لقد سجل إشعياء النبي هذا المنظر قبل أن يحدث بستمائة سنة وصوره أروع تصوير: «بذلت ظهري للضاربين، وخدتي للناتفين (في السبعينية «للطم»، وجهي لم أستر عن العار والبصاق» (إش6:50)، [وخديك أهملتهما للطم] (القداس الغريغوري القبطي)
لم يكن العبد أسوأ من سيده, فلو كان رئيس الكهنة «الاضعف» احترم حقوق المتهم بحسب القانون, ما تجرأ العبد ومد يده على رئيس الكهنة «الأعظم».
المسيح هنا لا يرد على العبد, بل على قيافا حامي التوراة، وهل أعطت التوراة هذا العبد علة هذا التعدي: «لا تسب الله، ولا تلعن رئيساً في شعبك» (خر28:22), وقد قرأها القديس بولس «رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً» (أع5:23). فالمسيح هنا يسأل رئيس المحكمة الذي رأى ووافق على اللطم. إن القانون يقول: «لا تقل سوءاً», فما هو هذا السوء الذي تكلمت به حتى تعطي لعبدك الحق في الاساءة؟ وأنا لم أتكلم سوءاً, بل حسناً!! لقد احتسب المسيح هذه الإساءة, دون سبب, أنها مخلة بإجراءات المحاكمة وخروجاً على القانون والتوراة. وتجدر الاشارة هنا، إلى أن القانون اليهودي ينص على أنه ليس للقاضي الحق إلا ليطرح المذنب، إذا ثبت عليه الذنب، ثم يأمر بعد ذلك بالجلد في حدود كرامة الانسان «لئلا يُحتقر في عينيك»!!!
+ «إذا كانت خصومة بين أناس، وتقدموا إلى القضاء ليقضي القضاة بينهم فليبرروا البار, ويحكموا على المذنب. فإن كان المذنب مستوجب الضرب, يطرحه القاضي، ويجلدونه أمامه على قدر ذنبه بالعدد. أربعين يجلده، لا تزد، لئلا إذا زاد في جلده على هذه ضربات كثيرة, يحتقر أخوك في عينيك.» (تث1:25-4)
ولكن كان هذا مبتدأ الأوجاع، فقد زحفت ساعة الظمة، وتحرك العقرب على يد هذا العبد المتعوس، وبعد ذلك وبتحريض من رئيس الكهنة، أكملت الآلام، كما جاء في الأناجيل الأخرى:
+ «حيث اجتمع الكتبة والشيوخ (أعضاء السنهدريم)... ها قد سمعتم تجديفه ماذا ترون. فأجابوا وقالوا: إنه مستوجب الموت. حينئذ بصقوا في وجهه, ولكموه, وآخرون لطموه قائلين: تنبأ لنا أيها السيح من ضربك.» (مت65:26-68)
+ «فابتدأ قوم يبصقون عليه, ويغطون وجهه، ويلكمونه ويقولون له: تنبأ. وكان الخدام يلطمونه.» (مر65:14)
+ «والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع، كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه. وغطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين: تنبأ من هو الذي ضربك؟ وأشياء أخرى كثيرة, كانوا يقولون عليه، مجدفين.» (لو63:22-65)
وقد انقسمت الآلام والتعديات على المسيح إلى ما كان منها قبل النطق بالحكم من فم قيافا، وما بعد النطق بالحكم, أي بعد انتهاء المحاكمة. وكانت التي قبل النطق بالحكم هي السبة العظمى في القانون اليهودي، ودلالة قاطعة على أن المحاكمة كانت على مستوى التشفي. (كثيرين تساءلوا لماذا لم يدر المسيح الخد الآخر حينما لُطم على الخد الأول؟ يرد على ذلك القديس أغسطينوس قائلاً: [إن وصايا المسيح لا تتتم بالجسد، ولكن باستعداد القلب, لأنه يمكن أن إنساناً غاضباً حاقداً يحول الخد الآخر. ولكن كم يكون من الأفضل للإنسان أن يكون في ملء السلام الداخلي، ليرد بجواب فيه الحق, وبهدوء الفكر يمسك نفسه باستعداد لاحتمال آلام أكثر تأتي عليه].)
لماذا؟ إشعياء يتأمل ويتعجب والروح يجيب!
+ «مخزول من الناس، رجل أوجاع, ومختبر الحزن... محتقر فلم نعتد به!
نحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً...
لكن: أحزاننا حملها, وأوجاعنا تحملها, .. مجررح لأجل معاصينا, مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره (كدمات أو رضوض أو سحق) شُفينا! ظُلم, أما هو فتذلل, ولم يفتح فاه؛ كشاة تُساق إلى الذبح...
ضُرت من أجل ذنب شعبي... على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش!
أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم.» (إش3:53-10)
الأن أدركت لماذا ضُرب المسيح بالكف على وجهه, فأسرع ينفي عن نفسه نفياً باتاً أنه يستحق اللطم! لكي يصير عار اللطم الذي كان علي أن أحتمله, احتمله وجهه ثمناً مدفوعاً عن عاري أنا, وأتبرأ عن اللطم الذي أستحقه لتأديبي، ألم يقل إشعياء، «تأديب سلامنا عليه» (إش53:5)
الآن فهمت لماذا عرض المسيح وجهه للبصاق!! إنه ثمن فضيحتي الذي ستر به خزيي. اقشعري يا نفسي وارتعدى, فعارك حمله على وجهه لطماً وبصاقاً، ليجعلك بلا لوم أمامه. ليس مجاناً اغتسلنا بل تقدسنا بل تبررنا, بل بالثمن الغالي الذي تقشعر منه السماء والأرض معاً.
أربعون جلدة إلا واحدة, تحملها على ظهره الغض بتأوهات وأنين وآلام مبرحة, واللحم يتهرأ والدم يتفجر, والعقوبة أصلاً هي عقوبتى, فالجناية جنايتى, والذنب ذنبي, والتعدي صنعته حماقتي.
ذوبي يا نفسي خجلاً, وانطرحي إلى الأرض, وعفري وجهك بالتراب, فالثمن المدفوع لتبرئتك لا تطيقه السماء, والأرض كلها تميد من تحته!
هذه الأية ليس موضعها هنا، لكنها أتت استدراكية، استدرك بها الكاتب ما كان يجب أن يقوله قبل البدء في المحاكمة أمام قيافا قبل الآية: «فسأل رئيس الكهنة يسوع...» (يو19:18)، لأن حنان أنهى تحقيقاته المبدئية قبل أن يرسله «موثقاً» إلى قيافا. وكلمة «موثقاً» هي الإشارة الوحيدة للادانة.
وإلى هنا تكون قد تمت التحقيقات المبدئية أمام «حنان» شكلياً، ثم التحقيقات التسجيلية في مضابط الجلسة أمام قيافا ومجلس السنهدريم. على أن التقليد اليهودي والتقليد المسيحي معاً، لا يقول أي منهما أن المسيح حوكم أمام السنهدريم رسمياً، وهي التحقيقات التي انتهت بتمزيق رئيس الكهنة ثوبه إعلاناً عن تجديف سجله على المسيح زوراً، وأشهد عليه السنهدريم, وهيج الأعضاء، فقاموا على المسيح وصنعوا به كل ما أرادوا. وهذا جاء في إنجيل القديس مرقس من الآية 55 حتى الآية 65 من الأصحاح الرابع عشر.
هذا الإنكار هو الثاني لبطرس، وقد تم في نهاية التحقيقات أمام حنان، وكان الداعي لهذا الانكار هو بمناسبة ظهور الممسيح موثقاً، وهو يمر محروسا بالخدم مم مكان حنان إلى مكان قيافا، إذ كانت فرصة جديدة للخدم، لإعادة النظر في هذا الغريب الجالس وسطهم دون أن يتعرفوا عليه.
هنا تظهر إمكانيات القديس يوحنا في التعرف على أهل بيت رئيس الكهنة وخدامه, التي تشير إلى احتمال شديد للقرابة أكثر منها للمعرفة عند بيت رئيس الكهنة. كانت هذه اللفتة من نسيب ملخس مرعبة بالنسبة للقديس بطرس، لذلك أسرع في النفي.
هذا هو الإنكار الثالث لبطرس، والآن وقد تم العدد المتفق عليه، إذ صاح الديك بالفعل! هنا، في هذه اللحظة, كانت قد تمت المحاكمة أمام قيافا والسنهدريم، وخرج يسوع موثقاً في طريقه لبيلاطس، وكان لابد أن يمر بالفسحة التى في الدور الأرضي التي كان بطرس واقفاً فيها مع الخدم يصطلي. وكان تدبير الله للخلاص أن مر الرب بجوار القديس بطرس في اللحظة التي أنكر فيها، فصاح الديك، ونظر إليه، فانتبه بطرس وقرأ ما في عيني الرب، هذا بحسب إنجيل القديس لوقا: «فقال بطرس: يا إنسان، لست أعرف ما تقول. وفي الحال, بينما هو يتكلم صاح الديك. فالتفت الرب ونظر إلى بطرس. فتذكر بطرس كلام الرب، كيف قال له إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات، فخرج بطرس إلى خارج، وبكى بكاء مراً.» (لو60:22-62)
أما القديس يوحنا, فبحسب أسلوبه المحافظ جداً, لم يشأ أن يورد أي إشارة لإدانة القديس بطرس، أو الحط من كرامته, شأنه في ذلك مع بطرس شأنه مع جميع التلاميذ الذين كانوا موضع تكريم دائماً في إنجيل القديس يوحنا.
