرمة, كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فىّ»: المسيح يوعي التلاميذ أن لا يعتمدوا على بر أنفسهم، متكلين على المواظبة على أعمال الناموس وكأنها تجعلهم مثمرين لله. فهذا عهد جديد، لا يقوم على الجهد الإنساني من أي نوع, بل على الاتحاد بالمسيح والثبوت في هذا الاتحاد، حيث يصير المسيح نفسه فينا هو العامل, والمريد أن نشاء وأن نعمل. وبذلك يكون العمل هو عمل الله، لمجد الله. فكل عمل ليس مصدره الله فهو لا يمجد الله، بل يمجد ذواتنا. «إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح, لنتبرر بإيمان يسوع، لا بأعمال الناموس، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما» (غل16:2). والمسيح سبق وأعطى نفسه مثالاً للعمل الذي يكون مصدره الله: «لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل» (يو19:5)، «لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا. وأن تعملوا من أجل المسرة» (في13:2). وهذا صحيح في حالة واحدة، وهي عندما يسلم الإنسان نفسه لتدبير نعمة الله.
وليلاحظ القارىء، أن كل أمر يعطيه المسيح هو وصية، وكل وصية تحمل قوة الوعد الإلهي، لذلك فهي تحمل قوة تنفيذها في الطاعة لها. فلا يرتبك الإنسان قط في أوامر المسيح، فهي بمثابة دعاء يصدره، ومعه بركة وقوة التنفيذ. فهنا المسيح يأمر: «أثبتوا فيّ» وهو المسئول عن قوة الإستمرار والفعل، أي فعل الثبوت، لكل من يطيع من القلب. وحتى الجزء الثاني الذي لا يبدو أن يكون أمراً في شكله، فهو في واقعه أمر: «وأنا فيكم»، حيث يكون المعنى : «وليكن أيضاً ثبوتي فيكم ...» فهو أمر بمعنى «اقبلوا ثبوتي فيكم». وهكذا, فهو أمر يحتاج إلى طاعة، بانفتاح القلب لدخول المسيح للعمل: «بسبب هذا أحني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح الذي منه تُسمى كل ابوة في السموات وعل الأرض، لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدزا بالقوة، بروحه في الإنسان الباطن، ليعمل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:14)
والأن, أيها القارىء العزيز، هل تؤمن بصدق المسيح؟ ثم هل تؤمن بأمانة المسيح في تتميم ما وعدد به؟ ثم هل لك قلب بسيط في الإيمان, لتثق بأن ما وعد الله به, هو يتممه بكل دقة, بحسب غناه في العطاء؟ إذن، فثق أنك ثابت في المسيح، والمسيح ثابت فيك، وعليك أن تعمل بحسب مشورته، معتمداً على صدق مواعيده.
ولكن اعلم أيها القارىء العزيزه أن الإنسان المسيحي ليس مختاراً أن يثبت في المسيح أو لا يثبت، لأن في الأية (6) القادمة تحذين مريع لدينونة، نحن لسنا قادرين أن نحمل عقوبتها على الإطلاق؛ فهو يقول: «إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً, كالغصن, فيجف ويجمعونه، ويطرحونه في النار فيحترق.» (يو6:15)
ولكن في مقابل هذا التحذير بهذا المصير، يوجد تشجيع ما بعده تشجيع، حينما يثق الإنسان بصدق وعد المسيح, ويطرح نفه أمامه متوسلاً أن يكون غصناً مثمراً، أو عضواً لائقاً بجسد المسيح، فإنه يٌسمع له فوراً، ويعطيه الرب قوة إضافية ترفعه فوق ضعفه, فوق موته، فوق كل الظروف المعاكسة، لينال من الرب تحقيق وعده. وهذا يقدمه المسيح في الأية (7) القادمة: «إن ثبتم في، وثبت كلامي فيكم, تطلبون ما تريدون، فيكون لكم». ونحن لا نطلب إلا دوام الثبوت، بقوة من عنده.
ولكن عودة على ذي بدء: «أنتم أطهار من أجل الكلام (الصحيح هو الكلمة) الذي كلمتكم به». إذن، فكلمة المسيح (اللوغس) هي الصلة العظمى والأقوى للثبوت في الرب، ولحلوله في القلب. وشهادة الضمير والنمو والإثمار هي علامة.
الرب يشير إشارة مباشرة إلى العلاقة العضوية، حيث يوضح أنه الآن مصدر الحياة الحقيقية بالنسبة لهم، فالكرمة الحقيقية لا بد وأن تعطي أغصاناً حقيقية. الإشارة هنا إلى بلوغ منتهى قصد الله من الإنسان, إذ أصبح يستمد الحياة الحقيقية بصفة ثابتة من المنبع الإلهي.
هذا شرح توقيعي على الآية الثالثة في المقدمة: «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يو3:1)، حيث يدين الإنسان بكل وجودء وكيانه وحياته ونور بصيرته لله. وهنا يقدم المسيح تفسير ذلك على المستوى العملي كيف يكون!! كيف يعتمد الإنسان بإرادته على الله، ليستمد كيانه وحياته، ويحقق تدبير الله منذ «البدء» فيما يخص العلاقة الوثيقة بينه وبين الخالق. والمسيح يكشف السر عن طريقة تطهير الإنسان مما لوثه العالم فيه؛ فالكلمة حينما تخاطب القلب والضمير، فهي بعينها الكلمة التي خلقت, فإن كانت لها القدرة أن تخلق, فإن لها القدرة أن تصحح وتعيد إلى الأصل وتغذي بالحق. بل ولا تزال هي هي الكلمة التي تزرع كل يوم أعضاء جدداً في الكرمة الممتدة, ليس نحو البحر كالسابق، بل نحو السماء؛ وهي تغسل وتطهر كنيسة برمتها عبر الدهور، والكل يسير وينمو حسب قصد خالقها: «... صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس، المسيح.» (أف15:4). كل ذلك على أساس مفصل الحياة الذي يربط الخشب في الكرمة بالحياة، ليستمد عصير الحق والنور والحب.
«الذي يثبت في وأنا فيه, هذا يأتي بثمر كثير»: الخشب في الفرع لا يقيم بحسب طبيعته إلا بالنار، ولكن الفرع الثابت في الكرمة يُقيم بالثمر، قيمة الغصن تكمن في الثمر، وبالثمر يُقيم كل غصن لدى الكرام، وبالصبر وطول الأناة ودوران الشتاء بتجاربه ومجيء الصيف بخيراته, يزداد الفرع ثبوتاً ويزداد إثماراً, طالما كان مفصل الحياة, الكلمة, سليماً عاملاً ... الفروع المثمرة هي غنى الحياة المسيحية، وكرامة متزايدة للكرمة، ومجد للكرام! لذلك فالغصن صاحب الثمر الكثير، هو موضع مسرة للكرمة لمزيد من العطاء والغذاء، وهو مجد للكرام يأخذ منه ويوزع بالأحضان.
والمهم أيها القارىء العزيز، لا أن نفهم ماذا يعنيه الثمر الكثير وما هي أنواعه، فهي بالصدق متعددة جداً، وتكاد لا تكون ثمار كل مؤمن في السيح مثل ما للآخر, ولكن المهم جداً أن نفهم هذا الكلام على أنه وعد, وعد يضمنه المسيح، لأنه هو الذي سيعطي الثمر. فالمطلوب أن نصدق الوعد، ونتقدم بثقة الإيمان، لندخل في عهد الثبوت بلا تردد، غير حاسبين تكاليفه، والرب متكفل بها، وغير ناظرين إلى ضعفنا، فالضعيف إذا ثبت في الكرمة لا يعود يحُسب ضعيفا, فالثمر هو من سخاء الكرمة وليس من صنع الغصن، علمأ بأن الثبوت متبادل. فحلول المسيح في الضعيف، أي قوة يعطى؟
«لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً»: هذا يعني أن كل ما نفعله بدون المسيح ليس شيئاً؛ هو محسوب ضمن خشب الغصن، وليس له قيمة في حساب الكرمة. أعمالاً كثيرة جداً نعملها من ذواتنا ولإرضاء نزواتنا، وكلها ليست مدرجة في حساب الكرمة، بل هي العدم, عين العدم. مع أننا لو أخضعنا ذواتنا للمسيح، لعمل بنا المسيح أعمالاً يتمجد بها الآب, ولحسبت في حساب الحياة الأبدية. هكذا قال الإنجيل بالروح: كل شيء به كان, وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يو3:1), فالذي عمله «الكلمة» المسيح «كان»، وصار هو الحياة، والذي لم يعمله المسيح ظل هو العدم. لذلك، كل من ينفصل عن المسيح، يصير هو العدم بالضرورة، حيث لا ثمر البتة, لا قليل ولا كثير !! وكل من اتحد وثبت في المسيح صار«كل شيء».
«أن تفعلوا شيئاً»: هذا «الفعل» يقصد به المسيح العمل الروحي، الذي يدخل ضمن تدبير الآب السماوي. فالتلاميذ هم الذين أسس بهم ملكوته, أي الكنيسة على الأرض، التي وضع عليها أن تكمل عمل المسيح في العالم عبر الأجيال والدهور، وكان لكل تلميذ عمل ورسالة, وهكذا كانوا بكور ثمر الكرمة التي ملأت العالم. والأن، لا تزال الكرمة تعمل، وتثمر، وتجدد أغصانها. ولا يزال يقاس كل غصن بقياس الثمر الذي يعطيه لحساب الملكوت، ويقاس الثمر بقياس مقدار الثبوت في المسيح والتأصل فيه. وحساب الكرمة يحسب بحساب الثمر، والأغصان تقيم بتأصلها في المسيح. فالكرمة، أي الكنيسة، هي كرمة ثمر، وليست مجرد أغصان ولا مجرد أوراق. فحبة الحنطة وقعت وماتت، لتعطي ثمراً كثيراً. فالمسيح, إن كان كرمة، فهو يطلب ثمراً؛ وإن كان حبة حنطة، فهو يطلب ثمراً. وهكذا، فهو بحياتنا يطلب ثمراً كأغصان؛ وبموتنا، يطلب ثمراُ كحنطة في سنابل, ثلاثين وستين ومائة.
عدم الثبوت في الكرمة يعني الانفصال حتمياً، لأن الغصن كيف يعيش؟ وعلى ماذا يعيش؟ فالكرمة تسنده حتى لا يسقط, وتغذيه حتى لا يموت. المسيحي إذا ابتعد عن المسيح، وبالأخص الذي يدعي أنه غصن وله ثمر، فإنه يتعرى من سر البقاء في الروح وسر القيام في النعمة، فتجفت الكلمة من فمه, ويذبل.
«يُطرح خارجاً»: اللفظ اليوناني يوضح، مثل العربي، أن الطرح في الخارج ليس فقط يعني الانفصال من الكرمة، بل والخروج من دائرة الكرمة، حيث الكرمة هنا تعني بستان الكرمة بأكمله، وهذه إشارة بليغة إلى الكنيسة. فالمسيحي الذي ارتأى أن يعيش بإمكانياته ومعرفته ومواهبه وحذقه الذاتي, غير المستمدة من سر الكرمة ككل، فإنه لا يُحسب من الكرمة في شيء. فجسد المسيح السري يحمل أغصاناً ثابتة ثبوتاً, تشهد عليه ثمارها التي تغلها لحساب الكرام في حينها الحسن.
