تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
21- لَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِكُمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِي لأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي.

‏«لكن» باليونانية ( ) ‏، تفيد الانتقال بالمعنى و بالحديث إلى تكملة متصلة به، ولكن جديدة. فالمسيح يكشف أن سر الاضطهاد سيكون هو بسبب الارتباط بالمسيح, والغصن المتحد بالكرمة نصيبه من نصيب الكرمة، والمناداة باسم المسيح له تكلفة باهظة: «ودعوا الرسل، وجلدوهم، وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم، فذهبوا فرحين من أمام المجمع, لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه» (أع40:5-41‏). وبطرس الرسول أيضاً يركز عل الاسم:«إن عُيرتم باسم المسيح، فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم.» (ابط14:4)
‏لماذا اسم المسيح في العالم مكروه، والعالم يناصبه العداء؟ ثم لماذا هذا الاسم هكذا محبوب جدأ لدى المؤمنين الصادقين؟
‏إن اسم المسيح هو هذا: «ابن الله الحي», وهذا الاسم يحمل استعلان حقيقة الله الآب التي جاء الابن لاستعلانها. وفي استعلان الله كآب، واستعلان المسيح كابن متجسد, ينجمع كل مفهوم الخلاص والفداء والمصالحة. فالله أرسل ابنه إلى العالم, ليصالح به العالم لنفسه, والابن تمم مشيئة الآب، بأن صالح العالم بذبيحة نفسه, وهكذا بالصليب، انفتح باب العودة لكل خطاة العالم من سلطان الشيطان والظلمة إلى الله, لأجل هذا لا يطيق العالم، الذي يعمل لحساب الظلمة، سماع اسم ابن الله. فأبناء الظلمة يبغضون أبناء النوره هذه حقيقة كل الدهور. أما الذين آمنوا باسم ابن الله، وقبلوه، فيكونون قد انتقلوا من الظلمة إلى النور، ودخلوا في عهد بنوة صادقة لله، وصاروا أبناء وأحباء بعد أن كانوا عبيداً وأعداء. لذلك صار اسم ابن الله هو قوتهم وفخرهم وحصنهم، إزاء بغضة العالم لهم وللاسم!
‏«لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني»: ‏إن معرفة سر الآب والابن الذي يتضمن إرسالية الابن إلى العالم، هو من أعمق مخصصات الله, التي جعلها سرا مكتوماً منذ الدهور السالفة, ولم يعرف به أحد، إلى أن استعلن للتلاميذ والرسل: «أنه بإعلان عرفني بالسر... سر المسيح, الذي في أجيال أخر لم يُعرف به بنو البشر، كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح, أن الأمم شركاء في الميراث، والجسد، ونوال موعده في المسيح بالإنجيل.» (أف3:3-6‏)
‏لذلك فإن سر الآب والابن استودع لدى الرسل، واستلمته الكنيسة من يد الرسل، وبالروح القدس. وفي معرفة هذا السر, وبه، أُعطيث الحياة الآبدية للمؤمنين: «هذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو3:17)
‏وهكذا أصبحت معرفة الله «الآب» مقصورة على الذين قبلوا «الابن», وآمنوا بالصليب والفداء، ونالوا الحياة الأبدية. والذي لا يعرف إرسالية ابن الله، يستحيل عليه معرفة الآب، وبالتال فهو يجدف على الآب والابن دون أن يدري، إنه يسيء إلى نفسه!! «يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.» (لو34:23)
ولكن ليس عذر للعالم, لأن المسيح استعلن سر الآب والابن, وسر الخلاص بالقول والعمل
يو 22:15-25
‏إن الرب، وقد وصح السبب والحقيقة التي سيقوم عليها حقد العالم وبغضته لتلاميذه، أوضح أيضاً أن هذا العداء السافر ليس له عذر، ولكن سيكون مفروضاً فرضاً عليهم. ولهذا بدأ يشرح كيف أكمل شهادته ضد العالم، سواء بالقول أو العمل، جاعلاً معرفة الآب ظاهرة. وقد جاءت شهادة المسيح لنفسه وللآب في وضع متواز موزون:
+ «لو لم أكن قد جئت وكلمتهم، لم تكن لهم خطية، وأما الآن، فليس لهم عذر في خطيتهم، ‏الذي يبغضني، يبغض أبي أيضاً».
+ «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري، لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأؤا، ‏وأبغضونى أنا وأبي».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
22- لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ.

«قد جئت»: هذه الكلمة تحمل معنى كبيراً وممتداً، فهي تشير إشارة واثقة إلى أن مجيئه يحوي تحقيق الوعود النبوية السابقة لمجيئه, وانتظار كل شعب إسرائيل بفارغ الصبر، شعباً ورؤساء، وهوذا قد جاء!! اليهود ليس لهم أي عذر في عدم التعرف على المسيح، بل لم يكن هناك أي داع لبغضته بهذا المقدار، ومحاربته أينما ذهب، وهو يشرح ويوضح بالقول والعمل المعجزي؛ بل وإن القول أيضاً كان على مستوى الاعجاز، مع إشارات قوية أشار بها إلى حقيقة نفسه، أنه المسيا الذي ينتظرونه من واقع أكبر وأقوى وأصدق نبوة كانت تشير إشارة مباشرة إلى مجيئه على لسان موسى: «يقيم لك الرت إلهك نبياً من وسطك، من إخوتك، مثلي، له تسمعون..., وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي, أنا أطالبه.» (تث15:18-10)
‏والحقيقة أن اليهود بلا عذر، فقد كانت لهم القدرة والفهم لمعرفة المسيح والتعرف عليه تماماً، باعتباره المسيا الآتي، بل وإن منهم من نجح بسهولة في معرفته والإيمان به، لذلك فهذه المقاومة العنيدة، والبغضة العنيفة، والقسوة في المصادرة, توضح أنهم اسلموا ذواتهم للشيطان، وأنهم كانوا مغرضين، ومنحازين لشهواتهم الجامحة المجنونة.
«لما كانت لهم خطية»: ‏هذا التعبير سبق أن قاله المسيح لهم بوضوح، عندما قاوموا المسيح، وأرادوا قتله، لأنه شفى أعمى، مولوداً من بطن أمه أعمى وأعطاه موهبة البصر في يوم سبت, فقال لهم: «لو كنتم عمياناً، لما كانت لكم خطية» (يو41:9). لأن أمامهم إنساناً أعمى منذ ولادته وهبه النور والرؤيا، فما رأوا الآية، ولا نظروا إلى المعجزة, بل انحازوا إلى عمى قلوبهم وتعصبهم الأعمى للحرف الذي يعبدونه عوض الروح.
‏وحرف «لهم» في قوله: «لهم خطية» الذي هو في الأصل اليوناني الفعل ( ) بمعنى : «يمتلك، يقتني» خطية، هو اصطلاح وارد في العهد القديم، يفيد أن الإنسان بجهله وشره يكتسب لنفسه خطية، أو يحمل أو يقبل أو يستلم خطية: «لكن من كان طاهراً، وليس في سفر، وترك عمل الفصح، تُقطع تلك النفس من شعبها، لأنها لم تقرب قربان الرب في وقته، ذلك الإنساذ يحمل ( ) خطيته.» (عد13:9)
‏وبذلك تظهر خطورة قول الرب على اليهود: «لما كانت لهم خطية», أي لما حملوا على أنفسهم خطية. وهذا الاصطلاح عبر اليهود عنه أحسن تعبير عندما قالوا ليبلاطس: «دمه علينا، وعلى أولادنا» (مت25:27‏). فالاصطلاح: «لما كانت لهم خطية» يشير إلى ثبوت خطيتهم عليهم, لأن العمل الذي عملوه في مقاومته وصلبه، كان بدون وجه حق!! «وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم»، لأن توضيح المسيح لرسالته وإرساليته وكلامه عن الآب وعئ نفسه، كان فيه الكفاية. بمعنى أنه ليس عن جهالة قاوموه، أو عن قلة معرفة، وعن إلتباس في الفهم، بل بإصرار وعناد وحقد جنوني، ما كان له داع على الإطلاق!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
23- الَّذِي يُبْغِضُنِي يُبْغِضُ أَبِي أَيْضاً.

‏هذه الأية تدخل في المفهوم اللاهوتي التجريدي، فالذي ليس له الابن، فبالضرورة ليس له الآب (ايو23:2)! كما أن الذي يؤمن بالابن، فله الآب أيضاً. والذي يحب الابن، يحبه الآب بالضرورة. هنا يتضح ببساطة أن الابن والآب واحد، هما ذات واحدة فيها ملء البنوة كشخص, وملء الابوة كشخص، وهما ذات واحدة كاملة، وكل ما يصيب الابن يصيب الآب حتماً. والابن تجسد ليعلن في نفسه الآب، ويستعلن بكلامه وأعماله كلام الآب وأعمال الآب. لذلك، فالمسيح هو صورة الآب المتجسدة، هو إنسان من حيث تجسده أو هيئته الإنسانية، ولكن هو الإله من حيث حقيقة ذاته وجوهره, لذلك، فمن أبغض المسيح، أبغض الآب حتماً.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
24- لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي.

هنا توكيد القول بالعمل يتسجل تاريخيا: «الآن فقد رأؤا وأبغضوني», والعمل الذي عمله المسيح، يفوق في إثباته القول. لأن العمل كان عظيماً، كان مملوءاً حباً وعطفاً وحناناً وقوة, كان ينطق نطقا بوجو الله نفسه عاملاً: «الآب الحال في، هو يعمل الأعمال» (يو10:14). والتي يمكن ترجمتها ترجمة صحيحة عن الأصل اليوناني هكذا: «الآب الحال في يعمل أعماله». والمعنى، أن الآب، بالمسيح, يعمل مشيئته, ويعلن عن ذاته، ويقترب من الإنسان، بواسطة يسوع المسيح، اقتراباً عجيبا، وجها لوجه، وفمأ لاذن، ويداً لعين (الأعمى).
‏نحن الآن, وعلى بعد, نستطيع بقوة الإيمان والامتداد باليقين الروحي أن نحس تماما بالآب، ونكاد نراه في شخص يسوع المسيح. فما بالك بالذين عاينوا، ورآوا، وشاهدوا، ولمسوا هذه الحقيقة، التي عبر عنها تلميذ مخلص وصادق، بقوله: «الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة أظهرت, وقد رأينا، ونشهد، ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب، وأظهرت لنا, الذي رأيناه وسمعناه, نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً» (ايو1:1-4). هذا يوحنا الحبيب تلميذ يهودي، مفتوح العينين والقلب؛ هذا رأى وشاهد ولمس وعاين وآمن؛ وينقل لنا خبرته حية نابضة بالروح، ونحن, بالإيمان, أيضاً لمسنا معه, وشاهدنا معه، وعاينا معه، لأننا نؤمن, والإيمان رؤيا!
‏وهكذا، فإن شهادة المسيح للآب ولنفسه بالكلمة والتعليم، هي استنفار للوعي الروحي فينا، لإيقاظه، ليقوم ويعي. أما شهادة المسيح بالأعمال، فهي مقارعة للفكر، أن يتيقظ، ويدرك، ويتيقن مما يرى، ويستخلص الحق بالعيان!!
«... أعمالاً لم يعملها أحد غيري»: صحيح أن أنبياء كثيرين عملوا معجزات خارقة, فموسى معروف بعجائبه العشرة التي ضرب ‏بها المصريين, وشق البحر الأحمر، وعبره ماشياً هو وشعبه، وطلب فنزل المن، وضرب الصخرة فجرى ماء، وصنع حية نحاسية، كل من نظر إليها شفي من لدغة الحيات, ويشوع بن نون فلق الاردن ليعبر الشعب وسطه, وبصلاته أوقف حركة الأرض أمام الشمس. وشمثون، أروى عطشه من نبع ماء خرج من المكان الذي رمى فيه لحي حمار ميت. وإيليا صعد إلى السماء في مركبة نارية، وأليشع أقام ميتاً. ودانيال تمشى في الجب وسط أسود شرهة جائعة, والثلاثة الفتية القديسون تمشوا في وسط اتون النار المرتفعة تسعة وأربعين ذراعاً.
‏ولكن، لا هؤلاء، ولا غيرهم قط، قيل عنهم هكذا : «ولما صار المساء, إذ غربت الشمس، قدموا إليه جميع السقماء والمجانين، وكانت المدينة كلها مجتمعة على الباب, فشفى كثيرين كانوا مرضى بأمراض مختلفة، وأخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون، لأنهم عرفوه.» (مر32:1-34)
‏كذلك: «وحيثما دخل إلى قرى أو مدن أو ضياع، وضعوا المرض في الأسواق, وطلبوا إليه أن يلمسوا ولو هدب ثوبه, وكل من لمسه شُفي»» (مر56:6‏). وقال عنه القديس متى: «فأخرج الأرواح بكلمة, وجميع المرضى شفاهم، لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هو أخد أسقامنا، وحمل أمراضنا.» (مت16:8-17)
‏فأعمال المسيح الإعجازية لم تكن مجرد معجزة صنعها في حياته، بل كانت حياته معجزة، وكلها معجزات. فإذا جئنا إلى الأعمال الفردية، كتفتيح الأعمى المولود من بطن أمه وكيف صنع له مقلة عين من الطين، فنحن هنا أمام خالق، لا صانع معجزات! والذي أقام لعازر بعد أربعة أيام في القبر، وقد أنتن أيضا، هنا نحن أمام الديان الذي يقيم الموتى ويحيى من يشاء, كل هذا كان يعمله المسيح لا ليُظهر قوته، بل ليستعلن رسالته، لكي تنطق أعماله بحقيقة الله فيه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
25- لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ.