وواضح أن اهتمام القديس يوحنا في تسجيل حادثة إنكار بطرس، ومثل تسجيله لبقية الحوادث، كان منصباً على توجيه النظر ناحية لاهوت المسيح، وكيف تم ما قاله المسيح لبطرس بالحرف الواحد: «وقلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون.» (يو29:14)
«لا تحرف حق فقيرك في دعواه. ابتعد عن كلام الكذب، ولا تقتل البريء والبار، لأني لا أبرر المذنب.» (خر6:23-7)
»هكذا قال رب الجنود قائلاً: اقضوا قضاء الحق واعملوا إحساناً ورحمة، كل إنسان مح أخيه، ولا تظلموا... ولا يفكر أحد منكم شراً على أخيه فى قلبكم, فأبوا أن يصغوا، وأعطوا كتفاً معاندة, وثقلوا آذانهم عن السمح... فجاء غضب عظيم من عند رب الجنود. فكان كما نادى هو، فلم يسمعوا، كذلك ينادون هم فلا أسمع، قال رب الجنود، وأعصفهم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم. فخربت الأرض وراءهم, لا ذاهب ولا آئب، فجعلوا الأرض البهجة خراباً.» (زك9:7-14)
في ختام رواية محاكمة المسيح أمام رؤساء الكهنة, ومجلس السنهدريم من الباطن , لا نعثر على قرار واضح أجرى عليه التصويت، ولا حتى إجراءات قانونية واضحة. وهذا ما لا يخفى على القارىء, أن رؤساء الكهنة ومجلس السنهدريم لم يكن له أي سلطة قضائية للمحاكمة أو لإصدار قرارات في عهد الحكم الروماني: «لا يجوز لنا أن نقتل أحداً» (يو31:18). وكل ما عملوه هو الإنتهاء إلى قرار موحد يستطيعون تقديمه لبيلاطس، ليحكم لهم بمقتضاه، إن أمكن. فالمسألة كانت مجرد اجتهاد بالنسبة لهم، وقد استخدموا كافة وسائل الضغط والترغيب، ثم الإرهاب ليبلغوا إلى غايتهم
وقد كشف بيلاطس العوامل النفسية الواضحة والصارخة التي حركتهم ضد المسيح، والتي استخلصها من قضيتهم ودعواهم، فوق كل صراخهم وإدعاءاتهم: «لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً» (مر10:25). كما كشف بيلاطس على عدم استنادهم على أي أدلة واضحة أو صادقة لإقامة هذه الدعوى برمتها، وبالتالى المطالبة بصلبه.
1- شهادة بيلاطس ثلاث مرات بعدم وجود علة واحدة في المسيح (يو38:18؛ 4:19-6).
2- «وأى شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخاً قائلين ليصلب.» (مت23:27)
3- «فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً، بل بالحري يحدث شغب، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع قائلاً: إني بريء من دم هذا البار, أبصروا أنتم.» (مت24:27)
4- أتريدون أن اطلق لكم ملك اليهود.» (مر9:15)
5- «قد قدمتم إلي هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الإنسان عله مما تشتكون به عليه, ولا هيرودس أيضاً لأني أرسلتكم إليه. وها لا شيء يستحق الموت صٌنع منه.»(لو14:23-15)
6- «فقال لهم ثالثة: فأي شر عمل هذا؟ إني لا أجد فيه علة للموت.» (لو22:23)
ب- المحاكمة الثانية: أمام المحكمة المدنية. (28:18-16:19
الملك السماوي أمام الحاكم الروماني
يختص إنجيل القديس يوحنا بمفرده بالكشف عن التحقيقات الخاصة التي أجراها بيلاطس مع المسيح في غياب اليهود، وقد جاءت على مرتين (33:18-37؛ 8:19-11)
ولكننا نسمع عنها باختصار بالغ في رواية القديس متى 11:27. كما تأتي عرضاً كمسلمة من المسلمات الإيمانية العالية القيمة جداً في وصية القديس بولس الرسول الأخيرة لتيموثاوس هكذا: «أوصيك أمام الله الذي يُحيي الكل, والمسيح يسوع، الذي شهد لدى بيلاطس البنطي بالاعتراف الحسن» (اتي13:6). من هذا نستنتج أن القديس يوحنا يلزم أن يكون قد رافق المسيح ودخل معه دار الولاية، وربما كان هذا أسهل بكثير من دخوله مع المسيح دار رئيس الكهنة. كما يتضح ذلك أيضاً هن شرح للقديس يوحنا للغة بيلاطس سواء لليهود أو للمسيح، فقد كانت بوضوح واسهاب, في حين أن ما ورد في الثلاثة الأناجيل عما تم لدى بيلاطس كان باختصار وبدون ترتيب.
ورواية القديس يوحنا لمحاكمة المسيح لدى بيلاطس يمكن تقسيمها إلى فواصل واضحة؛ ما تم منها داخل دار الولاية (البريتوريون) وما تم منها خارج الدار:
الجزء الأول: خارج دار الولاية؛ وفيه طالب بيلاطس اليهود بنفاذ حكم الإعدام الذي نطقوه (28:18-32).
الجزء الثاني: داخل دار الولاية؛ «الاعتراف الحسن». المسيح ملك (33:18-37).
الجزء الثالث: خارج دار الولاية؛ الإعلان الأول عن براءة المسيح؛ وموضووع باراباس (38:18-40).
الجزء الرابع: داخل دار الولاية؛ الحكم بالجلد والاستهزاء الأول (1:19-3).
الجزء الخامس:خارج دار الولاية؛ الإعلان الثاني والثالث عن براءة المسيح: «هوذا الإنسان»,«ابن الله»(4:19-7).
الجزء السادس: داخل دار الولاية؛ مصدر السلطان والخطية الأعظم (8:19-11).
الجزء السابع: خارج دار الولاية؛ تهديد القاضي, يحيا قيصر, وليمت المسيح (12:19-16).
الجزء الأول من سير القضية
خارج دار الولاية (28:18-32)
بيلاطس واليهود. المطالبة بالإعدام والرد بالرفض 28:18 ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ.
إن آخر مرحلة عبر عليها المسيح في المحاكمة لدى رئيس الكهنة كانت باشتراك جميع رؤساء الكهنة وشيوخ إلشعب حيث قرروا قتله، وذلك حسب رواية إنجيل القديى متى: «ولما كان الصباح، تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه، ومضوا به، ودفعوه إلى بيلاطس البنطى الوالي.» (مت1:27-2)
كانت أحكام اليهود, مهما أخذت من رسميات, بلا قوة وغير قابلة للتنفيذ بدون السلطة الرومانية. أما دار الولاية, فبالرغم من أنه كان لها مقر رسمي في قصر خاص كان قد بناه هيرودس الملك على التلال الغربية الشمالية لمدينة أورشليم، إلا أن المعروف أن بيلاطس كان مقرة المؤقت في قلعة أنطونيا في الشمال الشرقي، لأن مقره الدائم كان في مدينة قيصرية. إلا أنه كان ينتقل من مقره الرسمي إلى أورشليم في الأعياد، ليشرف بنفسه على الأمن والنظام، لأن المدينة حينذاك تكون مكتظة باليهود الآتين من الشتات، الذين بيلخ عددهم في الفصح ما يقرب من ثلاثة ملايين.
«وكان صبح (الفجر)»: هذا التعبير الروماني يقابله في تقسيم الزمن اليهودي، الهزيع الرابع من الليل (ويبدأ من الساعة الثالثة بعد نصف الليل حتى الساعة السادسة صباحاً). ومعروف في القانون اليهودي أنه تحظر إصدار حكم بالموت أثناء الليل.
وهكذا عُقد السنهدريم بكامل هيئته في الصباح، ليوافقوا على حكم الليل، لمجرد استيفاء الشكليات القانونية، وهذا هو العبث, عين العبث, بروح القانون.
ولكن ظل القرار الذي أخذوه بالإجماع في الصباح مخالفاً لنص القانون اليهودي، وهو أن حكماً بالموت لا يصدر في يوم المحاكمة، إذ لا بد أن يؤجل إلى يوم آخر غير يوم المحاكمة. ولكنهم، باعتبارهم الهيئة العليا المهيمنة على الشئون القانونية، أعطت لنفسها الحرية أن تعبث بالقانون، ظناً منها أنه لن يوجد من يؤاخذها. ولكن العالم كله، وكل جيل, وفي كل أمة، يشهد الآن على فساد ذمة القضاة اليهود الذين تولوا الحكم على يسوع.
ذهبوا إلى دار الولاية في وقت مبكر للغاية، مع أن القانون الروماني ينص على انعقاد المحكمة بعد شروق الشمس على كل حال. ولكن يبدو أنهم كانوا على ميعاد مع بيلاطس, وأنه هو الذي أرسل الحامية العسكرية. ومعروف أن حنان, أغنى أغنياء اليهود, كان على صلة بكل الذين في دار الولاية، وأنه كان يرشو الجمع بالأموال. ولكن بيلاطس ظلق محتفظاً برأيه فيما يختص بالحدود التي تفصل بين قضاء اليهود والقضاء الروماني.
«ولم يدخلواه لكي لا يتنجسواء فيأكلون الفصح»: كانوا يخشون نجاسة الجسد، ولا يخشون سفك دم بريء!! وصح فيهم قول المسيح أنهم: «يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل.» (مت24:23).
قبل أن نخوض في إثبات تقليد إنجيل القديس يوحنا في كون المسيح ذُبح في يوم 14 نيسان، وهو ميعاد ذبح الخروف، يلزم أن نوضح الآتي:
أولاً: ذبح خروف الفصح، حسب الناموس، يكون في يوم4 ا نيسان قبل الغروب بين العشائين, أي من الساعة الثالثة حتى الساعة السادسة بالتوقيت الإفرنجي.
ثانياً: اليوم اليهودي يبدأ من بعد غروب الشمس حتى غروب الشمس في اليوم التالي (أربع وعشرون ساعة).
ثالثاً: يوم ذبح الخروف يُسمى يوم الفصح, أو عيد الفصح, وهو 14 نيسان. واليوم الذي يليه وهو 15 نيسان يسمى أول أيام العيد، وهو أول أيام عيد الفطير، وفيه محفل رسمي. ففي يوم الفصح يُذبح الخروف وقت الغروب. ويكون أكل الفصح بعد الغروب، أي يدخل في يوم 15 نيسان، وهو أول يوم لعيد الفطير.
بعد يوم 14 نيسان يبدأ أسبوع الفصح الذي لا يؤكل فيه خمير قط بل فطير، ويسمى عيد الفطير. ولكن عدد أيام أكل الفطير هي 6 أيام, لأن في يوم 4 ا نيسان يُقطع الخمير، ويُصنع الفطير.
