«يبكت»: الترجمة العربية لهذه الكلمة اليونانيةلا تفي بالمعنى الذي يقصده الإنجيل. لذلك لزم شرح المواضع التي جاءت فيها هذه الكلمة في العهد الجديد والقديم لتوضيح المعنى المقصود.
في العهد الجديد: تأتي دائمأ مع المفعول به كشخص، وتعني تماماً التوضيح للشخص بشأن خطيئته ودعوته إلى التوبة. وغالباً ما يكون ذلك سراً وفي الخفاء بين اثنين كما جاءت في (مت15:18): «وان أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما، إن سمع منك فقد ربحت أخاك»... كذلك جاء ذلك في (أف11:5): «ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها»، طبعاً يقصد توبتهم وليس التشهير بهم، ولكن قد يكون ذلك في وسط الجماعة ولكن بفم المدبر لها، كما جاء في (اتي20:5): «الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف». كذلك كما في (تي9:1): «ملازمأ للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم، لكي يكون قادراً أن يعظ بالتعليم الصحيح، ويوبخ المناقضين»، هذا في أمر تعيين الأسقف. ومن الأمور الهامة أن يأتي هذا المعنى كعمل للرب الممجد بالنسبة لأعضاء جسده على الأرض:«إني كل من أحبه، أوبخه وأؤدبه، فكن غيوراً وتب.» (رؤ19:3)
ويأتي هذا الفعل ( ) بمعنى يستذنب بالنسبة للمسيح كديان حينما يأتي في مجده: «ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار.» (يهوذا 15)
فصحة ترجمة ( ) هنا ليس «يعاقب», ولكن «يسبت عليه الجريمة» أي «يستذنبه ويقنعه بجريمته أولاً قبل أن يدينه»، (بالإنجليزية convict)، لأن كلمة «يدين» جاءت أولاً واضحة وعامة في أول الآية.
وقد استخدم المسيح نفسه هذه الكلمة بهذا المعنى على نفسه، بمعنى أنه يستحيل على أحد أن يستذنبه، أي يثبت عليه خطية واحدة: «من منكم يبكتني على خطية» (يو46:8). وهنا كلمة «يبكتني» لا تفى بالمعنى، لأنها في دائرة الحديث عن المحاكمة، فقد حكم المسيح على اليهود هنا أولاً بأنهم: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا» (يو44:8)، ثم بعد ذلك تحداهم: «من منكم يبكتني عل خطية». والكلمة بصيغة المبني للمجهول تأتي بمعنى قبول التوبيخ الشديد إزاء مواجهة الشخص واستذنابه وشدة وقع ذلك عليه: «أما هيرودس رئيس الربع، فإنه قد توبخ منه (من المعمدان) لسبب هيرود ...» (لو19:3). وأيضا بصيغة المبني للمجهول: «ولكن إن كنتم تحابون تفعلون خطية، موبخين من الناس كمتعدين.» (يع9:2)
وهكذا نرى أن الفعل ( ) «يبكت العالم» لا يعني فقط «يبكت» أو«يوبخ», أو «يعير» أو «يستذنب» بمعنى إثبات خطية فقط، ولا حتى يفيد معنى كشف الخطة واعلان الخاطىء، ولا فضح الخطة وعرضها، ولكن يفيد توضيح الخطية على أساس إيجابي لغاية هي أن يقف صاحبها موقفاً صحيحاً، أو بمعنى أوضح ليتقل صاحبها من الخطية للتوبة. فهو يهدف مباشرة إلى «تلمذة تعليمية», أو «تعليم تهذيبي وتأديبي». وهذا المعنى يأتي متكاملاً تقريباً في الآية (2تي16:3): «كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ, للتقويم والتأديب الذي في البر». وهكذا اضطر بولس الرسول لكي يعطي كلمة «التوبيخ» كل مضمونها وضعها بين التعليم والتقويم والتأديب.
فهذه الكلمة خصبة جداً وغنية بالمضمون التعليمي الهادف للتصحيح، وتعتبر إحدى الكلمات الهامة جداً في العهد القديم التي تبرز حرباً إيجابية على الخطية والتعدي والجهالة.
وفي هذا المعنى تأتي هذه الكلمة في الآية التي نحن بصددها، لتفيد أن الروح القدس له دور كبير وخطير في العالم قبل أن تأتي الدينونة الأخيرة. و«العالم» هنا المقصود به ليس الأفراد أو الهيئات، ولكن الروح العامة لمضمون كلمة «العالم».
وفي سياق هذه الآية, فإن الروح القدس له دور أساسي في إدخال معايير جديدة على معايير العالم القديم، سواء كان عالم اليهود المحدود الضيق, أو عالم اليونان التائه وراء الفكر الفلسفي المتخبط في ظلمات الجهالة الوثنية التي بلا حدود.
وأول معيار يدخله الروح القدس على العالم ، هو المعيار الجديد لمفهوم «الخطية».
«يبكت العالم على خطية»: وكلمة «الخطية» تأتي هنا بدون تعرف بـ الـ: «على خطية»؛ هذا يفيد أن العالم حتى مجىء الروح القدس إليه، لم يكن لديه معيار صحيح عن «الخطية» المعرفة بـ الـ « كخطية معلومة يُحاكم عليها ويُحاكم بمقتضاها. ولكن هنا، فإن الروح القدس، كمدع عام، يُدخل لأول مرة في تاريخ العالم المعيار أو الميزان الأساسي للخطية التي سيُحاكم ويُدان عليها العالم أمام ديان الأرض كلها وهي: «عدم الإيمان بابن الله»، كما جاء من فم الرب الديان د«... لأنهم لا يؤمنون بي.» (يو9:16)
والروح القدس، إذ يقف تجاه العالم كمدع عام لأول مرة في تاريخه الطويل، يفرض القانون الذي سيُحاكم العالم بمقتضاه. إنما يتكل، في نشر بنود هذا القانون، على التلاميذ الذين أرسلهم «يسوع», الرب الإله, مزكين منه كمعلمين، لتلمذة الخليقة كلها، مؤازرين بالروح القدس والشهادة، ومدعمين بالآية والكلمة!! وقد كان, فقد خرج صوتهم إلى كل أقطار الأرض، على حد تعبير النبوة (مز4:19).
فإن كان، في البد، قد جاء النور إلى العالم «ولم يعرفه العالم» (يو10:1)، فالآن دخل الروح القدس إلى العالم ليجعل من النور مصابيح تضيء الملايين من قلوب البشر: «فليضىء نوركم هكذا قدام الناس» (مت16:5). والروح القدس يلهب ويشعل هذا اللهيب الذي لا ينطفىء، حتى يأتي الرب الديان: «جئت لالقي ناراً على الأرض (العالم كله)، فماذا أريد لو اضطرمت.» (لو49:12)
الروح القدس الآن له دور فعال في كل أنحاء العالم بالنسبة لخطية واحدة, وهي التي تتفرع منها كل الخطايا، وبمحاصرتها وكشفها تنحصر كل خطية العالم, وهي: «عدم الإيمان بابن الله».
«يبكت العالم على بر»: لا يمكن أن يكون عدلاً ولا حقاً، أن يدخل في الميزان القضائي للعالم المعيار الذي تقاس به خطايا وانحرافات العالم التي على أمامها ستتم المحاكمة والدينونة، دون أن يوازنها أسباب البراءة التي سيُثاب عليها ويتبرأ.
والآن, وقد ثبت ثبوتاً قاطعاً بواسطلة الإنجيل عدم نفع بر الناموس وقصوره الفاضح عن أن يُبريء إنساناً في ساحة قضاء الله، بل على النقيض رأينا إنساناً فريسياً متضلعاً في الناموس، مهذباً ومتدرباً بالفكر والضمير على ما هو البر بالناموس، غيوراً فيما هو لله بالنسبة لقضاء بر الناموس، وهو شاول، وجدناه يحكم بقتل إنسان بريء ويشهد عليه وهو مرتاح الضمير، وهو إستفانوس الذي يظهر بعد ذلك أنه شعيد المسيح، أي شهيد البر الأبدي! وبذلك يكون الناموس قد حكم على نفسه بعدم نفعه، وبطلانه لتبرئة الإنسان.
أما العالم الوثني فلم يكن له بر, ولم يعرفه, لأن عبادة الأوثان كانت تُمجد بالزنا والفجور.
لأجل هذا دخل الروح القدس إلى العالم ليستذنب العالم على بره الكاذب, أو على عدم وجود «بر» له على وجه الإطلاق, ثم وليقوده إلى «البر» الحقيقي الذي أسسه المسيح بموته دافعاً ثمن خطايا العالم كله بسفك دمه، الذي بروحه الأزلي برأ كل خطاة الأرض, وهيأهم للوقوف أمام محكمة الدينونة الأخيرة بلا لوم.
ولكي يظهر «بر ابن الله» وتظهر قوته الأزلية على تبرئة كل من آمن به أمام الله الآب، وذلك لما قام من الأموات وصعد أمام أعين تلاميذه كشهود، ذاهباً إلى الآب ليبقى إلى الأبدد شفيعاً في المذنبين مبرئاً كل من آمن بدمه؛ وضع المسيح قانون عمل الروح في العالم على هذا الأساس: أنه «يبكت على بر»، «لأني ذاهب إلى الآب», «وبالإجماع عظم هو سر التقوى الله ظهر في الجد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الامم، أومن به في العالم، رُفع في المجد.» (1تى16:3)
وارتفاع المسيح في المجد وعدم رؤيته بعد، هو بعد ذاته برهان غلبته على العالم، كما هو برهان على أن ليس لرئيس العالم تي مأخذ على المسيح، وهذا دلالة عل بره الكامل والكلي.
أما أساس البر الذي بالمسيح فهو ليس بالعيان: «ولا ترونني أيضاً»، بل بالإيمان وحده «إيمان ابن الله»، الإيمان الذي له القوة والفاعلية، بما هو في غير مقدور العيان بالمرة. فقوة عمل الإيمان تنقل الجبال. لذلك، فالبر الذي بإيمان ابن الله هو قوة العالم الجديد التي تفوق كل قوة عرفها العالم حتى الأن أو سيعرفها, والذي يوم أن تستعلن للعالم حقيقة الإيمان ببر ابن الله، فسوف يدخل (العالم) في أمجد أحقابه التاريخية، أو بالحري سوف يرتفع فوق التاريخ.
«ويبكت العالم على دينونة, لأن رئيس هذا العالم قد دين»: إن أعظم محكمتين في العالم عراهما المسيح وفضحهما أمام التاريخ هما:
* محكمة اليهود: المنعقدة على لواء السنهدريم، برئاسة أعظم حكماء اليهود ودارسي قانون التوراة وحرفية قضاء الناموس.
* محكمة روما: ومن ذا الذي لا يعرف القانون الروماني الذق أخذت به كل دساتير العالم، وصار النواة الاولى لكل تشريع معروف لدى العالم كله. فالقانون الفرنسي وليده والقانون الإنجليزي ابنه الأصغر.
لقد انضم صوت قضاة محكمة السنهدريم إلى صوت قضاة محكمة الرومان، وأدانوا ابن الله أنه خاطىء، ومذنب, ومجدف، ومضلل, وحكموا عليه بإجماع الأراء أنه مستوجب الموت صلباً.
ولكن قام المسيح من الموت ناقضاً حكم الموت, كاشفاً بطلان أحكام اليهود، موضحا خروجها عن الحق وموجباً إيقافها إلى الأبد. كما كشف بطلان أحكام الرومان وخروجها عن الحق، ونحاها من أن تصلح للحكم على مصير العالم وضمائر الناس.
وهكذا دخل الروح القدس إلى العالم، ليستذنب العالم أولاً على ما فعل، وعلى دينونته الكاذبة القائمة بتحريض من رئيس عالم الكذب والضلال، الذى أدانه المسيح بالصليب وعلى الصليب، إذ فضح كذبه وأنه قتالا للناس منذ البدء؛ إذ ضبطه متلبسأ بالحكم بالقتل على إنسان أنه خاطىء ومذنب بحسب أحكامه الكاذبة والمزورة, وهو في حقيقته ابن الله الذي بلا خطية ولا لوم، والذي لم يوجد في فمه غش!!
وهكذا رفع الروح القدس يد رئيس هذا العالم عن أن تتدخل بعد اليوم، ولا أن يكون له صوت ما في الدينونة التي سيتولاها ابن الله: «فطُرح التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله, طُرح إلى الأرض، وطُرحت معه ملائكته. وسمعت صوتاً عظيمأ قائلآ في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طُرح المشتكي على إخوتنا, الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً, وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.» (رؤ 9:12-11)
لقد غلب المسيح العالم: «ثقوا أنا قد غلبت العالم»، وصار هو ديان الأحياء والأموات.
آيتان في هامتان جداً جاءتا في عروض بقية هذا الأصحاح، تفيد وعد المسيح باستئناف الحديث فيما بعد, أي بعد تكميل مشيئة الآب.
الآية الاولى آية 12: «إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ.
الآية الثانية آية25: «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا بِأَمْثَالٍ وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ حِينَ لاَ أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ بَلْ أُخْبِرُكُمْ عَنِ الآبِ علاَنِيَةً.
من هاتين الآيتين نفهم أن المسيح استأنف حديثه هذا الذي لا يستطيعون الآن أن يحتملوه، وهو طبعاً الخاص بموته ومعناه، والذي تلقاه بولس الرسول بدقة وعمق فائقين، بإعلان خاص به. والحديث الآخر عن الآب، وهو العلاقة بين الآب والابن، والتي تلقاها القديس يوحنا وسجلها لنا في إنجيله بصورة فريدة.
