« كلاَمَكَ»: (كلمتك بالمذكر): المسيح يشدد على «أنا» باعتبار وجوده الكامل، مشيراً بذلك أن استعلانه لكلمة الله حققه بذاته وفي ذاته. ولما قبلوا استملان الآب وكلمته، و«تقووا من ضعف» (عب34:11)، وظهروا أمام العالم بشخصيتهم الجديدة وكلمة الآب في فمهم، أبغضهم العالم بغضاً بائناً قاطعاً، إذ لم يعد لهم شكل العالم ولا لغته!!
وهكذا إذ صارت لهم هيأتهم الأخروية الجديدة، نبذهم العالم، وعزلهم وأبغضهم، لما اعتزلوا هم العالم وأبغضوا أعماله. ولكن هذه هي بعينها هيئة الرسولية في العالم. جماعة تحيا الحياة الجديدة التي تستمدها من الله، مولودين ولادة جديدة أخرى من فوق بالروح من خارج العالم، ولكنها تعيش على درب الصليب المؤدي إلى الحياة الأبدية إلى فوةق, ولكنها تبقى في العالم لتتلقى منه الضربات الموجعة, لأنها ليست من شكله ولا تتكلم لغفته. هذه هي محنة الرسولية المحبوبة عندهم: «ودعوا الرسل، وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه» (أع40:5-41). وهذه المحنة عينها ورثتها الكنيسة عبر الدهور في الضيقات، تفتخر بآلامها من أجل اسمه، ككنيسة رسولية، لها سمات الرب يسوع، كأغصان مثبتة في الكرمة الحقيقية التي جذرها في السماء. وقد حسب خادم المسيح أن خدمته أفضل، إن كان يتلقى إزاءها ضربات أوفر!!
+ «ولكن الذي يجترىء فيه أحد أقول في غباوة آنا أيضاً آجترىء فيه ... أهُم خدام المسيح (الرسل)؟ أقول كمختل العقل: فأنا أفضل, في الأتعاب أكثر, في الضربات أوخر, في السجون أكثر, في الميتات مراراً كثيرة, من اليهود خمس مرات جُلدت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضُربت بالعصي, مرة رُجمت, ثلات مرات انكسرت بي السفينة، ليلاً ونهاراً قضيت في العمق (المياه)، بأسفار مراراً كثيرة، بآخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الامم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية, بأخطار في البحر، بأخطار من إخوة كذبة، في تعب وكد في أسهار مراراً كثيرة, في جوع وعطش، في أصوام مراراً كثيرة، في برد وعري.» (2كو21:11-27)
ويلاحظ في هذا السجل الافتخاري بالآلام، أن بعضها كان بفعل الأعداء المقاومين لانجيل المسيح، ولكن بعضها أيضاً ساقها عليه رئيس هذا العالم بنوع من التعقب والانتقام. فالذي ينسحب من هيئة هذا العالم ليحيا الله، يدخل مباشرة في مواجهة سافرة مع العد ووآتباعه.
لقد وُهب للكنيسة أن تتألم، إنها الشركة السرية مع المسيح في آلامه، التي هي سمة المفديين والمعينين للحياة الأبدية، إنها إكليل المجد الذي سيوضع على رؤوس الذين يصبرون إلى المنتهى نظير إكليل الشوك الذي يتلألأ الآن على رأس المسيح, وهو جالس عن يمين العظمة في السموات.
إنها الزوفا التي يغسلنا بها المسيح الآن من قذر العالم, لنؤهل لمسحة الدم والخلاص.
المسيح هنا في هذه الآية، يدافع عن تلاميذه وكل المضطهدين من أجل اسمه، الذين سيشربون من كأس آلامه واضطهاده. المسيح هنا شفيع حقيقي، وباراكليت شرعى, له حق الدفاع, لأنه حامل ثوت المحاماة المغموس بدم صليبه، فهو وحده له حق إقامة الدعوى والخصومة ضد العالم الذي قتله بالغش والكذب والخداع، وذلك لحساب كل الذين يدخلون شهوداً لآلامه وصليبه, فقضية الصليب مرفوعة حتى إلى نهاية الدهر، واليهود يتوارثون الشهادة جيلاً بعد جيل: «تكونون لى شهوداً» (أع8:1)؛ «روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى، وتشهدون أنتم أيضاً.» (يو26:15-27).
« كلاَمَكَ»: (كلمتك بالمذكر): المسيح يشدد على «أنا» باعتبار وجوده الكامل، مشيراً بذلك أن استعلانه لكلمة الله حققه بذاته وفي ذاته. ولما قبلوا استملان الآب وكلمته، و«تقووا من ضعف» (عب34:11)، وظهروا أمام العالم بشخصيتهم الجديدة وكلمة الآب في فمهم، أبغضهم العالم بغضاً بائناً قاطعاً، إذ لم يعد لهم شكل العالم ولا لغته!!
وهكذا إذ صارت لهم هيأتهم الأخروية الجديدة، نبذهم العالم، وعزلهم وأبغضهم، لما اعتزلوا هم العالم وأبغضوا أعماله. ولكن هذه هي بعينها هيئة الرسولية في العالم. جماعة تحيا الحياة الجديدة التي تستمدها من الله، مولودين ولادة جديدة أخرى من فوق بالروح من خارج العالم، ولكنها تعيش على درب الصليب المؤدي إلى الحياة الأبدية إلى فوةق, ولكنها تبقى في العالم لتتلقى منه الضربات الموجعة, لأنها ليست من شكله ولا تتكلم لغفته. هذه هي محنة الرسولية المحبوبة عندهم: «ودعوا الرسل، وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه» (أع40:5-41). وهذه المحنة عينها ورثتها الكنيسة عبر الدهور في الضيقات، تفتخر بآلامها من أجل اسمه، ككنيسة رسولية، لها سمات الرب يسوع، كأغصان مثبتة في الكرمة الحقيقية التي جذرها في السماء. وقد حسب خادم المسيح أن خدمته أفضل، إن كان يتلقى إزاءها ضربات أوفر!!
+ «ولكن الذي يجترىء فيه أحد أقول في غباوة آنا أيضاً آجترىء فيه ... أهُم خدام المسيح (الرسل)؟ أقول كمختل العقل: فأنا أفضل, في الأتعاب أكثر, في الضربات أوخر, في السجون أكثر, في الميتات مراراً كثيرة, من اليهود خمس مرات جُلدت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضُربت بالعصي, مرة رُجمت, ثلات مرات انكسرت بي السفينة، ليلاً ونهاراً قضيت في العمق (المياه)، بأسفار مراراً كثيرة، بآخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الامم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية, بأخطار في البحر، بأخطار من إخوة كذبة، في تعب وكد في أسهار مراراً كثيرة, في جوع وعطش، في أصوام مراراً كثيرة، في برد وعري.» (2كو21:11-27)
ويلاحظ في هذا السجل الافتخاري بالآلام، أن بعضها كان بفعل الأعداء المقاومين لانجيل المسيح، ولكن بعضها أيضاً ساقها عليه رئيس هذا العالم بنوع من التعقب والانتقام. فالذي ينسحب من هيئة هذا العالم ليحيا الله، يدخل مباشرة في مواجهة سافرة مع العد ووآتباعه.
لقد وُهب للكنيسة أن تتألم، إنها الشركة السرية مع المسيح في آلامه، التي هي سمة المفديين والمعينين للحياة الأبدية، إنها إكليل المجد الذي سيوضع على رؤوس الذين يصبرون إلى المنتهى نظير إكليل الشوك الذي يتلألأ الآن على رأس المسيح, وهو جالس عن يمين العظمة في السموات.
إنها الزوفا التي يغسلنا بها المسيح الآن من قذر العالم, لنؤهل لمسحة الدم والخلاص.
المسيح هنا في هذه الآية، يدافع عن تلاميذه وكل المضطهدين من أجل اسمه، الذين سيشربون من كأس آلامه واضطهاده. المسيح هنا شفيع حقيقي، وباراكليت شرعى, له حق الدفاع, لأنه حامل ثوت المحاماة المغموس بدم صليبه، فهو وحده له حق إقامة الدعوى والخصومة ضد العالم الذي قتله بالغش والكذب والخداع، وذلك لحساب كل الذين يدخلون شهوداً لآلامه وصليبه, فقضية الصليب مرفوعة حتى إلى نهاية الدهر، واليهود يتوارثون الشهادة جيلاً بعد جيل: «تكونون لى شهوداً» (أع8:1)؛ «روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى، وتشهدون أنتم أيضاً.» (يو26:15-27).
حين أعيى إيليا النبي من اضطهاد إيزابل، «سار في البرية مسيرة يوم، حتى أتى وجلس تحت رتمة، وطلب الموت لنفسه وقال: قد كفى الأن يا رب، خذ نفسي، لأنني لست خيراً من أبائي» (امل4:19). ليست هكذا خدمة الرسولية والبشارة المفرحة بملكوت الله والمناداة بإنجيل الخلاص!!
المسيح هنا يوعي التلاميذ بصلاته، حتى لا يقعوا في خطأ إيليا، فلا يكلوا في الضيقات: «كي لا يتزعزع أحد في هذه الضيقات، فإنكم أنتم تعلمون أننا مرضوعون لهذا. لأننا لما كنا عندكم، سبقنا فقلنا لكم إننا عتيدون أن نتضايق، كما حصل أيضاً وأنتم تعلمون.» (1تس3:3-4)
«من الشرير»: في اللغة اليونانية لا يتضح من هذه التسمية «الشرير»، نوع الجنس إن كان مذكراً أو محايداً. ولكن الذي أخذ به معظم العلماء، أنه مذكر وأنه يقصد الشيطان بالذات، رئيس هذا العالم، لأن الشر في العالم نابع من سيطرته على نفوس الناس : «والعالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5). والاصطلاح «من الشرير» واضح. «وفي الشرير» هو المقابل لعبارة «في المسيح». فكما يعيش المؤمنون في دائرة قوة المسيح وحفظه، يعيش الأخرون في قوة الشرير وإغرائه. ومعروف أن علاقة الإنسان بالشر عى علاقة شخصية. والمسيح، وهو عالم بأصل الشر ومصدره، يصلي أن يحفظ الآب أولاده من سلطان وتأثير الشرير المخادع والمقتحم، ليس فقط من جهة أعماله الظاهرة، بل ومن سلطانه الخفي غير المنظور، حتى لا يقع أحد في حبائله: «لأننا لا نجهل أفكاره.» (2كو11:2)
وحينما يضع المسيح هذه المقابلة بوضوح بين «لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير»، فهو يؤكد رسوخ الكنيسة في العالم, كمكان عملها الوحيد، الذي ينبغي أن تتعاطاه بفرح في وسط الضيقات, كما يقول بولس الرسول: «تعلمون أننا موضوعون لهذا» (1تس3:3). والعالم, كما أنه مركز الشر، هو أيضأ بالكنيسة مركز الشهادة.
وحينما يقول: «بل أن تحفظهم من الشرير», فهو يؤكد عمل الخدمة الرسولية في وسط الشر وتجاه الشر وفي وسط الأشرار، دون الرضوخ للشر أو التنازل معه أو إليه. فالحفظ من الشرير لا يعني الهروب من مواجهته، بل الهروب من إغراته وإغواته.
وصلاة المسيح من أجل التلاميذ أن يحفظهم الآب من الشرير، مرادفة لما جاء في الصلاة الربانية التي علمنا فيها المسيح أن نطلب النجاة من الشرير. وهو أيضأ تراث يهودي استلمه اليهود من يعقوب أب الآباء في أعطائه للبركة على أولاد يوسف: «الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم، الملاك الذي خلصني من كل شر, يبارك الغلامين ...» (تك15:48-16). وقد دخل الكنيسة منذ البدء كدعاء رسمي سجلته لنا الديداخي, والديداخي هو كتاب تعليم الرسل الاتني عشر(100م – 150م) اكتشف سنة 1883م, في الصلاة الليتورجية على القربان الباب العاشر البند الخامس: [أذكر يا رب كنيستك, وأنقذها من كل شر، واجعلها كاملة في حبك].
وفي قول المسيح سابقاً: «احفظهم في اسمك»، وقوله هنا : «احفظهم من الشرير» ترابط شديد. فالاسم القدوس يحيط النفس بجو القداسة, وبستار الطهارة يخفي عن عينها الشر، ويبطل قوة العدو وسهامه فلا تصيبها. ولكن «احفظهم من الشرير» لا ينحصر المعنى في الحماية, بل ويمتد ليشمل المقاومة حتى الموت، لأن الأخطر أن ينهزم الإنسان أمام سطوة الشرير فيضع حداً لجهاده المرير ضد الشر، فيقبل غوايته منهزما، ويخضع لمطالبه. لذلك, فدعاء المسيح لتلاميذه بالحفظ من الشرير يؤمن شهادتهم للمسيح، حتى ولو بلغ الضيق حد الموت: «لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية» (عب4:12). فكلما تعاظم الضيق، تعاظمت الشهادة: «فلما سمعنا هذا، طلبنا إليه نحن والذين من المكان أن لا يصعد إلى أورشليم. فأجاب بولس: ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي؟ لأني مستعد ليس أن اُربط فقط بل أن أموت أيضاً في أورشليم, لأجل اسم الرب يسوع» (أع12:21-13)، «وفي الليلة التالية وقف به الرب وقال: ثق يا بولس، لأنك كما شهدت بما لي في أورشليم, هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضاً.» (أع11:23).
وقد كان, وأصبحت المصادمة مع الشر فرصة عظمى للشهادة.
هذا تكرار يقصد به التعقيب على الآية السابقة والتمهيد للآية القادمة: فاحفظهم من الشرير، لأنهم ليسوا من العالم, كما أنا, ولأنهم ليسوا من العالم، قدسهم في الحق، حتى يحفظوا من الشرير، ويغلبوه كما غلبت!
وهنا «ليسوا من العالم» تعني أن حياتهم ورجاءهم وحبهم وفكرهم الشاغل أصبح من الله، وفي الله، وليس من العالم، أو في العالم. هنا أصبح الحفظ حقاً لهم، والتقديس جزاء واجباً يستحقونه. وقوله أنهم «ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم» يوضح أنهم استمدوا من المسيح هذا الكيان الفائق، أنهم أغصان مثبتة في الكرمة, وهو تلميح للاتحاد الكائن في المسيح بالتجسد, كيف حصل فيه الإنسان على الانتماء الكلي للاهوت!!؟
وهكذا انفتح الباب أمام البشرية أن تتحد بالله وتنجو من التبعية للعالم كياناً وفكراً وعملاً وهدفاً: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات» (في20:3)، «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق» (كو1:3)، «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً.» (فى23:1)
«قدسهم في الحق»: الترجمة العربية جاءت بتصرف، فالأصل اليوناني هو: «قدسهم في الحق»، وليس «قدسهم في حقك»، أي دون إضافة.
الطلبة الأولى التي طلبها المسيح للتلاميذ كانت: «احفظهم في اسمك» و«أن تحفظهم من الشرير»، على أساس أنهم ليسوا مم العالم، وهم باقون في العالم. هذه الطلبة في حدود العالم: «لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير.» (يو15:17)
الطلبة الثانية: «قدسهم في (حقك) الحق». هنا الطلبة جاءت خارج حدود العالم. الحقيقة هنا عميقة وممتدة، فالمسيح يطلب لتلاميذه من الآب النقلة العظمى لكيانهم الشخصي، من تبعيتهم للعالم إلى تبعيتهم لله، لتنقل حياتهم وأفكارهم ورغباتهم وتعلقاتهم من عالم الشهوات والماديات التي كانوا مرتبطين بها ومنفعلين لها، إلى حياة «الحق», التي منها وبها تتغذى الأفكار والرغبات والتعلقات لخدمة الله، حيث يتصفى الجسد بتقديس الروح ويتنحى من القيادة العشوائية, ليعطي للنفس المتحررة من ربقة العالم والماديات القدرة على السيادة والحركة والانطلاق لتكميل خدمة المسيح الكفارية، بالبذل على مستوى المحبة المتطهرة.
المسيح يدرك عمق وخطورة هذه الطلبة التي نوه عنها فيما يخص نفسه قائلاً: «فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف، لأني قلت إني ابن الله» (يو36:10). لقد قدسه الآب قبل أن يرسله, بأن أعطاه اسمه القدوس، وبالمعنى اللاهوتي الكامل أعطاه وجوده وحضرته بالكامل: «الآب الحال في» (يو10:14)», «أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم, مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه.» (تث18:18-19)
وها هوذا نفسه يطلب لتلاميذه أن يقدسهم الآب!! فلننتبه إلى علو وخطورة هذا الطلب: «قدسهم في حقك»، ثم يردف الطلبة حالاً بالإرسالية على مستوى تقديسه وإرساله هو: «كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم.» (يو18:17)
هنا يربط المسيح بين تقديس الآب له، وتقديس الآب لهم؛ هذا التوازي يحمل معاني كبرى؛ كذلك فهو قائم على أساس إرسال الآب له كما على إرساله لهم!! وهنا التوازي في الارسالية خطير، بل ويزيد الأمر ربطاً وانسجاماً وخطوره حينما يضيف أيضاً ومباشرة قائلاً: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17). الآب يقدسهم بالروح وهو يقدسهم بالدم!! أما تقديس المسيح لهم بالدم فمعروف، أما تقديس الآب فهو سر من الأسرار العالية.
والأمر يا قارئي العزيز تتعدى أهميته وخطورته حدود تلاميذه، فهو إنما يعلن بهذا قداسة الكنيسة وإرساليتها في العالم على أساس تقديس الآب والابن لها، فهو يطلب لها تقديس الآب من فوق من الأعالي لتصير كنيسة السماء على الأرض متغربة ولكن محفوظة بالدم، على أساس تقديس نفسه لها, حتى تبقى في العالم، وهي ليست من العالم، ويكون لها قوة وسلطان الله الآب والابن في تقديس أولادها واحداً فواحداً وواحدة فواحدة, لحفظهم من الحياة بحسب دنيا الغرور والشروو والماديات والشهوات والجسد، ثم نقلهم إلى الحياة بالروح في تقديس الحق.
ما هو تقديس الحق: إن صلاة المسيح لدى الآب من أجل تقديس التلاميذ, والكنيسة بالتالي, هي مبتدأ الأسرار, فهذا هو سر التقديس الأعظم الذي انحدرت منه وبمقتضاه كل الأسرار.
والتقديس في الحق هو بحد ذاته التخصيص لله وللحياة الأبدية، أو هو الانتقال من الخضوع والانفعال لأعداء الحق الثلاثة: العالم والجسد والخطية، ورأسها الشيطان أبو التزييف والكذب، إلى الحرية، حرية أولاد الله, من كل صور وخداعات العالم المتركزة في الخطية المتسيطرة بالغش على الجسد, بتزييف أوهام يغرسها الشيطان في الفكر والتصور والعاطفة, لينخدع لها الإنسان ويقبلها، فينطوي تحتها كعبد: « إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية.» (يو34:8)
الحق: الله هو الحق الكلي، والمسيح هو الحق, والروح القدس هو روح الحق. الحق واحد, بسيط، لا ينقسم أبداً, ولا يُرى منقسماً على ذاته.