«ويجمعونه ويطرحونه»: في الأصل اليوناني يأتي الفعلان بالجمع «يجمعونهم ويطرحونهم», بمعنى: كل الذين تعاهدوا مع روح الضلال ليستقلوا بذواتهم، ويستغنوا عن مصدر حياتهم وخلاصهم الأبدي (مت41:21) وهذه إشارة خطيرة لانحراف المؤمنين آخر الزمان والذي سيكون بالجملة, ولهذا المنظر نبوة سبقت بفم حزقيال النبي لتصف هذا العمل على الواقع: «لذلك قل لبيت إسرائيل، هكذا قال السيد الرب... كل إنسان من بيت إسرائيل أو من الغرباء المتغربين في إسرائيل, إذا ارتد عني، وأصعد أصنامه (أخطر الأصنام هي الذات) إلى قلبه، ووضع معثرة إثمه تلقاء وجهه (انشغل بذاته)، ثم جاء إلى النبي ليسأله عنى, فإنى أنا الرب أجيبه بنفسي، وأجعل وجهي ضد ذلك الإنسان، وأجعله آية ومثلاً، واستأصله من وسط شبي. فتعلمون أني أنا الرب.» (حز6:14-8)
الإشارة هنا واضحة نحو المؤمنين الذين تأصلوا في المسيح: معمودية، وإماناً، وإعلاناً، واسماً؛ ولكنهم إما لم يأتوا ثماراً بالمرة، أو كانوا قد اتوا بثمار ثم انحصروا في ذواتهم، وكفوا عن الإثمار الحقيقي, واكتفوا بجمال الأوراق, وهي المواهب الطبيعية. هنا انفصال الأغصان أو المؤمنين سري، لأن لا أحد يلمح انفصالهم ظاهرياً, ولكن الكرام وحده هو الذي يعرف الثمار وصنفها, ويعرف من أين انحصرت العصارة عن أن يتغذي الفرع بالغذاء الملكي الذي يتحول إلى ثمار. وكيف استغل الفرع عصارة الكرمة، ليحولها إلى أوراق دون ثمر.
«يطرحونهم فى النار, فيحترقون »: لا تزال نبوه حزقيال منبعاً خصباً لهذا المنظر:
+ «يا ابن آدم ماذا يكون؟ هل عود الكرم (خشب) فوق كل عود (خشب) أو فوق القضيب الذي من شجر الوعر (الغابة)؟ هل يؤخذ منه عود (خشب) لاصطناع عمل ما؟ أو يأخذون منه وتداً ليعلق عليه إناء ما؟ (طبعأ خشب العنب لا يصلح أبداً). وهوذا يُطر للنار. تأكل النار طرفيه، ويُحرق وسطه, فهل يصلح لعمل؟ هوذا حين كان صحيحاً، لم يكن يصلح لعمل ما. فكم بالحري لا يصلح بعد لعمل إذ أكلته النار فاحترق؟ لذلك، هكذا قال السيد الرب، مثل عود الكرم بين عيدان الوعر (الغابة) التي بذلتها أكلاً للنار, كذلك أبذل سكان أورشليم.» (حز2:15-6)
وهكذا، أيها القارىء العزيزه يكرر الرب الإله نفس القول، لا لسكان أورشليم، بل لأهل بيته، لأعضاء جسده، الذين دفح دمه الثمين ثمناً لإثمارهم لحساب الآب صاحب الكرم, مثل شجرة التين التي حملت ورقاً دون ثمر، فلعنها المسيح (مت18:21, مر12:11-14)، تشبيهاً للذين حولوا نعمة الله والروح إلى مظاهر جسدية ومجد دنيوي. فالثمر الصادق والثبوت الصادق هو طلب الرب قديماً وجديداً, والإلتصاق بالرب من عدمه هو أيضاً طلب الرب قديماً وجديداً. أما العقاب بالنار، فهو صادق منتهى الصدق، حتى لو قسناه على آخر ما وصل إليه علم الذرة والطاقة. فآخر صورة للمادة قبل أن تخلي مكانها في عالم الوجود الظاهري هي النار!!! ولا ينبغي أن نأخذ النار في عقاب الله بالصورة المادية, ولكنها تعبير عن غضب الله كما عرفها الله مرة في سفر التثنية بمنتهى الوضوح هكذا: «إنه قد اشتعلت نار بغضبي, فتتقد إلى الهاوية السفلى، وتأكل الأرض وغلتها، وتحرق أسس الجبال.» (تث22:32)
وآخر صورة يقدمها المسيح لنا, وهي كفيلة بأن توقظ كل ضمير مهما غاب عنه التعقل كل أيام حياته، قول الرب في إنجيل القديس متى: «وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية» (مت12:8), أو باختصار، كما قالها ألقديس أغسطينوس: [ إما في الكرمة أو في النار]
هذا وعد مقدس ثابت كثبوت السماء من فوق والأرض من تحت؛ كحقيقة لا تحتاج إلا إلى تصديق وعد الله تصديقاً بسيطاً، كتصديق الطفل لوعد أبيه. هذا نطق الله بالحق, يلزم أن نختبره، بل يلزم أذ نحققه ونعيشه، أولاً بالثبوت القلبي وليس الثبوت بالفكر. والثبوت القلبي ينتشر في كل أعضاء الجسم والنفس والروح، فيخضع الكل بقتضى صدق الوعد، لأن الله «قال فكان» (مز9:33). نعم ويتحتم أن يكون!
وليلاحظ القارىء هنا، أنه لا يقول كما في الآية (4): «وأنا فيكم»، بل: «ويثبت كلامي فيكم». هنا ثبوت «كلام المسيح» يعني ما قلناه من قبل، أي تصديق وعد المسيح في هذه الكلمات، بكل ما أوتينا من إرادة وفكر وقلب. أي أن ثبوت كلام المسيح فينا، يصير جزءاً من كياننا الذي نعيش به؛ حيث تصير الأذن ماهرة في سماع صوت المسيح من خلال الكلمات، أي تفرز «اللوغس» من جملة الكلام. «لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولى (وصحتها كلمتي)» (43:8)
القلب الصالح, صاحب الكنز الصالح, يعرف نبرة صوت المسيح, ويستخلصها من كل أصناف الأحاديث. فالمسيح يخاطبنا من وسط كل أحداث اليوم, ومن خلال كل ما نسمع, من جيد ورديء!!!
«تطلبون ما تريدون فيكون لكم»: واضح هنا أن الطلب سيكون حتماً من واقع كلام المسيح، سيكون صدى لإرادته. لأن كلام المسيح يصبح مادة نصنع منها كل ما نريده ونشتهيه، وخارجاً عن كلام المسيح لا نريد ولا نشتهي, والا نكون غير ثابتين في كلام المسيح حسب الوعد. هذا بالإضافة إلى أن الذي يثبت في المسيح والمسيح فيه, لا يعود يطلب شيئاً في المستقبل، لأنه لا يخشى المستقبل، بل هو محصور في حاضر الملكوت، ولا يتمنى ولا يشتهي إلا أن يبقى في ملكوته: «اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم» (لو31:12). والذي ذاق هذا الكلام، يفهم كيف يطلب، وماذا يطلب، وكيف يستجاب إلى ما يطلب، بل ويفهم لماذا وعد المسيح وعداً ثابتاً وحيداً أنه لا بد يستجيب، لأن طلباتنا حينئذ تهمه، بل تكون موضع مسرته، لأنها تكمل عمله!!!
«ما تريدون»: وتعني الحرية المطلقة في الإرادة، وهي ليست مجازفة من المسيح، لأنه يعلم أن الذين ثبت فيهم كلامه وثبتوا فيه, تصبح إرادتهم الحرة حسب حرية البنين لا العبيد، والابن يطلب ما يسر الأب، لأن مشيئة الابن هى نفسها مشيئة الآب، وهي مشيئة صالحة.
يشرح القديس يوحنا مستوى هذه الحرية وسببها: «أيها الأحباء، إن لم تلمنا قلوبنا، فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه، لأننا نحفظ وصاياه، ونعمل الأعمال المرضية أمامه» (ايو21:3-22)
«فيكون لكم»: باللغة اليونانية تعني «يُصنع لكم» أو «يُعمل لكم». وكأن الطلبة ذات فمل تنفيذي. والسر هنا كائن في تماثل الإرادة والمسرة عند الطالب وعند المنفذ. بل يتمادى بولس الرسول، بصفته الغصن الممتاز الذي ضرب القياس المعلى في الأكثار والثبوت، فيقول: «والقادر أن يفعل فوق كل شيء، أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر»، وهو «سر القوة التي تعمل فينا», وهى سر «القوة التي تعمل فينا»، وهي قوة مسرة ومحبة الله الأب التي يستودعها أولاده الذين أحبهم، لأنهم أحبوا ابنه يسوع المسيح.
فإذا نظرنا إلى الأغصان ككل، أي الكنيسة، فإنه بحسب قوة الله التي فيها من الداخل تكون قوتها من الخارج، وقوة الله العاملة في الكنيسة من الداخل، هي نتيجة ثبوت دائم في كلام المسيح، والتمسك به إلى المنتهى.
هذه الآية تحوي من الدسم السماوي ما يُشبع الروح. والمعنى عميق.
«بهذا», بأي شيء؟ هذا الحرف البسيط يجر كل ما سبق. أي أنه بثبوتكم في، ثم بثبوتكم في كلامي، وبالتالي ثبوتي فيكم, الذي ينشىء بالضرورة استجابة صلواتكم وطلباتكم, كونها تتفق وإرادة الأب السماوي، هذا كله هو ما يجره وراءه هذا الحرف «بهذا», ثم يلحمه فيما هو آت من الكلام: «أن تاتوا بثمر كثير» كنتيجة مباشرة لاستجابة الصلاة. ثم يضع المسيح الخاتمة التي تكشف سر الكلام بأكمله: «فتكونون تلاميذي», بمعنى أن الثمر الكثير الذي سيتحصل من طلباتكم ، هو هو نفس الثمر الذي ماتت حبة الحنطة لتأتي به: «ولكن إن ماتت، تأتي بثمركثير.» (يو24:12)
وهنا يكشف في الحال أن عمل التلاميذ أو المؤمين على ممر الدهور هو تكميل لعمل المسيح، وبالتالى: «تكونون تلاميذي»؛ «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم.» (مت19:28)
هنا يتضح المعنى المتسع للتلمذة للمسيح. فالمسيحية تلمذة، الإيمان تسليم، والثمر هو برهان صدق التلميذ الذي حل النير والرسالة. الكرمة كلها فروع مثمرة، الكنيسة كلها تسبح بفم واحد، وتعطي الكرامة والسجود والمجد الدائم لمن أحبها وفداها بدم ابنه الحبيب.