لقد سبق المسيح وأعلن لتلاميذه أنه قد عرفهم بكل ما عند الآب: «لكني قد سميتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي» (يو15:15)، موضحا بذلك اكتمال تعاليمه الخاصة باستعلان مشيئة الآب من جهة الإيمان بالآب والابن، والميلاد الجديد للانسان، والصلاة بالروح والحق، والدينونة التي أعطيت له، وأنه بالإيمان بالآب والابن يعطى الانعتاق من الدينونة والانتقال من الموت إلى الحياة؛ وأن مجرد سماع صوت الابن كفيل للمريض أن يُشفى، والخاطىء ليتجدد، والميت ليقوم؛ وأنه بصفته الابن الكائن في حضن الآب، فهو الوحيد الذي يخبر بكل ما عند الآب ويعمل كل أعمال الآب ويحيي من يشاء, وأنه هو الذي كتب عنه موسى, فهو رجاء ونهاية الناموس؛ وأنه بكلمة يُشبع الألوف من خبز الأرض ومن خبز السماء الذي هو جسده, الذي يعطيه للعالم, باذلاً إياه لخلاص كل من يؤمن به، وأن جسده ودمه هما طعام الحق، ومن يأكلهما يحيا إلى الأبد ويثبت فيه، وأنه هو الماء الحي الذي كل من يؤمن ويشرب من تعاليمه لا يعطش إلى العالم بل ينبع فيه الروح إلى حياة أبدية، وأنه هو نور العالم ونور الحياة للناس, وكل من يتبع تعاليمه يعيش في نور الله ولا تطغى عليه ظلمة العالم وهمومه، وقد فتح عيني أعمى منذ ولادته ليرى بالفعل نور الحياة والعالم؛ وأن الإيمان بابن الله يعتق الانسان من عبودية الخطية وبه ينال حرية أولاد الله، فلا يعود تحت سلطان الخطية القاتل؛ وأن التبني لله بالمسيح هو فوق التبني لإبراهيم, لأن المسيح كائن قبل إبراهيم، وأن إبراهيم نفسه كان يشتهي أن يراه؛ وأنه هو الراعي الصالح، و يعرف أولاده، وأولاده يعرفونه، وأنه سيضع حياته من أجلهم ليرفع عنهم تهديد الشيطان، وأن الشيطان لن يستطيع أن يخطف منه ابنا له؛ وأنه هو القيامة والحياة, وقد أقام لعازر من الموت, ليؤمنوا أنه هو الذي يقيم الموتى ويحييهم.
وعلى العشاء الأخير كشف لهم سر موته القادم، الذي به سينال المؤمنون غلبة الموت في سر جسده وسر دمه, وسيقبلون سر القيامة لتسكن فيهم.
ولكن كل ذلك والتلإميذ لا يفهمون ما يقول، ولكنهم قبلوا الكلام وحفظوه، لأن تفسيره قبل حدوثه صعب عليهم لا يحتملونه وعسير عليهم غاية العسر، الأمر الذي نفهمه نحن الآن، وبعد أن تم، يكون بمنتهى اليسر.
لذلك ختم على أحاديث تعاليمه، التي هي كلها بشارة الإنجيل؛ وأبقى منها أسرار موته وقوته، وأسرار قيامته وقوتها, وشركة المؤمنين فيها. وقد خص بولس الرسول بشرحها واستعلان كل أسرارها في رسائله, والتي جاءت تتمة لتعاليم المسيح في الأناجيل وشرحاً لكل أسرارها: «... أنه بإعلان عرفني بالسر، كما سبقت فكتبت بالايجاز, الذي بحسبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح، الذي في أجيال أخر لم يُعرف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح. ... الذي صرت أنا خادما له، حسب موهبة نعمة الله المعطاة لى, حسب فعل قوته, لى أنا أصغر جميع القديسين أُعطيت هذه النعمة, أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأنير الجميع فيما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور فى الله, خالق الجميع بيسوع المسيح, لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة.» (أف3:3-10)
«واعرفكم، أيها الإخوة، الإنجيل (البشارة المفرحة) الذي بشرت به، أنه ليس بحسب إنسان, لأني لم أقبله من عند إنسان ولا عُلمته, بل بإعلان يسوع المسيح. ... لكن لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي، ودعاني بنعمته, أن يُعلن ابنه فّي لابشر به بين الأمم, للوقت لم أستثير لحماً ودماً، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي بل انطلقت ... ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس، فمكثت عنده خمسة عشر يوماً، ولكنني لم أر غيره من الرسل، إلا يعقوب أخا الرب.» (غل11:1-19)
وكلام بولس الرسول الذي تلقاه بإعلان خاص من الرب يسوع، الذي ظهر له, والذي فسر فيه سر الإيمان, وسر الخلاص, وسر الشركة، وسر التبني، وسر الميراث الأبدي للمؤمنين، كل ذلك في موت المسيح وقيامته، ظل أيضاً كلاماً صعباً, كما وصفه المسيح تماما حتى في أيام الرسل أنفسهم. وهذه هي شهادة بطرس الرسول: «كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضاً بحسب الحكمة المعطاة له, كما في الرسائل كلها أيضا متكلما فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياء عسرة الفهم, يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب (الأناجيل) أيضاً لهلاك أنفسهم.» (2بط15:3-16)
ولكن هذه الأسرار كلها تولى الروج القدس بواسطة رجال الكنيسة الملهمين على مر العصور شرحها وتوضيحها, فصارت كلماتها حلوة مضيئة تنير العينين، وتلهب القلب، وتفتح طريق الخلاص بلا عائق أمام كل من يجلس إليها متتلمذاً ساهراً كل يوم.
ونلاحظ في كلام المسيح في هذه الآية قوله عن صعوبة احتمال ما يريد أذ يقوله بأنه «لآن»، وذلك لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد، وهو العامل الأول في استعلان ما صعب من الأقوال.
الروح القدس وعمله مع التلاميذ ليعدهم للمستقبل
يو 13:16-15
لقد أوضح المسيح علاقة الروح القدس بالعالم، كون العالم لا يستطيع أن يراه أو يعرفه، طالما كان العالم في حوزة ضلالة الشيطان (17:14). ولكن المسيح حصر عمل الروح القدس في العالم في حدود عمل التلاميذ بالشهادة في مواجهة العالم، للتعريف بما هي خطية العالم، وما هو البر المرفوض، وما هي الدينونة الحتمية التي سيقع تحتها والتي لا يزال يجهلها.
وهنا يدأ المسيح ليوضح عمل الروح القدس بالنسبة للتلاميذ لكي يعدهم للمستقبل. لقد سبق المسيح في الأصحاح الرابع عشر وحدد أعمال الروح القدس كالأ تي:
+ «معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد» (16:14) بعى تكميل عزاء المسيح لكنيسته على مدى الدهور.
+ روح الحق الذي يعرفه التلاميذ: «لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم» (17:14). وهذا حال الكنيسة أيضاً.
+ «يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم» (26:14). وهذا أيضاً يستمر مع الكنيسة إلى الدهور.
وفى الأصحاح الخامس عشر, وبالاضافة الى ما سبق، حدد أعمالاً أخرى:
+ أن الروح القدس يشهد للمسيح في التلاميذ، والتلاميذ يشهدون بواسطته أيضاً (26:15-27)
ثم في الأصحاح السادس عشر، يضيف المسيح على الأعمال السابقة أعمالاً أخرى:
+ «يرشدكم إلى جميع الحق.» (13:16)
+ «يخبركم بأمور آتية» (13:16)، مثلما حدث مع القديس يوحنا عندما كان في الروح في جزيرة بطمس وأملاه سفر الرؤيا بأصحاحاته الاثنين والعشرين.
+ «يأخذ مما لى ويخبركم» (14:16)، وبذلك «يمجدني»، «وكل ما للآب هو لى»، بمعنى أن الروح القدس يستعلن للتلاميذ كل ما للآب وما للابن، وهذا ما حدث مع القديس يوحنا في إنجيله.
والواقع أن هذه العطايا المكثفة، والموعود بها للتلاميذ، حدثت بالفعل, وكان من نتيجتها العملية كتابة الأناجيل الأربعة والرسائل كلها وسفر الرؤيا مع سفر الأعمال, وبشارة المسكونة!!
وهذا الوعد المكثف بالعطايا، أجل المسيح استعلانه حتى أخر لحظة من خدمته على الأرض. ولكن من مضمون هذه العطايا والمواهب الغنية، بدا المستقبل بالنسبة للتلاميذ، والكنيسة من بعدهم، مشرقاً حقاً من جهة الروح والحياة مع الله. وفي أحاديث المسيح عن الفراق، جاء هذا الحديث أقواهم وأكثرهم عزاء بالنسبة لعزائمهم الخائرة من هول الموقف الغامض المجهول أمامهم.
ثم, أيها القارىء العزيز، أليس هذا الموقف عينه لا زلنا نحن نعانيه من جهة المستقبل الغامض بالنسبة للكنيسة في العالم؟ فما أشد ما نرى اليوم أمامنا في كل أنحاء العالم، وخاصة في الغرب, والذي بدأ يتغرب عن فاديه!! ولكن عزاء الروح القدس, بنوع العزاء الذي تلقاه التلاميذ يوم الخمسين، والذي لا يزال حياً عاملاً في الكنيسة في قلوب المؤمنين الأمناءه والذي يقوي ويثبت ويعزي بالرجاء غير المنظور، يجعلنا نثق ونتيقن من نصرة الكنيسة بفاديها على قوى الظلمة التي أحاطت بعقل الإنسان واستعبدته لحساب هذا الدهر.
فقتام الظلمة المحيطة بالعالم المتقدم في العلم والمعرفة الأرضية، ليس أشد من قتام حكم أباطرة الرومان وانحلال العالم الوثني في أيام الكنيسة الأولى والتي بدأت بالاثني عشر!! والروح القدس هو هو، نفس النار التي ألقيت على الأرض ولن تنحصر.
يكفينا أن نواجه المستقبل، أقوياء بالإيمان, مستندين على الروح القدس وليس بسبق المعرفة, وكلمات المسيح تضىء لنا العالم مهما تعتم في ذاته؛ والروح يفرح قلوبنا، مهما تكثفت فوقنا أحزانه.
فليلتفت القارىء: فهذه الآية هي «وعد مقدس» يختص بالفرد كما الجماعة، هي حق من حقوق كل من آمن ووثق وصدق كلام الله. لاحظ هذا الإتفاق: «روح الحق» يرشدكم إلى «جميع الحق», كما نلاحظ أن الحق هنا مُعرق بـ «أل»؛ فهو يتجه مباشرة إلى المسيح!
فروح المسيح يرشدكم إلى كل الحق الذي في المسيح. والمعنى البسيط المباشر والعملي، أن الذي حاز رفقة الروح، فإنه ينال استعلان المسيح في ذاته: «والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأظهر له ذاتي» (يو21:14). فالحق الذي في المسيح يعني المسيح تماما كما هو. مستعلنأ بشخصه وحبه وفرحه وقوة كلامة. والقديس يوحنا يرى أن ما تحققه هنا جزئيا، يكمله هناك كلياً: «لأننا سنراه كما هو» (ايو2:3). والقديس بطرس يمتعنا بفرح المسيح من خلال قوة الإيمان: «الذي، وإن لم ترونه تحبونه؛ ذلك، وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُنطق به، ومجيد.» ( ابط8:1)
«والحق» الذي يقصده المسيح هنا ليس هو الحق العقلى المجرد, عند اليونايين، بل الحق الفعال بالروح في القلب والفكر، العامل في النفس لمعرفة المسيح واستعلان كل ما قال وعمل .
كذلك الحق في قول المسيح هنا ليس كالحق في العهد القديم كما جاء في المزامير مراراً وتكراراً، فالحق في العهد القديم هو الناموس والسلوك بحسب أوامر الناموس حرفيا. أما الحق، عند المسيح فهو معرفة الآب والابن، هو الله ذاته، هو استعلان الابن وارساليته من عند الآب. فان كان الحق عند اليونانىين يحرر الفكر من الجهل, والحق عند اليهود يحرر الجنس كشعب غير مستعبد للأمم, فالحق عند المسيح يحرر من الخطية والشيطان والعالم.
«يرشدكم إلى جميع الحق«: لاحظ أن المسيح أكمل استعلان الحق للتلاميذ بكل تعاليمه وأقواله وأمثاله واياته، والآن نحن بصدد التأمين على تعليم المسيح هذه السنين الطوال. والتأمين هو على عاتق الروح القدس, فهو سيرشدهم إلى جميع الحق الذي قاله المسيح، كلمة كلمة، لذلك أكمل المسيح القول كالآتي:
«لأنه لا يتكلم من نفسه» بل كل ما يسمع يتكلم به»: أي أن الروح القدس لا يضيف تعاليم جديدة، بل يرشد إلى كل تعاليم المسيح. والمسيح سيتولى الكلام والروح القدس ينقله إلى القلب كما هو, فالابن كما كان يسمع من الآب ويتكلم, كذلك الروح القدس كما يسمع من المسيح ينطق في القلب, فكما أن الابن كان عمله استعلان «الآب» بالكلمة، كذلك الروح القدس سيتولى استعلان المسيح «الابن» في ذات الكلمة, لذلك يقول المسيح بعد ذلك: «كل للآب هو لى». والعجيب أن بالروح القدس يصير كل ما للمسيح مستعلنا أيضاً لنا. هنا تمام وكمال استعلان الله!
ولكن من الوجهة العملية الاختبارية, فإن الروح القدس لا ينقل كلام المسيح كما هو بالحرف, بل يكشف النور الذي فيه، ليس من زاوية واحدة بل من ألف زاوية إن شئت. فالآية الواحدة يشرحها الروح القدس مرات ومرات, وكل مرة بنور جديد. هذا معنى «يرشدكم إلى جميع الحق» بألوانه الزاهية, والتي ينير بها القلب كل مرة جديداً, ولكن الحق لا ينتهي أبداً ولا يُحد. ولكن حذار من مزج التأمل الشخصي بادعاء أنه استعلان الروح القدس, ولا حتى الإلهام الخاص الذاتي الذي ينبع من مزاج الإنسان وفكره. فإلهام الروح القدس لا يحيد عن حق المسيح, واستعلان الروح القدس يشهد به الحق الذي يختزنه الإنجيل ككل.
