وأخيراً، انضمت قوات الظلمة معاً على ثلاث درجاتها: تلميذ من الخاصة الاثني عشر المختارين؛ ورؤساء كهنة وفريسيون, حكماء صهيون, مختفين وراء خدامهم؛ ثم سفارة عن هيئة هذا العالم، والكل بقيادة الشيطان: فبالنسبة للتلميذ، قال المسيح بخصوصه: «فغمس اللقمة، وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي. فبعد اللقمة، دخله الشيطان, فقال له يسوع: ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة.» (يو26:13-27)
وبالنسبة لرؤساء الكهنة والفريسين، حكماء إسرائيل، فقد خصهم المسيح بالقول: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء.» (يو44:8)
أما عن هيئة هذا العالم، فقد سخرها رؤساء الكهنة لخدمة أغراضهم وهم أبرياء. هؤلاء خرجوا بمشاعل يفتشون عن النور الحقيقي الذي ينير كل العالم مسلحين، يتسترون بالسلاح خلف رعبتهم. وعند أول مواجهة سقطوا على الأرض، وسيوفهم في أيديهم.
ومن الآية (12) القادمة، التي يذكر فيها القديس يوحنا: «الجند والقائد وخدام اليهود» (يو12:18)، يتضح من اللغة اليونانية نوع وعدد العساكر ورتبة القائد:
«الجند»: ومقابلها باللاتينية ( )، وتعني الاورطة، وتعدادها حوالى 200 جندي. وهي ثلث الفرقة المكلفة أصلاً بحراسة الهيكل ، ومقرها قلعة أنطونيا شمال شرقي الهيكل.
«والقائد»، وهو كما يتضح من اليونانية رئيس ألف، وهى رتبة كبيرة.
أما كلمة «خداماً» من عد رئيس الكهنة التي جاءت في الأية (12) تحت «خدام اليهود» فهي في اللغة اليونانية ( )، وترجمتها «ضباطاً». وهؤلاء بعضهم ضباط رومانيون مكلفون بخدمة حراسة الهيكل، ولكنهم كانوا يأتمرون بأمر أعضاء السنهدريم لحفظ الأمن، بالنسبة لخدمة الهيكل، خاصة في أيام الأعياد.
ومن هذه المجموعة المشكلة من كافة اختصاصات القوات الرومانية واليهودية، يتضح مقدار الرعبة التي ملأت قلوب رؤساء الكهنة والفريسين والسنهدريم من جهة خطورة القبض على المسيح، لا خوفاً من هياج الشعب، كما يدعون، بل بسبب الرعبة من شخص الرب.
وقد اعتنى القديس يوحنا في تعداد أنواعها ودرجاتها وعددها ضمناً ليعطي صورة حقيقية لمشهد القبض المخيف والمرعب.
كذلك من قول المسيح في إنجيل القديس متى: «أتظن أني لا أستطيع الأن أن أطلب إلى أبي، فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة، فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون» (مت53:26-54)، نستشف أن المسيح كان يهدىء من روع بطرس، الذي ارتاع من كثرة الجند، وخرج من هدوئه وبدأ يضرب بالسيف.
وهذا كله لا يمكن أن يجري بهذه الضخامة والسهولة, بدون ترتيب مسبق مع الحكومة الرومانية. واذا لاحظنا مجريات الحوادث بدقة، نجد أن دورة الفحص لقضية المسيح انتهت عند قيافا بعد منتصف الليل، ثم في الحال رحلوا المسيح إلى دار الولاية، أي مقر الحكومة الرومانية.
ويقول القديس يوحنا: «ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية وكان صبح» (يو28:18). كلمة «صبح» هنا، ترجمة غير معبرة تماما، فهي باليوناية تعني «مبكراً جداً». وتكميل الكلام: «فخرج بيلاطس إليهم... » (يو29:18)
هذا الاهتمام من جانب بيلاطس وخروجه باكراً جداً، حوالى الساعة الخامسة صباحاً لمقابلة المشتكين، وقبوله فحص القضية في الحال أمر يسير الدهشة، ويخفي وراءه سعاية ضخمة من رؤساء الكهنة إذ لم تكن مؤامرة مدبرة مع بيلاطس نفسه. إلى هذا الحد بلغ تدبير رؤساء الكهنة، أو بلغة العصر «التكتيك»، الذي يحوطه الشك في ذمة هؤلاء وهؤلاء!
ومن جهة أخرى لا تخلو من الأهمية، فهناك ما جاء في إنجيل القديس متى من جهة بيلاطس: «واذ كان جالساً على كرسي الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله» (مت19:27). ولكنه ضرب بتحذير امرأته عرض الحائط. ويعلق القديس متى على ذلك بقوله: «ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع» (مت20:27). يتضح من هذا ثقل الضغط الذي مارسه رؤساء الكهنة بوسائلهم على الحاكم الروماني المهزوز.
لم يتركهم المسيح ليقتحموا أسوار البستان، بل خرج إليهم. لقد شعر السيح بضرورة الملاقاة لاهوتيا، إذ لم يكن ممكناً أن يعطي للشر فرصة لمباغتة ابن الله. والعكس في اللاهوت صحيح، إذ أن عمل الله في الأساس، هو أن يباغت الشرير في عقر داره: لذا خرج للمباغتة، وهو عالم بكل ما سيأتي عليه, لأنه أراده, بل لأنه نزل من السماء ليلاقيه!
كانت رؤية المسيح سباقة لاكتشاف مجيئهم واقترابهم قبل أن يكتشفوا هم وجوده. «هوذا ابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب (للملاقاة)، هوذا الذي يسلمني قد اقترب» (مر41:14-42). لقد تمت المقابلة داخل البستان، لأنه يبدو أن المسيح فتح لهم الباب، بدليل أن نسيب «ملخس» الذي قطع بطرس أذنه اليمنى قال لبطرس متعرفاً عليه: «أما رأيتك أنا معه فى البستان» (يو11:19)
«عالم بكل ما يأتي عليه»: هذا اصطلاح فريد، يوضح أن الآلام أتت عليه من فوق، ولم تقتحم إرادته، كان يعلمها مسبقاً، بل أعد نفسه لها منذ ما قبل التجسد. لم يسقها عليه أحد مهما كان: «لم يكن لك علىّ سلطان البتة، لو لم تكن قد أعطيت من فوق.» (يو11:19)
«وقال لهم: من تطلبون»: مبادرة، بل مباغتة غير متوقعة, لم يكن يخطر لهم على بال أن الرب نفسه سيلاقيهم. لقد ظنوا, على أقصى تقدير, أنه أحد التلاميذ، لم يتعرفوا عليه على أضواء مشاعلهم الخافتة, ولم يسعفهم ضوء القمر وهو في اكتمال استدارته، فالليلة ليلة الرابع عشر من نيسان. لقد أدرك المسيح عجزهم عن التعرف عليه، فتقدم بسؤال من هو مشفق على جهلهم، وقد أعد لهم المفاجأة, إذ نوى أن يعلن لهم عن «شخصه», لا عن اسمه فحسب!
اللقب فيه استهزاء، فهو الذي يدور على السنة غير المؤمنين به، لأنه فرق أن يُقال: «يسوع الناصرى»، وأن يقال «يسوع الذي من الناصرة», كما جاء في التعريف الإنجيلي به (يو45:1).
«أنا هو»: بحسب الفهم البسيط، فإن المسيح هنا يعلن عن نفسه باعتباره أنه هو الذي يطلبونه، يسوع الناصري. ولكن كان مصاحباً لهذا النطق، استعلان فائق لشخصه، أراده المسيح إرادة، لكي يستخدمه كمساومة لفك الطوق عن التلاميذ الحاضرين!
أما يهوذا، فوقف مشدوهاً، والقبلة ميتة على فمه، فقد ألغى المسيح تديره، وأفقده قيمة المبادرة التي قام بها، إذ أعلن المسيح عن نفسه, بل عن شخصه الإلهي.
واضح هنا أيما وضوح، أن المسيح رفح الحجاب عن شخصه، فظهر بمجده إلى لحظة، فكان ذلك أشد مباغتة، تدافعوا على الأثر إلى الوراء: القائد والجند وفرقة الحرس، وسقطوا على الأرض، وسيوفهم وعصيهم ومصابيحهم ومشاعلهم بأيديهم أمام المسيح، وهو واقف بقامته في جلال مهيب. كان هذا هو صورة مصغرة لقول الكتاب: «عندما يأتي العدو كنهر، فنفخة الرب تدفعه» (إش19:59). وكانت هذه من المرات القليلة جداً التي استخدم المسيح فيها سلطانه، وهدفه الوحيد في ذلك لا أن ينجو من أيديهم بل أن ينجي تلاميذه، في سبيل أن يتمم لهم مسعاهم، ويسلم نفسه لهم بحرية إرادته: «فلما رأيته، سقطت عند رجليه كميت, فرفع يده اليمنى علي قائلاً لي: لا تخف، أنا هو الأول والآخر.» (رؤ17:1)
الآن علم القائد وأعضاء فرقته والحرس من هو الذي يطلبون القبض عليه، والآن أصبح من السهل على المسيح أن يطلب، وكأنه على مستوى الأمر, أن يطلق سراح تلاميذه.