العالم: «العالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5). وهكذا بسبب تزييف الشيطان لكل ما هو حق فيه, لأنه لا يملك العالم بالحق, ولكن يملكه بالغش, ويملك الغش الذي فيه!!, لذلك جعله مركزا لانقسام والازدواج الصارخ فأصبح الخداع يحيط العالم، ويتغلغل أجمل ما فيه. فالجمال مثلاً: كل جمال تتربص به الخديعة لاصطياد الجهال. والفرح؛ كل فرح سرعان ما ينقلب إلى حزن، والفرح الذي لا يدوم هو خداع، والفرح الذي ينقسم على ذاته ويتحول إلى حزن يكشف عنصر الخداع في الفرح والحزن كليهما. لذلك يقول المسيح، فاضحاً عنصر الخداع في الفرح الذي يعطيه العالم, هكذا: «ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم, ولا ينزع أحد فرحكم.» (يو22:16). وعلى مستوى الفرح، يعطي المسيح السلام: «سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا.» (يو27:14)
هنا يكشف المسيح الازدواج المؤلم في السلام الذي يعطيه العالم, فهو سرعان ما ينقلب إلى قلق واضطراب وضيق يخنق النفس. وهكذا فالسلام الذي يمكن أن ينقلب إلى كآبة، هو خداع، السلام والكآبة كليهما.
والجسد: هو ملتقى الخداع الذي يبثه تزييف رئيس هذا العالم: «فإني أسر بناموس الله، بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحى أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟» (رو24:22)
وبنظرة واحدة مرتفعة عن العالم، نرى كيف ينتهي الجسد ويؤول إلى فساد وتراب، فيتضح مدى الخداع الذي عاش فيه بين الصحة والمرض، والغنى والفقر، والشبع والجوع ، والعطش والإرتواء، والعلم والجهل، والمتعة والحرمان, والرضى والغضب، والاطمئنان والخوف، والنور والظلمة وأخيراً الحياة والموت؛ فبنظرة من الأعالى, ترى الروح وهي في مقرها السماوي مدى زيف هذا الازدواج المؤلم الصارخ الذي يعبث بالانسان ويظنه الإنسان، وهو واقع تحته، أنه حق, وهو الخداع والسراب, عين الخداع وعين السراب!!
ولكن ليس وحدها العين الروحية للنفس وهي في السماء تكتشف هذا الخداع، بل وعين الإنسان الذي تقدس بالحق هنا على الأرض، ودخل مجال تقديس الآب والمسيح، فقد أعطي له أن يرى مهزلة هذه الازدواجية، ولكن أعطي أن يعيش فوقها، ويراها، ولكن لا يُمسك منها؛ يعيشها، ولكن لا تعيش فيه، لأنه يحيا الحقيقة, يحيا النور الدائم والفرح الدائم والسلام الدائم، يأكل الخبز السماوي الباقي إلى الآبد، «المأكل الحق» فلا يجوع أبداً، ويشرب ماء الحياة ودم الخلاص المحيي فيرتوي أبداً ولا يعطش أبداً لأنه «المشرب الحق». ويحيا حياة الأبد، لا يخشى الموت وما يؤدي إلى الموت، فلا يموت أبداً «فقد انتقل من الموت» الخادع «إلى الحياة» الحقيقية التي ليس فيها موت أو خداع. والحق يعلو الزمن, وكل ما يغيره الزمن، وكل ما يفنيه الزمن. وهذا تاج الإنسان الذي قبل تقديس الآب والمسيح.
المسيح حينما أكمل كرازته, وضمن خلاص الإنسان وتحريره من الخطية وخداع العالم، قال قولته الغالية: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو32:12). دينونة العالم يعني الحكم على الخداع والتزييف الذي فيه، بظهور الحق الإلهي، وبدء عمله على مستوى الإنسان. أما طرح رئيس العالم خارجاً، فهو بعينه عزل قوة التزييف، واستعلان قوة الحق التي بدأت تفرز الكذب والغش الذي يلف به الشيطان الخطية، والتي بها قتل الانسان لذلك دعاه المسيح : «قتالاً للناس من البدء.» (يو44:8)
وهكذا, وبعد أن قال المسيح: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)؛ صلى إلى الآب قائلاً: «العمل الذي أعطيتني لأعمل، قد أكملته» (يو4:17), وعليه فقد استطاع أن يتقدم بطلبته العظمى الآن: «قدسهم في حقك»، بمعنى أن يملك الحق فيهم، فلا ينجذبوا قط إلى العالم، بل بالحري يكونون نوراً للعالم يبدد ظلمته الخادعة, ومصدر توبيخ يفضح أكاذيبه: «ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة, بل بالحري وبخوها.» (أف11:5)
تقديس الحق: ليس هو إجراء ظاهرياً, بل هو انفتاح الوعي الداخلي للانسان بقوة الروح الذي يسكبه الآب على التلاميذ، والذي كان يوم الخمسين قمة استعلانه. الوعي المسيحي بعمل الروح القدس يعمل على رفع رؤية الإنسان وإدراكه. فهو بسهولة يكشف كل خداع العالم والشيطان: «لأننا لا نجهل أفكاره» (2كو11:2)، وبالتالي, فهو يصبح قادراً على أن يتعامل مح الظلمة بكل أفكارها وأدواتها, يدركها منذ أول حركتها, ويطاردها, ويطردها، لأنه يكشف زيفها وخطورتها وعدمها: «قاوموا إبليس، فيهرب منكم» (يع7:4), هروب الظلمة أمام النور. لذلك، فالذي يسلك في الحق، يغلب العالم! «فرحت جداً لأني وجدت من أولادك بعضأ سالكين في الحق, كما أخذنا وصية من الآب.» (2يو4)
القديس يوحنا أدرك قوة الحق وفعله ودخوله إلى العالم بالمسيح: «لأجل هذا أظهر ابن الله، لكي ينقض أعمال إبليس.» (1يو8:3)
«النور»: وهو التعبير عن الحق في أوسع معانيه، مُشخصاً في المسيح يسوع، وقد جاء إلى العالم، فارتكز الحق على الأرض ارتكازاً أبدياً مشخصاً ومستعلناً في المسيح وكلمته وأسراره وإنجيله وكنيسته.
ولكن الحق ليس كالكذب, وليس كالخداع الذي يغوي الجهال، فالحق لا يستهوي إلا من انفتحت بصائرهم, فاستحلت النور في مصدره, أما الذين يستهويهم الزيف والوهم والكذب والحق المغشوش، فلا يرون في النورنوراً بل حرماناً لملذات وهمية مائتة: «النورقد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظمة أكثر من النور» (يو19:3). فالإنسان الأعمى لا يرى إلا ما هو تحت رجليه!!
وليس الانجذاب إلى الخداع هو قطيعة مح النور فحسب, بل إنه ولكي ينفضح عنصر الكذب والكذاب الذي فيه، فإن محب الظلمة تجده باغضا للنور أيضاً: «لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور, ولا يأتي إلى النور (الصلاة, الكنيسة، خدام الله) لئلا توبخ أعماله.» (يو20:3)
ولا يمكن أن يتقابل الحق مع الكذب والخداع, أو صاحب هذا مع صاحب ذاك، فهذا كأس حياة وهذا كأس موت, ولا يمكنك أن تجمع النور مح الظلمة؛ ليس لأن الظلمة شيء أو لأن الكذب شيء، بل لأنه هو اللاشيء, وحتماً يؤول إلى العدم. الظلمة والكذب تأخذ وجودها الكاذب خلف الحق، فهي قائمة لأنها تزيف الحق وتزيف النور، ولولا النور ما كانت ظلمة، ولولا الحق ما كان كذب. فإذا عم الحق والنور يوماً، تلاشى الكذب والظلمة حتماً!!
«الله نور، وليس فيه ظلمة البتة» (1يو5:1). هذا يقيناً، فهو الحق كل الحق. فالنور والحق ليسا صفات لله بل هما طبيعة قائمة فعالة فيه. فلا وجود للحق بدون الله، فهو صاحبه الوحيد. فالحق والنور قوى إلهية لا تُدرك قط في طبيعتها، لأن من ذا الذي يدرك طبيعة الله؟ وإنما نحن ندرك فعلها في الإنسان: في فكره، فينعكس النور على عقل الإنسان الواعي للمعرفة الفائقة فيخشع الإنسان أمام الله؛ وفي قلبه وروحه، فتنطبع المحبة, التي هي محصلة فعل النور مع الحق, فينجذب قلب الإنسان نحو الله. لذلك «إن قلنا إن لنا شركة معه, (ومسيرة ومعرفة لله), وسلكنا في الظلمة, نكذب ولسنا نعمل الحق» (ايو6:1), «من قال إنه في النور, وهو يبغض أخاه، فهو الى الأن في الظلمة... وفي الظمة يسلك, ولا يعلم أين يمضي، لأن الظمة أعمت عينيه.» (ايو9:2و11)
ثم ما هو سلام الله الكامل؟ إلآ حينما يملك الحق بالكامل؟ وما هو الإتضاع الحقيقي إلا حينما يُستعلن النور في قمة قوته؟ ثم ما هي القداسة أو التقديس إلا حينما تُستعلن طبيعة الله بمفاعيلها، فتحول طبيعة الإنسان القابلة للخداع والتزييف، إلى طبيعة محصنة بالحق وقوته، وبالنور وقوته، فلا يعود الإنسان يُحتل بكل ريح، بل يثبت في الله: «الله محبة، ومن يثت في المحبة، يثبت في الله والله فيه.» (ايو16:4)
أما الحق، وأما النور، فقد استعلنا للعالم في شخص يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» (يو12:8)، »أنا هو... الحق...» (يو6:14)، بالقوة في الأعمال الإلهية، وبالفعل في حياة شخصية ملؤها الحب الذي بلغ قمته في الصليب وفي أعمال المسيح وحبه المبذول، استعلنت أبوة الله فيه واستعلنت بنوته الفريدة لله، فكانت قمة الحق الذي عرفناه فتحررنا من الخطية التي ملكت علينا، ومن الشيطان الذي أفسد وعينا، ومن العالم الذي زيف الحق في أعيننا، هذا عندما فدانا الابن بدمه، وكفر عن كل ذنوبنا، وجمعنا في جسده, ووحدنا وقدمنا إلى الله أبيه، فتبنانا.
ومن جهة هذا التحصيل الحاصل, يقول القديس يوحنا: «إننا نحن من الله, والعالم كله قد وضع في الشرير. ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق، ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح» (ايو19:5-20). هنا يكشف القديس يوحنا قطبي الحق والخداع, في مواجهة. ثم يختم على استعلان معرفة يسوع المسيح هكذا: «هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» (ايو20:5). نعم, فقد وضح أن المسيح هو الإله الحق بسبب الحق الذي استعلن فيه لنا, إذ لم يوجد به غش، واذ قام من الأموات ونلنا منه خلاصاً ونصرة على العالم: «من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (ايو5:5). والحق الذي استعلنه المسيح وعاشه، أعطاه كما عاشه، فأثبت بالفعل أنه هو الإله الحق, لذلك يضع القديس يوحنا مقابل المسيح الألهة الكاذبة بغشهم المفسود: «ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح... أيها الأولاد، احفظوا أنفسكم من الأصنام آمين» (ايو20:5-21)، وما الأصنام إلا أدوات عبادة الشيطان: المال بأمجاده الكاذبة، والملذات، والشهوات التي حللتها العبادة المغشوشة.
عبد الخطية المتعبد لملذات الجسد وشهوات النفس الجسدية، العائش في دنيا الأوهام، يشعر بنفسه شعوراً محدوداَ ضيقاً وكأنه محصور في الجسد ودنيا الأطماع والجسديات. أما الذي تقدس بالروح لله وعبادته واستعلن له الحق، فإنه يشعر وكأن نفسه وروحه قد تحررتا من ضيق الجد وانحصار أطماعه ورغباته وملذاته الكاذبة، فلا يعود للجسد وجوده الطاغي وكأنه كل شيء، بل وتفقد الأمال والأطماع والملذات والشهوات جمالها المخادع، وتنحط قيمتها وتنحصر في عين الروح, وتنحط حتى تصير تحت قدميه، فتبدو مبتذلة يحيطها الندم، وتسرح الروح حرة في عالم الله الواسع، يقودها روح الله من حق إلى حق ومن سمو إلى سمو، فتكبر النفس مع الحقيقة وتتسع مع الحق، فلا تعود الدنيا تسعها باتساع آفاقها، إذ يبدأ الخلود ينبض في القلب فترتفع مدركات الروح، وتدخل في غبطة استعلانات الله, وهي تمتد نحو مصدر الخلود والحياة الحقيقية. وهكذا تبدأ النفس تخلع أردية أوهامها السابقة، وتندم وتتأسف على المشاعر الكاذبة التي لصقت بها، وتخلع أرديتها المزيفة من القلق والضيق والغضب والحسد والحقد والنقمة والخصام والتهديد والوعيد والحزن والكآبة مع الفرح الكاذب والتهليل المصطنع والآمال الترابية، التي هي كلها أبناء الزنى الروحي والجسدي ومخلفاته المخزية:
+ «لأنكم لما كنتم عبيد الخطية, كنتم أحراراً من البر، فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحوم منها الآن. لأن نهاية تلك الأمور هي الموت. وأما الأن، إذ أعتقتم من الخطية, وصرتم عبيداً لله, فلكم ثمركم للقداسة, والنهاية حياة أبدية.» (رو20:6-22)
وبعد أن قال المسيح عن تلاميلأء إنهم ليسوا من العالم كما أنه هو ليس من العالم, عاد وقال: «أما هؤلاء، فهم في العالم، وأنا أتي إليك» (يو11:17)، ثم عاد وقال: «ولست أسال أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير.» (يو15:17)
واضح هنا أن التلاميذ كانوا قد بدأوا في الانسحاب من مظاهر العالم الكاذب، فلم تعد هذه المظاهر مصدر انفعال وقبول وحوارو تملك، ولم تعد حواسهم تعمل وفق العالم في غياب الله والحق؛ »وقد حفظوا كلامك» (يو6:17), فصار كلام الله حافظاً لهم، حارسأ لانفعالاتهم، متدخلاً إزاء طغيان العدو إذا طغى. هنا تنبري قوة الحق في كلام الله، تعمل بسلطانها في قلب الإنسان، لضبط القوة المخادعة الشريرة التي دأبت على تخريب طبيعة الإنسان, لضمها إلى سلطان رأس التخريب والخراب.
وهكذا يأتي طلب المسيح من أجل تقديسهم في الحق: «قدسهم في حقك»، لكي يصيروا مكرسين للحق وخدمته، يمسكون بالحياة الأبدية فيصيرون في مأمن من مزيفات عدو الحق. يعيشون في العالم خارج مظاهر العالم وأغلفته الكاذبة، لأنه حينما يتحررون من كذب العالم وخداعه، لا يكون من داع بعد لأخذهم من العالم، بل بالأولى بالعمل فيه بروح الله، وهوروح الحق، لإبطال خداعه: «يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعل ديونة» (يو8:16)
«كلامك هو حق»: كلام الحق، أو الكلام الذي هو حق، ليس حروفاً مكتوبة، ولا منطوقة أو مسموعة، ولا مصورة في الذهن, بل هو استعلان للوعي الداخلي للانسان. وما «الكلمة» إلا مرشد وقائد ومشير للروح الأمينة المصدقة لله، المفتوحة العينين، المستعدة للمقابلة!
«الكلمة» تقود الذهن الملتهب بالحب والوقار لتدخله إلى حضرة الله الآب، فترتسم على صفحة النفس صورة الله ينقشها شعاع نور الحق، فتتعدل النفس، وتتبدل وتتصحح وتتقدس، حيث تحترق منها كل شوائب الخداع والظنون والجهالة، وكل صور العالم الكاذبة، وتنطبع فيها ملامح الله في القداسة والحق! «كما هو حق في يسوع، أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور(الخداع), وتتجددوا بروح ذهنكم, وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.» (أف21:4-24)
«كلام الله» هو واسطة الدخول إلى الله، «الكلمة» هي باب ينفتح على طبيعة الله القدوسة. لا أحد يدخل عبر«الكلمة الحق» إلى الله إلا ويتقدس. ولكن العبرة ليست في «الكلمة» في حد ذاتها، تلك المكتوبة أو المقروءة، ولكن العبرة في النية والقصد والضمير التي بها نقترب «للكلمة» كما يكون الاقتراب إلى الحق. فإن لم يكن القصد هو الدخول إلى الله، وان لم يكن القصد من الدخول إلى الله هو كشف الحال وتغيير الأحوال، ونوال التغيير، والتقديس حسب الوعد، فالكلمة تفوتنا، ونحن نفوتها: «لذلك يجب أن ننتبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نفوته» (عب1:2). فلنعلم، بكل يقين الإيمان والاختبار، أن الكلمة في الإنجيل كانت ولا تزال إلى الأبد مصدر تقديس ملايين من نفوس أولاد الله، الساعين لمعرفة الحق وخدمته: فقد فتحوا الإنجيل برعدة الخطاة، واقتربوا من الكلمة وكأنها كنز الحق، فانفتح لهم الكنز، فاغترفوه ، وصاروا قديسين بالحق والعمل والشهادة.
كل هذا، كان السبب فيه ومنشأه وقوته صلاة المسيح من نحو تلاميذه والكنيسة: «قدسهم في الحق. كلامك هو حق»! فصار التلاميذ قديسين مقدسين في الحق. نطقوا الحق، وعلموه, ثم كتبوه، فكان لنا إنجيلاً ناطقا بقداسة هؤلاء التلاميذ وبالحق الذي قدسهم.
تقديس التلاميذ الذي يطلبه المسيح من الآب، يطلبه ليس لكي يترفع به التلاميذ وينعموا، بل ليقتحموا به ظلمة العالم، وليحطموا به أعظم بناء بنته الآلهة الكاذبة لأكبر إمبراطورية ظهرت في العالم, والتي استولى عليها الشيطان كملك وجلس في هياكلها كإله. قداسة التلاميذ لم تزدهم مجداً في عين العالم, بل سخرية وشقاء وبلاء وسجنا وسيفاً وقبر شهادة. كانت إرساليتهم إرسالية آلام. ولكن آلام هؤلاء القديسين كانت كفيلة بأن تهدم حصون الشر. وعلى أنقاض أعمدة الباطل وقبابه، قامت كنيسة الله, عمود الحق وقاعدته.
المسيح الكلمة, قدسه الله, وأرسله إلى العالم (يو36:10) ليشهد لحق الآب، فشهد وذُبح. «هكذا» أرسل المسيح تلاميذه إلى العالم، ليشهدوا وهم تحت حد السيف وعلى الصليب عينه.
«كما أرسلتني... أرسلتهم»: «كما» = «كاثوس» وهي هنا لا تفيد المشابهة، بل تفيد الشرح والتوضيح، حتى إنه لا يصح أن نفصل أبداً إرسال الآب للمسيح عن إرسال المسيح لتلاميذه، فالثانية مشروحة ومستمدة من الاولى. وكما كان لا بد من تقديس المسيح مُسبقاً لكي يُرسل إلى العالم: «الذي قدسه الله، وأرسله إلى العالم...» (يو36:10)، كذلك فإن تقديس الآب للتلاميذ كان ضرورة حتمية، حتى يستطيع المسيح أن يرسلهم إلى العالم: «كانوا لك, فقدسهم في حقك، لكي إذا ما أعطيتهم لي، أرسلهم».