«يتمجد أبي»: نعم، إن كان ثبوتنا في المسيح وثبوت المسيح بالتالي فينا ينشىء ثماراً على مستوى التلمذة للمسيح، أي لخدمة الملكوت واستعلانه، وربح النفوس لحسابه, الذي هو منتهى الثمر وأفخره، فهذا حتماً وبالضرورة يمجد الآب السماوي ويفرح قلب المسيح: «نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس» (ابط9:1)، «لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السموات.» (16:5)
والأن, نلخص الكلام، ليظهر منه قانون العلاقة التي تربطنا بالمسيح والآب السماوي. فعلاقتنا الوثيقة بالمسيح والإنجيل وتمسكنا الشديد بمواعيده تجعلنا نثمر. وإثمارنا على مستوى المسيح، هو أساس علاقتنا بالآب السماوي، وهذا هو غاية إيماننا وحياتنا.
ولكي تبقى «كلمة السر» في كل هذه الآيات، وهي الثبوت, فليتنا نلقي عليها نظرة أخيرة: ان نثبت في المسيح, هر أن يصير المسيح حقيقة حياتنا التي نعش فيهاه بل نعيش من أجلها، بل نعيشها. أن يثبت كلام المسيح فينا، هو أن يصير كلام المسيح، كل كلام المسيح، حقيقة نأخذها كما هي، نصدقها كما هي, نعيشها كما هي، آية آية، كلمة كلمة, وعداً بوعد.
هنا شر التحام الغصن في الكرمة. هنا الكشف عن مادة العصير التي تغذي الغصن وتنميه، هنا داعي الثبوت وقيمته. فالثبوت ممتد من الآب، وراجع إلى الآب من الابن، هنا النموذج الإلهي الأعظم الذي ينبثق منه المثيل, الغصن: «أنا الكرمة وأبي الكرام». سر الغصن الملتحم في الكرمة ممتد, ومنبثق من سر الكرمة الملتحمة بالآب. الآب يحب الابن، والحب سر الوحدة أو الوحدانية القائمة بالآب والابن. حب المسيح لنا هو سر الالتحام، سر الوحدة، التي جاء الابن ليؤسسها مع بني الانسان لحساب الله: «أنا فيهم، وأنت في، ليكونوا مكملين إلى واحد» (يو23:17). هكذا صار الغصن في متناول الكرام العظيم المخوف غير المنظور، هكذا صرنا تحت تهذيب وتنقية الآب، وبذلك قربنا هو إليه، ورفعنا إلى مستوى البنين, بل الأحباء: «لكني قد سميتكم أحباء، لأني اعلمتكم بكل ما سمعته (العصارة) من أبي.» (يو15:15)
لا ينبغي هنا أن نخطى، فنفهم كلمة «أعلمتكم» أنها تهذيب فكر أو زيادة معرفة, بل هي توصيل أسرار الآب التي يعيشها الابن. معرفة الآب ليست ثقافة فكرية ولا فهماً لاهوتياً, بل هي أخذ، هي قبول, هي امتلاك، «اقبلوا الروح القدس» (يو22:20)، فهي معرفة على مستوى التعرف على الله أبينا وأبي ربنا يسوع المسيح. والذي يتعرف على أبيه الجديد (الابن الضال حينما عاد) يتعرف عليه بالأحضان وليس على مستوى الفكر اللاهوتي على بعد!! وحب الآب للابن أعطاه المسيح لنا: « ... ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به, واكون أنا فيهم» (يو26:17). محبة المسيح والآب هنا هي محبة فائقة على المعرفة الطبيعية التي للانسان, لا يستطيع العقل أن يبلغ مداها أو يحيط بها, هو يعيش فيها فقط ويتنعم، ولكن لا يفلسفها بالفكر أو بتعظم: «وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة, لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف19:3). معرفة المحبة بالوعي المسيحي العالي تملأ الإنسان بلا كيل، تملأه بملء أسرار الابوة الحانية المترفقة, فلا نصير بعد غرباء عن الله: «لأن به لنا كلينا (اليهود المتنصرين والأمم ), قدوما، في روح واحد، إل الآب. فلستم، إذاً بعد غرباء ونزلاء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله.» (أف18:2-19)
«كما أحبني الآب, كذلك أحببتكم أنا»: المسيح يوضح نوع ومستوى المحبة التي أحبنا بها، فهي محبة آب لابن. المسيح تبنانا بالحب لحساب أبيه، ليضمنا معه في بنوته الرفيعة القدر والمجد: «انظروا أية محبة أعطانا الآب، حتى نُدعى أولاد الله» (ايو1:3). الآن, ولو أننا أولاد الله بالحق، ولكن لا نستطيع أن نرى أنفسنا على مستوى هذه البنوة العالية، بسبب نقص الرؤية، وبسبب أعمال العبيد التي لا زلنا مرتبكين فيها: «أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون, ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله, لأننا سنراه كما هو.» (ايو2:3)
ولكن حينما ينتهي دهر هذا العالم، سواء بالانتقال أو بالنهاية الأخيرة، ويُستعلن المسيح، حينئذ سنراه كما هو، كما عرفناه تماما, الابن الوحيد في حضن الأب. ولكن العجب أننا سنستعلن أنفسنا في نوره, فنرى أنفسنا فيه في نفس بنوته: «نكون مثله»، ملتحفين بها كامتياز بالنعمة، التي تقيمنا أمام الآب بلا لوم في نفس هذه المحبة.
«أثبتوا في محبتي»: لقد حق له أن يشجعنا ويلح في دعوته، فالثمن الذي ندفعه ثمناً لثبوتنا لا يمكن أن يتوازى مع الغاية والنهاية التي تكلمنا عنها. أن نثبت في محبة المسيح، فهذا يعني أن نصير أحباء، نصير أبناء، نتحد معه، نرث من مخصصاته كابن الله، نصير محبوبين لدى الآب, نتراءى أمام اللهه في ظل محبته, بل في نورها، كأبناء ولا نعود ندعى عبيداً، وينتهي منا زمن الحزن والكأبة والتنهد, وتبطل عداوة العالم الذي يغرينا بأباطيله، ليحرمنا من حقنا وحياتنا الأبدية.
أن نثبت في محبة المسيح، فهذا لا يزيد عن كوننا نصدق دعوته هذه ونقبلها في داخل أنفسنا، ونتبادل معها حباً بحب، وهي هي نفسها التي تزيدنا ثبوتاً فيه. فوصية المسيح تحمل قوتها سرا في داخلها، والذي ينقذها يكتشف أن الوصية تحمل سر تنفيذها، وتكشف معناها للجاهل أكثر مما تكشفه للعالم, وللطفل الذي يتهجى الكلمات أعظم من الفيلسوف صاحب الاسم والدرجات. فوصية المسيح تؤخذ ولا تُدرس, وتُقبل ولا تُفحص, فإذا أُخذت وقُبلت كما هي, فهي تكشف أعماقها لصاحبها وتشرح أسرارها لمنفذها.
والذي يشرح الوصية ويفسر معناها، دون أن يختبرها أو ينفذها، فهو كمن يصور الماء على الحائط للعطشان، ويقول إن هذا هو الماء؛ هذا يقوله القديس مار إسحق.
إذاً حق للمسيح أن يٌلح علينا أن نثبت في محبته؛ فهذا هو الباب، وهذا هو الطريق.
«إِنْ حَفِظْتُمْ»: الكلمة اليونانية تحمل معنى أكثر من الحفظ. فهي تعني الملاحظة الشديدة الدقيقة، وتعني السهر الدائم على الشيء، والحراسة الدائمة، والاعتناء والانتباه نحو الشيء.
وهل يمكن أن يتم هذا الاهتمام بالوصية بهذا القدر، إذا لم تدخل حيز التفيذ الفعلي؟ الأمر هنا يتعدى محيط الفهم، والاستذكار، والهذيذ، والتأمل؛ ليدخل دائرة الفعل الجاد المتشبث بالوعد.
المسيح يعطي نموذجاً للفهم الصحيح لكلمة «حفظ» بما أجراه هو بنفسه من جهة «وصايا أبي». فما هي «وصايا» الأب التي أعطاها له الآب والتي حفظها الابن؟
عندنا صورة طبق الأصل من هذه الوصايا جميعها، محفوظة في محفوظات دار النبوة، في خزانة العهد القديم. نقدم للقارىء صورة منها للحفظ والوعي.
أولا: تسلم إشعياء النبي صورة من هذه الوصايا حوالى سنة 700 ق. م. ليعلنها مسبقاً، وهي التي كان قد تسلمها الابن من الآب منذ الأزل وقد جاء في هذه الوصايا:
1- أن يأخذ الابن منظر الإنسانية التي فسدت وصورة الإنسان على مستوق بني آدم، بلا صورة حسنة ولا جمال إطلاقاً: «اكان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم» (إش14:52). ليس في الشكل طبعاً ولكن في التنازلات بالكرامة. «لا صورة له ولا جمال، فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه.» (إش2:53)
2- أن يحتمل الابن احتقار الناس وخذلانهم له، واتهاماتهم الموجعة، ويختبر الأحزان المرة، وأن لا يهتم الناس برؤيته, ولا يعتد به أحد من الناس: «محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا, مُحتقر فلم نعتد به.» (إش3:53)
3- يضربه الناس، ويُذل ويُجرح ويُسحق ويُؤدب (بالسياط) ويسيل دمه. دون أن يكون مستحقاً لشيء من هذا: «لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مُصاباً, مضروباً من الله ومذلولاً, وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شُفينا.» (إش4:53-5)
4- يتحمل الابن إثم جميع بني البشر, ويُظلم, ويتذلل لظالميه, ولا يحتج أو يفتح فمه، إلى أن يوارى في القبر: «الرب وضع عليه إثم جميعنا. ظٌلم، أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه ... من الضغطة ومن الدينونة (المحكمة) أخذ, وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء: [«يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت, وصلبوه, ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك» (لو19:24-21)] ... وجُعل مع الأشرار قبره.» (إش6:53-9)
وختم إشعياء النبي على صدق هذه الصورة التى تسلمها بالروح بالوحي، الى هى نص الوصايا التى أعطاها الآب للابن، وقبل الابن تنفيذها، حفظها حفظاً، وعاش لتنفيذها، ومات لتكميلها: «قد آٌكمل.» (يو30:19)
ثانيا: وقد كشف الله عن عيني عقل بولس الرسول، ليرى شخصية المسيح على حقيقته قبل التجسد وبعده، أى بعدما أطاع وصايا الآب, ونفذها بالحرف الواحد هكذا: «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً (أي «إن حفظتم وصاياي ... كما حفظت أنا وصايا أبي»)، الذي إذ كان في صورة اللع لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس, وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت, موت الصليب.» (في5:2-8)
هنا بولس الرسول يطلب أن يكون لنا فكر المسيح من جهة حفظ وصايا الآب عملياً. وبولس الرسول نفسه حفظ وصايا المسيح بجدارة، لا عن ظهر قلب بل على ظهره، 40 جلدة إلا واحدة خمس مرات وتحت حد السيف: «في الأتعاب أكثر، في الضربات أوفر، في السجون أكثر، في الميتات مراراً كثيرة، من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضُربت بالعصي. مرة رُجمت. ثلاث مرات انكسرت بي السفينة، ليلاً ونهاراً قضيت في العمق (أي عمق البحر)، بأسفار مراراً كثيرة, بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الأمم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية, بأخطار في البحر، بأخطار من إخوة كذبة.» (2كو23:11-26)
ولكن ليس كل تلميذ ولا كل رسول كان مثل بولس، لأنه هو نفسه يقول مقارناً نفسه بجميع الرسل هكذا: أهم خدام المسيح؟ أقول كمختل العقل، فأنا أفضل, في الأتعاب أكثر.» (2كو23:11)
وبذلك يقدم لنا الإنجيل, في بولس الرسول، نموذجا أعلى للغصن الذي ثبت في المسيح، وحفظ وصاياه, تحت أسوأ ظروف قابلها رسول أو أي مؤمن أخر، حيث يظهر حفظه وتمسكه بوصايا المسيح متعادلاً مع «الثمر الكثير» الذي مجد به الآب. وبولس الرسول، في النهاية، يوضح هذه المعادلة بقوله: «وقت إنحلالى قد حضر, قد جاهدت الجهاد الحسن, أكملت السعي، حفظت الإيمان, وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي، في ذلك اليوم، الرب الديان العادل. وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً.» (2تي6:4-8)
هكذا، وعلى هذا القياس، يدعونا المسيح أن نكون مثله، وأن لا نستثقل وصاياه، لأنه كما قلنا نقول أيضاً، إن وصية المسيح تحمل قوة تنفيذها في طاعتها، كما أن وصيته تؤخذ ولا تُفحص، وهي هي نفسها تحمل لحسابنا الثمر المتكاثر الذي يمجد الآب.