محاولة من المسيح لتلطيف الجو، وإعطائهم فرصة لاسترجاع وعيهم وشجاعتهم. وكأن تكرار السؤال بمثابة تذكيرهم بواجبهم المكلفين بتتميمه. ولكن بعد سقوطهم أمامه، عرفوا تماماً كيف يلتزمون حدود القبض, وفي الحدود الواجبة، بل ويصغون تماماً لما يقول.
«استيقظ يا سيف على راعي، وعلى رجل رفقتي، يقول رب الجنود. اضرب الراعي، فتتشتت الغنم، وأرد يدي على الصغار.» (زك7:13)
الآن يملي المسيح شروطه, لم يتوسل المسيح, بل كان يأمر، وذلك من موقع التفوق على القائد والجند, ولم يكن أمامهم إلأ قبول الشرط.
فإن كانوا قد جاءوا يطلبون المسيح فقط، وهذا من واقع إجابتهم مرتين، فقد مح أن يطالبهم المسيح بتنفيذ الأمر الواقع عليهم فقط؛ أي أن لا يقبضوا على التلاميذ!
يلاحظ القارىء أن هدف المسيح لم يكن فقط أن يحافظ عل أرواح تلاميذه، بل بالأكثر أن يجمل آلامه في حدودها الخاصة به وحده، ولا يضار بسببها أحد. فدور الآلام بالنسبة لتلاميذه لم يكن قد حان بعد. وموتهم الآن ربما يعترض تكميل خلاصهم: «ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير.» (مت13:6)
واضح أنه من غير الممكن أن يموت أحد عن المسيح، قبل أن يموت المسيح نفسه، لأنه بدون قيامة المسيح يكون الموت هلاكأ بالفعل: «وإن لم يكن المسيح قد قام, فباطل إيمانكم، أنتم بعد في خطاياكم، إذاً، الذين رقدوا في المسيح (بدون قيامة المسيح)، أيضاً, هلكوا.» ( اكو17:15-18)
وضع القديس بطرس الرسول، وهو مقدام الرسل في ذلك الأمر يعزز هذا القول، فهو لم يستطع قبل قيامة المسيح أن يشهد للمسيح مجرد شهادة, بل حينما سُئل عن علاقته بالمسيح، أنكر: «إني لا أعرف هذا الرجل», وزاد بأن «أخذ يحلف ويلعن»!! ولكن، وفي الوقت المحدد, وبعد أن مات من أجله المسيح وقام, استطاع بطرس أن يموت عن المسيح وعلى ذات الصليب!! إذاً، فموت المسيح من أجلنا وقيامته أصبحت لنا مصدر قوة للشهادة، وقبول الآلام, والموت بفرح.
«السيف والكأس» لقد وضع المسيح، بهذه الآية، المعيار الأعلى، أو المُعلى، للايمان المسيحي. فالمسيحي لا يمد يده بالسيف إزاء الخطر، بل يتقبل كأس الموت طواعية!
فالدف عن النفس، عمل غير مشروع على حملة الصليب! فالذي يحمل الصليب، لا يحمل الخنجر. ولماذا السيف، والموت ربح؟ «لأن لى الحياة هي المسيح، والموت هو ربح» (في21:1). لقد صلى المسيح في جثسيماني، منذ لحظات، بحسب البشرية التي فيه: «أجز عني هذه الكأس» (مر36:14). ثم عاد المسيح، بعد أن أكمل الصلاة وسلم الإرادة ليد الآب: «ولكن, ليكن لا ما أريد أنا, بل ما تريد أنت» (مر36:14)؛ وبهذا جعل الكأس، إذا تحتم بكل ما يحمله من خطر، «عطية» مباشرة من يد الآب: «الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟» (يو11:18)
بطرس أراد أن يحمي المسيح بسيفه ليعطله عن الصليب!! فكرر غلطته الكبرى التي نال عليها توبيخاً مرا! «حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا، فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لى، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس.» (مت22:16-23)
أ- المحاكمة الأولى أمام المحكمة الكنسية (12:18-27).
ب _ المحاكمة الثانية أمام المحكمة المدنية (28:18-16:19).
أ- المحاكمة الأولى: أمام المحكمة الكنسية (12:18-27).
لقد انفرد القديس يوحنا في إنجيله بسرد وقائع المحاكمة الكنسية. ومن لغة الرواية يُستدل أنه كان حاضراً وشاهد عيان: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفاً عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة» (يو15:18). «فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه.» (يو19:18)
وقبل أن نخوض في خطوات المحاكمة الكنسية, وجدنا من المفيد أن نُطلع القارىء على القوانين اليهودية الكنسية التي جعها العالم وستكوت، والتي كان معمولا بها في ذلك العهد تقريباً, من واقعع كتب المشناه. علماً بأنه من العسير تحديد زمان كتابة هذه القوانين التي جاءت تحت رأس عنوان «السنهدريم». ومن هذه القوانين نستشف, إلى حد ما، كيف اتفق بعضها مع الإجراءات التي اتخذت في محاكمة المسيح، وكيف ابتعدوا جداً في كثير منها عن أصالة التقليد:
1- القضايا الخاصة والمخالفات الرئيسية، يصير الحكم فيها بواسطة مجمع من ثلاثة وعشرين عضوا: (الفصل الأول مقطع 4).
2- القضايا الخاصة بمحاكم إدعاء النبوة, أي النبوة الكاذبة, يصير الحكم فيها على وجه الخصوص بحضور المجمع الكبير للسنهدريم، أو واحد وسبعين عضواً: (الفصل الأول مقطع 5).
3- بخصوص الشهود، يلزم أن يُفحصوا بدقة، وعلى انفراد، في جميع الأحوال. على أن اتفاق اثنين منهم يعتبر كافياً وصحيحاً: (فصل 3 مقطع 6؛ فصل 5 مقاطع ا وما بعده).
4- في القضايا الرئيسية، يُختبر الشهود اختباراً خاصاً من جهة دوافعهم التي أتت بهم للشهادة، ويُحزروا من جهة خطورة هلاك النفس: (الفصل 4 مقطع 5)، على أن لا تُقتل شهادة عن طريق السماع المنقول.
5- يجلس القضاة على شكل نصف دائرة، على أن يجلس الرئيس في الوسط، حتى يواجه الكل بعضهم وجهاً لوجه: (فصل4 مقطع 3).
6- في القضايا الرئيسية، يرتب كل شي, حتى يُعطى للمتهم حق الاستفادة من جنوح القضية نحو الشك! وحينئذ تؤخذ أصوات المبرئين أولاً: (فصل 4 مقطع 1).
7- في القضايا المدنية، يمكن أن تستمر المحاكمة ويُفرغ منها في الليل. على أن التقرير يمكن أن يخرج في نفس يوم فحص القضية.
8- في القضايا الرئيسية، تصير المحاكمة فقط بالنهار؛ بينما الحكم بالبراءة يمكن أن يُنطق به في يوم القضية نفسه، لكن النطق بالاتهام والإدانة لا ينطق به إلا في اليوم الثاني للقضية. على أن مثل هذه القضايا لا يجوز فحصها مساء السبت ولا في عيد: (الفصل4 المقطع1؛ الفصل الخامس مقطع5).
9- في حالة الاتهام، يلزم أن يُمنح المتهم أربع أو خمس مرات حسب مقتضيات الحاجة، ليأتي بحجج والتماسات جديدة: (فصل6 مقطع 1)
10- في ختام الاتهام والإدانة، يُستحث المتهم أن «يعترف» حتى لا يهلك فيما بعد: (فصل6 مقطع2).
11- يتقدم المُدان مناد، ويقول بصوت عال: إن فلان الفلاني ابن فلان الفلاني ذاهب للرجم بسبب كذا وكذا من السيئات. والشهود عليه هم فلان وفلان، وكل من يستطيع أن يدلي ببيانات تثبت براءته فليتقدم ويعطي الأسباب: (فصل6 مقطع1).
12- في قضايا التجديف يُفحص الشهود فحصاً شديداً فيما يخص اللغة التي استخدمها المتهم، فإذا ثبتت صحة شهادة الشهود ثبوتاً قاطعاً يقف القضاة ويشقتون ثوبهم: (فصل7 مقطع5).
13- المجدف يُرجم. (فصل7 مقطع4)
14- بعد رجم المجدف, يُعلق على المشنقة: (فصل6 مقطع4)، وينزل عنها في المساء، ليُدفن في مقبرة عامة، تُعد خصيصاً لهذا الغرض: (فصل6 مقطع5).
ب_ المحاكمة الثانية أمام المحكمة المدنية (28:18؛16:19)
«رئيس هذا العالم يأتي, وليس له في شيء.» (يو30:14)
لقد أثبتت كل التحقيقات التي قام بها بيلاطس، سواء مع اليهود أو مع المسيح أنه لا توجد علة واحدة توجب الحكم عليه. لقد اعتنى القديس يوحنا أن يسجل ما كرره بيلاطس علناً، لثلاث مرات، كون المسيح بريئاً تماماً:
1- «أنا لست أجد فيه علة واحدة» (يو38:18)
2- «اني لست أجد فيه علة واحدة.» (يو4:19)
3- «خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة.» (يو6:19)
بل إن نية القاضي استطاع أن يكشفها القديس يوحنا بوضوح، أنها اتجهت منذ أول المحاكمة وحتى نهايتها ناحية التبرئة والإطلاق: «من هذا الوقت, كان بيلاطس يطلب أن يطلقه.» (يو12:19)
لقد اختلى بيلاطس بيسوع مرتين:
الاختلاء الأول: يستفسر عن لقب «ملك اليهود»، وانتهى الحديث الأول عند تصريح المسيح: «لهذا قد وُلدت أنا ... لأشهد للحق» (يو37:18)، فوقف بيلاطس عند كلمة «الحق»، وارتعب، وخرج ليعلن تقريره الأول: «أنا لست أجد فيه علة واحدة.» (يو38:18).