‏هنا المسيح يرتفع بالعمل الرديء, الذي عملوه فيه، فيراه في ضوء كلمة الله، أنه بالرغم من كل ما قصدوه من الشر، فقد تم به، دون أن يدروا ودون أن يشاء وا، قصد الله الأزلى الذي استودعه الله بالنبوة في ناموسهم.
«فى ناموسهم»: ‏خطر أن يفصل المسيح بين ناموسه الإلهي و «ناموسهم» فقد أرداء أرضاً, وعزله عن رضى الله ‏إلى الأبد! فلم يعد بعد هذه اللحظة يدعى ناموس عهد الله, بل «ناموسهم»، ناموس الكرامين الآردياء الذين تعاهدوا على قتل ابن صاحب الكرم، فتربصوا به، فى يوم فصحهم, وعوض خروف الفصح، ذبحوا حمل الله الوديع!
«الكلمة المكتوبة في ناموسهم»: هذه هي الكلمة المكتوبة في ناموسهم: «لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً، ولا يتغامزون بالعين الذين يبغضونني بلا سبب» (مز19:35)، ثم تكروت في مزمور آخر: «أكثر من شعر رأسي، الذين يبغضونني بلا سبب.» (مز4:69‏)
«بلا سبب»: بلا سبب لا تفي بالمعنى الذي جاء في اليونانية واللاتينية, فهي تفيد الهدية المجانية, أو بدون مقابل! وفعلاً, فالعمل الذي عملوه في المسيح، لو حاول الإنسان أن ينتحل لهم أي عذر أو أي داع، فلا يجد؛ لأن كل التهم التي أقاموها ضده، كانت غير جادة, وقد تعبوا في تلفيقها. وليست تهمة واحدة من التهم التي قدموها, كانوا يؤمنون بأنها صحيحة! كذلك, فكل مرة أقدموا فيها على رجمه ادعاء منهم أنه كسر الناموس وتعدى على وحدانية الله، لم يستطيعوا أن يبلغوا فيها حدا قاطعاً, لأنه رد عليهم وأقحمهم, فسقطت الحجارة من أيديهم, وتفرقوا شذر مذر.
‏والواقع أن قدامة المسيح واستقامته الحادة، جعلت عداوتهم له وبغضتهم إياه تافهة بلا أي معنى، بل وتافهة أقصى ما تكون التفاهة، فأوقفهم مواقف الدينونة، كلما رفعوا عقيرتهم عليه!! وتكشفت عداوتهم أنها عداوة صافية مائة بالمائة، لا يسندها أي مبرر! وهذه تُحسب، في مفهوم الدينونة، أنها تعبير مكشوف عن «سر الإثم» الذي يعمل في أبناء المعصية، والذي سيكشفه يوماً الله الديان: «لأن سر الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يحجز الأن، وحينئذ سيستعلن الأثيم، الذي الرب يبيده بنفخة فمه، ويُبطله بظهور مجيئه.» (2تس7:2-8‏)
‏وإزاء هذا العنف المجنون للأثمة الذين قاوموا المسيح، وهم متهيئون لمقاومة تلاميذه والكنيسة ‏المولودة حديثاً، ارتأى الآب والمسيح أنه لا بد من أن يسند التلاميذ والكنيسة بالروح القدس، المدافع القوي، والمحامي القدير، والشفيع، والشاهد.
وإزاء مقاومة رسالة المسيح وانكار اليهود لعمله واسمه وفكره، كان من الطبيعي أن يرسل المسيح الروح القدس، القوة الإلهية الجبارة، التي تشهد وتدعو سرا القلوب الأمينة التي تقبل الكلمة، وتحتاج إلى إقناع وشهادة وتشجيع، فيؤديها الروح القدس. وبهذا يحيد القوة الأثيمة العاملة في اليهود وغير اليهود والتي تتربص بالمؤمنين وتطارد الكارزين. وقد أبلى الروح القدس في ذلك المجال بلاء فائق القوة والوصف. وكان الروح القدس لسان شهادة في التلاميذ لحساب المسيح والآب.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
26- وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي.

«المعزي»: ‏ليست هذه الكلمة ترجمة دقيقة للأصل اليوناني، ولكها ترجمة جزافية للكلمة الأصلية التي هي «الباراكليت». وكان يجب تترك كما هي، لأن « الباراكليت» هنا اسم وليس صفة. وتترجم باللاتينية advocatos
«أرسله "أنا" إليكم من الأب»: هنا الضمير عليه تركيز زائد، لإبراز صفة الألوهية، فالمسيح هنا هو الابن الذي بذهابه إلى الآب سيرسل الأقنوم الثالث الروحي، وهو«روح الحق» الإلهي. وقد أوضح المسيح بعد ذلك في الأصحاح السادس عشر الآية السابقة، أن إرساله متعلق بانطلاق المسيح بعد تكميل خدمته على الأرض بالصليب: «لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي.» (يو7:16)
‏وهنا، نحن بصدد أحرج ساعات المسيح, وهو يتكلم عن الفراق، مما جعله يسبق ويشجعهم بخصوص ما سيقابلهم من ضيقات وبغضة العالم، موضحاً ما عاناه المسيح نفسه في العالم, أصبح الحديث عن سلطانه اللاهوتي بإرساله الروح القدس ذا قيمة عظمى لتشجيعهم، فهو يؤسس فيهم الثقة الكاملة في شخصه وسلطانه الإلهي، كما يؤمنهم إزاء عنف الاضطهاد القادم, وذلك بإرساله ‏الروح القدس.
«من الآب», «من عند الآب»: تفيد الموضع، أي من جانب الآب، ولا تفيد االخروج من المنبع، لأن الحرف المنوط به توقيح الخروج من داخل المنبع هو في اليونانية ( ) وقد جاءت واضحة في مر30:5 «القوة التي خرجت منه».
«روح الحق»: الأليثيا هنا هي اسعلان الحقيقة الإلهية (في المسيح)، وهي لا تُعلم قط، ولكن تؤخذ بالروج وتصديق الحق: و«الروح القدس والحق»» يوجدان ويعملان معاً: «ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له» (يو23:4). وكل منهما يشرح الآخر ويزكيه. ويلاحظ أنهما معاً علامة أكيدة ودامغة على الحياة فوق الطبيعية، والدخول في مجال الاسكاتولوجيا، أي أمور الآخرة، التي يقول المسيح عنها أنها «الآن» : «تأتي ساعة وهي الآن» (يو23:4 و 25:5)، لأن «الآن» في المسيح، هو والمستقبل شيء واحد، وهو بعينه استعلان الحضور الإلهي فوق الزمن؛ لأن استعلان الحق بالروح القدس للانسان معناه تعامل الله مباشرة مع الإنسان، حيث يتقدس الإنسان، أي يصير بجملته يحيا لله وليس للعالم .
وقد تكرر سابقاً هذا الوصف للروح القدس في يو17:14، وسيتكرر أيضاً في 13:16. وقد ذكره القديس يوحنا في رسالته الاولى فى 6:4‏. ويلاحظ أن إرسال روح الحق هو مناسبة من واقع الحال، لكي يقف ضد روح الباطل والتزييف في العالم: ‏«كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد، فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح.» (ايو3:4‏)
‏ومعروف أن الله هو «الحق». فهنا واضح أن «روح الحق» هو روح الله. فالروح القدس هو الأقنوم الذاتي في الله الواحد مع الآب والابن. والمسيح قال: «أنا هو الحق»، فهو «روح المسيح» أيضاً. لذلك واضح أنه سيرسله، ليشهد للحق الذي في المسيح تجاه العالم المقاوم. كما أنه الوحيد الذي له السلطان الصادق لشرح كلمة الله، والتذكير بها، والتعريف بما ستؤول إليه: «ويخبركم بأمور آتية» (يو13:16). ولكن سواء الشهادة للحق أو شرح الحق الذي في المسيح والكلمة أو التذكير بها والتنبؤ بما ستؤول إليه، فهذه ليست مجرد صفات للروح القدس، ولكها من صميم طبيعته. وهذا يُلاحظ من تركيب كلمة الروح على كلمة الحق كمضاف إليه، فالحق يصير ملك الروح وله.
«من الآب ينبثق»: وهي تفيد معنيين: معنى الخروج من داخل، والخروج هذا نفسه هو إرسال. وها نجد أن الفعل الملازم للروح القدس بالنسبة للمسيح يأتي أولاً في «المستقبل»: «سأرسله»، لأن إرساله متوقف على عمل سوف يكمله المسيح بعد الصليب، وهوالانطلاق إل الآب.
‏ثم يأتي الفعل الآخر وهو خاص بالروح القدس والآب: «ينبثق»، ويأتي في المصارع بصفة الاعتياد، أي من عند الآب يخرج، فهو فعل لا زمني فوق مفهوم الحركة، وهو نفس المعنى الذي يُستخدم بخصوص المسيح أنه من عد الآب يخرج. من هذا نفهم، أن إرسال الروح القدس بواسطة الابن من عند الآب بعد أن يكون قد تمجد، هو في الحقيقة التكميل النهائي لعمل الخلقة الأولى الي اضطع بها الكلمة سابقاً بالروح القدس. وفي نفس الوقت نفهم من قول المسيح أنه سيرسل الروح القدس من عند الآب, أن ذلك يستعلن الصلة الذاتية والجوهرية بين الآب والابن والروح القدس وموضع الروح القدس وعمله في الثالوث «من الآب بالابن».
«من الآب»: يلاحظ هنا أنه لم يقل: «من أبي»، لأن العمل الذي سيقوم به الابن والروح القدس هو لحساب الإنسان، الذي أصبح الله بالنسبة له هو «الآب» بواسطة الابن والروح القدس. لذلك فإرسالية الروح القدس هنا هي خاصة بالإنسان.
«يشهد لى»: لشرح شهادة الروح القدس، الرجاء الرجوع إلى المدخل صفحات 117 و118 و253. ولكن ينبغي أن نوضح هنا أن الروح القدس سيضطلع بمفرده بالشهادة للمسيح خارج عمل التلاميذ، أي أنه سيشهد بواسطة التلاميذ، وسيشهد هو من تلقاء ذاته، وذلك في قلوب المؤمين مباشرة بعمل الإلهام والنعمة, في كل ما يخص حياة المسيح وأقواله وأعماله. كذلك بتوجيه المؤمنين للقيام بأعمال، هي بحد ذاتها تصير شهادة للمسيح, وهذا هو العمل الأعظم للروح القدس والذي بقي في الكنيسة، وهو باق إلى الأبد: «لأنه ماكث معكم ويكون فيكم.» (يو17:14)
‏واضح هنا أن الروح القدس هو روح مناداة واعلان! ينطق بالكلمة في الأفواه وفي القلوب، في فم الكارز, وقلب السامع معاً وفي نفس الوقت؛ وبدون عمل الروح القدس في الشهادة للمسيح, لا الكارز يستطيع أن يستجلي الكلمة بالروح ويستعلن قوة وحق المسيح فيها، ولا السامع يستطيع أن يحسها ويقبلها ويعمل بها!
‏لذلك يلزم، بل يتحتم أن نعلم، أن الروح القدس هو الشاهد الشرعي الوحيد, الذي به ومن خلاله يشهد التلاميذ، وتشهد الكنيسة، وتتحرك القلوب للايمان والعمل بالإيمان!
‏علمأ بأن الشهادة بالروح القدس للمسيح ليست فضيلة، أو واجباً أو عملاً يتعزى به التلاميذ أو الكنيسة على مدى العصور، بل إن الروح القدس تعين لمقارعة العالم وتحطيم كبريائه واخماد حركة الكذب والتزييف فيه فيما يخص حقيقة الله وعبادته. لذلك فالعمل بالروح القدس هو تجند لحمل الحق ضد الباطل في العالم ، هو عمل جدي وخطير يختص بالله نفسه، وسنقرأ عنه بعد ذلك هكذا: «يبكت العالم» (8:16)؛ بل ومن شهادة الروح القدس غير المحدودة تأتي شهادته للتلاميذ أنفسهم أنهم حق وحسب الحق: «ديمتريوس مشهود له من الجميع ومن الحق نفسه, ونحن أيضأ نشهد، وأنتم تعلمون أن شهادتنا هي صادقة.» (3يو12:1)
‏ولكن يلزم أن ننتبه إلى قيمة قول المسيح: «الذي من عند الأب ينبثق»، حيث «ينبثق» تأتي في المضاع بالصيغة الدائمة. لذلك فشهادة الروح القدس لحق المسيح مستمدة أصلاً من الآب: «والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي» (يو37:5)، فالآب يشهد للابن بالروح القدس لأن : «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب.» (مت27:11)
‏وأخيراً, وهذا هو في الحقيقة عمل الروح القدس الأول والأساسي, اضطلاع الروح القدس بإلهام التلاميذ لكتابة الأناجيل وكل الرسائل، أي أسفار العهد الجديد. تعتبر شهادة الروح القدس للمسيح بالدرجة الأولى. ونستطيح أن نقول إن الروح القدس هو الذي اضطلع بوضع أسس الإيمان للكنيسة منذ اليوم الأول وحتى اليوم.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
26- وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي.