خامساً: بحسب رواية الثلاثة الأناجيل، يبدو أن المسيح صنع العشاء الأخير في غروب يوم الفصح نفسه, ي في 14 نيسان، وأنه صُلب ثاني يوم, أي أنه في 15 نيسان بدأ عيد الفطير.
سادساً: بحسب رواية إنجيل القديس يوحنا، يبدو أن المسيح صنع العشاء الأخير قبل يوم الفصح، لأنه يعلم أنه هو نسه سيكون خروف الفصمح: «حمل الله الذي يرفع خطايا العالم» (يو29:1)، وأنه صُلب يوم 14 نيسان، وهو يوم ذبح الخروف, عن علم سابق وقصد. والمسيح بذلك يكون قد ألغى الفصح اليهودي بذبح الخروف، وأسس الفصح المسيحي بذبح نفسه. وهذا تؤكده شهادة بولس الرسرل القوية: «لأن فصحنا أيضاً المسيح, قد ذُبح لأجلنا, إذاً لنعيد ليس بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق.»(اكو7:5-8)
سابعاً: إمكانية التوفيق بين رواية الثلاثة الأنا جيل ورواية إنجيل القديس يوحنا قام بها كثير من العلماء، وأثبتوا صحة الروايتين، محاولين التوفيق بينهما:
1- فمثلاً في الثلاثة الأناجيل، وفي إنجيل القديس يوحنا، معروف أن ليلة العشاء الأخير كانت هي ليلة التسليم.
2- من رواية القديس لوقا، يتضح أن القيامة حدثت يوم الأحد. ومعروف أن الكنيسة عيد يوم الخمسين بحسب سفر الأعمال (الذي هو ملحق لإنجيل لوقا) من تلك السنة إلى اليوم بعد خمسين يوماً وكان يوم الأحد ولا يزال. ومعروف في الناموس أن حساب يوم الخمسين هو بعد خمسين يوماً بعد أول سبت من عيد الفصح مباشرة. وعيد الفصح سنة صلب المسيح، إذا حسبناه يوم السبت أي بحساب الخمسين يوماً يكون 14 نيسان هو يوم الجمعة ميعاد ذبح الخروف، وهكذا يتفق إنجيل لوقا مع إنجيل يوحنا تماماً. «ثم تحسبون لكم من غد السبت (أول سبت بعد عيد الفصح)، من يوم إتيانكم بحزمة الترديد, سبعة أسابيع تكون كاملة، إلى غد السبت السابع, تحسبون خمسين يوماً، ثم تقربون تقدمة جديدة للرب ... وتنادون في ذلك اليوم عينه محفلاً مقدساً يكون لكم» (لا15:23-21)، وهو عيد الخمسين.
3- معروف أن المسيح صنع عشاء الفصح في بداية يوم رفع الخمير وبدء الفطير، يوم 14 نيسان، لأن هذا اليوم يبدأ بعد غروب يوم 13 نيسان (الخميس) مباشرة. وفي هذا اليوم صنع العشاء الأخير 13-14 نيسان, بدأه في غروب الخميس وأكمله في دخول الجمعة، وفي منتصف نهار 14 نيسان رُفع على الصليب. إذن، فالمسيح أكمل العشاء الأخير في الساعات الأولى من 14 نيسان، وقدم ذبيحة نفسه على الصليب في الساعات الأخيرة ليوم الفصح 14 نيسان أيضاً. ومن هذا يتضح أن اللبس في مفهوم عشاء الخميس وفصح الجمعة هو بسبب عدم فهمنا لنظام توقيت اليهود؛ لأن يوم الخميس، بحسب التوقيت الإفرنجي الآن، ينتهي في منتصف ليلة الخميس عشية الجمعة؛ أما بحسب توقيت اليهود، فيوم الخميس ينتهي الساعة السادسة في غروب شمس يوم الخميس عشية الجمعة. لذلك حينما نقول إن العشاء الأخير تأسس في مساء الخميس، يكون هذا التعبير مسارياً للتعبير اليهودي أن العشاء الأخير تأسس في الساعات الأولى من يوم الجمعة الذي يبدأ بعد غروب شمس الخميس مباشرة.
4- التلمود اليهوي، سجل فيه اليوم الذي صُلب فيه المسيح هكذاا: [أن يسوع عُلق على خشبة في مساء الفصح].
5- قول المسيح في إنجيل متى: «المعلم يقول إن وقتي قريب, عندك أصنع الفصح مع تلاميذي» (مت17:26). فكلمة: «وقتي قريب», يتضح من هذا التعبير ان الرب لا يقصد الفصح الرسمي بل عشاء فصحياً يصنعه تحت اضطرار عدم إمكانية إقامة الفصح الرسمي مع التلاميذ بسبب «وقتي قريب»، أي أن «الساعة» ستكون هي ساعة ذبح الحروف، وقد صنعه خصيصاً ليؤسس فيه سر دمه وجسده.
6- قول المسيح: «شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم، قبل أن أتألم، لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى يُكمل في ملكوت الله» (لو15:22-16). ومن هذا التعبير يتضح أن الرب، وهو عالم أنه لن يأكل هذا الفصح رسميا مع تلامنذه، صنع هو هذا الفصح مسبقاً, ليؤسس فيه سر الشكر والحب، لأن هذه هي شهوته الحقيقية.
7- هذا كله، يكشف سره ويوضحه توضيحاً بليغاً القديس يوحنا في تسجيله لهذا العشاء: «أما يسوع قبل عيد الفصح, وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إل الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إل المنتهى، فحين كان العشاء ...» (يو1:13-2). هنا يأتي تصريح القديس يوحنا القاطع، أن المسيح صنع الفصح الخاص الذي قدم فيه جسده ودمه سراً للعالم، قبل أن يصنعه عملياً وعلنا على الصليب. وكان بالفعل يتحتم أن يكون ذلك قبل عيد القمح، فإن كان كلا الفصحين واحداً، ففصح الخميس يقدم أعظم شرح لما تم في فصح الجمعة، وسر فصح الخميس يستمد قوته وفعله من فصح الجمعة. وكان يستحيل على الكنيسة أن تفهم فصح الصليب أو تنتفع به، إلا بتأسيس فصح الخميس!!
8- واضح من تسمية الخبز الذي أخذه المسيح عل يده باعتباره جسده أنه خبز خمير: «خبز»، وليس «فطيراً»، في حين أنه في يوم الفصح يتحتم تحتيما أن يكون فطيراً، والكنيسة المسيحية لا تزال تستخدم الخبز المختمر، وحتى الكنيسة الكاثوليكية كانت تستخم الخبز الخمير وليس «البرشامة» (الفطير) حتى القرن الحادي عشر.
9- لم يُذكر في طقس عشاء الرب، في الثلاثة الأناجيل، المكونات الأساسية لعشاء الفصح الرسمي، وهي الأعشماب المرة والخروف.
10- استخدم كأس واحد من الخمر، مر على الجميع، في حين أن طقس عشاء الفصح الرسمي يتحتم أن يكون في يد كل واحد كأساً، أثناء بدء قراءة خدمة الفصح.
11- ذهاب المسيح من أورشليم إلى جثسيماني خارج المدينة، هو ممنوع يوم العيد.
12- حمل بطرس سيفاً، هو أمر محرم قطعاً يوم العيد.
13- مجيء سمعان القيرواني من الحقل، وهو الذي سخروه لحمل الصليب، يعني أنه كان يعمل في ذلك اليوم، وهو أمر محرم قطعاً يوم العيد.
14- شراء يوسف الرامي الكتان والحنوط، أمر مستحيل يوم العيد, فلا محلات مفتوحة, ولا سماح للبيع والشراء في يوم العيد.
15- مكتوب في إنجيل القديس يوحنا: «وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة فقال اليهود هوذا ملككم» (14:19)، «ثم إذ كان استعداد، فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت ... » (31:19). هذا هو الاستعداد «الجمعة» الذي يسبق الفصح.
وهنا ينقسم العلماء إلى مجموعتين: مجموعة تقول بأن «أكل الفصح» (يو28:18) عند القديس يوحنا هو ذبح الخروف الفصحي، بينما العشاء الفصحي هو يوم الجمعة 14 نيسان. وهذه المجموعة يتبعها بعض الآباء القديسين الذين شرحوا إنجيل القديس يوحنا مثل القديس كيرلس الكبير ومن العلماء: ماير، كييم، دي برسانسيه، بو ير، نياندر(حاخام يهودي متنصر)، إبرارد، إيفالد، وستكوت, جوديه، لوكه وآخرون.
أما المجموعة الأخرى فتقول بأن يوم الصلب ليس هو يوم الفصح 14 نيسان، بل إن يوم الفصح هو 15 نيسان, وأن يوم الجمعة هذا يتبع الفصح فقط وهو المخمتص لأكل «الشجيجة»، وليس الفصح، وهي ذبيحة سلامة إضافية للعيد، وهؤلاء لا يعنوننا، لأننا نعتقد أن الرأي الأول هو الأصح.
قول للقديس كيرلس الكبير في هذا المعنى: [«اقضوا قضاء عادلاً ولا تقتلوا البريء ولا البار»، كان هذا نص الناموس. ولكن هؤلاء البؤساء لم يخجلوا، كون أدلة الإتهام لم تسعفهم ليقيموا دعواهم ضد المسيح، بل إذ وجدوا أن قيامهم أصلاً ضد المسيح بلا سبب، واذ هم ممنوعون من قتله بأيديهم, وقد اقترب ميعاد ذبح الكفارة, فإذ قرب ميعاد ذبح خروف الفصح بحسب الناموس, ولو أنهم كانوا فاقدين قوته, أحضروه إلى بيلاطى معتقدين بجنونهم أنهم لن يحملوا وزر إهراق دمه ظلماً ما داموا لم يسفكوا دمه بأيديهم، فأحضروه ليُقتل بيد آخر؛ مع أن الذي أضمروه في قلوبهم مخالف بجملته لقانون موسى.]
