«من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى»: سؤال يحير العالم كله قديما وحديثا. ولكن إذا أخذنا بالعناصر الأساسية في موضوع الخطية والألم والعقاب، ربما نصل إل أن حل السؤال ليس هيناً. فهو سؤال مبتور، له أصول وفروع، وبداية واحدة ونهايات لا حصر لها.
البداية هي الخطية التي دخلت عالم الإنسان ودخل معها العقاب والألم والموت. أما الأصول التي ترتبت على دخول الخطية فمنها الطبيعي مثل:
1- أن الإنسان فقد وضعه الروحي وعشرته مع الله، التي كانت تحجب عنه عوامل الطبيعة المؤذية التي وقع فريسة لها: من مؤذيات حيوانية وحشرية وطفيليات وبكتريا وفيروسات لا حصر لها، بالإضافة إلى المؤذيات النفسية من جور الإنسان والظروف المحيطة.
2- عوامل الزمن الذي يتعاهد مع المؤذيات الأخرى في سرعة شيخوخة خلايا الإنسان، لترجيح كفة الهدم على كفة البناء في فثيولوجيا أعضاء الإنسان، حتى يقع صريعا للمرض والشيخوخة ثم الموت.
3- عوامل المعيشة، إما في بذل الجهد الزائد للحصول على لقمة العيش، حيث بيلغ الجهد فوق طاقة احتمال أجهزته العصبية والنفسية، فيمرض الإنسان ويتألم ويموت. وإما بعدم بذل الجهد اللازم، فيجوع الإنسان ويتألم ويمرض ويموت. وإما لا جهد بالمرة، فتتلف أجهزة الإنسان ويمرض ويتألم ويموت.
4- عوامل كونية يتأثر بها الإنسان أشد التأثر، مثل البراكين والزلازل والحرائق الطبيعية والأوبئة والحروب والجفاف والحرارة والبرودة والمجاعات بأسبابها الكثيرة، ويستحيل على العالم أن يوجد بدونها، فهى لوازم كونية تجدده بأكثر مما تضره. فإن كان الإنسان قد وقع تحتها لأنه خرج بحريته من حضرة الله الحافظة له. فالله لا يلام في ذلك؛ إلا أن هذه الآلام الطبيعية جزء لا يتجزأ من تاريخ تطور حياة الإنسان إلى أفضل.
ولكن هناك أنواع من الآلام يجرها الإنسان على نفسه وعلى غيره ويتحمل عواقبها وأضرارها الشديدة: كأن يأكل ما يضره سواء في الكم أو النوع, أو يشرب ما يؤذيه كالخمروغيرها, أو يتعاطى المخدراا بأنواعها, أو يعاشر المرضى بأمراض جنسية، فتجر عليه أنواعا من الأمراض والألام, لا قبل له بها، بل وتتسبب في توريث نسله أنواعا من العاهات لا حصر لها. فالسيدات الحوامل إن هن تعاطين هذه المؤذياا ولدن أطفالا مشوهين بكل أنرع التشورهات الجسدية، ومنها العنى والخرس والصمم والشلل، الذي أصيب به ملايين البشر.
ولكن هناك أنرع ممائلة تماما لمثل هذه التشوهات يولد بها الأطفال، ولم يكن الإنسان سببا فيها سواء من جهة الأب أو الأم، حيث تكون التوليفات الجينية في خلايا الجنين فاقدة لعناصرها السليمة المطلوبة، وهذه تُحسب كإخفاقات في قوانين البيولوجيا الوراثية. وهذه تُحذف من مسئولية الإنسان لتضاف لحساب مسئولية الله، مثل حالة هذا الإنسان المولود أعمى الذي لم يسأل المسيح ولا سأل التلاميذ أن يُشفى, بل إن المسيح تقدم من نفسه لشفائه إذ حمل مسئولية عمى هذا الأعمى. لهذا قال لتلاميذه: «لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه»، أو بوضوح أكثر: ليظهر نموذج عمل الله فيه!!
ولكن لا يزال السؤال المحير: ما ذنب هذا الأعمى وغيره من الذين ؤلدوا مشوهين لأي سبب كان: لماذا يتألمون ويعانون من الحزن والأسى والحرمان, مما يجرح نفوسهم ويعصر مشاعرهم، ويلازمهم الأنين واجترار المرارة كل أيام حياتهم؟؟
لقد قلنا إن السبب المباشر لهذه التشوهات هو إخفاق في قانون التحام الجينات والمواريث، وقلنا إن الله يتحمل مسئولية هذه الإخفاقات؛ وبالفعل فإننا نجد أن الطبيعة تتبرع من جهتها بعملية تعويض تساوي النقص الذي هي متسببة فيه، كما يتبرع الله من جهته بعملية تعويض تفوق النقص وكل ما ينتج عنه من الألام مئات المرات!!
تعويض الطبيعة: قبل كل شيء يلزم أن نعرف أنه لا يوجد في الخليقة أو المخلوقات جميعاً قانون لا يقبل الخطأ, فالخطأ في قانون الطبيعة هو قانون. لأنه لا يوجد الكمال المطلق إلا في الله. وكل قاعدة لها استثناء، والاستثناء يثبت القاعدة. ولكن لكي تحمي الطبيعة نفسها من امتداد الخطأ، فإنها تقوم بتعويضه لكي تتلافى طغيانه, ولكي تثبت القاعدة. فإذا وُلد مخلوق ناقصا في تكويناته العضوية لسبب طبيعي، فإن القوة الشاملة المخصصة لأعضائه تتوزع على باقي أعضائه، فتزداد باقي أعضائه كفاءة عن معدلها الطبيعي. فلو أخذنا مولودا فاقد البصر، فإن حواسه الأربعة الباقية تزداد كفاءتها لتصبح كفاءة الأربع الحواس تساوي كفاءة خمس حواس عادية. ولكن قد تحتاج هذه الزيادة إلى تمرين أو تشجيع أو صبر لكي يظهر إمتيازها. وهكذا إذا فقد حاستين أوثلاثا, أو حتى أربعا!! كما سمعنا عن الأنسة هيلين كيلر الواعظة والمبشرة العالمية التي كانت لا تملك من الحواس جميعا سوى حاسة اللمس.
ولكن ليس هذا هو باب التعويض الوحيد في الطبيعة. فالطبيعة سبق وأن احتاطت لمثل هذه النقصانات في كيان الأفراد، بأن أضافت إلى باقي المجتمع الحيواني والإنساني, بوجه خاص وفائق, امتيازات إضافية للأصحاء تفوق حاجتهم. فالأم الصحيحة بوجه عام استودعتها الطبيعة من الحنو والعطف والصبر والاحتمال, وكل مواهب الأمومة بوجه عام, ما يفوق حاجة تربية أولادها مهما بلغوا من الكثرة. فتوجد أمهات ممتازات في أمومتهن تستطعن، إذا شئن، تربية مائة طفل أو مائتين أو ربما ألفا من الأطفال. كل هذا منحته الطبيعة لأولئك, احتياطا لتلافي عجز أمهات أخريات، أو تيتم أولادهن، أوتشوه أولاد آخرين. ومثل الأم كذلك الأب، إذ يوجد آباء لهم مواهب فائقة للغاية. فإذا جمعنا المواهب الممتازة والفائقة عن الحاجة في الطبيعة، لوجدناها في جملتها على أقل تقدير تساوي العجز المتولد من إخفاقات قوانينها!!
وبهذا يمكن تبرئة الطبيعة من أخطاء قوانينها، على أساس قانون التعويض الاحتياطي. وأصبح على الإنسان المعوق بأي تشويه أن يطالب الطبيعة بحقه بالكامل، على أساس التعويض فيما بقي له من أعضاء وإمكانيات، وذلك بالجهد والمجاهدة، والتمرين والمراس، والصبر، وروح الإنتصار. كما أصبح على الجتمع الإنساني أن يفرز مواهبه الممتازة والزائدة لخدمة وتعويض أعضائه المحرومين، سواء بالعلم الحديث, أو فنون التأهيل التي بلغت آفاقأ مذهلة بواسطة التكنولوجيا الحديثة. والأمثلة الناجحة في تطبيق هذا المبدأ تملأ الأقطار وتبرهن على صحة هذا الكلام.
تعويض الله: في البدء يلزم أن نفهم أن الحياة هبة من الله مُعطيها، والهبة لا تصبح حقا لمن أُعطيت له. فهي هبة، وتظل هبة، إلى أن تعود إل الله واهبها. وبالتالى فإن كل أجهزة هذه الحياة من صحة جسدية ونفسية بكل أعضاء وحواس الإنسان، هي كذلك هبة؛ أي أنها ليست حقا من حقوق الإنسان، إذا أخذها بالكامل؛ أما إذا نقص شي ء منها، فهذا ليس سلبأ لحق من حقوقه. لذلك أصبح على الكامل أن يشكر فيما وُهب له وإلا يؤخذ منه، كما أصبح على الذي افتقد شيئا من أعضائه أن يشكر على ما أُخد وإلا يفقد ما بقي.
هذا بالنسبة للانسان تجاه الله. أما بالنسبة لله تجاه الإنسان، فالله هو بمثابة الوالد للانسان ولا يزال يحمل همه، يرضعه الحياة قطرة قطرة، كما ترضع الأم طفلها ليعيش. والله يحس بأحاسيس الإنسان، وليس ذلك فقط بل ويشارك الإنسان في أحاسيسه: «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم.« (إش9:63)
فإذا كان الأب أو الأم يعتني بولده أو تعتني بولدها المعوق والضعيف أكثر من السليم المعافى، فهذا هو امتداد لصفة الله، وصدى عمل طبيعته في الإنسان. هنا يصعب علينا سرد مراحم الله وحنانه ولطفه وإحسانه على الضعفاء والمعوقين، كما يصعب علينا تحديد أنواع مراحمه، وأنوع وألوان حنانه لكل إنسان حسب حالته واحتياجه، يكفي أن نؤكد من واقع آية إشعياء السالفة وغيرها أن ملاكأ خاصا مرسلاً من الله يعين هؤلاء الضعفاء والمتضايقين في كل ضيقهم: «في الضيق دعوت فنجيتك» (مز7:81)، «معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده.» (مز15:91)
والسؤال هو: هل الأفضل للانسان أن يكون الله بنفسه هو العامل عوض العضو الناقص في الإنسان، أم تكون الأعضاء كلها بدون الله؟ ثم بعد هذا، هل يمكن أم نوازن بين حزن الأعمى على فقدان بصره، وبين فرحه بحضور الله في حياته ينيرها ويهبها بصيرة تفوق كل أعوازه؟ وأيضاً بعد هذا كله, يتحتم علينا وعلى كل معوق أو مشلول أو ضعيف أو من فقد قليلا أو كثيرا من مقومات الحياة الحاضرة بسنينها القليلة والشحيحة، أن يعلم أن حياة أخرى مفتوحة أمامنا بكل مباهج الروح, في ملء كمال حضور الله، وغنى نعمته المتفاضلة، ليس فيها حزن ولا كآبة ولا تنهد فيما بعد.
لذلك، فحينما تقدم الرب من تلقاء نفسه ليشفي المولود أعمى، ثم بعد ذلك يُعد له مقابلة في الهيكل حيث يدعوه للايمان بابن الله، فيؤمن، ويسجد له، فما هذا إلا آية ونموذج رائع لموقف الله, في النهاية, من المعوق أيا كان.
«من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى»: سؤال يحير العالم كله قديما وحديثا. ولكن إذا أخذنا بالعناصر الأساسية في موضوع الخطية والألم والعقاب، ربما نصل إل أن حل السؤال ليس هيناً. فهو سؤال مبتور، له أصول وفروع، وبداية واحدة ونهايات لا حصر لها.
البداية هي الخطية التي دخلت عالم الإنسان ودخل معها العقاب والألم والموت. أما الأصول التي ترتبت على دخول الخطية فمنها الطبيعي مثل:
1- أن الإنسان فقد وضعه الروحي وعشرته مع الله، التي كانت تحجب عنه عوامل الطبيعة المؤذية التي وقع فريسة لها: من مؤذيات حيوانية وحشرية وطفيليات وبكتريا وفيروسات لا حصر لها، بالإضافة إلى المؤذيات النفسية من جور الإنسان والظروف المحيطة.
2- عوامل الزمن الذي يتعاهد مع المؤذيات الأخرى في سرعة شيخوخة خلايا الإنسان، لترجيح كفة الهدم على كفة البناء في فثيولوجيا أعضاء الإنسان، حتى يقع صريعا للمرض والشيخوخة ثم الموت.
3- عوامل المعيشة، إما في بذل الجهد الزائد للحصول على لقمة العيش، حيث بيلغ الجهد فوق طاقة احتمال أجهزته العصبية والنفسية، فيمرض الإنسان ويتألم ويموت. وإما بعدم بذل الجهد اللازم، فيجوع الإنسان ويتألم ويمرض ويموت. وإما لا جهد بالمرة، فتتلف أجهزة الإنسان ويمرض ويتألم ويموت.
4- عوامل كونية يتأثر بها الإنسان أشد التأثر، مثل البراكين والزلازل والحرائق الطبيعية والأوبئة والحروب والجفاف والحرارة والبرودة والمجاعات بأسبابها الكثيرة، ويستحيل على العالم أن يوجد بدونها، فهى لوازم كونية تجدده بأكثر مما تضره. فإن كان الإنسان قد وقع تحتها لأنه خرج بحريته من حضرة الله الحافظة له. فالله لا يلام في ذلك؛ إلا أن هذه الآلام الطبيعية جزء لا يتجزأ من تاريخ تطور حياة الإنسان إلى أفضل.
ولكن هناك أنواع من الآلام يجرها الإنسان على نفسه وعلى غيره ويتحمل عواقبها وأضرارها الشديدة: كأن يأكل ما يضره سواء في الكم أو النوع, أو يشرب ما يؤذيه كالخمروغيرها, أو يتعاطى المخدراا بأنواعها, أو يعاشر المرضى بأمراض جنسية، فتجر عليه أنواعا من الأمراض والألام, لا قبل له بها، بل وتتسبب في توريث نسله أنواعا من العاهات لا حصر لها. فالسيدات الحوامل إن هن تعاطين هذه المؤذياا ولدن أطفالا مشوهين بكل أنرع التشورهات الجسدية، ومنها العنى والخرس والصمم والشلل، الذي أصيب به ملايين البشر.
ولكن هناك أنرع ممائلة تماما لمثل هذه التشوهات يولد بها الأطفال، ولم يكن الإنسان سببا فيها سواء من جهة الأب أو الأم، حيث تكون التوليفات الجينية في خلايا الجنين فاقدة لعناصرها السليمة المطلوبة، وهذه تُحسب كإخفاقات في قوانين البيولوجيا الوراثية. وهذه تُحذف من مسئولية الإنسان لتضاف لحساب مسئولية الله، مثل حالة هذا الإنسان المولود أعمى الذي لم يسأل المسيح ولا سأل التلاميذ أن يُشفى, بل إن المسيح تقدم من نفسه لشفائه إذ حمل مسئولية عمى هذا الأعمى. لهذا قال لتلاميذه: «لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه»، أو بوضوح أكثر: ليظهر نموذج عمل الله فيه!!