«إن حفظتم وصاياي, تثبتون في محبتي»: علاقة حفظ الوصية بالثبوت في محبة المسيح، هي أن الثانية نتيجة حتمية للأولى، أي أننا إن كنا نريد أن نثبت في محبة الله ثبوتاً مستمراً ودائماً لا ينقطع، فلتكن الوصية بين عينينا، نحفظها كمقلة العين. ولا يمكن شرح ذلك شرحاً نظرياً, وإلا نكذب، فسر المحبة كائن وكامن في طاعة الوصية، كيف يكون ذلك؟ هدا يعرفه من ينقذ الوصية. الأمر يختص بخبرة عملية وليس فكرة نظرية، لأننا بصدد «سر المحبة» التي تفوق العقل والمعقول. اسمع هذا التقرير من فم المسيح: «الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتموني» (يو27:16). فمن ذا الذى يستطيع أن يصف محبة الآب، أو يشرح ما هيتها؟ هى سر مطلق داخل سر محبة الابن, ومحبة الابن فى متناول يدنا، لأن الوصية هى المفتاح الذهبى لهذا الكنز السمائى.
«إِنْ حَفِظْتُمْ»: الكلمة اليونانية تحمل معنى أكثر من الحفظ. فهي تعني الملاحظة الشديدة الدقيقة، وتعني السهر الدائم على الشيء، والحراسة الدائمة، والاعتناء والانتباه نحو الشيء.
وهل يمكن أن يتم هذا الاهتمام بالوصية بهذا القدر، إذا لم تدخل حيز التفيذ الفعلي؟ الأمر هنا يتعدى محيط الفهم، والاستذكار، والهذيذ، والتأمل؛ ليدخل دائرة الفعل الجاد المتشبث بالوعد.
المسيح يعطي نموذجاً للفهم الصحيح لكلمة «حفظ» بما أجراه هو بنفسه من جهة «وصايا أبي». فما هي «وصايا» الأب التي أعطاها له الآب والتي حفظها الابن؟
عندنا صورة طبق الأصل من هذه الوصايا جميعها، محفوظة في محفوظات دار النبوة، في خزانة العهد القديم. نقدم للقارىء صورة منها للحفظ والوعي.
أولا: تسلم إشعياء النبي صورة من هذه الوصايا حوالى سنة 700 ق. م. ليعلنها مسبقاً، وهي التي كان قد تسلمها الابن من الآب منذ الأزل وقد جاء في هذه الوصايا:
1- أن يأخذ الابن منظر الإنسانية التي فسدت وصورة الإنسان على مستوق بني آدم، بلا صورة حسنة ولا جمال إطلاقاً: «اكان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم» (إش14:52). ليس في الشكل طبعاً ولكن في التنازلات بالكرامة. «لا صورة له ولا جمال، فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه.» (إش2:53)
2- أن يحتمل الابن احتقار الناس وخذلانهم له، واتهاماتهم الموجعة، ويختبر الأحزان المرة، وأن لا يهتم الناس برؤيته, ولا يعتد به أحد من الناس: «محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا, مُحتقر فلم نعتد به.» (إش3:53)
3- يضربه الناس، ويُذل ويُجرح ويُسحق ويُؤدب (بالسياط) ويسيل دمه. دون أن يكون مستحقاً لشيء من هذا: «لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مُصاباً, مضروباً من الله ومذلولاً, وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شُفينا.» (إش4:53-5)
4- يتحمل الابن إثم جميع بني البشر, ويُظلم, ويتذلل لظالميه, ولا يحتج أو يفتح فمه، إلى أن يوارى في القبر: «الرب وضع عليه إثم جميعنا. ظٌلم، أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه ... من الضغطة ومن الدينونة (المحكمة) أخذ, وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء: [«يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت, وصلبوه, ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك» (لو19:24-21)] ... وجُعل مع الأشرار قبره.» (إش6:53-9)
وختم إشعياء النبي على صدق هذه الصورة التى تسلمها بالروح بالوحي، الى هى نص الوصايا التى أعطاها الآب للابن، وقبل الابن تنفيذها، حفظها حفظاً، وعاش لتنفيذها، ومات لتكميلها: «قد آٌكمل.» (يو30:19)
ثانيا: وقد كشف الله عن عيني عقل بولس الرسول، ليرى شخصية المسيح على حقيقته قبل التجسد وبعده، أى بعدما أطاع وصايا الآب, ونفذها بالحرف الواحد هكذا: «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً (أي «إن حفظتم وصاياي ... كما حفظت أنا وصايا أبي»)، الذي إذ كان في صورة اللع لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس, وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت, موت الصليب.» (في5:2-8)
هنا بولس الرسول يطلب أن يكون لنا فكر المسيح من جهة حفظ وصايا الآب عملياً. وبولس الرسول نفسه حفظ وصايا المسيح بجدارة، لا عن ظهر قلب بل على ظهره، 40 جلدة إلا واحدة خمس مرات وتحت حد السيف: «في الأتعاب أكثر، في الضربات أوفر، في السجون أكثر، في الميتات مراراً كثيرة، من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضُربت بالعصي. مرة رُجمت. ثلاث مرات انكسرت بي السفينة، ليلاً ونهاراً قضيت في العمق (أي عمق البحر)، بأسفار مراراً كثيرة, بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الأمم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية, بأخطار في البحر، بأخطار من إخوة كذبة.» (2كو23:11-26)
ولكن ليس كل تلميذ ولا كل رسول كان مثل بولس، لأنه هو نفسه يقول مقارناً نفسه بجميع الرسل هكذا: أهم خدام المسيح؟ أقول كمختل العقل، فأنا أفضل, في الأتعاب أكثر.» (2كو23:11)
وبذلك يقدم لنا الإنجيل, في بولس الرسول، نموذجا أعلى للغصن الذي ثبت في المسيح، وحفظ وصاياه, تحت أسوأ ظروف قابلها رسول أو أي مؤمن أخر، حيث يظهر حفظه وتمسكه بوصايا المسيح متعادلاً مع «الثمر الكثير» الذي مجد به الآب. وبولس الرسول، في النهاية، يوضح هذه المعادلة بقوله: «وقت إنحلالى قد حضر, قد جاهدت الجهاد الحسن, أكملت السعي، حفظت الإيمان, وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي، في ذلك اليوم، الرب الديان العادل. وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً.» (2تي6:4-8)
هكذا، وعلى هذا القياس، يدعونا المسيح أن نكون مثله، وأن لا نستثقل وصاياه، لأنه كما قلنا نقول أيضاً، إن وصية المسيح تحمل قوة تنفيذها في طاعتها، كما أن وصيته تؤخذ ولا تُفحص، وهي هي نفسها تحمل لحسابنا الثمر المتكاثر الذي يمجد الآب.
«إن حفظتم وصاياي, تثبتون في محبتي»: علاقة حفظ الوصية بالثبوت في محبة المسيح، هي أن الثانية نتيجة حتمية للأولى، أي أننا إن كنا نريد أن نثبت في محبة الله ثبوتاً مستمراً ودائماً لا ينقطع، فلتكن الوصية بين عينينا، نحفظها كمقلة العين. ولا يمكن شرح ذلك شرحاً نظرياً, وإلا نكذب، فسر المحبة كائن وكامن في طاعة الوصية، كيف يكون ذلك؟ هدا يعرفه من ينقذ الوصية. الأمر يختص بخبرة عملية وليس فكرة نظرية، لأننا بصدد «سر المحبة» التي تفوق العقل والمعقول. اسمع هذا التقرير من فم المسيح: «الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتموني» (يو27:16). فمن ذا الذى يستطيع أن يصف محبة الآب، أو يشرح ما هيتها؟ هى سر مطلق داخل سر محبة الابن, ومحبة الابن فى متناول يدنا، لأن الوصية هى المفتاح الذهبى لهذا الكنز السمائى.
«كلمتكم بهذا»: يكررها الرب م فى حديث الفراق هنا سبع مرات فى يو11:15؛ 1:16 و4 و6 و25 و33؛ 25:14. وهي طبق الأصل من المقولة نفسها في العهد القديم التي توكزت في سفر حزقيال: «أنا الرب تكلمت» (حز 13:5 و15 و17؛ 10:6؛ 21:17 و24 وغيرها). وهكذا يتوازى أسلوب المسيح هنا مع رنة النبوة، لعله يوقظ عقول الذين يفتشون الكتب لكى يجدوا فيها الحياة الأبدية .
اثبتوا فيّ، ثم اثبتوا في كلامي، ثم اثبتوا في محبتي، ثم اثبتوا في فرحي. هذا تدرج عملي, يمر عليه كل من يمسك بالمسيح. والغصن يثبت في الكرمة، فيثبت سريان العصارة فيه، فيثبت فيه الثمر، وبالنهاية يثبت الفرح. والمعنى السري وراء هذا عميق للغاية.
الثبوت في المسيح يكون بالإيمان. وهو يؤدي إلى الثبوت في كلام المسيح، الذي يكون بالتصديق الكامل. وهذا يؤدي إل الثبوت في المحبة، وهذا يكون بانفتاح الوعي على شخص المسيح وقبوله كعريس حقيقي: «أما صديق العريس، الذي يقف ويسمعه، فيفرح فرحا من أجل صوت العرس. إذ فرحي هذا قد كمل» (يو29:3). وهذا يؤدي إلى الثبوت في الفرح، الذي يكون هو بلوغ ثمرة الحب عملياً، وهو البذل. والقديس يوحنا يشرح هذا الملل عملياً في رسالته الأولى هكذا: «بهذا نعرف أننا قد عرفناه, إن حفظنا وصاياه. من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب, وليس الحق فيه، وأما من حفظ كلمته، فحقاً في هذا قد تكملت محبة الله. بهذا نعرف أننا فيه. من قال إنه ثابت فيه، ينبغي أنه كما سلك ذاك، هكذا يسلك هو أيضا.» (1يو3:2-6)
«كلمتكم بهذا»: المسيح يكشف القصد والغاية من سر الكرمة، التي من خلال أوصافها شرح المسيح حتمية الثبوت فيه، وفي كلامه، وفي حبه، وفي فرحه. هذا على مستوى عملى جداً.