كان نظر المسيح مثبتاً نحو إرساليته التي قدسه الآب لها، وكان ينظر إلى استمرارها. لهذا أعد منذ البدء الذين سيرسلهم، اختارهم، وتلمذهم، وأعلنهم بكل ما عند الآب، وأسماهم أحباء، لأنه أخذهم من يد الآب: «كانوا لك، وأعطيتهم لى» (يو6:17)، كانوا عبيد يهوة الأتقياء، المختارين من نسل المختارين! وصاروا مسيحيين. لقد قدمهم إلى الآب أبيه، كأولاد وليس بعد عبيداً، جاهزين للتقديس، لأنه كان قد أعد لهم موطناً آخر، الموطن الذي منه أتى: «هؤلاء (أصبحوا) ليسوا من العالم كما إني لست من العالم». ونجح أن ينقل قلوبهم، فلم يعودوا يطلبون وطنهم الأول بل وطناً أفضل أي سماويا. ولما أتت الساعة، وتحتم الفراق والانطلاق، أوصى الآب أن يقدسهم تقديس من يرسلهم.
ولينتبه القارىء إلى تسلسل الأفكار. فإن تقديس الآب المُسبق للمسيح، أهله أن يقول: «أنا لست من العالم»، وهذا آهله للرسالة. وليس التلاميذ كالمسيح، إذ تحتم أن يصيروا أولاًد«ليسوا من العالم»، ليتأهلوا للتقديس، ثم الإرسال.
ليس إنسان قط بمستطيع أن يقول: «أقدس ذاتي»، بل ولم يُعط للانسان قط أن يُقدس تقديساً، فالتقديس هو عمل الله وحده؛ لأن التقديس هو أن يصير الإنسان من خاصة الله. فالله وحده هو من يعين خاصته, ويقيمهم تحت ولايته وخدمته ونعيمه. وللانسان فقط أن يطلب التقديس، ولكن لا يعطيه قط. هو يطلب أن يكون من خاصة الله، ويظل يرجو ذلك رجاءً.
أما المسيح، فهو يرد على تقديس الله له بأن يستجيب بنفس القدر والقصد» فيقدس ذاته للآب تقديساً, وهنا, تقديس الآب للابن يتساوى مع تقديس الابن نفسه للآب, فهذا بحد ذاته إعلان مساوته في الألوهية: بمعنى أنه بقدر ما اختار الآب أن يخصص الابن المتجسد ليمثله في العالم تمثيلاً، بقدر ما استجاب المسيح وقطع على نفسه أن يحيا ويموت له وحده خاصة، وقد أكمل، حتى بحياته يتقدس تلاميذه لله أبيه، باتباع تعاليمه ووصاياه التي أخذها من الآب وأعطاها لهم، وبموته يموتون هم أيضاً عن العالم موتاً، فيتقدمون كذبائح لله وللحق: «وأما من جهتى فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم» (غل14:6).
في العهد القديم الذي جاء المسيح ليكمله ثم يستوفي قصده, كان التقديس لله هو من نصيب البكر. والسيح هو بكر، بحكم مولده البشري، وبكر بحكم قيامته من الأموات حياً بالروح القدس، أي بكر الخليقة الجديدة: البكورية الاولى وضعته تحت حكم التقديس، والبكورية الثانية آهلته أن يقدس هو الناس. كما أنه هو بكر الله لأنه الابن الوحيد للآب ليس عن ولادة ولكن بالطبيعة، فالوحيد (المونوجانيس) بالطبيعة هو بكر بالتسمية أو اللقب: «هو يدعوني أنت أبي، إلهي وصخرة رجائي. وأنا أيضاً أجعله بكرا أعل من ملوك الأرض» (مز26:89-27)؛ «وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله.» (عب6:1)
والمسيح، باعتباره البكر المقدس لله يقول عنه سفر العبرانيين إنه دخل العالم ليصنع مشيئة الله حياً ومذبوحاً: حياً بطاعته الكلية، ومذبوحا لتقديس الإنسان:
+ «عند دخوله إلى العالم [«متى أدخل البكر إلى العالم» (عب6:1) _ يقول ذبيحة وقرباناً (حيوانياً) لم تُرد ولكن هيأت لي جسدا. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر. ثم قلت (أنا) هأنذا أجيء، في درج الكتاب, (مز6:40), مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله. إذ يقول آنفاً إنك ذبيحة وقرباناً ومحرقات وذبائح للخطية لم ترد ولا سررت بها، التي تقدم حسب الناموس. ثم قال: هأنذا أجيء، لأفعل مشيئتك يا الله: ينزع الأول لكي يثبت الثاني: فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة.» (عب5:10-10)
فإذا فحصنا هذه الإشارات معأ بترتيب، يتضح من تقديس البكر لله حسب العهد القديم وتعبيره: «إنه لى» (خر2:13)، أن المسيح يكشف سرا كان مكنوناً في الأزلية وخطيراً! وهو أن الله سبق أن قدسه بالمشيئة وأرسله للعالم. ذلك كله في المشورة الآزلية ليكون الابن المتجسد «مخصصاً لله في العالم» كمرسل، وذلك لتقديس البشرية. هذا هو المعنى: «فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة».
ثم أن النبوة تأتي في (مز6:40), لتكشف التمهيد لهذه المشيئة الآزلية: أن الله رفض الذبائح والقرابين، ولم يسر بالمحرقات؛ إذ صارت مشيئة الآب متركزة في تقديم المسيح الذي سبق فخصصه، أي قدسه, لتكميل هذه المشيئة، فهيأ له جسداً يُكمل به هذه المشيئة.
ثم يعود المسيح ويكشف كيف طابق مشيئة الآب بمشيئته الخاصة الحرة، كابن في الأزلية، وذلك في نفس المزمور 8:40 بقوله مجيباً لمشيئة الآب هكذا: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت». أي أن مشيئة الآب، من نحو تقديم المسيح ذبيحة عوض كل الذبائح المرفوضة التي لم تكمل مسرة الآب، طابقت تماما وفي الآزلية أيضأ مشيئة الابن الشخصية في تقديم جسده بمسرة, كذبيحة خطية من أجل العالم. بمعنى أن مشيئة الآب صدرت للابن، كوصية منذ الآزل، وقبلها الابن في الأزلية, ونفذها بالجسد في ملء الزمن كيسوع المسيح.
وهكذا، وفي إنجيل القديس يوحنا، يكشف المسيح عن التطبيق العملي لنبوات العهد القديم التي التقطت صورة مسبقة لما دار بين الآب والابن في الأزلية، عما سيحدث حتماً في الزمن, وذلك حسب قول المسيح نفسه عن نفسه، أنه حان الزمن ليكمل الوصية, هكذا: «لأجلهم أنا (الآن) أقدس ذاتي». ويجيء سفر العبرانيين ليكشف هذه الدراما، في صورتها الأزلية وفي توقيعها العملي على مسرح الزمن, ثم ينتهي بذلك إلى مفهوم التقديس في العهد الجديد: «فبهذه المشيئة نحن مقدسون»!! سواء المشيئة بصورتها الأزلية أو بتطبيقها العملي: «بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب10:10). وقول سفر العبرانيين هذا، يوضح بأجلى بيان ما قاله بولس الرسول أيضاً من جهة هذه المشيئة الأزلية في رسالته إلى أفسس: «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم, لنكون قديسين, وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني، بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته.» (أف4:1-5).
كما عاد وأوضحها، بقوة، في رسالته إلى تيموثاوس: «الذي خلصنا، ودعانا دعوة مقدسة, لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع, قبل الأزمنة الأزلية» (2تي9:1)
«ليكونوا هم أيضأ مقدسين في الحق»: يلاحظ أن كلمة «الحق» جاءت في اليونانية في هذه الآية بدون «أل» التعريف، فهي تترجم ليس «الحق» بل «حقا» أو «بالحق». يعني ليس تقديساً اسمياً، كما كان يجري في العهد القديم بإجراء ظاهري، ولكن تقديس إلهي من عمل الله نفسه. وتقديس التلاميذ الذي يهدف إليه المسيح هو على مستوى تقديس ذاته هو: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقديسين بالحق»؛ لأن تقديس المسيح لذاته هو صميم الحق. والمعنى ها عميق وخطير، وهو يرمي إلى أن المسيح قدس حياته تقديسا روحيا لله أبيه؛ وقدس موته: أي أن ذبيحة نفسه قدمها لله خاصة، لا على مستوى الظاهر كذبائح الحيوانات التي كانت تقدم قديماً على مذبح المحرقة المصنوع بالأيدي، بل ذبيحة فائقة في طبيعتها وجوهرها، إلهية، دمها دم أزلي، حي بروح أزلي. لذلك كان تكفيرها مطلقا غير محدود، من جهة فعلها، على مستوى المكان والزمان والحياة. هذا هو تقديس المسيح لذاته في حياته ومماته. وهكذا هو يطلب لتلاميذه أن يكوذ تقديسهم لله من داخل فعل تقديسه، ليس بالمظاهر والاسم، ولكن بأن يشملهم تقديس ذبيحته، ليحسبوا أمام الله الآب مقدسين بالحق وقديسين بلا لوم (أف4:1)، لهم رائحة المسيح الذكية لدى الآب (2كو15:2)، والتي «اشتمها أبوه وقت المساء عل الجلجثة» (التسبحة اليومية, ثيئوتوكية الأحد)، رائحة حياة لحياة (2كو16:2)
ومرة أخرى، يلزم التفريق بين تقديس المسيح لذاته، فهو ( ), هو«الحق»: هو «الله». أما تقديس التلاميذ فهو بالحق, أو حقاً, فهو إنعام إلهي. وبالمعنى العملي, فإن ذبيحة المسيح أعلنت لاهوته بالقيامة من الأموات, لأنها لم تكن ذبيحة ميتة قابلة للفساد، بل ذبيحة لم تر فساداً، حية بلاهوتها للحياة, لذلك صارت مُحيية. أما ذبائح التلاميذ, في حياتهم بالكرازة وفي موتهم بالاستشهاد, فهي ذبائح ناطقة شاهدة بموتهم للأب والمسيح. «دماء الشهداء بذار الكنيسة».
ذبيحة المسيح ذبيحة الحق المحيي التي فتحت الطريق إلى الحياة الأبدية. وذبائح التلاميذ والشهداء والكنيسة ذبائح مؤهلة للحياة الأبدية، وخدمتها، أي الكرازة بها. ذبيحة المسيح هي ذبيحة تقديس البكر، بكر الإنسان وبكر الله. فكان هو البكر الذي دخل إلى العالم: «متى أُدخل البكر إلى العالم، يقول ولتسجد له كل ملائكة الله» (عب6:1)؛ والبكر القائم من الأموات: «الذي هو البداءة» بكر من الأموات, لكي يكون هو متقدماً في كل شيء» (كو18:1). فلذلك، أصبح التلاميذ والكنيسة المنتصرة كنيسة أبكار بالضرورة: «ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار، مكتوبين في السموات» (عب22:12)؛ لأن قداسة بكورية المسيح الإلهية شملت, إخوته في الموت, أحباءه الذين أحبوه وماتوا من أجله كما مات هو من أجلهم: «لأن الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرا بين إخوة كثيرين.» (رو29:8)
والسؤال في الختام, هل صرنا مقدسين في حق المسيح, في ذبيحته وقيامته وحياته؟ إنها لا زالت طلبة المسيح من أجلك ومن أجلي. إنها عطية تُسأل, فتُعطى, وتُدرك بالكلمة والسر والإنجيل, فتٌعاش. والحق لا يصير حقاً فينا، إلا بالتقديس. والقداسة سيرة، قوامها جحد العالم والالتصاق بالله: «نظير القدوس الذي دعاكم, كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة.» (ابط15:1)
تذكرة: «المكسور لأجلكم» (1كو24:11) ..... «يٌسفك من أجل كثيرين.» (مت28:26)
هذا الدعاء لتقديس التلاميذ: «قدسهم في حقك ... من أجلهم أقدس أنا ذاتي»، ينسحب على الماضي القريب، عل ما تم في سر العشاء، والحبيب جالس وسط أحبته، يطعمهم لحم آلامه، خبز السماء الذي تشتهي الملائكة أن تطلع عليه, أو يسقيهم دم تقديسه بيديه! وبشيء من التعمق في المعاني والمقاصد، نجد أن كل ما صلى به المسيح في يو 17، إنما هو تفسير مستيكى لما جرى على العشاء الأخير، في نفس الليلة، فالربط الروحي الخفي بينهما وثيق!
أما كلمة «السر» التي تصل الفعل التقديسي بالدعاء، فهي «لأجل» و«من أجل». فالجسد المكسور بالنية أمامهم ولأجلهم أخذه بالروح وأعطاهم بالسر، كسر آلام ذبيحته، الآلام الشافية والمُحيية، وبالروح أيضاً سقاهم دمه المسفوك لأجلهم، وروحه الأزلى فيه قائم للتقديس، وهذا وذاك قال لهم إنه يُقدم »لأجلكم».
فتقديس المسيح سلمه لنا في ذبيحته تسليماً، أكلاً وشرباً: «مآكل حق ومشرب حق» (يو55:6)
ولكي ينالنا ما نالهم ويكون التقديس لنا كما كان لهم، قال في دعائه الممتد عبر الدهور: «أنا أقدس» بالفعل الحاضر الدائم ولم يقل «قدست». فالأمر لم يكن محصوراً في تمثيل السر أو إعطاء نموذجه مرة، بل سرء قائم دائم فيه وفينا، فهو «مكسور» بصيغة الفعل الدائم: «هذا هو جسدي المكسور»، نعم، المكسور مع كل نفس مكسورة، و« هذا هو دمي الذي يُسفك»، أو «المسفوك» بفعل مضارع ممتد، مسفوك مع كل نزف ينزفه الإنسان إزاء آلام الزمان الحاضر من أجله: «إن كنا نتألم معه، لكي نتمجد أيضاً معه.» (رو17:18)
وتقديس المسيح أو قداسته هو مثل مجده ومثل بنوته لله، فهذه وان كانت كلها أزلية إلا أنها أستعلنت لنا «لأجلنا» لتكون لنا كما كانت له وسواء كانت قداسته، أو كان مجده أو بنوته لله فهذه كلها ليست صفات إلهية جامدة فيه، ولكنها صفات استعلنت استعلاناً، كعمل بالنسبة للعالم والإنسان، وكانت بقصد أن ننال نصيباً فيها. فتجسده وميلاده، كبشر، أعلن اتضاعه الفائق على كل اتضاع «من أجلنا». وموته الفدائي العجيب أعلن حبه التقديسي والأزلى الفائق والمتعظم على كل حب «من أجلنا». وقيامته أعلنت مجده العالى فوق أعلى السموات «من أجلنا». وهذا كله ليشمل الإنسان بكل شمائله وينقلنا إلى مستوى بنوته ليقدمنا إلى أبيه، لتحيا وتتجلى خليقتنا مقدسة في الله من جديد.
ولكن هل هذا كله محبوس ومقصور فقط للعصر الاخروي القادم، الذي نتحرق إليه شوقاً من خلف ستار الموت الكثيف.
إننا مدعوون إليه الآن لنحياه كما سنحياه هناك، هنا في وسط ضيق العالم الحاضر الخانق، كسبق مذاق أو عربون؛ وإلا فلماذا التقديس؟ والتقديس لا يُرى إلا على ضوء هذا العالم, لأن التقديس لا يعني لنا الأن إلا جحداَ لهذا العالم بكل شروره وأباطيله ووسائله المملوءة غشاً وكذباً ورياءً: «لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير.» (يو15:17)
ليس إنسان قط بمستطيع أن يقول: «أقدس ذاتي»، بل ولم يُعط للانسان قط أن يُقدس تقديساً، فالتقديس هو عمل الله وحده؛ لأن التقديس هو أن يصير الإنسان من خاصة الله. فالله وحده هو من يعين خاصته, ويقيمهم تحت ولايته وخدمته ونعيمه. وللانسان فقط أن يطلب التقديس، ولكن لا يعطيه قط. هو يطلب أن يكون من خاصة الله، ويظل يرجو ذلك رجاءً.
أما المسيح، فهو يرد على تقديس الله له بأن يستجيب بنفس القدر والقصد» فيقدس ذاته للآب تقديساً, وهنا, تقديس الآب للابن يتساوى مع تقديس الابن نفسه للآب, فهذا بحد ذاته إعلان مساوته في الألوهية: بمعنى أنه بقدر ما اختار الآب أن يخصص الابن المتجسد ليمثله في العالم تمثيلاً، بقدر ما استجاب المسيح وقطع على نفسه أن يحيا ويموت له وحده خاصة، وقد أكمل، حتى بحياته يتقدس تلاميذه لله أبيه، باتباع تعاليمه ووصاياه التي أخذها من الآب وأعطاها لهم، وبموته يموتون هم أيضاً عن العالم موتاً، فيتقدمون كذبائح لله وللحق: «وأما من جهتى فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم» (غل14:6).
في العهد القديم الذي جاء المسيح ليكمله ثم يستوفي قصده, كان التقديس لله هو من نصيب البكر. والسيح هو بكر، بحكم مولده البشري، وبكر بحكم قيامته من الأموات حياً بالروح القدس، أي بكر الخليقة الجديدة: البكورية الاولى وضعته تحت حكم التقديس، والبكورية الثانية آهلته أن يقدس هو الناس. كما أنه هو بكر الله لأنه الابن الوحيد للآب ليس عن ولادة ولكن بالطبيعة، فالوحيد (المونوجانيس) بالطبيعة هو بكر بالتسمية أو اللقب: «هو يدعوني أنت أبي، إلهي وصخرة رجائي. وأنا أيضاً أجعله بكرا أعل من ملوك الأرض» (مز26:89-27)؛ «وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله.» (عب6:1)
والمسيح، باعتباره البكر المقدس لله يقول عنه سفر العبرانيين إنه دخل العالم ليصنع مشيئة الله حياً ومذبوحاً: حياً بطاعته الكلية، ومذبوحا لتقديس الإنسان:
+ «عند دخوله إلى العالم [«متى أدخل البكر إلى العالم» (عب6:1) _ يقول ذبيحة وقرباناً (حيوانياً) لم تُرد ولكن هيأت لي جسدا. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر. ثم قلت (أنا) هأنذا أجيء، في درج الكتاب, (مز6:40), مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله. إذ يقول آنفاً إنك ذبيحة وقرباناً ومحرقات وذبائح للخطية لم ترد ولا سررت بها، التي تقدم حسب الناموس. ثم قال: هأنذا أجيء، لأفعل مشيئتك يا الله: ينزع الأول لكي يثبت الثاني: فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة.» (عب5:10-10)
فإذا فحصنا هذه الإشارات معأ بترتيب، يتضح من تقديس البكر لله حسب العهد القديم وتعبيره: «إنه لى» (خر2:13)، أن المسيح يكشف سرا كان مكنوناً في الأزلية وخطيراً! وهو أن الله سبق أن قدسه بالمشيئة وأرسله للعالم. ذلك كله في المشورة الآزلية ليكون الابن المتجسد «مخصصاً لله في العالم» كمرسل، وذلك لتقديس البشرية. هذا هو المعنى: «فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة».