ولكن لا يزال السؤال المحير: ما ذنب هذا الأعمى وغيره من الذين ؤلدوا مشوهين لأي سبب كان: لماذا يتألمون ويعانون من الحزن والأسى والحرمان, مما يجرح نفوسهم ويعصر مشاعرهم، ويلازمهم الأنين واجترار المرارة كل أيام حياتهم؟؟
لقد قلنا إن السبب المباشر لهذه التشوهات هو إخفاق في قانون التحام الجينات والمواريث، وقلنا إن الله يتحمل مسئولية هذه الإخفاقات؛ وبالفعل فإننا نجد أن الطبيعة تتبرع من جهتها بعملية تعويض تساوي النقص الذي هي متسببة فيه، كما يتبرع الله من جهته بعملية تعويض تفوق النقص وكل ما ينتج عنه من الألام مئات المرات!!
تعويض الطبيعة: قبل كل شيء يلزم أن نعرف أنه لا يوجد في الخليقة أو المخلوقات جميعاً قانون لا يقبل الخطأ, فالخطأ في قانون الطبيعة هو قانون. لأنه لا يوجد الكمال المطلق إلا في الله. وكل قاعدة لها استثناء، والاستثناء يثبت القاعدة. ولكن لكي تحمي الطبيعة نفسها من امتداد الخطأ، فإنها تقوم بتعويضه لكي تتلافى طغيانه, ولكي تثبت القاعدة. فإذا وُلد مخلوق ناقصا في تكويناته العضوية لسبب طبيعي، فإن القوة الشاملة المخصصة لأعضائه تتوزع على باقي أعضائه، فتزداد باقي أعضائه كفاءة عن معدلها الطبيعي. فلو أخذنا مولودا فاقد البصر، فإن حواسه الأربعة الباقية تزداد كفاءتها لتصبح كفاءة الأربع الحواس تساوي كفاءة خمس حواس عادية. ولكن قد تحتاج هذه الزيادة إلى تمرين أو تشجيع أو صبر لكي يظهر إمتيازها. وهكذا إذا فقد حاستين أوثلاثا, أو حتى أربعا!! كما سمعنا عن الأنسة هيلين كيلر الواعظة والمبشرة العالمية التي كانت لا تملك من الحواس جميعا سوى حاسة اللمس.
ولكن ليس هذا هو باب التعويض الوحيد في الطبيعة. فالطبيعة سبق وأن احتاطت لمثل هذه النقصانات في كيان الأفراد، بأن أضافت إلى باقي المجتمع الحيواني والإنساني, بوجه خاص وفائق, امتيازات إضافية للأصحاء تفوق حاجتهم. فالأم الصحيحة بوجه عام استودعتها الطبيعة من الحنو والعطف والصبر والاحتمال, وكل مواهب الأمومة بوجه عام, ما يفوق حاجة تربية أولادها مهما بلغوا من الكثرة. فتوجد أمهات ممتازات في أمومتهن تستطعن، إذا شئن، تربية مائة طفل أو مائتين أو ربما ألفا من الأطفال. كل هذا منحته الطبيعة لأولئك, احتياطا لتلافي عجز أمهات أخريات، أو تيتم أولادهن، أوتشوه أولاد آخرين. ومثل الأم كذلك الأب، إذ يوجد آباء لهم مواهب فائقة للغاية. فإذا جمعنا المواهب الممتازة والفائقة عن الحاجة في الطبيعة، لوجدناها في جملتها على أقل تقدير تساوي العجز المتولد من إخفاقات قوانينها!!
وبهذا يمكن تبرئة الطبيعة من أخطاء قوانينها، على أساس قانون التعويض الاحتياطي. وأصبح على الإنسان المعوق بأي تشويه أن يطالب الطبيعة بحقه بالكامل، على أساس التعويض فيما بقي له من أعضاء وإمكانيات، وذلك بالجهد والمجاهدة، والتمرين والمراس، والصبر، وروح الإنتصار. كما أصبح على الجتمع الإنساني أن يفرز مواهبه الممتازة والزائدة لخدمة وتعويض أعضائه المحرومين، سواء بالعلم الحديث, أو فنون التأهيل التي بلغت آفاقأ مذهلة بواسطة التكنولوجيا الحديثة. والأمثلة الناجحة في تطبيق هذا المبدأ تملأ الأقطار وتبرهن على صحة هذا الكلام.
تعويض الله: في البدء يلزم أن نفهم أن الحياة هبة من الله مُعطيها، والهبة لا تصبح حقا لمن أُعطيت له. فهي هبة، وتظل هبة، إلى أن تعود إل الله واهبها. وبالتالى فإن كل أجهزة هذه الحياة من صحة جسدية ونفسية بكل أعضاء وحواس الإنسان، هي كذلك هبة؛ أي أنها ليست حقا من حقوق الإنسان، إذا أخذها بالكامل؛ أما إذا نقص شي ء منها، فهذا ليس سلبأ لحق من حقوقه. لذلك أصبح على الكامل أن يشكر فيما وُهب له وإلا يؤخذ منه، كما أصبح على الذي افتقد شيئا من أعضائه أن يشكر على ما أُخد وإلا يفقد ما بقي.
هذا بالنسبة للانسان تجاه الله. أما بالنسبة لله تجاه الإنسان، فالله هو بمثابة الوالد للانسان ولا يزال يحمل همه، يرضعه الحياة قطرة قطرة، كما ترضع الأم طفلها ليعيش. والله يحس بأحاسيس الإنسان، وليس ذلك فقط بل ويشارك الإنسان في أحاسيسه: «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم.« (إش9:63)
فإذا كان الأب أو الأم يعتني بولده أو تعتني بولدها المعوق والضعيف أكثر من السليم المعافى، فهذا هو امتداد لصفة الله، وصدى عمل طبيعته في الإنسان. هنا يصعب علينا سرد مراحم الله وحنانه ولطفه وإحسانه على الضعفاء والمعوقين، كما يصعب علينا تحديد أنواع مراحمه، وأنوع وألوان حنانه لكل إنسان حسب حالته واحتياجه، يكفي أن نؤكد من واقع آية إشعياء السالفة وغيرها أن ملاكأ خاصا مرسلاً من الله يعين هؤلاء الضعفاء والمتضايقين في كل ضيقهم: «في الضيق دعوت فنجيتك» (مز7:81)، «معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده.» (مز15:91)
والسؤال هو: هل الأفضل للانسان أن يكون الله بنفسه هو العامل عوض العضو الناقص في الإنسان، أم تكون الأعضاء كلها بدون الله؟ ثم بعد هذا، هل يمكن أم نوازن بين حزن الأعمى على فقدان بصره، وبين فرحه بحضور الله في حياته ينيرها ويهبها بصيرة تفوق كل أعوازه؟ وأيضاً بعد هذا كله, يتحتم علينا وعلى كل معوق أو مشلول أو ضعيف أو من فقد قليلا أو كثيرا من مقومات الحياة الحاضرة بسنينها القليلة والشحيحة، أن يعلم أن حياة أخرى مفتوحة أمامنا بكل مباهج الروح, في ملء كمال حضور الله، وغنى نعمته المتفاضلة، ليس فيها حزن ولا كآبة ولا تنهد فيما بعد.
لذلك، فحينما تقدم الرب من تلقاء نفسه ليشفي المولود أعمى، ثم بعد ذلك يُعد له مقابلة في الهيكل حيث يدعوه للايمان بابن الله، فيؤمن، ويسجد له، فما هذا إلا آية ونموذج رائع لموقف الله, في النهاية, من المعوق أيا كان.
الرب هنا جعل حالة هذا الإنسان المعوق وأمثاله فرصة لكي تظهر أعمال الله فيه، وما عمله المسيح له هو نموذج لأعمال الله من نحو هؤلاء؛ عطفث ومحبة فعالة, وتبني هذا النقص وتحمل تعويضه بصورة عملية مذهلة. وان كانت الوسيلة هي بحد ذاتها معجزة، ولكنها في جوهرها إعادة تصحيح ما أخفقت فيه قوانين الطبيعة والتوريث الجيني والتحام الأصول من الأب والأم. هنا الخالق يصحح ويعيد نواقص الخلقة، ولكن المسيح يقدم هذه المعجزة, في الجسد, كآية لمعجزة أعلى, في الروح, فالرب لم ينزل من السماء لتصحيح نواقص خلقة الإنسان الجسدية، وانما قدم تفتيح عيني الأعمى لرؤية العالم كآية لتفتيح قلب الإنسان لرؤية الله. فما دام المسيح في العالم فهو حتمأ يعطي من ذاته ما يختص بحياة الإنسان في العالم. فالمسيح هو «النور» بكل مفهومه وعمله على كل مستوياته. فإن كان « النور الحقيقي» الذي يضىء الأبدية قد نزل إلى العالم، فهو حتما يكون نور العالم أيضاً، أي لا بد أن يحقق ذاته في حياة الإنسان في العالم، ويعطي البرهان أنه «النور» على مستوى الرؤية في العالم. وهذا تم بالحرف الواحد في الأعمى الذي أصبح يرى نور العالم, إذ أثبت المسيح نفسه وكيانه الإلهي الخفي بإعطاء هبة النور المنظور، وتحقق أن المسيح هو حقاً «نور العالم» حينما نزل إلى العالم. فإن كان بتفنيحه عيني الأعمى قد برهن على أنه واهب النور للعالم, فحتمأ وبالضرورة يكون هو «النور الحقيقي».
فإذا دققنا النظر، وجدنا أن معجزة تفتيح عيني الأعمى هي أصلاً وبالأساس لا تخص الأعمى، ولكن الرب استخدمها ليعمل عملية توضيحية أثبت فيها بالنهاية أنه «الكلمة» الخالق الواهب النور للعالم. وقد جاء للعالم ليكمل عمل الآب في الخليقة، بإعطاء أو خلق عيون روحية جديدة للانسان، يرى بها الله ونور الحياة الأبدية، وذلك بالفداء الذي أكمله للانسان بذبيحة نفسه، رافعاً حجاب الظلمة الذي كان يحجز رؤية الإنسان لله.
وهكذا ينتقل المسيح بواسطة عملية تفتيح عيني الأعمى من الرحمة المنظورة المقدمة من الله نحو المتعوقين المتألمين الجالسين في ظلمة العالم، إلى عمل رحمة الآب, بواسطة المسيح الذي أرسله خصيصاً, من نحو الخطاة الجالسين في الظلمة وظلال الموت.
«ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار»: قصة تفتيح عيني الأعمى المولود هكذا كانت نموذجاً دُفع به أمام المسيح لكي يظهر فيه أعمال الله الآب، أي يُظهر مجد الله الآب، الذي وُضع للمسيح أن يستعلنه ويتمجد به, تماما كموت لعازر. فآلام المولود أعمى كانت عل مستوى مرض لعازر الذي أدى إلى الموت، وهذا وذاك: «هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله, ليتمجد ابن الله به» (يو4:11). فتمجيد الله واستعلان مجد المسيح هو أساس المعجزتين! وعل مستوى ما تم في عرس قانا الجليل: «وأظهر مجده فآمن به تلاميذه.» (يو11:2)
كانت حياة المسيح في العالم هي نهار الإنسان الذي أشرق في الظلمة. ومنذ أن خرج أدم مطروداً من الفردوس، والليل يغطي العالم، والظلمة تلف البشرية من كل جانب، وطال ليل الإنسان جدا... إلى أن نادى مناد من السماء: «إنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب» (لو11:2). لقد ظل المسيح يعمل طول هذا النهار أعمالاً كثيرة حتى أكملها قبل أن تغرب شمس يوم الصليب. كانت هي فرصة الإنسان منذ خسة آلاف سنة ويزيد، وفرصة الله، بآن واحد منذ ملايين السنين. كان هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، وكان يوم خلاص، وساعة قبول. أما الإنسان فقد ضيع ساعات هذا النهار التاريخي الجميل في مناقشات وحماقات، أكملها بذبح النور على مذبح الظلمة؛ هكذا تهيأ لمجانين الأرض. أما الله فقد غطى كل ساعات هذا النهار بأعمال وأقوال مضيئة ومحيية، لا يزال العالم يرددها و يتمعنها، ولن يسع عمر الإنسان، مهما طال، أن يبلغ أعماقها أو نهايتها التي لم يسمع بمثلها قط، واختتمها بذبيحة المحبة. لقد أتى الليل فجأة, واختتم المسيح أعماله على الصليب، ورُفع في مجد، وظل الإنسان يشتهي يوماً من أيام ابن الإنسان!!
«يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل»: نحن لا نزال نستمتع بنهار المسيح، فالأعمال التي عمل حية فينا، تعمل وتتكلم. والكلمات التي قال تُحيى قلوبنا كل يوم وتُشدد. ومراحمه تتجدد علينا كل صباح بإشراق نعمته في قلوبنا, فتجدد فينا نهار المسيح بكل نوره وبهجته، فنعمل ونعمل. ولكن، حتماً، سيأتي ليلنا نحن, حين لا يد تتحرك، ولا رجل تمشي، ولا عين تنظر، ولا أذن تسمع، ولا لسان يتكلم، ولا عمل يُعمل.
فنهار المسيح حياتنا, فيه نعمل عمله ونكمله، وحينئذ يأتي ليلنا نحن حيث لا عمل، بل مجازاة في نور المسيح الأبدي. وإن كان نهار المسيح بدا قصيراً جداً، فنهار حياتنا اقصر، يستغرقه ملعب الصبوة, فيضيع إشراق صباحه في لهو بلا معنى. وما أن يفيق الإنسان ليدرك هدف مساره، حين تنضج خبرات الرجولة فيه, حتى تداهمه الشيخوخة بخيالها، فيضيع ما جمع، ويقف في الغسق يودع حياة ما أن بدأت حتى انتهت, لا يُحمل منها إلا زاد الصلاة وزق الدموع ، لسفر طويل في سرداب الظلمة المعتم، إلى أن يشرق عليه نهار اليوم الجديد .
يا إخوة، إن نهارنا قصير, والعمل أمامنا جسيم، فافتدوا الوقت لأن الأيام شريرة، وما أشقانا بأنفسنا إن لم تغتني بالرب .
«ما دمت في العالم, فأنا نور العالم»: هذه الآية يصعب شرحها إلا إذا رجعنا إلى النص اليوناني، لأنه فريد في نوعه, فهو يحذف ضمير المتكلم «أنا» كما يحذف « الـ» أداة التعريف في «النور». وترجمتها الحرفية: «طالما كنت في العالم فنوره أكون». وحذف «أنا» له أهمية كبيرة في المعنى، إذ أصبح التركيز في الآية ليس على شخص المسيح بمعنى استعلانه «أنا», ولكن على عمل المسيح «أكون» نوره. كذلك في حذف أداة التعريف في «النور»، يصبح تركيز المعنى ليس على «النور» المطلق في كيانه وعمله، ولكن على نور جزئي معّرف بالعالم، أي أن التركيز على عمل المسيح كنور في العالم.