«ويخبركم بأمور آتية»: «ويخبركم» هذه الكلمة تستخدم دائماً في معنى البشارة والاعلان والاستعلان أيضاُ. لذلك, فالآية هنا محصورة في دائرة البشارة, أي عمل الروح القدس بالبشارة، بالأمور الخاصة بالمسيح، سواء في الأعمال التي ستتم قريباً أي القيامة والصعود, أو التي ستتم في المستقبل البعيد أي المجيء الثاني، والذي تلقى القديس يوحنا رؤيته حينما كان سجيناً في جزيرة بطمس: «فإن شهادة يسوع هي روح النبوة.» (رؤ10:19)
ولكن, ليحذر الإنسان من أن يظن أن للروح القدس عملاً في العهد الجديد مثل الذي كان في القديم، أي التنبؤ بمستقبل الخلاص؛ فالخلاص قد أكمل، ولم يعد له تكميل على الأرض. لذلك لم يعد للروح القدس عمل فيما يختص بتمليك أراضى أو دفاع في الحروب أونصرة على أعداء الجسد، فالإنسان المسيحي أصبحت سيرته في السماويات. مع ملاحظة أن كلام المسيح كله يختص دائماً بمستقبل الإنسان الروحي؛ فكل كلمة تحمل ضوءا يلقيه الروح القدس في قلب الإنسان ليتعرف به على ماذا ينبغي أن يعمل في مستقبله. فعلى المستوى العملي للانسان المسيحي، فإن الروح القدس يلقنه أولاً بأول من خلال كلمة الإنجيل عن كل ما هو قادم بالنسبة له، وما ينبغي أن يفعله في كل ساعة قادمة, فحياتنا بالروح القدس هي ممتدة إلى قدام, وتسبق الزمن: «أنسى ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام.» (في13:3)
ولكن حتى عمل الروح القدس في أن يخبرنا بأمورنا القادمة بالنسبة لما يجب أن نعمله روحياً، سواء أعمال توبة، من صوم وصلاة، أو من أعمال خدمة ومحبة وبذل، فهي في دائرة المسيح والإنجيل, ولا تخرج قط عما هو للمسيح، لأن اختصاص الروح القدس هو أن يأخذ مما للمسيح ويخبرنا؛ ومن ذاته لا يخبر بشيء: «أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً.» (1يو6:2)
المجد هنا هو استعلان حقيقة المسيح الإلهية كابن الله الوحيد، وهذا يدخل في صميم القول: «يرشدكم إلى جميع الحق». وهنا تمجيد الروح القدس لشخص المسيح, لا يُفهم على أنه يزيد على حقيقة المسيح شيئاً، بل إن استعلان حقيقة المسيح تماماً هي التمجيد الكامل له. ويلاحظ هنا أن عمل الروح القدس في تمجيد الابن هو المقابل والمكمل لتمجيد الابن للآب. بهذا نفهم أن الذات الإلهية آب وابن وروح قدس مجيدة حقاً، فهي تقبل المجد وتعطيه لذاتها. هذا هو الإكتفاء الذاتي لله المذهل للعقل، فالله لا يحتاج إلى تمجيد أحد، لا ملائكة ولا بشر، فهو ممجد في ذاته بذاته، وكامل مكمل في المجد!
فحينما نقول «المجد لله» أي الذكصا الكبرى، فنحن ننطق بما هو حاصل، لا نضيف شيئاً على الله بل نُسبح بمجده! لذلك فاستعلان الله في قلب الإنسان، هو اشتراك فعلي في تمجيده. واستعلان الروح القدس لله، كآب وابن، لا يكون من محيط إدراكات الإنسان المادية، بل هو ولوج حقيقي إلى دائرة ما فوق الطبيعة، إلى ما لله. فكلمة «يغبركم» ( ) = «يعلن إعلاناً فائقاً» (declare)، أي يكشف كشفاً إنجيلياً مفرحاً, فكل إعلان يعلنه الروح للانسان، هو دخول حقيقي في حق المسيح، في فكره الإلهي، في حبه «الفائق المعرفة» (أف19:3)، في علاقته السرية بالآب.
المسيح ينبه أذهاننا، أن مجده هو مجد الآب، وأن كل ما يخبرنا به الروح القدس عن المسيح فهو عن الآب أيضاً. أي أن الروح القدس يمدنا باستمرار بمعرفة الآب والابن، أي الله في خصائص ذاته الجوهرية، لأن استعلان علاقة الآب بالابن هو موضوع خلاصنا، فحب الآب للابن، صار من نصيبنا أن نشترك فيه بقدر استعلاننا له. وعلاقة الابن بالآب من جهة طاعة المشيئة حتى الصليب, هي حياتنا التي نستمدها من قوة موته، من قوة دمه.
فطاعتنا للمسيح ووصاياه، وفي قمتها أن نبذل حياتنا من أجل الأخرين، هي مستمدة أصلاً من قوة طاعة المسيح للآب. لذلك، فإن قول الرب إن: «كل ما للآب هو لي»، هو أصل وقوة قوله: «يأخذ مما لي ويخبركم»، فهو السماح للروح القدس أن يأخذ كل ما للمسيح ويخبرنا، يعني أن يستعلن لنا كل ما للآب, وهذا في الحقيقة تكميل سري ورائع لقوله لتلاميذه: «لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي» (يو15:15). وهذا الاستعلان الإخباري الإنجيلي للمسيح الابن وللآب هو بعينه الذي يدخلنا في السر الرهيب الأعظم: «أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد» (يو23:17). بمعنى أن الروح القدس سيتولى إدخالنا في سر الآب والابن، بالاستعلان المتواصل. هذا السر عينه هو المدخل الوحيد إلى كمال الوحدة التي نحن مدعوون إليها معاً في الله: «مكملين إلى واحد»، والتي عبر عنها بولس الرسول «إلى أن ننتهي جيعنا إلى وحدانية الإيمان، ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح.» (أف13:4)
نعم، فالسبيل الوحيد للوحدة التي تبتغيها الكنائس، كما قلنا مراراً، هو أن يتحد كل منها أولاً بالمسيح بالتقوى، بالعبادة بالروح والحق، بالاستعلاذ، لاستعلان حق المسيح الذي هو وحده يوحد ويؤلف، والوحدة لا تكون ولن تكون إلا في «حق المسيح»، وليس في الكلام عن المسيح.
قد أزفت الساعة, الحزن الحتمي يُنشىء الفرح حتماً.
(يو16:16-24)
للانسان المسيحي الحقيقي؛ الحزن دائماً يتبع الماضي، وهو دائماً جسدي؛ وأما الفرح المتحمل بالنصرة فهو مستقبلي دائمأ وممتد في المستقبل، وهو دائمأ روحي. ولكن أن ينجح الإنسان في حصر الحزن وتجاوزه بالرجاء الكائن في الإيمان، فهو بهذا يدخل في الفرح ويستبق رؤيته. والإنسان الذي يختبر الحزن ويغلبه ويعيش الفرح حتى في الحزن، يكون قد قهر الزمن والجسد.
والإنسان المسيحي مدعو أن يختبر الحزن ويعيش الفرح: «وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا» (ايو4:5)
الزمن القليل:
33:7 أنا معكم زماناً يسيراً بعد»
35:12 «النور معكم زمانا قليلاً بعد»
33:13 «أنا معكم زمانا قليلا بعد»
19:14 «بعد قليل لا يرانى العالم أيضاً, أما أنتم فتروننى»
16:16 «بعد قليل لا تبصروننى»
لقد ظل الزمن يتضاءل ويتناقص حتى انتهى الزمن:
33:7 أنا معكم زماناً يسيراً بعد»
33:13 «أنا معكم زمانا قليلا بعد»
16:16 «بعد قليل لا تبصروننى»
هذا التدرج البديع في سياق الحديث المنسق عن انتهاء الزمن وانسحابه من فترة وجود المسيح على الأرض ومع تلاميذه، يوضح مدى يقظة المسيح وحساسيته لأمرين:
الأمر الاول: لمحدودية رسالته المحسوبة بالساعة: «لم تأتى ساعتي بعد» (يو3:2)، قالها في أول ظهوره العلني في عرس قانا الجليل. و«قد أتت الساعة» (يو1:17)، ليلة العشاء الأخير!!
الامر الثاني: رقة مشاعره من نحو تلاميذه، وتأثره لتأثرهم الشديد من صدمة الفراق!! لقد ظل الزمن يتقلص وينسحب من حول بهجة اللقيا والعشرة المتواصلة بين التلاميذ والمسيح، حتى انتهى: «بعد قليل لا تبصرونني».
«بعد قليل لا تبصروني» ....«بعد قليل تروننني»
القديس يوحنا يقدم لنا في هذه الآية، ومن خلال هاتين الكلمتين, منهجاً فكريا غاية في الأهمية اللاهوتية على الواقح المسيحي الحي. فقد استخدم الكلمة الاول للرؤية وهي ( ) لتعبر عن رؤية شبه صحيحة، رؤية فكرية لا رؤية حق، رؤية تصور وليس رؤية واقع، مع أنها مستخدمة في رؤية المسيح بالجسد في الجسد المادي!! ثم استخدم الكلمة الثانية للرؤية وهي ( ) لتعبر عن رؤية صحيحة، رؤية الحق كما هو، بلا أي خيال فكري، أو أي تصور عقلي بشري!! مع أنها مستخدمة لرؤية المسيح القائم من الموت بالجسد الروحاني الممجدد!
هذه المحاولة المعكوسة من القديس يوحنا، يحاول بها البرهنة على أن رؤية التلاميذ للمسيح، قبل أن يتمجد، لم تكن رؤية تامة أو صحيحة، من حيث أنهم رأوه كإنسان وكانوا يحاولون بالجهد أن يتصوروه عقليا بأنه أكثر من إنسان فلم يفلحوا كثيرا. من هنا» صمم القديس يوحنا على أن رؤية التلاميذ للمسيح قبل أن يُستعلن في مجده كانت رؤية ناقصة تعتمد على العقل, لأن المسيح لم يكن مشتعلناً استعلاناً كاملاً, أما رؤية التلاميذ للمسيح بعد القيامة, وبعد أن استعلن في مجده, فهي هنا الرؤية الصحيحة، رآوه على حقيقته الممجدة، رآوه إلهاً: «ربي والهي» (توما) (يو28:20)، رآوه غالباً الموت في ملء ملكوته وحياته الأبدية، رآوه بالعين الروحية المباشرة التي تستعلن الحق حقاً دون تزييف الفكر.
ومعروف لدى الصوفيين، أو في اللاهوت التصوفي، أن التاورية هي «رؤية العقل»، وهي تختلف من إنسان لإنسان في رؤية الشيء الواحد، لأنها تعتمد على خواص كل عقل بحد ذاته؛ فى الاتساعم والتصور والإدراك والفهم. وفى اللاهوت التصوفى، تعتبر التاورية قمة الاستعلان.
ولكن هنا، عند القديس يوحنا، يستصغر هذه الرؤية وهذه الكلمة «التاورية»، ويجعلها قاصرة عن أن ترى الحق، فاستخدم رؤية «العين» الطبيعية كعضو إبصار للأمور الطبيعية، باعتبار أنها ترى الأشياء عل حقيقتها، استخدمها ليعبر عن مقدار الحق الذي رأه التلاميذ بأعينهم الروحية للمسيح المُقام والممجد، باعتبار أنه هو المسيح الحقيقي، على حقيقته، وليس كما كان، مختفياً في الجسد ومستتراً به عن الرؤية الصحيحة للإنسان.
وكأنما السيح يريد أن يقول لتلاميذه: أنتم الآن لا تروننى على حقيقتي بالرؤية الصحيحة، ولكن بعد قليل حينما «أكمل» استعلاني وأظهر في مجدي، حينئذ ترونني حقاً؛ سواء كان بعد قيامته أو أثناء صعوده أو حتى في استعلان ذاته, كما رآه شاول وهو في طريقه إلى دمشق، و بالأكثر من يوم الخمسين فصاعداً، حيث يتدخل الروح القدس ليعطي صورة للمسيح هي الحق كل الحق!!
وأخيراً، وكما يقول القديس يوحنا، فإنه حينما يُظر المسيح, ونٌظهر نحن معه في المجد كقول بولس الرسول: «متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد» (كو4:3), «إذا أُظهر, فسنكون مثله, لأننا سنراه كما هو» (ايو2:3)، وهنا أيضاً يستخدم القديس يوحنا للتعبير عن رؤية الحق بالحق، كلمة «نراه» ( ).
القديس يوحنا يتكلم هنا، ويصور لنا منظر التلاميذ، كشاهد عيان دقيق الملاحظة، يسجل حركات التلاميذ مع تعبيراتهم تسجيلاً غاية في الواقعية، فيوضح حالة الإرتباك التي ألمت بهم مع عدم الفهم للكلمات؛ وبالأكثر حزنهم العميق الذي آسكث أفواههم. فلم يسالوه عما يجيش في صدورهم وهم ذاهلون، بل اكتفوا بالتعجب وهم يطرحون أمثلتهم بعضهم لبعض. والذي استرعى انتباههم وكرروه مراراً: «ما هذا القليل الذي يقول عنه؟ لسنا نعلم بماذا يتكلم»، لأن المسيح لم يقل: «بعد قليل من الزمن»، ولكن اكتفى بقوله: «بعد قليل».
ولكن ارتباكهم وحيرتهم وتساؤلهم لم يغب عن المسيح، فبادرهم بقوله:
حينما يقول المسيح: «الحق الحق أقول لكم»، فهو يعطي حقاً جديداً على معلوماتنا، ويستعلن لنا سرا يدخل في صميم إيماننا. فالكلام كان موجهأ للتلاميذ، ولكنه موجه للكنيسة كلها وكل أولاد الله أينما كانوا، فإيمان الإنسان المسيحي يفصله عن شكل هذا العالم ومعاييره الوهمية خاصة ما يُحزن وما يُفرح، فكل ما يحزن العالم هو خسارة في الجسد أو في المادة، الجسد بحياته وصحته وعاطفته وقرابته ونسبه له أو للأخرين أياً كانوا، أباء وأمهات وزوجات وأخوة وأخوات وأولاداً. والمادة هي كل ما يُباع ويُشترى ويُقتنى. أما ما يفرحه، فهو الربح في كل ما مضى مما يخص الجسد والجسديات أو المادة والماديات.
ولكن ما يُحزن المسيحى, هو ما يفقده بالروح، وما لا يحققه من مشيئة الله ووصاياه, وأما ما يفرحه، فهو رضى الله، وتكميل مسرة مشيئته، وتحصيل هباته التي كيل وبلا ندامة.
هذا التباين الجذرى بين ما يُحزن وما يُفرح، بين العالم والإنسان المسيحي، جعل المعايير بينهما يتعاكس وضعها تماماً، فما يُحزن هذا يُفرح الآخر, وما يُفرح الأول يُحزن الثاني .