«المعزي»: ‏ليست هذه الكلمة ترجمة دقيقة للأصل اليوناني، ولكها ترجمة جزافية للكلمة الأصلية التي هي «الباراكليت». وكان يجب تترك كما هي، لأن « الباراكليت» هنا اسم وليس صفة. وتترجم باللاتينية advocatos
«أرسله "أنا" إليكم من الأب»: هنا الضمير عليه تركيز زائد، لإبراز صفة الألوهية، فالمسيح هنا هو الابن الذي بذهابه إلى الآب سيرسل الأقنوم الثالث الروحي، وهو«روح الحق» الإلهي. وقد أوضح المسيح بعد ذلك في الأصحاح السادس عشر الآية السابقة، أن إرساله متعلق بانطلاق المسيح بعد تكميل خدمته على الأرض بالصليب: «لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي.» (يو7:16)
‏وهنا، نحن بصدد أحرج ساعات المسيح, وهو يتكلم عن الفراق، مما جعله يسبق ويشجعهم بخصوص ما سيقابلهم من ضيقات وبغضة العالم، موضحاً ما عاناه المسيح نفسه في العالم, أصبح الحديث عن سلطانه اللاهوتي بإرساله الروح القدس ذا قيمة عظمى لتشجيعهم، فهو يؤسس فيهم الثقة الكاملة في شخصه وسلطانه الإلهي، كما يؤمنهم إزاء عنف الاضطهاد القادم, وذلك بإرساله ‏الروح القدس.
«من الآب», «من عند الآب»: تفيد الموضع، أي من جانب الآب، ولا تفيد االخروج من المنبع، لأن الحرف المنوط به توقيح الخروج من داخل المنبع هو في اليونانية ( ) وقد جاءت واضحة في مر30:5 «القوة التي خرجت منه».
«روح الحق»: الأليثيا هنا هي اسعلان الحقيقة الإلهية (في المسيح)، وهي لا تُعلم قط، ولكن تؤخذ بالروج وتصديق الحق: و«الروح القدس والحق»» يوجدان ويعملان معاً: «ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له» (يو23:4). وكل منهما يشرح الآخر ويزكيه. ويلاحظ أنهما معاً علامة أكيدة ودامغة على الحياة فوق الطبيعية، والدخول في مجال الاسكاتولوجيا، أي أمور الآخرة، التي يقول المسيح عنها أنها «الآن» : «تأتي ساعة وهي الآن» (يو23:4 و 25:5)، لأن «الآن» في المسيح، هو والمستقبل شيء واحد، وهو بعينه استعلان الحضور الإلهي فوق الزمن؛ لأن استعلان الحق بالروح القدس للانسان معناه تعامل الله مباشرة مع الإنسان، حيث يتقدس الإنسان، أي يصير بجملته يحيا لله وليس للعالم .
وقد تكرر سابقاً هذا الوصف للروح القدس في يو17:14، وسيتكرر أيضاً في 13:16. وقد ذكره القديس يوحنا في رسالته الاولى فى 6:4‏. ويلاحظ أن إرسال روح الحق هو مناسبة من واقع الحال، لكي يقف ضد روح الباطل والتزييف في العالم: ‏«كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد، فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح.» (ايو3:4‏)
‏ومعروف أن الله هو «الحق». فهنا واضح أن «روح الحق» هو روح الله. فالروح القدس هو الأقنوم الذاتي في الله الواحد مع الآب والابن. والمسيح قال: «أنا هو الحق»، فهو «روح المسيح» أيضاً. لذلك واضح أنه سيرسله، ليشهد للحق الذي في المسيح تجاه العالم المقاوم. كما أنه الوحيد الذي له السلطان الصادق لشرح كلمة الله، والتذكير بها، والتعريف بما ستؤول إليه: «ويخبركم بأمور آتية» (يو13:16). ولكن سواء الشهادة للحق أو شرح الحق الذي في المسيح والكلمة أو التذكير بها والتنبؤ بما ستؤول إليه، فهذه ليست مجرد صفات للروح القدس، ولكها من صميم طبيعته. وهذا يُلاحظ من تركيب كلمة الروح على كلمة الحق كمضاف إليه، فالحق يصير ملك الروح وله.
«من الآب ينبثق»: وهي تفيد معنيين: معنى الخروج من داخل، والخروج هذا نفسه هو إرسال. وها نجد أن الفعل الملازم للروح القدس بالنسبة للمسيح يأتي أولاً في «المستقبل»: «سأرسله»، لأن إرساله متوقف على عمل سوف يكمله المسيح بعد الصليب، وهوالانطلاق إل الآب.
‏ثم يأتي الفعل الآخر وهو خاص بالروح القدس والآب: «ينبثق»، ويأتي في المصارع بصفة الاعتياد، أي من عند الآب يخرج، فهو فعل لا زمني فوق مفهوم الحركة، وهو نفس المعنى الذي يُستخدم بخصوص المسيح أنه من عد الآب يخرج. من هذا نفهم، أن إرسال الروح القدس بواسطة الابن من عند الآب بعد أن يكون قد تمجد، هو في الحقيقة التكميل النهائي لعمل الخلقة الأولى الي اضطع بها الكلمة سابقاً بالروح القدس. وفي نفس الوقت نفهم من قول المسيح أنه سيرسل الروح القدس من عند الآب, أن ذلك يستعلن الصلة الذاتية والجوهرية بين الآب والابن والروح القدس وموضع الروح القدس وعمله في الثالوث «من الآب بالابن».
«من الآب»: يلاحظ هنا أنه لم يقل: «من أبي»، لأن العمل الذي سيقوم به الابن والروح القدس هو لحساب الإنسان، الذي أصبح الله بالنسبة له هو «الآب» بواسطة الابن والروح القدس. لذلك فإرسالية الروح القدس هنا هي خاصة بالإنسان.
«يشهد لى»: لشرح شهادة الروح القدس، الرجاء الرجوع إلى المدخل صفحات 117 و118 و253. ولكن ينبغي أن نوضح هنا أن الروح القدس سيضطلع بمفرده بالشهادة للمسيح خارج عمل التلاميذ، أي أنه سيشهد بواسطة التلاميذ، وسيشهد هو من تلقاء ذاته، وذلك في قلوب المؤمين مباشرة بعمل الإلهام والنعمة, في كل ما يخص حياة المسيح وأقواله وأعماله. كذلك بتوجيه المؤمنين للقيام بأعمال، هي بحد ذاتها تصير شهادة للمسيح, وهذا هو العمل الأعظم للروح القدس والذي بقي في الكنيسة، وهو باق إلى الأبد: «لأنه ماكث معكم ويكون فيكم.» (يو17:14)
‏واضح هنا أن الروح القدس هو روح مناداة واعلان! ينطق بالكلمة في الأفواه وفي القلوب، في فم الكارز, وقلب السامع معاً وفي نفس الوقت؛ وبدون عمل الروح القدس في الشهادة للمسيح, لا الكارز يستطيع أن يستجلي الكلمة بالروح ويستعلن قوة وحق المسيح فيها، ولا السامع يستطيع أن يحسها ويقبلها ويعمل بها!
‏لذلك يلزم، بل يتحتم أن نعلم، أن الروح القدس هو الشاهد الشرعي الوحيد, الذي به ومن خلاله يشهد التلاميذ، وتشهد الكنيسة، وتتحرك القلوب للايمان والعمل بالإيمان!
‏علمأ بأن الشهادة بالروح القدس للمسيح ليست فضيلة، أو واجباً أو عملاً يتعزى به التلاميذ أو الكنيسة على مدى العصور، بل إن الروح القدس تعين لمقارعة العالم وتحطيم كبريائه واخماد حركة الكذب والتزييف فيه فيما يخص حقيقة الله وعبادته. لذلك فالعمل بالروح القدس هو تجند لحمل الحق ضد الباطل في العالم ، هو عمل جدي وخطير يختص بالله نفسه، وسنقرأ عنه بعد ذلك هكذا: «يبكت العالم» (8:16)؛ بل ومن شهادة الروح القدس غير المحدودة تأتي شهادته للتلاميذ أنفسهم أنهم حق وحسب الحق: «ديمتريوس مشهود له من الجميع ومن الحق نفسه, ونحن أيضأ نشهد، وأنتم تعلمون أن شهادتنا هي صادقة.» (3يو12:1)
‏ولكن يلزم أن ننتبه إلى قيمة قول المسيح: «الذي من عند الأب ينبثق»، حيث «ينبثق» تأتي في المضاع بالصيغة الدائمة. لذلك فشهادة الروح القدس لحق المسيح مستمدة أصلاً من الآب: «والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي» (يو37:5)، فالآب يشهد للابن بالروح القدس لأن : «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب.» (مت27:11)
‏وأخيراً, وهذا هو في الحقيقة عمل الروح القدس الأول والأساسي, اضطلاع الروح القدس بإلهام التلاميذ لكتابة الأناجيل وكل الرسائل، أي أسفار العهد الجديد. تعتبر شهادة الروح القدس للمسيح بالدرجة الأولى. ونستطيح أن نقول إن الروح القدس هو الذي اضطلع بوضع أسس الإيمان للكنيسة منذ اليوم الأول وحتى اليوم.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
27- وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الاِبْتِدَاءِ