واضح هنا أن القديس كيرلس الكبير يقول بأن يوم صلب المسيح هو 14 نيسان ميعاد ذبح الخروف.
والسبب الأول على أن قول القديس يوحنا هو ما يخص أكل الفصح الرسمى وأن اليهود لم يدخلوا دار الولاية لئلا يتنجسوا فيمتنع عليهم أكل الفصح الرسمي, هر أن معظمهم كان رؤساء كهنة وكهنة، وهم المنوط بهم ذبح خروف الفصح باعتباره عملاً طقسياً رسمياً في الهيكل. فالأمر لا يختص بالأكل فقط ولا كان مجرد الاستحمام بعد غروب الشمس يعطيهم حق الأكل من الفصح، ولكن الذي منعهم بالفعل هو خوفهم من تعطيل طقس ذبح الخروف الذي يتحتم أن يكون في الغروب. فإذا تنجسوا, امتنع عليهم الاقتراب من طقس الذبح حتى إلى ما بعد الغروب.
أما السبب الثاني الذي يؤكد أن يوم الجمعة هذا هو يوم الفصح 14 نيسان, الذي يُذبح فيه الخروف، فهو أنه يتعذر، بل ويستحيل أن يكون يوم الخميس وهو يوم القبض على المسيح ومحاكمته طول الليل، هو اليوم الذي يذبحون فيه الفصح, لأن هذا معناه أن صلب المسيح يكون بالتالى في العيد (15 نيسان)، الأمر الذي تحاشاه اليهود ما أمكن.
السبب الثالث: يلاحظ أن رؤساء الكهنة ومجمع السنهدريم أرادوا أن يتحاشوا إمدار حكمهم بموت المسيح، حسب الأصول القضائية الناموسية، ثاني يوم بعد التحقيق, لئلا يكون ذلك في العيد 15 نيسان، فاضطروا اضطراراً أن يصدروه في نفس يوم التحقيق 14 نيسان في الفجر، مخالفين بذلك قواعد الناموس، ولكن عن اضطرار تورطوا فيه.
الجزء الأول من سير القضية
خارج دار الولاية (28:18-32)
بيلاطس واليهود. المطالبة بالإعدام والرد بالرفض 28:18 ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ.
إن آخر مرحلة عبر عليها المسيح في المحاكمة لدى رئيس الكهنة كانت باشتراك جميع رؤساء الكهنة وشيوخ إلشعب حيث قرروا قتله، وذلك حسب رواية إنجيل القديى متى: «ولما كان الصباح، تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه، ومضوا به، ودفعوه إلى بيلاطس البنطى الوالي.» (مت1:27-2)
كانت أحكام اليهود, مهما أخذت من رسميات, بلا قوة وغير قابلة للتنفيذ بدون السلطة الرومانية. أما دار الولاية, فبالرغم من أنه كان لها مقر رسمي في قصر خاص كان قد بناه هيرودس الملك على التلال الغربية الشمالية لمدينة أورشليم، إلا أن المعروف أن بيلاطس كان مقرة المؤقت في قلعة أنطونيا في الشمال الشرقي، لأن مقره الدائم كان في مدينة قيصرية. إلا أنه كان ينتقل من مقره الرسمي إلى أورشليم في الأعياد، ليشرف بنفسه على الأمن والنظام، لأن المدينة حينذاك تكون مكتظة باليهود الآتين من الشتات، الذين بيلخ عددهم في الفصح ما يقرب من ثلاثة ملايين.
«وكان صبح (الفجر)»: هذا التعبير الروماني يقابله في تقسيم الزمن اليهودي، الهزيع الرابع من الليل (ويبدأ من الساعة الثالثة بعد نصف الليل حتى الساعة السادسة صباحاً). ومعروف في القانون اليهودي أنه تحظر إصدار حكم بالموت أثناء الليل.
وهكذا عُقد السنهدريم بكامل هيئته في الصباح، ليوافقوا على حكم الليل، لمجرد استيفاء الشكليات القانونية، وهذا هو العبث, عين العبث, بروح القانون.
ولكن ظل القرار الذي أخذوه بالإجماع في الصباح مخالفاً لنص القانون اليهودي، وهو أن حكماً بالموت لا يصدر في يوم المحاكمة، إذ لا بد أن يؤجل إلى يوم آخر غير يوم المحاكمة. ولكنهم، باعتبارهم الهيئة العليا المهيمنة على الشئون القانونية، أعطت لنفسها الحرية أن تعبث بالقانون، ظناً منها أنه لن يوجد من يؤاخذها. ولكن العالم كله، وكل جيل, وفي كل أمة، يشهد الآن على فساد ذمة القضاة اليهود الذين تولوا الحكم على يسوع.
ذهبوا إلى دار الولاية في وقت مبكر للغاية، مع أن القانون الروماني ينص على انعقاد المحكمة بعد شروق الشمس على كل حال. ولكن يبدو أنهم كانوا على ميعاد مع بيلاطس, وأنه هو الذي أرسل الحامية العسكرية. ومعروف أن حنان, أغنى أغنياء اليهود, كان على صلة بكل الذين في دار الولاية، وأنه كان يرشو الجمع بالأموال. ولكن بيلاطس ظلق محتفظاً برأيه فيما يختص بالحدود التي تفصل بين قضاء اليهود والقضاء الروماني.
«ولم يدخلواه لكي لا يتنجسواء فيأكلون الفصح»: كانوا يخشون نجاسة الجسد، ولا يخشون سفك دم بريء!! وصح فيهم قول المسيح أنهم: «يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل.» (مت24:23).
قبل أن نخوض في إثبات تقليد إنجيل القديس يوحنا في كون المسيح ذُبح في يوم 14 نيسان، وهو ميعاد ذبح الخروف، يلزم أن نوضح الآتي:
أولاً: ذبح خروف الفصح، حسب الناموس، يكون في يوم4 ا نيسان قبل الغروب بين العشائين, أي من الساعة الثالثة حتى الساعة السادسة بالتوقيت الإفرنجي.
ثانياً: اليوم اليهودي يبدأ من بعد غروب الشمس حتى غروب الشمس في اليوم التالي (أربع وعشرون ساعة).
ثالثاً: يوم ذبح الخروف يُسمى يوم الفصح, أو عيد الفصح, وهو 14 نيسان. واليوم الذي يليه وهو 15 نيسان يسمى أول أيام العيد، وهو أول أيام عيد الفطير، وفيه محفل رسمي. ففي يوم الفصح يُذبح الخروف وقت الغروب. ويكون أكل الفصح بعد الغروب، أي يدخل في يوم 15 نيسان، وهو أول يوم لعيد الفطير.
بعد يوم 14 نيسان يبدأ أسبوع الفصح الذي لا يؤكل فيه خمير قط بل فطير، ويسمى عيد الفطير. ولكن عدد أيام أكل الفطير هي 6 أيام, لأن في يوم 4 ا نيسان يُقطع الخمير، ويُصنع الفطير.
خامساً: بحسب رواية الثلاثة الأناجيل، يبدو أن المسيح صنع العشاء الأخير في غروب يوم الفصح نفسه, ي في 14 نيسان، وأنه صُلب ثاني يوم, أي أنه في 15 نيسان بدأ عيد الفطير.
سادساً: بحسب رواية إنجيل القديس يوحنا، يبدو أن المسيح صنع العشاء الأخير قبل يوم الفصح، لأنه يعلم أنه هو نسه سيكون خروف الفصمح: «حمل الله الذي يرفع خطايا العالم» (يو29:1)، وأنه صُلب يوم 14 نيسان، وهو يوم ذبح الخروف, عن علم سابق وقصد. والمسيح بذلك يكون قد ألغى الفصح اليهودي بذبح الخروف، وأسس الفصح المسيحي بذبح نفسه. وهذا تؤكده شهادة بولس الرسرل القوية: «لأن فصحنا أيضاً المسيح, قد ذُبح لأجلنا, إذاً لنعيد ليس بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق.»(اكو7:5-8)
سابعاً: إمكانية التوفيق بين رواية الثلاثة الأنا جيل ورواية إنجيل القديس يوحنا قام بها كثير من العلماء، وأثبتوا صحة الروايتين، محاولين التوفيق بينهما:
1- فمثلاً في الثلاثة الأناجيل، وفي إنجيل القديس يوحنا، معروف أن ليلة العشاء الأخير كانت هي ليلة التسليم.
2- من رواية القديس لوقا، يتضح أن القيامة حدثت يوم الأحد. ومعروف أن الكنيسة عيد يوم الخمسين بحسب سفر الأعمال (الذي هو ملحق لإنجيل لوقا) من تلك السنة إلى اليوم بعد خمسين يوماً وكان يوم الأحد ولا يزال. ومعروف في الناموس أن حساب يوم الخمسين هو بعد خمسين يوماً بعد أول سبت من عيد الفصح مباشرة. وعيد الفصح سنة صلب المسيح، إذا حسبناه يوم السبت أي بحساب الخمسين يوماً يكون 14 نيسان هو يوم الجمعة ميعاد ذبح الخروف، وهكذا يتفق إنجيل لوقا مع إنجيل يوحنا تماماً. «ثم تحسبون لكم من غد السبت (أول سبت بعد عيد الفصح)، من يوم إتيانكم بحزمة الترديد, سبعة أسابيع تكون كاملة، إلى غد السبت السابع, تحسبون خمسين يوماً، ثم تقربون تقدمة جديدة للرب ... وتنادون في ذلك اليوم عينه محفلاً مقدساً يكون لكم» (لا15:23-21)، وهو عيد الخمسين.