الاختلاء الثاني: عندما سع بيلاطس من اليهود أن «المسيح ابن الله», «ازداد خوفاً, فدخل أيضاً إلى دار الولاية وقال ليسوع: من أين أنت؟؟» (يو8:19-9). وانهى الحديث بتصحيح مفهوم بيلاطس، أن له سلطاناً ليُصلب أو يُطلق المسيح، ولكن السلطان إنما يأتيه من فوق، أما هو فليس له على المسيح سلطان البتة!! «من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يطلقه» (يو12:19)، لا لشىء إلا لأنه لا بد وأنه اقتنع بما قاله المسيح مباشرة.
واضح أن المحاكمة أمام بيلاطس انتهت بوقوف المسيح في المستوى الأعلى، وقوف الواثق من قضيته، في الوقت الذي ملأ الخوف قلب القاضي.
أما وثوق المسيح، فلأنه كان قد قبل حكم القضية من فوق قبل أن يُنطق بها، بل قبل أن يولد: «لهذا قد أتيت إلى العالم» (يو37:18)، «الكأس التي أعطاني الآب ...» (يو11:18)، «لم يكن لك علي سلطان البتة، لو لم تكن قد أُعطيت من فوق» (يو11:19). أما ازدياد خوف بيلاطس، فلأنه سيحكم على بريء، وليس فيه علة واحدة. ولكنه، للأسف, حكم تحت تأثير تهديد اليهود: «إن أطلقت هذا، فلسث محباً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً، يقاوم قيصر» (يو12:19)، «فلما سمع بيلاطس هذا القول, أخرج يسوع وجلس على كرسي الولاية... فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب.» (يو13:19و16)
من كل هذا نفهم من صميم التقرير الذي يقدمه القديس يوحنا بذكاء ومهارة قانونية, وكشاهد عيان، أن الحكم الروماني المدني في قضية المسيح كان قائماً على غير أساس، بحسب ما تنص عليه أصول القوانين الجنائية الرومانية، فقد نطق القاضي ثلاثاً أن المتهم ليس فيه علة واحدة، وأنه بحسب الضمير كان عاملاً لإطلاقه؛ وأن الحكم صدر، فقط وفي آخر لحظة، تحت التهديد، والقاضي في حالة: «ازداد خوفاً») من جهة المتهم. أما من جهة القاضي نفسه، فقد نجى نفسه بأن أصدر حكم الإدانة، وهوغير مقتنع؛ وكان في حالة فقدان إرادة الحياد المطلق الذي ينص عليه القانون الروماني.
اليهود فقدوا ملكهم والمسيا والله: الذي خسر القضية هم اليهود فقط: «قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم, أجاب رؤساء الكهنة؛ ليس لنا ملك إلا قيصر» (يو15:19). وهكذا، وفي سبيل حقدهم على المسيح وتحرق قلوبهم بشهوة قتله, فرطوا في الله الذي اعتبروه منذ الدهر أنه ملك إسرائيل، بل والله الذي كان يعتبر نفسه فعلاً ملك إسرائيل، خسروه بالإعلان العلني الذي نطقوه أمام الأمم، والذي يشبه سبق حنثهم في الله ملكهم سابقاً:
«فاجتمع كل شيوخ إسرائيل، وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة، وقالوا له ... فالآن اجعل لنا ملكاً يقضى لنا كسائر الشعوب ... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا, حتى لا أملك عليهم» (1صم5:8-7)
وحتى قول بيلاطس: «أأصلب ملككم»، فلم يكن عن غير وعي بل: «لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً» (مر10:15)
أ- المحاكمة الأولى: أمام المحكمة الكنسية: (12:18-27).
«إلهي إلهي لماذا تركتني ... لا تتباعد عني لأن الضيق قريب ... أحاطت بي ثيران كثيرة ... فغروا علي أفواههم, كأسد مفترس مزمجر... لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني ... أنقذ من السيف نفسي» (مز23).
«فيا رب الجنود، القاضي العدل! فاحص الكلى والقلب، دعني أرى انتقاقك منهم، لأني لك كشفت دعواي. لذلك, هكذا قال الرب، عن أهل عناثوث، الذين يطلبون نفسك, قائلين: لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا ...، هأنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف، ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكون لهم بقية, لأني أجلب شراً على أهل عناثوث، سنة عقابهم.» (إر20:11-23)
«الجند»: أورطة وعددها حوالى 200 عسكري، والقائد ( )رئيس ألف، وخدام اليهود ( ) الضباط المكلفون بخدمة الهيكل والرؤساء (اليهود).
يلاحظ في إعادة ذكر هذه الأسماء المخصصة لتشكيل الجند، أن القديس يوحنا يضعها في بداية الجملة، بنوع من الضغط والتركيز للأهمية.
«وأوثقوه»: كان يطيب لجميع الأباه القديسين الأوائل الذين شرحوا هذا الإنجيل، أن يقفوا عند هذه الكلمة كثيراً ويتذكروا معها كيف أمسك إبراهيم ابنه إسحق وأوثقه: «فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك إبراهيم المذبح، ورتب الحطب وربط (أوثق) إسحق ابنه, ووضعه على المذبح فوق الحطب.» (تك9:22)
والملاحظ، سواء في موضوع ربط إسحق أو المسيح، أن الاثنين يشتركان معاً في عدم المقاومة، بل كانا في صورة خضوعية مذهلة. ولكن ما كان لإسحق أن يقاوم وهو تحت يد أبيه، إذ لم يكن معقولاً قط أن يبدي أية مقاومة، وهو واثق من شدة رحمة أبيه الذي يحبه حباً كنفسه. وينسحب الأمر نفسه على المسيح، وهو في الظاهر واقع بين أيدي جماعة أشرار هربت الرحمة من قلوبهم، وتحرقت أسنانهم لافتراسه بسيوف وعصي، لكنه وقف موقف إسحق عينه، إذ كان في الحقيقة وائقاً أنه تحت يدي أبيه السماوي الذي أحبه كوحيد له: «الكأس التي أعطاني الأب، ألا أشربها؟» (يو11:18)
وهكذا لما لم يجد القائد والجند والخدام أية مقاومة، مدوا أيديهم عليه وأوثقوه، هذا الذي أعطى للانسان أن يربط ما في السماء ويحله، ربطوه بحبل!!، هذا الذي كسر مصاريع النحاس وقطع حديد الهاوية وفك أسرى الجحيم، ربطوه بحبال!... اليد التي ضمدت جراحهم، ولمست حنانها قلوبهم, وشفت مرضاهم، وأقامت موتاهم, ربطوها بحبال!...
هذا الذي فك قيود خطاياهم، وحل رباط الشيطان عنهم, وأطلقهم أحراراً، قبضوا هم عليه وأوثقوه.!
لقد صدق موسى حيما خاطبهم بالقول: «الرب تكافئون بهذا، يا شعباً غبيا غير حكيم، أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك.» (تث6:32)
لسنا ندري لماذا أوثقوه، وهو الذي قدم نفسه طواعية، ولكن ليتم القول الذي قيل في هذا المقام: «أؤثقوا الذبيحة بربط إلى قرون المذبح.» (مز27:118)
توجد بعض أركان خاصة جاءت في المحاكمة ذات مدلولات هامة، يفيدنا كثيراً لو جمعناها وتتبعناها في أصولها وأسبابها ومعانيها، ودرسنا معاً إلى أي حد يمكن أن تهدم الأساس الذي قامت عليه هذه القضية.
1- واضح، بدء كل ذي بدء، أن قضية المسيح لا ترتكز على أصول جنائية، أو حتى مخالفات يمكن أن تعطي لها الشكل القضائي، والذي بمقتضاه تُحتسب قضية صحيحة، وذلك من واقع سبق تحدي المسيح للجهات القضائية بقوله: «من منكم يبكتني على خطية. فإن كنت أقول الحق، فلماذا لستم تؤمنون بي؟» (يو46:8). وهم لم يستطيعوا بالفعل أن يقيموا عليه أية حجة. كذلك، ومن واقع تحديه لرئيس الكهنة عند أول استجواب له: «فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل (أي تحت نظركم وسمعكم، وكنتم تشتركون في الأمثلة، وتستمعون إلى الأجوبة)، حيث يجتمع اليهود دائماً. وفي الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم. هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا؟» (يو19:18-21). ولم يستطع رئيس الكهنة أن يرد، أو يستطرد في الأسئلة.