‏لاحظ أن صيغة: «وتشهدون أنتم أيضاً»، تأتي في أعقاب بغضة العالم للمسيح, ومقاومته لتعاليمه ولإرساليته, وبالأخص فيما سيكون بعد ذلك من جهة قيامته من الأموات. لذلك، فشهادة التلاميذ تأتي من واقع ضرورة الشهادة ضد واقع العالم المعاند، وتزييف الحقيقة بالأديان الوثنية الكاذبة التي تتكلم عن الله. فالشهادة في هذا المجال ضرورة لحساب الحق، أكثر منها واجباً مفروضاً على التلاميذ أو المؤمنين يؤدونه بحسب مسرتهم. لذلك، فالتفريط فيها تفريط في الحق ذاته، وليس مجرد إهمال واجب، علماً بأن كل مطالبة بالشهادة يقف وراءها المسيح نفسه: «في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي, بل الجميع تركوني، لا يُحسب عليهم، ولكن الرب وقف معي وقوانى لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم، فأٌنقذت من فم الأسد.» (2تى16:4-17)
«لأنكم معي من الابتداء»: لا زلنا في أعقاب صورة الكرمة الحقيقية والأغصان الثابتة في الكرمة منذ الابتداء, ونحن الأن بصدد الثمر الذي يأتي صورة طبق الأصمل من الكرمة، يحمل صفاتها وينطق بحقيقتها.
‏والمسيح يتكلم هنا عن رحلة الكرازة منذ يومها الأول، إنها تاريخ حياة لحياة، هذا نلاحظه بوضوح في تدوين إنجيلي القديس متى والقديس لوقا، إذ تتبعا كل شيء من الابتداء بتدقيق. إنها دعوة المسيح وإلحاح الروح القدس لتسجيل حوادث وأعمال كلها للخلاص، ولكن القديس مرقس ارتأى أن يبدأ الرحلة وتاريخها بحسب الأنبياء بعمل الروح القدس في المعمدان، ثم بالمسيح. أما القديس يوحنا فانطلق من البدء الآزلي، لأنه يبدو أن القديس يوحنا انكشف له سر البدء الأزلي فوق البدء الزمني، فاكتفى به معتمداً على تسجيلات السابقين له في التسجيل التاريخي.
‏ويلاحظ أن القديس يوحنا جمع بين التسجيلين فيما يخص الأقوال والأعمال، وفيما استعلن له خاصة بالروح القدس من واقع خبرات روحية سرية وخاصة جداً.
‏وعلى العموم، نلاحظ في نهاية هذا الأصحاح، سواء فيما يخمص شهادة الروح القدس أوشهادة التلاميذ، صورة جميلة ومختصرة لنهايات الثلاثة الأناجيل الأخرى التي تتلخص في: «دُفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس, وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر». (مت18:28-20). وما حدث بالفعل يسجله سفر الأعمال مطابقاً تماما لما جاء به القديس يوحنا هنا في الأصحاح الخامس عشر: «ونحن شهود له بهذه الأمور، والروح القدس أيضاً, الذي أعطاه الله للذين يطيعونه.» (أع32:5)
‏كذلك أيضاً، وبصورة واضحة زاهية، فيما يخص متابعة رحلة خدمة المسيح، وصف سفر الأعمال كيف اعتنى التلاميذ جداً بالشهادة لها: «فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا، يصير واحد منهم (بدل يهوذا الإسخريوطي الذي سلم المسيح) شاهداً معنا بقيامته.» (21:1-22)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الأصحاح السادس عشر

قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ لاَ تَعْثُرُوا. سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ. وَسَيَفْعَلُونَ هَذَا بِكُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآب وَلاَ عَرَفُونِي. لَكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ مِنَ الْبِدَايَةِ لأَنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ. وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي أَيْنَ تَمْضِي. لَكِنْ لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هَذَا قَدْ مَلَأَ الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ. لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضاً. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ. «إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهَذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآب». فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَا هُوَ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَنَا: بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي وَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآب؟». فَتَسَاءَلُوا: «مَا هُوَ هَذَا الْقَلِيلُ الَّذِي يَقُولُ عَنْهُ؟ لَسْنَا نَعْلَمُ بِمَاذَا يَتَكَلَّمُ». فَعَلِمَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْأَلُوهُ فَقَالَ لَهُمْ: «أَعَنْ هَذَا تَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ لأَنِّي قُلْتُ: بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ. اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ وَلَكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ. فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلَكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ. وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لاَ تَسْأَلُونَنِي شَيْئاً. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآب بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ. إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً. «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا بِأَمْثَالٍ وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ حِينَ لاَ أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ بَلْ أُخْبِرُكُمْ عَنِ الآب علاَنِيَةً. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَطْلُبُونَ بِاسْمِي. وَلَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا أَسْأَلُ الآب مِنْ أَجْلِكُمْ. لأَنَّ الآب نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ. خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآب وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ وَأَيْضاً أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآب». قَالَ لَهُ تلاَمِيذُهُ: «هُوَذَا الآنَ تَتَكَلَّمُ علاَنِيَةً وَلَسْتَ تَقُولُ مَثَلاً وَاحِداً!. اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهَذَا نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ اللَّهِ خَرَجْتَ». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلآنَ تُؤْمِنُونَ؟. هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ وَقَدْ أَتَتِ الآنَ تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآب مَعِي. قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ»
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
حديث الوداع الثالث

‏الآيات الخمس عشرة الأولى من هذا الأصحاح تعتبر من جهة المعنى تكملة للحديث السابق (الأصحاح الخامس عشر)، وهي عن المعاناة التي سيواجهها التلاميذ بعد انطلاق المسيح، من اضطهاد مجامع اليهود لهم, ثم من أباطرة روما ومحاكمهاه كميراث يسلمونه للكنيسة من بعدهم, وسيكون هذا الاضطهاد على شكل غيرة دينية كاذبة. وبسبب عنف هذه المواجهة الدموية «يقتلونكم»، فسيكون الروح القدس هو المرشد للحق، والمحامى والشفيع لهم أمام محاكم العالم, والمعزي الذي سيخبرهم مقدماً بما سيأتي عليهم، ليكونوا على استعداد، كما أنه سيتعلن مجد المسيح في قلوبهم حتى يهون عليهم الألم والعذاب، ويتحول إلى شركة حقيقية في مجد المسيح.
‏وبعد ذلك وحتى نهاية الأصحاح، يكشف لهم أخيرا عن انتهاء زمن وجوده أمامهم بالجسد المنظور: «بعد قليل لا تبصرونني», ولكن يكشف لهم أيضاً عن حتمية عودته سريعا ليتراءى لهم هم خاصة, دون العالم، حيث يتحدث معهم عن الآب علانية دون أمثال، وهي نفس النصوص التي أوردها القديس يوحنا في إنجيله. ثم يخبرهم بانفتاح طريق الآب لهم، فيسألونه مباشرة باسم المسيح، لأن الآب يحبهم وسيستمع لكل طلباللهم. ثم يلخص لهم إرساليته من أولها إلى آخرها في آية واحدة: «خرجت من عند الآب, وقد أتيت إلى العالم, وأيضا أترك العالم, وأذهب إلى الآب.» (يو28:16)
‏ولكن في نهاية الحديث، يكشف لهم عن سر ضعفهم الشنيع، كيف سيهربون هذه الليلة، ويتفرقون، ويتركونه «ليدوس المعصرة وحده» (إش3:63)! ولكن سلام المسيح الذي فيهم سيرتد إليهم سريعاً, وينتهي حديث الإنجيل كله بهذه الآية: «ثقوا أنا قد غلبت العالم».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
حديث الوداع الثالث

‏الآيات الخمس عشرة الأولى من هذا الأصحاح تعتبر من جهة المعنى تكملة للحديث السابق (الأصحاح الخامس عشر)، وهي عن المعاناة التي سيواجهها التلاميذ بعد انطلاق المسيح، من اضطهاد مجامع اليهود لهم, ثم من أباطرة روما ومحاكمهاه كميراث يسلمونه للكنيسة من بعدهم, وسيكون هذا الاضطهاد على شكل غيرة دينية كاذبة. وبسبب عنف هذه المواجهة الدموية «يقتلونكم»، فسيكون الروح القدس هو المرشد للحق، والمحامى والشفيع لهم أمام محاكم العالم, والمعزي الذي سيخبرهم مقدماً بما سيأتي عليهم، ليكونوا على استعداد، كما أنه سيتعلن مجد المسيح في قلوبهم حتى يهون عليهم الألم والعذاب، ويتحول إلى شركة حقيقية في مجد المسيح.
‏وبعد ذلك وحتى نهاية الأصحاح، يكشف لهم أخيرا عن انتهاء زمن وجوده أمامهم بالجسد المنظور: «بعد قليل لا تبصرونني», ولكن يكشف لهم أيضاً عن حتمية عودته سريعا ليتراءى لهم هم خاصة, دون العالم، حيث يتحدث معهم عن الآب علانية دون أمثال، وهي نفس النصوص التي أوردها القديس يوحنا في إنجيله. ثم يخبرهم بانفتاح طريق الآب لهم، فيسألونه مباشرة باسم المسيح، لأن الآب يحبهم وسيستمع لكل طلباللهم. ثم يلخص لهم إرساليته من أولها إلى آخرها في آية واحدة: «خرجت من عند الآب, وقد أتيت إلى العالم, وأيضا أترك العالم, وأذهب إلى الآب.» (يو28:16)
‏ولكن في نهاية الحديث، يكشف لهم عن سر ضعفهم الشنيع، كيف سيهربون هذه الليلة، ويتفرقون، ويتركونه «ليدوس المعصرة وحده» (إش3:63)! ولكن سلام المسيح الذي فيهم سيرتد إليهم سريعاً, وينتهي حديث الإنجيل كله بهذه الآية: «ثقوا أنا قد غلبت العالم».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
1- قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ لاَ تَعْثُرُوا.