ثم أن النبوة تأتي في (مز6:40), لتكشف التمهيد لهذه المشيئة الآزلية: أن الله رفض الذبائح والقرابين، ولم يسر بالمحرقات؛ إذ صارت مشيئة الآب متركزة في تقديم المسيح الذي سبق فخصصه، أي قدسه, لتكميل هذه المشيئة، فهيأ له جسداً يُكمل به هذه المشيئة.
ثم يعود المسيح ويكشف كيف طابق مشيئة الآب بمشيئته الخاصة الحرة، كابن في الأزلية، وذلك في نفس المزمور 8:40 بقوله مجيباً لمشيئة الآب هكذا: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت». أي أن مشيئة الآب، من نحو تقديم المسيح ذبيحة عوض كل الذبائح المرفوضة التي لم تكمل مسرة الآب، طابقت تماما وفي الآزلية أيضأ مشيئة الابن الشخصية في تقديم جسده بمسرة, كذبيحة خطية من أجل العالم. بمعنى أن مشيئة الآب صدرت للابن، كوصية منذ الآزل، وقبلها الابن في الأزلية, ونفذها بالجسد في ملء الزمن كيسوع المسيح.
وهكذا، وفي إنجيل القديس يوحنا، يكشف المسيح عن التطبيق العملي لنبوات العهد القديم التي التقطت صورة مسبقة لما دار بين الآب والابن في الأزلية، عما سيحدث حتماً في الزمن, وذلك حسب قول المسيح نفسه عن نفسه، أنه حان الزمن ليكمل الوصية, هكذا: «لأجلهم أنا (الآن) أقدس ذاتي». ويجيء سفر العبرانيين ليكشف هذه الدراما، في صورتها الأزلية وفي توقيعها العملي على مسرح الزمن, ثم ينتهي بذلك إلى مفهوم التقديس في العهد الجديد: «فبهذه المشيئة نحن مقدسون»!! سواء المشيئة بصورتها الأزلية أو بتطبيقها العملي: «بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب10:10). وقول سفر العبرانيين هذا، يوضح بأجلى بيان ما قاله بولس الرسول أيضاً من جهة هذه المشيئة الأزلية في رسالته إلى أفسس: «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم, لنكون قديسين, وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني، بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته.» (أف4:1-5).
كما عاد وأوضحها، بقوة، في رسالته إلى تيموثاوس: «الذي خلصنا، ودعانا دعوة مقدسة, لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع, قبل الأزمنة الأزلية» (2تي9:1)
«ليكونوا هم أيضأ مقدسين في الحق»: يلاحظ أن كلمة «الحق» جاءت في اليونانية في هذه الآية بدون «أل» التعريف، فهي تترجم ليس «الحق» بل «حقا» أو «بالحق». يعني ليس تقديساً اسمياً، كما كان يجري في العهد القديم بإجراء ظاهري، ولكن تقديس إلهي من عمل الله نفسه. وتقديس التلاميذ الذي يهدف إليه المسيح هو على مستوى تقديس ذاته هو: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقديسين بالحق»؛ لأن تقديس المسيح لذاته هو صميم الحق. والمعنى ها عميق وخطير، وهو يرمي إلى أن المسيح قدس حياته تقديسا روحيا لله أبيه؛ وقدس موته: أي أن ذبيحة نفسه قدمها لله خاصة، لا على مستوى الظاهر كذبائح الحيوانات التي كانت تقدم قديماً على مذبح المحرقة المصنوع بالأيدي، بل ذبيحة فائقة في طبيعتها وجوهرها، إلهية، دمها دم أزلي، حي بروح أزلي. لذلك كان تكفيرها مطلقا غير محدود، من جهة فعلها، على مستوى المكان والزمان والحياة. هذا هو تقديس المسيح لذاته في حياته ومماته. وهكذا هو يطلب لتلاميذه أن يكوذ تقديسهم لله من داخل فعل تقديسه، ليس بالمظاهر والاسم، ولكن بأن يشملهم تقديس ذبيحته، ليحسبوا أمام الله الآب مقدسين بالحق وقديسين بلا لوم (أف4:1)، لهم رائحة المسيح الذكية لدى الآب (2كو15:2)، والتي «اشتمها أبوه وقت المساء عل الجلجثة» (التسبحة اليومية, ثيئوتوكية الأحد)، رائحة حياة لحياة (2كو16:2)
ومرة أخرى، يلزم التفريق بين تقديس المسيح لذاته، فهو ( ), هو«الحق»: هو «الله». أما تقديس التلاميذ فهو بالحق, أو حقاً, فهو إنعام إلهي. وبالمعنى العملي, فإن ذبيحة المسيح أعلنت لاهوته بالقيامة من الأموات, لأنها لم تكن ذبيحة ميتة قابلة للفساد، بل ذبيحة لم تر فساداً، حية بلاهوتها للحياة, لذلك صارت مُحيية. أما ذبائح التلاميذ, في حياتهم بالكرازة وفي موتهم بالاستشهاد, فهي ذبائح ناطقة شاهدة بموتهم للأب والمسيح. «دماء الشهداء بذار الكنيسة».
ذبيحة المسيح ذبيحة الحق المحيي التي فتحت الطريق إلى الحياة الأبدية. وذبائح التلاميذ والشهداء والكنيسة ذبائح مؤهلة للحياة الأبدية، وخدمتها، أي الكرازة بها. ذبيحة المسيح هي ذبيحة تقديس البكر، بكر الإنسان وبكر الله. فكان هو البكر الذي دخل إلى العالم: «متى أُدخل البكر إلى العالم، يقول ولتسجد له كل ملائكة الله» (عب6:1)؛ والبكر القائم من الأموات: «الذي هو البداءة» بكر من الأموات, لكي يكون هو متقدماً في كل شيء» (كو18:1). فلذلك، أصبح التلاميذ والكنيسة المنتصرة كنيسة أبكار بالضرورة: «ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار، مكتوبين في السموات» (عب22:12)؛ لأن قداسة بكورية المسيح الإلهية شملت, إخوته في الموت, أحباءه الذين أحبوه وماتوا من أجله كما مات هو من أجلهم: «لأن الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرا بين إخوة كثيرين.» (رو29:8)
والسؤال في الختام, هل صرنا مقدسين في حق المسيح, في ذبيحته وقيامته وحياته؟ إنها لا زالت طلبة المسيح من أجلك ومن أجلي. إنها عطية تُسأل, فتُعطى, وتُدرك بالكلمة والسر والإنجيل, فتٌعاش. والحق لا يصير حقاً فينا، إلا بالتقديس. والقداسة سيرة، قوامها جحد العالم والالتصاق بالله: «نظير القدوس الذي دعاكم, كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة.» (ابط15:1)
تذكرة: «المكسور لأجلكم» (1كو24:11) ..... «يٌسفك من أجل كثيرين.» (مت28:26)
هذا الدعاء لتقديس التلاميذ: «قدسهم في حقك ... من أجلهم أقدس أنا ذاتي»، ينسحب على الماضي القريب، عل ما تم في سر العشاء، والحبيب جالس وسط أحبته، يطعمهم لحم آلامه، خبز السماء الذي تشتهي الملائكة أن تطلع عليه, أو يسقيهم دم تقديسه بيديه! وبشيء من التعمق في المعاني والمقاصد، نجد أن كل ما صلى به المسيح في يو 17، إنما هو تفسير مستيكى لما جرى على العشاء الأخير، في نفس الليلة، فالربط الروحي الخفي بينهما وثيق!
أما كلمة «السر» التي تصل الفعل التقديسي بالدعاء، فهي «لأجل» و«من أجل». فالجسد المكسور بالنية أمامهم ولأجلهم أخذه بالروح وأعطاهم بالسر، كسر آلام ذبيحته، الآلام الشافية والمُحيية، وبالروح أيضاً سقاهم دمه المسفوك لأجلهم، وروحه الأزلى فيه قائم للتقديس، وهذا وذاك قال لهم إنه يُقدم »لأجلكم».
فتقديس المسيح سلمه لنا في ذبيحته تسليماً، أكلاً وشرباً: «مآكل حق ومشرب حق» (يو55:6)
ولكي ينالنا ما نالهم ويكون التقديس لنا كما كان لهم، قال في دعائه الممتد عبر الدهور: «أنا أقدس» بالفعل الحاضر الدائم ولم يقل «قدست». فالأمر لم يكن محصوراً في تمثيل السر أو إعطاء نموذجه مرة، بل سرء قائم دائم فيه وفينا، فهو «مكسور» بصيغة الفعل الدائم: «هذا هو جسدي المكسور»، نعم، المكسور مع كل نفس مكسورة، و« هذا هو دمي الذي يُسفك»، أو «المسفوك» بفعل مضارع ممتد، مسفوك مع كل نزف ينزفه الإنسان إزاء آلام الزمان الحاضر من أجله: «إن كنا نتألم معه، لكي نتمجد أيضاً معه.» (رو17:18)
وتقديس المسيح أو قداسته هو مثل مجده ومثل بنوته لله، فهذه وان كانت كلها أزلية إلا أنها أستعلنت لنا «لأجلنا» لتكون لنا كما كانت له وسواء كانت قداسته، أو كان مجده أو بنوته لله فهذه كلها ليست صفات إلهية جامدة فيه، ولكنها صفات استعلنت استعلاناً، كعمل بالنسبة للعالم والإنسان، وكانت بقصد أن ننال نصيباً فيها. فتجسده وميلاده، كبشر، أعلن اتضاعه الفائق على كل اتضاع «من أجلنا». وموته الفدائي العجيب أعلن حبه التقديسي والأزلى الفائق والمتعظم على كل حب «من أجلنا». وقيامته أعلنت مجده العالى فوق أعلى السموات «من أجلنا». وهذا كله ليشمل الإنسان بكل شمائله وينقلنا إلى مستوى بنوته ليقدمنا إلى أبيه، لتحيا وتتجلى خليقتنا مقدسة في الله من جديد.
ولكن هل هذا كله محبوس ومقصور فقط للعصر الاخروي القادم، الذي نتحرق إليه شوقاً من خلف ستار الموت الكثيف.
إننا مدعوون إليه الآن لنحياه كما سنحياه هناك، هنا في وسط ضيق العالم الحاضر الخانق، كسبق مذاق أو عربون؛ وإلا فلماذا التقديس؟ والتقديس لا يُرى إلا على ضوء هذا العالم, لأن التقديس لا يعني لنا الأن إلا جحداَ لهذا العالم بكل شروره وأباطيله ووسائله المملوءة غشاً وكذباً ورياءً: «لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير.» (يو15:17)
القسم الثالث
المسيح يصلى من أجل الكنيسة (يو20:17-26)
هنا يرتفع المسيح بصلاته من الواقح التاريخي، التلاميذ، إلى الأفق الممتد عبر الدهور؛ ومن الوحدة المحدودة للاثني عشر (آية 11)، إلى الوحدة التي بلا حد : «ليكون الجميع واحداً»؛ ومن المعرفة المعلنة للتلاميذ بحضوره، إلى المعرفة المستعلنة بالروح والممتدة عبر العالم كله.
نظرة المسيح للكنيسة القامة لا تخرج عن حيز الفعل المضارع الحاضر الممتد: «الذين يؤمنون» وليس «الذين سيؤمنون», وهكذا لم يجعل الكنيسة تحت رحمة الزمن المترامي، بعيداً عن عينيه المرفوعتين نحو السماء، ولا كأنها غائبة عن حضوره. فكما أنه يرى التلاميذ أمامه، ويسمعهم صوته، ويسأل لهم وعنهم, هكذا يرى كنيسة الألفي سنة الآن، وكأننا حاضرون نسمع له، تحت بركة يديه الموضوعتين على رؤوس تلاميذه.
«يؤمنون بي بكلامهم»: الترجمة العربية تصرفت, والأصل اليوناني: «يؤمنون بي بكلمتهم = اللوغس» . وفرق بين الإيمان بالكلام والإيمان «بالكلمة». فـ«الكلمة» في المفهوم الروحي الخالص «اللوغس» هي التعبير عن «الحق». لذلك جاء هنا التعبير عن الإيمان «الكلمة» وليس بـ«الكلام»، فهي ليست مسألة صياغة حديث أو كثرة ألفاظ، بمعنى أن الإيمان ليس منطوق كلمات، بل إن جوهره كلمة واحدة، وتعني الحق. وهذا المعنى مُضمر في الكلمة التي قبلوها من المسيح، والتي هي التعبير عن طبيعة «اللوغس». لذلك فـ«الذين يؤمنون بي بكلامهم» تفيد الذين يعيشون في الإيمان الحق, أو يعيشون في بالايمان!! وكأن المسيح يرى، على امتداد الدهور، الذين له, أمام عينيه, ويصلي من أجلهم!!
وهكذا، يكفينا أن نكون تحت مرمى ناظريه: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم.» (يو22:16)
يُلاحظ أن المسيح تدرج في صلاته من أجل التلاميذ، من الحفظ في اسم الآب, إلى التقديس في الحق، ثم إلى الوحدة في الآب والابن.
هذا في الواقع تدرج منهجي؛ لأننا إذا حُفظنا في اسم الله, ونحن في العالم، فإننا نتأهل للتقديس في الحق, وإذا تقدسنا في حق الله، نتأهل لهذا الاتحاد في الله، الفائق الوصف.
موضوع الوحدة أو الاتحاد بالآب والابن في الأصحاح السابع عشر
أولا: الوحدة كما سبق وعلم بها المسيح تلأميذه قبل أن يجعلها موضوع صلاته لدى الآب: لقد وردت هذه الآيات المتوالية في الأصحاح السابع عشر، للتعبير عن الوحدة أو الاتحاد بالله في صلاة المسيح كالآتي:
1- فى الآية 11: «أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن».
2- فى الآية 21: «ليكون الجميع واحداً, كما أنك أنت أيها الآب في وانا فيك, ليكونوا هم أيضاً وحداً فينا».
3- الآية 22: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد.»
4- الآية 23: «أنا فيهم وأنت في، ليكونوا مكملين الى واحد».
وبالعودة إلى الأصحاحين العاشر والرابع عشر، نجد أن المسيح علم تلاميذه، كاشفاً سر الوحدة بينه وبين الآب، ثم مُعلناً عن قصده المبيت في نفسه، من جهة وحدة التلاميذ والكنيسة به هكذا:
1- يو38:10: «ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآموا بالأعمال، لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه». وهذا هو المقابل لآية الصلاة في يو23:17.
2- يو20:14: «في ذلك اليوم، تعلمون أني أنا في أبي, وأنتم في, وأنا فيكم». وهذا هو القابل لآية الصلاة في يو23:17.
ومن هاتين الأيتين، يتضح لنا منهج المسيح في بلوغ الوحدة:
+ فمن الآية (38:10)، يقدم المسيح موضوع الوحدة بينه وبين الآب، أنه مطلب أساسي يتحتم أن نبلغه. أولاً بالمعرفة وثانيا بالإيمان. «لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا في الآب». أي أن يتم ذلك على أساسين:
الأول: الإيمان التصديقي بالروح، بدون برهان: «تؤمنوا بي».
والثاني: برهان الأعمال التي عملها المسيح، ولم يعملها أحد غيره: «فآمنوا بالأعمال».
وقد كانت هذه الآية هي التمهيد والسبب في الآية الثانية:
+ يو20:14: والتي فيها يضيف المسيح على استعلان وحدته بالآب استعلان وحدتنا في المسيح والمسيح فينا, وبالتالي نحن (في المسيح) في الآب: «تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في وأنا فيكم».
وقد قدم المسيح هذه الحقيقة الإيمانية العظمى: «إني أنا في أبي، وأنتم في وأنا فيكم»، كاستعلان سيتم في وقته: «في ذلك اليوم, تعلمون», وهو اليوم الذي فيه تحقق التلاميذ بالفعل من قيامة الرب وصعوده وجلوسه عن يمين الآب مُمجداً؛ و«ذلك اليوم» نحن نعيشه الآن، وكل يوم، متحققين من، ومُستعلنين بالروح والإيمان، الوحدة التي أكملها المسيح فينا ولنا مع الآب.
ثانياً: العلاقة الوطيدة بين «المعرفة» ووحدة الوجود المتبادل (الاتحاد) في إنجيل يوحنا:
على أساس ما سبق أن أوضحه المسيح من جهة استعلان الوحدة القائمة بين الآب والابن، نسوق إلى القارىء هذه العلاقة بين «المعرفة المتبادلة» و«الاتحاد المتبادل» كما يؤكدها إنجيل يوحنا.
1- «الآب يعرفني, وأنا أعرف الآب» (يو15:10) = المعرفة المتبادلة.
«ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيّ» (يو10:14) = الاتحاد المتبادل.
واضح هنا أن المعرفة المتبادلة في ذات الله، قابلها وجود متبادل، أي اتحاد.
هنا يلزمنا أن ننتبه، ونحن بصدد الحديث عن طبيعة اللاهوت، أننا نتعامل مع المطلقات. فمعرفة الآب للابن معرفة مطلقة، لذلك يقابلها حتمتً معرفة الابن للآب معرفة مطلقة. وهاتان المعرفتان، اللتان هما معرفة واحدة بالضرورة، يقابلهما الوجود الكياني الكلي أو المطلق المتبادل بين الآب والابن, فالآب موجود كلياً في الابن، والابن موجود كلياً في الآب. وهذا الوجود هو مطلق، بحكم الجوهر الإلهي الواحد, لذلك فهو وجود كياني واحد: «أنا والآب واحد.» (يو30:10)
ثم يعود إنجيل يوحنا، ويعطينا هذه المماثلة في الآب والابن على مستوى الإنسان والله، أي أن معرفة الانسان للآب والابن تنشىء وجوداً في الآب والابن، ولكن، بسبب أن معرفة الإنسان محدودة جداً, فوجوده في الآب والابن محدود بمعرفته.
2- «لوكنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد وأيتموه» (يو7:14) = معرفة الإنسان للآب والابن.
«ليكونوا هم أيضاً واحدتً فينا» (يو21:17) = اتحاد في الابن والآب. وعلينا أن ندرك: ما هو مستوى المعرفة هذه التي يقصدها المسيح؟
لأننا هنا بصدد معرفة توصل إلى الاتحاد, أومنبثقة منه, فهي ليست معرفة فكر؛ ويكفينا أن ندرك أنها معرفة تقابل أو تماثل على وجه ما، معرفة المسيح للآب: «أبي هو الذي يمجدنى، الذي تقولون أنتم إنه إلهكم، ولستم تعرفوه, وأما أنا فأعرفه» (يو54:8-55). ونحن نعلم تماما أن هؤلاء الفريسيين يتقنون معرفة الله بالفكر, ويفتخرون بتفوقهم في المعارف الإلهية. ولكن المسيح يعتبر أنهم: «لستم تعرفونه»! إذن, هى معرفة كشف الحق, أو استعلان الحقيقة الإلهية الغائبة عن اليهودى وأهمها وأخصها هي أن الآب والابن واحد، وأن الآب في الابن والابن في الآب. ومن قوله: «لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً»، يتضح أن المسيح يقصد بـ«معرفته»: استعلان بنوته للأب, وبالتالي فإن معرفته توصل حتماً لمعرفة الآب.