«يثبت فرحي فيكم», «ويكمل فرحكم»: فرح المسيح غير فرح التلاميذ والمؤمين عامة. فرح المسيح كلي وكامل: يينما فرح التلاميذ وكل مؤمن يحتاج إلى تكميل. فالأول ينسكب في القلب: «فيكم» والثاني يأخذ ليمتلء «يكمل».
فرح المسيح. في ذبيحته التي قدمها للآب عنا فقُبلت، لأنها كاملة ومقدسة.
فرحنا: هو في خدمة ذبيحة المسيح: هو أيضآ ذبيحة سواء بالبذل أوبالصلاة أو بالتسبيح، ولكن ذبائحنا كلها ناقصة, لذلك فرحنا غير كامل، ويحتاج دائماً إلى ذبيحة المسيح ليجبر نقصها، ويداوي عجزنا، ويحجز عنا عوامل إفساد العالم والذات، لتصير ذيحتنا كاملة فيه ومقبولة أمام الآب السماوي، ليكمل فرحنا. فرحنا يظل ناقصاً، إلى أن يحتضنه المسيح، ويغذيه بدم ذبيحة محبته. فأعظم فرح، وأصدق فرح، وأكمل فرح, هو فرح الخلاص.
والآن, منظر الكرمة بأغصانها المثمرة، ويد الكرام تقلم وتنقى، وتقطع, ويطرحه المسيح داخل وعينا المسيحي، لكي ينفتح على معنى الثبوت وخطورته, وحتمية الثمر والتنقية، ورعبة القطع والإلقاء في النار. والقصد النهائي هو تصوير الكنيسة، وهي جسده ونحن أعضاؤه من لحمه وعظامه، وعمل الأعضاء في خدمة الكرمة: «... لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح ... صادقين في المحبة ننموا في كل شيء، إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح، الذي منه كل الجسد مركباً معاً، ومقترناً بمؤازرة كل مفصل, حسب عمل، على قياس كل جزء, يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة.» (أف12:4-16)
ونلاحظ العلاقة بين «تطلبون ما تريدون فيكون لكم», وبين «أيثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم»، هذا اختبار يعرفه جيداً كل من دخل فيه، أن استجابة الصلاة هي إذن بالدخول في مجال الحب الإلهي، ومن ثم تذوق الفرح الذي لا يُنطق به ومجيد. وذلك لسببين: الأول، التخلص من ربقة وكثافة وضغطة العالم الحاضر؛ والثاني تذوق السمائيات التي فيها تنعم النفس بالنور والبهجة التي للسمائيين. لأن الفرح والبهجة هما طقس السمائيين:
+ «ومفديو الرب يرجعون، ويأتون إلى صهيون, بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم, ويهرب الحزن والتنهد.» (إش10:35)
+ «الشعب السالك في الظلمة, أبصر نوراً عظيماً. الجالسون في أرض ظلال الموت، أشرق عليهم نور. أكثرت الأمة، عظمت لها الفرح، يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد، كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة.» (إش2:9-3)
+ «لأنكم بفرح تخرجون، وبسلام تحضرون. الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنماً, وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي.» (إش12:55)
+ «بل افرحوا وابتهجوا، إلى الأبد، في ما أنا خالق، لأني ها أنذا خالق أورشليم بهجة وشعبها فرحا، فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي، ولا يُسمح بعد فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ.«(إش18:65-19)
+ «ترنمي يا ابنة صهيون، اهتفى يا إسرائيل، افرحي وابتهجي بكل قلبك يا ابنة أورشليم... الرب إلهك في وسطك جبار. يخلص. يبتهج بك فرحا، يسكت في محبته. يبتهج بك بترنم.» (صف14:3-17)
والفرح عنصر خلاصي، لا يمكن أن يوجد إيمان حقيقي بدونه، ولا رجاء يُعرف بدون فرح، ولا روح قدس بدون فيض منه:
+ «وليملأكم إله الرجاء كل سرور(فرح) وسلام، في الإيمان, لتزدادوا في الرجاء، بقوة الروح القدس. (رو13:15)
هذا الاختبار عاشه أباء الجيل الآول بملء زخمه الروحي السمائي:
+ «وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت (الإفخارستيا)، كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب.» (أع46:2)
وينبغي أن نلاحظ المعنى الخفي في قوله: «يثبت فرحي فيكم، ويكمل فرحكم»، لأن المسيح يطلب دائماً أن كل ما فيه من حق وحياة, هكذا ينتقل إلى المؤمنين به. وهذا هو السر الأساسي في إلحاح الرب على الثبوت فيه، حتى يتم انتقال كل ما له إلينا. كذلك إلحاجه الى الثبوت في كلامه, حتى ينتقل كل حق وروح وحياة في كلامه إلى أعماقنا، وكذلك الثبوت في محبته، حتى تنتقل محبة الآب له إلينا.
يلاحظ أن قيمة المحبة عند المسيح لها القدر المعلى، ليس كأنها وصية محددة، بقدر ما هي روح كل الوصايا. فهي تشمل كل الوصايا، ثم تتركز وكأنها وصية واحدة، لأنها فريدة في معناها ومبناها. وأساس قيمة المحبة عند المسيح، أن رسالته قائمة عليها وبها. فأصل الرسالة هكذا: «هكذا أحب الله العالم, حتى بذل ابنه الوحيد...» (يو16:3). فـ «محبة الآب للعالم» حملها المسيح معه إلى العالم، لتتضمن روح كل تعاليمه ووصاياه, التي كان القصد الأساسي منها أن يشرح و يكشف و يستعلن للعالم «محبة الله الآب» له، ثم لكي تأتي ذبيحة المسيح على الصليب لتعبر عن أعظم وأقوى تعبير عن «محبة الآب للعالم» التي أعلنها المسيح على الصليب واستعلنها في قيامته؛ لأن القيامة من الأموات أظهرت بوضوح أن المسيح مات بإرادته، متحملاً كل ما يحمله الموت من عناء وألم وظلم ومرارة وهوان، إمعاناً في الإعلان العملي الفعال عن محبة الأب, لإن موت المسيح على الصليب أنشأ فداء وخلاصا وبرا وفرحأ وسلاماً للعالم. وهكذا تكشفت محبة الآب عن ثمار غاية في الهناء للعالم المظلوم المتألم، تحت عبودية الخطية والشيطان.
من هنا جاءت وصية المسيح بالمحبة، لأن محبة الأب التي أتى بها المسيح لا تسكن ولا تعمل إلا في قلوب لها هذه الصفة عينها. فالمحبة الإلهية لا تعمل إلا في مجال المحبة. وبمعنى أكثر خطورة، يكون الصليب, وهو الذبيحة المتضمنة محبة الآب, لا يعمل إلا في القلوب التي أحبت.
من هنا جاء أيضأ إلحاح القديس يوحنا على المحبة، باعتبارها الرحم الجديد الذي يولد منه الإنسان لله: «كل من يحب, فقد وُلد من الله» (ايو7:4). لماذا؟ لأن الذي انفتح قلبه على المحبة, يقبل عمل ذبيحة الصليب الفدايى، الذي هو أساس ميلاد الخليقة الجديدة.
فالصليب، هو هو حب الآب عملياً لفدائنا من الموت، ولولادتنا للحياة الأبدية، ولتبنينا لنفسه:
+ «بهذا أُظهرت محبة الله فينا, أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم، لكي نحيا به.»(1يو9:4)
«هذه هي وصيتي أن تحبوا...»: تظهر المحبة هنا أنها «وصية» المسيح، ويلزم أن نتذكر أن المسيح يتكلم من موقف الفراق, فهو حديث الوداع، أي حديث من يستودع «وصايا» لتلاميذه.
وصيغة الجملة هنا باليونانية شرطية، في المضارع الدائم، وترجمتها الحرفية: «حتى تكونوا محبين», وهذا التصريف في الجملة يفيد الديمومة في المستقبل، فهذه وصية المسيح للكنيسة كلها على مدى الدهور.
والمحبة التي يستودعها المسيح لتلاميذه، كوصيته الأخيرة، تظهرها كأنها وصية مفردة، ولكن هذا يأتي بنوع من التركيز الشديد على المحبة، فالمحبة تسود على كل الوصايا، وقد عبر المسيح عن ذلك بقوله: «إن كنتم تحبونني, فاحفظوا وصاياي» (يو15:14)، «الذي عنده وصاياي وحففظها، فهو الذي يحبني» (يو21:14), وذلك في مقابل وصية المحبة كمفرد: «هذه هى وصيتي أذ تحبوا...»؛ «وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعمكم بعضاً» (يو34:13). والتبادل بين الجمع (وصايا)، والمفرد (وصية)، فيما يخص وصية المحبة، نراه بالمقابل نفس التبادل بين الثبوت في «الكلمة» كمفرد «إن كان أحد يحفظ كلامي (كلمتى) فلن يرى الموت إلى الأبد» (يو51:8)، «إن أحبي أحد يحفظ كلامي (كلمتى)»؛ والثبوت في «الكلام» كجمع : «الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي, والكلام الذي تسمعونه ليس لى، بل للأب الذي أرسلي» (يو24:14)، كذلك «الكلام» كجمع: «إن ثبتم فّي وثبت كلامي فيكم...» (يو7:15)
والقديس يوحنا لمح في كلام المسيح هذا الانتقال بين المفرد والجمع بالنسبة لوصية المحبة، فاقتبسها، ورددها في آيتين متلاحقتين هكذا: «وهذه هي وصيته, أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح، ونحب بعضا بعضاً، كما أعطانا وصية» (ايو23:3)، «ومن يحفظ وصاياه, يثبت فيه، وهو فيه.» (ايو24:3)
فالمحبة وصية قائمة بذاتها، بالدرجة الاولى، ولكنها تجمع في ذاتها كل الوصايا: «المحبة التي هي رباط الكمال» (كو14:4)، «لأن من أحب غيره، فقد أكمل الناموس.» (رو8:13)
أما وصف المسيح لخطورة المحبة وامتدادها، فتشمل كل الكتاب: «فقال له يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الاولى والعظمى؛ والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصتين، يتعلق الناموس كله (أسفار موسى الخمسة) والأنبياء!» (مت37:22-40)
وينبغي أن لا يفوتنا تركيز المسيح على المحبة المتجهة نحو الآخرين، مواء لبعضنا البعض، أو حتى للأعداء، لأن عثرة إسرائيل الكبرى كانت احتكارها لمحبة الله وحبسها حبساً مطلقأ مؤبداً عن الأمم (الأنجاس في نظرهم). والمسيح جاء ليفك أسر محبة الله، التي احتكرتها إسرائيل لنفسها، وجعلها ترف على وجه الأرض كلها بلا مانع، تُحيي وتنعش النفوس. ولأول مرة يُسمع في الأرض كلها، أن إنساناً يمكن أن يحب عدوه! ليس دين من جميع الأديان على الأرض كلها، منذ أن خُلقت الآرض وخُلق الإنسان، قال بصيغة الأمر: «أحبوا أعدائكم, باركوا لاعنيكم, أحسنوا إلى مبغيضكم, صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (مت14:5). لأن وصية المسيح هذه مستمدة من صليبه: «ونحن أعداء (مع الله)، قد صولحنا مع الله، بموت ابنه.» (رو10:5)
إن وصية المسيح بمحبة الأعداء، ألقاها أمامنا كأمر أكثر منها وصية!! أما قوة تفيذها، فهو المتكفل بها، إن نحن عزمنا من كل القلب على تنفيذها، لأن المسيح لا يأمراً مراً من فراغ، بل هو يبني دستور وصاياه على أساس ما عمل هو، وعلى أساس ما هو مستعد أن يعمل أيضاً، حتى يجعل لمحبة الآب عرشاً له في قلب العالم.