وهكذا يصبح المعنى الكلي للآية ملتزما بالتركيب اللغوي لها. وتصير الآية تختص بعمل المسيح كنور العالم, في فترة وجوده الزمني في العالم, وهذا المعنى يزداد وضوحأ ودقة، إذا علمنا أن بعد قول المسيح ذلك أجرى معجزة تفتيح عيني الأعمى مباشرة! وهكذا ينصت المعنى بقتضى الآية في كيف يمكن أن نفهم أن المسيح، عل المستوى العملي، هو للإنسأن «نور الحياة»، وأنه للأعمى «أضاء في الظلمة»، وأنه لليهود « والظلمة لم تدركه». وهذا كله هو عمل المسيح في العالم . صحيح أن الشمس تضيء العالم، ولكن لا قدرة لها أن ترسل أشعتها داخل مقلة الأعمى أو قلب الجاهل!! وهكذا يظل الإنسان «يحيا الظمة» في الداخل والخارج، وهو تحت الشمس يسير. أما المسيح فهو النور الذي ينفذ إلى أعماق الظلمة، فيبددها «فيحيا الإنسان النور»، وتصير حياته أكثر ضياء من نور الشمس، لأنه يستمد النور من المصدر الذي تستمد منه الشمس نورها: « أنتم نور العالم... فليضىء نوركم هكذا قدام الناس...» (مت14:5-16)، «والفاهمون يضيئون كضياء الجلد (السماء)، والذين ردوا كثيرين إلى البر كواكب إلى أبد الدهور.» (دا3:12)
الرب هنا جعل حالة هذا الإنسان المعوق وأمثاله فرصة لكي تظهر أعمال الله فيه، وما عمله المسيح له هو نموذج لأعمال الله من نحو هؤلاء؛ عطفث ومحبة فعالة, وتبني هذا النقص وتحمل تعويضه بصورة عملية مذهلة. وان كانت الوسيلة هي بحد ذاتها معجزة، ولكنها في جوهرها إعادة تصحيح ما أخفقت فيه قوانين الطبيعة والتوريث الجيني والتحام الأصول من الأب والأم. هنا الخالق يصحح ويعيد نواقص الخلقة، ولكن المسيح يقدم هذه المعجزة, في الجسد, كآية لمعجزة أعلى, في الروح, فالرب لم ينزل من السماء لتصحيح نواقص خلقة الإنسان الجسدية، وانما قدم تفتيح عيني الأعمى لرؤية العالم كآية لتفتيح قلب الإنسان لرؤية الله. فما دام المسيح في العالم فهو حتمأ يعطي من ذاته ما يختص بحياة الإنسان في العالم. فالمسيح هو «النور» بكل مفهومه وعمله على كل مستوياته. فإن كان « النور الحقيقي» الذي يضىء الأبدية قد نزل إلى العالم، فهو حتما يكون نور العالم أيضاً، أي لا بد أن يحقق ذاته في حياة الإنسان في العالم، ويعطي البرهان أنه «النور» على مستوى الرؤية في العالم. وهذا تم بالحرف الواحد في الأعمى الذي أصبح يرى نور العالم, إذ أثبت المسيح نفسه وكيانه الإلهي الخفي بإعطاء هبة النور المنظور، وتحقق أن المسيح هو حقاً «نور العالم» حينما نزل إلى العالم. فإن كان بتفنيحه عيني الأعمى قد برهن على أنه واهب النور للعالم, فحتمأ وبالضرورة يكون هو «النور الحقيقي».
فإذا دققنا النظر، وجدنا أن معجزة تفتيح عيني الأعمى هي أصلاً وبالأساس لا تخص الأعمى، ولكن الرب استخدمها ليعمل عملية توضيحية أثبت فيها بالنهاية أنه «الكلمة» الخالق الواهب النور للعالم. وقد جاء للعالم ليكمل عمل الآب في الخليقة، بإعطاء أو خلق عيون روحية جديدة للانسان، يرى بها الله ونور الحياة الأبدية، وذلك بالفداء الذي أكمله للانسان بذبيحة نفسه، رافعاً حجاب الظلمة الذي كان يحجز رؤية الإنسان لله.
وهكذا ينتقل المسيح بواسطة عملية تفتيح عيني الأعمى من الرحمة المنظورة المقدمة من الله نحو المتعوقين المتألمين الجالسين في ظلمة العالم، إلى عمل رحمة الآب, بواسطة المسيح الذي أرسله خصيصاً, من نحو الخطاة الجالسين في الظلمة وظلال الموت.
«ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار»: قصة تفتيح عيني الأعمى المولود هكذا كانت نموذجاً دُفع به أمام المسيح لكي يظهر فيه أعمال الله الآب، أي يُظهر مجد الله الآب، الذي وُضع للمسيح أن يستعلنه ويتمجد به, تماما كموت لعازر. فآلام المولود أعمى كانت عل مستوى مرض لعازر الذي أدى إلى الموت، وهذا وذاك: «هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله, ليتمجد ابن الله به» (يو4:11). فتمجيد الله واستعلان مجد المسيح هو أساس المعجزتين! وعل مستوى ما تم في عرس قانا الجليل: «وأظهر مجده فآمن به تلاميذه.» (يو11:2)
كانت حياة المسيح في العالم هي نهار الإنسان الذي أشرق في الظلمة. ومنذ أن خرج أدم مطروداً من الفردوس، والليل يغطي العالم، والظلمة تلف البشرية من كل جانب، وطال ليل الإنسان جدا... إلى أن نادى مناد من السماء: «إنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب» (لو11:2). لقد ظل المسيح يعمل طول هذا النهار أعمالاً كثيرة حتى أكملها قبل أن تغرب شمس يوم الصليب. كانت هي فرصة الإنسان منذ خسة آلاف سنة ويزيد، وفرصة الله، بآن واحد منذ ملايين السنين. كان هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، وكان يوم خلاص، وساعة قبول. أما الإنسان فقد ضيع ساعات هذا النهار التاريخي الجميل في مناقشات وحماقات، أكملها بذبح النور على مذبح الظلمة؛ هكذا تهيأ لمجانين الأرض. أما الله فقد غطى كل ساعات هذا النهار بأعمال وأقوال مضيئة ومحيية، لا يزال العالم يرددها و يتمعنها، ولن يسع عمر الإنسان، مهما طال، أن يبلغ أعماقها أو نهايتها التي لم يسمع بمثلها قط، واختتمها بذبيحة المحبة. لقد أتى الليل فجأة, واختتم المسيح أعماله على الصليب، ورُفع في مجد، وظل الإنسان يشتهي يوماً من أيام ابن الإنسان!!
«يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل»: نحن لا نزال نستمتع بنهار المسيح، فالأعمال التي عمل حية فينا، تعمل وتتكلم. والكلمات التي قال تُحيى قلوبنا كل يوم وتُشدد. ومراحمه تتجدد علينا كل صباح بإشراق نعمته في قلوبنا, فتجدد فينا نهار المسيح بكل نوره وبهجته، فنعمل ونعمل. ولكن، حتماً، سيأتي ليلنا نحن, حين لا يد تتحرك، ولا رجل تمشي، ولا عين تنظر، ولا أذن تسمع، ولا لسان يتكلم، ولا عمل يُعمل.
فنهار المسيح حياتنا, فيه نعمل عمله ونكمله، وحينئذ يأتي ليلنا نحن حيث لا عمل، بل مجازاة في نور المسيح الأبدي. وإن كان نهار المسيح بدا قصيراً جداً، فنهار حياتنا اقصر، يستغرقه ملعب الصبوة, فيضيع إشراق صباحه في لهو بلا معنى. وما أن يفيق الإنسان ليدرك هدف مساره، حين تنضج خبرات الرجولة فيه, حتى تداهمه الشيخوخة بخيالها، فيضيع ما جمع، ويقف في الغسق يودع حياة ما أن بدأت حتى انتهت, لا يُحمل منها إلا زاد الصلاة وزق الدموع ، لسفر طويل في سرداب الظلمة المعتم، إلى أن يشرق عليه نهار اليوم الجديد .
يا إخوة، إن نهارنا قصير, والعمل أمامنا جسيم، فافتدوا الوقت لأن الأيام شريرة، وما أشقانا بأنفسنا إن لم تغتني بالرب .
«ما دمت في العالم, فأنا نور العالم»: هذه الآية يصعب شرحها إلا إذا رجعنا إلى النص اليوناني، لأنه فريد في نوعه, فهو يحذف ضمير المتكلم «أنا» كما يحذف « الـ» أداة التعريف في «النور». وترجمتها الحرفية: «طالما كنت في العالم فنوره أكون». وحذف «أنا» له أهمية كبيرة في المعنى، إذ أصبح التركيز في الآية ليس على شخص المسيح بمعنى استعلانه «أنا», ولكن على عمل المسيح «أكون» نوره. كذلك في حذف أداة التعريف في «النور»، يصبح تركيز المعنى ليس على «النور» المطلق في كيانه وعمله، ولكن على نور جزئي معّرف بالعالم، أي أن التركيز على عمل المسيح كنور في العالم.
وهكذا يصبح المعنى الكلي للآية ملتزما بالتركيب اللغوي لها. وتصير الآية تختص بعمل المسيح كنور العالم, في فترة وجوده الزمني في العالم, وهذا المعنى يزداد وضوحأ ودقة، إذا علمنا أن بعد قول المسيح ذلك أجرى معجزة تفتيح عيني الأعمى مباشرة! وهكذا ينصت المعنى بقتضى الآية في كيف يمكن أن نفهم أن المسيح، عل المستوى العملي، هو للإنسأن «نور الحياة»، وأنه للأعمى «أضاء في الظلمة»، وأنه لليهود « والظلمة لم تدركه». وهذا كله هو عمل المسيح في العالم . صحيح أن الشمس تضيء العالم، ولكن لا قدرة لها أن ترسل أشعتها داخل مقلة الأعمى أو قلب الجاهل!! وهكذا يظل الإنسان «يحيا الظمة» في الداخل والخارج، وهو تحت الشمس يسير. أما المسيح فهو النور الذي ينفذ إلى أعماق الظلمة، فيبددها «فيحيا الإنسان النور»، وتصير حياته أكثر ضياء من نور الشمس، لأنه يستمد النور من المصدر الذي تستمد منه الشمس نورها: « أنتم نور العالم... فليضىء نوركم هكذا قدام الناس...» (مت14:5-16)، «والفاهمون يضيئون كضياء الجلد (السماء)، والذين ردوا كثيرين إلى البر كواكب إلى أبد الدهور.» (دا3:12)
الآية في مضمونها الإلهي تشير إلى عملية خلق أو على وجه الأصح عملية «خلقة تصحيحية». فكل عمليات الشفاء التي أجراها المسيح تدخل تحت بند «الشفاء من المرض» أما تفتيح عيني الأعمى المولو بدون مقلتي العين فهي ليست شفاء. فنحن هنا لسنا أمام طبيب البشرية الأعظم يسوع، بل نحن بصدد عملية خلق، وأمام خالق.
والتركيز الأساسي في لغة الآية واقع عل كلمة «الطين»، لأن المقصود هو نقل عقولنا إلى سفر التكوين وكيف خلق الله الإنسان من «تراب الأرض». وفي مواضع كثيرة يذكر الوحي الإلهي «التراب» الذي صيره الله طيناً قبل أن يشكل الإنسان:
+ «يداك كونتاني وصنعتاني، كلي جميعاً ، أفتبتلعني (بغضبك)، اذكر أنك جبلتني كالطين, أفتعيدني إلى التراب.» (أي8:10-9)
+ «روح الله صنعني ونسمة القدير أحيتني... أنا أيضاً من الطين تقرصت.» (أي4:33-6)
+ «والآن يا رب أنت أبونا، نحن الطين, وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك.» (إش8:64)
لقد ولد الأعمى بدون عينين, وكأن الطين الذي جُبل منه تنقصه الصياغة. إذ لما شُكل الأعمى في بطن أمه سهي على الطبيعة أن تمده بمقلتين. لقد أخفق قانون التوريث والتوليد في أن يعطى صورة الكمال حسب الرسم. والمرجع لواضعه، فهو يصحح ما نقص من صورته. وكأن عجنة الطين عادت إلى يد خالقها الأول يشكل لها من ذات الطين عينين.
والملاحظ أن جميع الآيات التي فيها فتح المسيح أعين اعمثى، لم يكن فيها أعمى واحد وُلد من بطن أمه ناقص المقلتين، فاكتفى المسيح بأن يمسح العينين المكفوفتين بريقه فانفتحتا ورأتا النور: «فأخذ بيد الأعمى وأخرجه إلى خارج القرية وتفل في عينيه, ووضع يديه عليه، وسأله هل أبصرت شثيئاً, فتطلع وقال: ابصر الناس كأشجار يمشون. ثم وضع يديه أيضا على عينيه وجعله يتطلع، فعاد صحيحاً، وأبصر كل إنسان جليا.» (مر23:8-25)
أما هذا الأعمى المولود ناقص الخلقة، فالمسيح وقف منه موقف الخالق وجبل له من الطين ما نقص لجبلته. وانصاع الطين ليد النور الإلهي الخالق، فاستنار.
والآن نأتي إلى استخدام الريق أو اللتعاب «تفل على الأرض»، فإذا علمنا أن لعاب الإنسان يحوي من الميكروبات ما يكفي لإمراض أي عين سليمة، وأمامنا الأن أن لعاب المسيح استرجع عيناً سليمة بكامل صحتها، أدركنا سر الحياة والصحة الكائنة في جسم الرب ولعابه بنوع خاص. فالرب نقل إلى الأعمى الفاقد مقلتيه «سر الحياة الجسدية السليمة والكاملة, لتصحيح الصورة الجسدية المشوهة، لينطبق المثيل على المثيل، وليعرد الإنسان بمثل الصورة الجسدية الكاملة للمسيح. فلو رجعنا إلى تقليد الآباء القديسين في فهم كيف خلق الله الإنسان في البدء من التراب، الذي حوله الرب الإله إلى طين, لأدركنا مدى انطباق ذلك على عمل المسيح بالنسبة للأعمى: «اذكر أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب؟ ألم تصبني كاللبن وخثرتني كالجبن، كسوتني جلدا ولحمأ فنسجتني بعظام وعصب، منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي. لكنك كتمت هذه في قلبك. علمت أن هذا عندك.» (أي9:10-13)
فأيوب هنا يكشف كيفية ما تم في عملية الخلقة من درجات، التي أخفاها الله في قلبه، ولكنه أعلمها لأيوب. ومنها نفهم أن عملية الخلق تمت على نمط نمو الجنين في رحم الأم، حسب الصورة والمثال الذي كان في فكر الله. والآن كان أمام المسيح، الأعمى الفاقد مقلتيه، وكان هو المثال الكامل والصحيح. فالمسيح أخذ من المثال سر لاكمال، ووضعه في الصورة لكي يقبل الأعمى سر النور العامل في جسمم الإنسان الترابي، الذي كان ينقص خلقته.