هنا «المعرفة» التي يقصدها المسيح هي استعلان الحقيقة الإلهية! وهذا بحد ذاته «سر الله». وسر الله لا يستعلن إلا للمدعوين للاشتراك فيه, أي الاشتراك في هذا السر، أي الشركة في حقيقة الآب والابن: «إن السيد الرب لا يصنع أمراً، إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء» (عا7:3). «سر الرب لخائفيه.» (مز14:25)
القديس يوحنا يربط ربطاً مباشراً بين استعلان سر الله المخفي في الله، وبين الشركة في حقيقة هذا السر هكذا: «وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية, التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن, فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو2:1-3).
وبولس الرسول يربط أيضاَ بين سر الله، واستعلان هذا السر المخفي، ونوال الشركة في مضمون هذا السر, أي الشركة في المسيح هكذا: «الذي في أجيال أخر لم يُعرف به بنو البشر، كما قد اعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح, أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده (الروح القدس), في المسيح, بالإنجيل» (أف5:3-6)؛ «وأنير الجميع فيما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله.» (أف9:3).
إذا، فكل من يُستعلن له سر الله الآب والابن، فإن هذا يعني أنه صار شريكاً في ميراث البنوة والحياة الأبدية, أي أنه يكون قد دخل في شركة مع الآب وابنه يسوع المسيح، بالروح.
ثالثاً. مستويات الوحدة التي يطلبها المسيح لتلاميذه والكنيسة
يو 21:17-23
لو دققنا في عرض المسيح لطلبته التشفعية لدى الآب، من جهة «الوحدة المسيحية» نجدها على ثلاثة مستويات، في ثلاث طلبات، جاءت في الأصحاح السابع عشر مماثلة للثلاث صلوات, مع السجدات الثلاث التي قدمها في جثسيماني, كما جاءت في الثلاث أناجيل الأخرى:
المستوى الأول للوحدة: «ليكون الجميع واحداً».
المستوى الثاني للوحدة: «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا».
المستوى الثالث للوحدة: « ليكونوا مكملين إلى واحد»
المستوى الأول للوحدة: «ليكون الجميع واحداً».
لا يقصد المسيح هنا أن يجتمعوا معاً في وحدة أو اتحاد مظهري تحت اسم، تجمعهم أهداف واحدة، أو تجمعهم الأخلاق الواحدة أو الاسم الواحد أو حتى منطوق الإيمان الواحد! لأنهم هم مؤمنون جاهزون. لأن المسيح الآن يطلب من أجل «الذين يؤمنون بي بكلامهم»، أي يطلب الوحدة للذين هم جاهزون في الإيمان الواحد بالكلمة! لذلك يلزمنا أن نلاحظ أن الوحدة التي يطلبها المسيح تأتي هنا أعلى من الإيمان، ومكملة له. فهي وحدة داخلية جوهرية حقيقية بالروح، مثلها المسيح تمثيلاً بالوحدة الكائنة في الآب والابن!! والتي هي ليست وحدة إيمان ولكنها وحدة «ذاتية», أي وحدة «كيان واحد وطبيعة», وحدة ليس فيها ثنائية ولا كثرة.
ويلزما أن ننتبه أن المسيح يطلب هنا الوحدة، بعد أن أكمل طلبته لهم سابقاً أن «يحفظهم في اسمه القدوس» في العالم، ثم «يقدسهم في الحق»؛ والآن يطلب لهم، بعد أن تأهلوا بالحفظ في الاسم القدوس وتقدسوا في الحق، أن يبلغوا «الوحدة».
فلو انتبهنا أيضاً إلى ما حدث للإنسان بعد أن أخطأ آدم، كيف تفتت وتحطمت فيه صورة الله، وفقد وحدانيته التي كان يتراءى بها في حضرة الله؛ لفهمنا لماذا الآن يطلب المسيح للجميع هذه الوحدة؛ لكي، مرة أخرى، يتراءى بها أمام الله في هيئة «كنيسة واحدة» مقدسة بلا عيب!! هذا نفهمه بكل يقين من شرح القديس بولس الرسول في قوله: «وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين، لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح (الكنيسة)، إلى أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية الإيمان, ومعرفة ابن الله, إلى إنسان كامل, إلى قياس قامة ملء المسيح.» (أف11:4-13)
يلاحظ هنا هذا التدرج التكاملي: «وحدانية الإيمان», ثم «معرفة ابن الله»، إلى «إنسان كامل», إلى «دقياس قامة ملء المسيح», وكل من هذه التأهيلات، حتمي لبلوغ الغاية، ولكن التدرج هام للغاية، فوحدانية الإيمان توصل إلى معرفة ابن الله، أي استعلان سر الله، أي سر علاقة الآب بالابن والحياة الأبدية. واستعلان سر الله بالمعرفة الروحية، يوصل إلى «الإنسان الكامل», وهو قصد المسيح من صلاته من أجل الوحدة، أي الإنسان الغير منقسم على ذاته, الإنسان الجديد المنطبعة فيه صورة الله الواحد، المعبر عنه بـ«جسد المسيح السري»، أي الكنيسة، كنيسة الإنسان في المسيح، والمسيح في الإنسان، والتي لها بالضرورة «قياس قامة ملء المسيح».
هنا نفهم أن الله قسّم في الكنيسة المواهب على قدر استعداد وإيمان كل عضو فيها: «كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان» (رو3:12), لكي تعمل المواهب في الأعضاء، والأعضاء بالمواهب, لتكميل «وحدة الكنيسة» في كل شيء، حتى نبلغ في النهاية إلى صورة المسيح الكاملة، التي يعبر عنها بولس الرسول هكذا: «إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف13:4). ولكن على الأعضاء من جهتهم أن «يجدوا للمواهب» (اكو31:12). فمسئولية الوحدة, بعد أن أعطى الله كل إمكانياتها للكنيسة, أصبحت واقعة عليها وأصبحت الكنيسة مسئولة عنها: «مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام, جسد واحد وروح واحد, كما دُعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد: رب واحد, إيمان واحد, معمودية واحدة» (أف3:4-5). وهنا أيضاً نلاحظ أن بولس الرسول يلح في طلب «الوحدة» للكنيسة، بممارسة التصالح الذي لا يهدأ لكي تكون الوحدة مماثلة (= «كما دُعيتم») للايمان الواحد الذي أخذوه!! أي أن الوحدة مطلوبة كضرورة حتمية، لأنها مطلب الإيمان، الأعظم، والأول والأخير.
وعلينا أن نلاحظ أن الأساس الأول، الذي بمقتضاه يطلب المسيح الوحدة عبر الدهور، هو من أجل «الذين يؤمنون بي، بكلامهم»؛ هذا الأساس يجعل الوحدة مؤسسة على الإيمان, أي أصالة «الكلمة» المسلمة من المسيح للرسل، ومن الرسل للذين على بعد. بالتقليد والتسليم الرسوليين وهذا ما عبر عنه بولس الرسول: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء, ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية.» (أف20:2)
المستوى الثاني للوحدة: «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا
هنا ينتقل المسيح في سؤاله من أجل وحدة الكنيسة في ذاتها، إلى الوحدة «فينا», أي: في المسيح والآب!
واضح هنا أن بلوغ الكنيسة حالة الوحدة في ذاتها، هو الذي يؤهلها للاتحاد بالمسيح والآب، وهذا ظاهر من تسلسل الارتقاء بمفهوم الوحدة: «ليكون الجميع واحداً, ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا».
فالطلبة بدأت أولاً بأن: «يكون الجميع واحداً»، كعطية من لدن الآب، يهبها للكنيسة بسكب مواهب الروح في أعضائها، هذا «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا»، فوحدتهم في ذاتهم تصير سبباً ومناسبة لكي يصيروا واحداً في المسيح والآب، أي توحدهم في الابن والآب.
ولكن المسيح يعطى نوعية خاصة للوحدة التي يطلبها للكنيسة في ذاتها، لتحياها في الآب والابن، وهي وحدة: «كما أنك أنت أيها الآب فيّ وانا فيك»، «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا» !!!
هنا يلزمنا أن نفهم الآتى: حدود التشبيه بين الوحدة الالهية القائمة بين الآب والابن, وبين الوحدة المطلوبة للكنيسة المتحدة لتحياها في الآب والابن.
أولاً: ماهية النموذج الذي يقدمه المسح: «كما أنك أنت أيها الآب فيّ وانا فيك».
يُلاحظ من هذا التصريح الإلهي أن المعنى ينصب في أن الكيان الذاتي للآب قائم في الابن، كما أن الكيان الذاتي للابن قائم في الآب. هذا يمكن فهمه بصورة أوضح، حينما ندرك أن «الأبوة» في الله هي خاصة بـ «البنوة». وكذلك البنوة في الله خاصة بالأبوة. بمعنى ان الآب آب للابن وحده, وان الابن ابن للآب وحده. كذلك أيضاً نفهم أن الابن ليس ابناً لنفسه, بل هو كله للآب؛ والآب ليس آباً لنفسه, بل هو كله للابن. هذا الوجود الكياني المتبادل كليا، يجعل للآب والابن «كياناً واحداً ذاتياً». وهذا يعني أن «الله واحد أحد»، أو أن الله ذات واحدة آب وابن.
هذه الخاصية الإلهية، لو أردنا تشبيهها مجرد تشبيه بما يمكن أن يكون لدى البشر من تشبيه، لتصوير الوحدة، فهي تعني أن لا يكون الإنسان لنفسه, وأن يكون قادرا على أن يعطي نفسه أو يبذلها لله، أو للآخرين من أجل الله. وهذا أكمله ابن الله المتجسد، كإنسان، حينما وضع نفسه لله، وأسلمها له حتى الموت، طاعة له وحباً، مبرهناً، على مستوى الناس، أن الابن كله للآب بالحقيقة!!! وكان ذلك نموذجأ لنا في كيف نطيع الله ونحبه, ونبذل النفس حتى الموت, فيصير الإنسان كلة لله! وهذه صورة عملية لبلوغ حقيقة الوحدة مع الله.
بولس الرسول بلغ هذه الصورة عملياً، وعبر عنها بقوله: «فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في، فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني, وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، «كي يعيش الأحياء فيما بعد، لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو15:5), «ولكنني لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي.» (أع24:20)
بولس الرسول بلغ الوحدة السرية في المسيح، وبالتالي في الآب، من واقح الحياة والاختبار الشخصي، قبل أن يطرح ذلك كعقيدة: «جسد واحد وروح واحد، كما دُعيتم أيضأ في رجاء دعوتكم الواحد.» (أف4:4)
ثانيا: ماهية النموذج الذي يقدمه المسيح في قوله مخاطبا الآب: «كل ما هو لى فهو لك, وما هو لك فهو لى».
هنا يمهد المسيح، في صلاته، لمعنى الوحدة وكيفيتها بالنسبة للكنيسة. فكما عبر عن تبادل الوجود الكلي الذاتي بين الآب والابن لتصوير أعلى نموذج عن الوحدة في صورتها الإلهية المطلقة, يعود ويعبر عن هذه الوحدة ذاتها بتبادل «كل» مخصصات الآب للابن والابن للآب، كنتيجة حتمية لتبادل الوجود والكيان. فهي ليست وحدة ذات وكيان فحسب، بل وحدة مخصصات وامكانيات أيضاً. وهذه الخاصية الإلهية، لو اردنا تشبيهها مجرد تشبيه, بما يمكن أن يكون لدى البشر لتصوير الوحدة, هي تعني أن لا يكون لأحد شيء لذاته: «من سألك فأعطه, ومن أراد آن يقترض منك فلا ترده» (مت42:5). وقد بلغت الكنيسة الاولى هذا الحد من الوحدة العملية بالفعل: «وجميع الذين آمنوا, كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً. والأملاك والمقتنيات، كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكل واحد احتياج, وكانوا، كل يوم، يواظبون في الهيكل بنفس واحدة» (أع44:2-46), «وكان لجمهور النين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة, ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً» (أع32:4)؛ ولكن يلزم أن نفهم ذلك على المستوى الروحي.
ثالثاً: ماهية النموذج في محبة الآب للابن والابن للآب, الذي يقدمه المسيح ليكون معبراً عن الوحدة التي يطلبها من أجلنا في قوله: «ليفهم العالم أني أحب الآب» (يو31:14), ومن قوله: «الآب يحب الابن, وقد دفع كل شيء في يده» (يو35:3), كذلك: «كما أحبني الآب, كذلك أحببتكم أنا» (يو9:15), وأخيراً: «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به» (يو26:17)؟
المحبة المتبادلة بين الآب والابن, صفة جوهرية, أي هي من صميم طبيعة الله؛ لذلك فهي تبرز لتكون برهاناً على الوحدة المطلقة في الآب والابن. فالمحبة في الله ليست وليدة إرادة أو عاطفة أو انفعال, من واقع الصلة بين الآب والابن, ولكنها متجذرة أزليا في طبيعة الله، فهي صفة ملازمة حتماً للوحدة. لذلك، فحينما نأخذها نموذجاً لنا لتكون قرينة للوحدة المطوبة، فلا يجب أن نحسب أنها معيار أخلاقي يُحتذى به ليؤهل للوحدة، ذلك لأنها أعطيت لنا على مستوى التشبيه والتشبه، لأن حرف «كما» الذي يأتي دائماً للتشبيه هو على مستوى الشرح لا على مستوى المطابقة: «كما أحبني الآب» (يو9:15), «كما أحببتني» (يو23:17)؛ وأيضاً تشديد المسيح على التمثيل بالمحبة الأزلية الكائنة بين الآب والابن: «لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو24:17)، لا يقتصر فيها على التشبيه وإنما يقصد به أن هذه المحبة ستكون لنا مصدر انسكاب قوة محبة, عاملة فينا، وعلى مستوانا البشري. وهذا صار واقعاً بالفعل: «لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا، بالروح القدس المُعطى لنا» (رو5:5). هاا الحب المنسكب علينا من الآب بالروح القدس, هو أعظم برهان على حدوث وحدة حقيقية مع الآب والمسيح. وهذا جاء نتيجة لصلاة المسيح وتشفعه بالكلمة والدم!
ومن هذا نفهم أن المحبة التي يحثنا المسيح أن نحب بها، سواء بعضنا لبعض أو نحبه هو أو الآب, للتدليل على صدق بنويتنا لله أو وحدتنا في المسيح به، ليست على مستوى الأخلاق ولا العاطفة كإرادة تحضر وتغيب, ذلك لأن هذه المحبة هي محبة مُشابهة بل ومستمدة من محبة الآب للابن ومحبة الابن للآب، فهي محبة من طبيعة الروح لا الجسد، أي محبة فائقة للطبيعة البشرية, أو بالمفهوم الإلهي هي «موهبة» كما سبق وقلنا: «لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا».
من هنا تنقشع الغمامة التي تعتم الفكر، حينما يسأل الإنسان متحيراً: كيف نقيم حد الوصية: «أحبوا أعداءكم» (مت44:5(!! هنا استحالة أن يكون ذلك على مستوى الإرادة أو العاطفة!! ولكن هذا يمكن إتمامه فقط في حالة واحدة وهي أن تكون المحبة هي «محبة الله», المحبة الروحية الفائقة، الموهوبة لنا، والعاملة بالروح القدس، لتذليل كبرياء الإنسان، واعلاء لإتضاع المسيح. هذه المحبة التي سبق وأن عملت فينا ونحن أعداء الله وخطاة : «الله، الذي هو غني في الرحمة, من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها, ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح، بالنعمة أنتم مخلصون» (أف4:2-5 وراجع رو8:5و10). هذه هي المحبة القادرة بالفعل أن تحب حتى الأعداء، والتي سماها بولس الرسول بالمحبة الفائقة المعرفة: «وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة, لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف19:3)، والتي تكون أقوى دليل على أن الإنسان بلغ الوحدة مع الله, الذي أحب العالم, وهو يشرق شمسه على الأشرار والأبرار سواء بسواء.
المحبة أحد إلتزامات الوحدة: واضح أن المحبة كوصية أولى وعظمى، كما طلبها المسيح لنا من الآب، وكما طلبها منا مرارا، ليست مفروزة كعمل أخلاقي كما سبق وقلنا، لأن العمل الأخلاقي يعجز عن أن يلغي الذات في وصية محبة الأعداء؛ كما أن العمل الأخلاقي يقصر عن أن يقدم الذات فيدية من أجل الآخرين. فالمحبة هبة روحية وعطية؛ وعلى هذا الأساس يطالبنا بها المسيح، إذ كما أخذناها كهبة نعطيها كهبة أيضاً بل بالمقابل: «الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، ويقابلها: «بهذا قد عرفنا المحبة، أن ذاك وضع نفسه لأجلنا, فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الاخوة» (1يو16:3)
من هنا جاءت وصية المحبة كحالة التزام: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم» (يو12:15). والتزام المحبة حتمي، لا مفر منه, في اللاهوت المسيحي: «أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة هي من الله, وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله. ومن لا يحب, لم يعرف الله, لأن الله محبة» (1يو7:4-8)
المحبة هنا ثمرة حتمية للعلاقة الإيمانية التي تربطنا بالله، وغيابها يعني غياب الإيمان المسيحي كله, وغياب الله من حياتنا. أما حضور المحبة ونشاطها وفرحها بالبذل من أجل الأخرين, فهذا يعني حضور الله في روح الإنسان وقلبه، واعلاناً عن إيمان حار وفعال.
القديس يوحنا يجعل ثبوت المؤمن في المحبة دليلاً قاطعأ على الثبوت في الله، وثبوت الله فيه, أي دليل حالة اتحاد: «الله محبة، ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه.» (1يو16:4)
صحيح أن المحبة، هبة عظمى مجانية، ولكننا لا نأخذها إلا لنعطيها. وعطاؤها هو هو بذل النفس وانكارها حتى الموت. ومن لا يتشجع ويعطيها, تُسحب منه، فيبيت بلا محبة، وبمسى غريباً عن صليب المسيح. أما الذي تشجع «وأبغض ذاته» «وأهلكها» بمعنى أهلك كبرياءها وجعلها تحت أقدام الآخرين، حباً لهم وللمسيح، وذلك حسب الوصية, أي من أجل المسيح والإنجيل، فقد عاش بل وقد انتقل من الموت إلى الحياة: «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة, لأننا نحب الإخوة. ومن لا يحب أخاه يبقى في الموت.» (1يو14:3)
إذن، فالوحدة التي وهب لنا الله أن نبلغها في المسيح في الله، ليست بدون مقابل أو التزام؛ فالذات أو الذاتية في الإنسالأ يلزم أن تكون «الأنا» هي ضحيتها الاولى، «مع المسيح صُلبت، فأحيا، لا أنا, بل المسيح يحيا فىّ» (غل20:2). فإن كانت «الأنا» التي فيّ قد ماتت، فقد انفتح لى باب الحب على مصراعيه، فأحب أعدائي، حتى صالبيّ، وأبارك من يلعن ذاتي، لأني قد دفنتها في قبر المسيح، أصلى لمن يُسىء إلى نفسي، ويطاردها، فنفسى لم يعد لها حساب عندي بعد (راجع أع24:20)، إنها ليست هنا!!!