الكلام هنا عميق للغاية. فليس معناه، كما يبدو لأول وهلة، مجرد تقييم عظمة المحبة بإمكانية أن يموت «أحد»، أي يضع نفسه لأجل أحبائه. ولكن المسيح هنا يشير إلى أن موته الذي ماته عن أحبائه، ينبغي أن يؤخذ على أنه غاية! فالمحبة مطالبة بأن يكون لها هدف وغاية, وهى إمكانية أن يضع الإنسان نفسه من أجل الآخرين.
فحرف الإشارة هنا: «هذا», لا يعود على الحب، كأن يقال: «حب أعظم من هذا الحب»، ولكن «هذا» تعود عل «أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه». وبهذا يكون المعنى، أن الحب العظم هو الذي يكون هدفه أن يضع الإنسان نفسه لأجل أحبائه. وهذا ما قهمه القديس يوحنا وشرحه في رسالته الاولى: «بهذا قد عرفا المحبة، أذ ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة.» (ايو16:3)
«لأجل أحبائه»: المسيح لم يضع نفسه من أجل أحبائه (القديسين)، بل من أجل الخطاة، والذين هم في عداوة مع الله (هؤلاء هم أحباؤه): «ونحن أعداء (مع الله، قد صولحنا مع الله بموت ابنه» (رو10:5). فالمعنى المقصود من «الأحباء»، هو أولئك الذين دعوا ليدركوا هذه المحبة. ولكي نفهم ذلك بسهولة، نضع القديس بولس مثلاً لذلك، حينما قال: «الذي أحبني، وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، مع أن المسيح مات من أجل شاول عدو الكنيسة ومضطهد المسيحيين والشاهد عل قتل إستفانوس! ولكن لما أدرك شاول حقيقة موت المسيح، تيقن أن المسيح مات من أجله، لأنه كان يحبه حتى وهو في وحل خطاياه وجرائمه!! فإذا أردنا أن نشرح المعنى أكثر، يكون هكذا: المسيح وضع ذاته من أجل أحبائه الخطاة والأثمة والمجرمين، وكل من تلوثت أيديهم وقلوبهم بالخطايا. هؤلاء هم أحباء يسوع.
أما إذا أردنا التطبيق، فيكون ذلك بحسب قول القديس يوحنا: «ينبغي أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة»؛ الخطاة والمنبوذين والذين ليس لهم من يحبهم أو يعطف عليهم!! بهذا، وبهذا وحده، يكون الغصن حقاً وبالحقيقة هو ابن الكرمة، والراضع من عصارتها!!
والأمر ليس بمستغرب، فأولئك المبشرون الاوربيون والأمريكان الذين بروح الحب بقلوبهم من نحو إخوتهم في البشرية من الأجناس الأخرى، جعلهم يتركون بيوتهم وعائلاتهم وحياتهم الهنية، ليذهبوا في مجاهل أفريقيا في القرن الثامن عشر ليبشروا أهلها الذين كانوا من آكلي لحوم البشر، وقد كان بالفعل من أٌكل منهم بعد أن شوي لحمه بالنار!! ولم يجزع الفوج وراء الفوج، ولا ارتدوا إلى الوراء، حتى نجحوا وربحوا البلاد السوداء وجعلوا أهلها من أبناء النور.
هذا هو«الحب المسيحي» في مضمونه ومعناه وأهدافه: إنه حب ذبائحي، نار ألقيت على الأرض! ما لبثت أن أشعلت كل شعوب الأرض: «فكونوا متمثلين بالله، كأولاد أحباء، واسلكوا في المحبة، كما أحبنا المسيح أيضاً, وأسلم نفسه لأجلنا، قرباناً وذبيحة لله، رائحة طيبة» (أف1:5-2)
«أحبائي»: المسيح هنا يسلم تلاميذه المخلصين لقب إبراهيم أب الآباء: «وتم الكتاب القائل: فآمن إبراهيم بالله، فحُسب له برا، ودعى خليل الله (يع23:2)، «إبراهيم حبيبى»، «وأما أنت يا إسرائيل عبدى، يا يعقوب الذى اخترته، نسل إبراهيم خليلي (حبيبي)» (إش8:41). وبالفعل قد كان، وصار أن الرسل أصبحوا هم آباء الكنيسة الأولى وأعمدتها!
المسيح هنا ينبه ذهن تلاميذه إلى وضعهم الممتاز بالنسبة له. لقد سبق وقال لهم: «أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان»، والآن يفسرها «أنتم أحبائي». ولكن لكي يرفع هذه الدرجة إلى المستوى القانوني لكي تكون درجة لكل من يشاء، وضع لها الشرط الذى يعطيها هذه الكفاءة: «إن فعلتم ما أوصيكم به». وهنا يقصد ما سبق وأن أعطاه كوصية خاصة: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم» (يو12:15)؛ بمعنى أن التلاميذ طالما كانوا على الحب الإلهي قائمين، فهم أحباء المسيح. ولقد ظل التلاميذ أمناء على هذه الوصية بصورة واضحة للغاية، بعد صعود المسيح: «هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء، ومريم أم يسوع، ومع إخوته» (أع14:1). وما تخلوا قط عن وصية المسيح, وحبه، والأمانة له، حتى استودعوا أجسادهم قبور الاستشهاد.
نحن لا زلنا في الكرمة الحقيقية والأغصان التي اكتسبت صفة «الحقيقية» بالانتساب إلى الأصل، لم تعد بعد أغصان كرمة برية، بل كرمة غرسها الآب بيده، والأغصان نمت عليها، وصارت شريكة فى أصالتها السماوية، ووريثة لكل أثمارها الفاخرة، وأهمها الصليب.
الكرمة الاول التي نقلها من مصر, أتلفتها أيدي الكرامين الأردياء الأجراء، ولكي يرثوها اختطافاً، ذبحوا ابن الكرام الحقيقي، ظناً منهم أنها تؤول إليهم، لكن الكرام انتزعها من أيديهم. وعوض الصورة والرمز غرس الكرمة الحقيقية, التي جذورها في السماء، وأغصانها مست الأرض، وملأت كل ربوعها, لم تعد الأغصان تذكر عهد العبودية، بل صارت تنتمى إلى أصلها السماوي، لقد نالوا حق البنوة, فصاروا من جنس المحبوب الوحيد، أحباء كالأصل، ليس بنوع الإنعام الصوري أو الرمزي، ولكن من واقع الدم الإلهي الذي امتزج بالدم، واللحم باللحم, فالأغصان صارت من لحمه وعظامه, ليسوا عبيداً بعد، بل محبوبين في المحبوب: «الآب نفسه يحبكم، لأنكم أحببتموني.» (يو27:16)
« أحباء, لأني أعلمتكم»: مصدر الحب المنسكب عليهم هو «استعلان الآب لهم». ليس كأنه معرفة فكر أو اكتساب معلومات، بل هو قبول حقيقة, فالاستعلان الذي أكمله المسيح الابن لتلاميذه بالنسبة للآب هو استعلان الكنه والكيان، استعلان «أنا هو الكائن بذاتي», «الله لم يره أحد قط» (يو18:1) ولكن الابن رآه ويعرفه، لأنه هو الابن الوحيد الكائن في حضنه الآبوى, هو الكائن في الآب, والآب كائن فيه, لقد استعلن المسيح الآب لتلاميذه، بأن كشف لهم حقيقة ذاته، والابن والآب واحد في الكيان والذات، فلما رأوا الابن, رأوا الآب؛ فلما استعلن لهم حبه، استعلن لهم حب الآب، وكل علم وعمل علمه لهم وقاله أمامهم، كان هو الآب الذي عرفوه وسمعوه ورآوه, ولما أسلمهم ذاته سلمهم الآب الذي فيه.
كان موسى خادماً في بيت الله، أميناً حقاً، ولكنه كان خادماً هو وكل إسرائيل من بعده؛ إلى أن جاء الابن الوريث، فصار البيت في يد صاحبه. موسى كخادم، بنى بيت الله من جلود معزى وخشب، وقدم فيها الذبيحة غنماً وبقراً، أما الابن فأا الأبن فأقام بيت الله من جسده: «انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاة أيام أقيمه... أما هو فكان يقول عن هيكل جسده» (يو19:2-21)، ثم رقع الحجاب الثقيل عن أعيننا، فرأينا، واذا بنا نحن جسده، أهل بيته: «خذوا كلوا هذا هو جسدى!» (26:26)
لقد انتهى عهد العبيد، بانتهاء الناموس والخيمة والذبيحة من تيوس وعجول؛ والكهنة الاجراء. وجاء عهد الآب والابن المذبوح، وشرب الإنسان واغتسل، وبيض ثيابه في دم الحمل، بدعوة من الأب.
وهكذا رُفع اسم الإنسان وقدره من رتبة العبيد، خادمي دم تيوس وعجول، إلى أبناء وأحباء متناولى دم ابن الله, حينما شربوا فيه روحه الأزلى، الذي جدد خلقتهم الاولى، فصاروا على شكل خالقهم في القداسة والحق.
هذا هو علم الآب واستعلانه، الذي قاله المسيح لهم في حديث الفراق المعزى: «لأني أعلمتكم كل ما سمعته من أبى», «والسامعون يحيون» (يو25:5)، «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو3:17)
وليلاحظ القارئ أن المسيح قال لهم هذا الكلام (يو15:15)، بعد أن أقام فصحه الأزلى بإفخارستية العشاء الأخير، وسلمهم كأس دمه فشربوه، وقسم لهم جسده وأكلوه.
الله هو صاحب المبادرة في كل ما يمت إلى الإنسان من الخيرات السماوية.