وعلى هذا القياس المتعاكس، أعطى المسيح مثلاً مادياً, فيه يتضح أن الحزان الجسدي يؤول إلى فرح نفساني، حيث يُقيم الحزن أنه خداع أو نوع من التزييف. فالمرأة تشتهي الطفل، ولكن حينا يحل وقت ولادته، تعاني شدة الألام في ولادته فيعتريها الحزن, ولكنه حزن يحمل في طياته الأمل والرجاء والفرح، وسريعاً ما يتحول بالفعل إلى فرح؛ هكذا الإنسان المسيحي، فهو يرجف من البذل رجفاناً، يرهب الصوم الشديد إذا حتم به الروح، ويجزع من إدارة الخد الآخر للمعتدي اللاطم على الوجه أو على الظهر, ويؤكل قلبه أكلاً حينما تُسلب أمواله أو يهان اسمه, أو تُهدد كرامته من أجل الاسم الحسن, ولكن حينما ينتهي العالم من فعلته الشنعاء التي يفعلها، وهو راض ومسرور ومتشفى، وحينما ينتهي كل شيء وتعود النفس تحسب حساب المكسب والخسارة أو حساب البيدر كما يقولون، أي الزرع والحصاد, حيث يُزرع بالدموع ويُحصد بالأبتهاج ، حينئذ نتهلل فرحاً، فالمكسب الروحي لا يقاس عظمة بتفاهة الخسارة:
+ «ودعوا الرسل، وجلدوهم, وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع, ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حٌسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه» (اع40:5-41)
+ «لأنكم رثيتم لقيودي أيضاً, وقبلتم سلت أموالكم بفرح، عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السموات وباقياً، فلا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة.» (عب34:10-35)
والمرأة التي تحزن بإرادتها على رجاء الفرح القادم، هي الكنيسة التي كان يسعى كارزها حاذياً رجليه بإنجيل البشارة، يجوب مجاهل البلاد والصحاري والقفار، محتملاً أقصى ما يكون من التعب والمقاومة والمعاثر التي بلا عدد، في سبيل أن يكتسب ابناً جديداً للمسيح، يلده في العالم لحساب الله، وبعد أن يضمه إلى حضن ألله، ينطلق مُنشداً، ناشداً ولداً آخر، غير ذاكر التعب، من أجل الثمر المتكاثر.
كذلك الإنسان المسيحي، حينما يعزم أن يترك كل شيء، ليتبع المخلص، حيث تبدو هذه الخطوة كأنها قفزة في الفراغ، وتأخذه الرهبة إلى حين، لأنه يحس، وهو يختبر اختبار الانتقال من حضن العالم إلى حضن المسيح، من الإلتحام بالزمن إلى الإلتحام بالخلود، يحس بالجزع والخسارة والترك كمن يعبر من الموت إلى الحياة, أو من رحم العالم المظم إلى نور الحياة الأبدية، ولكن سرعان ما تستقبله الحقيقة، مجسمة في شخص المسيح، ويغشاه النور والسلام والفرح المقيم.
ثلاثة عوامل تقذف الإنسان من رحم العالم المظم إلى نور الحياة مع الله:
العامل الأول: الإيمان الواثق بصدق مواعيد الله وقوته في كلماته.
العامل الثاني: الروح القدس الذي يتبع الإيمان اتباعاً.
العامل الثالث: قوة جذب الآب السرية غير الملحوظة.
هزه هي العوامل الثلاثة، وقوة الآب أعظمها.
الحزن الأكبر قادم على التلاميذ؛ فحزن الفراق غطاه الحزن على منظر المسيح وهم يقيدون يديه ويقودونه كشاة تُساق إلى الذبح، وهو صامت، وكأنه مقهور، ثم منظر المحاكمة من بعيد وهم يلطمونه على الخد، والعسكر يضربونه على الرأس، ثم يمددونه على الصليب ويدقون الحديد في يديه ورجليه، وهو حزين منكس الرأس يٌسلم الروح! أي حزن مثل حزن كهذا، وأي نحيب نحبت به النسوة وهن يلطمن على خدودهن: «والنساء اللواتي كن يلطمن أيضاً وينحن عليه» (لو27:23)، على فتى الناصرة الغض، وهو منحنى واقع تحت ثقل الصليب!! حزن التلاميذ ونحيب النسوة ستظل تردد أصداءه السموات، بانتظار ظهوره، حين ينعكس هذا الحزن وهذا النحيب واللطم على صالبيه ومسلميه: «هوذا يأتي مح السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه، وينوح عليه جيع قبائل الأرض، نعم آمين.» (رؤ7:1)
وفي الحقيقة, قد سبق الأنبياء ووصفوا هذا الحزن وهذا الفرح، بنفس المثل الذي قاله المسيح عن المرأة عندما تلدى, فلم يفت على إشعياء النبي أن يعرج بالنبوة على التلاميذ الخائفين بعد موت المسيح، والمتجمعين في العلية، والباب مغلق عليهم من الخوف، وهم مختبئون، ولكن كان كل ذلك إلى لحظة!! «بعد قليل ترونني»:
«زِدْتَ الأُمَّةَ يَا رَبُّ زِدْتَ الأُمَّةَ (بنين جدد). تَمَجَّدْتَ (بالقيامة). وَسَّعْتَ كُلَّ أَطْرَافِ الأَرْضِ (لاستقبال إيمانك). يَا رَبُّ فِي الضِّيقِ طَلَبُوكَ. سَكَبُوا مُخَافَتَةً (دعاء) عِنْدَ تَأْدِيبِكَ إِيَّاهُمْ. كَمَا أَنَّ الْحُبْلَى الَّتِي تُقَارِبُ الْوِلاَدَةَ تَتَلَوَّى وَتَصْرُخُ فِي مَخَاضِهَا هَكَذَا كُنَّا قُدَّامَكَ يَا رَبُّ. حَبِلْنَا تَلَوَّيْنَا ...... تَحْيَا أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ الْجُثَثُ. اسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ التُّرَابِ. ...... هَلُمَّ يَا شَعْبِي, ادْخُلْ مَخَادِعَكَ وَأَغْلِقْ أَبْوَابَكَ خَلْفَكَ. اخْتَبِئْ نَحْوَ لُحَيْظَةٍ حَتَّى يَعْبُرَ الْغَضَبُ. لأَنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ .......» (إش 15:26-21)
ثم يعود إشعياء، يضيف مقياس زمان الحزن القليل بالنسبة لعظم الفرح المستديم، كما يقول بولس الرسول: «فإني أحسبب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يٌستعلن فينا» (رو18:8). فحزن التلاميذ لم يدم أكثر من ثلا ثة أيام، بعدها وُلدت أمة بكاملها، وأولادها ملأوا كل أقطار الأرض! والعجيب أن يصف إشعياء التلاميذ بأنهم يمثلون أورشليم القديمة وهي تتمخض، والرب نفسه يولدها, فينفتح رحم أورشليم المغلق لتلد وتفرح, أي يفرح التلاميذ ويفرح معهم كل من أحبوها, أي من أحب الآباء, فإنهم جميعاً يصيرون أولادها، أي أولاد الكنيسة، أورشليم الجديدة, أمنا الحرة: «قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا الطَّلْقُ وَلَدَتْ. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْمَخَاضُ وَلَدَتْ ذَكَراً. مَنْ سَمِعَ مِثْلَ هَذَا؟ مَنْ رَأَى مِثْلَ هَذِهِ؟ هَلْ تَمْخَضُ بِلاَدٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ تُولَدُ أُمَّةٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟ فَقَدْ مَخَضَتْ صِهْيَوْنُ بَلْ وَلَدَتْ بَنِيهَا. هَلْ أَنَا أُمْخَضُ وَلاَ أُوَلِّدُ يَقُولُ الرَّبُّ أَوْ أَنَا الْمُوَلِّدُ هَلْ أُغْلِقُ الرَّحِمَ قَالَ إِلَهُكِ؟ افْرَحُوا مَعَ أُورُشَلِيمَ وَابْتَهِجُوا مَعَهَا يَا جَمِيعَ مُحِبِّيهَا. افْرَحُوا مَعَهَا فَرَحاً يَا جَمِيعَ النَّائِحِينَ عَلَيْهَا. لِتَرْضَعُوا وَتَشْبَعُوا مِنْ ثَدْيِ تَعْزِيَاتِهَا. لِتَعْصِرُوا وَتَتَلَذَّذُوا مِنْ دِرَّةِ (ضرع) مَجْدِهَا. لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «هَئَنَذَا أُدِيرُ عَلَيْهَا سَلاَماً كَنَهْرٍ وَمَجْدَ الأُمَمِ كَسَيْلٍ جَارِفٍ فَتَرْضَعُونَ وَعَلَى الأَيْدِي تُحْمَلُونَ وَعَلَى الرُّكْبَتَيْنِ تُدَلَّلُونَ. كَإِنْسَانٍ تُعَزِّيهِ أُمُّهُ هَكَذَا أُعَزِّيكُمْ أَنَا وَفِي أُورُشَلِيمَ تُعَزَّوْنَ. فَتَرُونَ وَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَتَزْهُو عِظَامُكُمْ كَالْعُشْبِ وَتُعْرَفُ يَدُ الرَّبِّ عِنْدَ عَبِيدِهِ وَيَحْنَقُ عَلَى أَعْدَائِهِ (إش 7:66-14)
ويضيف هوشع النبي: «من يد الهاوية أفديهم، من الموت أخلصهم، أين أؤباؤك يا موت؟ أين شوكتك يا هاوية؟ تختفي الندامة عن عيني.» (هو14:13)
ويكاد رنين نبوة إشعياء يُسمع سمعاً في كلام هذا الفصل من إنجيل القديس يوحنا، بل أحياناً نفس الألفاظ، فكلمة السر التي احتار فيها التلاميذ، يذكرها إشعياء بنفس حروفها: «أدخل مخادعك وأغلق أبوابك خلفك اختبىء نحو لحيظة (إش20:26) وهي نفس الكلمة التي قالها الرب: «بعد قليل ترونني», والتي وقعها القديس يوحنا بعد ذلك على ما تم بالفعل: «ولما كانت عشية ذلك اليوم، وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود, جاء يسوع» (يو19:20). كذلك قول إشعياء: «فترون وتفرح قلوبكم» جاءت على لسان المسيح: «سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم».
وواضح من روح النبوات في أسفار العهد القديم، فيما يختص بآلام الحبل وفرحة الولادة, أنها جاءت تعبيراً عن الموت والقيامة. فأقوى تعبير عن الألم الاختياري، هو ألم الولادة, والتعبير عن الفرح الحتمي الذي يعقب الألم هو الولادة. لذلك، لم يكن المثل الذي قدمه السيح عن المرأة التي جاء ميعاد ولادتها، إلا تعبيرا عن اقتراب ساعة الموت. وقول المسيح عن «القليل» أو «الزمن القليل» هو تعبير عن قصر فترة الموت، كذلك عن صغر حجم ألم الموت بالنسبة للقيامة كحياة أبدية وفرح أبدي. والتلاميذ جازوا، بالحقيقة، بالمشاركة مع المسيح هذه المحنة، محنة ألم الموت، مضافاً إليها ألم الفراق، وفزع الخوف من اليهود، ولكنها كانت «إلى قليل»، كما خرجوا من المحنة هذه, بعد قليل, بخروج المسيح من القبر التي وصفها إشعياء: «لأن هوذا الرب يخرج من مكانه.» (إش21:26)
ويكاد مثل المخاض والألم ينطبق على المسيح نفسه، فهو بعبوره آلام الموت ومروره من خلال القبر إلى السماء، ولد لنا في العالم إنساناً جديداً.
أما فرح التلاميذ: «سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم»، فهو لسببين:
الأول: النصرة الباهرة التي قهر بها المسيح الموت والهاوية, والتي عبر عنها هوشع النبي أروع تعبير: «أين أوباؤك يا موت أين شوكتك يا هاوية»!
والسبب الثاني هو الرب المُقام، فقيامة الرب صارت بالفعل قيامتهم من موت محقق ويأس مقيم، وقام العالم معهم، وقمنا نحن أيضاً وفرحنا، حيث فرحنا في قلوبنا لا يستطيع العالم, ولا الموت, أن ينزعه منا. وهكذا تحول العالم أيضاً من فرحه، كغالب، ضد المسيح بحكم الصلب والموت، إلى مغلوب ومقهور بقيامة المسيح: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو32:16). والترجمة الأدق: تشجعوا، أنا قد غلبت العالم.
وقول المسيح هنا يأتي في صيغة المتكلم: «سأراكم» وجاءت في مقابل «بعد قليل لا تبصرونني», ثم «بعد قليل ترونني». هنا المسيح يفيض على التلاميذ من مجدهً الأثنى بعد قيامته . فرؤية الله لنا ، فيها اعتبار غاية الاعتبار أكثر ألف مرة من أن نسعى نحن لنراه فلا نستطيع، ويكفي التلاميذ مجداً أن المسيح يتطلع عليهم من مجده. فمع رؤية المسيح لهم تنسكب عليهم فرحته، مع انسكاب نور عينيه! ولأنه فرح الله فلن يستطيع أحد أن ينزعه منهم: «لأن فرح الرب هو قوتكم» (نح10:8). وهنا مقارنة مبدعة بين: «الحزن القليل» الذي عبروه، والفرح القيم الذي سيبلغونه.
كذلك فمثل المخاض والولادة، عند بولس الرسول، استخدمه ليعبر عن ميلاد الإنسان الجديد، حيث يظل هو, أي بولس الرسول, يعاني آلام المخاض كأم (الكنيسة)، إلى أن يولد الإنسان على صورة المسيح. أي أن المسيح نفسه يتصور في هذا الانسان الجديد، وكأن الانسان يولد جديداً بصورة المسيح عينها: «يا أولادي، الذين أتمخض بكم أيضاً، إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غل19:4). في هذا المثل نرى بولس وهو يعبر عن الرسولية ككل، وعن الكنيسة أيضاً بالدرجة الاولى، أنه وهو رجل يتمخض كوالدة، ويلد إنساناً جديداً له صورة المسيح. هذا التعبير جيد بالنسبة للكنيسة، وقد صورها سفر الرؤيا بهذه الصورة عينها في الأصحاح الثانى عشر.