«وقال له: اذهب اغتسل في بركة سلوام, الذي تفسيره مرسل, فمضى واغتسل, وأتى بصيراً»: قصة بركة سلوام قصة تحولت إلى قضية ضد القديس يوحنا وانجيله على مدى مائة عام من النقد المرير. فهذه البركة رُدمت منذ زمان بعيد جداً، وضاعت معالمها كلية، فاتحذها النفاد تكأة لنقد صحة الإنجيل بجملته، معتبرين أن القديس يوحنا لا يعرف جغرافية الأرض التي يكتب عنها، وإنما يؤلف أسماء ومسميات من عنده. علماً بأن القديس جيروم (إيرونيموس) رآها رؤيا العين وكتب عنها في شرحه لسفر إشعياء (6:8). وفي حفرياته أواخر القرن الثامن عشر أُكتشفت البركة وأُكتشفت القناة: « وبقية أمور حزقيا وكل جبروته وكيف عمل البركة والقناة وأدخل الماء إلى المدينة أما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا» (2مل20:20)، هذه القناة التي تحت الأرض التي تسحب المياه من النبع العالى المسمى الآن نبع مريم. وقد حُفرت هذه البركة بقصد توصيل المياه داخل أسوار أورشليم منذ زمن بعيد ربما منذ أيام سليمان. وقد ذكرها إشعياء النبي تحت اسم «مياه شيلوه، أو شيلون» (إش6:8) ومعنى الكلمة بالآرامي «مرسل»، لأنها ليست مياه نابعة من مكانها، بل منحدرة ومُرسلة إليها من نبع آخر أعلى. لذلك سماها إشعياء النبي مياه شيلوه، أي مياه مُرسلة، أي مياه جارية، لأنها كانت ترتفع وتنخفض مرتين في اليوم. وهي مياه عذبة جيدة للشرب وكانت تسقي حدائق الملك في وادي قدرون، قبل أن يلتحم في وادي يهوشافاط. ويُلاحظ أن الاسم العربي لبركة «سلوام» هو «سلوان». وجدران هذه البركة ملتحمة في الجدار الجنوبي للمدينة. والمكان الآن قد تحقق منه علماء الآثار أنه الحافة الجنوبية لجبل صهيون ومدينة داود.
وكانت بركة سلوام ذات اتصال وثيق بخدمات الهيكل، لأن مياهها اعتبرت مياهاً مقدسة، وكانت تُحتسب أنها مثيلة بالمياه التي نبعت من الصخرة في سيناء، لذلك كانت تستخدم في طقوس عيد المظال على أساس هذا المعنى.
وعندما أمر الرب المولود أعمى أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام، كان وراء هذه الإرسالية معان، فالإغتسال بالمياه المقدسة في المفهوم الإنجيلي هو بحد ذاته معمودية. ومعروف في العهد الجديد أن اسم المعمودية السري أو الروحي هو «الاستنارة»، فالمعمودية هي سر الاستنارة.
وواضح أن هذا الضرير المحظوظ «أُرسل» أعمى، وعاد بصيراُ، أُرسل يتخبط في اظلام، وعاد في ضياء وملء «نورالعالم». وكان ذلك يوم سبت!!
ب- الظلمة تطارد النور ولا تدركه, والنور يدين الظلمة:
الآية في مضمونها الإلهي تشير إلى عملية خلق أو على وجه الأصح عملية «خلقة تصحيحية». فكل عمليات الشفاء التي أجراها المسيح تدخل تحت بند «الشفاء من المرض» أما تفتيح عيني الأعمى المولو بدون مقلتي العين فهي ليست شفاء. فنحن هنا لسنا أمام طبيب البشرية الأعظم يسوع، بل نحن بصدد عملية خلق، وأمام خالق.
والتركيز الأساسي في لغة الآية واقع عل كلمة «الطين»، لأن المقصود هو نقل عقولنا إلى سفر التكوين وكيف خلق الله الإنسان من «تراب الأرض». وفي مواضع كثيرة يذكر الوحي الإلهي «التراب» الذي صيره الله طيناً قبل أن يشكل الإنسان:
+ «يداك كونتاني وصنعتاني، كلي جميعاً ، أفتبتلعني (بغضبك)، اذكر أنك جبلتني كالطين, أفتعيدني إلى التراب.» (أي8:10-9)
+ «روح الله صنعني ونسمة القدير أحيتني... أنا أيضاً من الطين تقرصت.» (أي4:33-6)
+ «والآن يا رب أنت أبونا، نحن الطين, وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك.» (إش8:64)
لقد ولد الأعمى بدون عينين, وكأن الطين الذي جُبل منه تنقصه الصياغة. إذ لما شُكل الأعمى في بطن أمه سهي على الطبيعة أن تمده بمقلتين. لقد أخفق قانون التوريث والتوليد في أن يعطى صورة الكمال حسب الرسم. والمرجع لواضعه، فهو يصحح ما نقص من صورته. وكأن عجنة الطين عادت إلى يد خالقها الأول يشكل لها من ذات الطين عينين.
والملاحظ أن جميع الآيات التي فيها فتح المسيح أعين اعمثى، لم يكن فيها أعمى واحد وُلد من بطن أمه ناقص المقلتين، فاكتفى المسيح بأن يمسح العينين المكفوفتين بريقه فانفتحتا ورأتا النور: «فأخذ بيد الأعمى وأخرجه إلى خارج القرية وتفل في عينيه, ووضع يديه عليه، وسأله هل أبصرت شثيئاً, فتطلع وقال: ابصر الناس كأشجار يمشون. ثم وضع يديه أيضا على عينيه وجعله يتطلع، فعاد صحيحاً، وأبصر كل إنسان جليا.» (مر23:8-25)
أما هذا الأعمى المولود ناقص الخلقة، فالمسيح وقف منه موقف الخالق وجبل له من الطين ما نقص لجبلته. وانصاع الطين ليد النور الإلهي الخالق، فاستنار.
والآن نأتي إلى استخدام الريق أو اللتعاب «تفل على الأرض»، فإذا علمنا أن لعاب الإنسان يحوي من الميكروبات ما يكفي لإمراض أي عين سليمة، وأمامنا الأن أن لعاب المسيح استرجع عيناً سليمة بكامل صحتها، أدركنا سر الحياة والصحة الكائنة في جسم الرب ولعابه بنوع خاص. فالرب نقل إلى الأعمى الفاقد مقلتيه «سر الحياة الجسدية السليمة والكاملة, لتصحيح الصورة الجسدية المشوهة، لينطبق المثيل على المثيل، وليعرد الإنسان بمثل الصورة الجسدية الكاملة للمسيح. فلو رجعنا إلى تقليد الآباء القديسين في فهم كيف خلق الله الإنسان في البدء من التراب، الذي حوله الرب الإله إلى طين, لأدركنا مدى انطباق ذلك على عمل المسيح بالنسبة للأعمى: «اذكر أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب؟ ألم تصبني كاللبن وخثرتني كالجبن، كسوتني جلدا ولحمأ فنسجتني بعظام وعصب، منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي. لكنك كتمت هذه في قلبك. علمت أن هذا عندك.» (أي9:10-13)
فأيوب هنا يكشف كيفية ما تم في عملية الخلقة من درجات، التي أخفاها الله في قلبه، ولكنه أعلمها لأيوب. ومنها نفهم أن عملية الخلق تمت على نمط نمو الجنين في رحم الأم، حسب الصورة والمثال الذي كان في فكر الله. والآن كان أمام المسيح، الأعمى الفاقد مقلتيه، وكان هو المثال الكامل والصحيح. فالمسيح أخذ من المثال سر لاكمال، ووضعه في الصورة لكي يقبل الأعمى سر النور العامل في جسمم الإنسان الترابي، الذي كان ينقص خلقته.
«وقال له: اذهب اغتسل في بركة سلوام, الذي تفسيره مرسل, فمضى واغتسل, وأتى بصيراً»: قصة بركة سلوام قصة تحولت إلى قضية ضد القديس يوحنا وانجيله على مدى مائة عام من النقد المرير. فهذه البركة رُدمت منذ زمان بعيد جداً، وضاعت معالمها كلية، فاتحذها النفاد تكأة لنقد صحة الإنجيل بجملته، معتبرين أن القديس يوحنا لا يعرف جغرافية الأرض التي يكتب عنها، وإنما يؤلف أسماء ومسميات من عنده. علماً بأن القديس جيروم (إيرونيموس) رآها رؤيا العين وكتب عنها في شرحه لسفر إشعياء (6:8). وفي حفرياته أواخر القرن الثامن عشر أُكتشفت البركة وأُكتشفت القناة: « وبقية أمور حزقيا وكل جبروته وكيف عمل البركة والقناة وأدخل الماء إلى المدينة أما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا» (2مل20:20)، هذه القناة التي تحت الأرض التي تسحب المياه من النبع العالى المسمى الآن نبع مريم. وقد حُفرت هذه البركة بقصد توصيل المياه داخل أسوار أورشليم منذ زمن بعيد ربما منذ أيام سليمان. وقد ذكرها إشعياء النبي تحت اسم «مياه شيلوه، أو شيلون» (إش6:8) ومعنى الكلمة بالآرامي «مرسل»، لأنها ليست مياه نابعة من مكانها، بل منحدرة ومُرسلة إليها من نبع آخر أعلى. لذلك سماها إشعياء النبي مياه شيلوه، أي مياه مُرسلة، أي مياه جارية، لأنها كانت ترتفع وتنخفض مرتين في اليوم. وهي مياه عذبة جيدة للشرب وكانت تسقي حدائق الملك في وادي قدرون، قبل أن يلتحم في وادي يهوشافاط. ويُلاحظ أن الاسم العربي لبركة «سلوام» هو «سلوان». وجدران هذه البركة ملتحمة في الجدار الجنوبي للمدينة. والمكان الآن قد تحقق منه علماء الآثار أنه الحافة الجنوبية لجبل صهيون ومدينة داود.
وكانت بركة سلوام ذات اتصال وثيق بخدمات الهيكل، لأن مياهها اعتبرت مياهاً مقدسة، وكانت تُحتسب أنها مثيلة بالمياه التي نبعت من الصخرة في سيناء، لذلك كانت تستخدم في طقوس عيد المظال على أساس هذا المعنى.
وعندما أمر الرب المولود أعمى أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام، كان وراء هذه الإرسالية معان، فالإغتسال بالمياه المقدسة في المفهوم الإنجيلي هو بحد ذاته معمودية. ومعروف في العهد الجديد أن اسم المعمودية السري أو الروحي هو «الاستنارة»، فالمعمودية هي سر الاستنارة.
وواضح أن هذا الضرير المحظوظ «أُرسل» أعمى، وعاد بصيراُ، أُرسل يتخبط في اظلام، وعاد في ضياء وملء «نورالعالم». وكان ذلك يوم سبت!!
ب- الظلمة تطارد النور ولا تدركه, والنور يدين الظلمة:
لقد صار الأعمى آية بحد ذاته. لقد كان معروفا لدى كافة جيرانه, لأنه كان يجلس في مكان عام مكشوف ويستعطي تحت أيدي الناس. والآن أصبح وجوده فوق العادة وفوق رؤية جميع الناس. وحينئذ بدأ البعض يشكك في حقيقة الآية التي تمت فيه, ولكن كيف يمكن إخفاء الشمس, أو تُخفى الخليقة الجديدة التي وهبها المسيح كيانا من كيانه ووجودا فعالا من وجوده؟
حينما صدق الناس في رؤيتهم، قالوا: «إنه هو», وحينما عُميت بصيرتهم قالوا: لا «ليس هو». وينبري إنجيل يوحنا في إبراز معالم المسيح في الأعمى الذي يبصر، فيجعله ينطق «أنا هو».
والقديس يوحنا يرمي بالمعاني إلى بعيد!!... أليس هو الأعمى الذي يحمل ريق المسيح ولمسات يديه؟ والأن, آن الأوان ينطق بلسانه, ويكشف عن أثر لمساته؟؟؟ أليس هو الخالق لعينيه، والنور الواهب له نور الحياة؟ ألم يدخل الأعمى بذلك في زمرة الأغصان التي استمدت عصارتها من حياة الكرمة، ويصح فيه القول: أنتم نور العالم؟
صحيح أن الإمتحان, الذي دخل فيه صاحب العينين المخلوقتين جديدا, صعب للغاية, لكنه لم يخطىء الرؤيا على كل حال: «إنسان يقال له يسوع». هنا الترجة العربية معيبة, ينقصها التشديد والتعريف, وصحتها باليونانية: «الإنسان الذي يُقال له يسوع». فالأعمى يرى هنا المسيح في وضع يفوق كل الناس الذين رأوه وعطفوا عليه... لقد قدم شهادة للمسيح تتساوى فقط مع لهفة السائلين، واحتفظ لنفسه في قلبه بشهادة أعلى بالنسبة لهذا الإنسان الفائق يسوع «إنه نبي». ولكنه قالها، عندما لزم التحدي!! وإنه «من الله»» عندما لزم الانحياز. ولما سألوه: «أين هو» ردد ما يقولونه في ضمائرهم: لا أعلم من أين هو، ولا أين هو!!
كل الذي يعلمه الأعمى المبصر عن يسوع، أنه هو صاحب الآية التي يحملها الآن في جسده!!
كلمة «الفريسيين»» هنا نفهمها على أنها هيئة صغرى متفرعة من هيئة السنهدريم، لأن السنهدريم يكنى عنه في إنجيل يوحنا «الفريسيين ورؤساء الكهنة». وكان يوجد في أورشليم هيئتان متفرعتان من السنهدريم، كل هيئة منهما عددها 34 عضوا, وكان لها حق المحاكمة والقطع من الجماعة (شعب إسرائيل) في القضايا الصغرى، وقد كني عنها أحيانا «اليهود» في مواضع من الإنجيل. وكان يوجد في كل المدن الكبرى هيئة مماثلة.
أما نوع التعدي على قانون حفظ السبت، فيراه الفريسيون حسب تخريجاتهم المنصوص عنها في كتاب الجمارا «إنه تُحسب خطية لكل من يضع دواء داخل العين». هذا بالإضافة إلى أن عجن الطين بالماء يوم السبت محسوب أيضا أنه خطية، وكذلك استخدام الريق أو اللعاب لعلاج العين هو أيضأ تعد. وبذلك يكون المسيح قد كسر السبت من عدة نواح.
ولكن الرب, بحسب رؤيته الإلهية أن السبت لا يمنع الآب من أن يعمل، وهو يعمل عمل الآب بصفته رب السبت، أي الذي يقدم له الاحترام والعبادة، لذلك، أقدم على شفاء الأعمى، العمل الذي أثبت به قطعأ صدق قوله وفكره أنه « رب لمجد الله الآب.» (في11:2)
لقد تجاهل الرب قوانين الفريسيين، بل ونص الناموس أحيانا كثيرة، باعتبار أن حياة الإنسان وروحه أعلى قيمة واكثر أهمية من السبت وناموسه.
أما سؤال الفريسيين للأعمى البصير «كيف أبصر» فكان ينصب على العملية التي أجراها له المسيح من حيث خطواتها فقط، التي يرونها أنها مخالفة لقوانين حفظ السبت؛ أي لم يكن لهم أية رغبة في فحص نتيجة الآية. لا يهمهم أنه يرى الآن وقد كان مولودا أعمى، ولكن الذي يهمهم جداً هو كيف انكسر السبت في عملية شفائه، وهذا هو معنى الانحراف بالناموس نحو الحرف، والحرف يقتل أو قتال، كما عزموا على قتل المسيح؛ أما الروح فيحيي. فالناموس حرف, وكلام المسيح روح ونور وحياة.