رابعاً: الفرق بين «الوحدة في الله», وبين الوحدة المطلوب أن تكون لنا فيما بيننا, أو بيننا وبين الآب والابن: وحدة الله في ذاته: «أنا والآب واحد»، «أنا في الآب، والآب فىّ»، «كل ما هو لى فهو لك, وكل ما هو لك فهو لى»؛ هذه الوحدة الإلهية الفائقة تقوم على أساس التساوي المطلق بين الآب والابن في الذات وفي كل منهما، حتى إن كلمة «التساوي» هنا هي أضعف من أن تعبر عن الحقيقة، لأن لفظة «تساوي» هي وليدة القياس والله لا يُقاس؛ والأصح أن نقول أنهما واحد، لأن الله مُطلق في صفاته، فوحدته مطلقة، وبلا قياس، ومنزهة عن مفهوم العدد. لذلك ، يستحيل أن يكون للوحدة في الله شبيه في الإنسان، وإنما ساقها المسيح للشرح والتمثيل وليس للطباق أو المساواة، لأنه إذا استحال حتى القياس بالتساوي بين إنسان وإنسان، فكيف يمكن أن يبلغا اتحاداً على مستوى الله؟
فالاتحاد, أو الوحدة التي يطلبها لنا المسيح فيما بيننا ثم فيما بيننا وبين الآب, هي وحدة تتناسب قبل كل شي ء مع تفردنا واختلاف أجناسنا وتباين طبائعنا. فنحن لسنا متساوين في كياننا الداخلي، في أي شيء البتة، إلا في الخطية والعجز والقصور الروحيين.
لذلك, فالوحدة التي يطلبها لنا المسيح, لا تقوم البتة على ماهية أشخاصنا أو ما هو لنا, بل على أساس أن نتساوى فيه والآب، وليس تساوينا في ذواتنا. فبقدر ما تنسكب فينا قوة وحدة المسيح في الآب, سواء من جهة الحب بينهما أو من جهة الحق أو القداسة، بقدر ما نبتدىء نحن نتساوى ونتقارب ونتحد بهذه القوة الخارجة عنا والآتية إلينا من لدن الله. فمحبة الله تحصرنا، فتلغي عداواتنا وتُنهي على انقساماتنا؛ وحق المسيح والآب يصهر أفكارنا وقلوبنا، فيبدد جهالاتنا، ويوقف حماقاتنا ويقدس أرواحنا وأجسادنا: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17)؛ ونور معرفة المسيح والآب ينسابان في طبائعنا الروحية ووعينا «بالكلمة», فتُستعلن لنا الوحدة الكائنة في المسيح والآب بقوة تُدخلنا في الإحساس والوجود الفعلي في حضرة الآب والابن بلا أي عائق فكري. وهكذا نتحد فيما لله، وليس فيما لنا، ونصير واحداً بسبب الروح الواحد الذي نستقي منه (1كو13:12)، والجسد الواحد الذي نغتذي عليه: «كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد.» (1كو16:10-17)
فإن فسرنا معنى قول المسيح مراراً: «أنتم في وأنا فيكم»، عمليا في حياتنا اليومية، يكون المعنى هو التبادل الغير عادل بالمرة بين ما له وما لنا، كقول الآبصلمودية السنوية: «هو أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له، فلنسبحه نمجده ونزيده علواً» (مرد ثيئوطوكية الجمعة). نعم، فالوحدة التي سعى إليها المسيح نحونا هي تبادل القوة والطاقة. ولكن للأسف, أو يا للسعادة، فهو تبادل ليس على مستوى التساوي كما للآب والابن، بل على أساس تغطية عجزنا بكماله وجبران نقصاننا بملئه. فهو فينا بملئه وكماله، ونحن فيه بعجزنا ونقصاننا؛ هو فينا بقداسته الكلية، ونحن فيه بلا قداسة بالكلية, ولكننا بالنهاية صرنا مملوئين فيه، أحباء وقديسين وبلا لوم أمام الله.
الوحدة والملء: القديس بولس يعبر عن أسمى صورة للاتحاد بالمسيح بقوله: «فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً، وأنتم مملوؤون فيه» (كو9:2-10). فما هو«ملء اللاهوت»؟ وما هو «ملء اللاهوت جسدياً», أما «ملء اللاهوت» فهو للابن قبل تجسده، وهذا هو الذي عبر عنه المسيح بقوله: «الآب فّي», وهذا ليس ليس لنا أن نقربه، أو حتى تطع عليه؛ أما «ملء اللاهوت جسدياً», فهو ملء اللاهوت الذي صار في الجسد من أجلنا, منظوراً وملموسأ ومُشاهدا، كما يقرر القديس يوحنا: «االذي كان من البدء, الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدنا، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة؛ فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية، التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا... وأما شركتنا نحن, فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو1:1-3)
فملء اللاهوت جسديا هو ملء الله، الذي جعله في متناول أخذنا!! «ومن ملئه نحن جيعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو16:1). أخذنا من ملئه الإلهي القداسة، الحياة الأبدية، والحب، والوداعة، وتواضع القلب، والنور, والخبز الحقيقي، وماء الحياة، أخذنا قدوسيته برضاه: «من أجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17). كل هذا واكثر عبر عنه المسيح بقوله: «أنا فيهم». وبقوله: «أنا فيكم», «وأنتم في», يكون المسيح قد عبر تعبيرا مزدوجاً عن اتحاد غير منفصم . وهكذا صارت طرق الله التي كانت في القديم تعلو عن طرقنا (إش9:55, رو33:11) علو السموات عن الأرض, صارت هي نفسها لنا طريقاً وباباً : «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14), «أنا هو الباب» (يو9:10). وفكر الله الذي كان يعلو عن أفكارنا, صار هو هو بذاته «فكرنا». فما هو فكر الله إلا «الكلمة», كلمة الله الفائقة عن الإدراك, الخالقة السموات والأرض وكل ما فيهما، أتتنا على الأرض متجسدة ومتأنسة في هيئة إنسان، لنسمعها من فم الله, سمع الاذن، ونراها رؤيا العين, ونلمسها لمس اليد. فأدركناه، بل وصار لنا فكره: «وأما نحن فلنا فكر المسيح» (اكو16:2). والنور الذي لم يعرفه العالم سابقاً، عرفناه. والقداسة والبر الإلهي, أمور الله غير المقترب إليها حتى بالفكر، صارت كلها في متناول حياتنا: «الذي صار لنا حكمة من الله وبرا وقداسة وفداء» (1كو30:1). نعم لقد أسس المسيح, بسر تجسده وصليبه، أسس الاتحاد المقدس.
الوحدة كعطاء ونعمة: وقد صور المسيح في سفر الرؤيا هذه الوحدة العملية التي يسعى إليها من نحونا هكذا: «هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب (باب الحب)، أدخل إليه, وأتعشى معه, وهو معى» (رؤ20:3). هو يتعشى من صحن هموم الإنسان وأوجاعه وأنينه, يتعشى متقاسماً معه لقمة الشقاء والتغرب. والإنسان يتعشى معه, بالنعمة, من صحن أفراحه وبهجة خلاصه، ويتناول من يده خبز حبه وختم استيطانه!!
إن وحدة الآب والمسيح تقوم على التساوي كلياً وفي كل شيء, فهي وحدة ذات وكرامة ومجد وكمال مطلق. فالوحدة بين المسيح والآب هي طبيعة جوهرية، أما الوحدة التي لنا في المسيح والآب فهي نعمة ورحمة، هي تفضل، هي هبة، هي مجرد إشعاع فعال لوحدة المسيح والآب، حتى لا تبقى الوحدة في الله بلا عمل فـ«نحن عمله» (أف10:2), ولكن يلاحظ أن المسيح لم يطلب الوحدة لتلاميذه، إلا بعد أن قدم شهادته للآب أنهم: «قد حفظوا كلامك» (يو6:17)» وأنهم أصبحوا : «ليسوا من العالم» (يو14:17)، فهي ليست بلا ثمن كلية.
المستوى الثالث للوحدة: «ليكونوا مكملين إلى واحد»: المسيح هنا يسمو بالوحدة التي يطبها لنا، أولا فيما بيننا، وثانيا فيما بيننا وبينه والآب, ثم أخيراً إلى تكميلها إلى الكمال.
والإنجيل يعبر عن «التكميل» بكلمة ( )، وهي لا تعني تكميل الناقص، بل تكميل الكمال، وتترجم بالإنجليزية: perfected. فالذين اتحدوا بالابن والآب، لم يعودوا ناقصين محتاجون إلى التكميل بل هم مهيأون لقبول الكمال. فالمسيح سبق ومنحهم خصائصه بقوله: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني... ليكونوا مكملين إلى واحد»، أي ليبلغوا «كمال» الوحدة. هذا الكمال عبر عنه بولس الرسول بقوله: « لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف19:3)، حيث يستخدم الكلمتين: «تمتلئوا»، و«الملء» وهي المرادف تماما لتكميل الكمال. كما عبر عنها القديس يوحنا بقوله: «مملوءاً نعمة وحقاً ... ومن ملئه نحن جميعا أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو14:1-16). وبولس الرسول يستخدم مرة أخرى كلمة «الملء» فيما يخصنا من ملء لاهوته، وذلك على مستوى الملء الذي له، ولكن على قدر ما تتسع له طبيعتنا العاجزة: «فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا, وأنتم مملوؤون فيه» (كو10:2). حيث لا يتحول الملء الإلهي الذي له إلينا، ولكن نصير باتحادنا به مملوئين فيه! وهذا أوضحه بولى الرسول أيضاً في قوله: بسبب هذا أحني ركبتى لدى أبي ربنا يسوع المسح, الذي منه تُسمى كل عشيرة (أبوة = fatherhood) في السموات وعلى الأرض، لكي يعطيكم, بحسب غنى مجده, أن تتأيدوا بالقوة، بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم, وأنتم متأصلون ومتأسسوذ في المحبة، حتى تستطعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله. والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي تعمل فينا» (أف14:3-20). ولكي ننبه ذهن القارىء إلى محور القوة في هذه الآيات نوجز الخلاصة كالآتي:
+ «يعطيكم... غنى مجده... بروحه... ليحل المسيح... في قلوبكم... تدركوا مع جميع القديسين (الكنيسة)... تمتلئوا إلى كل ملء الله... بحسب القوة التي تعمل فينا».
ومرة أخرى نختصر المعنى لتبرز القوة كالآتي:
«يعطيكم... مجده... المسيح فى قلوبكم... تدركوا... ملء الله... بحسب القوة التى تعمل فيكم»
وهذا هو روح كلمات المسيح يذكرها القديس يوحنا: «أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني... ليكونوا مكملين إلى واحد». واضح أن عطية المجد التي يعطيها الآب للمسيح لحسابنا، والتي سلمها لنا المسيح، تكون سر الملء لبلوغ كمال الوحدة في المسيح والآب.
ولكن ما هو المجد الذي أعطاه الآب للمسيح, فأعطاه المسيح لنا؟
قطعا ليس هو مجد الإلوهية الذي «للكلمة الله» المساوي للآب, فهذا المجد ليس مُعطى للابن، بل هو من خصائص لاهوته. ولكن المقصود هنا هو المجد الذي أُعطي للابن حال تجسده لحسابنا. فهو مجد فائق, وانما على مستوى إدراك الإنسان ليبلغ به الإنسان في النهاية كمال الشركة في المسيح والآب. فما هو هذا المجد المُعطى؟ والذي هو لنا وتحت حسابنا؟
توجد آيات بسيطة غاية البساطة تشير إلى هذا المجد مئل: «... لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد» (يو39:7)، أي لم يكن قد صُلب. فهل آلام الصليب هي المجد الذي أعطي للمسيح ليكمله لحسابنا؟ ثم قول المسيح ليلة العشاء الأخير، وهو يقسم جسده مصلوباً بالنية قبل أن يُصلب بأيدي الأثمة: «قال يسوع: الآن قد تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه. إن كان الله قد تمجد فيه، فإن الله سيمجده في ذاته, ويمجده سريعاً.» (يو31:13-32)
واضح أن المسيح يتكلم عن مجد الصليب، إذ ينعته زمنياً: «سريعاً» ، وأن بالصليب سيتمجد المسيح، وسيُمجد الله الآب . فإن الأنبياء سبقوا وتنبأوا بآلام المسيح والمجد المتأتي منها: «باحثين أي وقت، أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسبح والألمجاد التي بعدها.» (1بط11:1)
وقد حدث بالفعل، إذ قد «رُفع (المسيح) في المجد» (اتي16:3) من بين الأموات! «ودخل إلى مجده» (لو26:24)، و«جلس في يمين العظمة في الأعالى» (عب3:1)، مسبباً مجداً لله الآب من كل لسان وشعب وأمة في كل زمان ومكان وإلى أبد الآبدين، وهكذا صار الصليب بما يحتويه من جوهر الاستعلان: «متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8), وبما يؤدي إليه, مجداً، ومؤدياً إلى مجد، وممجداً الآب، وسبباً للمجد لكل من يحمل أو يتحمل عاره!!
وهذا المجد عينه، مجد الاستعلان لحقيقة الله الخلاصية، وما يؤدي إليه من احتمال الآلام, ببذل الذات حتى الموت، موت الصليب، شهادة للابن والآب؛ قد تحول بجملته لحساب الإنسان، لكل من يتألم من أجل اسم المسيح: «... أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر.» (لو28:22-30)
وبولس الرسول يقولها واضحة مختصرة: «إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه» (رو17:8). ثم يشرحها بوضع يفوق التساوي والتعادل بقوله: «فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا» (رو18:8). وبطرس الرسول يقول بنفس القول: «إن عُيرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لان روح المجد والله يحل عليكم» (ابط14:4)
هذا هو المجد الذي أعطاه الله الآب للابن حال تجسده، أي «آلام الصليب»، لكي يفتح به المسيح طريق المجد للإنسان، ثم يسلم هذا الصليب عينه لكل من أحبوه وآمنوا به. لكي يبغ الإنسان، بنفس الآلام التي كان قد وُضع تحتها بسبب خطيئته, بعد أن حولها له المسيح إلى آلام من أجل اسمه، طاعة لله وحباً للآب والمسيح، فصارت له سسب مجد, بعد أن كانت بسبب خطيته. وهكذا، ومن نفس عقوبة الإنسان الاولى, أصبح له المسيح إكليل مجد لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمعل، محفوظاً له في السموات! وهذا هو المجد، الذي إذ نتحصل عليه، نصير مؤهلين لشركة «الوحدة» وسرها.
وهكذا أيضاً، وبالتال، فكما فتتت الخطية الإنسان, بآلامها المتنوعة التي كانت على مستوى اللعنة، ومزقته تمزيقاً، وشوهت صورة الله فيه، استطاع المسيح أن يحول هذا التفتت، بهذه الآلام عينها، وبجسد الخطيئة نفسه وبلعنة الآلام عينها, يحوله إلى وحدة!!! إذ بجسده الممزق، جمع شمل البشرية الممزقة، ووحدها في نفسه وفي جسده وفي روحه!!! «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية, خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه» (2كو21:5)، «المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل من علق على خشبة.» (غل13:3)
هكذا صار الصليب هو المجد، وروح المجد، وإكليل المجد، الذي وُهب للانسان أن يتقلده، كمثل المسيح، كأعلى وسام للكمال يدخل به إلى شركة المجد والوحدة مع المسيح والآب. والآن، تصبح آية صلاة المسيح ساطعة بنور أخاذ: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ... ليكونوا مكملين إلى واحد»!
علاقة كمال الوحدة بتكميل الآلام: وهكذا لاق بنا أن نبلغ كمال الوحدة بجد الآلام، كما لاق به هو أن يبلغ الكمال بالآلام: «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب10:2)، «وإذ كمل، صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي» (عب9:5). هنا علاقة سرية وطيدة بين كمال المسيح الذي بلغه بالآلام، وبين أن نكمل نحن إلى واحد. فهنا شرح عملي لعلاقة الآلام وسموها بمجد الخلاص بالصليب. هذا الصليب الذي تأهل به «ابن الانسان»، بنوع ممتاز كابن الله، المستأمن على كل سر الله، ليصنع صلحاً وسلاماً أبدياً بين الخليقة وخالقها، وليكشف بواسطته عن سر وحدته مع الآب، هذا السر بكل عمقه وسره وسموه، سلمه المسيح لخواصه, لا ليتصالحوا فقط مع الله بدم صليبه بل ليتحدوا أيضاً به، ليصالحوا الآخرين بالله: «ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح, وأعطانا خدمة المصالحة. أي إن الله كان, في المسيح, مصالحاً العالم لنفسه, غير حاسب لهم خطاياهم, وواضعأ فينا كلمة المصالحة. إذا، نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا, نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله» (2كو18:5-20)، «من غفرتم خطاياه, تُغفر له» (يو23:20)
واضح هنا مبدأ التكميل بالآلام الذي بلغه المسيح، فبلغ به المجد، وأعلن به عن وحدته بالآب، وكيف سلمه لنا خلاصأ. فصرنا, بتكميل الآلام عينها من أجل اسمه، شركاء مجد ووحدة وعلاقة سرية معه ومع الآب، وسفراء لله فوق العادة.
نعم، فليس في كل ما يعمله الإنسان ما هو مثل الألام التي للشهادة، إذ لها قدرة أن توحد الإنسان في نفسه والآخرين والله، وتورث مجد الحياة الأبدية: «أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح, وشربك المجد العتيد أن يُعلن ...» (1بط5:1)
الوحدة المسيحية أعظم شهادة لرسالة المسيح في العالم, وأوثق برهان لمحبة الآب الخالصة
حينها يُستعلن المسيح فينا فنتوحد معاً فيه, وتوحدنا شركة آلامه, حينئذ تصير وحدتنا وتصير شركة آلامنا مصدراً دائماً ومستمراً، يدرك منه العالم صدق رسالة المسيح؛ كما ينبع من وحدتنا فيه ومن شركة آلامه, شهادة صادقة لمحبة الآب لنا، كما نبع من الصليب الشهادة لحب الآب للمسيح حينما استعلن مجد الله فيه.
إن أشد ما يتأثر به العالم ويقنعه برسالة المسيح المصلوب، هو استعلان سر الصليب في المسيحيين، وذلك حينما يتألمون من أجل اسمه، شاكرين، فرحين، متحدين، كقول بطرس الرسول: «إن عيًرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم» (ابط14:4)
هنا يبرز عاملان يسندان طلب المسيح للوحدة المسيحية: الأول أن يؤمن العالم برسالة المسيح, والثاني: إمكانية انسكاب محبة الله الأبوية في قلوب المؤمنين.
إذن، واضح، وللأسف الشديد، أن في غياب الوحدة المسيحية ضياع الفرصة من العالم لكي يؤمن برسالة المسيح، وضياع الأمل من الكنيسة لانسكاب محبة الآب؛ وإن كانت هناك نماذج قليلة وفردية لا تزال تبث رسالة المسيح في العالم بنموذج وحدتهاه حيث تشهد لها محبة الآب التي تلهب قلوب متقيها.