3- معروف أن المسيح صنع عشاء الفصح في بداية يوم رفع الخمير وبدء الفطير، يوم 14 نيسان، لأن هذا اليوم يبدأ بعد غروب يوم 13 نيسان (الخميس) مباشرة. وفي هذا اليوم صنع العشاء الأخير 13-14 نيسان, بدأه في غروب الخميس وأكمله في دخول الجمعة، وفي منتصف نهار 14 نيسان رُفع على الصليب. إذن، فالمسيح أكمل العشاء الأخير في الساعات الأولى من 14 نيسان، وقدم ذبيحة نفسه على الصليب في الساعات الأخيرة ليوم الفصح 14 نيسان أيضاً. ومن هذا يتضح أن اللبس في مفهوم عشاء الخميس وفصح الجمعة هو بسبب عدم فهمنا لنظام توقيت اليهود؛ لأن يوم الخميس، بحسب التوقيت الإفرنجي الآن، ينتهي في منتصف ليلة الخميس عشية الجمعة؛ أما بحسب توقيت اليهود، فيوم الخميس ينتهي الساعة السادسة في غروب شمس يوم الخميس عشية الجمعة. لذلك حينما نقول إن العشاء الأخير تأسس في مساء الخميس، يكون هذا التعبير مسارياً للتعبير اليهودي أن العشاء الأخير تأسس في الساعات الأولى من يوم الجمعة الذي يبدأ بعد غروب شمس الخميس مباشرة.
4- التلمود اليهوي، سجل فيه اليوم الذي صُلب فيه المسيح هكذاا: [أن يسوع عُلق على خشبة في مساء الفصح].
5- قول المسيح في إنجيل متى: «المعلم يقول إن وقتي قريب, عندك أصنع الفصح مع تلاميذي» (مت17:26). فكلمة: «وقتي قريب», يتضح من هذا التعبير ان الرب لا يقصد الفصح الرسمي بل عشاء فصحياً يصنعه تحت اضطرار عدم إمكانية إقامة الفصح الرسمي مع التلاميذ بسبب «وقتي قريب»، أي أن «الساعة» ستكون هي ساعة ذبح الحروف، وقد صنعه خصيصاً ليؤسس فيه سر دمه وجسده.
6- قول المسيح: «شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم، قبل أن أتألم، لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى يُكمل في ملكوت الله» (لو15:22-16). ومن هذا التعبير يتضح أن الرب، وهو عالم أنه لن يأكل هذا الفصح رسميا مع تلامنذه، صنع هو هذا الفصح مسبقاً, ليؤسس فيه سر الشكر والحب، لأن هذه هي شهوته الحقيقية.
7- هذا كله، يكشف سره ويوضحه توضيحاً بليغاً القديس يوحنا في تسجيله لهذا العشاء: «أما يسوع قبل عيد الفصح, وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إل الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إل المنتهى، فحين كان العشاء ...» (يو1:13-2). هنا يأتي تصريح القديس يوحنا القاطع، أن المسيح صنع الفصح الخاص الذي قدم فيه جسده ودمه سراً للعالم، قبل أن يصنعه عملياً وعلنا على الصليب. وكان بالفعل يتحتم أن يكون ذلك قبل عيد القمح، فإن كان كلا الفصحين واحداً، ففصح الخميس يقدم أعظم شرح لما تم في فصح الجمعة، وسر فصح الخميس يستمد قوته وفعله من فصح الجمعة. وكان يستحيل على الكنيسة أن تفهم فصح الصليب أو تنتفع به، إلا بتأسيس فصح الخميس!!
8- واضح من تسمية الخبز الذي أخذه المسيح عل يده باعتباره جسده أنه خبز خمير: «خبز»، وليس «فطيراً»، في حين أنه في يوم الفصح يتحتم تحتيما أن يكون فطيراً، والكنيسة المسيحية لا تزال تستخدم الخبز المختمر، وحتى الكنيسة الكاثوليكية كانت تستخم الخبز الخمير وليس «البرشامة» (الفطير) حتى القرن الحادي عشر.
9- لم يُذكر في طقس عشاء الرب، في الثلاثة الأناجيل، المكونات الأساسية لعشاء الفصح الرسمي، وهي الأعشماب المرة والخروف.
10- استخدم كأس واحد من الخمر، مر على الجميع، في حين أن طقس عشاء الفصح الرسمي يتحتم أن يكون في يد كل واحد كأساً، أثناء بدء قراءة خدمة الفصح.
11- ذهاب المسيح من أورشليم إلى جثسيماني خارج المدينة، هو ممنوع يوم العيد.
12- حمل بطرس سيفاً، هو أمر محرم قطعاً يوم العيد.
13- مجيء سمعان القيرواني من الحقل، وهو الذي سخروه لحمل الصليب، يعني أنه كان يعمل في ذلك اليوم، وهو أمر محرم قطعاً يوم العيد.
14- شراء يوسف الرامي الكتان والحنوط، أمر مستحيل يوم العيد, فلا محلات مفتوحة, ولا سماح للبيع والشراء في يوم العيد.
15- مكتوب في إنجيل القديس يوحنا: «وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة فقال اليهود هوذا ملككم» (14:19)، «ثم إذ كان استعداد، فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت ... » (31:19). هذا هو الاستعداد «الجمعة» الذي يسبق الفصح.
وهنا ينقسم العلماء إلى مجموعتين: مجموعة تقول بأن «أكل الفصح» (يو28:18) عند القديس يوحنا هو ذبح الخروف الفصحي، بينما العشاء الفصحي هو يوم الجمعة 14 نيسان. وهذه المجموعة يتبعها بعض الآباء القديسين الذين شرحوا إنجيل القديس يوحنا مثل القديس كيرلس الكبير ومن العلماء: ماير، كييم، دي برسانسيه، بو ير، نياندر(حاخام يهودي متنصر)، إبرارد، إيفالد، وستكوت, جوديه، لوكه وآخرون.
أما المجموعة الأخرى فتقول بأن يوم الصلب ليس هو يوم الفصح 14 نيسان، بل إن يوم الفصح هو 15 نيسان, وأن يوم الجمعة هذا يتبع الفصح فقط وهو المخمتص لأكل «الشجيجة»، وليس الفصح، وهي ذبيحة سلامة إضافية للعيد، وهؤلاء لا يعنوننا، لأننا نعتقد أن الرأي الأول هو الأصح.
قول للقديس كيرلس الكبير في هذا المعنى: [«اقضوا قضاء عادلاً ولا تقتلوا البريء ولا البار»، كان هذا نص الناموس. ولكن هؤلاء البؤساء لم يخجلوا، كون أدلة الإتهام لم تسعفهم ليقيموا دعواهم ضد المسيح، بل إذ وجدوا أن قيامهم أصلاً ضد المسيح بلا سبب، واذ هم ممنوعون من قتله بأيديهم, وقد اقترب ميعاد ذبح الكفارة, فإذ قرب ميعاد ذبح خروف الفصح بحسب الناموس, ولو أنهم كانوا فاقدين قوته, أحضروه إلى بيلاطى معتقدين بجنونهم أنهم لن يحملوا وزر إهراق دمه ظلماً ما داموا لم يسفكوا دمه بأيديهم، فأحضروه ليُقتل بيد آخر؛ مع أن الذي أضمروه في قلوبهم مخالف بجملته لقانون موسى.]
واضح هنا أن القديس كيرلس الكبير يقول بأن يوم صلب المسيح هو 14 نيسان ميعاد ذبح الخروف.
والسبب الأول على أن قول القديس يوحنا هو ما يخص أكل الفصح الرسمى وأن اليهود لم يدخلوا دار الولاية لئلا يتنجسوا فيمتنع عليهم أكل الفصح الرسمي, هر أن معظمهم كان رؤساء كهنة وكهنة، وهم المنوط بهم ذبح خروف الفصح باعتباره عملاً طقسياً رسمياً في الهيكل. فالأمر لا يختص بالأكل فقط ولا كان مجرد الاستحمام بعد غروب الشمس يعطيهم حق الأكل من الفصح، ولكن الذي منعهم بالفعل هو خوفهم من تعطيل طقس ذبح الخروف الذي يتحتم أن يكون في الغروب. فإذا تنجسوا, امتنع عليهم الاقتراب من طقس الذبح حتى إلى ما بعد الغروب.
أما السبب الثاني الذي يؤكد أن يوم الجمعة هذا هو يوم الفصح 14 نيسان, الذي يُذبح فيه الخروف، فهو أنه يتعذر، بل ويستحيل أن يكون يوم الخميس وهو يوم القبض على المسيح ومحاكمته طول الليل، هو اليوم الذي يذبحون فيه الفصح, لأن هذا معناه أن صلب المسيح يكون بالتالى في العيد (15 نيسان)، الأمر الذي تحاشاه اليهود ما أمكن.
السبب الثالث: يلاحظ أن رؤساء الكهنة ومجمع السنهدريم أرادوا أن يتحاشوا إمدار حكمهم بموت المسيح، حسب الأصول القضائية الناموسية، ثاني يوم بعد التحقيق, لئلا يكون ذلك في العيد 15 نيسان، فاضطروا اضطراراً أن يصدروه في نفس يوم التحقيق 14 نيسان في الفجر، مخالفين بذلك قواعد الناموس، ولكن عن اضطرار تورطوا فيه.
لا بد أن بيلاطس أخذ علمأ بعذر اليهود عن الدخول إلى دار الولاية، ولعلمه بتعصبهم العنيد لعوائدهم الدينية لم يشأ أن يرغمهم, بل خرج هو خارج دار الولاية، وبدأ يستجوبهم بشيء من الرسمية.
«أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان»: تعبير يحمل كثيراً من المعاني والأحاسيس، فهو أولاً يعرف موضوع هذه القضية جيداً، فهو الذي أصدر الأمر للقائد بالقبض على يسوع بناء على طلب وإلحاح من رؤساء الكهنة، وكان سلوك القائد يدل على أنه كان هناك توصية خاصة بترحيل المقبوض عليه إلى المكان الذي عينه اليهود «بيت حنان»، وهو بيت غيررسمي. ولكن معروف أن هناك علاقات بين هذا الرئيس المتقاعد وكل الهيئات الرسمية.
والسؤال هنا، لماذا يبدو بيلاطس وكأنه يتجاهل القضية برمتها؟ بل وسؤاله يحمل شيئاً من الارتياب في نيات اليهود، بل ومن قويه: «هذا الإنسان» يبدو وكأنه يعطف نوعاً ما على وضعه.