عجيب حقا أن يقف علماء وقضاة الناموس موقف القتلة، دفاعأ عن الناموس؟ ويقف الأعمى موقف النور والحق والحياة, دفاعأ عن المسيح.
وفي إجابة الأعمى البصير للفريسيين: «وضح طينا على عيني, واغتسلت، فأنا أبصر»، نوع من الحذق الماهر الماكر. لقد أسقط الأعمى عملية عجن الطين بالريق, وهي العملية الاولى الممنوعة في ناموس السبت, ثم أسقط عملية الذهاب إلى بركة سلوام التي فيها مسيرة ربما تكون مناقضة لأحكام السبت. وعلى العموم، فإن رد الأعمى البصير فيه شعور واضح بالضيق، فقد اختصر القصة إلى مستوى التحدي. وسنرى في الآية 27 كيف انفجر فيهم هذا البصير الذي كان أعمى ساخرا : «قد قلت لكم ولم تسمعوا . لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً, ألعلكم تريدون أن تصيروا له تلاميذ.» (يو27:9)
لتد أحس هذا الموهوب أنه صار تلميذا للذي يدافع عنه ولو لم يره بعد، وهذا عجب. أما الذين رأوه وسمعوه وشاهدوا آياته ومعجزاته فأنكروا واستعلوا أن يكونوا له تلاميذ, ذاك الذي هو رب المجد!...
أنظر، أيها القارىء، إلى أي مدى أعمى التعصب للقانون والحرف عيون القضاة، فرأوا اليوطا (أصغر حروف الهجاء)، أي حرفية الناموس, أكبر من الألفا والاوميجا معاً «أنا هو الألف والياء» (رؤ8:1)
الانقسام الذي طالما سمعناه في ختام كل تعليم إلى الآن, ولكن كان في السابق انقساما بين الجموع ثم انقساما بين اليهود. ولكن الانقسام هنا هذه المرة بين القضاة في المحكمة الجزئية. وهو انقسام بين قضاة متمسكين بالقانون وحرفيته، وقضاة منطقيين متمسكين بالواقع وتفسيره المتسع . فالقانونيون رفعوا السبت فوق كل منطق وواقع، واعتبروا المسيح مدمنا على كسر السبت حتى إلى سبع مرات: «لا يحفظ السبت». والمنطقيون حكموا الواقع وتفسيره في شرح معنى ومدى اعتبار أن كسر السبت خطية, بالنسبة لرجل أظهرت أعماله وآياته مدى إمكانية تبرير كسره للسبت. وهذا يعتتر تقدما كبيرا في عقلية الفريسيين ، فكان الانشقاق. فتأجل الحكم في القضية لإعادة الفحص.
شهادة الأعمى الذي صار بصيرا تأكيد للنور الذي دخل أعماقه قبل أن يدخل مقلة عينيه. لقد أحسه ذلك الموهوب وأحس من أين أتى، لم يقل إن الذي أبرأني رجل صالح أو طبيب, ولكنه تعرف عليه أنه من الله ونبي هو على أقل تقدير، بسبب القوة الإلهية التي هزت كيان خلقته بأجمعها. فالعين ليست عضوا مفردا قائما بذاته, بل نسيج متصل بنسيج الجسم كله, ومركزها في أهم مواقع المخ، وأعصابها منتشرة في أنحاء شتى. هذه الأنسجة وهذه الأعصاب جميعا، بل هذا المخ, والجسد كله, اهتز كيانه اهتزازا بدخول هذا الضيف الإلهي الغائب ليملأ الكيان المخلوق ويكمله كمالاً!! إن أول ما رآه هذا الأعمى، رأى قوة الله التي أنارت قلبه قبل أن تنير عينيه، وظل متشوقاً أن يطبق هذه الرؤيا على الوجه النبوي الذي أبرأه، حتى رأه وتعرف عليه أنه ابن الله ورب الأنبياء، وسجد له متعبداً. لم يلق الأعمى المبصر اي اعتبار لمقصد هؤلاء الفريسيين لما سألوه, بل وتجاوز انقسامهم وشكوكهم، بل وتجاوز علمهم وتعليمهم، بل تجاوز وعدهم ووعيدهم، وقال قولته بشموخ الإيمان الذي لا يهاب العقاب: «إنه نبي».
ولم يكن أمام الفريسيين إلا أن يلجأوا إلى أولياء أمره, عسى يخضعونهم لإرهابهم. فلما فلت الأبوان ين أيديهم، إذ أحالهم هذان إلى حامل المعجزة مرة أخرى، إذ هو كامل السن, بعد أن أقروا أنه هو هو الذي ولدوه أعمى, فعادوا إلى الأعمى مرة أخرى وقد بيتوا له النية بالقطع من الجماعة، والحرمان من حقوق إسرائيل.
لقد ظن بعض علماء الكتاب المقدس أن كلمة «أعط مجدا لله»، هي مجرد إجراء قانوي يلزم المتهم بالاعتراف بالحق خوفا من الله. ولكن في الحقيقة هو أيضاً إجراء ديني بجوار أنه إجراء قانوني، ومؤداه أنه مزمع إصدار حكم ضده بأن يقطع من الجماعة أو يُحكم عليه بالموت، كما حدث في قصة عاحان بن كرمي (يش19:7). فطلبهم هذا منه أن يعطى مجد لله هو كشهادة يشهدها لله قبل أن يموت أو يُقطع، وذلك حتى يحتفظ لنفسه بحق الرحمة في الدهر الآتي ، بعد أن يكون قد حُرم من كل حقوق الحياة كواحد من شعب الله في الحاضر. وكان هذا الإجراء يكشف ضمنا للمتهم عن مدى خطورة شهادته التي سيشهدها، فكان هذا الإجراء يستخدمونه بالدرجة الثانية، بنوع من الدهاء، للتهديد ليرعب قلب المتهم، حتى يبتلع شهادته السابقة د «أنه نبي» ويغير من أسلوب عناده. كما كان تفكير هؤلاء الفريسيين المتعاهدين ضد هذا الشاهد الخطير، هو محاولة زحزحة اعترافه بالمسيح كنبي أو المسيا، وذلك بإعطاء «المجد لله» دون سواه. لذلك أردفوا أمرهم هذا بتقرير رسمي من حكمهم كهيئة رسمية بالنسبة للمسيح: «أنه إنسان خاطىء» حتى يلتزم بتغيير شهادته السابقة «إنه نبي» عن إجبار واضطرار دون اختيار...
أليس هذا هو الإرهاب الديني بنصه ويقينه؟!... تبا للقانون إذا سٌلم لقضاة جلادين، ويا لضيعة الحق، إذا وقع تحت رحمة الجهلة المنافقين!
ألم يأت المسيح من أجل ذلك, من أجل أن يبطل صراع الحق مع الحرية؟ «تعرفون الحق والحق يحرركم»؟ ومن أجل أن يرفع الإنسان يده الثقيلة من القضاء في شئون الله ليصير القضاء بقتضى كلمة الله وحدها: «أما أنا فلست أدين أحدا ... الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير.» (يو15:8 و48:12)
«أخاطىء هو لست أعلم, إنما أعلم شيئاً واحداً, أني كنت أعمى والآن ابصر»: عسير جداً على الإنسان أن يطفىء الشمس بنفخة فمه، أو يرفس السيف (أو مناخس) برجليه. أهكذا عميت بصائر هؤلاء الفريسيين حتى إنهم يحاولون أن يستنطقوا أعمى وُلد أعمى، وعاش أعمى حتى بلغ سن البلوغ, أن يجحد من خلق له عينين يرى بهما النور والناس والدنيا والجمال؟ أمور كان قد كُتب عليه أن يُحرم منها حتى إلى القبر؟ أهكذا حقا تعلم الفريسيون علم اللاهوت وغوامض الناموس أن يقولوا للنور أنت ظلام؟
وهل الحق والحياة والمعرفة والنور والله جُعلت هكذا مقيدة بقيود معرفتهم وحدهم، فإذا وُجدت هذه بعينها ونصها وصميمها خارج علمهم ومعرفتهم، كانت هي الباطل والخطية؟؟
ها أبأس الإنسان إذا ظن أنه صار بعلمه قيماً على أموو الله، وبسلطانه وصياً على وصاياه، ومتولياً من دون الله شئون الله.
أليس من أجل هذا نادى الرب بصوته العالي: أنا لا أعمل من نفسي, أنا لا أتكلم من نفسي, أنا لست أصنع مشيئتي, أنا لا أطلب مجد نفسي, أنا لا أدين أحدا ... ثم رأى الرب تعالي الفريسيين بعلمهم ومعرفتهم، وأن تعاليهم هذا أسقط الله من قلوب الناس: «تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء (الحاخامات) والفهماء، وأعلنتها للأطفال, نعم أيها الأب لأن هكذا صارت المسرة أمامك.» (لو21:10)
وهكذا، ولهذا، أخفى الله علم معرفته الحقيقية عن الحكماء عند أنفسهم والناس. وهذه هي بعينها رؤية القديسة مريم العذراء الصبية القديسة والنبية المختارة: «صنع قوة بذراعه، شتتت المستكبرين بفكر قلوبهم, أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين، أشبح الجياع (إلى الله) خيرات وصرف الأغنياء فارغين.» (لو51:1-53)
وهكذا وقف الشحاذ الأعمى الذي كان بالأمس يستعطي حسنة، وقف بين الحاخامات يجحد معرفتهم, وينفي صحة منطقهم، ويتجاهل بأس سلطان علمهم: علمكم الذي يقول أنه خاطىء، هذا لست أعلم اعلم، أما الذي أعلمه علم اليقين، علم الحق والواقع الملموس والمنظور، علم النور الذي هو أصدق لي من الشمس, أني كنت أعمى والآن أبصر. خلقني الله بلا عينين، وهذا الذي تقولون عنه أنه خاطىء هو الذي خلق لي عينين صحيحتين، فاحكموا أنتم من يكوذ هذا!... أما أنه خلق لى العينين يوم سبت، فمبارك هذا السبت، ومبارك العمل الذي عُمل لي فيه.
لقد ظن بعض علماء الكتاب المقدس أن كلمة «أعط مجدا لله»، هي مجرد إجراء قانوي يلزم المتهم بالاعتراف بالحق خوفا من الله. ولكن في الحقيقة هو أيضاً إجراء ديني بجوار أنه إجراء قانوني، ومؤداه أنه مزمع إصدار حكم ضده بأن يقطع من الجماعة أو يُحكم عليه بالموت، كما حدث في قصة عاحان بن كرمي (يش19:7). فطلبهم هذا منه أن يعطى مجد لله هو كشهادة يشهدها لله قبل أن يموت أو يُقطع، وذلك حتى يحتفظ لنفسه بحق الرحمة في الدهر الآتي ، بعد أن يكون قد حُرم من كل حقوق الحياة كواحد من شعب الله في الحاضر. وكان هذا الإجراء يكشف ضمنا للمتهم عن مدى خطورة شهادته التي سيشهدها، فكان هذا الإجراء يستخدمونه بالدرجة الثانية، بنوع من الدهاء، للتهديد ليرعب قلب المتهم، حتى يبتلع شهادته السابقة د «أنه نبي» ويغير من أسلوب عناده. كما كان تفكير هؤلاء الفريسيين المتعاهدين ضد هذا الشاهد الخطير، هو محاولة زحزحة اعترافه بالمسيح كنبي أو المسيا، وذلك بإعطاء «المجد لله» دون سواه. لذلك أردفوا أمرهم هذا بتقرير رسمي من حكمهم كهيئة رسمية بالنسبة للمسيح: «أنه إنسان خاطىء» حتى يلتزم بتغيير شهادته السابقة «إنه نبي» عن إجبار واضطرار دون اختيار...
أليس هذا هو الإرهاب الديني بنصه ويقينه؟!... تبا للقانون إذا سٌلم لقضاة جلادين، ويا لضيعة الحق، إذا وقع تحت رحمة الجهلة المنافقين!
ألم يأت المسيح من أجل ذلك, من أجل أن يبطل صراع الحق مع الحرية؟ «تعرفون الحق والحق يحرركم»؟ ومن أجل أن يرفع الإنسان يده الثقيلة من القضاء في شئون الله ليصير القضاء بقتضى كلمة الله وحدها: «أما أنا فلست أدين أحدا ... الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير.» (يو15:8 و48:12)
«أخاطىء هو لست أعلم, إنما أعلم شيئاً واحداً, أني كنت أعمى والآن ابصر»: عسير جداً على الإنسان أن يطفىء الشمس بنفخة فمه، أو يرفس السيف (أو مناخس) برجليه. أهكذا عميت بصائر هؤلاء الفريسيين حتى إنهم يحاولون أن يستنطقوا أعمى وُلد أعمى، وعاش أعمى حتى بلغ سن البلوغ, أن يجحد من خلق له عينين يرى بهما النور والناس والدنيا والجمال؟ أمور كان قد كُتب عليه أن يُحرم منها حتى إلى القبر؟ أهكذا حقا تعلم الفريسيون علم اللاهوت وغوامض الناموس أن يقولوا للنور أنت ظلام؟
وهل الحق والحياة والمعرفة والنور والله جُعلت هكذا مقيدة بقيود معرفتهم وحدهم، فإذا وُجدت هذه بعينها ونصها وصميمها خارج علمهم ومعرفتهم، كانت هي الباطل والخطية؟؟
ها أبأس الإنسان إذا ظن أنه صار بعلمه قيماً على أموو الله، وبسلطانه وصياً على وصاياه، ومتولياً من دون الله شئون الله.
أليس من أجل هذا نادى الرب بصوته العالي: أنا لا أعمل من نفسي, أنا لا أتكلم من نفسي, أنا لست أصنع مشيئتي, أنا لا أطلب مجد نفسي, أنا لا أدين أحدا ... ثم رأى الرب تعالي الفريسيين بعلمهم ومعرفتهم، وأن تعاليهم هذا أسقط الله من قلوب الناس: «تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء (الحاخامات) والفهماء، وأعلنتها للأطفال, نعم أيها الأب لأن هكذا صارت المسرة أمامك.» (لو21:10)
وهكذا، ولهذا، أخفى الله علم معرفته الحقيقية عن الحكماء عند أنفسهم والناس. وهذه هي بعينها رؤية القديسة مريم العذراء الصبية القديسة والنبية المختارة: «صنع قوة بذراعه، شتتت المستكبرين بفكر قلوبهم, أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين، أشبح الجياع (إلى الله) خيرات وصرف الأغنياء فارغين.» (لو51:1-53)
وهكذا وقف الشحاذ الأعمى الذي كان بالأمس يستعطي حسنة، وقف بين الحاخامات يجحد معرفتهم, وينفي صحة منطقهم، ويتجاهل بأس سلطان علمهم: علمكم الذي يقول أنه خاطىء، هذا لست أعلم اعلم، أما الذي أعلمه علم اليقين، علم الحق والواقع الملموس والمنظور، علم النور الذي هو أصدق لي من الشمس, أني كنت أعمى والآن أبصر. خلقني الله بلا عينين، وهذا الذي تقولون عنه أنه خاطىء هو الذي خلق لي عينين صحيحتين، فاحكموا أنتم من يكوذ هذا!... أما أنه خلق لى العينين يوم سبت، فمبارك هذا السبت، ومبارك العمل الذي عُمل لي فيه.