ولكن هناك سؤال نقدمه نحن إلى قيافا: ألا تعلم حقيقة كل ما قاله المسيح وعلم به؟ ثم ألا تعرف حقاً تلاميذه جميعاً وبالأخص يوحنا؟ وإلا لماذا استحلفته بالله الحي أن لا يعلق أنفسكم ويقول صراحة هل هو المسيح ابن الله؟ أليس لأن تعاليمه أذهلت عقولكم، وصغرت نفوسكم، وبكتت ضمائركم؟
2- هذه القصية مستوجبة السقوط قانونياً من واقع ضرورة «رد القاضي», إذ سبق له الحكم فيها قبل رفعها وقبل القبض على المسيح. وهذا ألمح إليه القديس يوحنا، عند ذكر اسم رئيس الكهنة المكلف بالمحاكمة هكذا: «وكان قيافا هو الذي أشار على اليهود, أنه خير ان يموت إنسان واحد عن الشعب.» (يو14:18)
3- تقديم المسيح للمحاكمة أمام «حنان», ليبدي رأيه أو ليحكم، كان عملاً غير قانوني بالمرة. فحنان ليس رئيس كهنة، بل كان رئيس كهنة وعُزل منذ مدة. ولكن الأمر الوحيد الذي جعله يقوم بهذا الإجراء غير القانوني، أعلنه القديس يوحنا متهكماً عند ذكر اسم حنان هكذا: «ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه، ومضوا به إلى «حنان أولاً» لأنه كان حما قيافا الذي كان رثيساً للكهنة في تلك السنة» (يو12:18-13)
وهنا في هذه الآية يوجد ثلاثة أمور يلزم الانتباه إليها:
أولاً: أنه لم يذكر أن حنان رئيس كهنة، فكيف يقدم إليه وبأي صفة يحاكمه؟
ثانياً: يقول القديس يوحنا ويشدد: «ومضوا به إلى حنان أولاً». هنا كلمة «أولاً» لا يمكن أن تغيب عن ذهن الرجل القانوني، فهي تهكمية إلى أقصى حد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القديس يوحنا يعقب على الثلاثة الأناجيل الأخرى أنها لم تذكر محاكمة المسيح أمام «حنان»، بل ذكرت مباشرة أنها كانت أمام قيافا. فالقديس يوحنا يقرر هنا حقيقة لم ترد في باقي الأنا جيل، يعلمها هو تمام العلم، لأنه كان حاضراً تلك المحاكمة الباطلة!
ثالثاً: يعود القديس يوحنا ويشرح السبب الذي دعا إلى تقديم المسيح إلى «حنان أولاً», وهو أنه «كان حما قيافا» (يقول عنه العالم هنجستنبرج: «تقديم المسيح للمحاكمة أمام حنان لم يكن بناء على أية وظيفة رسمية كان يقوم بها حنان في ذلك الوقت, بل إن قيافا كان مديناً لصهره حنان بمركزه الذي رفعه إليه كرئيس كهنة، وهو هنا يرد الجميل الذي ناله على يده»). وهذا هو المؤهل الوحيد والباطل الذي أعطاه هذا الشرف أن يحاكم المسيح.
4- في كل رواية القديس يوحنا عن المحاكمة الكنسية, سواء أمام «حنان» أو أمام رئيس الكهنة قيافا, لم يورد القديس يوحنا أي إشارة إلى أي اتهام استقروا عليه، لا كأنه أغفل ما تم داخل قاعة المحكمة في دار رئيس الكهنة، ولكن تأكيداً منه أنهم لم يمسكوا على المسيح خطية واحدة.
فإذا رجعنا إلى الثلاثة الأناجيل الأخرى, نجد في إنجيل القديس متى كيف تعلق قيافا بتصريح قاله المسيح وشق ثيابه (يقول العلامة إدرزهايم اليهودي المتنصر, إن رئيس الكهنة إزاء التجديف يقف علنا ويشق ثوبه الخارجي وثوبه الداخلي شقاً لا يمكن إصلاحه.)، إدعاء كاذباً منه أن المسيح جدف على الله وهكذا أصدر حكمه بالإجماع أن المسيح جدف أمامه وأن لا حاجة بعد إلى شهود. أما الذي قاله المسيح، ردا على إلحاح قيافا واستحلافه له هكذا: «وأما يسوع، فكان ساكتاً. فأجاب رئيس الكهنة وقال له أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع: أنت قلت. وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً: قد جدف, ما حاجتنا بعد إلى شهود, ها قد سمعتم تجديفه.» (63:26-65)
فإذا دققنا في رد المسيح، نجد أنه لم يجدف ولم يدع لنفسه شيئاً. بل رد عليه قائلاً: «أنت قلت»؛ ثم أكمل كلامه بنبوة دانيال. فكيف يفسر قيافا رد المسيح الإيجابي أنه تجديف. حتى ولو قال: نعم أنا المسيح, كما جاء في إنجيل القديس مرقس, فهل هذا تجديف؟ ولكئ المسيح بأسلوبه المتواضع الرقيق غير المتهجم ولا المتعالي, قال: «أنت قلت». أما باقي الكلام فهو نبوة دانيال التي قيلت والتي لا بد أن تتحقق، فكيف يكون هذا تجديفاً؟, «ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا: إنه مستوجب الموت» (مت66:26). إن هذا حكم افتراء لا يقوم على واقع ولا يستند إلى حقيقة.
كدلك نرى ان بعض الملابسات، كما جاءت فى سرد روايه المحاكمه، كانت على شيء من الغموض، ويهمنا أن نوضحها للقارىء حتى تصير خطوات المحاكمة واضحة
1- يقول إنجيل القديس يوحنا إن «الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه، ومضوا به إلى حنان أولاً, لأنه كان حما قيافا الذي كان رئيساً للكهنة في تلك السنة.» (يو12:18-13)
2- ثم يستطرد: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع، وكان ذك التلميه معروفاً عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة.» (يو15:18). هنا يلزما أن نوضح أن «دار حنان»، و«دار رئيس الكهنة قيافا», هي دار واحدة (إلى الآن، ومن واقع الآثار، مسجل على خريطة أورشليم موضع دار رئيس الكهنة, ومكتوب عليه: «قصر حنان وقيافا») ، وكان كل منهما يباشر مهامه في مكان منفصل داخل الدار الواحدة، وكانت قاعة المحكمة مشتركة بينهما. علمأ بأن حنان كان صهرا لقيافا، وكان رئيساً للكهنة سابقاً.
3- كذلك يقول الإنجيل: «وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة» (يو24:18). وهنا أيضاً، المسيح لم ينتقل من دار رئيس الكهنة إلى مكان آخر، بل انتقل من أمام حنان إلى أمام قيافا في نفس الدار.
4- كذلك يقول إنجيل القديس يوحنا: «ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية» (يو28:18). وبهذا يكون القديس يوحنا قد أغفل المحاكمة التي تمت أمام السنهدريم! وهذا ليس صحيحاً، لأن مجلس السنهدريم انعقد أيضاً في دار رئيس الكهنة حيث كان حنان أيضاً. فالمسيح لم يخرج من دار رئيس الكهنة إلا إلى دار الولاية، كما ورد في إنجيل القديس مرقس: «فمضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة فاجتمع معه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة (أي مجمع السنهدريم بكامل هيئته).» (مر53:14)
وظل هذا المجمع مجتمعاً حتى الفجر: «وللوقت في الصباح (الساعة الخامسة)، تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله. فأوثقوا يسوع ومضوا به وأسلموه إلى بيلاطس.» (مر1:15)
أما كون القديس يوحنا قد آغفل ذكر المجمع, فالسبب واضح، وهو أنه اعتبر منذ البدء أن الكلمة والحكم النهائي كانا كليهما بيد قيافا وحده, وأنه سبق وأن أصدر حكمه قبل المحاكمة!! وأن المجمع قال بقول قيافا, فلم يكن له وجود فعلي في المحاكمة.
إزاء كل هذا الخلل الواضح في مجريات المحاكمة الأولى أمام الهيئات الكنسية اليهودية، نفهم لماذا لم يعط القديس يوحنا للنتائج المترتبة على هذه المحاكمة أي اهتمام, بل كان اتجاهه مصوباً ناحية المحاكمة الثانية المدنية أمام بيلاطس والتي وقف عندها طويلاً.
وفي الحقيقة والواقع, نرى وبكل تأكيد, أن ميعاد محاكمة المسيح أمام الهيئات الكنسية قد تأخر عن موعده كثيرا، بل تخطى الوقت المسموح به لرئيس الكهنة وكل مجمع سنهدريم اليهود وفريسيه وحكمائه للقيام بواجبهم إزاء أسس ديانتهم وتقاليدهم وكل تعاليمهم التي نقضها المسيح من الأساس. فلو كانت الأمة اليهودية صاحية حقاً لواجباتها الدينية وبقيادة رؤسائها، لكانت حققت مع المسيح طويلاً وطويلاً جداً بمجرد ظهور المعمدان وشهادته للمسيح وبدء خدمة المسيح العلنية التي بدأت هكذا: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء... وأما أنا فأقول لكم...» (مت21:5)
أما الآن, وقد مضى على كرازة المسيح ما يزيد على الثلاث سنوات, فالوقت ليس هو وقت محاكمة المسيح, بل هو حقيقة وقت محاكمة الأمة اليهودية محاكمة عسيرة للغاية!! إذ أين كانوا هذه السنين الطوال، وتعاليم المسيح قد ملأت ربوع البلاد طولاً وعرضاً؟ وكيف يفسرون وجود مسيح الدهور كلها والفادي، هذا الذي ترجته كل الأجيال بكل ابائها وأنبيائها, بينما هو في وسطهم قائم، يعلم في المجامع والهيكل، ويشفي ويصنع المعجزات, ولثلاث سنوات!!!