والوحدة المقدسة، أو الاتحاد المقدس في المسيح والآب، هي في اللاهوت المسيحي «هبة» جعلها المسيح في متناول سؤالنا وإلحاحنا وسعينا المقدس بالروح. وهي هبة سماوية، لا تتطلب إلا أن يخضع لها الموهوب بالشكر, ويثبت استحقاته لها بالطاعة الروحية الباذلة للجسد ومشيئته حتى الموت والمحبة الصادقة عديمة الغش، حتى يستعلن الله ذاته ووجوده بلا مانع في القلب. وإن الرب يسوع المسيح جعل هذا «الاتحاد المقدس» موضوع اهتمامه حتى آخر لحظة من حياته على الأرض، وختمه بدمه على الصليب، وفتح الباب للدخول فيه بإرساله الروح القدس الذي يقودنا نحوه بالصلاة.
والاتحاد المقدس بالمسيح والآب هبة, وهي التي سنكتسب بها الخلود, وقد مُنحت لنا بمقتضى صلاة المسيح، الذي عضدها بصليبه، وأحدرها لنا من علو سمائه بدمه. فهي فائقة حقاً، ومتعاظمة في المجد» بحسب علو مجد معطيها. ونحن ننظر إلى هذه الهبة ونرتعب, بسبب عدم لياقة خساسة طبيعتنا, ولكن عندما ننظر إلى علو سخائه في المجد وعظمة قدرة محبته الفائقة نحونا، ونتمعن في استحقاق الثمن المدفوع لعطائها، نقول: نعم نشكرك، أيها الآب، لأنك أعطيتنا هذا الاتحاد المقدس في المسيح، لنحيا معك، استجابة لدعاء ابنك الوحيد ودمه الذي به اشترانا من الأرض لك.
كلمتان تتصدران هذه الأية، لتعطيها ثقلاً روحياً؛ الكلمة الاولى: «أريدء». فالمسيح هنا لا يتوسل، بل يريد، لأنه إذ يختم توسلاته التي قدمها للآب من أجل الوحدة, وهو على الأرض, وذلك من منطلق ما قبل الصليب، بدأ يتكلم ويطب من منطق, مجد, ما بعد الصليب: «اريد»!!
المسيح هنا يكشف عن دالة البنوة عند الابن, الذي يكون قد أكمل مشيئة الآب، إنه يضع على الآب تكليفاً يتوازن مع التكليف الذي وضعه الآب عليه!!!
علماً بأننا لا نستطيع أن نفرق كثيراً بين أن يطلب المسيح, أو أن يطالب، أو بين أن يصلي, وأن يتوسل، وأن يريد، لأنه ضامن الاجابة: «وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي» (يو42:11). كما يعلم أن إرادته هي إرادة الآب، وإرادة الآب هي إرادته» فهو لا يملي إرادته على الآب, بل يعبر بإرادته عن إرادة الآب!! ولكن هي لغة الدالة حينما تبلغ أقصى وثوقها .
ونلاحظ أن المسيح استخدم سابقاً كلمة «أنا أسأل»، وهي أيضاً لغة الدالة التي لم يستخدمها أحد في مخاطبة الله إلا المسيح. ولكن هنا ينتقل إلى التعبير الأعلى والأكثر وثوقاً بوحنا فى الاستجابة: «أريد»، كمن يتكلم بسلطان؛ ليس سلطانه لدى الأب، ولكن بالسلطان الذي أعطاه إياه الأب: «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.» (يو2:17)
ويطيب لنا أن نقارن بين «أريد» هنا، فيما بعد الصليب بالنسبة لأحبائه، وبين «لا أريد» وهو تحت الصليب بالنسية لنفسه!! «يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس, ولكن ليكن، لا ما اريد أناء بل ما تريد أنت.» (مر36:14)
أما الكلمة الثانية: ذات الثقل العالي، فهي أن هؤلاء «يكونون معي» حيث أكون أنا! فهذا هو مجد الوحدة وإكليلها الفاخر.
لقد مبق وأعلن المسيح عن هذه الإرادة التي تلح في داخله من أجل أحبائه: «إن كان أحد يخدمني، فليتبعني، وحيث أكون أنا, هناك أيضاً يكون خادمي, وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب» (يو26:12). وواضح أنه إن كنا نتبعه هنا على درب الصليب, فسوف نتبعه هناك في دروب أمجاد العلا: «هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب, هؤلاء اُشتروا من بين الناس، باكورة لله وللخروف، وفي أفواههم لم يوجد غش، لأنهم بلا عيب قدام عرش الله.» (رؤ4:14-5)
ولقد عبر المسيح مرة عن هذه الإرادة المحببة إليه، أن يكون أحباؤه معه حيثما يكون، وذلك بتأكيد في صورة وعد: «وان مضيت وأعددت لكم مكاناً، آتي أيضاً وآخذكم إلي، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو3:14). ولقد أفصح المسيح مرة أيضاً لبطرس الرسول أنه (أي بطرس) سيتبعه من فوق ذات الصليب إلى هناك في ذات المجد: «حيث أذهب لا تقدر الأن أنذ تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيرأ.» (يو36:13)
ولكن ما لنا نبتعد كثيراً عن سر «هؤلاء الذين أعطيتني»؟ أليسوا هم هم العروس؟ الكنيسة المفدية، المغسولة، والمطهرة، التي بلا عيب ولا دنس، كيف لا تكون حيث يكون، وكيف لا تبقى من قرب، بل وأقرب المقربين، لترى مجده، بل تقاسمه إياه؟ ثم أليس هو الوعد الذي وعد ليوحنا، في رؤياه، كاخر ما يقوله الروح للكنائس السبع: «من يغلب، فساعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضاً، وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ21:3). وعجيب أن يطابق هذا الوعد، بحروفه، مع آخر كلمة قالها المسيح في كل تعاليمه التي جاءت في نهاية الأصحاح السادس مشر: «... ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم.» (يو33:16)
ولكن السؤال الذي يتحتم الاجابة عليه هو: ما الفرق بين المجد الذي سبق أن رآه التلاميذ في المسيح وهو معهم. «وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو14:1)، والمجد الذي عاد المسيح يطلب من الآب أن يراه هؤلاء التلاميذ وهم معه: «أريد أن هؤلاء ... يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي» (يو24:17)؟
القديس يوحنا في الآية 14:1 يتكلم عن المجد الذي استطاع أن يستوعبه من خلال حجاب الجسد, سواء جسد المسيح وهو في حالة الإخلاء، أو جسد التلاميذ الذي لا يستوعب إلا جزئياً، وكما من خلال مرأة، كما في لغز، ولا بيلخ إلا إلى «بعض المعرفة.» (1كو12:13)
ولكن المسيح هنا يتكلم عن رؤيا مجده، وهو في كامل استعلان لاهوته في السماء مع الآب، وهي رؤيا لا يحجز عنها الجسد شيئاً من جلالها, بل رؤيا الكل والكمال، التي عبر عنها القديس يوحنا أيضاً في رسالته هكذا: «لأننا سنراه كما هو.» (ايو2:3)
والذي نلحظه بوضوح أن حالة «يكونون معي حيث أكون أنا»، هي حالة أشد استعلاناً وعلانية من: «أنا فيكم وأنتم في» والتي تمثل الوحدة في مفهومها الحاض! لأن المسيح يكون فينا، ونكون فيه الآن «بالإيمان» فقط: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (آف17:3). والوحدة المتأتية من ذلك هي وحدة «سر» أو سرائرية غير منظورة: «من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت في وأنا فيه» (يو56:6). وهذه الوحدة بالحلول وبالسر يعوقها الجسد، ويحد من فاعليتها واستعلانها، وينقص من بهجتها، بسبب عجزه وقصوره ورغباته المعاكسة. لذلك حق للمسيح أن يطلب لنا ما فوق الحلول والسر، يطلب التواجد معه في حالة استعلان ورؤية كاملة، ترتقي إليها الروح، بعد أن تطرح عنها الفاسد وتلبس عدم الفساد.
ولكن المسيح كعادته أحجم عن ذكر ماذا سيراه المؤمنون هناك، فهو يسكت دائماً عن ذكر ما لا طاقة لنا بمعرفته: «إن كنت قد قلت لكم الأرضيات، ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات» (يو12:3)، أو كما حاول بولس الرسول أن يصفها: «ولا يسوغ لانسان أن يتكلم بها» (2كو4:12)» إذ أنها «لا تخطر على قلب بشر» (1كو9:2).
ولكن الذي نعرفه والذي نثق فيه بالروح، أننا سنستوعب من مجده الأسنى قدر ما تستطيع الروح أن تستوعب، في غيبة جسدنا المعتم هذا، وسنرى العلاقة الأزلية بين الآب والابن، وسينفذ فينا شعاع مجد لاهوته لينطبع علينا بهاء صورته ولن تُمحى منا إلى الأبد: «ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)، «متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
لأنه إن كان قد أعطي لنا الآن أن نكون «نحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح» (2كو18:3)؛ فماذا حينما لا تكون مرآة، بل يكون هو هو بملء لاهوته، وقد تخلى عن إخلائه، واسترد جلال جوهر مجده، والجسد فيه يتلألأ بضياء نور الآب، الذي ليس فيه ظلمة البتة. فإذا كانت صورته في المرآة تنطبع علينا لنتغير إليها من مجد إلى مجد، فماذا يكون حينما ندخل الأقداس العليا لنتراءى معه أمام أبيه لنستأمن سر الأزل، ونور الخلود، وحب الآب للابن، وشركة ميراث الوحيد المحبوب؟
ولكن يُستدل من قول المسيح، أنه «يريد» أن يكون المؤمنون به معه حيث يكون، أن الموت هنا في فكر المسيح غير محسوب البتة وكأنه لا يكون. فقد ألغى المسيح الموت بالنسبة للذين يؤمنون به، كما ألغى الحياة بصورتها المادية المتعارف عليها: «أنا هو القيامة والحياة. من أمن بي ولو مات فسيحيا.» (يو25:11)
«لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لانك أحببتني قبل إنشاء العالم»: المجد هنا ليس هو مجد «الكلمة» ولكنه مجد الكلمة المتجسد: «وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم, لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، و يعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب. (في8:2-11)
ومعلوم في اللاهوت المسيحي، أنه يمتنع أن يُقال عن «مجد» الابن قبل تجسده، أنه «مُعطى», بل هو مجد واحد للآب والابن سواء بسواء، فهو حقه الأزلي. أما المجد «المُعطى»، فهو المجد الذي اكتسبه المسيح بطاعته للأب بآلامه الطوعية حتى الصليب: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللا بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت, لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد» (عب9:2). وعلينا أن نمعن النظر في الرباط الوثيق بين غاية المسيح في التجسد وبين طلبته هذه: أن نكون شركاء مجده الذي حازه بالصليب؛ لأنه إن كانت غاية التجسد هي الصليب، وغاية الصليب هي أن يمنح لنا تطهيراً، فغاية التطهير الذي نلناه هو أن يؤهلنا لأن نرتفع إليه ونبقى معه حيث هو: «بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالى صائرا أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم» (عب3:1-4)؛ ثم لمن أعد هذا المكان: «في يمين العظمة في الأعالى» إلا لنا؟ «وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً، آتي أيضأ وآخذكم إلي. حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً.» (يو3:14)
هذا المجد هو مجد مصالحة الله مع الإنسان، أو هو عودة مجد الانسانأ المتصالح مع الله الذي استرده المسيح للبشرية، بالثمن الذي دفعه بالصليب غالياً، لذلك حق له ولنا أن يعطيه لنا كما أُعطى له: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتنى (يو22:17). هذا مجد المصالحة مع الله، الذي دخلنا فيه، فاتحدنا في ظل حب الله الذي انسكب علينا كبنين، بنفس حب الآب للمسيح كقوله: «وأحببتهم كما أحببتني.» (يو23:17)
حب الله الآب للابن أزلي هو, وليس مستحدثاً قط: «هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا» (مت5:17). وحب الله الآب للابن الوحيد لم يتغير بالتجسد، ولم يتناقص، بل امتدت مجالاته نحو العالم بالتجسد: «هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد, لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو16:3). لقد امتد مجال حب الله الأبوي لابنه الوحيد، فشمل كل الذين آمنوا به وقبلوه، إذ أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. لقد نلنا بالتبني عينة من حب الله الآزلي للابن: «لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم», و «أحببتهم كما أحببتني». المسيح هنا يستشهد بحب الآب له قبل إنشاء العالم، ليدعم طلبه أن تصير محبة الآب بالمثل وعلى مستوى الزمن والدهر لأخصائه الذين أحبوه، وامنوا به، وحملوا صليبه. فشركاء آلامه كيف لا يكونون شركاء مجده وحب الآب له؟
لقد حق للمسيح أن يطالب الآب, وليس يطلب فقط (أيها الآب أريد...)، أن نكون معه، نتأمل مجده الذي اكتسبه لحسابنا، ونحيا في مجال حب الله الأزلى له, لأنه اشترانا بدمه لحساب الآب وأدخلنا عهد التبني، وأكمل لنا المصالحة مع أبيه بجروحه النازفة, وشوك لعنة الأرض، الذي أدمى أقدام الإنسان، لبسه عوضاً عنا كإكليل فوق رأسه: «فكيف لا يهبنا أيضاً معه كل شي ء.» (رو32:8)
تعقيب بديع على بنود الصلاة كلها، يُبرز سببها، ويسند ضرورتها. وكأنه يريد أن يقول: «أيها الآب البار، أنا طلبت طلباتي هذه كلها على أساس يرك الفائق قبل كل شيء! ثم أنا طلبت، وأطلت طلباتي، وعمقتها، لا لشي إلا لأن العالم لم يعرفك بعد. والآن، وقد أرسلتني إلى العالم، وأنا وحدي الذي أعرفك، لذلك توسلت إليك من أجل الذين اجتذبتهم أنت إلّي من العالم. وهؤلاء عرفوا يقيناً أنك أنت الذي أرسلتني، لذلك أسألك من أجلهم، وأنت أصلاً المتكفل بهم، لأنهم لك وقد أعطيتهم إلي».
«أيها الآب البار»: هي المقابل المساوي لقول المسيح في آية سابقة: «أيها الآب القدوس» (يو11:17) ولكل صفة يذكرها المسيح للآب يلحقها بما يناسبها من الطلب: «أيها الآب القدوس, احفظهم في اسمك (القدوس)... ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. قدسهم في حقك» (يو11:17-17). المقارنة هنا قائمة بين العالم والتلاميذ، والطلب أن يحفظهم من العالم الشرير بأن يقدسهم في الحق الإلهي.
أما في هذه الآية: «أيها الآب البار, إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك, وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني»:
«الآب البار»: « البار» هنا صفة تشل العدل والرحمة معاً، وقد تُترجم بالعادل فقط، كما أوردها القديس يوحنا: «إن اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا» (ايو9:1)، وهكذا وضع صفة العادل في الله على مستوى غفران الخطية في الإنسان، وهذا أعلى مستوى لمفهوم العدل الرحيم أو «البر» الذي يفوق تصور الإنسان.
وهكذا يستعلن لنا المسيح صفة العدل «البار» في الأبوة، ليعبر بها عن الحب المتفجر من قلب الآب، الذي يتجاوز حدود العالم الضيق في ذاته.
المقارنة هنا أيضاً بين العالم الذي لم يعرف الآب، والتلاميذ الذين عرفوه, عبر المسيح, ولكن هنا لا يطلب المسيح شيئاً، ولكن يقرر حقيقة واقعة، أن هؤلاء إذ قبلوا الإيمان بإرسالية الآب للمسيح, وعرفوا «اسم» الآب، حق لهم كبنين عند بر الآب, أن يكون فيهم حب الآب للابن! ذلك من واقع بر الله الآب, إذ ليس من المعقول أن يكون نصيبهم كنصيب العالم الذي لم يعرفه.
وكأننا، مرة أخرى، أمام إبراهيم وهو يحاجج الله: «حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر، أن تُميت البار مع الأثيم, فيكون البار كالأثيم، حاشا لك. أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً.» (تك25:18)
«إن العالم لم يعرفك, أما أنا فعرفتك, وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني»: المعرفة هنا تقع في ثلاثة أوضاع: العالم «لم يعرفك», أنا «عرفتك», هؤلاء «عرفوا أنك أنت أرسلتني». أما معرفة العالم, فهي الجحود والإنكار، أما معرفة المسيح فهي «الاستعلان». وأما معرفة المسيح, والذين أمنوا بإرسالية المسيح، فهي هي الحياة الأبدية التي اُستعلنت:«هذه هي الحياة الأبدية، أن يعر فوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو3:17)
ومرة أخرى نكرر: إن «معرفة الله»، في المفهوم الروحي الاختباري، هي شركة، لأن الحق الإلهي لا يُستعلن إلا لمن استحق أن يقبله.
واضح هنا أن المسيح يدين العالم، في ختام صلاته، وفي قرارة قلب المسيح مرارة، لأن عدم معرفة العالم للمسيح والآب تأتي بلا سبب: «أبغضوني أنا وأبي... أبغضونى بلا سبب» (يو24:15-25). وبولس الرسول أكد هذا مراراً: «لأنه إذ كان العالم في حكمة الله، لم يعرف الله بالحكمة» (1كو21:1)، «حتى إنهم بلا عذر، لأنهم لما عرفوا الله، لم يمجدوه أو شكروه كإله.» (رو20:1-21)
ولكن يعود المسيح ليطيب قلب الآب: «أما أنا فعرفتك». والمسيح هنا يتكلم بفم الإنسان الجديد، بفم الكنيسة التي اشتراها من بين كل شعوب الأرض طرا والتي لقنها «علم معرفته».
التعريف باسم الله جاء هنا على مستوى استعلان الله الله في ذاته, اي استعلان ابوته القائمة في الابن الذي أرسله, وهو هو استعلان الحق ذاته. والحق ليس إلا الله في ذاته، وكل ما عداه هو حق فقط، بمقدار خضوعه وانسجامه مع الله. واسم الله ، معرفته هي هي الحياة الأبدية.
أن يعرف المسيح الناس «باسم الله الآب» هو أن يعرفهم بالحق الإلهي، لينفضوا عنهم كل ما هو مزيف وزائل ومنته بالموت. فإن كان اسم الله هو الحق الأليثيا، نكل ما عداه هو التزييف. والمسيحيون المؤمنون حقاً، يدعوهم القديس يوحنا في رسالته الثانية: «الذين قد عرفوا الحق.» (2يو1:1)
وأن يُعرف المسيح الناس باسم الله الآب, فلا يكون هذا من على بعد، ولا كأنه على مستوى الفكر؛ بل يعني أنه استودع الاسم قلوبهم، ليعيشوا ويخلصوا به؛ ليستنيروا بنوره، لا كمعرفة بعد، بل كقوة حياة لا تزول.