وعودة مرة أخرى إلى استجواب مُضاد، لعلهم يظفرون بمعلومة تهدم شهادته وتوقعه مرغما في إدانة المسيح ... ماذا صنع بك؟ لعله يكون قد استخدم طريقة شيطانية أو استعان بقوى غير منظورة, ولكن الشاب كان قد طفح به الكيل، وتضايقت نفسه من محاولة الضغط عليه لكي يفرط في حق من أحسن إليه, فما كان منه إلا أن استخدم أسلوب المراجعة والهجوم والتضييق عليهم: لقد قلت لكد ولم تسمعوا، فلماذا المحاورة؟ على ما تلوون؟ لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً؟
وهنا بلغت السخرية منهم أقصى حدودها: ألعلكم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟ وهنا نجح هذا البصير الأعمي في تغيير دفة الحديث والحوار كله، بل وأسقطهم في حيرة من أنفسهم جعلتهم يقفون منه موقف الدفاع، إنما في إحساس بالمهانة جعلتهم يشتمونه!! ولا نعلم بماذا شتموه، وانما أضافوا إلى الشتيمة إلصاق تهمة الخروج عن الناموس. «أنت تلميذ ذاك»، باعتبار أن هناك فاصلا عقائديا يفصل بين المسيح وموسى: «أما نحن فإننا تلاميذ موسى». وهذا الاتهام هو الذي على أسامه أخرجوه خارج الجماعة. ولكنه في الحقيقة خرج بشهادة محفوظة له في السموات أنه «تلميذ ذاك»!!
لا تزال عقول الفريسيين مشتبكة في المقارنة بين «أنت» و «نحن»، وبين التلمذة لذاك ولموسى، ثم بين موسى وذاك، مما يكشف عن تشكك في عقولهم وتشكيك لعقول الآخرين. والذى زاد الهوة والحقد أن مصدر السلطان الذي يستمد منه المسيح رسالته، لا يمر بسلطانهم ولا بعلمهم ولا بمدارسهم, وهذا هو أصل المرارة التي كانت تطفح بها أقوالهم. لقد وطدوا كيانهم وسلطانهم على أساس أنهم تلاميذ موسى، وموسى استمد سلطانه من الله، إذن، فسلطانهم هو سلطان موسى، إنهم بفم موسى يتكلمون كأنهم من الله. والمسيح يهدد نظريتهم بكل أصولها وفروعها، وذلك ببراهين وآيات. هنا جاء الشك في قلوبهم، وكثير منهم آمن وانحاز للمسيح، إن سرا أو جهرا. أما الباقون، فأصبح عليهم التشكيك والهدم أو القتل لئلا يضيع سلطانهم. وهذا الأعمى الذي أبصر، صار يمثل أخطر تهديد لهم ولنظرياتهم، لأنه شاهد علن, بل شاهد علم، أن «ذاك», أي المسيح, هو في نظر الأعمى البصير في موقف الخالق. بل والأعمى البصير أدرك ضعف موقفهم منه ومن المسيح، فاستغل ذلك منهم أقوى استغلال، وبدأ يشدد النكير عليهم؛ وبنفس منطقهم، أخذ يسخر منهم في أسلوب استهجاني لاذع: «إن في هذا عجبا إنكم..». لقد وضعهم في موضع ذوي التفكير الداعي للتعجب والاستهجان: «إنكم لستم تعلمون من أين هو وقد فتح عيني». فالذي يفتح عيون العمي هو، عند جميع الأنبياء الذين تعلمتم عليهم، مسيا، ومسيا وحده، لأنه «منذ الدهر لم يسمع أن أحدا فتح عيني مولود أعمى». حتى موسى الذي به يفتخرون لم يفتح عين أعمى واحد!
فإذا أنكرتم «أنه نبي» وإذا تجاهلتم أنه مسيا، فلا ينبغي أن تنكروا تقواه، وأنه يصنع مشيئة الله، وأنه من الله . فلا يستقيم قط قولكم أنه إنسان خاطىء، لأن الله، إذ فتح عيني على يديه، يكون قد سمع له، والله لا يسمع للخطاة!!
لقد أوقعهم الأعمى الذي أبصر، في نفس الفخ الذي نصبوه له؛ وبنفس منطقهم ببساطة وهدوء قاتل لكبريائهم. فإزاء قولهم: «نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطىء»، حيث قصروا علمهم على أنفسهم فقط «نحن» (الفريسيين)، أجابهم بنفس منطقهم، إنما على أساس علم أعم وأشمل يعرفه الجميع وبلا استثناء، ولا يمكن أن يجهله أحد أو يماحك فيه إنسان، وذلك بقوله: «معلوم لدى الجميع» أو «كلنا نعلم». أما علمهم المحصور في عقولهم فينتهي عند «أن هذا الإنسان خاطىء»، وذلك بحسب قياس جزئي على قانون أو ناموس كسر السبت. وأما علم الجميع, فهو يقوم على أساس صفة مطلقة من صفات الله، وهي بديهية، لا يماحك فيها إنسان قط: «إن الله لا يسمع للخطاة (إن راعيت إثما في قلبي لا يستمع لي الرب – مز 18:66) وهذا الإنسان قد فتح عيني».
وكالعادة حينما استبدت بهم الحيرة وعجزوا عن التمشي مح منطقه, بدأوا يهينونه: «في الخطايا وُلدت أنت بجملتك، وأنث تعلمنا».
ولقد وقع الفريسيون في المحظور، فقد نسبوا عماه إلى خطيته وخطية أبيه وأمه، فلو لم يكن الله قد وهبه النظر وفتح عينيه بالفعل لكانت إهانة من أشنع الإهانات التي يمكن أن تسمعها أذن بشر. ولكن الآن وقد وهبه الرب النظر الصحيح جسد وروحا, فقد ثبت أنه لا هو أخطأ ولا أبواه. وهكذا ارتدت الإهانة عليهم مضاعفة دون أن تصيب هذا الموهوب ولا أبويه ولا قيد شعرة! ومن هذه الإهانة المقصودة، والتي لم تصب هدفها، يتضح مدى المرارة والحقد والاحتقار الذي ملأ قلوبهم نحو هذا الأعمى المنعم عليه بالنظر، لأنه وقف موقف الشاهد للمسيح. كما نستشف من ردود هذا الإنسان المبارك، مقدارالافتخار بالله والتمسك بكرامة المسيح فى تمجيده، وعدم الانصياع إلى تهديد الفريسيين حتى إلى الطرد، مع أنه لم يكن قد رآه بعد!... ولكن كان هم المسيح أن يهبه النور الأعظم، فسعى وراءه حتى وجده.
من روح هذه الآية ندرك أذ الرب هو الذي سعى مرة أخرى ليتقابل معه. لأن كلمة «فوجده» يسبقها حتما أنه كان يطلبه. لأن الفريسيين أخوجوه خارجا، أي خارج حظيرتهم التي وضعوا أنفسهم عليها حراسا لا رعاة. وحتى أبواه خشيا من إيوائه، خوفا من أن يلحقهم الطرد. أما الراعي الصالح فكان يسعى خلف الغنيمة التي غنمها لحساب الآب، حتى يكمل عمل الآب فيها. فلما «وجده» وجده وعلى فمه فرح الشهادة، أما نفسه فكان عليها سمات الرب: الاهانة والطرد. وحالا فتح له باب الحياة الأبدية على سعته، وطلب منه إبراز تذكرة الدخول: «أتؤمن بابن الله؟» فأبرزها الأعمى البصير بكل شجاعة وفرح، لأنه كان قد دفع ثمنها بالكامل على باب المسلخة عند جباة المكوس.
كان يظنه أولا نبي ولكن لما علم أن الواقف أمامه والذي يرى وجهه ويتكلم معه هو هو ابن الله صاحب الملكوت، والحامل لمفاتيح باب الحياة، خر أمامه ساجدا؛ فللحال انفتحت بصيرته ورأى صاحب النور، لأن «بنورك (يا رب) نرى نورا.» (مز9:36)
كان المنظر مهيبا أخاذا عندما خر الأعمى البصير عند قدمي الرب ساجدا في انفعال التعبد الصادق، وحول الرب تلاميذه والفريسيون المناكفون ينظرون ويتعجبون؛ ومن واقع هذا المشهد الشاهد لحقيقة النور الذي جاء إلى العالم، فانفتحت له أعين العمى بهتاف الشهادة والإيمان، والفاضح لموقف مدعي الإبصار الذين يحاولون بكل جهد إطفاء النور أو إخفاءه لئلا يظهر خزي عماهم، نادى حامل النور: «لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم» !!
ولكن المسيح لا يشدد النكير على الفريسيين، لأنه ما ذنب النور أنه يفضح الظلام؟ إن هذا حتما هو عمله حتى ولو لم يشأ، واذا شاء فهذا حق له لأنه طبيعته، وهذا هو الحق الذي يشاؤه الله أيضا.
«حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون»: هذه الآية هي من واقع سجود الأعمى البصير، والشهادة للمسيح، والإعلان عن إيمانه بسجود وعبادة؛ كذلك هي من واقع مقاومة الفريسيين للمسيح، ورفضهم أية تفتيح عيني الأعمى، ورفضهم الإيمان بالمسيح معا.
وهكذا نرى أن الأعمى قبل النورين: نور الجسد ونور الله ، فأبصر واستنار معا!!
كما نرى هؤلاء الفريسيين المبصرين ومدعي البصيرة يرفضون آية النور في الجسد، وشهادة نور الله معا! فانحجب عنهم النور بإرادتهم، فلأنهم استحسنوا أن لا يبقوا النور في معرفتهم عمتهم الظلمة وأعمتهم. هؤلاء الذين قال عنهم المسيح: «أحب الناس الظلمة أكثر من النور, لأن أعمالهم كانت شريرة» (يو19:3)» ووصفهم الرب بأنهم «عميان قادة عميان» (مت14:15) وفي الحفرة حتما ساقطون.
لما ذاق الأعمى النور وأحبه، سعى النور وراءه فأدرك مصدره، ومن هوة الظلام الدامس انتقل إلى إشراق نور الله الكامل، هذا هو وعد الله بالمسيح يسوع لكل الجالسين في الظلمة وظلال الموت يشرق عليهم النور، طالما سعوا إليه وقبلوه وأحبوه وومدحوه. ومن الفقر المدقع والجلوس على عتبات البيوت جائعا يستعطي خبزا، انتقل الأعمى إلى عتبة بيت الله كتلميذ، يوزع شبعا من غنى نعمته على الداخلين، وهذا هو وعد الله بالمسيح يسوع الذي نطقت به العذراء القديسة مريم النبية، والمسيح لا يزال في بطنها: «شتت المستكبرين بفكر قلوبهم, أنزل الأعزاء عن الكراسي, ورفع المتضعين, أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين» (لو51:1-53)
هذه النبوة التي تحققت ولا تزال تتحقق، وسيتم كمال تحقيقها، تقوم على أساس رفض الله المطلق للمتكبرين بأفكار قلوبهم، والمعتزين بوظائفهم ومناصبهم, والمعتمدين على قوتهم وغناهم، في مقابل المتضعين والمساكين والمعتازين؛ لأن: «المستعلي عند الناس, هو رجس قدام الله.» (لو15:16)
ولكن المصيبة الكبرى والطامة العظمى ليست في مجرد الكبرياء بالأفكار الذاتية, ولا في التعظم بالوظائف والمناصب، ولا في الاعتماد على القوة والمال والعزوة, ولكن أم المصائب كلها هى في عدم الانتباه وفقدان الشعور بأن هذه أمور باطلة ومكروهة، وأنها ضد الله، وسبب خراب الإنسان، التي شرحها الرب للفريسيين المتمسكين بها دون أن يدروا: «لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية, ولكن الآن تقولون أننا نبصر فخطيتكم باقية»، والذي سيأتي تفسيره.
ولكن لا انتصح الفريسيون في زمانهم ولا انتصح الفريسيون في كل زمان. فالفريسية المتعجرفة، بغناها الكاذب، لا تزال تملأ أرجاء العالم، والتي أرهقت روح الرب أكثر مما أرهقته الفريسية الاولى؛ أي الذين تحصنوا واستغنوا بالمال والعلم والتقوى الكاذبة, وجلسوا على كرسي المسيح و«يقولون ولا يفعلون» (مت3:33). هؤلاء رآهم القديس يوحنا الإنجيلي في رؤياه والمسيح يكاد يتقتأهم ويخاطبهم: «أنا مزمع أن أتقياك من فمي، لأنك تقول إني أنا غني، وقد استغنيت, ولا حاجة لي إلى شيء, ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان.» (رؤ16:3-17)
وبهذا تتزكى عدم المعرفة في مقابل المعرفة التي بلا عمل. والكلام في ذلك كثير, والنصيحة لم تنقطع من فم الرب لمثل هؤلاء لو استطاعوا أن يستغنوا عن غناهم وهيهات: «أشير عليك أن تشتري مني ذهبا مصفى بالنار(الإيمان الممحص بالتجربة) لكي تستغني (بالحق)، وثيابا بيضاء (مبيضة بآلام ودم الشهادة) لكي تلبس, فلا يظهر خزي عريتك (نجاستك)، وكحل عينيك بكحل (القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الله) لكي تبصر (النور).» (رؤ18:3)
«فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين وقالوا له. ألعلنا نحن أيضا عميان. قال لهم يسوع: لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية. ولكن الآن تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية»: سؤال الفريسيين خارج من نفوس متكبرة بفكر قلوبها باعتبارهم: «قادة للعميان ونور للزين في الظلمة» (راجع رو19:2). ورد المسيح مرعب، فهو نطق الدينونة التي ينطق بها النور الحقيقي.
ولكي ندرك عمق المعنى المدفون في هذه الآية, علينا أن نتصور أن الظلمة وقفت تتكلم أمام الشمس. فقالت الظلمة: أنا هو النور, فماذا تقول الشمس؟ تقول: مبارك عليك نورك أيتها الظلمة، وتصمم الشمس أن لا تشرق عليها. ولكن إن قالت الظلمة: أنا ظلمة أغيثيني أيتها الشمس، فإن الشمس تقول: مرحبا هذا نوري وهذا إشراقي. هذا الحوار يصوره إشعياء النبي بهذه الآية: «قومي استنيري، لأنه قد جاء نورك, ومجد الرب أشرق عليك. لأنه ها هي الظلمة تغطي الارض والظلام الدامس الأمم» (إش1:60-2). ومعنى الكلام أن الرب يسوع لم يتجسد لتنفيذ إرسالية الخلاص إلا بعد أن صارت الظلمة على كل الأرض، ظلمة المعرفة والسلوك والأخلاق، أي ظلمة الخطية.