«كلمتكم بهذا»: ‏لقد أجمل المسيح كل ها قاله، ليس فقط عن اضطهاد العالم الذي ينتظرهم بعد انطلاقه، بل وعن كل ما قاله بخصوص اتحادهم به مثل اتحاد الأغصان في الكرمة وثبوتهم في وصاياه ومحبته، وعن قانون المحبة العظمى وهو بذل النفس عن رضتى على مستوى محبة المسيح لهم التي كلفته الصليب، كذلك عن استعداد الآب لسماع كل طلباللهم، واستجابته لهم من أجل اسم ابنه الذي أحبوه وأمنوا به؛ كل ذلك حتى يبقوا أمناء للرسالة التي وُضعت عليهم تجاه العالم» لتكميل مشيئة الآب وعمل الابن، وذلك بمساعدة الروح القدس، وحتى يتحملوا ثقل مقاومة العالم.
«لكي لا تعثروا»: العثرة كانت محذقة بالتلاميذ، فقد سبق أن سقط بعض منهم وانطرحوا خارجاً: «فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون عل هذا (أكل الجسد وشرب الدم)، فقال لهم: أهذا يعثركم؟ (يو61:6‏). ولقد تعقب المسيح «العثرة» في أصولها، وعرفها قائلاً: «إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر, لأنه ينظر نور هذا العالم، ولكن إن كان أحد يمشي في الليل يعثر، لأن النور ليس فيه» (يو9:11-10). وطبعاً هو سبق وقال: «أنا هو نور العالم, من يتبعني فلا يمشي في الظمة» (يو12:8)، فواضح أن معنى العثرة في هذه الآية هو إلقاء نير المسيح والتنكر له‏. وقد حدث ذلك أثناء حديث المسيح من الجسد والدم: «من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه» (يو66:6)، لأن النور انحجز عنهم، فغشيتهم الظلمة.
‏القديس يوحنا يبرز سطوع النور باستعلان مجد المسيح والإيمان به: «أكتب إليكم ما هو حق في وفيكم، أن الظلمة قد مضت، والنو الحقيقي الآن يُضىء» (ايو8:2). ونور القديس يوحنا هو المسيح.
‏إن العثرة التي كانت تهدد الرسل, اليهود أصلاً, هي من اليهود إخوتهم في الدم واللحم والميراث والتراث، لأن الغيرة الكاذبة على الدين اليهودي، ومجد شعب إسرائيل في صورته المادية، جعلت مقاومة اليهود للمسيح (النور) فوق ما يتصور العقل من: البغضة، والعنف، والتنكيل: «لأني أشهد لهم أن لهم غيرة لله, ولكن ليس حسب المعرفة» (رو2:10). لهذا السبب قدم المسيح لتلاميذه كل وصاياه وتشجيعالله السابقة، ليكونوا مسبقاً على علم بما سيحدث، مع وعد بمؤازرتهم بالروح القدس ليصمدوا أمام قوة السلطان الرسمي للمحاكم اليهودية ومحاكم روما بعدها. صحيح أن شهادتهم للمسيح وللاسم (اسم ابن الله) في العالم ستواجه بمقاومة واضطهاد ومرارة؛ ولكن يوجد ما هو أشد مرارة وخسارة، بل وكارثة، تنتظر المرتدين الذين يغلبهم العالم لنفسه. لذلك فإن أعظم سند قدمه لهم المسيح في حديثه كان في آخر آية: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم». ولمن غلب المسيح العالم، إلا للذين أمنوا وتبعوه ليرثوا الأمجاد العليا. و يرد القديس يوحنا على غلبة المسيح للعالم بقوله: «وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيمائنا» (ايو4:5‏). إن جور العالم وظلمه ودينونته لهم، لا يمكن أن تعادل خسارة المجد الذي ينتظرهم أو شناعة الدينونة التي مستواجههم: «من ينكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضأ قدام أبي الذي في السموات.» (مت33:10‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ.

‏«سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ»: هذه كانت خطة اليهود التي نفذوها في أيام المسيح: «لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا، أنه إن اعترف أحد بأنه المسيح, يُخرج من المجمع» (يو22:9). وكلمة «تعاهدوا» تعني أنهم أخذوا قراراً بإجماع السنهدريم فصار قانونا رسمياً. كذلك, فإنه بسبب هذا القرار ظل كبار الشخصيات التي آمنت بالمسيح تحتفظ بإيمانها سراً، خوفا من تطبيق هذا القرار عليهم: «ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضاً, غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع، لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله.» (يو42:12-43)
‏ولكن بحسب ثُقاة العلماء من المسيحيين المتضلعين في نظام اليهود التشريعي ومن ربيين, يظهر أن اصطلاح «خارج المجمع» إجراء بُدىء في تنفيذه في أيام المسيح فقط، فكان يحسب مثل هذا الشخص غير مسموح له بحضور الصلوات أو الاحتفالات الرسمية, وهذا الإجراء أقل قليلاً من إجراء الحرمان الكلي من شركة رعوية إسرائيل, أي الانفصال الكلي عن شعب الله.
«خارج المجمع» هو حكم يحرم الشخص أيضأ من حق حماية التصاريح الدينية التي يتمتع بها اليهودي العادي. ويقول العالم بولتمان في نفس الموضع أن هذا الاجراء ظل معمولاً به منذ أيام بولس الرسول حتى الشهيد يوستين أي حتى سنة 165 م.
‏وكان رد القديس بولس الرسول على إخراجه من المجمع أنه اعتبر أن الكنيسة هي إسرائيل الجديد «الحقيقي» ووضع قانونه الجديد المضاد: «لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاُ، ولا الغرلة, بل الخليقة الجديدة، فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة وعلى إسرائيل الله.» (غل15:6-16)
‏ولما حدث حرم كامل للمسيحيين الذين من أصل يهودي, بدأت الكنيسة تصير في المقابل للمجمع, حيث تجرى فيها العبادة بالروح كاملة.
‏«بل تأتى ساعة, فيها يظن أن كل من يقتلقم يقدم خدمة لله»: «بل تأتي ساعة« ‏تعبير عن تدرج أعمال النقمة والتنكيل با لمسيحيين، من حرمان العبادة في المجامع اليهودية، إلى الحرمان الكامل من الانتساب إلى العبادة اليهودية، ثم تزداد إلى درجة سفك الدماء, على اعتبار أن سفك دماء المسيحي هو خدمة لله، أي بنوع «الذبيحة» التي تقدم للاله المزيف، سواء لدى اليهود الذين ضلوا تماما عن معرفة الله الصحيحة: «لم يعرفوا الآب ولا عرفوني» (يو3:16)» أو عند الوثنيين الذين بلا إله جملة.
«كل من يقتلقم»: «كل» هنا توضح انتشار الروح العدائية إلى ما هو خارج اليهود أيضاً. فاليهود هم الذين ‏بدأوا بهذا السلوك الشيطاني وسلموه للوسنيين. وقد وصف المسيح مجمعهم في سفر الرؤيا بأنه صار مجمع الشيطان بالفعل: «وتجديف القائلين إنهم يهود وليسوا يهوداً، بل هم مجمع الشيطان» (رؤ9:2)، «ها أنذا أجعل الذين من مجمع الشيطان من القائلين إنهم يهود وليسوا يهوداً بل يكذبون، ها أنذا أصيرهم يأتون ويسجدون أمام رجليك، ويعرفرن أني أنا أحببتك.» (رؤ9:3‏)
‏وقد زاد عليه الوثنيون ادعاءات كاذبة، بأن المسيحيين يقترفون جرائم، وهي من صنع خيالهم طبعاً، وذلك لكي يوقعوهم تحت عقوبات القوانين بدون وجه حق.
«يقدم خدمة لله»: واضح من النص اليونانى أن كلمة «دخدمة» هي الخدمة الطقسية العبادية، وكلمة «يقدم» هي الكلمة المخصصة لتقديم الذبائح في الطقس اليهودي في عبادة الله. وهذا واضح غاية الوضوح في تقديم المسيح نفسه عدنما ذبحوه في عيد فصحهم، باعتباره ثائراً عل عبادتهم، كذبيحة استرضاء لإلههم، حتى تنجو الأمة من أيدي الرومان: «إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب, ولا تهلك الأمة كلها.» (يو50:11)
‏وقد صار بمد ذلك تقليداً عرفياً صارت عليه المجامع في اعتبار أن المسيحيين ثائرون على يهوه، لذلك يحل دمهم استرضاء لوجه هذا «اليهوه». وهذا ما صنعوه باستفانوس أول شهداء الكنيسة (أع57:7-58‏): «وأخرجره خارج المدينة ورجموه». وكان شاول الفريسي الضليع في الناموس، شاهداً عل صحة قتله حسب الناموس. وكان لا يصعب عليهم أن يقيموا شهوداً كذبة، كالذين أقاموهم ضد المسيح، ليتمموا ذبيحتهم مثل الشهود الذين أقاموهم ضد القديس إستفانوس: «وأقاموا شهودا كذبة يقولون أن هذا الرجل لا يفتر عن أن يتكلم كلاماً تجديفاً ضد هذا الموضع المقدس والناموس.» (أع13:6)
‏فقتل المسيحيين, حسبما سبق وقال المسيح, صار عند اليهود المتعصبين الغيورين، عن جهل وجهالة، نوعا من التقوى ترضي الله! وهذه الحقيقة المخزية مسجلة في كتاب المدراش اليهودي، حيث أخذوا حادثة العهد القديم أيام موسى وما صنعه فينحاس الكاهن (عد6:25-15)، عندما قتل الرجل الإسرائيلي الذي اقتنى زانية من المديانيين علنا، فقتله مع الزانية، فاعتبر ذلك تكفيراً عن ما صنعه الآخرون: «فكلم الرب موسى قائلاً: فينحاس بن أليعاز بن هررن الكاهن قد رد سخطي عن بني إسرائيل، بكونه غار غيرتي في وسطهم, حتى لم أفن بني إسرائيل بغيرتي» (عد10:25-11). ويقول المدراش تعقيباً على هذا: [هل هذا قيل على أساس أنه قدم قرباناً؟ لا, ولكن ليعلمهم أن كل واحد يسفك دم إنسان شرير فكأنه قدم تقدمة (ذبيحة)] _ المدراش على سفر العدد 13:25.
‏وبولس الرسول يشهد على هذا التعليم وهذا السلوك الجاهل بقوله: «فأنا ارتأيت في نفسي أنه ينبغي أن أصنح أموراً كثيرة مضادة لاسم يسوع الناصري، وفعلت ذلك أيضاً في أورشليم؛ فحبست في سجون كثيرين من القديسين، أخذاً السلطان من قبل رؤساء الكهنة. ولما كانوا يقتلون ألقيت قرعة بذلك. وفي كل المجامع كنت أعاقبهم مراراً كثيرة، وأضطرهم إلى التجديف، وإذ أفرط حنقي عليهم، كنت أطردهم أو المدن التي في الخارج.» (أع9:26-11)
‏وبولس الرسول أيضاً يوضح لنا صلة هذه الجرائم التي كان يرتكبها بالغيرة على الناموس هكذا: «فإنكم سمعتم بسيرتي قبلاً في الديانة اليهودية، إني كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها، وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين من أترابي في جنسي، إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي.» (غل13:1-14)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ.