«فى ذلك اليوم»: يوم ينفتح عهد جديد من العلاقات فوق الطبيعة، حينما يستعلن التلاميذ ملء مجد المسيح المُقام، وقد سبق أن أوضح المسيح ماذا يكون في ذلك اليوم هكذا: «في ذلك اليوم، تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في، وأنا فيكم.» (يو20:14)
هذا اليوم هو اليوم الذي انفتحت فيه أعين التلاميذ على حلول الروح القدس يوم الخمسين، واستمر هذا اليوم إلى هذا اليوم! فعرفوا الحق كل الحق. عرفوا أن المسيح في الآب، ونخن مدعوون بالوعد الإلهي والروح القدس لنكون: «أنتم في, وأنا فيكم». وحينما تبلغ المعرفة بالروح إلى هذا الملء يمتنع السؤال, حينئذ تبلغ «الطلبة» حد الإجابة الفورية، فملء المعرفة يؤهل لصحة الطلبة, ويؤكد ملء الفرح.
لقد سأل التلاميذ أسئلة كثيرة, حتى مل المسيح من أسئلتهم، التي تدل على أنهم كانوا دائمأ غير فاهمين, أو بالمعنى المسيحي أنهم لم يكونوا على مستوى الحياة الأبدية أو الإنسان الجديد، أو بحسب تعبير بولس الرسول إيجابياً: «وأما نحن، فلنا فكر المسيح» (اكو16:2)! فلم يكونوا في ذلك الوقت على مستوى فكر المسيح ورسالته. لذلك يسبق المسيح الآن، ويريح أفكارهم وضمائرهم الحائرة عن ما هو بعد هذا: «القليل الذي يقول عنه»، لأنهم بعد قليل فعلاً سيبلغون حالة الاستعلان الكامل عن المسيح وعن أقواله ورسالته، حتى إنهم في ذلك اليوم لن يحتاجوا قط أن يسألوه شيئأ من هذا، لأنهم سيكونون عارفين بكل شيء؛ كما يذكر بولس الرسول في إحدى رسائله: «أشكر إلهي فى كل حين من جهتكم، على نعمة الله المعطاة لكم في يسوع المسيح, أنكم في كل شيء استغنيتم فيه، في كل كلمة وكل علم, كما ثبت فيكم شهادة المسيح، حتى إنكم لستم ناقصين في موهبة ما.» (اكو4:1-7)
«الحق الحق أقول لكم, إن كل ما طلبتم من الآب باسمي, يعطيكم»: المسيح هنا يحول فكر التلاميذ من حالة السؤال، إلى حالة الطلب. ففي الحالة الاولى يأتي السؤال بسبب عدم الفهم للمعرفة؛ أما في الحالة الثانية، فهنا الطلب معنى أن الإنسان يطلب شيئاً بالصلاة, ويلتمس أخذه, وهو يساوي تماماً الانتقال من حالة الجهل والظلمة إلى حالة ألدالة كمن يسعى في النور، حالة الفرح الدائم الذي فيه يكف كل سؤال من فكر الانسان.
إن السر فى قول المسيح: «في ذلك اليوم لا تسألونني شيئاً»، يكمن في الآية السابقة: «سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم». هذا ليس تعليماً فكرياً, بل توقيعاً وتسجيلاً اختبارياً، علينا أن نؤمن به ونتذوقه, لأن من يبلغ حالة الفرح هذه, يبلغ حتماً أو تلقائيا، حالة الاكتفاء الكلي بالله، ينسى كل سؤال، ينسى نفسه لأنه يكون مُبتلعاً في فرح حضور الرب، لأن كلمة «سأراكم» تعني أننا نكون واقعين تحت عينيه في مجال وجوده وعمله. وحالة الفرح التي نبلغها في وقوعنا تحت رؤية المسيح، ليس لها أي سبب. إنها بحد ذاتها اختبار الحياة الأبدية جزئياً. فأن نحيا أمام الله الآب والمسيح, فهذا معنا أن نفرح فرحا هو فرح الحق, فرحاً جوهرياً, لأن طبيعة الحياة مح الله لها فرح الله والمسيح الذي لا يُنطق به، ولا يُدرك سببه، لا نستطيع أن نستزيده، ومعه لا نطلب إلا مجد الله. هذا الفرح الكلي في طبيعته, طلبه المسيح للتلاميذ في الأصحاح السابع عشر بقوله: «ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم.» (يو13:17)
وفي المقابل، فإن فرح العالم له أسبابه الكثيرة وشروطه، ولكن لا يمكن أن يفرح أحد بحسب العالم بدون سبب. لا يوجد في العالم فرح حقيقي، لذلك فكل فرح فيه يتناقص من ذاته، ويتلاشى, وقد يترك مكانه عوزاً وحزناً.
ولكون فرح المسيح فرحاً حقيقياً ودائماً، فلا يستطيع أحد انتزاعه منا، لأنه ليس من سبب يمكن أن يبطله. فرح «ذلك اليوم» هو فرح أبدي: «ومفديو الرب يرجعون، ويأتون إلى صهيون بالترنم، وعلى رؤوسهم فرح أبدي, ابتهاج وفرح يدركانهم, يهرب الحزن والتنهد. أنا أنا هو فرحكم.» (إش11:51-12)
«من الآب»: كانت الأسئلة توجه سابقاً للمسيح بسبب غياب الروح القدس، وانعدام الصلة المباشرة مع الآب؛ أما بعد ذهاب المسيح إلى الآب, الأمر الذي كرره المسيح مراراً ليرسخ في ذهن التلاميذ أن هذا «خير لهم» فإنه بذهاب المسيح إلى الآب حاملاً على يديه دم ذبيحته الكفارية، استعاد المسيح للانسان صلته الأولى بالله, كاملة غير منقوصة. وصار دخولنا إلى الله الآب بلا مانع: «فإذ قد تبررنا بالإيمان, لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى (الآب) هذه النعمة, التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله» (رو1:5-2)
لذلك، رفع المسيح صلتنا لتكون مع الله الآب مباشرة, إنما باسم يسوع المسيح، الذي به نلنا المصالحة والتبني، ولذلك وجه المسيح تلاميذه نحو الآب لتكون طلبتهم إليه، واعدأ أن كل ما يطلبونه باسمه يعطيهم. على أن عطية الآب الأولى والعظمى، هي الروح القدس نفسه (راجع لو13:11)، الذي بواسطته يعطي الآب عطاياه.
«باسمى»: اسم المسيح ليس مجرد ذكر «المسيح» ككلمة نضعها في الصلاة الربانية «بالمسيح يسوع ربنا». هنا اسم «المسيح» يعني وجوده وعمله، سواء في سماعة الصلاة لدى الآب أو في الاستجابة لها. أن نطلب من الآب باسم المسيح، يعني أن نطلب في حضرته كخروف مذبوح يتراءى أمام أبيه، ودمه عليه يسمع ويتكلم ويشفع ويطهر, والصلاة التي نصليها يزكيها، لتدخل إلى الله بلا لوم، ويحمل الروح القدس الاستجابة لنا مع العطية. لذلك، فهي صلاة تُسمع لدى الآب بالضرورة وتُستجاب، لأن حضرة الابن تقويها وتُلبسها المسرة. فليس باستحقاق برنا يسمع الآب لصلاتنا، بل باستحقاق دم المسيح وبره، الذي أعاره لنا لنعمل تحت لوائه.
الآن نستطع أن نفهم أن الله الذي تسمي «إله إبراهيم واسحق ويعقوب» (خر16:3)، هذه الصفة التي كانت فخر عبادة إسرئيل؛ قد أخذ صفته الأعلى من نحونا: «إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد» (أف17:1)، «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح.» (أف3:1)
لقد انتقلت صلتنا بالله من نسبة إلى الأباء القديسين بني البشر إلى صلتنا بالله في نسبه لابنه الوحيد. الصفة الاولى كانت بتوسط بر الإنسان، أما الصفة الجديدة فهي جوهرية، هي صميم استعلان الله الآب لنا في حقيقته الجوهرية بتجسد ابنه وتأنسه، وبتوسط بره ودم صليبه. في القديم كان شعب إسرائيل قد اعتفى من الاقتراب إلى الله أو سماع صوته, فاستجاب الله للشعب ووعد بأن يقيم لهم النبي الذي يتكلم بصوت الله, ويكون كلام الله في فمه، ويتكلم بكل ما يوصيه الله. وطبعاً ليس موسى، لأن موسى هو الذي نقل هذا الكلام للعشب، بل كان هو المسيح: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك، من إخوتك، مثلي, له تسمعون. حسب كل ما طلبث من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضأ لئلا أموت. قال لى الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبيأ من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه, فيكلمهم بكل ما أوصيه به, ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي, أنا أطالبه.» (تث15:18-19)
هذا هو يسوع المسيح كلمة الله وصوته والحامل لاسمه، الذي قدمنا إلى الله أبيه لنستمع إليه ونطلب منه.
أما طلبة الإيمان التي نتقدم بها إلى الآب، فهي تعمل عملها، وتنجح نجاحاً، حيث قوة الايمان لا تكون مستمدة من قوتنا ولا متوقفة على طهارة أيدينا وبرنا، بل تنبع من شدة ثقتنا بصدق مواعيد الله وأمانته، ومن يقيننا، الذي لا يتزعزع، أن كل ما قاله الله ليتم وليتحقق لنا وفينا, وأن كل أمر قاله المسيح هو وصية الله, وكل وصية تحمل قوة تنفيذها فيها ولا تحتاج لقوة أخرى لتنفيذها, سوى الإيمان الصادق بها. كلام المسيح كالمسيح, والمسيح قال: «من يأكلني، فهو يحيا بي» (يو57:6)، كذلك كل كلمة قالها المسيح فهي للأخذ والأكل: «ؤجدت كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك، يارب إله الجنود» (إر16:15). وأن نأكل كلام المسيح, يعني أن نحيا به ساعة بساعة، لأنه روح وحياة.
ومرة أخرى نقول: إن ثقتنا بصدق مواعيد الله وأمانته هي من ثقتنا بالله المطلقة. وثقتنا باالله وبمواعيده وكلامه لا يتوقف على برنا وطهارة قلوبنا، فقلوبنا لا تخلو من ملامة، ولكن القديس يوحنا يزيد ثقتنا بالله وكلامه ومواعيده مضاعفاً حينما يقول: «لأنه إن لامتنا قلوبنا، فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء. أيها الأخباء إن لم تلمنا قلوبنا، فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه« (ايو20:3-22)، فثقتنا المطلقة بالله تغطي عجزنا وتزيد: «وهذه هي الثقة التي لنا عنده، أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته، يسمع لنا» (ايو14:5). واسم المسيح كفيل أن يغطي كل عيب فينا, فهو ضمين لصدق وعده: «اسألوا تُعطوا, اطلبوا تجدوا, اقرعوا يُفتح لكم.» (مت7:7)
«فى ذلك اليوم»: يوم ينفتح عهد جديد من العلاقات فوق الطبيعة، حينما يستعلن التلاميذ ملء مجد المسيح المُقام، وقد سبق أن أوضح المسيح ماذا يكون في ذلك اليوم هكذا: «في ذلك اليوم، تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في، وأنا فيكم.» (يو20:14)
هذا اليوم هو اليوم الذي انفتحت فيه أعين التلاميذ على حلول الروح القدس يوم الخمسين، واستمر هذا اليوم إلى هذا اليوم! فعرفوا الحق كل الحق. عرفوا أن المسيح في الآب، ونخن مدعوون بالوعد الإلهي والروح القدس لنكون: «أنتم في, وأنا فيكم». وحينما تبلغ المعرفة بالروح إلى هذا الملء يمتنع السؤال, حينئذ تبلغ «الطلبة» حد الإجابة الفورية، فملء المعرفة يؤهل لصحة الطلبة, ويؤكد ملء الفرح.
لقد سأل التلاميذ أسئلة كثيرة, حتى مل المسيح من أسئلتهم، التي تدل على أنهم كانوا دائمأ غير فاهمين, أو بالمعنى المسيحي أنهم لم يكونوا على مستوى الحياة الأبدية أو الإنسان الجديد، أو بحسب تعبير بولس الرسول إيجابياً: «وأما نحن، فلنا فكر المسيح» (اكو16:2)! فلم يكونوا في ذلك الوقت على مستوى فكر المسيح ورسالته. لذلك يسبق المسيح الآن، ويريح أفكارهم وضمائرهم الحائرة عن ما هو بعد هذا: «القليل الذي يقول عنه»، لأنهم بعد قليل فعلاً سيبلغون حالة الاستعلان الكامل عن المسيح وعن أقواله ورسالته، حتى إنهم في ذلك اليوم لن يحتاجوا قط أن يسألوه شيئأ من هذا، لأنهم سيكونون عارفين بكل شيء؛ كما يذكر بولس الرسول في إحدى رسائله: «أشكر إلهي فى كل حين من جهتكم، على نعمة الله المعطاة لكم في يسوع المسيح, أنكم في كل شيء استغنيتم فيه، في كل كلمة وكل علم, كما ثبت فيكم شهادة المسيح، حتى إنكم لستم ناقصين في موهبة ما.» (اكو4:1-7)
«الحق الحق أقول لكم, إن كل ما طلبتم من الآب باسمي, يعطيكم»: المسيح هنا يحول فكر التلاميذ من حالة السؤال، إلى حالة الطلب. ففي الحالة الاولى يأتي السؤال بسبب عدم الفهم للمعرفة؛ أما في الحالة الثانية، فهنا الطلب معنى أن الإنسان يطلب شيئاً بالصلاة, ويلتمس أخذه, وهو يساوي تماماً الانتقال من حالة الجهل والظلمة إلى حالة ألدالة كمن يسعى في النور، حالة الفرح الدائم الذي فيه يكف كل سؤال من فكر الانسان.
إن السر فى قول المسيح: «في ذلك اليوم لا تسألونني شيئاً»، يكمن في الآية السابقة: «سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم». هذا ليس تعليماً فكرياً, بل توقيعاً وتسجيلاً اختبارياً، علينا أن نؤمن به ونتذوقه, لأن من يبلغ حالة الفرح هذه, يبلغ حتماً أو تلقائيا، حالة الاكتفاء الكلي بالله، ينسى كل سؤال، ينسى نفسه لأنه يكون مُبتلعاً في فرح حضور الرب، لأن كلمة «سأراكم» تعني أننا نكون واقعين تحت عينيه في مجال وجوده وعمله. وحالة الفرح التي نبلغها في وقوعنا تحت رؤية المسيح، ليس لها أي سبب. إنها بحد ذاتها اختبار الحياة الأبدية جزئياً. فأن نحيا أمام الله الآب والمسيح, فهذا معنا أن نفرح فرحا هو فرح الحق, فرحاً جوهرياً, لأن طبيعة الحياة مح الله لها فرح الله والمسيح الذي لا يُنطق به، ولا يُدرك سببه، لا نستطيع أن نستزيده، ومعه لا نطلب إلا مجد الله. هذا الفرح الكلي في طبيعته, طلبه المسيح للتلاميذ في الأصحاح السابع عشر بقوله: «ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم.» (يو13:17)
وفي المقابل، فإن فرح العالم له أسبابه الكثيرة وشروطه، ولكن لا يمكن أن يفرح أحد بحسب العالم بدون سبب. لا يوجد في العالم فرح حقيقي، لذلك فكل فرح فيه يتناقص من ذاته، ويتلاشى, وقد يترك مكانه عوزاً وحزناً.