وها تأتي آية الرب بكل إحكام: «وهذه هي الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظمة أكثر من النور, لأن أعمالهم كانت شريرة.« (يو19:3)
فالذي يعمي الناس عن النور هي الأعمال الشريرة، أي الخطية. فإذا تبجح الناس وقالوا نحن نبصر، ونحن نور للذين في الظلمة، مع أن أعمالهم شريرة؛ فهذا معناه أنهم بالحقيقة عميان، وخطيتهم هي التي زيفت عليهم النور كأنه ظلمة، والظلمة كأنها نور! وطالما أصروا على أنهم يبصرون، وهم لا يبصرون، فهذا معناه أن خطيتهم أعمت أعينهم، وهي باقية لهم.
أولا: استعلان عمل المسيح الفدائى من نحونا
«الراعى الصالح»
(1:10-16)
نحن لا زلنا في موسم عيد التجديد. والحديث هنا هو امتداد للأصحاح التاسع، وهو يختص بالعلاقة التي تربط المسيح بخاصته الذين يؤمنون به. وهذا على أساس أن الأعمى الذى أبصر وشهد للمسيح، وصار من المؤمنين, أخرجوه خارع الجماعة, أي خارج حظيرة إسرائيل، وذلك باعتبار أنهم هم حراس الحظيرة ورعاة الخراف.
كان طرد الأعمى, الذي أعطاه المسيح موهبة النظر, بإجراء حكم الطرد ضده وحرمانه من حقوق شعب إسرائيل، وإخراجه خارج حظيرة إسرائيل دون أي سبب قانوني، من أخطر الأعمال المضادة لله التي عملها الفريسيون بصفتهم رعاة الشعب وحراس إسرائيل. وللحال رفع المسيح هذا الإجراء الشاذ الذي ينافي الحق والعدل والرحمة إلى التطبيق العملي, الذي سبق أن تنبأ به الأنبياء إرميا وحزقيال وزكريا، والذي يلزم أن نوضحه للقارىء ليدرك أبعاد المعاني التي يرمي اليها المسيح:
إرميا النبي (1:23-4): «ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي، يقول الرب. لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل عن الرعاة الذين يرعون شعبي: أنتم بددتم غنمي وطردتموها ولم تتتعهدوها، هأنذا اعاقبكم على شر أعمالكم يقول الرب ... واقيم عليها رعاة يرعونها, فلا تخاف بعد، ولا ترتعد ولا تُفقد، يقول الرب».
إرميا النبي (1:23-4): «ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي، يقول الرب. لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل عن الرعاة الذين يرعون شعبي: أنتم بددتم غنمي وطردتموها ولم تتتعهدوها، هأنذا اعاقبكم على شر أعمالكم يقول الرب ... واقيم عليها رعاة يرعونها, فلا تخاف بعد، ولا ترتعد ولا تُفقد، يقول الرب».
حزقيال النبي (أصحاح 34): وَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ: يَا ابْنَ آدَمَ (ابن الإنسان) تَنَبَّأْ عَلَى رُعَاةِ إِسْرَائِيلَ, وَقُلْ لَهُمْ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِلرُّعَاةِ: وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْعُونَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ الْغَنَمَ؟ تَأْكُلُونَ الشَّحْمَ وَتَلْبِسُونَ الصُّوفَ وَتَذْبَحُونَ السَّمِينَ وَلاَ تَرْعُونَ الْغَنَمَ. الْمَرِيضُ لَمْ تُقَوُّوهُ, وَالْمَجْرُوحُ لَمْ تَعْصِبُوهُ, وَالْمَكْسُورُ لَمْ تَجْبُرُوهُ, وَالْمَطْرُودُ لَمْ تَسْتَرِدُّوهُ, وَالضَّالُّ لَمْ تَطْلُبُوهُ, بَلْ بِشِدَّةٍ وَبِعُنْفٍ تَسَلَّطْتُمْ عَلَيْهِمْ. فَتَشَتَّتَتْ بِلاَ رَاعٍ وَصَارَتْ مَأْكَلاً لِجَمِيعِ وُحُوشِ الْحَقْلِ, وَتَشَتَّتَتْ. ضَلَّتْ غَنَمِي فِي كُلِّ الْجِبَالِ وَعَلَى كُلِّ تَلٍّ عَالٍ وَعَلَى كُلِّ وَجْهِ الأرض. تَشَتَّتَتْ غَنَمِي وَلَمْ يَكُنْ مَنْ يَسْأَلُ أَوْ يُفَتِّشُ. فَلِذَلِكَ أَيُّهَا الرُّعَاةُ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, مِنْ حَيْثُ إِنَّ غَنَمِي صَارَتْ غَنِيمَةً وَمَأْكَلاً لِكُلِّ وَحْشِ الْحَقْلِ, إِذْ لَمْ يَكُنْ رَاعٍ وَلاَ سَأَلَ رُعَاتِي عَنْ غَنَمِي, وَرَعَى الرُّعَاةُ أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يَرْعُوا غَنَمِي, فَلِذَلِكَ أَيُّهَا الرُّعَاةُ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ. هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَئَنَذَا عَلَى الرُّعَاةِ وَأَطْلُبُ غَنَمِي مِنْ يَدِهِمْ, وَأَكُفُّهُمْ عَنْ رَعْيِ الْغَنَمِ, وَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ أَنْفُسَهُمْ بَعْدُ, فَأُخَلِّصُ غَنَمِي مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَلاَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْكَلاً. لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَئَنَذَا أَسْأَلُ عَنْ غَنَمِي وَأَفْتَقِدُهَا. كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسَطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ, هَكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالضَّبَابِ. وَأُخْرِجُهَا مِنَ الشُّعُوبِ وَأَجْمَعُهَا مِنَ الأَرَاضِي, وَآتِي بِهَا إِلَى أَرْضِهَا وَأَرْعَاهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ وَفِي الأَوْدِيَةِ وَفِي جَمِيعِ مَسَاكِنِ الأرض. أَرْعَاهَا فِي مَرْعًى جَيِّدٍ, وَيَكُونُ مَرَاحُهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ الْعَالِيَةِ. هُنَالِكَ تَرْبُضُ فِي مَرَاحٍ حَسَنٍ, وَفِي مَرْعًى دَسِمٍ يَرْعُونَ عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ. أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. وَأَطْلُبُ الضَّالَّ, وَأَسْتَرِدُّ الْمَطْرُودَ, وَأَجْبِرُ الْكَسِيرَ, وَأَعْصِبُ الْجَرِيحَ, وَأُبِيدُ السَّمِينَ وَالْقَوِيَّ, وَأَرْعَاهَا بِعَدْلٍ. وَأَنْتُمْ يَا غَنَمِي فَهَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَئَنَذَا أَحْكُمُ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ. بَيْنَ كِبَاشٍ وَتُيُوسٍ. أَهُوَ صَغِيرٌ عِنْدَكُمْ أَنْ تَرْعُوا الْمَرْعَى الْجَيِّدَ وَبَقِيَّةُ مَرَاعِيكُمْ تَدُوسُونَهَا بِأَرْجُلِكُمْ, وَأَنْ تَشْرَبُوا مِنَ الْمِيَاهِ الْعَمِيقَةِ, وَالْبَقِيَّةُ تُكَدِّرُونَهَا بِأَقْدَامِكُمْ؟ وَغَنَمِي تَرْعَى مِنْ دَوْسِ أَقْدَامِكُمْ, وَتَشْرَبُ مِنْ كَدَرِ أَرْجُلِكُمْ!. لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لَهُمْ: هَئَنَذَا أَحْكُمُ بَيْنَ الشَّاةِ السَّمِينَةِ وَالشَّاةِ الْمَهْزُولَةِ. لأَنَّكُمْ بَهَزْتُمْ بِالْجَنْبِ وَالْكَتِفِ, وَنَطَحْتُمُ الْمَرِيضَةَ بِقُرُونِكُمْ حَتَّى شَتَّتْتُمُوهَا إِلَى خَارِجٍ. فَأُخَلِّصُ غَنَمِي فَلاَ تَكُونُ مِنْ بَعْدُ غَنِيمَةً, وَأَحْكُمُ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ. وَأُقِيمُ عَلَيْهَا رَاعِياً وَاحِداً فَيَرْعَاهَا عَبْدِي دَاوُدُ (المسيا). هُوَ يَرْعَاهَا وَهُوَ يَكُونُ لَهَا رَاعِياً. وَأَنَا الرَّبُّ أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً, وَعَبْدِي دَاوُدُ رَئِيساً فِي وَسَطِهِمْ. أَنَا الرَّبُّ تَكَلَّمْتُ. وَأَقْطَعُ مَعَهُمْ عَهْدَ سَلاَمٍ, وَأَنْزِعُ الْوُحُوشَ الرَّدِيئَةَ مِنَ الأرض, فَيَسْكُنُونَ فِي الْبَرِّيَّةِ مُطْمَئِنِّينَ وَيَنَامُونَ فِي الْوُعُورِ. وَأَجْعَلُهُمْ وَمَا حَوْلَ أَكَمَتِي بَرَكَةً, وَأُنْزِلُ عَلَيْهِمِ الْمَطَرَ فِي وَقْتِهِ فَتَكُونُ أَمْطَارَ بَرَكَةٍ. وَتُعْطِي شَجَرَةُ الْحَقْلِ ثَمَرَتَهَا, وَتُعْطِي الأرض غَلَّتَهَا, وَيَكُونُونَ آمِنِينَ فِي أَرْضِهِمْ, وَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ عِنْدَ تَكْسِيرِي رُبُطَ نِيرِهِمْ, وَإِذَا أَنْقَذْتُهُمْ مِنْ يَدِ الَّذِينَ اسْتَعْبَدُوهُمْ. فَلاَ يَكُونُونَ بَعْدُ غَنِيمَةً لِلأُمَمِ, وَلاَ يَأْكُلُهُمْ وَحْشُ الأرض. بَلْ يَسْكُنُونَ آمِنِينَ وَلاَ مُخِيفٌ. وَأُقِيمُ لَهُمْ غَرْساً لِصِيتٍ فَلاَ يَكُونُونَ بَعْدُ مَفْنِيِّي الْجُوعِ فِي الأرض, وَلاَ يَحْمِلُونَ بَعْدُ تَعْيِيرَ الأُمَمِ. فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُهُمْ مَعَهُمْ, وَهُمْ شَعْبِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. وَأَنْتُمْ يَا غَنَمِي, غَنَمُ مَرْعَايَ, أُنَاسٌ أَنْتُمْ. أَنَا إِلَهُكُمْ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ
زكريا النبى (أصحاح 11): هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهِي: ارْعَ غَنَمَ الذَّبْحِ. الَّذِينَ يَذْبَحُهُمْ مَالِكُوهُمْ وَلاَ يَأْثَمُونَ وَبَائِعُوهُمْ يَقُولُونَ: مُبَارَكٌ الرَّبُّ! قَدِ اسْتَغْنَيْتُ. وَرُعَاتُهُمْ لاَ يُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ......
فَرَعَيْتُ غَنَمَ الذَّبْحِ. (وَهُمْ) أَذَلُّ الْغَنَمِ....... وَأَبَدْتُ الرُّعَاةَ الثَّلاَثَةَ (الكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة) فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ (الزمن من بعد صلب المسيح حتى حرب السبعين التى أُحرق فيها الهيكل وخربت أورشليم وبطُلت العبادة). وَضَاقَتْ نَفْسِي بِهِمْ وَكَرِهَتْنِي أَيْضاً نَفْسُهُمْ.......ِ. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَامْتَنِعُوا. فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. فَقَالَ لِي الرَّبُّ: أَلْقِهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ. فَأَخَذْتُ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ الرَّبِّ.»
ولكى أسهل على القارىء التقاط الآيات الهامة بالنسبة للمسيح اخترت للقارىء هذه الآيات:
يا ابن الإنسان تنبأ على رعاة إسرائيل
الضال لم تطلبوه, والمطرود لم تستردوه, بل بشدة وعنف تسلتطم عليهم.... تذبحون السمين ولا ترعون الغنم!
هأنذا على الرعاة, أكفهم عن رعى الغنم
أنا أرعى غنمى واربضها, يقول السيد الرب, أسأل عن غنمى وافتقدها وأخلصها .... كراع وسط غنمه
أرعاها فى مرعى جيد, فى مراح حسن, وفى مرعى دسم.
أقيم عليها راعيا واحداً, عبدى داود, هو يرعاها, وهو يكون لها راعياً
فرعيت غنم الذبح, وهم أذل الغنم, وأبدت الرعاة.
وضاقت نفسى بهم, وكرهتنى أيضاً نفسهم.
فوزنى أجرتى ثلاثين من الفضة, الثمن الكريم الذى ثمنونى به.
وبالعودة إلى ما قاله الرب يسوع, نجد أنه القى «المثل» على المستوى العام (من عدد 1-5)، ولم يطبقه على نفسه بشيء بل ألقى الكلام كمثل, وذلك ليمهد أمام أذهان الفريسيين حقيقة استعلان جديد عن نفسه, وذلك بالنسبة لهم على أساس رعاية الشعب بمستوى رعاية الخراف، وباعتبار إسرائيل حظيرة واحدة, مستتدا ذلك من النبوات السابقة لعلهم يتذكرون، وذلك على أساس المعاني الأتية بالترتيب:
1- الحظيرة ...
2- باب الحظيرة, بالنسبة للراعي نفسه وليس الخراف.
3- راعي الخراف, كصاحب يدخل من الباب، وليس كسارق ولص يطلع من موضع آخر.
4- البواب, يفتح ويغلق.
5- الخراف, تسمع صوت الراعي وتتبعه.
6- الغريب, تهرب منه الخراف ولا تتبعه.
ولأن المعاني تأتي في المثل مكثفة وذات أهداف بعيدة، فلم يفهمه الفريسيون. وعلينا هنا أن نشرحه على مستواه العام.
1- فالحظيرة, هي إسرائيل القديمة كأمة بيت إسرائيل, يقابلها الكنيسة وأهل بيت الله ورعية القديسين.
2- والباب, أي باب الحظيرة، هو في الحقيقة باب بيت الله. وباب بيت الله هو تعبير يعقوب إسرائيل نفسه: «ورأى حلماً, وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها, وهوذا الرب واقف عليها، فقال: أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق ... فاستيقظ يعقوب من نومه وقال: حقاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم. وخاف وقال: ما أرهب هذا المكان، ما هذا إلا بيت الله, وهذا باب السماء» (تك12:28-17)؛ حيث المعنى الإلهي لكلمة «الباب» هي الحضرة المنظورة والمسموعة لله. وقد عاد المسيح يؤكد هذا التعبير بقوله لنثنائيل: «الحق الحق أقول لكم من الأن ترون السماء مفتوحة, وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان» (يو51:1). فالمسيح هنا هو الحضرة المنظورة لله على هيئة السلم, أو (الطريق) الموصل إلى السماء، والباب المفتوح في السماء الموصل للآب. وهذا الباب المفتوح في السماء رآه القديس يوحنا في رؤياه: «بعد هذا نظرت, واذا باب مفتوح في السماء.» (رؤ1:4)
3- راعي الخراف, الذي ليس هو سارقاً ولا لصاً، يُعرف من كونه يدخل إلى الحظيرة من الباب، أي من التعليم الصحيح عن الآب الذي لا يعلمه أحد إلا المسيح، فهو الباب السماوي والوحيد الذي يوصل إلى الله, وأي تعليم آخر عن الآب هو مسروق ولا يوصل إلى الله مهما كان.