‏«سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ»: هذه كانت خطة اليهود التي نفذوها في أيام المسيح: «لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا، أنه إن اعترف أحد بأنه المسيح, يُخرج من المجمع» (يو22:9). وكلمة «تعاهدوا» تعني أنهم أخذوا قراراً بإجماع السنهدريم فصار قانونا رسمياً. كذلك, فإنه بسبب هذا القرار ظل كبار الشخصيات التي آمنت بالمسيح تحتفظ بإيمانها سراً، خوفا من تطبيق هذا القرار عليهم: «ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضاً, غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع، لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله.» (يو42:12-43)
‏ولكن بحسب ثُقاة العلماء من المسيحيين المتضلعين في نظام اليهود التشريعي ومن ربيين, يظهر أن اصطلاح «خارج المجمع» إجراء بُدىء في تنفيذه في أيام المسيح فقط، فكان يحسب مثل هذا الشخص غير مسموح له بحضور الصلوات أو الاحتفالات الرسمية, وهذا الإجراء أقل قليلاً من إجراء الحرمان الكلي من شركة رعوية إسرائيل, أي الانفصال الكلي عن شعب الله.
«خارج المجمع» هو حكم يحرم الشخص أيضأ من حق حماية التصاريح الدينية التي يتمتع بها اليهودي العادي. ويقول العالم بولتمان في نفس الموضع أن هذا الاجراء ظل معمولاً به منذ أيام بولس الرسول حتى الشهيد يوستين أي حتى سنة 165 م.
‏وكان رد القديس بولس الرسول على إخراجه من المجمع أنه اعتبر أن الكنيسة هي إسرائيل الجديد «الحقيقي» ووضع قانونه الجديد المضاد: «لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاُ، ولا الغرلة, بل الخليقة الجديدة، فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة وعلى إسرائيل الله.» (غل15:6-16)
‏ولما حدث حرم كامل للمسيحيين الذين من أصل يهودي, بدأت الكنيسة تصير في المقابل للمجمع, حيث تجرى فيها العبادة بالروح كاملة.
‏«بل تأتى ساعة, فيها يظن أن كل من يقتلقم يقدم خدمة لله»: «بل تأتي ساعة« ‏تعبير عن تدرج أعمال النقمة والتنكيل با لمسيحيين، من حرمان العبادة في المجامع اليهودية، إلى الحرمان الكامل من الانتساب إلى العبادة اليهودية، ثم تزداد إلى درجة سفك الدماء, على اعتبار أن سفك دماء المسيحي هو خدمة لله، أي بنوع «الذبيحة» التي تقدم للاله المزيف، سواء لدى اليهود الذين ضلوا تماما عن معرفة الله الصحيحة: «لم يعرفوا الآب ولا عرفوني» (يو3:16)» أو عند الوثنيين الذين بلا إله جملة.
«كل من يقتلقم»: «كل» هنا توضح انتشار الروح العدائية إلى ما هو خارج اليهود أيضاً. فاليهود هم الذين ‏بدأوا بهذا السلوك الشيطاني وسلموه للوسنيين. وقد وصف المسيح مجمعهم في سفر الرؤيا بأنه صار مجمع الشيطان بالفعل: «وتجديف القائلين إنهم يهود وليسوا يهوداً، بل هم مجمع الشيطان» (رؤ9:2)، «ها أنذا أجعل الذين من مجمع الشيطان من القائلين إنهم يهود وليسوا يهوداً بل يكذبون، ها أنذا أصيرهم يأتون ويسجدون أمام رجليك، ويعرفرن أني أنا أحببتك.» (رؤ9:3‏)
‏وقد زاد عليه الوثنيون ادعاءات كاذبة، بأن المسيحيين يقترفون جرائم، وهي من صنع خيالهم طبعاً، وذلك لكي يوقعوهم تحت عقوبات القوانين بدون وجه حق.
«يقدم خدمة لله»: واضح من النص اليونانى أن كلمة «دخدمة» هي الخدمة الطقسية العبادية، وكلمة «يقدم» هي الكلمة المخصصة لتقديم الذبائح في الطقس اليهودي في عبادة الله. وهذا واضح غاية الوضوح في تقديم المسيح نفسه عدنما ذبحوه في عيد فصحهم، باعتباره ثائراً عل عبادتهم، كذبيحة استرضاء لإلههم، حتى تنجو الأمة من أيدي الرومان: «إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب, ولا تهلك الأمة كلها.» (يو50:11)
‏وقد صار بمد ذلك تقليداً عرفياً صارت عليه المجامع في اعتبار أن المسيحيين ثائرون على يهوه، لذلك يحل دمهم استرضاء لوجه هذا «اليهوه». وهذا ما صنعوه باستفانوس أول شهداء الكنيسة (أع57:7-58‏): «وأخرجره خارج المدينة ورجموه». وكان شاول الفريسي الضليع في الناموس، شاهداً عل صحة قتله حسب الناموس. وكان لا يصعب عليهم أن يقيموا شهوداً كذبة، كالذين أقاموهم ضد المسيح، ليتمموا ذبيحتهم مثل الشهود الذين أقاموهم ضد القديس إستفانوس: «وأقاموا شهودا كذبة يقولون أن هذا الرجل لا يفتر عن أن يتكلم كلاماً تجديفاً ضد هذا الموضع المقدس والناموس.» (أع13:6)
‏فقتل المسيحيين, حسبما سبق وقال المسيح, صار عند اليهود المتعصبين الغيورين، عن جهل وجهالة، نوعا من التقوى ترضي الله! وهذه الحقيقة المخزية مسجلة في كتاب المدراش اليهودي، حيث أخذوا حادثة العهد القديم أيام موسى وما صنعه فينحاس الكاهن (عد6:25-15)، عندما قتل الرجل الإسرائيلي الذي اقتنى زانية من المديانيين علنا، فقتله مع الزانية، فاعتبر ذلك تكفيراً عن ما صنعه الآخرون: «فكلم الرب موسى قائلاً: فينحاس بن أليعاز بن هررن الكاهن قد رد سخطي عن بني إسرائيل، بكونه غار غيرتي في وسطهم, حتى لم أفن بني إسرائيل بغيرتي» (عد10:25-11). ويقول المدراش تعقيباً على هذا: [هل هذا قيل على أساس أنه قدم قرباناً؟ لا, ولكن ليعلمهم أن كل واحد يسفك دم إنسان شرير فكأنه قدم تقدمة (ذبيحة)] _ المدراش على سفر العدد 13:25.
‏وبولس الرسول يشهد على هذا التعليم وهذا السلوك الجاهل بقوله: «فأنا ارتأيت في نفسي أنه ينبغي أن أصنح أموراً كثيرة مضادة لاسم يسوع الناصري، وفعلت ذلك أيضاً في أورشليم؛ فحبست في سجون كثيرين من القديسين، أخذاً السلطان من قبل رؤساء الكهنة. ولما كانوا يقتلون ألقيت قرعة بذلك. وفي كل المجامع كنت أعاقبهم مراراً كثيرة، وأضطرهم إلى التجديف، وإذ أفرط حنقي عليهم، كنت أطردهم أو المدن التي في الخارج.» (أع9:26-11)
‏وبولس الرسول أيضاً يوضح لنا صلة هذه الجرائم التي كان يرتكبها بالغيرة على الناموس هكذا: «فإنكم سمعتم بسيرتي قبلاً في الديانة اليهودية، إني كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها، وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين من أترابي في جنسي، إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي.» (غل13:1-14)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3- وَسَيَفْعَلُونَ هَذَا بِكُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآبَ وَلاَ عَرَفُونِي.

‏واضح أن كل خطأ جاهل نصنعه بإرادتنا، يكون نتيجة حتمية لجهلنأ بالله: «أنا الذي كنت قبلاً مجدفاً ومضطهداً ومفترياً. ولكنني رُحمت، لأني فعلت بجهل في عدم إيمان.» (1تى13:1)
‏وهكذا، إذ سبق الرب فأوضح ذلك لتلاميذه وللمؤمنين إلى منتهى الدهور، جعلهم لا يرتاعرن من عنف الاضطهاد, ولا يحنقون على قاتليهم:«يا أبتاه اغفر لهم, لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون‏» (لو34:23). في هذه الآية يكشف الرب الأساس الذى يقوم عليه اضطهاد العالم للمسيحيين خاصة، وهو عدم انكشاف حقيقة الآب وحقيقة رسالة الابن التي هي موضوع شهادتهم بالدرجة الاولى، والتي هي نفسها مصدر خلاص وغنى بل وفرح وسلام الإنسان المسيحي. فإن كان قد قيل عن المسيح أنه تعلم الطاعة مما تألم به: «مع كونه ابنا، تعلم الطاعة مما تألم به، وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي» (عب8:5-9‏)؛ فقد صارت اضطهادات العالم بكل صنوفها فرصة للشركة فيما تألم به المسيح على نفس المنوال: «إن كانوا قد اضطهدوني، فسيضطهدونكم.‏» (يو20:15).
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
4- لَكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ مِنَ الْبِدَايَةِ لأَنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ.

‏«لكن»: وكأنما يسترجع الرب الحديث من أوله، متأسفاً للغاية أنه ربما يكون قد أحزنهم بهذا السبق في الإعلان عما سيعانونه، ولكن الضرورة حكمت بذلك، حتى إذا جاءت ساعة الاضطهاد يكونون على بينة تماما مما يحدث لهم: أولاً أن ذلك هو من أجل اسمه؛ ثانياً لأن هؤلاء المضطهدين لا يعرفون الآب ولا الابن، فهم عن جهل يصنعون كل ما يصنعونه بهم. وهكذا إذ يتذكر المؤمنون كلام الرب, يدركون أن ما يحدث لهم وأمامهم هو معروف تماماً ومكشوف أمام الله، وحينشذ يتشجعون أن عين الله عليهم.
‏والمسيح، إذ يضطر أن يخبرهم بهذا كله الآن، لأنه ماضى إلى الآب ولن يروه, وحينما كان معهم لم يكن من المناسبه أن يتكلم معهم لأن حديث الساعة هو للساعة، فإنهم لما كانوا في حضنه كان يحفظهم من الذئاب؛ ولكن يتحتم الآن، وبعد أن تعلموا كيف يجاهدون الجهاد الحسن أن يتركهم لخوض المعركة لنوال النصرة: «أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده» (لو26:24). والمسيح ضامن لهم هذه النصرة الأن، بسبب عطية الروح القدس الذي سيعطيهم القوة والمعرفة والشهادة، والحق كل الحق.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
5- وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي أَيْنَ تَمْضِي.

هنا محور الحديث كله وسببه، فقد انتهت رسالة المسيح بالنسبة لهم، أما بالنسبة لنفسه, فأمامه الرحلة الخالدة من الصليب إلى السماء من حيث أتى؛ رحلة تبدأ حينما تبلغ الآلام ذروتها، «لأنه لاق (يليق) بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل, وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلا» (عب10:2)
‏ولكن المسيح يعتب على التلاميذ المغمورين والمهمومين في حزنهم, سواء من جهة الفراق الحتمي الذي أدركوا حقيقته أو بسبب ما حدثهم عنه المسيح من جهة المصير الذي ينتظرهم في العالم من بغضة وعداوة ومطاردة وقتل! هذا وذاك ابتلع تفكيرهم كلية فلم ينتبهوا أن يسألوا المسيح إلى أين سيمضي: «وليس أحد منكم يسألني أين تمضى»!! التلاميذ في حزنهم لم يدركوا: «أين تمضي» الذي كان ينبغي أن يكون سؤالهم الملح, الأمر الذي يعنيهم بالدرجة الأولى أكثر ألف مرة من التفكير في مصيرهم بعد ذهاب المسيح. ثم يعود المسيح يعاتبهم:
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
6- لَكِنْ لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هَذَا قَدْ مَلَأَ الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ.