وحينما قال المسيح لتلاميذه: «أنتم أحبائي ...، لا أعود أسميكم عبيداً»، فهو هنا يوضح أنه هو ابن الله صاحب مبادرة تقريبهم إلى نفسه والآب, وبالتالي صاحب مسئولية دعوتهم العظمى هذه. إنه الأن يوثق دعوتهم واختيارهم، ليرفع عنهم صعوبة مسئولية المهمة الخطيرة وثقلها، خاصة حينما يتلفتون فلا يجدونه أمامهم, إلى حين!, وفي الأصول الدنيوية يختار التلميذ معلمه الذي يتلقى على يديه المعرفة، والتلميذ هو الذي يرفع معلمه إلى مواضع التكريم والتجلة. ولكن المسيح يقلب موازين العالم، لأنه هو الإله المعلم الذي يختار من يعلمهم، ومن يرفعهم من الرتبة الدنيا إلى ذات مرتبة معلمهم في الكرامة والمجد: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد.» (يو22:17)
«والاختبار» هنا متعلق صميمياً بكلمة «لتذهبوا». هنا دعوته لهم كأحباه هي ذات هدف ورسالة وليست مسألة محبة شخصية أو عواطف تبيت في الصدور، بل لاختيار الرسولية والخدمة وتمثيل الكنيسة في العالم، لأن حبه لهم هو لتكميل حب أبيه للعالم! أما كلمة «يدوم ثمركم»، فهذا تشهد عليه الكنيسة حتى اليوم، ونشاهده في كل أنحاء العالم، فثمر الرسولية لا يزال حياً جديداً مجدداً.
وينبغي أن نلاحظ أن المسيح حمل بالفعل ثقل الرسولية مع الرسل، وحقق بالفعل مسئوليته في اختيارهم «ليذهبوا». فقد عضدهم بقوة فائقة، حتى حطموا أعتى إمبراطورية للوثنية، والتي كانت قد ملكت العالم فكرا وثقافة وسلطانا وجبروتا وضلالا!
لذلك، أية توة وأية شجاعة وأي اقتحام يملكه الذين لم يختاروا لأنفسهم أن «يذهبوا»، بل كان اختيارهم من عنده، «كما هرون أيضاً» (عب4:5)!!
ويلاحظ مدى تحمل المسيح لمسئولية الإرسالية في قوله: «أقمتكم لتذهبوا, وتأتوا بثمر, ويدوم ثمركم». فهو المتكفل بعد اختيارهم بكيف وأين يذهبون، ثم كيف وكم يأتون بالثمر، ثم إلى متى يدوم ثمرهم!!
وليس ذلك فقط، بل هو المتكفل بكيف يعطيهم الآب كل ما يطلبون (باسمه)، سواء فيما يخصهم شخصياً أو يخص مخاطر ذهابهم، أو جمع ثمارهم، أو تثبيت ثمارهم. وهكذا تلتحم الصلاة المستجابة، بالطاعة، مع الثمر المتكاثر!!
«لتذهبوا»: هنا إشارة واضحة أنهم هم الذين سيبدأون بالذهاب، أى يتركون الالتصاق ببعضهم وبمعلمهم، لينطلق كل في طريقه. وهي إشارة توقيت لبدء رحلة الكنيسة عبر العالم.
«ثم خرج نحو الساعة الثالثة (ساعة حلول الروح القدس), ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين، فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم، فاعطيكم كما يحق لكم, فمضوا» (مت3:20-4)؛ «وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر15:16). لقد أطاع الرسل الأمر، وانفصلوا عن معلمهم بالجسد، ليتحدوا معاً وبه بالروح إلى الأبد، ليسلموا العالم مسيح الملكوت, لا مسيح التاريخ, ومسلسل رسوليتهم، كما هو، من وضع يد معلمهم ونفخة فمه!!
«يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي»: الأن يطمئن المسيح أنه سلمهم العلاقة المباشرة بالآب!! لقد استعلن لهم الآب في نفسه، واستعلن لهم كل ما عند الآب، بكل ما قاله وعمله. فالآن، عليهم أن يتجهوا مباشرة للآب، ليطلبوا كل ما يشاءوا، حيث «اسم» المسيح هو ضمان الاستجابة الأكيد، إذ يتدخل في الحال، ودمه على يديه، لتصبح كل صلاة وكل طلبة، ملتحمة بصوت دمه: «أتيتم ... إلى وسيط العهد الجديد، يسوع، وإلى دم رش, يتكلم أفضل من هابيل.» (عب24:12)
وهنا يلزم أن ننبه، أن الصلاة في أصولها تقدم للآب باسم يسوع المسيح, في الروح القدس. وأي إغفال للآب, يخل بأصول الصلاة والعبادة. فالمسيح أكمل رسالته، بأن سلمنا ليد الآب, أما هو فيبقي وسيطاً ضامناً للعهد. وعلينا أن ننتبه جداً لقوله: «في ذلك اليوم تطلبون باسمي، ولست أقول لكم إني أنا أسال الآب من أجلكم، لأن الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتموني, وآمنتم أني من عند الله خرجت.» (يو26:16-27)
القسم الثانى
التلاميذ, ثم الكنيسة, في مواجهة العالم: (يو18:15-27)
* اختلاف الطبائع، هو الذي سيحتم المواجهة.
* ويغذي الاختلاف: الجهل بطبيعة الآب والابن.
* ولكن العالم ليس له عذر في هذه العداوة، لأن حقيقة المسيح مُعلنة عملياً وبشهود.
* وعلى التلاميذ أن يكملوا الصراع الذي بدأه العالم مع المسيح. ولكن الروح القدس، سيقدم المعونة والشهادة في وقتها.
المحبة المسيحية, تولد في العالم المعاكس بغضة:
وأول مواجهة كشفت عن صدق إنذار المسيح بعد بدء الكرازة هي هكذا: «ودعوا الرسل، وجلدوهم، وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم، فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه.» (أع40:5-41)
الصراع هنا بين الإيمان الثابت في محبة المسيح, وبين عدم الايمان الثابت في محبة العالم، هو صراع بين محبة النور ومحبة الظلمة؛ بين معرفة الله الآب وابنه يسوع المسيح وبين الجهل بالأب والابن معاً؛ بين أبناء الله وأبناء هذا الدهر. القديس يوحنا يتكلم هنا عن هذا, كمختبر، في رسالته الاولى: «انظروا أية محبة أعطانا الآب، حتى ندعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفنا العالم، لأنه لا يعرقه» (1يو1:3)
واضطهاد العالم وبغضته لتلاميذ الرب ومؤمنيه الأتقياء المخلصين, يبدو دائمأ ومنذ أول يوم، غريبا جداً في أعين متقيه!: «أيها الأحباء، لا تستغربوا البتلوى المحرقة (المشتعلة أو النارية) التي بينكم حادثة، لأجل إمتحانكم، كأنه أصابكم أمر غريب, بل كما اشتركتم في آلام المسيح، افرحوا، لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضأ مبتهجين. إن عُيرتم باسم المسيح، فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم. أما من جهتهم, فيجدف عليه، وأما من جهتكم فيمتجد. فلا يتألم أحدكم كقاتل أو سارق أو فاعل شر أو متداخل في أمورغير، ولكن إن كان كمسيحي (يتألم)، فلا يخجل, بل يمجد الله من هذا القبيل ... فإذا الذين يتألمون بحسب مشيئة الله، فليستودعوا أنفسهم كما لخالق أمين في عمل الخير.» (ابط12:4-19)
وهكذا ظهر بوضوح أن المحبة وصية أولى وعظمى، ركز عليها المسيح قبل الفراق هنا، ولآخر مرة، لأنها الدرع الوحيد لمواجهة صدام العالم. فمحبة التلاميذ للمسيح، وثبوتهم فيه، ثم محبتهم نحو بعضهم البعض، وقفت تصد عنهم عنف بغضة العالم للمسيح ولهم. وواضح للغاية، أن بغضة العالم واضطهاده كانا موجهين ضد فضائل المسيحيين وليس لأخطائهم وعيوبهم وتعدياتهم. وهذا الموقف يذكرنا بشي من التطابق بين موقف الفريسيين والأعمى الذي فتح عينيه المسيح, المتهم بأنه فتح عينيه في سبت. فـ «العالم»» هنا هو في موقف الفريسيين تماماً في الأصحاح التاسع، والأعمى الذي فتح المسيح عينيه هم التلاميذ الذين دخلوا النور, والمسيح هو هو المتهم الأول الذي كسر القوانين المزعومة.
ومن تسلسل الآيات السالفة، يتضح كيف, وبحكمة إلهية بالغة الدقة والرتابة، أسس المسيح في التلاميذ أساس المحبة الثابت، ثم كشف بعد ذلك عن عنف المقاومة المضادة المزمعة أن تواجههم، حتى يحتملوها بجدارة. وكأنما يعد الكنيسة لتاريخها الطويل في جهادها ضد العالم.
«إن كان العالم يبغضكم, فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم»: «فاعلموا» تأتي هنا بصيغة الأمر. الرب يرفع ذهن التلاميذ على مستوى «ااذكروا» التي جاءت موازية لها في الآية (30) بعد ذلك. وهذه وتلك, ولكي ينفتح وعي التلاميذ لالتقاط صورة صحيحة لما أكمله العالم مع المسيح، تنطبعان على ذاكرتهم وذاكرة الكنيسة على الدوام، لتكوا للتلاميذ والكنيسة من بعدهم عوناً شديدا لاحتمال المصادمات المتكررة، والتي لن تنقطع.
فإن كان العالم قد أبغض المسيح واضطهده بشدة وبمرارة، فيلزم فهم السبب الكامن وراء هذه العداوة التي لا تعرف التعقل. فالمسيح كان في العالم (على مستوى اليهود)، مصدر قلق ونكد ورعب وارتباك وخوف شديد. فقداسته فضحت فجورهم، ووداعته استفزت وحشيتهم، وتكريمه وتمجيده للآب هيج عداوتهم له وللآب، والحق الذي فيه جمعهم عل الكذب وتلفيق التهم : «إن كنت قد تكلمت ردياً، فاشهد على الردي، وإن حسناً، فلماذا تضربنى» (يو23:18)
فالمسيح قد صار للتلاميذ النموذج الكامل, الذي يسند قلوبهم في وقت هياج العالم وسخطه، والذي يستمدون منه قوة على الاحتمال والصبر, بل والفرح في الضيق: «ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه, احتمل الصليب مستهينا بالخزي, فجلس في يمين عرش الله. فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه, مثل هذه، لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم.» (عب2:12-3)
ويخاطب القديس أغطسينوس من تسول له نفسه أن يخور ويلقي السلاح هكذا: [إن أنت استعفيت من أن تحمل مع المسيح بغضة العالم، فأنت تعفي نفسك من أن تكون في الجسد].
أليس الغصن في الكرمة؟ والعضو يحمل ما يقع على الرأس في الجسد. فإذا كان العضو سيتمجد حتماً مع الرأس, فكيف لا يحمل معها هم المقاومة نصيبا بنصيب؟ إن احتمال ثقل التجاربه في العالم, مهما كان شكلها ومصدرها, لهو ختم لملكوت السموات, وعلامة صحة لالتحامه في الجسد وقربه من الرأس! فإن كان اتحادنا بالمسيح وحبه هو الذي يوقعنا تحت غضب العالم، فمرحباً!
القسم الثانى
التلاميذ, ثم الكنيسة, في مواجهة العالم: (يو18:15-27)
* اختلاف الطبائع، هو الذي سيحتم المواجهة.
* ويغذي الاختلاف: الجهل بطبيعة الآب والابن.