ونلاحظ أن جميع الأنبياء أشاروا إلى المسيح (الباب)، وبهذا كانت تعاليمهم صحيحة عن الله فكانوا رعاة صادقين, وأكثرهم صحة وقوة في نبوته هو يوحنا المعمدان, لأنه رآه وأشار اليه، وشهد له, واعترف بأنه لم يأت إلا ليعلن المسيح لإسرائيل كشاهد عيان سماوي. وهو الوحيد الذي رآه كما هو «ابن الله»، لذلك قال المسيح عنه إنه «أفضل من نبي.» (لو26:7)
4- البواب, هو مسيا، الذي سيسلمه الله مفتاح بيت داود: «وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يغلق, ويغلق وليس من يفتح» (إش22:22). فالمسيح الباب، هو الإيمان بابن الله، المدخل الوحيد إلى الآب.
والمسيح البواب، هو المسيح الديان، الذي يمنح ويمنع، يفتح ويغلق, وذلك بمقتضى الإيمان والتعليم الصحيح.
5- الخراف, بحسب نبوة حزقيال هم أناس الله: «وأنتم يا غنمي، غنم مرعاي، أناس أنتم»، أي أخصاء الله. والراعي الذي يدخل إلى الحظيرة من الباب، يدعو خرافة الخاصة بأسماء, وهي تسمع صوته، ويخرجها، ويسير أمامها, وهي تتبعه.
هذا التعبير الرقيق العاطفي، هو لتوضيح الفرق بين العلاقة بين رعاة إسرائيل الذين تحدث حزقيال بشدة وعنف عن تسلطهم عليهم، وبين العلاقة الفردية الخاصة المطلوبة بين الراعي الحقيقي والرعية المحبوبة والتي عبر عنها المسيح هكذا: «ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السموات.» (لو19:10-20)
أما كونه يدعوها ويخرجها, فهذه هي الدعوة العظمى للانطلاق إلى ملكوته. وأما كونه يسير أمامها وهي تتبعه, فهذا عكس الرعاية الطبيعية تماما، لأن الراعي في البرية يسير خلف الغنم. ولكن هنا المسيح، كراعي الرعاة الأعظم, سار أمامنا وافتتح الطريق إلى السماء، ودخل «كسابق» من أجلنا، فوجد لنا فداء أبدياً. (راجع عب20:6 ؛12:9)
6- الراعي الغريب, وهو الراعي الذي لم يدخل من الباب، وهو غير السارق واللص، ولكنه هو الذي لم يرسله الله:
«ليس عليه حلة العرس» (راجع مت11:22)، أي ليس له التعليم الصحيح، الذي يوصل الخراف إلى صاحبها.
التطبيق: لم لم يفهم الفريسيون المثل الذي قاله, فبدأ يطبق المثل على نفسه هكذا:
بعد أن رسم الرب الشرط الأساسي للراعي الحقيقي ومؤهلاته، ثم نوعية عمله، وذلك بناء على رسم الوحي على فم الأنبياء، بدأ يطبق ذلك على نفسه، حتى يستعلن لهم وللعالم أنه جاء, كما هو مكتوب عنه, ليكمل عمل الله ويتمم مقاصده.
«أنا باب الخراف»: لا يقول هنا «باب الحظيرة»، بل «باب الخراف» بصورتها المفردة. لقد انتقل الرب من كنيسة أمة إلى كنيسة أفراد؛ من عهده مع شعب إلى عهده مع النفس, لأن ليس المطلوب بعد قائدا كموسى، أو قائدا كيشوع، ليفدي أمة من عبودية الأمم، أو ليملك أسباطا ميراث الأرا ضي, بل قائدا يفدي النفس من عبودية الخطية ويقربها إلى الآب ليملكها ميراث السماء.
«الباب» هنا ليس لحفظ أنظمة وحدود وتدابير ووصايا تختص بهيئة الشعب العامة أو بشكل الحكومة أو بقوانين ترابط الأفراد، بل الباب هو الإيمان بابن الله. هذا هو باب الحياة لتدخل به ومنه النفس البشرية، لتجد حياة «سماوية» مع الآب، وهذا هو المرعى الدسم الحقيقي.
فالمسيح أعلن نفسه أنه ابن الله، هذا هو الباب الحقيقي المرسل إلى السماء: «الحق الحق أقول لكم، من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان» (يو51:1)، السماء المفتوحة يعني «الباب».
وبهذه المعاني, يتبين أنه يستحيل أن يكون للآب أو للسماء إلا هذا الباب الوحيد, كما رآه الحارس القديم الذي يمنع من الدخول إل السماء: «الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة» (تك24:3)، حتى لا «يمد (الإنسان) يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل، ويحيا إلى الآباء» (تك22:3)؛ وحل محله باب مفتوح في السماء مسنود عليه رأس سلم موصل بين الأرض والسماء، سلم أمان عليه ألوف وربوات الملائكة يحرسون ويخدمون الداخلين في باب السماء ليجدوا المرعى الدسم والحياة الأفضل. وواضح أن المسيح هو هو الباب السماوي المفتوح، وهو هو السلم المرتكز على الأرض ورأسه في السماء: «لأنه هكذا يقدم لكم بسعة دخول إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي.» (2بط11:1)
«جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص ولكن الخراف لم تسمع لهم»: الحق كل الحق للمسيح أن يقول هذا، والكلام هنا منصب أولاً على كل الذين جاء وادعواة أنهم قادرون بتعلمهم على تخليص إسرائيل ومُصالحته مع الله، معتمدين على حساب نبوات الأنبياء فيما يختص برجاء إسرائيل كأمة. لهذا, فقد اتخذوا اسم ومؤهلات المسيا اختطافاً وزيفوا عمله. فبدل أن يكونوا طريقاً وباباً للحياة, بتعليمهم الصحيح عن الله والحياة الأبدية, صاروا طريقاً لسفك الدماء بالثورات والحروب, وبابا للهلاك والموت. وبذلك حٌسبوا في نظر المسيح: أنهم سرقوا الاسم وتلصصوا على النبوات والتعليم.
وثانياً, كذلك فإن أولئك الفريسيين الذي تجاهلوا هذا الباب السماوي الوحيد المفتوح، والموصل إلى الله والسماء، والمستعلن بالآيات والمعجزات والأعمال والتعليم الصحيح، وادعوا أنهم هم وتعاليمهم وتقاليدهم ومدارسهم الطريق الوحيد والباب الوحيد لمعرفة الله والخلاص، اعتبرهم المسيح سراق اسم وطريق، ولصوص نبوات وعهود ومواعيد: «والخراف لم تسمع لهم».
كان الشعب قد تزيفت عليه التعاليم الصحيحة، وتزيف عليه الطريق والحق والحياة: «كان شعبي خرافا ضالة قد أضلتهم رعاتهم. على الجبال أتاهوهم، ساروا من جبل إل أكمة، نسوا مربضهم» (إر6:50). وبالرغم من ذلك, وحينما بدأ الرب يسوع يعلم ويتكلم، انتبه الشعب في الحال, وأدركوا أن كلام الكتبة والفريسيين كلام ميت ومزيف: «فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (مر22:1). بل شهد له من أعدائه أمام السنهدريم، بأنه لم يتكلم إنسان قط مثله: «أجاب الخدام لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان.» (يو46:7)
والخراف قسمها الإنجيل إلى «خراف خاصة» و «خراف ضالة».
فالخراف الخاصة هي التي لها أذن للسمع، فتسمع لراعيها، لأنه يتكلم بكلام الله. ولا تسمع لصوت الغرباء عن الله أو السراق واللصوص، الذين سرقوا وظيفة الراعي والمعلم، وهم ليسوا رعاة ولا معلمين، وتلصتصوا على أقوال الأنبياء والقديسين, وهم غرباء عنهم وعن روحهم ومنهجهم: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون, لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلة تطيلون صلواتكم ، لذلك تأخذون دينونة أعظم.» (مت14:23)
وقد شهد المعمدان للفرق بين صوت المسيح وكلامه، وبين صوت الآخرين وكلامهم: «الذي يأتي من فوق, هو فوق الجميع؛ والذي من الأرض, هو أرضي, ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع؛ وما رآه وسمعه, به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها. ومئ قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق. لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله.» (يو31:3-34)
وهذا يؤكده القديس يوحنا في رسالته الأولى: «هم من العالم، من أجل ذلك يتكلمون من العالم والعالم يسمع لهم: نحن من الله، فمن يعرف الله يسمع لنا؛ ومن ليس من الله لا يسمع لنا. من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال.» (ايو5:4-6)
هنا يقول الرب: «أنا هو الباب» بمضمونه العام، أي بالنسبة للرعاة والخراف، بدل «أنا هو باب الخراف» بمضمونه المنسوب للخراف فقط. لأنه سبق وقال إن: «الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف». فالباب هنا يجمع بين الإيمان بابن الله، حيث يكون هو المدخل الوحيد للخراف، وبين التعليم الصحيح الذي يدخل منه الرعاة. لذلك يقول: «إن دخل بي أحد»، و«أحد» تعني كل واحد، حيث الكل يعوزه الخلاص، والدخول لازم للجميع ليكون مع رعية القديسين وأهل بيت الله: «هذا الباب للرب والصديقون يدخلون فيه» (مز20:118). وفي مثل العذارى العشر: «يشبه ملكوت السموات عشر عذارى» (مت1:25)، واضح أن الباب الذي أُغلق بعد أن دخل منه الخمس العذارى الحكيمات المستضيئات بزيتهن خلف العريس، هو باب الخلاص الذي لا يعني إلا المخلص نفسه. فغلق الباب في ملكوت السموات يعني انتهاء عمل الخلاص؛ أما الخروج فهو الدعوة العظمى, سواء للرعاة أو الخراف, للانطلاق إلى المراعي الحقة السماوية التي يربض فيها راعي الرعاة الأعظم خرافة ورعاته من كل الحظائر.
وواضح أنه ليس لنا دخول مع رعية القديين إلى الآب السماوي، إلا بالمسيح: «لأن به لنا كلينا (الأممم واليهود) قدوما في روح واحد إلى الآب. فلستم، إذا، بعد غرباء ونزلا، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله.» (أف18:2-19)
كذلك، فبواسطة هذا الباب، أي الإيمان بابن الله، يصير لنا الدخول في غنى الله والإقامة فيها والتنعم بها. كما يربض الراعي غنمه في المرعى الدسم وهو في وسطها: «الذي به أيضا قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون, ونفتخر على رجاء مجد الله.» (رو2:5)
والآن، فالراعي أو المعلم الذي ليس في قدرته أن يربض غنماته في مرعى الإيمان الدسم لتشبع من نعمة الله وتقيم فيها على الدوام, ثم لا يقوى بعد ذلك على أن يحضرها بالروح إلى الآب لتنضم مع القديسين وأهل بيت الله, ماذا يكون؟ وماذا يكون غرضه؟ إلن أن يكون هو السارق لوظيفة ليست له ويمتلك نفوساً لم يُستأمن عليها، ولصا يخطف ليذبح كل ما يقدر أن يخطفه أو يذبحه، «تأكلون الشحم (مال الثمعب) وتلبسون الصوف (التنعم) وتذبحون السمين (الغنى) ولا ترعون الغنم» (حز3:34). هنا استغلال الوظيفة، واستغلال النفوس الضعيفة، هو اختطاف وسرقة الله. والويل لمن يقف ضد السارق لوظيفة ليست له، فهو إن لم يقتل الجسد، فيضطهد حتى إلى هلاك النفس. وهو حتى وإن لم يضطهد أحداً، فهو لأنه لا يرعى أحداً بل يرعى نفسه, فتهلك الغنم من عدم المعرفة ومن الجوع إلى كلمة الله.
«السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويُهلك»:
العجيب هنا أن المسيح ييصور نفس الصورة التي رآها زكريا النبي منذ مئات السنين: «غنم الذبح الذين يذبحهم مالكوهم ولا يأثمون (لا يشعرون أن هذا إثم)، وبائعوهم يقولون مبارك الرب، قد استغنيت. ورعاتهم لا يشفقون عليهم.» (زك4:11-5)
بل وحتى إذا علم السارق المغتصب، الذي لم يدخل من باب المسيح ، فإنه يعلم تعليماً لا يُشبع ولا يُغني عن جوع، بل ويتلف حاسة القداسة عند سامعيه، ويطمس معالم الروح، ويقود النفس إلى هلاكها. «فدعاهم يسوع وقال لهم: أنتم تعلمون أن الذين يٌحسبون رؤساء الأمم يسودونهم, وأن عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يصير فيكم عظيماً, يكون لكم خادماً. ومن أراد أن يصير فيكم أولاً، يكون للجميع عبداً. لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأت ليُخدم ، بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.» (مر42:10-45)
وأخيرأ، نستطيع أذ نلمح بسهولة صورة الشيطان من خلال سرد مثل المسيح عن السارق الذي يرعى وهو ليس راعياً، بل دخل خلسة كلص يتلصص على الخدمة، يهدم ما بناه الامناء ويلوث جماعة المسيح، ويشكك في كل ما تعلمته الرعية، وأخيراً يبذر بذور الفرقة والانقسام، فتقوم جماعة على جماعة، ويشغل الكل في الخصام والاتهام، فتتوقف حركة النمو والبناء؟ وأخيراً تتبدد الجهود وتسود العداوة وتهرب النعمة وتحل النقمة. عن هؤلاء وعن الشيطان الذي يعمل بهم، يقول بولس الرسول: «لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون، مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح. ولا عجب، لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور، فليس عظيماً، إن كان خدامه أيضاً يغيرون شكلهم كخدام للبر.» (2كو13:11-15)
«أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة, وليكون لهم أفضل»: هنا المسيح يقدم لخرافه حياتين: «لتكون لهم حياة, وليكون لهم أفضل»، في مقابل ما يعمله السارقون «ذبح وهلاك». فيعوض «الذبح» يقدم المسيح «حياة»: «النعمة التي نحن فيها مقيمون» (رو2:5) = «لتكون لهم حياة». وعوض «الهلاك» يقدم المسيح «الأفضل من الحياة»: «يكون لهم أفضل»، والمقصود هو ملكوت الله.
فهو ينجي من الذبح بأن يعطي الحياة، وينجي من الهلاك بأن يعطي وعد الحياة الأبدية: «لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل»، كما جاءت في اليونانية ( ) بمعنى «يأخذون الحياة ويأخذونها بفيض أو بغزارة» وهي صفة الملكوت. وهذا يفيد أن الحياة التي يعطيها المسيح هي بنفسها تنبع إلى حياة أبدية، فالمسيح لا يعطي حياة جسدية تموت بموت الجسد. والمعنى بالنهاة ، أنه يعطي لها حياة لها شبع السرور، بالروح والنعمة، وهي نفسها تبلغ إلى الملء هناك في الحياة الأبدية.
وهكذا وضع المسيح المقارنة بين الرعاية في صورتها المزيفة وصورتها الأصيلة في أحد وأحرج صورة لها، إذ جعلها مقارنة بين حياة وموت، وبين خلاص وهلاك! وبالنهاية بين راع صالح ولص سارق.