‏على من الحزن؟ التلاميذ كانوا يتشبثون بوجود المسيح معهم بالجسد المنظور. كانوا مبهورين بأيام ابن الإنسان على الأرض. كانت فرحة دخوله وخروجه معهم قد جعلت من الأرض ملكوتاً منظوراً ملموساً ومُعاشاً. التلاميذ كانوا على حق؛ كيف يفرطون بمصدر فرحتهم العظمى؟ لقد رأوا فيه الحياة الأبدية التي عند الآب وقد أُظهرت, لقد عاشوها مضاعفاً، لمسوها، وشاهدوها عن قرب: «كلام الحياة الأبدية عندك» (يو68:6‏)، إلى من نذهب بعد أن تذهب؟
«لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ.
لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ
لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى.
اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ.
تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي.
شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي.
فِي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ.
إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ
أَطْلُبُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ.
مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ. رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ.
طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ.
حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ.
هَذَا حَبِيبِي وَهَذَا خَلِيلِي ....
أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِي. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ
اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ.
لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ. الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ.
لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ.
مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا.
إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَاراً. (سفر النشيد)
«قال له سمعان بطرس: يا سيد إلى أين نذهب» (يو36:13)
«يا سيد لنأ نعلم أين تذهب.» (يو5:14‏)
‏مع أنهم لو عرفوا حقيقة الآب وحقيقة ذهابه إل الآب، لكان لهم الفرح عوض الحزن. ولكن لأنهم لم يعرفوا بعد ماذا بعد ذهابه، ماروا متشبثين بوجوده، وفضلوا عدم ذهابه.
‏لقد انحصر التلاميذ في مسرة العشرة الحلوة التي أسسها المسيح معهم، لأنه كان قد أحبهم جداً: «إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى...» (يو1:13)
‏ولكن كل مضمون أفراح التلاميذ كان, في الحقيقة, بسبب استعلاناته الخفية الشخصيه وعلاقته بالآب، فإن كانت هذه قد تسبتت في تعلقهم به وحبهم له، فذهابه إلى الآب سيحقق لهم هذا الاستعلان نفسه أضعاف أضعاف.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
7- لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ.

‏لقد أخفى الحزن حقيقة إرسالية المسيح عن التلاميذ التي لن تأخذ استقلانها النهائي إلآ بعد تكميل الآلام والانطلاق إلى الآب. لذلك يتجاوز المسيح حالة حزنهم، ويكشف لهم حقيقة انتهاء رسالته معهم, وضرورة انطلاقه ليأتي الروح القدس ليحل محله، لتكميل استعلان المسيح للتلاميذ والكنيسة، وقيادة التلاميذ لتكميل عمل المسيح على الأرض.
‏لاحظ أن قول المسيح: «إنه خير لكم»، هو تنبيه لذهن التلاميذ أن تكميل مشيئة الآب ينبغي أن يكون محل رضى مشيئة التلاميذ أيضاً، فمسرة الآب يلزم أذ توافق مسرتنا . فالخير كل الخير هو د‏ائماً في اتباع رأي الله.
‏«أقول لكم الحق»: الرب هنا لا يقصد التأكيد وحسب, بل وينبه الأذهان، أنه يستعلن حقيقة أساسية ينبغي أن تصير قاعدة للايمان. فذهاب المسيح إلى الآب عن طريق الصليب هو لحسابنا, لذلك فحزن التلاميذ ورغبتهم في عدم انطلاق المسيح، معناه خسارة جسيمة لهم، لأن رسالته معهم بلغت نهايتها, وتكميلها إنما سيكون بالروح القدس.
ومن واقع ما حدث بالفعل، عرفنا أن الرو‏ح القدس فوق أنه استعلن لنا حقيقة المسيح، فهو حقق وجود المسيح الدائم معا وإلى منتهى الدهر، وكأن المسيح لم يغادر الأرض: «ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر» (مت20:28). وهكذا صار انطلاق المسيح سببا في بقاء حضوره وسط الكنيسة على الدوام بالروح القدس.
‏بقاء المسيح مع تلاميذه، يحصر عمل المسيح في اتضاعه في الإعداد لصليبه، في استعلان الأمور الآنية فقط دون تحقيقها، كالخلاص والفداء وحب الآب والتبني والمجد العتيد. ولكن انطلاق المسيح عبر تحقيق الصليب, وهو قمة أعمال طاعته واتضاعه، حيث قاعدة انطلاقه إلى الآب محملا بمصالحة العالم وعلى يديه ذبيحة الخلاص؛ يكون قد حقق بالفعل كل ما كان يخبرهم عنه ويستعلنه لهم.
‏انطلاق المسيح يحقق دخوله في المجد الذي له, حينئذ لا يعود يخبر تلاميذه بالخبر أو يستعلن لهم بالمعرفة، بل يحقق لهم العطاء نفسه، عطاء الخلاص والفداء والحب الأبوي والتبتي والمجد، وهذا العطاء يتم لهم بالروح القدس الذق يأخذ مما للمسيح الممجد ويخبرهم ويعطيهم. فانطلاق المسيح أنتج عملين: الأول أنه حقق للبشرية كل ما سبق واستعلنه بالإنجيل، والثاني إرسال الروح القدس الذي يسلمهم غنائم الابن الممجد: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو22:17). وباختصار نقول إن المسيح حقق كل ما قاله، وحقق ذاته كابن الله، وحقق سلطانه بانطلاقه، أي بقيامته وصعوده إلى الآب: «وتعين ابن الله بقوة, من جهة روح القداسة, بالقيامة من الأموات.» (رو4:1)
‏إذن، فحديث الوداع هذا في جملته لم يحمل فقط توعية لتلاميذه أو تعزية نفسانية ترفع عنهم أحزانهم وثقل الخبر عن نفوسهم، ولكن هذا الحديث بالذات، المبني أصلاً على الكرمة والأغصان، هو لإعلان حقيقة الوضع الكياني الروحي الدائم للمسيح بالنسبة للتلاميذ والتلاميذ بالنسبة للمسيح، وبالتالي تصوير كنيسة المستقبل بالصورة السماوية الواقعية، وخاصة فيما هو للروح القدس، العامل الأساسي الجديد في علاقة المسيح بالتلاميذ والكنيسة.
‏وان كان المسيح بانطلاقه وإرساله الروح القدس قد نقل رؤية التلاميذ له من محدودية الجسد والعواطف كظاهرة تاريخية, إلى دائرة الرؤية الإلهية الكاملة والمطلقة كحقيقة اسكاتولوجية، أي أخروية، يعيشونها بالفعل، فقد أسس بهذا منهجاً حياً للكنيسة كلها عبر الدهور والأبد. فالمسيح، بالنسبة لنا الأن هو أوضح وأشمل واكثر استعلاناً مما كان للتلاميذ بالجسد، وهذا هو قيمة «الانطلاق» الذي ركز عليه المسيح، لكي يكون للتلاميذ مصدر الفرح، وليس الحزن.
‏ولكن يتحتم أن نضيف أن المسيح لم يتغير في نفسه من وجوه كظاهرة تاريخية إلى حقيقة إسكاتولوجية، فالله هو الله على الأرض وفي السماء. ولكن الذي تغير وتغير جداً، هو رؤية التلاميذ للمسيح التي أثرت على كيانهم ونقلتهم من واقع أرضي إلى واقع سماوي، من حالة السؤال الدائم كيف ولماذا وإلى أين أنت ذاهب، إلى حالة الإجابة عن وعي كامل ومفتوح، إلى بشارة مفرحة، إلى نقل كل خبراتهم الحية إلى الأخرين.
‏ومنظر التلاميذ الحزانى والمسيح أمامهم يحكي لهم عن انطلاقه وهو في غاية السرور: «الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب, مستهينا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله» (عب). هذا الموقف هو المثيل المطابق للأب الذي سمح بأن يسحق ابنه بالحزن وهو مسرورر، بسبب المجد الذي سيجوزه والصلح الذي سيقيمه! «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه (كنيسة الدهور) ومسرة الرب بيده تنجح» (إش10:53). على هذا الأساس المتين، شبه المسيح حزن التلاميذ بامرأة ماخض قربت على الولادة، فحزنها سيولد سروراً، لذلك لا يلتفت أحد إليها وهي تصرخ متوجعة!! فحزن التلاميذ كان بسبب تعلقات جسدية وقتية زائلة هي من صنع التاريخ، وسيبتلعها الماضي، أما انطلاق المسيح فهو البقاء الأزلى, وهو المستقبل الحي، الذي سيبقى هو كما هو, فرح لا يُنطق به ومجيد.
‏والخطر هنا محدق بنا نحن، إذا اشتهينا التعرف على المسيح أو حاولنا تحقيق وجوده لنا بالعيان، هو أو عطاياه من مواهب تخدم الوجود الأرضي أو ألزمني, فكأنما نجلب على نفوسنا أحزاناً بلا رجاء كأحزان التلاميذ لما واجهوا انفصال الآزلي عن الوقتي؛ لأن كل ما هو زائل يرافقه الحزن والندم، حينما يسلبه منا الزمن.
‏وكما التلاميذ, نحن أيضاً, لا يليق أن نقبض على الأزلي بأيدينا لنبقيه لمتعة عيوننا وآذاننا. يتحتم أن نحزن كما حزنوا، حينما نمزق عن أنفسنا كل ما تعلقت به أنفسنا من جهة النظر والسمع بل وحتى العواطف الجسدية. نحن الأن نقبض على المسيح بالإيمان، لا باليد ولا بالعيان. تأكيد الإيمان لا يوازيه تأكيد على الأرض, إنه النعيم المقيم. بالإيمان نحصل عليه (على المسيح) داخل قلوبنا كحقيقة لا تفارقنا: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:3). بالإيمان نمتلىء بروحه القدوس: «امتلئوا بالروح» (أف18:5‏). وذا حل المسيح في القلب وامتلأ بالروح القدس, يتحرر الانسان من الجسد، من الفكر، من الناس، من الزمن ومن العالم. لا بد أن نمارس أحزان الترك والفراق، إن كنا نود أن نزوق الفرح الدائم الذي لا يُنزع منا. الروح القدس يسر بأحزاننا الأرضية، بل يشجعنا على اقتحامها، لأنه سيؤسس في موضعها أفراحه الدائمة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
8- 11 وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضاً. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ.