هنا يفيدنا أن نأتي بقول للقديس متى، له وزنه: «وإذ كان جالساً على كرسي الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار. لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله» (مت19:27). إذن، فامرأة بيلاطس، وبالتالي كل أسرته، وشخصه أيضاً، يعرفون ماذا كان يجري من وراء الكواليس في الخفاء، ويعلمون من هو «هذا البار»، وهم قد سمعوا عنه الشيء الكثير والكثير! في سؤال بيلاطس شيء من الاستنكار لما عملوه واتفقوا عليه، ولكل الإتهامات التي لُفقت مسبقاً, وبلغت أسماع بيلاطس من بعيد. وقد ظل هذا السؤال على فم بيلاطس طوال المحاكمة، إذ لم يكن مقتنعاً قط بكل ما يقولونه ويطلبونه, والى أخر لحظة.
«بيلاطس»: هو خامس وال على البلاد (أي اليهودية، وهي الجزء الجنوبي من فلسطين وعاصمته أورشليم)، وذلك من سنة 26م وظل حتى سنة 36م. ويصفه العلامة فيلو اليهودي الإسكندري أنه (متغطرس، إنسان لا يمكن أن يُضط، يبغض العوائد اليهودية المتعصبة المتحيزة. وقد اشتبك كثيراً مع اليهود فأظهر طباعأ شرسة, له نوبات من الغضب الذي يثير أحاسيس الناس بقسوته، فمن الممكن أن يحكم بالإعدام بدون محاكمة وبدون اتهام، كما اشتهر أنه بلا إنسانية).
صُدم اليهود من سؤال بيلاطس، إذ لم يكونوا ستعدين لأي تردد, فكشفوا في الحال عن آخر ما في نيتهم من الأمر ملحين أن ينفذوا حكمهم، في اقتضاب وخشونة ووقاحة، وفي الحال كان رد بيلاطس على رغبتهم في الاستقلال برأيهم,ء أن: «خذوه أنتم واصنعوا به كل ما تريدون»، بجفاء أشد، ملمحاً إلى أن ناموسهم طالما هو مقيد, إذ كان ممنوعاً عليهم إصدار أحكام بالإعدام, إذا، فيلزم أن يخضعوا للقانون الروماني.
يكاد بيلاطس أن يسخر «بهم» و«بناموسهم»: «خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم»، إنما بشيء من التعال والغطرسة، في مقابل وقاحتهم.
واليهود، وذ ضيق عليهم الخناق هكذا، لم يكن أمامهم أي اختيار غير أن يعلنوا عن طلبهم ويقفوا عنده بعناد وإصرار، واختاروا من الاتهام ما يجعل بيلاطس ينتبه إلى خطورة مطلبهم, وإلى حتمية النظر فيه لأنه من صميم اختصاصه.
«لا يجوز لنا أن نقتل أحداً» : أما «القتل» فهو فعلاً من اختصاص المحكمة الرومانية وحدها. ولكن كان في اعتبارهم أنهم لم يأتوا إلى بيلاطس ليناقشهم في حكمهم الذي حكموا به وانتهوا منه، إنهم يطلبون التنفيذ وحسب! وعند هذه النقطة الحرجة للغاية، يتدخل القديس يوحنا، ويرفع عنا هذا الكابوس الضاغط على صدورنا نتيجة مسلك رؤساء الكهنة هذا، والذي بلغ هنا أقصى ما يحتمل بشر، وذلك بجملة إعتراضية:
لأنه معروف أن اليهود لو كانوا هم الذين نفذوا الحكم الذي انتهوا إليه بقتل المسيح، لتم ذلك بحب الناموس, «احكموا عليه حسب ناموسكم», رمجاً بالحجارة. ولكن المسيح أعلن مراراً أنه سيُصلب!! وبتعبير إنجيل القديس يوحنا أنه سيُرفع أو يرتفع عن الأرض، كما رفع موسى الحية النحاسية على العصا في البرية. وليس ذلك فقط، بل إن المسيح سبق وأعلن أن ابن الإنسان يُسلم لأيدي الأمم!! من هذا نفهم ونتأمل في أعاجيب سياسة الله. كيف دخلت الأمم في قلب الأمة اليهودية, وتعين بيلاطس على اليهودية حتى يشترك اليهود والامم, ممثلين عن العالم كله, في تقديم ذبيحة الفداء والخلاص عن اليهود وأمم العالم كله, كما هو مكتوب: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم, وابن الإنسان يُسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة, فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به, ويجلدوه، ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم» (مت18:20-19)، الأمر الذي تممه اليهود والأمم بالفعل والحرف الواحد!
وفي موت المسيح على الصليب، استعلن على الملأ كيف تنازل المسيح عن حياته متكبداً في ذلك أفدح الآلام والمهانة والمذلة، ليكمل كل عقوبة ممكنة عن كل من يستحق العقوبة، فيبرر مجاناً كل من يؤمن بهذا الصليب وآلامه! أما من وجهة نظر توراة اليهودى فقد أكمل اللعنة التي ينبغي أن يتحملها الإنسان وحده كميراث آدميته، لما عُلق على الخشبة!!
عجيب هو هذا القديس يوحنا الإنجيلي, كيف استطاع في هذه اللحظة التي اشتبكت فيها السياسة اليهودية مع السلطة الرومانية لتقدح منها نار الغضب مع الكبرياء, والتعصب مع العنف, فيفك هذا الاشتباك المعقد المفزع بأن يرده إلى سر الخلاص والفداء، وحتمية الصلح بالصليب؛ كما رسمها المسيح نفسه المحسوب أنه هو الذي وضع الخطة التي قام بتنفيذها، دون أن يدري المتنازعون!!
وربما يعطينا القديس لوقا مفتاحاً سهلاُ ندخل به إلى سر تحول قلب بيلاطس من قاض يستنكر الاتهامات التي كان يصبها رؤساء الكهنة على المتهم: «أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان»؟ إلى قلب يأمر بالصلب! يقول القديس لوقا: «وابتدأوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة, ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر قائلاً إنه هو مسيح ملك» (لو). فكان وقع هذا الاتهام شديد الوطأة بالنسبة لبيلاطس. ولو أنه تعجب أن هؤلاء الكهنة المتعصبين الثائرين يقولون هذا، وهم كانوا دائماً على نزاع وتمرد مع السلطة الرومانية بسبب امتناعهم عن الإلتزام بدفع الضرائب. كان رياؤهم ممزوجاً بخبث شنيع، مسنوداً بصياح وهياج شعبي منسق بدعوى الوطنية، وهو مدفوع دفعاً ليلعب دور التهديد. لقد أحس بيلاطس بنذير الشؤم يزحف نحو كرسيه!!
ولكن لم يفت على بيلاطس، كما لا يمكن أن يفوت عل القارىء، أن هذه التهمة عينها لو صحت, وهي إدعاء مناداته بعدم إعطاء الجزية لقيصر، وهي التهمة التي يتسترون وراءها, لكان يمكن أن ترفع من شأن هذا المتهم المطلوب قتله ليكون زعيم الأمة اليهودية والمنادي بخلاصها، لأنهم كانوا في تلهف على مثل هذا المخلص، لولا ما يحملونه نحوه من حقد وحسد وضغينة.
الجزء الثانى من سير القضية
داخل الولاية (33:18-37)
«الأعتراف الحسن» 33:18 ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟».
هذا الفحص السري داخل دار الولاية الذي جرى بين بيلاطس والمسيح دون حضور رئيس الكهنة، ولا شهود من أي نوع، يختص به القديس يوحنا وحده في إنجيله، فقد اختص وحده بسرد وقائع محاكمة المسيح أمام حنان أيضاً بدون شهود. لذلك، فالمعروف أن القديس يوحنا كان حاضراً في كل من المحاكمتين.
هذا السؤال الأول الذي سأله بيلاطس للمسيح، نجده في الأناجيل الأربعة على السواء، لأن هذا اللقب «ملك اليهود» استرعى انتباه بيلاطس، لأنه خطير بحد ذاته، فهو يحمل وراءه حركة تعصب لـ «ملك اليهود» كما يحمل وراءه أطماعاً وخططاً، وهذا ما قصده اليهود قصداً أن يرسموه في فكر بيلاطس. لقد سمع بيلاطس هذا اللقب عن المسيح أول ما سمع، وذلك عندما «... دخل أورشليم, ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (مت10:21-11)، «قائلين مبارك الملك الآتي باسم الرب, سلام في السماء ومجد في الأعالى» (لو38:19)، «أوصنا (خلصنا)، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل» (يو13:12)
هذا الهتاف المدوي، الذي ملأ سماء أورشليم، ورج الهيكل، وأرعب قلوب رؤساء الكهنة، لم ينسه حنان ولا قيافا أبداً: «فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع، والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون: أوصنا لابن داود، غضبوا وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلإء» (مت15:21-16)، «... يا معلم انتهر تلاميذك, فأجاب وقال لهم: أقول لكم إنه إن سكت هؤلاء، فالحجارة تصرخ» (لو39:19-40). أما الآن, فقد جاء وقت التشفي وتصفية الحساب ... ولم يدر هؤلاء الحاقدون والمتشفون أن هذا اليوم هو هو يوم التجلي وتنصيب الملك على خشبة, هو يوم الخلاص الآتي من الأعال فعلاً، يوم سلام في السماء ومجد على الأرض حقاً، يوم إعلان بدء مملكة أبينا داود الأبدية، مملكة المسيح أصل وذرية داود، كوكب الصبح المنير.
والآن يسمع بيلاطس هذا اللقب من رؤساء الكهنة وحشود الشعب المأجور والمدفوع على أنه هو علة للصلب: «وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً (بخصوص لقب الملك). فسأله بيلاطس أيضأ قائلاً: أما تجيب بشيء. انظركم يشهدون عليك. فلم يجب يسوع أيضاً بشىء حتى تعجب بيلاطس» (مر3:15-5). هذه المواجهة أغفلها إنجيل يوحنا، ولكن القانون الروماني يحتم أن تكون كل شكوى في حضور المتهم، ولكن ذلك تم قبل أن يدخل بيلاطس إلى دار الولاية، وذلك بحسب رواية مرقس الرسول. فدخل بيلاطس دار الولاية واستدعى المسيح سراً وبدأ يسأله كما في الآية السابقة (33:18)، لا كمتأثر بطبيعة المتهم الهادىء الصامت, ولكن كمتعجب من سلوك متهم مُقدم للموت، وكأنه لا يبالي بالموت. ولو كان هؤلاء المتعطشون إلى الدماء صادقين في إلصاق هذه التهمة السياسية عليه, فأين أتباعه ومعاونوه؟ أين الذين يسعون لتمليكه؟ كان هذا يدور في فكر بيلاطس ويتعجب!!