ولكون فرح المسيح فرحاً حقيقياً ودائماً، فلا يستطيع أحد انتزاعه منا، لأنه ليس من سبب يمكن أن يبطله. فرح «ذلك اليوم» هو فرح أبدي: «ومفديو الرب يرجعون، ويأتون إلى صهيون بالترنم، وعلى رؤوسهم فرح أبدي, ابتهاج وفرح يدركانهم, يهرب الحزن والتنهد. أنا أنا هو فرحكم.» (إش11:51-12)
«من الآب»: كانت الأسئلة توجه سابقاً للمسيح بسبب غياب الروح القدس، وانعدام الصلة المباشرة مع الآب؛ أما بعد ذهاب المسيح إلى الآب, الأمر الذي كرره المسيح مراراً ليرسخ في ذهن التلاميذ أن هذا «خير لهم» فإنه بذهاب المسيح إلى الآب حاملاً على يديه دم ذبيحته الكفارية، استعاد المسيح للانسان صلته الأولى بالله, كاملة غير منقوصة. وصار دخولنا إلى الله الآب بلا مانع: «فإذ قد تبررنا بالإيمان, لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى (الآب) هذه النعمة, التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله» (رو1:5-2)
لذلك، رفع المسيح صلتنا لتكون مع الله الآب مباشرة, إنما باسم يسوع المسيح، الذي به نلنا المصالحة والتبني، ولذلك وجه المسيح تلاميذه نحو الآب لتكون طلبتهم إليه، واعدأ أن كل ما يطلبونه باسمه يعطيهم. على أن عطية الآب الأولى والعظمى، هي الروح القدس نفسه (راجع لو13:11)، الذي بواسطته يعطي الآب عطاياه.
«باسمى»: اسم المسيح ليس مجرد ذكر «المسيح» ككلمة نضعها في الصلاة الربانية «بالمسيح يسوع ربنا». هنا اسم «المسيح» يعني وجوده وعمله، سواء في سماعة الصلاة لدى الآب أو في الاستجابة لها. أن نطلب من الآب باسم المسيح، يعني أن نطلب في حضرته كخروف مذبوح يتراءى أمام أبيه، ودمه عليه يسمع ويتكلم ويشفع ويطهر, والصلاة التي نصليها يزكيها، لتدخل إلى الله بلا لوم، ويحمل الروح القدس الاستجابة لنا مع العطية. لذلك، فهي صلاة تُسمع لدى الآب بالضرورة وتُستجاب، لأن حضرة الابن تقويها وتُلبسها المسرة. فليس باستحقاق برنا يسمع الآب لصلاتنا، بل باستحقاق دم المسيح وبره، الذي أعاره لنا لنعمل تحت لوائه.
الآن نستطع أن نفهم أن الله الذي تسمي «إله إبراهيم واسحق ويعقوب» (خر16:3)، هذه الصفة التي كانت فخر عبادة إسرئيل؛ قد أخذ صفته الأعلى من نحونا: «إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد» (أف17:1)، «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح.» (أف3:1)
لقد انتقلت صلتنا بالله من نسبة إلى الأباء القديسين بني البشر إلى صلتنا بالله في نسبه لابنه الوحيد. الصفة الاولى كانت بتوسط بر الإنسان، أما الصفة الجديدة فهي جوهرية، هي صميم استعلان الله الآب لنا في حقيقته الجوهرية بتجسد ابنه وتأنسه، وبتوسط بره ودم صليبه. في القديم كان شعب إسرائيل قد اعتفى من الاقتراب إلى الله أو سماع صوته, فاستجاب الله للشعب ووعد بأن يقيم لهم النبي الذي يتكلم بصوت الله, ويكون كلام الله في فمه، ويتكلم بكل ما يوصيه الله. وطبعاً ليس موسى، لأن موسى هو الذي نقل هذا الكلام للعشب، بل كان هو المسيح: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك، من إخوتك، مثلي, له تسمعون. حسب كل ما طلبث من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضأ لئلا أموت. قال لى الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبيأ من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه, فيكلمهم بكل ما أوصيه به, ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي, أنا أطالبه.» (تث15:18-19)
هذا هو يسوع المسيح كلمة الله وصوته والحامل لاسمه، الذي قدمنا إلى الله أبيه لنستمع إليه ونطلب منه.
أما طلبة الإيمان التي نتقدم بها إلى الآب، فهي تعمل عملها، وتنجح نجاحاً، حيث قوة الايمان لا تكون مستمدة من قوتنا ولا متوقفة على طهارة أيدينا وبرنا، بل تنبع من شدة ثقتنا بصدق مواعيد الله وأمانته، ومن يقيننا، الذي لا يتزعزع، أن كل ما قاله الله ليتم وليتحقق لنا وفينا, وأن كل أمر قاله المسيح هو وصية الله, وكل وصية تحمل قوة تنفيذها فيها ولا تحتاج لقوة أخرى لتنفيذها, سوى الإيمان الصادق بها. كلام المسيح كالمسيح, والمسيح قال: «من يأكلني، فهو يحيا بي» (يو57:6)، كذلك كل كلمة قالها المسيح فهي للأخذ والأكل: «ؤجدت كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك، يارب إله الجنود» (إر16:15). وأن نأكل كلام المسيح, يعني أن نحيا به ساعة بساعة، لأنه روح وحياة.
ومرة أخرى نقول: إن ثقتنا بصدق مواعيد الله وأمانته هي من ثقتنا بالله المطلقة. وثقتنا باالله وبمواعيده وكلامه لا يتوقف على برنا وطهارة قلوبنا، فقلوبنا لا تخلو من ملامة، ولكن القديس يوحنا يزيد ثقتنا بالله وكلامه ومواعيده مضاعفاً حينما يقول: «لأنه إن لامتنا قلوبنا، فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء. أيها الأخباء إن لم تلمنا قلوبنا، فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه« (ايو20:3-22)، فثقتنا المطلقة بالله تغطي عجزنا وتزيد: «وهذه هي الثقة التي لنا عنده، أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته، يسمع لنا» (ايو14:5). واسم المسيح كفيل أن يغطي كل عيب فينا, فهو ضمين لصدق وعده: «اسألوا تُعطوا, اطلبوا تجدوا, اقرعوا يُفتح لكم.» (مت7:7)
«الآن» لا يزال في «الوقت القليل» الذي لم يُستعلن فيه بعد اسم المسيح بالكامل، والتلاميذ ليسوا بعد على مستوى الطلبة، فهم لا يزالون حيارى، وصدمة الفراق أسكتت أفواههم وعقولهم. فالطلبة الروحية، التي هي نفسها الصلاة, لم ينفتح بابها, لا في قلوبهم ولا عند الآب، فالمسيح لم يُكمل بعد، ولم يُعرف أنه المخلص والفادي.
أما الأمر الآتي بعد ذلك: «اطلبوا», فهو تصريح مُسبق ومُطلق، يستخدمونه بعد انطلاقه، أي بعد كمال استعلانه، لذلك جاء فعل الأمر في الصيغة الدائمة أو المستمرة، لا كأنه أمر بالصلاة والطلبة لمرة واحدة (كما جاءت في مر22:6)، ولكن كتصريح مرور دائم مختوم باسم المسيح، يقدمونه للآب، فتدخل به الصلاة والطلبة إلى الآب, حيسما وكلما طُلبت. لأنه بموت المسيح على الصليب سيكون قد رفع الحجاب الفاصل بين الإنسان والله، وافتتح قدس الأقداس الأعلى في وجه الإنسان، وذلك بدخول الابن متجسدا حاملاً بجسده ذبيحة نفسه، ليدشن بها عهد الصلح والسلام والحب مع الآب السماوي:
+ «وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه, دخل مرة واحدة إلى الأ قداس فوجه فداءً أبدياً.» (عب12:9)
+ «فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأ قداس (لنتراءى أمام وجه الآب)، بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً، حياً بالحجاب أي جسده, وكاهن عظيم على بيت الله؛ لنتقدم بقلب صادق, فى يقين الإيمان, مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماء نقي، لنتمسلث بإقرار الرجاء راسخاً, لأن الذي وعد هو أمين» (عب19:10-23)
«ليكون فرحكم كاملاً»: فرح «الآن» القليل هو قليل، لأنه زمني، ويطفئه الحزن المفسد، فهو ليس فرحاً؛ أما الفرح الذي سيسكبه المسيح عليهم حينما يُشرق بوجهه من السماء ويطلع عليهم: «سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم»، فهو فرحه الخاص, مثل سلامه الخاص الذي تركه لهم وديعة ثمينة وميراثاً وتراثاً لعهد السلام، من رئيس السلام. هكذا «الفرح» الإلهي الذي يرافق السلام والحب الإلهي, العطايا الجديدة من السماء الجديدة, التي افتتحها المسيح لعبور الإنسان.
يختبر المتصوفون «الفرح» على أنه حالة اختطاف العقل ليعيشوا فيه لحظات ثم يرتدون سريعاً للواقع الأليم. لكن ليس هذا فرح المسيح؛ فرح المسيح انفتاح داخلي على «الكلمة» الحية الفعالة, لتستقي النفس منها الفرح كغذاء يُشبعها ويرويها، تدخل إليه, كلما دخلت فيها. فرح المسيح الذي في وصايا هو سرداب سري يوصل إلى الآب، حينما تمتد فيه الروح من خلال الوصية تجد نفسها وجهاً لوجه مقابل الحقيقة المهيبة لشخص الآب، فتحسه وإن كانت لا تراه: «أنت أيها الآب في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحد فينا, ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو21:17). «أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد» (يو23:17). هذا هو«الفرح الكامل» الذي وهبه لنا المسيح بأن «نكمل» علاقتها بالآب، أن يصير لما دخول إلى الآب بإيمان المسيح، أن نتذوق بهجة الحياة الأبدية مُسبقاً.
وليلاحظ القارىء المدقق، الفرق بين «يكمل فرحكم» كما جاءت في (يو11:15)، وبين ما جاء هنا بمعنى الفرح الكامل الثابت والدائم «ليكون فرحكم كاملاُ» (على الدوام) التي جاءت أيضاً في يو13:17 حيث جاءت ترجمتها الحرفية بالإنجليزية: have been fulifilled. وقد استخدم القديس يوحنا نفسه هذا الوضع لمعنى الفرح الكامل والثابت في رسالته، كحالة ناتجة حتماً من «الشركة في الآب والابن»: «لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا ليكون فرحكم كاملاً» (ايو3:1-4)
المسيح يختتم تعليمه, ويعد بالاستنارة وبمزيد من الخبر:
+ «تأتي ساعة... أخبركم عن الآب علانية» .
+ «الآب نفسه يحبكم».
+ «أنا لست وحدي».
+ «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم».
الأمثال والعلانية: «الأمثال» بالعبرية هي «الماشال». وهي قريبة من المسائل الحسابية، لأن الأمثال تحتاج إلى ما تحتاج إليه المسائل الحسابية من فهم واستفسار. والمقابل لها عند الآباء هو الأبوفثجماتا
وحينما قال المسيح: «كلمتكم بهذا»، لا يقصد فقط الكلام الوارد في الآيات السابقة، ولا حتى فيما يخص مثل الكرمة والمرأة عندما تلد، بل الإنجيل كله. لأن «كلمتكم بأمثال» يأتي في مقابلها «أخبركم علانية». فهنا المقصود ليس الكلام في حد ذاته، بل مستوى الكلام ومستوى فهمه، الأول كان بدون عطية الروح القدس، فالفهم كان صعباً على مستوى الفكر، والثاني يجيء على مستوى عمل الروح القدس في الاستعلان، حيث يصير الكلام واضحاً على مستوى الوعي الروحي.
وقد ثبت ذلك بالفعل بالنسبة للتلاميذ أمامنا، ففي 36:13 نسمع القديس بطرس يسأل: «يا سيد إلى أين تذهب؟»، وفي 5:14 يسأل القديس توما: «يا سيد لسنا نعلم أين تذهب»، وفي 28:13 «وأما هذا، فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا كلمه به»، وفي 7:13 «ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب»، وفي 7:13 «لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد»، وفي28:8 «متى رفعتم ابن الإنساذ، فحينئذ تفهمون أني أنا هو».
بل وهذه المواقف التي تدل على عدم الفهم لكلام المسيح كثيرة وواضحة جداً في الأناجيل الأخرى أيضاً (أنظر على سبيل المثال مر18:7؛ مر21:8؛ 32:9؛ لو 45:9؛ 34:18). ولكن الكلام في الإنجيل عامة هو صعب بالحقيقة، إذا انبرى له عقل الإنسان ليفهمه، لأن العقل وحده ليس من طبيعة كلمة الله. الكلام نفسه ليس صعباً, ولكنه صعب إذا دخل إليه الإنسان من مستوى دون مستواه. فمستوى «الكلمة» إلهي سماوي أخروى, ليس من هذا الدهر ولا لهذا الدهر. الإنجيل هو كتاب الحياة الأبدية, هو وثيقة ندخل بها السماء، هو دليل طريق نسترشد به في السير نحو الله, هو حل للغز الحياة المتناقضة على الأرض في هذا العالم, هو الدواء المخصص للذين عضتهم الحية وسرى سمها في الجسد؛ فهو ترياق عدم الموت. فأين مستوى العقل البشري من هذه الأمور؟
ولكن التلاميذ حينما قبلوا الروح القدس «في ذلك اليوم» خلوا في العلانية، انفتح وعيهم الروحي المسيحي بالروح القدس، لأن عمل الروح القدس هو: «يرشدكم إلى جميع الحق». هذا هو الانفتاح على الحياة الأبدية، وبالتالى عل كلام المسيح: «يذكركم بكل ما قلته لكم». هذه هي العلانية أن يدركوا في الإنجيل أسرار ملكوت السموات وبالأكثر «سر الآب والابن»، الذي هو قمة الاستعلان. فرسالة المسيح يمكن أن نلخصها في كلمة «استعلان الآب» الذي كمل في فوله: «الآب نفسه يحبكم».