إن محاكمة المسيح بعد ثلاث سنوات وأكثر من ظهوره وتعاليمه هي أكبر فضيحة، بل ومهزلة لأمانة الرسالة اليهودية التي حملها رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون, وهم لم يكونوا عليها أمناء قط: «لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب, يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم, لأنكم لوكنتم تصدقون موسى، لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني.» (يو45:5-46)
«حنان»: وهو حنان بن شيث، حسب تسمية المؤرخ يوسيفوس. كان واحداً من أكبر الشخصيات اليهودية. ولقد تبوأ عرش رئاسة الكهنوت من سنة 7م. حتى السنة 14-15م. حينما أسقطه فاليريوس جراتوس الحاكم السابق على بيلاطس، ومن بعده تقلد الرئاسة الكهنوتية ابنه ألعازر إلى سنة 16-17م، أي سنة واحدة، ومن بعده جاء يوسف قيافا نسيبه, الذي تزوج ابنته, والذي بقي في الرئاسة حتى سنة 35-36م. ومن بعد قيافا تولى الرئاسة ابن آخر لحنان، هو يوناثان سنة 36-37م، ومن بعده توالى على الرئاسة ثلاثة آخرون من أولاده، أي أولاد حنان، ثاوفيلس سنة 37-41م، متياس 41-44م، وكان آخرهم حنان الصغير سنة 62م (؟) الذي حمل اسم أبيه، أي كان اسمه حنان بن حنان، وهو الذي مد يده وقتل يعقوب أخا الرب. والمعروف عن هذه العائلة أنها عائلة الرشوة والدسائس الدينية.
وقد وردت إشارات في التلمود، أن رؤساء الكهنة في أيام حنان وبقيادته كانت عبارة عن عصابة لها الصفة الدينية شكلاً فقط، وكانت غير وطنية، يحتكرون الزمنيات، وأغلبهم دخلاء، أي ليسوا من فلسطين أصلاًُ، وحنان يقال أنه من الإسكندرية، وقد استدعاه هيرودس ليعاونه في خططه، وكانت الحكومة تناصرهم. وكان حنان محور النشاط السياسي للسنهدريم الذي كان شبه معطل رسمياً (انظر فارار، «حياة المسيح»، ص 722-723).
وفي التلمود (كتاب سجلات وتواريخ وعلوم اليهود)، يذكر المؤلف بلا احتياط أنه تمت اللعنة على بيت حنان وعلى سيرتهم التي أسموها «فحيح الأفعى»، ولم يكن قول المعمدان عنهم إلا مصدقاً لسيرتهم: «يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الأتي.» (مت7:3)
وفي الواقع لم يذكر أحد من الإنجيليين هذه العلاقة التي تربط حنان بقيافا إلا القديس يوحنا، وحينما يذكره هنا دون أن يذكر انه كان رئيس كهنة، فهو ينبه ذهن القارىء أنه يمارس الرئاسة خلسة وبالقوة الشخصية التي فرضها على نسيبه. كما يلاحظ القارىء أن القديس يوحنا يذكر تقديم المسيح للمحاكمة أمام حنان قبل قيافا، مع أن قيافا هو رئيس الكهنة الرسمي, وذلك لكي يؤكد طغيان حنان على سلطة رئيس الكهنة من جهة، ومن جهة أخرى لكي يلمح إلى ضعف شخصية رئيس الكهنة قيافا.
ولكن من الواضح جداً أن هذا كان هو التدبير المتفق عليه مع بيلاطس، لأنه من غير المعقول أن يأمر القائد الروماني بأخذ يسوع إلى منزل حنان وهو ليس رئيس كهنة في اعتبار الحكومة الرومانية. فالأصول الواجبة هي أن يؤخذ إلى دار الولاية أولاً، ثم على أسوأ الفروض إلى دار رئيس الكهنة الرسمي. ولكن أن يذهب به أولاً إلى دار حنان، فهذا إجراء غير قانوني مكشوف، يكمن وراءه عوامل غير عادية، تخل إخلالاً شديداً بحياد المحاكمة والوالي ورئيس الكهنة. وليس عبثاً أن يضع القديس يوحنا هذه الكلمة: «أولاً» في هذا الموضع، إلا لينبه القارىء إلى هذا الخلل الخطير.
كما يلاحظ القارىء أن الحامية العسكرية الكبيرة العدد (200جندي على الأقل)، وبقيادة القائد «رئيس ألف»، انسحبت فوراً بعد تسليم المسيح لحنان (؟) هذا إجراء عسكري يتعجب منه! وكأن الحامية العسكرية كانت تعمل لحساب حنان!!!
وبهذا يراجع القديس يوحنا، بأسلوبه الناقد المهذب، على صحة المحاكمة, كؤنها كانت خارجة عن العرف التقليدي وعن أصالة القانون: [فلم تكن المحاكمة أمام حنان إلا إجراء سياسياً]. وسوف يلاحظ القارىء أنه، حتى بينما كان المسيح يقف أمام رئيس الكهنة قيافا، كان يجري ذلك (يو19:18) في دار حنان نفسه. وهذا يتضح لنا أكثر بالرجوع إلى أيام المعمدان، حينما ظهر المعمدان في أيام الاثنين كليهما: «في أيام رئيس (واحد) الكهنة حنان وقيافا...» (لو2:3)، حيث لم يكن هنا حنان رئيس كهنة بالمرة ولكنه كان يمارس الوظيفة خلسة من خلف قيافا نسيبه, وهذا واضح ومفضوح بسبب مجيء الوظيفة بالمفرد: «في أيام رئيس الكهنة» التي يمارسها اثنان!! والذي يتقدم هو المغتصب.
وواضح من حادثة تطهير الهيكل من جهة وقف البيع والشراء وطرد البائعين والصيارفة، أن هذا العمل كان له أكبر وأخطر الأثر على أطماع وسياسة حنان, فهو الذي كان يدير هذه الحركة التجارية كلها، وكانت الأموال تنهال عليه كالنهر. فبهذا العمل الذي أتاه المسيح، والذي نبه أذهان اليهود الأتقياء والغيورين بل والفريسيين الأمناء، إلى فضيحة سلوك حنان ونسيبه قيافا، هذا العمل شكل أساس عداوة وحقد وتربص في قلب حنان لا يٌنسى. لهذا ظل يعمل بوحي هذه الحادثة ليل نهار, حتى يقضي على المسيح بأي ثمن. وهذا واضح من محاولة إقامة شهود ضده بأنه قال إنه قادر أن ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام (مر58:14)، في حين أن المسيح قال ذلك عن هيكل جسده وليس عن هيكل اليهود. كذلك نفس موضوع تطهير الهيكل الذي كان يفزع حنان وقيافا، كان هو موضوع الشماتة الأكثر عندهم عندما اطمأنوا إلى صلبه: «يا ناقض الهيكل وبانيه...»» (مر29:15)
وليفهم القارىء مدى خطورة فهمهم الخاطىء لقول المسيح أنه قادر أن ينقض الهيكل, أي هيكل اليهود, ويبني غيره في ثلاثة أيام. فهم تصوروا أنه فعلاً سيقوم بثورة، وبالتالي سيغير نظام الهيكل بأجمعه ليعمل هيكلاً جديداً يتناسب مع تعاليمه الجديدة. فإذا أضفنا إلى ذلك الأثر الذي تركته حادثة مقابلته لخدام الهيكل, وهم ضباط على مستوى عال من الدراية والمعرفة، والذين أرسلهم رؤساء الكهنة للقبض على يسوع, فلما استمعوا إليه وتأثروا بكلامه، أحبوه وآمنوا به: «فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين. فقال هؤلاء لهم: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام: لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفريسيون: ألملكم أنتم أيضاً قد ضللتم. ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به. ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون.» (يو45:7-49)
ولكن قد تحققت مخارفهم بصلبه, فقد نقض الهيكل القديم المصنوع بالأيادي، وأقيم الهيكل الجديد غير المصنوع بالأيادي. وقضي على هيكل اليهود، وانتهى رؤساء الكهنة من قاموس العبادة اليهودية!
ولكن المتابع لتاريخ سلوك حنان من جهة التربص للمسيح منذ ظهوره، وحتى لتلاميذه من بعده، يدرك لماذا قدم قيافا المسيح للمحاكمة أولاً أمام حنان، وبالإضافة إلى التكتيك السياسي، كونه يعلم مدى العداء الذي كان يكنه للمسيح، فقد قدمه له إرضاء لنزواته، واستطاع أن يحبك القضية منذ البداية بغش الأفعى ودهائها. وفي غالب الظن أن حنان هو الذي تعاهد مع يهوذا، وأرسل معه الجند والقائد والضباط. وقد لعبت الأموال دورها, فكان يغدق على يهوذا عطفاً وأموالاً، مما شجعه أن يلعب هذا الدور الخاسر.
ولكن القديس يوحنا ضرب عرض الحائط بكل محاكمة حنان، ولم يورد منها أي نص، بحسب ما كانت تستحق في نظره.