‏«يبكت»: الترجمة العربية لهذه الكلمة اليونانيةلا تفي بالمعنى الذي يقصده الإنجيل. لذلك لزم شرح المواضع التي جاءت فيها هذه الكلمة في العهد الجديد والقديم لتوضيح المعنى المقصود.
‏في العهد الجديد: تأتي دائمأ مع المفعول به كشخص، وتعني تماماً التوضيح للشخص بشأن خطيئته ودعوته إلى التوبة. وغالباً ما يكون ذلك سراً وفي الخفاء بين اثنين كما جاءت في (مت15:18‏): «وان أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما، إن سمع منك فقد ربحت أخاك»... كذلك جاء ذلك في (أف11:5): «ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها»، طبعاً يقصد توبتهم وليس التشهير بهم، ولكن قد يكون ذلك في وسط الجماعة ولكن بفم المدبر لها، كما جاء في (اتي20:5): «الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف». كذلك كما في (تي9:1): «ملازمأ للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم، لكي يكون قادراً أن يعظ بالتعليم الصحيح، ويوبخ المناقضين»، هذا في أمر تعيين الأسقف. ومن الأمور الهامة أن يأتي هذا المعنى كعمل للرب الممجد بالنسبة لأعضاء جسده ‏على الأرض:«إني كل من أحبه، أوبخه وأؤدبه، فكن غيوراً وتب.» (رؤ19:3)
‏ويأتي هذا الفعل ( ) بمعنى يستذنب بالنسبة للمسيح كديان حينما يأتي في مجده: «ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار.» (يهوذا 15)
‏فصحة ترجمة ( ) هنا ليس «يعاقب», ولكن «يسبت عليه الجريمة» أي «يستذنبه ويقنعه بجريمته أولاً قبل أن يدينه»، (بالإنجليزية convict)، لأن كلمة «يدين» جاءت أولاً واضحة وعامة في أول الآية.
‏وقد استخدم المسيح نفسه هذه الكلمة بهذا المعنى على نفسه، بمعنى أنه يستحيل على أحد أن يستذنبه، أي يثبت عليه خطية واحدة: «من منكم يبكتني على خطية» (يو46:8). وهنا كلمة «يبكتني» لا تفى بالمعنى، لأنها في دائرة الحديث عن المحاكمة، فقد حكم المسيح على اليهود هنا أولاً بأنهم: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا» (يو44:8)، ثم بعد ذلك تحداهم: «من منكم يبكتني عل خطية». والكلمة بصيغة المبني للمجهول تأتي بمعنى قبول التوبيخ الشديد إزاء مواجهة الشخص واستذنابه وشدة وقع ذلك عليه: «أما هيرودس رئيس الربع، فإنه قد توبخ منه (من المعمدان) لسبب هيرود ...» (لو19:3). وأيضا بصيغة المبني للمجهول: «ولكن إن كنتم تحابون تفعلون خطية، موبخين من الناس كمتعدين.» (يع9:2)
‏وهكذا نرى أن الفعل ( ) «يبكت العالم» لا يعني فقط «يبكت» أو«يوبخ», أو «يعير» أو «يستذنب» بمعنى إثبات خطية فقط، ولا حتى يفيد معنى كشف الخطة واعلان الخاطىء، ولا فضح الخطة وعرضها، ولكن يفيد توضيح الخطية على أساس إيجابي لغاية هي أن يقف صاحبها موقفاً صحيحاً، أو بمعنى أوضح ليتقل صاحبها من الخطية للتوبة. فهو يهدف مباشرة إلى «تلمذة تعليمية», أو «تعليم تهذيبي وتأديبي». وهذا المعنى يأتي متكاملاً تقريباً في الآية (2تي16:3): «كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ, للتقويم والتأديب الذي في البر». وهكذا اضطر بولس الرسول لكي يعطي كلمة «التوبيخ» كل مضمونها وضعها بين التعليم والتقويم والتأديب.
‏فهذه الكلمة خصبة جداً وغنية بالمضمون التعليمي الهادف للتصحيح، وتعتبر إحدى الكلمات الهامة جداً في العهد القديم التي تبرز حرباً إيجابية على الخطية والتعدي والجهالة.
‏وفي هذا المعنى تأتي هذه الكلمة في الآية التي نحن بصددها، لتفيد أن الروح القدس له دور كبير وخطير في العالم قبل أن تأتي الدينونة الأخيرة. و«العالم» هنا المقصود به ليس الأفراد أو الهيئات، ولكن الروح العامة لمضمون كلمة «العالم».
‏وفي سياق هذه الآية, فإن الروح القدس له دور أساسي في إدخال معايير جديدة على معايير العالم القديم، سواء كان عالم اليهود المحدود الضيق, أو عالم اليونان التائه وراء الفكر الفلسفي المتخبط في ظلمات الجهالة الوثنية التي بلا حدود.
‏وأول معيار يدخله الروح القدس على العالم ، هو المعيار الجديد لمفهوم «الخطية».
«يبكت العالم على خطية»: وكلمة «الخطية» تأتي هنا بدون تعرف بـ الـ: «على خطية»؛ هذا يفيد أن العالم حتى مجىء الروح القدس إليه، لم يكن لديه معيار صحيح عن «الخطية» المعرفة بـ الـ « كخطية معلومة يُحاكم عليها ويُحاكم بمقتضاها. ولكن هنا، فإن الروح القدس، كمدع عام، يُدخل لأول مرة في تاريخ العالم المعيار أو الميزان الأساسي للخطية التي سيُحاكم ويُدان عليها العالم أمام ديان الأرض كلها وهي: «عدم الإيمان بابن الله»، كما جاء من فم الرب الديان د«... لأنهم لا يؤمنون بي.» (يو9:16)
‏والروح القدس، إذ يقف تجاه العالم كمدع عام لأول مرة في تاريخه الطويل، يفرض القانون الذي سيُحاكم العالم بمقتضاه. إنما يتكل، في نشر بنود هذا القانون، على التلاميذ الذين أرسلهم «يسوع», الرب الإله, مزكين منه كمعلمين، لتلمذة الخليقة كلها، مؤازرين بالروح القدس والشهادة، ومدعمين بالآية والكلمة!! وقد كان, فقد خرج صوتهم إلى كل أقطار الأرض، على حد تعبير النبوة (مز4:19).
‏فإن كان، في البد، قد جاء النور إلى العالم «ولم يعرفه العالم» (يو10:1)، فالآن دخل الروح القدس إلى العالم ليجعل من النور مصابيح تضيء الملايين من قلوب البشر: «فليضىء نوركم هكذا قدام الناس» (مت16:5‏). والروح القدس يلهب ويشعل هذا اللهيب الذي لا ينطفىء، حتى يأتي الرب الديان: «جئت لالقي ناراً على الأرض (العالم كله)، فماذا أريد لو اضطرمت.‏» (لو49:12‏)
‏الروح القدس الآن له دور فعال في كل أنحاء العالم بالنسبة لخطية واحدة, وهي التي تتفرع منها كل الخطايا، وبمحاصرتها وكشفها تنحصر كل خطية العالم, وهي: «عدم الإيمان بابن الله».
«يبكت العالم على بر»: ‏لا يمكن أن يكون عدلاً ولا حقاً، أن يدخل في الميزان القضائي للعالم المعيار الذي تقاس به خطايا وانحرافات العالم التي على أمامها ستتم المحاكمة والدينونة، دون أن يوازنها أسباب البراءة التي سيُثاب عليها ويتبرأ.
‏والآن, وقد ثبت ثبوتاً قاطعاً بواسطلة الإنجيل عدم نفع بر الناموس وقصوره الفاضح عن أن يُبريء إنساناً في ساحة قضاء الله، بل على النقيض رأينا إنساناً فريسياً متضلعاً في الناموس، مهذباً ومتدرباً بالفكر والضمير على ما هو البر بالناموس، غيوراً فيما هو لله بالنسبة لقضاء بر الناموس، وهو شاول، وجدناه يحكم بقتل إنسان بريء ويشهد عليه وهو مرتاح الضمير، وهو إستفانوس الذي يظهر بعد ذلك أنه شعيد المسيح، أي شهيد البر الأبدي! وبذلك يكون الناموس قد حكم على نفسه بعدم نفعه، وبطلانه لتبرئة الإنسان.
‏أما العالم الوثني فلم يكن له بر, ولم يعرفه, لأن عبادة الأوثان كانت تُمجد بالزنا والفجور.
لأجل هذا دخل الروح القدس إلى العالم ليستذنب العالم على بره الكاذب, أو على عدم وجود «بر» له على وجه الإطلاق, ثم وليقوده إلى «البر» الحقيقي الذي أسسه المسيح بموته دافعاً ثمن خطايا العالم كله بسفك دمه، الذي بروحه الأزلي برأ كل خطاة الأرض, وهيأهم للوقوف أمام محكمة الدينونة الأخيرة بلا لوم.
‏ولكي يظهر «بر ابن الله» وتظهر قوته الأزلية على تبرئة كل من آمن به أمام الله الآب، وذلك لما قام من الأموات وصعد أمام أعين تلاميذه كشهود، ذاهباً إلى الآب ليبقى إلى الأبدد شفيعاً في المذنبين مبرئاً كل من آمن بدمه؛ وضع المسيح قانون عمل الروح في العالم على هذا الأساس: أنه «يبكت على بر»، «لأني ذاهب إلى الآب», «وبالإجماع عظم هو سر التقوى الله ظهر في الجد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الامم، أومن به في العالم، رُفع في المجد.» (1تى16:3)
‏وارتفاع المسيح في المجد وعدم رؤيته بعد، هو بعد ذاته برهان غلبته على العالم، كما هو برهان على أن ليس لرئيس العالم تي مأخذ على المسيح، وهذا دلالة عل بره الكامل والكلي.
‏أما أساس البر الذي بالمسيح فهو ليس بالعيان: «ولا ترونني أيضاً»، بل بالإيمان وحده «إيمان ابن الله»، الإيمان الذي له القوة والفاعلية، بما هو في غير مقدور العيان بالمرة. فقوة عمل الإيمان تنقل الجبال. لذلك، فالبر الذي بإيمان ابن الله هو قوة العالم الجديد التي تفوق كل قوة عرفها العالم حتى الأن أو سيعرفها, والذي يوم أن تستعلن للعالم حقيقة الإيمان ببر ابن الله، فسوف يدخل (العالم) في أمجد أحقابه التاريخية، أو بالحري سوف يرتفع فوق التاريخ.
«ويبكت العالم على دينونة, لأن رئيس هذا العالم قد دين»: ‏إن أعظم محكمتين في العالم عراهما المسيح وفضحهما أمام التاريخ هما:
* محكمة اليهود: المنعقدة على لواء السنهدريم، برئاسة أعظم حكماء اليهود ودارسي قانون التوراة وحرفية قضاء الناموس.
* ‏محكمة روما: ومن ذا الذي لا يعرف القانون الروماني الذق أخذت به كل دساتير العالم، وصار النواة الاولى لكل تشريع معروف لدى العالم كله. فالقانون الفرنسي وليده والقانون الإنجليزي ابنه الأصغر.
‏لقد انضم صوت قضاة محكمة السنهدريم إلى صوت قضاة محكمة الرومان، وأدانوا ابن الله أنه خاطىء، ومذنب, ومجدف، ومضلل, وحكموا عليه بإجماع الأراء أنه مستوجب الموت صلباً.
‏ولكن قام المسيح من الموت ناقضاً حكم الموت, كاشفاً بطلان أحكام اليهود، موضحا خروجها عن الحق وموجباً إيقافها إلى الأبد. كما كشف بطلان أحكام الرومان وخروجها عن الحق، ونحاها من أن تصلح للحكم على مصير العالم وضمائر الناس.
‏وهكذا دخل الروح القدس إلى العالم، ليستذنب العالم أولاً على ما فعل، وعلى دينونته الكاذبة القائمة بتحريض من رئيس عالم الكذب والضلال، الذى أدانه المسيح بالصليب وعلى الصليب، إذ فضح كذبه وأنه قتالا للناس منذ البدء؛ إذ ضبطه متلبسأ بالحكم بالقتل على إنسان أنه خاطىء ومذنب بحسب أحكامه الكاذبة والمزورة, وهو في حقيقته ابن الله الذي بلا خطية ولا لوم، والذي لم يوجد في فمه غش!!
‏وهكذا رفع الروح القدس يد رئيس هذا العالم عن أن تتدخل بعد اليوم، ولا أن يكون له صوت ما في الدينونة التي سيتولاها ابن الله: «فطُرح التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله, طُرح إلى الأرض، وطُرحت معه ملائكته. وسمعت صوتاً عظيمأ قائلآ في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طُرح المشتكي على إخوتنا, الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً, وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.» (رؤ 9:12-11)
‏لقد غلب المسيح العالم: «‏ثقوا أنا قد غلبت العالم»، وصار هو د‏يان الأحياء والأموات.
 
أعلى