* ولكن العالم ليس له عذر في هذه العداوة، لأن حقيقة المسيح مُعلنة عملياً وبشهود.
* وعلى التلاميذ أن يكملوا الصراع الذي بدأه العالم مع المسيح. ولكن الروح القدس، سيقدم المعونة والشهادة في وقتها.
المحبة المسيحية, تولد في العالم المعاكس بغضة:
وأول مواجهة كشفت عن صدق إنذار المسيح بعد بدء الكرازة هي هكذا: «ودعوا الرسل، وجلدوهم، وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم، فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه.» (أع40:5-41)
الصراع هنا بين الإيمان الثابت في محبة المسيح, وبين عدم الايمان الثابت في محبة العالم، هو صراع بين محبة النور ومحبة الظلمة؛ بين معرفة الله الآب وابنه يسوع المسيح وبين الجهل بالأب والابن معاً؛ بين أبناء الله وأبناء هذا الدهر. القديس يوحنا يتكلم هنا عن هذا, كمختبر، في رسالته الاولى: «انظروا أية محبة أعطانا الآب، حتى ندعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفنا العالم، لأنه لا يعرقه» (1يو1:3)
واضطهاد العالم وبغضته لتلاميذ الرب ومؤمنيه الأتقياء المخلصين, يبدو دائمأ ومنذ أول يوم، غريبا جداً في أعين متقيه!: «أيها الأحباء، لا تستغربوا البتلوى المحرقة (المشتعلة أو النارية) التي بينكم حادثة، لأجل إمتحانكم، كأنه أصابكم أمر غريب, بل كما اشتركتم في آلام المسيح، افرحوا، لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضأ مبتهجين. إن عُيرتم باسم المسيح، فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم. أما من جهتهم, فيجدف عليه، وأما من جهتكم فيمتجد. فلا يتألم أحدكم كقاتل أو سارق أو فاعل شر أو متداخل في أمورغير، ولكن إن كان كمسيحي (يتألم)، فلا يخجل, بل يمجد الله من هذا القبيل ... فإذا الذين يتألمون بحسب مشيئة الله، فليستودعوا أنفسهم كما لخالق أمين في عمل الخير.» (ابط12:4-19)
وهكذا ظهر بوضوح أن المحبة وصية أولى وعظمى، ركز عليها المسيح قبل الفراق هنا، ولآخر مرة، لأنها الدرع الوحيد لمواجهة صدام العالم. فمحبة التلاميذ للمسيح، وثبوتهم فيه، ثم محبتهم نحو بعضهم البعض، وقفت تصد عنهم عنف بغضة العالم للمسيح ولهم. وواضح للغاية، أن بغضة العالم واضطهاده كانا موجهين ضد فضائل المسيحيين وليس لأخطائهم وعيوبهم وتعدياتهم. وهذا الموقف يذكرنا بشي من التطابق بين موقف الفريسيين والأعمى الذي فتح عينيه المسيح, المتهم بأنه فتح عينيه في سبت. فـ «العالم»» هنا هو في موقف الفريسيين تماماً في الأصحاح التاسع، والأعمى الذي فتح المسيح عينيه هم التلاميذ الذين دخلوا النور, والمسيح هو هو المتهم الأول الذي كسر القوانين المزعومة.
ومن تسلسل الآيات السالفة، يتضح كيف, وبحكمة إلهية بالغة الدقة والرتابة، أسس المسيح في التلاميذ أساس المحبة الثابت، ثم كشف بعد ذلك عن عنف المقاومة المضادة المزمعة أن تواجههم، حتى يحتملوها بجدارة. وكأنما يعد الكنيسة لتاريخها الطويل في جهادها ضد العالم.
«إن كان العالم يبغضكم, فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم»: «فاعلموا» تأتي هنا بصيغة الأمر. الرب يرفع ذهن التلاميذ على مستوى «ااذكروا» التي جاءت موازية لها في الآية (30) بعد ذلك. وهذه وتلك, ولكي ينفتح وعي التلاميذ لالتقاط صورة صحيحة لما أكمله العالم مع المسيح، تنطبعان على ذاكرتهم وذاكرة الكنيسة على الدوام، لتكوا للتلاميذ والكنيسة من بعدهم عوناً شديدا لاحتمال المصادمات المتكررة، والتي لن تنقطع.
فإن كان العالم قد أبغض المسيح واضطهده بشدة وبمرارة، فيلزم فهم السبب الكامن وراء هذه العداوة التي لا تعرف التعقل. فالمسيح كان في العالم (على مستوى اليهود)، مصدر قلق ونكد ورعب وارتباك وخوف شديد. فقداسته فضحت فجورهم، ووداعته استفزت وحشيتهم، وتكريمه وتمجيده للآب هيج عداوتهم له وللآب، والحق الذي فيه جمعهم عل الكذب وتلفيق التهم : «إن كنت قد تكلمت ردياً، فاشهد على الردي، وإن حسناً، فلماذا تضربنى» (يو23:18)
فالمسيح قد صار للتلاميذ النموذج الكامل, الذي يسند قلوبهم في وقت هياج العالم وسخطه، والذي يستمدون منه قوة على الاحتمال والصبر, بل والفرح في الضيق: «ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه, احتمل الصليب مستهينا بالخزي, فجلس في يمين عرش الله. فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه, مثل هذه، لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم.» (عب2:12-3)
ويخاطب القديس أغطسينوس من تسول له نفسه أن يخور ويلقي السلاح هكذا: [إن أنت استعفيت من أن تحمل مع المسيح بغضة العالم، فأنت تعفي نفسك من أن تكون في الجسد].
أليس الغصن في الكرمة؟ والعضو يحمل ما يقع على الرأس في الجسد. فإذا كان العضو سيتمجد حتماً مع الرأس, فكيف لا يحمل معها هم المقاومة نصيبا بنصيب؟ إن احتمال ثقل التجاربه في العالم, مهما كان شكلها ومصدرها, لهو ختم لملكوت السموات, وعلامة صحة لالتحامه في الجسد وقربه من الرأس! فإن كان اتحادنا بالمسيح وحبه هو الذي يوقعنا تحت غضب العالم، فمرحباً!
العالم يغرم من يخرج من تحت نيره، بل ويناصبه العداء. إنها مهانة عظمى لرئيس هذا العالم أن يخرج من تحت يده إنسان يقف قبالته ليشهد ضده.
لقد تجمعت الشياطين, كما تجمع على المسيح بيلاطس وهيرودس وقيافا ويهوذا, على الفتى الغض أنطونيوس قديس براري ممر وهو ابن العشرين سنة وواجهوه بمهزأة: [يا صبي العمر والعقل، كيف تجاسرت ودخلت بلادنا (البواري القفرة التي ليس بها ماء)]، ولكن الفتى صبر وثابر، ورد عليهم: [أنا أصغر من جميعكم، فلماذا اجتمعتم علي كلكم]، وبالنهاية ملك أنطونيوس ناصية البواري لحساب النسك والعبادة والتسبيح المتواصل الذي لم ينقطع، ليس في مصر وحدها، بل وفي كل العالم.
كلام المسيح يحمل حقيقة معزية للغاية, فكل بغضة نواجهها في العالم دون أن نكون نحن سبباً فيها, هي تُحسب حتماً دليلاً على اختيارا لرب لنا: «أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم». واختيار الرب قائم أساساً على أننا لسنا من هذا العالم، والعالم لا يليق أن يكون لنا وطناً ومقراً، لذلك فكل حقد وبغضة يناصبنا بها العالم، يذكرنا بالرجاء الذي لنا عند الرب: «إن كنا نتألم معه، لكي نتمجد أيضاً معه.» (رو17:8)
«لو كنتم من العالم, لكان العالم يحب خاصته»: ما أشد أٌلفة الخطاة لبعضهم البعض، يجذبون بعضهم البعض لارتكاب الإثم والمعصية بسخاء وبذخ. إنها تظهر لهم وكأنها محبة وعلى مستوى التضحية والبذل، حتى ليكاد الآبرار يغيرون من هذه الألفة وهذا السخاء وهذا البذل المجنون. ولكن كل ذلك يتم بدفح من الشيطان، حتى يغوص الواحد منهم في الوحل دون أن يدري, وهو مسرور غاية السرور. وإن للعدو قدرة على إخفاء العاقبة والنهاية المرة التي تنتظر هؤلاء المتسابقين في وضع الأغلال في أعناقهم، حتى لا يكون قيام.
محبة العالم لأخصائه هي محبة للاستعباد، لنزف الشباب والمال والجمال والكرامة والعمر!
«يحب خاصته»: «خاصته» هنا، وان كانت تفيد الأشخاص المنجذبين إليه، كما يراءى لأول وهلة، ولكن هي تفيد في الحقيقة الذين أصبحوا عبيداً له. فالعالم يحب الذين له، الذين يعملون لحسابه. والفاعل العاقل المضمر هنا، هو الشيطان رئيس هذا العالم: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قتالاً للناس من البدء.» (يو44:8)
ويلاحظ القارىء أن المسيح يكرر كلمة «العالم» خمس مرات في الآيتين» 18 و19, وذلك عن شعور منه بخطورة هذا العدو، وتوعية لنا أن نأخذ الحيطة، ونضع خطورته في الاعتبار.
واضح أن هذا النص وارد في إنجيل يوحنا 13:16. فبالرغم من أن التلاميذ، في نظر المسيح، ليسوا عبيدا بل أحباء، ولكن في نظر أنفسهم ينبغي أن يدركوا أنهم عبيد الله.
فالسيد والمعلم الذي غسل أرجلهم ليعدهم للارسالية العظمى، الآن يكشف لهم مجد الإرسالية على مستوى مجد إكليل الشوك والصليب. لأنه حقاً لا يليق أن الرأس, المقدس, يلبس إكليلاً من شوك، والأعضاء يجلسون على أرائك هن حرير، أو أن يلقب رب الكنيسة ببعلزبول، وأهل البيت ينعمون بالألقاب: «إن كانوا قد لقبوا رب البيت ببعلزبول، فكم بالحرى أهل بيته» (مت25:10). وإن هبت ريح العالم العاتية على الكرمة، فلابد أن تترنح الأغصان.
والرب هنا لا يريد أن يواجه التلاميذ بمصيرهم المحتم، من جهة الاضطهاد، مباشرة, حتى لا يجزعوا, ولكنه في حنو وتوعية ورفق، وضع نفسه في المقدمة كعينة، وتركهم يقيسون على أنفسهم: «إن كانوا قد اضطهدونني، فسيضطهدونكم». ثم بتوعية أكثر وأعمق، أراد أن ينبه ذهنهم أن يتذكروا كيف كان اليهود يترصدونه: «ليصطادوه بكلمة» (مت15:22) من كلامه، يؤلونها كما يشاءون، حتى ينصبوا له الفخاخ. فلا ينتظر التلاميذ من المقاومين لهم إلا نفس الاسلوب، والذين للعالم لن يحترموا كلامهم، فالرب يضعه على مستوى كلامه: «إن كانوا قد حفظوا كلامي، فسيحفظون كلامكم»، بل سوف يؤلون ويحورون ويعوجون, لعلهم يفوزون بحجة للمنازعة والتشهير أو الحكم, لإفساد تعليمهم في أذهان الناس.