وقد ورث ابن حنان الأصغر نفس هذا العداء والحقد, واستطاع أن ينفثه في يعقوب الرسول المدعو أخا الرب، فتجرأ على قتله هو وكثيرين معه, مجازفاً بوظيفته، بتحديه للسلطة الرومانية التي لم تكن تسمح أبداً بهذا التعدي على حقوقها السياسية، فيما يخص حياة أو موت الأفراد الذين تحت حكمها، ومستغلاً أيضأ غياب الحاكم الروماني، وكان ذلك حوالي سنة 62م. ولم يرد ذكر هذه الحادثة إلا في تاريخ يوسيفوس. ويعقوب هذا غير يعقوب أخي يوحنا، الذي قتله هيرودس مبكراً جداً كما جاء في سفر الأعمال (أع1:12-2).
«الذي كان رئيسا للكهنة في تلك السنة»: كان رئيس الكهنة إذا اختير مرة، يبقى إلى نهاية حياته حاملاً الرتبة وكرامتها، حتى ولو تنحى عن العمل لأي سبب أو نُحي عنها. ولكن إذا نُحى عن القيام بمهام وظيفته رسمياً، فكان لا بد أن يخله آخر, كما في حالة حنان الذي خلفه قيافا في إدارة الشئون الدينية للبلاد، والتكلم رسمياً باسم الأمة اليهودية, فهو الناطق بلسانها لدى الجهات الرسمية الرومانية. أما قول القديس يوحنا: «كان رئيساً للكهنة في تلك السنة»، فهو لا يعني أن رئاسة الكهنوت كانت بالمناوبة سنوياً. ولكن بلغة القديس يوحنا الروحية فإن «هذه السنة» تعني سنة خيبة أمال اليهود ونهاية مجدهم، وبداية تعاستهم؛ ولكنها في نفس الوقت هي «سنة الرب المقبولة» أو سنة الخلاص الأبدي للعالم. فهي «سنة» وليس «كل السنين», إذ استعلن فيها الأول والآخر, البداية والنهاية, وهي التي عرفت في القديم بكلمة «هذا اليوم»، «وتلك الأيام», «وآخر الزمان».
الإشارة هنا إلى ما ورد في إنجيل يوحنا (49:11-50): «فقال لهم واحد منهم، وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون, أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها»
وكما سبق وقلنا، هذه لغة القديس يوحنا التي يضرب بها ذات اليمين وذاته اليسار، فهو يعلن بها مسبقاً ماذا ننتظره من الحكم الذي يصدره إنسان له هذا التفكير وهذه العرفة وهذا المستوى من سهولة القتل بلا سبب، والغاية الكاذبة عنده تبرر الواسطة الدنيئة. ولكن أسلوب القديس يوحنا لا يقف عند هذا الحد، فهو يضرب بعصي الإنجيل فوق رأس القضاء اليهودي العابث بالحق، والملفق، بغير حياء. إذ كما سبق وقلنا أن هذا الإعلان القضائي المقدم من القديس يوحنا هو بمثابة «رد المحكمة»، وإعلان لفساد ذمة القاضي، وبالتال سقوط الدعوى والقضية، لأن القاضي قيافا سبق وأعلن مقدماً عن الحكم الذي سيبرمه والذي في سبيل إبرامه, حتماً, سيلفق التهم المناسبة ويزور الشهود ليبلغ قصده المبيت في نفسه، والذي أعلنه على مسامع مجمع السنهدريم.
ولكن لم يفت على بيلاطس أن يكتشف هذا السلوك المبيت، ولا هذه الأساليب السفلى، فقد أظهر من كلامه ومن مشاعره, سواء تجاه زمرة رؤساء الكهنة أو تجاه المتهم المبرأ، ما جعل الإنجيليين يسجلون للقاضي هذه اللفتة: «فأجابهم بيلاطس قائلاً: أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود، لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً.» (مر9:15-10؛ مت18:27)
ويلاحظ أنه سواء في عملية القبض, أو في بدء المحاكمات, أم في حضور الصلب, لا نجد أي ذكر للفريسيين على الإطلاق. ويبدو أنهم انسحبوا من هذه العمليات وتركوا لزمرة رؤساء الكهنة ( الصدوقيين ) وكل من يتبعهم، القيام بهذه المهمة. ومن المعتقد أنهم كانوا غير متفقين فيما بينهم: «انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً، هوذا العالم قد ذهب وراءه» (يو19:12)، «واذا رجل اسمه يوسف وكان مشيراً ورجلاً صالحاً باراً (سنهدريمي أي فريسي، بحسب تحقيق كثير من العلماء) هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم» (لو50:23-51). «وجاء أيضأ نيقوديموس (فريسي بحب رواية إنجيل يوحنا1:3) الذي أتى أولاً إلى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مر وعود، نحو مائة مناً» (يو39:19)
القديس يوحنا يورد هذه المعلومة الهامة، ليوضح بها أولاً أنه كان شاهد عيان لكل ما سيرويه، فهو والقديس بطرس، دون جميع التلاميذ الذين آثروا الهروب، تبعا يسوع.
ولكن عند الباب، احتحز بطرس لأنه لم يكن معروفاً بالوجه, أما يوحنا فدخل، لأنه بحسبه تعبيره، كان معروفاً عند رئيس الكهنة؟ وهنا «قيافا» هو المقصود وليس «حنان». وبالتالي كان يوحنا معروفاً لدى الخدام والبوابين.
هذه المعرفة الخاصة عند رئيس الكهنة هي التي جعلته يعرف العلاقة الأسرية بين حنان وقيافا، وهي التي آهلته أن يعرف عبد رئيس الكهنة بالاسم، الذي قطع بطرس أذنه بالسيف, كذلك جعلته يتعرف على نسيب ملخس أيضاً من بين الخدام!! وهي التي أهلته أن يدخل دار رئيس الكهنة في أخطر المواقف دون حرج، بل وهي التي أهلته أن يأمر البوابة أن تسمح لبطرس بالدخول، بل هذه المعرفة الخاصة أيضأ هي التي جعلته يوضح لنا أن الجارية التي أنكر بطرس المسيح أمامها في الثلاثة الأناجيل هي البوابة!
وعلاقة القديس يوحنا برئيس الكهنة تلقي ضوءاً كثيرأ على رواية إنجيله. فهو، وإن لم يكن ذا قرابة برئيس الكهنة, فهوعلى الأقل يحمل المؤهلات الدينية والروحية والتقليدية التي تتناسب مع إنسان معروف لدى رئيس الكهنة، وله من الدالة والجرأة أن يدخل داره بلا استئذان، وأن يدخل رفيقاً لمتهم على أعلى مستوى من العداوة والخطورة بالنسبة لرئيس الكهنة وكل عشيرته؟ بل وله من الدالة أن يأمر البوابة أن تسمح بدخول شخص أخر غريب ومشكوك في أنه أحد أتباع المتهم.
والسؤال هو كيف أن البوابة والخدم لم يتصرفا تجاه القديس يوحنا, كما تصرفا مع بطرس، بالرغم من علمهم الأكيد أن القديس يوحنا أحد تلاميذ المسيح؟ اللهم إلآ إذا كان القديس يوحنا يمت بقرابة، وليس مجرد معرفة لرئيس الكهنة؟
ولكن, وبصورة غير مؤكدة، يقص لنا المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري أن القديس يوحنا والقديس يعقوب البار أخا الرب كانا يلبسان أثناء الخدمة في عهدهما الميمي تاجاً من نفس النوع الذي يلبسه رؤساء الكهنة, وعليه القلادة الذهبية الخاصة برئيس الكهنة. وهذا يكشف عن أن أسرة كل منهما كانت تمت بصلة أكيدة إلى الكهنوت. ونحن لا ننسى أن القديس يوحنا كان هن تلاميذ المعمدان الأوائل، ويقيناً أنه كان قبل تعرفه على المعمدان يلتمس النور من مصادره التقليدية، أي من الهيكل ومن علمائه. وأخيراً باع كل شيء واشترى اللؤلؤة!!
إن سيرة القديس يوحنا قبل المسيح كانت شديدة الشبه بتلك التي للقديس بولس، أما بعد المسيح فهما مؤتلفان في الروح ، وفي الوعي المسيحي النادر، وفي الرؤى السماوية.
«دار رئيس الكهنة»: بحسب تحقيقات بعض العلماء، ومنهم هنجستنبرج ووستكوت، يبدو أن قصر حنان كان مكان اجتماع «رئاسة الكهنة»؛ خاصة وأنه توالى على رئاسة الكهنة, كما علمنا, أولاده من بعده . وهذا قيافا أيضاً، وقد تزوج بنت حنان, فقد كان من الطبيعي أن يبقى مقر اجتماع رئاسة الكهنة كما هو في دار حنان حميه. وهذا يوضح لنا كيف تمت المحاكمة الأولى والمحاكمة الثانية، دون أن ينتقل المسيح خارج الدار. كما يتضح لنا بالأكثر كيف أن بطرس بقي في موضعه في الطابق السفلي، حتى أكمل إنكاره المعهود إلى ثلاث مرات، دون أن ينتقل خارج الدار. والمعروف في التاريخ اليهودي، أن السنهدريم وهو الجهة القضائية العليا المنوط بها الفحص والحكم في القضايا الكبرى التي تختص باليهود، قد توقف عن العمل أربعين سنة قبل خراب أورشليم، أي في أيام المسيح. وقد مُنع من الاجتماع في الدار المخصصة بالسنهدريم المسماة جازيت. كذلك فإنه بحسب التقليد اليهودي، كان لا يجوز لمجمع السنهدريم أن يحكم بالموت إلا داخل داره الرسمية هذه المسماة جازيت. لذلك اجتمع اجتماعاً غير قانوني في دار حنان المتسعة, بناء على استدعاء رؤساء الكهنة، وذلك بعد منتصف الليل للتصديق الشكلي على أحكام رؤساء الكهنة.