و«البار يسيا» أي «العلانية» لا تأتي بكلام جديد ولا تشرح الكلام, فالكلام في الإنجيل باق كما هو بحروفه، ولكن وعي الإنسان هو الذي ينفتح ليقبل كلام المسيح مجدداً وهو منطوق بالروح، وكأنه مصوب لقلبه، وكل كلمة كأنها يد إلهية تكشف الغطاء عن معنى جديد فيها، ومعنى وراء معنى, شىء شيء لا ينتهي والكلمة هي هي.
وقول المسيح: «تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضأ بأمثال، بل أخبركم عن الآب علانية», هذه الساعة هي ساعة كل واحد حينما يخضع قلبه. لا ذهنه، لسلطان الإنجيل، وذلك حينما يلتزم بالكلمة ويجلس ساهراً يفتش بالروح عن نفسه في الإنجيل, ويبحث عن وجوده وكيانه في وصاياه: «طوبى للانسان الذى يسمع لى ساهراً كل يوم» (أم34:8). وقد أدرك ذلك بولس الرسول فكتب مشدداً: «واظبوا على الصلاة، ساهرين فيها بالشكر» (كو2:4)، وحذر من أجلها القدوس الساهر على كلمته، ليجريها، بقوله: «فاذكر كيف أخذث وسمعت, واحفظ وتب، فإني إن لم تسهر، أقدم عليك كلص.» (رؤ3:3)
ويلزم أن نفهم أن العلانية موجودة في كلام المسيح, ولكنها تحتاج إلى الأذن المفتوحة والعين المفتوحة. لقد طلب اليهود أن يكلمهم المسيح علانية ويكفت عن الألغاز والأحجيات والأمثال، فكان رده أنه كلمهم بالعلانية ولكنهم لا يفهمون، لأن ليست لهم آذان ولا قلوب تتقبل العلانية!! «فأحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا (علانية). أجابهم يسوع: إني قلت لكم (جهراً) ولستم تؤمنون» (يو24:10-25). الإيمان بصدق المسيح وأمانة مواعيده وكلامه, هو الذي يرفع الحجاب عن كلمات المسيح، فتظهر العلانية ويتجلى الآب!!
هل المسيح لم يكلم اليهود عن رسالته، وعن سر علاقته بالآب, وعن من أين أتى، وإلى أين يذهب؟ هل لم يصنع أمامهم وفيهم أعمالاً تشهد أنه هو هو يهوه الذي كان يدللهم في القديم؟ أي نبي صنع جملة مما صنع المسيح أمامهم وفيهم؟ أي نبي استعلن صلته بالله هكذا: «أنا والآب واحد»؛ ولكن صدق إشعياء النبي حينما قال عنهم: «لهم عيون تبصر ولا يبصرون, ولهم آذان تسمع ولا يسمعون، قد غلظ قلب هذا الشعب !!!
ولكن أليس هذا الكلام عينه مصوباً إلينا، ألسنا نقول قولتهم: «نريد العلانية»؟ ونتمنى ياليت المسيح يعلن نفسه لنا؟ ياليته يظهر فجأة فنؤمن به. أليس هذا هو القلب الغليظ والعين الكليلة والأذن التي انسدت وانصدت عن أن تسمع الصوت المحيي: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5). هل سمعنا؟ هل حيينا؟ هل نشعر أنه لا دينونة الآن علينا؟ هل انتقلنا من الموت إل الحياة؟ والا فنحن لم نسمع الصوت بعد!
لقد بلغ التلاميذ حالة الاستتعلان هذه، وبلغوها كاملة، فبلغوا قمة المعرفة بالحق وبالله، والأناجيل تشهد بذلك وبالأخص القديس يوحنا الذي كتب إنجيله بعد أكثر من 60 سنة من سماعه هذا الكلام!! لقد كتبه بالاستعلان, والاستعلان يطل على القارىء في كل أية، بل في كل كلمة!! هذا إن كان القارىء على مستوى ألاستعلان؛ وإلا فإنجيل يوحنا أكثرهم الغازاً وأحجيات!!
«هذا هو اليوم الذي صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه» (مز24:118)، يوم حلول الروح القدس على الكنيسة الأولى، الذي لم تغب شمسه ولن تغيب إلى الأبد، هذا هو يوم النار الإلهية التي أُلقيت على الأرض لتضرم الحب والمعرفة والنور في قلب الإنسان، يوم يؤئيل النبي الذي رأى الروح وهو ينسكب على كل بشر وعلى العبيد والإماء. ومنذ ذلك اليوم بدأ الرسل يطلبون باسم «فتاك يسوع»، فيسمع الآب ويستجيب: «ولما صلوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة (علانية)» (أع31:4)
أن يطلب التلاميذ باسم الرب ويستجيب الله، هذا الكلام يأتي مكرراً لما سبق في الآيات 23:16؛ 7:15و16؛ 13:14-14. ولكن الجديد هنا هو قول المسيح: «ولست أقول لكم إني أسأل الآب من أجلكم، لأن الآب نفسه يحبكم».
لكي لا نبتعد عن المعنى الصحيح لهذه الآية، يلزم أن نضع الشرط الأسامي لسماع واستجابة الطلبة لدى الآب وهو: «باسمي». فنحن نطلب باسم المسيح, وقد قلنا سابقاً: أن نطلب باسم المسيح، فهذا يعني أن نتقدم إلى الآب في وجوده، في حضرته, في دمه، في آلامه. ففي كل كلمة نرفعها للآب، لا ترتخي أعيننا عنه، وهو قائم أمام الآب كخروف مذبوح ودمه عليه!
إذن، المعنى هنا أنه قد تمت الصالحة، وانفتح الطريق المباشر إلى قلب الله وأذنه, ونحن لا نحتاج بعد أن نصرخ إلى المسيح أن يتكلم عنا كما كان يفعل شعب إسرائيل. لقد زالت الرعبة من قلوبنا من نحو الله كنار آكلة, لقد أكمل المسيح لنا كل صلاحية الدخول إليه والوقوف أمامه بلا لوم، وذلك في دم ذبيحته: «ويصالح الاثنين (يهوداً وأمماً) في جسد واحد مع الله، بالصليب، قاتلأ العداوة به. فجاء وبشركم بسلام، أنتم البعيدين والقريبين، لأنه به لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب, فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله.» (أف16:2-19)
كان عمل المسيح الأعظم أن «يستعلن لنا الآب» في شخصه, ويعرفنا بكل ما عنده. «لأني أعلمكم بكل ما سمعت من أبي» (يو15:15)، وهذه المعرفة بالآب صيرتنا أحباء, بعد أن كنا بجهلنا عبيداً: «لا أعود أسميكم عبيدا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكي قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعت من أبي» (يو15:15)، ومعرفة الآب ليست علماً وفهماً، بل رفع حواجز وفوارق.
كانت هناك ضرورة حتمية أن يتوسط المسيح، فيتكلم بلساننا أمام الآب عنا، وذلك عندما كان حجاب الخطية حاجزاً بين قلوبنا وقلب الله. لذلك كان فيلبس على حق، عندما تأوه وقال للمسيح: «أرنا الآب وكفانا» (يو8:14). لأن الآب كان، بغير المسيح، محجوزا عنا، وكنا نحن محجوزين عنه، هكذا صرخ إشعياء متوجعاً: «حقاً أنت إله محتجب يا إلة إسرائيل المخلص» (إش15:45)، وداود يستصرخ الله: «لماذا تحجب وجهك وتنسى مذلتنا وضيقتنا.» (مز24:44)
ولكن الأمر لم يعد كذلك، بعد أن ارتفع المسيح بجسده ذاهباً إلى الآب، «بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبدياً» (عب12:9). لقد رُفع الحاجز المتوسط، وأعطانا رتبة البنين، وآهلنا للدخول بإيمان عن ثقة.
بهذا المعنى يقول المسيح: «لست أقول لكم إني أنا أسأل الآب من أجلكم، لأن الآب نفسه يحبكم». ليس كأن دور المسيح في التوسط والشفاعة قد انتهى، بل هو هو الذي يقدمنا إلى الآب، وكأنه يقول لنا: تكلموا, اطلبوا، لا تخافوا، الآب يسمع لكم، الآب يحبكم، لأني أكملت كل ما يرضيه.
فإن كان قد أصبح لنا رئيس كهة يرثي لضعفاتنا (عب15:4)، قد أصبح بواسطته الله لنا أباً، يعاملنا كبنين وأحباء: «انظروا أية محبة أعطانا الآب، حتى نُدعى أولاد الله.» (ايو1:3)
المسيح يوضح هنا أكثر، لماذا أصبح من غير الضروري أن يسأل المسيح الآب من أجلنا، فالسبب هو أننا نحب ابنه، وقد أوضح المسيح هذه المحبة المتبادلة وما تنشئه: «الذي يحبنى يحبه أبى, وأنا أحبه, وأُظهر له ذاتي» (يو21:14). فعلاقتنا بالآب توطدت بسبب حبنا للمسيح ابنه.
يلزمنا أن نفهم أن حبنا للمسيح هو استجابة لمحبته: «لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو19:4)، كذلك محبة الآب، فهي سباقة على محبتنا: «في هذا هي المحبة، ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (ايو10:4). محبة الله، سواء الآب أو الابن، هي أحد أسرار الله التي كانت مخفية عن الإنسان بسبب طبيعته التي اشتبكت مح التعدي والعداوة، فأصبحت متغربة عن سر الله. لذلك جاءت مبادرة المحبة من طرف الله, واستجابتنا لها, فأدخلتنا في سرها العجيب. فلما قبلنا المسيح، اكتشفنا فيه محبته المجانية والسخية: «أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، فأحببناه كالتزام, لأن موته من أجلنا أسر قلوبنا: «لأن محبة المسيح تحصرنا» (2كو14:5). ومن هنا دخلنا في سر محبة الآب، واكتشفنا ما كان مخبأ عنده لنا. لذلك يكرر القديس يوحنا هذا بانفعال: «نحن نحبه، لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو19:4). ولكن يبقى مفتاح سر محبة الآب لنا موجوداً في حبنا للمسيح، الذي كشف لنا سر محبة الآب, وفتح الطريق أمامنا لنتقبلها من يديه: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم» لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة» (أف3:1-4)
«وآمنتم اني من عند الله خرجت»: هذه الحقيقة اللاهوتية يتوقف عليها خلاص العالم. فرسالة المسيح في العالم هي أن يؤمن العالم أن الله «(أرسل ابنه كفارة لخطايانا» (ايو10:4). هذا هو الرجاء الحي الذي عليه ينعقد لواء الكرازة في كل كنائس العالم . لذلك لم يكف المسيح عن التركيز عليها في صلاته الأخيرة لدى الآب: «كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم» (يو18:17)، «.... ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو23:17)، «ليكونوا مكملين إلى واحد، ليعلم العالم أنك أرسلتني» (يو25:17)، «أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني.» (25:17)
«من عند الله خرجت»: «من عند» ، اصطلاح لاهوتي يعني «من جوار». هنا توكيد ضمني على وجود الابن مع الآب أو في الآب، فالابن ترك موضعه متغرباً في جسد إنسان، هذا الاصطلاح كان لا يمكن أن يُقال إذا لم يكن التجسد. فقبول التجسد جعل الابن يُرى على الأرض وكأنه ترك موضعه، وهو في الحقيقة، ومن الوجهة اللاهوتية الخالصة، لم يترك، فالابن قائم دائم في حضن الآب، ولكنه إذ وُجد في الجسد، ظهر وكأنه خرج من عند الله، (أو «من عند الآب» على وجه أصح، حسب كثرة من المخطوطات). لذلك يُقال أنه، وان كان على الأرض يُرى، فهو في السماء قائم: «وليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
لذلك، أصبح الخروج من عند الآب، في معناه اللاهوتي، هو هو التجسد, الذي أكمله على أساس العودة إلى الآب محملاً بالبشرية المفدية التي حملها عليه!
لذلك، فالإيمان بأن المسيح خرج من عند الله, يعني الإيمان برسالة المسيح للعالم، ويعني الإيماذ بالتجسد، الذي هو رجاء كل العالم.
قول على قول!! هذا هو كل الإنجيل، مختصر الإيمان والعقيدة، مجمل الإرسالية, تاريخ الخلاص: الإرسال، الميلاد، الآلام، الصعود! والرب هنا يتكلم بلغة عقائدية, الرب يؤسس بهذا المنطوق عقيدة الجماعة، تلاميذ وكنيسة. الكنيسة إذن ليست من صنع معلم عظيم أو ائتلاف جماعة مسحورة بعظمة فيلسوفها، بل وليست حركة بشرية من حركات التاريخ الإنساني الطويل, بل عمل من أعمال استعلان الله للانسان على الأرض. دخلت العالم من فوق، من فوق التاريخ، لم تأخذ وجودها من تطور الفكر البشري، ولا هي درجة من درجات ارتقاء الثقافة أو الفلسفة الإنسانية؛ بل هي اقتحام فكر الله للزمن الإنساني الخامل المتعطل, ودخول الله المفاجىء والمباغت لطبيعة الإنسان التي فقدت تارخها الإلهي ونسيت الصورة التي انحدرت منها وانحطت إلى مستوى الحيوانية التي جُعلت في البدء سيدة عليها.
«خرجت من عند الآب»: هو تعبير لاهوتي يفيد وحدة الجوهر والذات, ذلك بداعي التجسد. وبدون التجسد لا خروج ولا دخول في اللاهوت. فالله غني عن الحركة والزمن, فهو محور كل الوجود، بل هو الوجود الكلي المطلق. هذا الوجود الكلي المطلق غير المحدود صار محدوداً في شكل الجسد، وظل غير محدود في الجسد وخارج الجسد. خرج من عند الآب لأنه «رأيناه بعيوننا» (ايو1:1) بدون الآب, مع أنه، بالحق والجوهر والإيمان، لم يغادر الآب لحظة واحدة ولا طرفة عين. فالآب والابن واحد مطلق، لا ينقسم ولا ينفصل إلى إلهين. ههما ذات واحدة في شخصين متحدين: الآب في الابن والابن في الآب، بل هما الواحد الكامل في أبوته وبنوته. الابن تجسد، فرُئي وحده في الجسد، مع أنه قائم دائم في أبيه.