والتعريف باسم الله الآب، ليس عملاً يمكن أن يُكمل أو يمكن أن ينتهي، بل هو عمل الابن منذ أن تجسد وإلى أبد الآبدين، عمل يغطى الزمن، ويمتد في الأبدية. فالله مُدرك كامل، يُدرك، ولكن لا يُدرك كماله. لذلك أردف المسيح القول: «عرفتهم اسمك» بقوله: «وسأعرفهم». فهو عمل المسيح حتى وإلى ما بعد الصليب. لقد وعد بذلك، حينما وعد بإرسال الروح القدس: «فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو13:16). ولكن معرفة الله في المستقبل، تقوم فقط وتمتد عل أساس المعرفة في الحاضر الزمني، فالذي أسقط من حسابه التعرف على اسم الله الآب هنا بسبب مشقة الصليب، ظالم هو، إذ ظن أنه يعوض ما فاته هناك! ولكن معرفة اسم الله الآب في الحاضر مهما كانت شاقة، ويكتنفها الآلام، فهي تبدو جليلة وعظيمة القدر، حينما تكمل وتمتد هناك.
فإذا سكن اسم الآب في قلوب متقيه عن وعي, فقد سكن الحب الأبوي حتماً وبضمان سكنى المسيح: «وأكون أنا فيهم». لكن حب الآب، يستحيل أن نذوقه في غيبة الابن المحبوب. لذلك صح القول: «ومن ملئه نحن جيعاً أخذنا» (يو16:1)، والمسيح يوجه نظرنا إلى أصل ومنبع حب الآب هكذا: «لأن الآب نفسه يحبكم، لأنكم أحببتموني» (يو27:16). هذا الحب الأبدي الذي يتفجر من قلب الآب، كالنور الذي يتفجر من قلب الشمس، استطاع المسيح، بالروح القدس، أن يحوله في أمواجه الجارفة نحو قلوبنا. ولكي يضمن سخاء انسكابه, أمن على ذلك بوجوده الدائم: «وأنا فيهم».
لهذا كان شغل المسيحي الشاغل، أذ يحوز على حلول المسيح في القلب: «لكي يعطيكم، بحسب غنى مجده, أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسح بالإيمان في قلوبكم, وأنتم متأصلون، ومتأسسون في المحبة.» (أف16:3-18)
هذه الأصحاحات تشمل:
التسليم- المحاكمة أمام الهيئات الدينية، المحاكمة أمام الدولة الرومانية- النهاية- القيامة (الحياة الجديدة)- صور مستيكية لمستقبل الكنيسة الرسولية
خصائص الأصحاحين الثامن عشر والتاسع عشر
+ يرتفع فيهما القديس يوحنا فوق السرد التاريخي لحوادث الآلام والصلب ليجذب انتباه القارىء إلى ما تحمله الحوادث من معان هامة.
+ فالآلام والموت، وحتى القيامة، تحمل أقصى الاستعلان عن شخصية المسيح.
+ كل حديث وكل قول جاء معه، يحمل في أعماقه صفة الآية التي تشير إلى مضمون يتفوق كثيراً عن مجرد السرد التاريخي الذي جاء به هذا الحدث وهذا القول.
+ ليس من الصواب أن نعتبر ما أضافه القديس يوحنا في رواية الآلام والصلب أنه تكميل لما جاء في الثلاثة الأناجيل، بل الصواب هو أن هذه الإضافات تنطلق من قاعدة شاهد عيان كان على قرب وثيق مع المسيح في كل تحركاته، إذ لازمه ولم يتخلى عنه لحظة واحدة، مما أهله أن يصف، عن ملء الرؤيا والمعرفة الباشرة, الأمر الذي لم يتسنى لبقية التلاميذ.
القديس يوحنا, في سرده لحوادث الآلام والصلب, اكتفى, كباقي رواية الإنجيل, بمواقف اختارها خصيصا دون بقية الحوادث والآيات، ليتخذ منها أساساً يبني عليه القصد الكلي والنهائي من الانجيل, وهو استعلان شخص المسيح باعتباره ابن الله، الأمر الذي اعتبره دستوراً للايمان المسيحي والحياة الأبدية، واعتبرته الكنيسة من بعده كذلك.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن نستخلص من رواية القديس يوحنا عناصر استعلانية واضحة تكشف عن لاهوت المسيح، وهو يجوز آلامه.
أولاً: المسيح جاز الآلام عن مشيئة وإرادة طوعية:
4:18 فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟».
8:18 أَجَابَ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ».
11:18 فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: «اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ. الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟».
36:18 أَجَابَ يَسُوعُ: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا».
28:19 بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ».
30:19 فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: «قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.
ثانياً: الحوادث تنطق أن المسيح كان يكمل بآلامه خطة إلهية مرسومة مسبقاً.
8:18-9 فَسَأَلَهُمْ أَيْضاً: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» فَقَالُوا: «يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ». أَجَابَ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ».
11:18 فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: «اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ. الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟».
11:19 أَجَابَ يَسُوعُ: « لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ».
24:19 فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ نَشُقُّهُ بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ». لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». هَذَا فَعَلَهُ الْعَسْكَرُ
28:19 بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ».
ثالثاً: سمات التفوق الإهي من داخل ذلة القبض, وعصة الآلام, وعار الصليب:
6:18 فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ.
20:18-21 أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ علاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا».
37:18 فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي».
36:19-37 لأَنَّ هَذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ». وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ».
أما العناصر الجديدة التي ساهم بها إنجيل يوحنا في خزانة الإنجيل, فنحن نلخصها في الآتي:
1- كلمات القوة والسلطان لحظة القبض عليه: (4:18-9).
2- الفحص والمحاكمة أمام حنان رئيس الكهن: (13:18-24).
3- الاجتماع الأول بين اليهود وبيلاطس، الذي أعقبه إجراء سري لاستجواب بيلاطس: (28:18-37, 9:19-11)
4- الاستهزاء الأول بالمسيح وهو مقبوض عليه. وخروج بيلاطس بجملته المشهورة: «هوذا الإنسان»: (2:19-5).
5- إصرار بيلاطس على كتابة ما كتب بخصوص ملك اليهود: (21:19-22).
6- تسليم المسيح والدته القديسة مريم العذراء للتلميذ الذي يحبه: (25:19-27).
7- الجملة الأخيرة: «أنا عطشان«، و«قد أكمل.» (28:19-30).
8- طعن جنب المسيح بالحربة، وخروج دم وماء: (31:19-37).
9- عودة نيقوديموس علناً, وقيامه بواجب الأمانة التي أخفاها طويلاً في الظلام: (39:19).
وقد برزت في رواية القديس يوحنا إضافات، استطراداً للشرح الضمني، هي ذات وزن تاريخي للرواية، وعلى غاية من الأهمية، وتوضح أن الذي يقولها شاهد عيان وخبير بأمور الرب:
1- «قال يسوع هذا (صلاة يو17)، «وخرج» مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان ...» (1:18)
2- «وكان يهوذا مسلمه يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميذه.» 2:18)
3- «ثم إن سمعان بطرس كان معه سيف, فاستله وضرب عبد رئيس الكهة، فقطع أذنه اليمنى. وكان اسم العبد ملخس (10:18)
4- «فقال يسوع لبطرس: اجعل سيفك في الغمد، الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟» (11:18)
5- «ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا عل يسوع، وأوثقوه» (12:18)
6- «ومضوا به إلى حنان أولاً، لأنه كان حما قيافا، الذي كان رئيساً للكهنة في تلك السنة.» (13:18)
7- «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفاً عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة.» (15:18)
8- «واما بطرس فكان واقفاً عند الباب خارجاً. فخرج التلميذ الأخر الذي كان معروفاً عند رئيس الكهنة، وكلم البوابة، فأدخل بطرس.» (16:18)
9- «قال واحد من عبيد رئيس الكهة، وهو نسيب الذي قطع بطرس أذنه: أما رأيتك أنا معه في البستان؟» (26:18)
10- «ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان صبح. ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية، لكي لا يتنجسوا، فيأكلون الفصح.» (28:18)
11- «وكان استعداد الفصح، ونحو الساعة السادسة، فقال لليهود: هوذا ملككم.» (14:19)
12- «فخرج وهو حامل صليبه, إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة، ويقال له بالعبرانية جلجثة.» (17:19)
13- «وكتب بيلاطس عنواناً، ووضعه على الصليب، وكان مكتوباً: يسوع الناصري ملك اليهود.» (19:19)
14- «ثم إن العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكل عسكري قسماً. وأخذوا القميص أيضاً، وكان القميص بغير خياطة، منسوجاً كله من فوق.» (23:19)
«وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستان، وفي البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط.» (41:19)
«خَرَجَ»: لأول وهلة, تفيد هذه الكلمة أن الرب خرج من العلية التي كانوا مجتمعين فيها، ولكن في موضع آخر، وفي نهاية الأصحاح الرابع عشر، بعد الحديث على العشاء، نسمع الرب يقول: «قوموا ننطلق من ههنا» (يو31:14)، كإفادة للخروج من العلية. لذلك يعلق بعض الشراح على الخروج هنا أنه كان من أحد الأروقة في الهيكل التي عرج عليها الرب في طريقه إلى جثيماني في جبل الزيتون.
ويرجح ذلك، العالم وستكوت، بسبب قول الإنجيل أنه خرج إلى عبر وادي قدرون، وهو الوادي الذي يفصل الهيكل عن جبل الزيتون، بمعنى أن الرب اجتاز الأرض من الغرب, ناحية الهيكل, إلى الشرق. وهذا لا يتأتى، إلا إذا كان خارجاً من الهيكل، وغالباً من باب دمشق، وهو المرسوم عليه الكرمة الذهبية بأفرعها الممتدة. ولكن الذي يزيدنا شعوراً بصدق هذا الاحتمال، هو الإحساس الشديد الذي يخلفه المسيح في صلاته التي قدمها إلى الآب بالحضرة الإلهية المهيبة التي يصورها الهيكل: «بيتي بيت الصلاة يدعى» (مت13:21). خاصة وهو يرفع بصره بعيداً، نحو الكنيسة الجديدة الأزلية، حيث السجود للأب سيكون بالروح والحق!
«قدرون»: هو نهر يجف صيفاً، فيترك قاعه جافاً كالوادى، ليمر فوقه المارة.
ولكن يبدو أن القديس يوحنا اعتنى أن يقدم لنا هذا الوصف التفصيلي للرحلة الحزينة للمسيح، وهو خارج من المدينة صوب جبل الزيتون، مُطارداً من التلميذ الخائن والشعب الأحمق، ليعطينا نفس الصورة النبوية لداود «ملك إسرائيل»، وهو خارج باكياً حافي القدمين، هارباً مم وجه «أبنه» أبشالوم الطامع في ملك أبيه، متسلحاً بمشورة أخيتوفل، وبجيش من الشعب الأحمق الذي أغواه ضد أبيه:
+ «وكانت جميع الأرض تبكي بصوت عظم، وجميع الشعب يعبرون، وعبر الملك في وادي قدرون, وعبر جميع الشعب نحو طريق البرية.» (2صم23:15)
+ «وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون، كان يصعد باكياً، ورأسه مغطى، ويمشي حافياً، وجميع الشعب الذين معه غطوا كل واحد رأسه، وكانوا يصعدون وهم يبكون.» (2صم30:15)
أما أبشالوم الابن الجاهل، فأصابه سهم في ظهره وعُلق عل شجرة ميتاً. وأما أخيتوفل، صاحب المشورة، فذهب وخنق نفسه (2صم23:17)!!
«... حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه»: هذا هو بستان «جثسيمانى»، الاسم الذي أطلقه كل من القديس متى والقديس مرقس. ويحكي لنا المؤرخ يوسيفوس اليهودي، أن مثل هذه البساتين الصغيرة كانت منتشرة عل جبل الزيتون، وكانت تدعى بالبراديسوى, أي «الجنات»
وكلمة «جثسيماني» من مقطعين «جاث _ شماي» وتعني «معصرة الزيت»:
+ «من ذا الآتي من أدوم بثياب حمر من بصرة، هذا البهي بملابسه، المتعظم بكثرة قوته؟ أنا المكتم بالبر، العظيم للخلاص. ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة؟ قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي، ووطئتهم بغيظي، فرش عصيرهم على ثيابي، فلطخت كل ملابسي. لأن يوم النقمة في قلبي، وسنة مفديي قد أتت.» (إش1:63-4)
كثير من الشراح والقديسين الأوائل تغنوا ببستان جثسيماني كبستان، أو بالتعبير الإنجيلي الصحيح جنة، وبتعبيرنا «جنينة» أي تصغير «جنة» ، وذلك في مقابل جنة عدن، فكما فقد الإنسان الأول فيها هويته، إذ طغى عليه الشيطان وأغواه وأحدره إلى الأرض عرياناً, مفضوحاً، ميتاً بجهله؛ جاء ابن الإنسان ودخلها مصلياً، وانتقم للانسان، بأن أسقط الشيطان من السماء كالبرة المنطفىء، وأحدره إلى الهاوية، مكبلاً بقيود الظلام، وأعاد آدم إلى رتبته الأولى حياً، غالباً الموت، لميراث نعيم الحياة الأبدي .
وربما يكون القديس يوحنا قد وضع موضوع المقابلة في أمر جنة عدن والبستان = الجنة ضمن اعتباره، إذ يكرر مرة أخرى أن موت الرب وقيامه كانا في بستان (جنة) أيضاً: «وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستان, وفي البستان قبر جديد لم يدفن فيه أحد قط» (يو41:19). بل وأمعن في أمر البستان، أذ مريم توهمت أن المسيح القائم من الموت أنه هو «البستاني»: «فظنت تلك أنه البستاني، فقالت له: يا سيد إن كنت أنت قد حملته، فقل لى أين وضعته وأنا آخذه» (يو15:20). ولم تعلم مريم أنه «البستاني» الحقيقي، الذي فلح لنا الفردوس الجديد، عوض آدم الذي أفقدنا الفردوس الأول.
«دخله هو وتلاميذه»: واضح أن البستان له أسوار وباب. لقد كان مكاناً مختاراً للرب والتلاميذ لقضاء أوقات وأيام للراحة والصلاة والتأمل. هنا يذكر الإنجيل التلاميذ بكامل عددهم: «تلاميذه»، بعد أن أسقط يهوذا، فتلاميذ المسيح لا يجمعهم عدد، بل يجمعهم الحب والإيمان اللذين فقدها يهوذا، ففقد نفسه, ولم يفقد التلاميذ شيئاً بفقده.
لم يذكر القديس يوحنا شيئاً عن معاناة الرب في الصلاة التي اشتهرت بها جثسيماني، ولكن لم يغفل القديس يوحنا مرارة الروح التي صلى بها المسيح في جثسيماني، وعمق المعاناة التي جازها، وصرخة الجزع التي خرجت لتعبر عن ثقل التجرية؛ ولكنه ذكرها مسبقاً عبر أحاديث هادفة، ولم يشأ أن يركز عليها تركيزاً كباقي الإنجيليين. لقد ذكرها في موضوع تعليمي يليق بموت الذات الإرادي في موضوع موت حبة الحنطة، وضمها إلى ساعة الصليب، ليفهمها القارىء اللبيب:
+ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ. اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً». فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ. اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ.»
نعم، هكذا استوفى القديس يوحنا كل تعبيرات جثسيماني وكل أنينها وتنهداتها، بل وكل رعدتها وجزعها، ولكنه صبها صباً في قالب تعليمي. اسمع كيف يسرد القديس يوحنا قول المسيح, في جثسيماني, عن موضوع «شرب الكأس», مخاطبا بطرس, وكل بطرس, الذي جزع من شربها، مع أنه شربها في النهاية: «اجعل سيفك في الغمد، الكأس التي أعطاني الآب, ألا أشربها» (يو11:18)
واضح أن القديس يوحنا ثبت نظره على الصليب كمجد، والآلام كطريق للمجد، والموت كانتصار. هكذا اختزل القديس يوحنا محنة جثسيماني في جملة واحدة: «الكأس التي أعطاني الآب، ألا أشربها؟» (يو11:18)
القول فيه دفاع عن كون المسيح لم يخرج من المدينة ويذهب إلى ظلال شجر جبل الزيتون هروبا من يهوذا والمطاردين، فالقديس يوحنا يؤكد أنه المكان المختار الذي كان يلجأ إليه المسيح كثيراً . والمسيح، كيوحنا، يعلم أن يهوذا يعرف الموضح جيداً، فكأنه ذهب إلى هناك لا هروبا من التسليم بل تسهيلاً للخائن أن يكمل مشورته: «ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة» !!! فوقت الاختباء قد ولى، والآن هي ساعة العلانية.
ويبدو أن بستان جثسيماني كان يمتلكه سرا أحد تلاميذ الرب، تماما كالعلية التي تم الاجتماع فيها، فالقديس متى يلمح على ذلك: «اذهبوا إلى المدينة إلى فلان (سر), وقولوا له: المعلم يقول: إن وقتي قريب, عندك أصنع الفصح مع تلاميذي.» (مت18:26)
وفي رواية القديس مرقس لحوادث جثسيماني، يذكر عرضاً أمراً عجيباً يلفة السر من كل جانب، إذ يذكر بالحرف الواحد أنهم وهم داخل البستان، أقبل عليهم يهوذا ومعه جمع كثير، ويردف ويقول: «فأجاب يسوع وقال لهم: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني، ولكن لكي تكمل الكتب. فتركه الجميع, وهربوا. وتبعه شاب لابساً إزارا على عريه, فأمسكه الشبان, فترك الإزار وهرب منهم عرياناً» (مر48:14-52)
والمعتقد أن هذا الشاب لم يكن إلآ صاحب البستان «جثسيماني»، حيث كان فيه يؤانس ضيوفه ويرحب بهم، ثم ذهب لينعس بإزار خفيف على عريه. ثم هب من نومه على ضجة العسكر، وأراد أن يتبع المعلم، وأخيراً هرب بجلده، وساعده عريه على ذلك. ولم يكن هذا الشاب أيضاً حسب التقليد إلا مرقس الرسول، صاحب العلية أيضاً, وهو الوحيد الذي كتب قصة عريه وهربه، كما أنه هو الوحيد الذي ذكر اسم البستان «جثسيماني»، وقد أخذ عنه القديس متى وحده هذا الاسم!
«لأن يسوع اجتمع هناك كثيراً مع تلاميذه»: «اجتمع»: واضح من اللفظة اليونانية أن البستان كان مخصصا لاجتماع الرب مع تلاميذه، بمعنى اجتماع للصلاة والتعليم والقيادة الروحية أكثر منه مكان راحة واستجمام: «خرج إلى الجبل ليصلي، وقضى الليل كله في الصلاة» (لو12:6)», «وكان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل، الذي يدعى جبل الزيتون» (لو37:21). وربما إذ كان التلاميذ قد تعودوا النوم هناك, أنهم بمجرد أن تركهم المسيح ليصلي فإنهم ناموا جميعاً! بل وربما على هذا الأساس، اعتقد يهوذا أنه سيداهم الرب والتلاميذ وهم نيام، كما اعتادوا في الأيام السابقة.
كذلك واضح من الآية: «اجتمع هناك كثيراً» ، أن تواجد المسيح في أورشليم لم يقتصر على موسم الفصح هذه المرة فقط، فإنجيل يوحنا يذكر زيارات المسيح لأورشليم لثلاثة أعياد فصح خلت, مع الأعياد الأخرى الرسمية، وهو في هذه المرة لم يغادر أورشليم منذ عيد المظال وحتى هذا الفصح الأخير.