حينها استقر القديس يوحنا في الداخل، وعن قرب من سيده، عاد يطلب صديقه بطرس. أما بطرس فكان راضياً بوقوفه خارج الباب، لأن الاساءة التي ارتكبها في حق عبد رئيس الكهنة كانت تقلقه خوفاً من أن يكتشف أمره، إضافة إلى لمسة من الرعبة سرت في أوصاله، زادها البرد وظلمة الليل، وبدأ يسأل نفسه لماذا أنا هنا؟
وأخيرا فتحت البوابة، وظهر القديس يوحنا، ودعا بطرس للدخول في صمت. هنا يمدنا القديس يوحنا للمرة الثانية، وبشيء من التأكيد, بصورة صادقة واثقة عن شجاعته الهادئة الثابتة، ويكرر على مسامعنا مرة أخرى معرفة رئيس الكهنة له، ليمهد لحديثه مكاناً واثقأ في إيماننا، كمن يتكلم عن سماع ورؤيا.
بينما اتجه بطرس إلى جماعة الخدم والعبيد، واندس بهدوء بينهم، راضياً أن يكون كأحد المتفرجين، أو عل الأقل من الذين لا يعنيهم أمر«هذا الرجل». كان هذا قد استقر في قرارة نفسه، كقرار لم يستطع أن يخفيه، لما اضطر أن يعلن عن علاقته «بهذا الرجل».
أ- «فأنكر قائلاً لست أدري ولا أفهم ما تقولين.» (مر68:14)
ب- «فابتدأ يلعن ويحلف أني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه.» (مر17:14)
لقد ارتضى بطرس أن يجلس بين الناكرين، فأنكر.
ولج بطرس داخل الدار بشيء من الإر تباك، وكمن يريد أن يخفي شخصيته، ولكن البوابة تفرست فيه في ضوء مصباحها الخافت, وتطلعت إلى شكله وعينيه، وكانت على شي ء كثير من الذكاء والفراسة، فخمنت، وأصابت الحقيقة. وفي تساؤل غير وائق بادرته بسرعة: «ألست أنت أيضأ من تلاميذ هذا الإنسان؟. لم تقصد البوابة شيئاً غير وضعه في موضعه، إنها مجرد بوابة. فقولها «أيضاً» يفيد أنها كانت قد تعرفت على القديس يوحنا أولأ أنه تلميذ «هذا الإنسان». وها هي ترى القديس يوحنا يترفق بزميله، فكيف لا يكون تلميذ هذا الإنسان أيضاً؟ هنا خانت بطرس شجاعته وارتج عليه الأمر, بحث فلم يجد في خزانة إيمانه حبة خردل. ولمح من بعيد صورة ملخس بين العبيد الواقين، أو تصور ذلك، فأخذته الرعدة، وبسرعة أراد أن ينفي عنه كل شيء: «لست أنا». وكأنه التقط الاستنكارمن فم البوابة: «ألسث أنث؟»، وحوله إلى جواب: «لست أنا». لقد سهلت عليه الرد، كالحية التي أغوت حواء.
«لست أنا»: في لغة إنجيل القديس يوحنا، هذا القول هو النقيض البغيض للقول المحبوب المُهاب لاسم المسيح ووجوده «أنا هو». لقد ألغى القدير بطرسص بقوله هذا وجوده وكيانه, لأنه فقدهما في الحقيقة لما أنكر تلمذته لذاك الذي يستمد منه وجوده وكيانه!!!
أما القديس يوحنا فتجاسر ودخل ليكون بجوار الرب، فكان كمن ارتكن إل حصن؛ وأما القديس بطرس فاكتفى أن يكون بعيداً بين البعداء فزل، ولكن أن يتبع بطرس المسيح ولو من بعيد، أفضل من أن يظل بعيداً ولا يتبعه!!! وكان ممكناً بعد أن تعرفوا على بطرس أنه كان في البستان، ولولا قليل لعرفوا أنه هو صاحب السيف، أن يوقعوا به أذية ومهانة، ولكن: «ولكني طلبت من أجلك ...» (لو32:22)، كانت صلاة المسيح من أجله حصناً حصيناً ومجنا وسراً.
لقد انسحب القائد والجند ولم يتبق إلا عبيد رؤساء الكهنة وضباط الحراسة اليهود، هؤلاء تجمعوا معاً في فسحة الدار في الدور الأرضي، وأضرموا جمراً، أي أوقدوا فحماً وليس خشباً. ومعروف أنه في أيام القمح في 14 نيسان، غالباً يكون الجو دافئاً إلا في بعض السنين. لهذا يقول القديس يوحنا: «لأنه كان برد» ، معتبراً أن ذلك كان على غير المعتاد.
أما ذكر الجمر المتقد وهو يتلألأ ويرسل وهجه المنير هنا وهناك، فلأنه هو الذي فضح بطرس في الحقيقة. لأن الذي ينقل لنا هذا المشهد بدقة ليس القديس يوحنا بعد، لأنه دخل إلى مقر المحاكمة ولم يعد يعرف ماذا حدث كشاهد عيان، ولكن هنا يعطينا القديس لوقا ما سمعه من شهود عيان هكذا: «ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً، جلس بطرس بينهم، فرأته جارية (البوابة عنمد القديس يوحنا) جالساً عند النار (أي في مواجهة نور الجمر). فتفرست فيه، وقالت: وهذا كان معه» (لو56:22). لقد ساعد نور الجمر على التعرف على شخصية بطرس.
ويكتل لنا القديس مرقس في إنجيله، على لسان القديس بطرس نفسه, حسب التقليد: «فلما رأت بطرس يستدفىء، نظرت إليه وقالت: وأنت كنت مع يسوع الناصري. فأنكر قائلاً: لست أدري ولا أفهم ما تقولين. وخرج خارجاً إلى الدهليز» (الطرقة الخارجية بين الفسحة الوسطى والباب), فصاح الديك. فرأته الجارية أيضاً وابتدأت تقول للحاضرين: إن هذا منهم، فأنكر أيضاً. وبعد قليل أيضاً قال الحاضرون لبطرس: حقاً أنت منهم، لأنك جليلي أيضاً، ولغتك تشبه لغتهم، فابتدأ يلعن ويحلف أني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه. وصاح الديك ثانية، فتذكر بطرس القول الذي قاله له يسوع: إنك قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. فلما تفكر به بكى.» (مر67:14-72).
واضح من رواية القديس مرقس أن بطرس لم يغادر دار رئيس الكهنة، بل كان أسفل الدار يصطلي، والمسيح فوق يُحاكم، أولاً عند حنان، ثم عند رئيس الكهنة قيافا وبالتال السنهدريم.
«شهود زور يقومون, وعما لم أعلم يسألوني.» (11:35)
«لو لم أكن قد جئت وكلمتهم، لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عزر في خطيتهم.» (يو22:15)
الكلام هنا يتبع مباشرة الآية (14)، أي بعد أن أجرى حنان تحقيقه غير الرسمى، وهذا واضح من تعقيب القديس يوحنا في نهاية تحقيق قيافا، إذ يقول مستدركاً: «وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة.» (يو24:18)
قيافا رئيس الكهة يبدأ تحقيقه الرسمي بكل دقة وتريب حسب الأصول القضائية تماماً. نعم، لأنه بقدر ما يكون الحكم المعد مسبقاً غير عادل وغير معقول بالمرة, بقدر ما تكون إجراءات المحاكمة غاية في الدقة وحسب الأصول بكل انضباط. هذه سنة المحققين المفسدين, وفلسفة القضاة الذين لا يخشون الله ولا الضمير, حينما ينوون تعريج القضاء والتدليس على الضمير, يستمعون للدفاع بكل انتباه ويناقشون المتهم بكل حرص وأدب, ويطيلون فرص الدفاع ويكررون نظر القضية في جلسات تلو جلسات دون تعب أو تململ. ثم ينطقون بالحكم الظالم الغاشم المتعنت بأقل كلمات وفي أدب جم, ثم يشرحون أسبابه بإسهاب وبمنطق القضاء العادل الذي يخشى الله والحق والتاريخ. هكذا حققوا مع المسيح بكل اهتمام, وقتلوه بغير اكتراث.