«أتيت إلى العالم»: «عمانؤئيل الله معنا». هذا في لغة اللاهوت إخلاء، وفي لغة الإنسان تنازل وتواضع، تنازل عن هيئة لاهوته الممجدة غير المنظورة, ليأخذ هيئة إنسان, عبد, في العالم، له منظر إنسان متضع، لا يشتهي أن ينظر إليه أحد. وكإنسان, أخذ طبيعة الإنسان لنفسه بكل متعلقاتها وأتعابها وهمومها، ما عدا الخطيئة الدخيلة على طبيعة الإنسان، فلم يأخذ جذراً منها ولا فرعاُ؛ وُلد بدونها من عذراء طاهرة وبالروح القدس، وعاش قاهراً كل حركاتها، سيداً على الجسد والعالم: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو33:16). والذي يغلب العالم فهو حتماً وبالضرورة غالب الجسد!
ومجيء المسيح إلى العالم كان هو رسالته، أخذها من الآب لما جاء ميعاد خلاص العالم واكتملت فيه دواعي محبة الله. وأخذ المسيح على عاتقه تكميل رسالة حب الآب من نحو العالم، وكان مضمونها أن يصالح هذا العالم الشارد للآب. وشرود العالم كان بتحريض الشيطان، فبات العالم مقهوراً لكل شهوات الدنيا، وضلالة الفكر، وخداع العقل، وزيف الحق, فكانت رسالة الابن أن يستعلن الحق لفكر الإنسان باستعلان الله, ويفدي الجسد بحمل خطاياه في جسده, ويقهر الخطية التي قهرته، ويغلب الموت الذي تغلب عليه، فقام من الموت وجروحه في جنبه ويديه, وأعطى الإنسان غلبته هذه على الخطية والموت، لا بقوة مثل قوته، بل بنعمة قوته، وباستحقاق دمه يغفر الخطايا ولا تعود تُحسب, ويهب نعمته لتقديس الجسد والنفس والروح معاً.
«وأيضآ أترك العالم»: ترك العالم، في المظور البشري، ولكه بقي فيه بسر حضرته الدائمة كوعد وعهد: «بعد قليل لا يراني العالم، أيضاً، وأما أنتم فتروني» (يو19:14)، برؤيا الإيمان والروح, لا بالخيال ولا بتدريب العقل بالتاوريا الصوفية، بل برؤية حقيقية من واقع استعلان لذاته: «والذي يحبني، يحبه أبي، وأنا أحبه، وأُظهر له ذاتي» (يو21:14)، «وظهر للأحد عشر» (مر14:16)، «دالذين أراهم أيضاً نفسه حياً ببراهين كثيرة، بعد ما تألم، وهو يظهر لهم أربعين يوماً، ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله» (أع3:1)، «وظهر أياماً كثيرة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم، الذين هم شهوده عند الشعب» (أع31:13)، «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطى أن يصير ظاهراً, ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الاموات» (أع40:10-41). نعم، وهولا يزال يظهر منذ قيامته وحتى اليوم، حسب وعده المقدس: «الذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحه، وأظهر له ذاتي» (يو21:14)، فهو القائل لبولس الرسول: «لكن قم، وقف على رجليك، لأني لهذا ظهرت لك، لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت، ومما سأظهر لك به.» (أع16:26)
«وأذهب إلى الآب»: الذهاب المبارك، الذي تم ه مجيء الروح القدس المعزي، ليبقى مع التلاميذ والكنيسة أبد الدهر، ويكرن فيهم: «ماكث معكم، ويكون فيكم» (يو17:14)، ويستعلن المسيح ويمجده ويذكر بكل كلمة قالها المسيح، لتًكتب كما هي في الإنجيل، وليشهد للمسيح في التلاميذ، وبالتلاميذ والكنيسة.
لقد ذهب إلى الآب ودمه عليه، ليبقى شفيع الخطاة أبد الدهر، وليصير دمه لدى الآب متكلماً عن الخطاة المعترفين بخطاياهم، المتسكين بدم العهد، فتُغفر خطاياهم أولاً بأول، ويغتسلون ويبيضون ثيابهم باستعداد العرس: «حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا» (عب20:6)، لندخل معه إلى ما داخل الحجاب، لنتراءى أمام وجه الآب بلا لوم. وجلس عن يمين الآب ببشريتنا، فجلسنا فيه ومعه، في مواضع الكرامة والمجد، وعوملنا معاملة البنين، وأخذنا نصيباً وميراثاً مع القديسين محفوظا لنا في السموات.
المسيح لم يقل «تأتي ساعة وهي الآن» بل قال: «تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضأ بأمثال, بل أخبركم عن الآب علانية». ويقيناً، لم تكن هذه الساعة التي يتكلم فيها، ولا يمكن أن تكون, لأن المعنى المقصود هو: بالاستعلان بالروح القدس سوف يتكلم المسيح إليهم، ويخبرهم على مستوى الروح, وليس الأذن. لذلك فتصورهم أن هذا الذي يقوله المسيح هو «العلانية» أو الاستعلان, سابق جداً لأوانه. صحيح أن اعتراف التلاميذ الذي جاء بعد ذلك بخصوص أنه خرج من الله, هو إيمان صحيح للغاية، ولكنه يسبق ويتعدى واقع إيمانهم، فإمامهم والمتقدم عليهم, بطرس، جاهر علنا وأمام العالم وشهود أنه لا يعرف المسيح، وأكد ذلك بقسم أمام جارية.
ولكن شجاعة التلاميذ هنا وحرارة إيمانهم، إنما جاءت انعكاساً وصدق لشجاعة المسيح وثقته العالية جداً بنفسه. فلما غاب عنهم، غابت شجاعتهم، وغاب إيمانهم بسرعة لا يصدقها العقل. ولكن الانسان هو الإنسان، وبدون نعمة الروح القدس، سيكون هو الإنسان دائماً.
كلام التلاميذ هنا هو رد مباشر على ما قاله المسيح لهم في الآية (19) من هذا الحديث، حينما قال القديس يوحنا: «فعلم يسوع أنهم كانوا يريدون أن يسألوه، فقال هم: أعن هذا تتساءلون فيما بينكم، لأني قلت ...». وهنا في هذه الآية (30) يُظهرون اندهاشهم لمعرفته لما في قلوبهم وأفكارهم، ويعبرون عن اندهاشهم باعترافهم بأنهم أصبحوا على يقين من أن المسيح «عالم بكل شىء»، ولا يحتاج أن يسأله أحد، بل هو يعرف ما في القلوب، ويرد عليها من تلقاء ذاته: «لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه، قبل أنأ تسألوه» (مت8:6)، «إني قبلما يدعون، أنا أجيب.» (إش24:65)
ولكن حتى اعتراف التلاميذ بهذا العلم بكل شيء، لا يأتي في مفهومه الإلهي المطلق بمعنى المعرفة الكلية، ولكن معرفة قلوب التلاميذ وحسب ، وهذا اعتراف ناقص.
«لهذا نؤمن أنك من الله خرجت»: وهي تفيد الإرسالية، وهو يستخدم لكلمة «من» حرف جر غير ( ) أو ( ). هذا إيمان عام لا يدخل إلى عمق حقيقة لاهوت المسيح، ولقد سبق نيقوديموس وقاله: «يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً ...» (يو2:3)» وهنا استخدم نيقوديموس أيضأ حرف ( ) التي تفيد الإرسال ولا تفيد الخروج الجوهري اللاهوتي الذي يقتصر التعبير عنه على استخدام حرفي ( ) أو ( ), ولو أن التمييز بين هذه الحروف لا يأتي بدقة، لأن الرواية الإنجيلية تشغل الفكر أحياناً عن التحديدات الدقيقة.
ولكن على كل، كانت ردود التلاميذ محصورة فى واقعهم الزمني «الآن»، في حين كان كلام المسيح يختص بما سيكون. لذلك كان اجتهاد التلاميذ للتعبير عن المستقبل بعرفتهم المحصورة في الحاضر فقط, وهو اجتهاد مشكور، ولكنه ناقص، ولا بد أن يكشفه المسيح لهم.
في هذه الآية، يأتي الظرف الزماني للتعبير عن الحال في أضيق حدوده، أي في هذهه اللحظة «الآن»: ( ) وليس اللفظة المستخدمة عن الزمن المطلق «الأن» بمعنى الحاضر دون حدود ( ). واستخدام القديس يوحنا هذا التعبير، توجيه ندرك منه صلة الحادث الآن، بما سيحدث الآن بعد قليل. والمعنى الذي يقصده المسيح. هو عمل مقارنة موجهة للتلاميذ بين إيمانهم «الآن»» وهروبهم بعد قليل وتركه وحده للمحاكمة والموت. وهكذا يأتي تسلسل الكلام: «الآن تؤمنون ... الأن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي»! وقصد المسيح من هذا، أن إيمانهم «الآن» ليس على مستوى قدرتهم واحتمالهم، ولا هو قادر على أن يواجه الواقع الذي يتطلبه الإيمان.
المسيح هنا لا يسأل ولا يوبخ، لأنه بحسب منهج إنجيل القديس يوحنا في نظرته تجاه التلاميذ، فهو لا يوبخهم ولا يظهر عيوبهم, ولا يقلل من قدرتهم. فهو بنفسه في 8:18 فتح أمامهم الطريق ليهربوا وينجون بحياتهم! لذلك، فالمعنى هنا يقتصر على مراجعة التلاميذ أنهم «الآن» ليسوا على مستوى الإيمان, ولا قبل لهم باحتمال مواجهة ما يتطلبه الإيمان، فعليهم أن لا يتكلوا على مثل هذا الإيمان الناقص, وكأنما لسان حالهم هو: «أؤمن يا رب, فأعن عدم إيماني.» (مر24:9)
ولا شك أنه بصلاة المسيح من أجلهم، خلصوا من هذه الساعة، كما حدث لبطرس حينما تمادى في التعبير عن إيمانه في نفس هذا الموقف: «يا سيد, لماذا لا أقدر أن أتبعك الآن, إني أضع نفس عنك», فكر طفولى، حينما ينبري الطفل ليقنع أباه أنه قادر ان يحميه, فكان رد المسيح: «أتضع نفسك عنى»؟ نفس كلام المسيح للتلاميذ: «الآن تؤمنون؟», «الحق الحق أقول لك لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات». (يو37:13-38)
وهكذا، وفي وقت المحنة، حينها يقع الإنسان في مأزق العدو ومحاصرته، حيث تُطلب الشهادة أو الإستشهاد, فلولا صلاة المسيح ومؤازرة الروح القدس, لوقفنا جميعنا موقف بطرس أو التلاميذ في محنتهم.
المسيح هنا لا يراجع ولا يؤاخذ ولا يوبخ, ولكن يشرح لهم عظيم الضربة التي ستقع عليهم من قبل العدو ليخلخل إيمانهم ويرعبهم رعباً, حتى يهربوا ويتركوه وحده. فالقصد النهائي من تجربة العدو لهم هو أن يبقى المسيح وحده, إمعاناً من الشيطان في تحطيم وحدة الجماعة، ليتعرى المسيح من أي مساندة أو معونة. وهذا لم يفت على الوحي المقدس أن يلقنه للأنبياء، حتى يصبح عمل العدو نفسه معرى إزاء إيمان الجماعة بعد ذلك, حينما تلتئم وتراجع مواقفها، وتدرك أن عمل العدو ضدهم وضد المسيح داخل ضمن المشورة الإلهية: «استيقظ يا سيف على راعي، وعلى رجل رفقتي, يقول رب الجنود. اضرب الراعي فتتشتت الغنم, وأرد يدي على الصغار» (زك7:13). وهذه النبوة عينها رددها المسيح نفسه أمام التلاميذ قبل أن تبدأ المحنة: «احينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة, لأنه مكتوب: أني أضرب الراعي فتتشتت خراف الرعية» (مت31:26). ثم عاد القديس متى ليعلق على ذلك بعد أن بدأ العدو ضربته: «وأما هذا كله فقد كان، لكي تُكمل كتب الأنبياء, حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا.» (مت56:26)
«وتتركونى وحدى»: ليست هذه مُعاتبة، فقد تيقن في الأزل أن يتألم المسيح وحده، ولا معين! هذا المنظر يصفه
إشعياء النبي، في عظمة وشموخ، فيجعل الصليب وكأنه قمة النصرة في حرب خفية ضروس، يدوس فيها كراديس الأعداء وجحافل الظلمة ومملكة الشيطان، وكأنها شعوب متراصة:
مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟
هَذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ. الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ؟.
«أَنَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ!!».
مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟
قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ.
فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي.
فَرُشَّ عَصِيرُهُمْ عَلَى ثِيَابِي فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي.
لأَنَّ يَوْمَ النَّقْمَةِ فِي قَلْبِي وَسَنَةَ مَفْدِيِّيَّ قَدْ أَتَتْ.
فَنَظَرْتُ وَلَمْ يَكُنْ مُعِينٌ وَتَحَيَّرْتُ إِذْ لَمْ يَكُنْ عَاضِدٌ
فَخَلَّصَتْ لِي ذِرَاعِي وَغَيْظِي عَضَدَنِي.
فَدُسْتُ شُعُوباً بِغَضَبِي وَأَسْكَرْتُهُمْ بِغَيْظِي
وَأَجْرَيْتُ عَلَى الأَرْضِ عَصِيرَهُمْ». (إش1:63-6)
«وأنا لست وحدي لأن الآب معي»:
هنا ينبري داود بالنبوة ليصف منظر الرب في وحدته، وقد أحاط به اليهود يصرون بأسنانهم، والنقمة تملأ قلوبهم وعيونهم، والتف حوله العكر والشامتون يدقون الحديد في يديه ورجليه وهو ينادي الله!! «لأنه قد أحاطت بي كلاب, جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي. أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في. يقتسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون. أما أنت يا رب، فلا تبتعد، يا قوتي أسرع إلى نصرتي، أنقذ من السيف نفسي، من يد الكلب وحيدتي. »» (مز16:22-20)