ليس هذا جواباً، بل سؤالاً من المسيح، تحذيراً خطيراً، وذلك لكي يفرق بيلاطس بين ما يشعر به هو من جهة الحق وبين ما يسمعه كذباً وتلفيقاً من اليهود. أما إن كان الآخرون هم الذين يقولون عني هذا، ففي توراتهم مكتوب إني لهذا وُلدت بقسم الله من فوق: «أقسم الرب لداود بالحق, لا يرجع عنه, من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك» (مز11:132)، لا كملك وحسب، بل وملك الملوك ورب الأرباب، لا كملك على أجساد، بل على أرواح وضمائر وقلوب!! كرسي ليس على الأرض، بل في السماء، ومجلسى عن يمين عرش الله!
المسيح لا يجاوب، بل يسأل مرة أخرى، ماذا يعني بيلاطس من سؤاله، هل لكي يعرف الحقيقة: «أمن ذاتك تقول هذا»؟ وكأن ضميرك يطلب الحق؟ أم آخرون يدسون عليك اللقب لتحاكمني بمقتضاه؟ هل هذا اللقب يعنيك أنت «ذاتك» (شخصياً)؟ وهنا «الملك» يأخذ معناه الروحي العالى الذي لا يتعارض مع وظيفتك وسياستك ورئيسك! أم أنه يعني الشاكين، الذين يُلبسون اللقب ثوب السياسة والخيانة والغدر؟
لقد نجح المسيح في استجوابه لبيلاطس أن يصحح عنده مفهوم لقب «ملك». فإن كان هو من ذاته يقول هذا, فهو لقب صحيح مائة بالمائة, لأنه يكون قد قاله عن وعي صادق؟ أما إن كان نقلاً عن آخرين فهو مرفوض من المسيح، كما هو مستنكر من بيلاطس سواء بسواء!! وإلا أين أعواني وما هي مظاهر مطالبتي بالملك؟
لقد فهم بيلاطس الدرس تماماً، وعن صحة، مما يفيد أن روحه بالفعل تتحرك فيه، لأنه يرد على الإحتمال الأول كأنه بالإيجاب: «ألعلي أنا يهودي؟»، لأن الذي يقول عنك أنك ملك بالحق يلزم أن يكون يهودياً، أو ينبغي أن يصير يهودياً، ولكني على غير استعداد. أنا روماني، ووظيفتي محقق، ماذا فعلت؟ إجابة بيلاطس فيها وعي حقيقي، وفيها أيضاً رجعة عن الحق والوعي!!
«أُمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلي»: «أُمتك» بالمعنى السياسي الجنسي: «أمة اليهود», أسلمت ملك اليهود؟ يا للعجب عند بيلاطس! لأن أشد ما كان يتوق إليه اليهود هو أن يرزقهم الله بملك يحررهم من نير الرومان، هذا كان يعلمه بيلاطس تمام العلم. والآن هم يقدمون من يقولون إنه ملك اليهودى ليُقتل: «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو11:1). بيلاطس يتبرأ من أي مفهوم «للملك» قال عنه المسيح، لا المفهوم الإلهي ولا المفهوم السياسي، وألقى اللوم المضاعف على أمته وعلى رؤساء الكهنة!! «ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم، إن ابن الإنسان سوف يُسلم إلى أيدي الناس» (لو44:9)، «إن إله إبراهيم واسحق ويعقوب، إله آبائنا, مجد فتاه يسوع, الذي أسلمتموه أنتم, وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس، وهو حاكم بإطلاقه.» (أع13:3)
ويكاد رد بيلاطس أن يكون صارخاً، مؤكداً للمسيح أنه إذا كان هو الآن بين يدي الحاكم الروماني، فأُمتك اليهودية ورؤساء الكهنة هم الذين جحدوا ملوكيتك, كانت ما كانت, وكل مؤهلاتك.
ماذا فعلت. أو ما هو السبب في كل هذا؟ هذا ما كان يحير بيلاطس بالفعل.
«كنت أرى في رؤى الليل, وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأُعطي سلطانا ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض.» (دا13:7-14)
لا يزال المسيح يفتح وعي العالم على حقيقته: «أنتم من أسفل» أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم» (يو23:8). وهذا هو سر التعارض الهائل الذي أنتج هذا الهياج, وهذه المحاكمة، وهذه المرارة. أما «ماذا فعلت», فالرد الذي لا يُقال ولا يُسمع: ما فعلت هو أني نزلت إلى الأرض، جئت إلى خاصتي، النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه. أنا ملك السلام، ومملكتي هي الحق, وخدامي هم أبناء النور.
حينما طلبتم القبض علي سلمت نفسي لكم في سلام وخضوع، لأن ملكوتي لا يضيره القيود ولا يشينه القبض ولا المحاكمة، ولا الموت يجوز عليه، فهو فوق هذا وذاك.
لست كأمتي, أنا لا أعتبركم أعداء لى، فأنا صديق العالم كله. وحتى لو كنتم أعداء أمتي، فأنا أحبكم، لأني أنادي: «أحبوا أعداءكم» (مت44:5)، فكيف تظن في العنف؟ مملكتي ليست هنا ولا من هنا، فأنا أستمد سلطاني من فوق، وخدامي هم أيضأ ليسوا من هذا العالم, كما إني أنا لست من هذا العالم. فلو كانت مملكتي من هذا العالم وخدامي من هذا العالم، لكانوا الآن يحاربون عني حتى لا أُسلم إلى اليهود.
«لكي لا أُسلم إلى اليهود»: اليهود هنا، ومن فم المسيح، ليسوا يهود التوراة، ولا إسرائيل الله, ولا الشعب المحبوب المختار، بل يهود العالم والسياسة الذين جعلوا «بيت أبي بيت تجارة» (يو16:2)، والذين يصفون عن البعوضة تأففاً من النجاسة, ويبلعون الجمل بما حمل بلا ملامة، الذين ينهبون بيوت الأرامل، ولعلة يطيلون الصلوات, الذين جلسوا على كرسي موسى يعلمون الحق، وعملوا أعمال أبيهم، الذي كان قتالاً للناس منذ البدء!
واضح هنا لماذا اشترط المسيح لكي يُسلم نفسه لهم طواعية أن يتركوا التلاميذ يذهبون أحراراً!! لأن المسيح أراد أن يسلم نفسه في سلام, ورفض أن يكون له في الضيق أعوان! كذلك، فإن رد المسيح هنا على بيلاطس يشرح معنى ما قاله القديس متى في إنجيله: «إذا مجوس من المشرق قد جاءوإ إلى أورشثليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟» (مت1:2-2). كما يشرح أيضاً معنى «ملكوت السموات» فهي «مملكتي التي ليست من هذا العالم».
خدامي هم خدامكم, وخدام العالم كله، لأنهم كما قلت ليسوا من العالم أصلاً. أسلحتي هي الحق والبر والحب والفرح والسلام؛ جئت لأغزو بها قلب العالم كله. أما وسائلي في الاستيلاء على القلوب عنوة, فهي الوداعة والاتضاع والحب الباذل حتى الموت.
حكومتي تقوم على أساس أن السيد هو الذي يخدم, ويغسل أرجل الذين يخدمهم؛ والأول هو الذي يجلس آخر الكل، والعظيم منهم هو أصفرهم. حربي معلنة عل الخطية، ولا مهادنة, والذي يريد أن يسخرنا ويأخذ ثوبنا, فإننا نخع له الرداء أيضا؛ والذي يسخرنا ميلاً نسير معه اثنين.
هذه هى مملكتي، وهذه هى سماتها وشروطها.
«والآن مملكتي ليست من هذا العالم».
جملة نصفها استفهامي، ونصفها تعجبى, بروح تهكمية نوعا. إجابة المسيح: «أنت تقول»، معناها أن ما قاله بيلاطس يقع في موضع لا يقبل النفي ولا الإيجاب! فلا هو يقبل هذا اللقب من فم بيلاطس, ولا هو يرفضه؛ لأن بيلاطس يضع اللقب في موضع الفهم اليهودي كما سمعه منهم دون أن يلتفت إلى المعنى والشرح الذي قاله المسيح. ثم ابتدأ المسيح يوضح له المعنى الحقيقي لما قاله بيلاطس نفسه:
«لهذا قد وُلدت أنا, ولهذا قد أتيت إلى العالم»: [هنا يورد القديس يوحنا النص الوحيد الذي يفيد ميلاد المسيح].
«لهذا وُلدت أنا», تجعل لملوكيته سبق تعيين. فهو لم يولد كأي إنسان لكي يعيش أولاً، ثم الظروف هي التي تحدد إمكانية أن يكون ملكاً، بل إنه وُلد ليكون ملكاً؛ أو أنه تعين ملكاً قبل أن يولد، فلما وُلد استعلن ملكاً بالضرورة, أي أن ملكونه غير مستحدث ولا هو زمني، فهو معين قبل الزمن، وقائم في الزمن بلا تعيين أي بلا حدود, فهو ملكوت من فوق يستمد وجوده، وهو أزلي! هذا هو الاعتراف الحسن أمام محكمة تمثل أقوى دولة في العالم آنئذ.
«ولهذا قد أتيت إلى العالم»: توضيح ما بعده توضيح، أنه ليس من هذا العالم، وأن كيانه الدائم فوق العالم، ولكن «لهذا», أي «لقيام مملكته أو ملكوته في العالم بين الناس»، هو أتى إلى العالم من خارج العالم: «تجسد».