رئيس الكهنة سأل المسيح عن «تلاميذه» أولاً، ثم عن «تعليمه». لم يكن القصد معرفة من هم تلاميذه لأنهم كانوا يعرفونهم، والقديس يوحنا يقف كعينة فاخرة من هذه الزمرة. ولكنه كان يسأل عن مدى العلاقة التي تربطه بتلاميذه، لأن بيت القصيد في التهمة والاتهام أنه جعل نفسه «ابن الله» وبالتال فهو, بحسب ادعائهم هذا, يكون فوق السلطة الكهنوتية والراكب فوق رؤوسهم! وتلاميذه هم، والأمر كذلك، رؤساء كهنة بالدرجة الأولى والقيمون على الرسالة وانتشارها والمعلمون المنوط بهم تعليم الشعب. هذا أمر يخص رئيس الكهنة من الاتهام. أما الإعداد لتقديم الاتهام للرومان، فلأنه «المسيح الملك», فتلاميذه بالتال يكونون هم الحكام والقواد والمنوط بهم القيام بالثورة. هذا دور التلاميذ الذي يسأل عنه.
أما من جهة «تعليمه» فقد جمع مسبقاً من فم المسيح ما يكفي لتغطية الحكم بالرجم، وأعطى آنئذ علامة التزكية للطق بالحكم فيما بعد بأن «شق ملابسه» أمام السنهدريم، حب التقليد القضائي. وهو الآن يريد المزيد ليستوفي من فمه مسببات الحكم.
ولكن المسيح فوت عليه البند الأول من جهة تلاميذه، فلم يلتفت إليه أصلاً، لأن مبدأ المسيح الذي حرص عليه منذ البدء: «أن لا يهلك منهم أحد» (يو39:6؛ 12:17). ثم ابتدأ المسيح يهاجم فكرة التعليم السري، التي يدور حولها قيافا، وكأنها خطة خفية عن مملكة وملكوت يعده بالشفرة، ليعلنه في الوقت المناسب لينصب نفسه «مسيا الملك». وهذا من واقع الاتهام الذي قدمه ليبلاطس، كما جاء في إنجيل القديس لوقا: «ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك» (لو2:23). وهذا هو الذي حدا ببيلاطس أن يسأله, كما جاء في إنجيل القديس يوحنا: «ودعا يسوع وقال له: أنت ملك اليهود» (يو33:18). هنا واضح أن القديس يوحنا يكمل ويشرح عرضاً ما جاء في إنجيل القديس لوقا.
«أنا كلمت ... أنا علمت»: واضح كيف أن المسيح لكي يفوت على قيافا الإجابة عن «التلاميذ»، ابتدأ يركز بصورة قوية وشامخة على نفسه: «فأنا ... أنا» تحمل المجاهرة القوية الصلبة والشجاعة.
ويلاحظ أن كلمة «أنا كلمت ... أنا علمت», يجيء كل منهما في التصريف الكامل المنتهي (الماضي التام) لتمهد لآخر كلمة قالها، بعد التطبيق العملي على الصليب, لكل ما قال وعلم: «قد اكمل.» (يو30:19)
كما يتضح من مجيء كلمة «أنا كلمت» قبل «أنا علمت», أن التعليم الذي يسأل عنه قيافا لم يكن سرياً ولا بالشفرة أو الرموز، بل بالكلام العلني الحر، المسموع والمفهوم لدى «العالم», وكلمة «العالم» هنا تشمل كل درجات الناس بلا تمييز, تلاميذ وغير تلاميذ: «كما قلت لليهود ... أقول لكم أنتم الآن» (يو33:13). والعلنية التي يفتخر بها المسيح، تجيء موبخة وفاضحة للسرية التي اتخذها قيافا ومن معه في خطة القبض عليه والتخابر السري مع يهوذا ودفع الثمن له! وتدبير هذه المحكمة وجمع شهود الزور. ثم يعود المسيح ويخصص تعاليمه لكل العالم على مستوى العلانية في البيوت والشوارع إلى: «أنا علمت كل حين في المجمع, وفي الهيكل, حيث يجتمع اليهود, وفي الخفاء لم أتكلم بشيء». لاحظ هنا تأكيد المسيح على موضوع «الخفاء».
واضح أن المسيح يقدم نفسه كمعلم دولة أولاً على مستوى «العالم»، ثم معلم الشعب اليهودي كافة بكل فئاته، حيث استمع إليه رؤساء كهنة وكتبة وفريسيون، خاطبهم وخاطبوه وناقشهم وناقشوه. إذن، لم يكن معلم جماعة، أو شيخ طريقة، أو صاحب مذهب, أو إمام شيعة، بل هو الناطق بكلمة الله في كل مكان وزمان ولكل إنسان!
«وفي الخفاء لم أتكلم بشيء»: «لم أتكلم بالخفاء في مكان من الأرض مظلم. لم أقل لنسل يعقوب باطلاً اطلبوني. أنا الرب متكلم بالصدق، مخبر بالاستقامة.» (إش19:45)
إن أقوى ما كان في تعاليم المسيح وإعلاناته هي «العلانية», بل وأقوى إعلان نطقه كان لقيافا هذا عينه، حينما توسل إليه مستحلفا بالله: «والذين أمسكوا يسوع، مضوا به إلى قيافا رئيس الكهنة ... وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله, قال له يسوع أنت قلت (أو نعم كما قلت)؛ وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء.» (مت57:26-64)
وفي إنجيل القديس مرقس جاءت العلانية صارخة: «فسأله رئيس الكهنة أيضاً وقال له أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتيأ في سحاب السماء.» (مر61:14-62)
بل ولم يصرح المسيح قط أن ما يعلم به يبقى في الخفاء: «الذي أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور، والذي تسمعونه في الأذن، نادوا به على السطوح» (مت27:10). المسيح هنا يشجب كل تعليم سري، لأن كل تعليم سري يخلو من الحق. أما الحق فهو علم العلانية ومعرفة النور, ويكفي أن يقول المسيح كمعلم: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14). على الجبل علم، وفي الطريق علم، وفي البيوت وفي الخلاء وفي القفر وعلى شاطىء البحر وأمام القبر علم! بالليل مع نيقوديموس الذي آثر الظلام علم، وفي منتصف النهار ضرب ميعاده مع السامرية وعلم، وعلى مدى النهار كله وحتى خار الشعب, علم وأطعم. اختار السبوت للمجامع، والأعياد للهيكل. وما قاله هنا وهناك سمعناه كلنا، وفي كل مكان، وفي الدنيا كلها الآن. وحديث القلب الخاص جداً في العلية لتلاميذه, الذين أحبهم إلى المنتهى, على العشاء الأخير، صار حديثنا، بل صار إنجيلنا، بل صار طقسنا نرتل به، ونسبح, ونهذ فيه الليل مع النهار!
هذه الإجابة التي رد بها المسيح على سؤال قيافا، نسمعها بصورة أخرى يقولها المسيح لبعثة قيافا عينه، التي تسلحت بالسيوف والعصي للقبض عليه كما على مجرم ثائر ضد الأمة، هكذا: «فأجاب يسوع وقال لهم: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أُعلم, ولم تمسكوني، ولكن لكي تكمل الكتب» (مر48:14-49). وكأن قيافا أراد، ببعثة القبض عليه، أن يصوره بصورة المجرم الثائر.
واضح جداً من قول المسيح هذا أنه، في الحقيقة، إنما كان يخاطب السامعين أنفسهم!! رؤساء الكهنة والمحققين. يخاطب, إن لم يكن شجاعتهم ليدلوا بشهادتهم لو أرادوا, هذا لو كانت لهم حرية الإرادة, فضمائرهم!! ثم أنه في قول المسيح هذا، رجعة قانونية على المحقق المتحامل المدلس. فبحسب القانون اليهودي، يلزم حضور شهود الدفاع أولاً لتبرئة ذمة المتهم! هو هنا يطلب شهود الإيجاب, أي يطلب تعديل وضع المحكمة!! فالوضع القانوني الصحيح في المحاكمات اليهودية العريقة في القدم أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته. ولكن المسيح كان، في قرارة نفسه ولسان حاله, قد أكمل التعليم والأجوبة والشهادة والبراهين الكلامية التعليمية والإعجارية, والوقت لم يعد وقت شهادة وسؤال وجواب، ولكن هي شدة وضيق كان عليه أن يجوزها في صمت, لو أمكن!
ثم أليس هو الذي تكلم جهرا أمام مجلس السنهدريم معلناً بنوته لله وصدق مسيانيته؟ واننا، في الحقيقة, نلمح في قول المسيح: «لماذا تسألني»، رفضاً مقنعاً للاجابة، وهو ما نسمعه في الأناجيل الأخرى أنه صمت وأنه لم يرد بشيء!! «فقام رئيس الكهنة في الوسط، وسأل يسوع قائلاً: أما تجيب بشيء ماذا يشهد به هؤلاء عليك. أما هو فكان ساكتاً، ولم يجب بشيء.» (مر61:14-62؛ مت62:26-63)
ثم كيف يجيب المسيح على قاض صمم وأعلن عن قتله؟
لقد أعيي رئيس الكهنة, لكي يجمع شهادات زور, فلم يوفق أبداً: «وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع، لكي يقتلوه, فلم يجدوا» (مت59:26-60), «لأن كثيرين شهدوا عليه زوراً، ولم تتفق شهادتهم.» (مر56:14)
ولكن حينما حل دور الشهادة للحق أمام المجمع عن بنوته لل, وأمام بيلاطس عن ملكوته، أجاب الإجابة القاطعة: «وشهد الاعتراف الحسن»، وهو الأمر الذي صار من صلب إيماننا: «أوصيك أمام الله الذي يحيي الكل والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس البنطي بالاعتراف الحسن» (1تى13:6)