فالمسيح هنا، لا يجيب بكونه ملكاً فقط، بل هو يجيب ليؤكد لبيلاطس أن مملكته قائمة على أسس ثابتة وأزلية، وأنها لا تستمد قوتها أو وجوها من سلطة أرضية، ولا من أي قوة أرضية. علماً بأن كلمة :أتيت» تفيد الإتيان المستمر غير المنتهي، وليس كما جاءت في الترجمة العربية كفعل ماض منته، فهو آت، ويأتي، وسيأتي، ويبقى «آت إلى العالم»: هذا هو الاعتراف الحسن، والجملة كلها تفيد لاهوته.
«لأشهد للحق»: هنا، الحق هو بمفهومه المطلق، أي الحقيقة الكلية، التي هي المجال الذي يحيا ويعمل فيه
المسيح.
والإنسان الذي ينفتح قلبه وتنفتح بصيرته لهذا الحق, يدرك في الحال معنى ما يقوله المسيح بمجرد أن يسمعه.
والمسيح يشهد للحق، لا كأنه يشهد لشيء خارج عنه، بل هو يشهد للحق باستعلان ذاته، وعلاقته بالله أبيه، لأنه هو الحق! هذا هو الاعتراف الحسن.
«كل من هو من الحق»: أي «كل من يستمد من الحق فكره وقوله وعمله وسلوكه، كل من جعل الحق مصدراً يستمد منه حياته، كل من أحب الحق وعشقه وسار على هداه ووحيه...». هذا، حتماً، يسمع صوت المسيح ويفهمه؛ وصوت المسيح يصير له حياة أبدية: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي، ويؤمن بالذي أرسلني, فله حياة أبدية» (يو24:5). المسيح، هنا، يخاطب ضمير بيلاطس وكل ضمير لكل إنسان.
«الاعتراف الحسن» الذي شهد به المسيح أمام بيلاطس، شمل عناصر الإيمان جميعاً:
أ- أنه وُلد ليعلن ملكوت الله بالحق الذي يقوله، ويملكه، ويملك عليه.
ب- أنه نزل من السماء، وأتى إلينا على الأرض، ليؤسس ملكوت الحق.
كل من يسعى ويجد في أثر الحق, يُستعلن له المسيح والحق والحياة.
لم يرفض بيلاطس كلام المسيح, ولكنه لم يفهمه، ولم يجد في داخله مدخلاً إليه؛ ويلاحظ أن كلمة «الحق» الذي يستفسر عنه بيلاطس لا يأتي قبلها (في الكلمة اليونانية الأصلية) أداة التعريف «ألـ». أما «الحق» الذي يتكلم عنه المسيح فهو «الحق» معرفا بـ «أل» ليعطي ويغطي مفهوم الحق الكلي, وهذا يوضح أنه لم يعثر على مفتاح الحق الحقيقي. سؤال بيلاطس يخلو من الجدية, سؤال من لا يعرف، ومن لا يريد أن يعرف، سؤال نصفه حزين، يمثل العجز والقصور, والنصف الآخر استنكارتي، يمثل الجهل والتمادي فيه، لأن بيلاطس أراد أن يبحث عن الحق في الحياة الأرضية، وفي حياة الإنسان الأرضي. والحق لا يوجد في الزائلات، فكل ما هو متغير ليس حقاً، ولا يؤول إلى حق، وكل ما هو زائل يحكم على نفسه بالخداع والتفاهة. الحق يبقى إلى الأبد، ولا يؤول إلا إلى حق أكثر.
«الحق عند المسيح» هو«كلامك هو حق» مخاطباً الآب (يو17:17). كل ما يصدر من الله هو الحق. ولأن عمل المسيح الأول، هو استعلان الله، وكلمة الله وعمل الله وإرادة الله، لذلك فالمسيح وكل ما يقوله المسيح هو «الحق». لذلك قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14)؛ ولأنه يوصل إلى الله، فهو الطريق الواحد الوحيد الحقيقي، ولأنه يوصل إلى الله، فهو الحياة الأبدية، وكل من يسمع لصوته، يحيا إلى الأبد.
«معرفة الحق» هي، بآن واحد، الدخول فيه، والحياة به وامتلاكه. لذلك كل من يعرف الحق، يتحرر من كل باطل وفاسد، فالحق يحرر. ولأن المسيح ابن الله، فقد وهبنا أن نتحد به لبلغ إلى بنوة الآب، لذلك «فالابن يحرر»: «فإن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارا.» (يو36:8)
والحق حينما يحرر يقدس، أي يحفظ الإنسان من الشر والعالم، يحفظه في الله لله: «قدسهم في حقك» (يو17:17). فالحق والله, والحق والمسيح، والحق والحرية، والحق والقداسة, والحق والحياة الأبدية، هي متساويات مطلقة. والحق لا ينقسم، ولا يتجزأ، فهو كل مطلق. لذلك، فهو مصدر الوحدة الحقيقية. لذلك أيضاً، فالذين أحبوا الحق وعاشوه, هم واحد، لأنهم صاروا متحدين في الواحد وبالواحد، فالحق يوحد، وهو رجاء الإنسان المتفتت.
الحق واحد أحد مطلق. لذلك، كل ما هو قابل للازدواج، وكل ما ينقلب إلى ما هو ضده، هو خداع وزائل.
فالنور الذي ينقلب إلى ظلمة، هو خداع، النور والظلمة كلاهما, أما النور الحقيقي، فهولا ينطفىء قط، وليس فيه ظلمة البتة.
والفرح الذي ينقلب إلى حزن, هو خداع، الفرح والحزن كلاهما، أما الفرح الحقيقي فهو لا يُنزع قط، ولا يقدر العالم أن يلغيه.
والسلام الذي يتحول إلى قلق واضطراب, هو خداع، السلام والقلق كلاهما، لأن السلام الحقيقي يبدد كل قلق واضطراب في العالم.
والحياة التي تنتهي بالموت هي خداع، الحياة والموت كلاهما، أما الحياة الحقيقية فليس فيها موت، وهي حياة أبدية.
كل من يعرف الحق ينفتح وعيه المسيحى ويدرك الغش والخداع, والإنقلاب والتقلب هما الأساس الذي يقوم عليه العالم بكل مظاهره وأمجاده، لأن «العالم كله قد وُضع في الشرير» (1يو19:5)، ولأن رئيس هذا العالم «ليس فيه حق» (يو44:8). ولا يمكن أن يتآلف الحق مع الخدام، فكأس الله ليس فيها موضع لكأس الشيطان (1كو21:10).
لذلك، فأولاد النور يبغضون أعمال الظمة، وأولاد الحق يقاومون إبليس فيهرت منهم!
وتماماً تماماً، كما لا يمكن أن يتعامل النور مع الظلمة، فالنور أيضاً يبدد الظلمة أينما وكيفما كانت، والظلمة لا تدرك النور قط. لذلك، إن قلنا أننا في الحق أو أن لنا شركة مع اللهه، ثم سلكنا في الظلمة، نكذب وليس الحق فينا (راجح ايو6:1).
والقديس يوحنا أقوى من أدرك قطبي الحق والخداع: «نعلم أننا نحن من الله، والعالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5). أما الحق فقد أسسه المسيح: «ونعلم أن ابن الله قد جاء، وأعطانا بصيرة (الوعي المسيحي) لنعرف الحق. ونحن في الحق، في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية.» (ايو20:5)
وبسؤال بيلاطس للمسيح: «ما هو الحق؟», يتضح أنه نسي, إلى حين, أن من يسأله عن الحق هو متهم مقدم للاعدام. ولكن المسيح أنشأ بوجوده أمام بيلاطس مجالاً ذا تأثير على فكره, جعله يسرح ببصره فيما هو أعلى من قامته: ما هو؟ ما هو الحق؟
وإلى هنا فقد بيلاطس صبره تجاه تجني اليهود على المسيح، وإزاء هذه الإتهامات الهابطة التي لا تتناسب قط مع هذا الإنسان الشامخ والمتعاظم في تفكيره، الذي جاء ليشهد للحق! لقد عيل صبره، وتحركت فيه أحاسيس العدالة، فانفجرت فيه غضبة الحاكم الروماني، وصمم أن ينتزع من هؤلاء الملفقين حق إطلاقه
الجزء الثالث من سير القضية
خارج دار الولاية (38:18(ب)-40)
الإعلان الأول عن براءة المسيح 38:18 (ب) وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً.
كان حديث المسيح مع بيلاطس، هو الذي أقنع بيلاطس أن يخرج إلى اليهود ويعلن لهم عن براءة المسيح من كل التهم التي وُجهت إليه. فكانت هذه صفعة غير متوقعة لرؤساء الكهنة، الذين كانوا قد أحكموا كل الخطط كى ينتهوا من المسيح بأسرع ما يمكن.
وكان رد فعل رؤساء الكهنة واليهود سريعاً ومنسقاً:
+ «فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب، وقال لهم : قد قدمتم إلي هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدامكم، ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضاً، لأني أرسلتكم إليه، وها لا شيء يستحق الموت صُنع منه! فأنا أؤدبه وأطلقه. وكان مضطراً أن يطلق لهم كل عيد واحداً».
«فصرخوا بجملتهم قائلين: خذ هذا, وأطلق لنا باراباس»!...
«فناداهم أيضاً بيلاطس، وهو يريد أن يطلق يسوع. فصرخوا قائلين: اصلبه اصلبه» .
«فقال لهم ثالثة: فأي شر عمل هذا؟ إني لم أجد فيه علة للموت! فأنا أؤدبه وأطلقه».
«فكانوا يلجون بأصوات عظيمة طالبين أن يُصلب».
«فقويت أصواتهم، وأصوات رؤساء الكهنة.» (لو13:23-23)
لم يكن الشعب, من نفسه، يطلب باراباس ولا أن يُصلب المسيح، ولكن كان هذا قد لقنه لهم رؤساء الكهنة: «فهيج رؤساء الكهنة الجمع لكى يطلق لهم بالحري باراباس» (مر11:15)
المفارقة هنا شاسعة بين هدوء واتزان ورجاحة فكر بيلاطس، في مقابل هياج وخبث وعنف وفقدان أعصاب رؤساء الكهنة، ممثلى الله والشعب المختار.