تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
45:7-53«فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ لَهُمْ: «لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟». أَجَابَ الْخُدَّامُ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ». فَأَجَابَهُمُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ». قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟». أَجَابُوا: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ». فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ».
1:8 «أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ.»

‏عادت حملة الضباط (البوليس) إلى السنهدريم المنعقد بحضوو بعض الفريسيين المختارين ورؤساء الكهنة دون أن ينقذوا أمر المجمع بالقبض عليه. وكان السبب المباشر أنهم فعلا لم يستطيعوا ذلك.
‏أولاً ، لأنهم شعروا بقوة الرب الطاغية التي حلت أوصالهم، فلم يستطيعوا الإقدام على القبض عليه.
‏ثانياً، لأن الرأي الشعبي أمامهم كان معظمه منحازاً للمسيح، وكان من الخطورة أن يقدموا على هذا العمل.
‏أما العذر الذي قدموه فكان في حقيقته تحديا لأوامر السنهدريم، لأن معناه أن هذا ليس إنساناً عادياً يليق به القبض عليه!! ويلاحظ القارىء التأكيد على نفي الوضع العادي للانسان بالنسبة للمسيح في الكلام: «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان». فقوة الكلام هنا منصبة على هذا الإنسان أنه لير إنسان مثله, وثانياً على الكلام الذي سمعوه أن ليس كلام قط سُمع من إنسان مثل هذا الكلام!! وهذا في الواقع يسجله القديس يوحنا ليكشف الرأي الرسمي لبوليسى السنهدريم الذي يعتمد في تقريره على صدق الحالة أمامه والذي يحمل معنى حقيقة المسيح في شخصه: «ليس إنساناً» وفي كلامه «ليس كلاماً قط لإنسان».
‏أما رد الفريسيين الذين أخذوا المبادرة في الكلام وليس رؤساء الكهنة، وذلك طبعاً بسبب توترهم الأعمى الذي يوقعهم دائمأ في الخطأ حتى ضد القانون والناموس الذي يدعون حمايته، فكان قولهم:
«ألعلكم أنتم أيضاً ضللتم»: هنا الإتهام الموجه للضباط يصيب هدفين: الأول, أنهم خالفوا أوامر السنهدريم الصريحة بالقبض عليه دون فحص. والثاني, أنهم انحازوا إلى صفه وايدوا صحة كلامه، وبالتال عدم صحة الأمر بالقبض عليه. ولم يكن أمام الفريسيين المتسرعين في الإ تهام وفي إصدار الأوامر إلا أن يقدموا برهانا واهيا جداً للدفاع عن أنفسهم أمام إصرار الضباط على عدم صحة قرار القبض عليه ألا وهو أن يلوذوا بتقديم أعذار واهية أن أحدا من الرؤساء أو الفريسيين لم يؤمن به. وواضح أن هذا العذر يخرج عن مستوى مسئولية الضباط ولا يدخل في اختصاصات هيئة البوليس .
‏ولكن شعور الفريسيين بالكراهية والحقد ضد المسيح جعلهم ينقلبون على الشعب الذي انحاز إلى المسيح والذي سبب فشل مهمة الضباط في القبض على المسيح، فخرج السخط من أفواههم باللعنات على الشعب السالم.
«ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون»: ومعروف أن طبقة المتعلمين من الكتبة والفريسيين والناموسيين، وهم المتشددون بحرفية الناموس والمترفعون بعلمهم، ومعهم الصدقيون (كهنة ورؤساء كهنة) وهم الطبقة الأرستقراطية المترفعة بوظائفهم (الإلهية)، كانوا جميعاً ينظرون إلى الشعب المسالم غير المتعلم بنظرة الإحتقار الشديد باعتبارهم «مساكين الأرض»، كغنم تساق بالعصي، يُشرب لبنها ويُنتف صوفها وتُسام كما تُسام البهيمة لهوى صاحبها. كما كان الشعب الذي لا يدرس الناموس ويمارسه بحرفيته, في نظرهم, ملعوناً، وذلك حسب حرفية أحكام الناموس والعمل به. وطبعاً العيب عيبهم، لأن نقص التعليم والجهالة ليست هي خطية الجاهل بل خطية المتعلم. ويكفي للتدليل على ذلك تعليم الربيين ن عدم استحقاق المرأة نهائياً لنوال أي تعليم عن الناموس . أما هذا العذر الذي قدمه هؤلاء الفريسيون بأن أحد الرؤساء أو الفريسيين لم يؤمن به, وهذه اللعنات التي صبها هؤلاء الفريسيون على الشعب، لم ترق لأحد الأعضاء الحاضرين لأنه كان يؤمن بالمسيح، ولكن خفية، وهو نيقوديموس «معلم إسرائيل» (يو10:3), الذي زار المسيح ليلا. ويبدو أنه كان يتودد إلى الى المسيح. وكان صديقا للقديس يوحنا، وقد اعترف للمسيح وكثيرون معه بأنه «من الله». «يا معلم نعلم أنك أتيت من الله» (يو2:3). لذلك انتهز نيقوديموس هذه الفرصة للرد على هؤلاء الفريسيين ردا أردعهم في الحقيقة، إذ أوضح لهم بطريق غير مباشر أنهم هم الذين لا يعملون بالناموس, أو بالحري, وبحسب أسلوب القديس يوحن, هم المستحقون اللعنة وليس الشعب الذي انحاز للمسيح.
«ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يُسمع منه أولا ويعرف ماذا فعل»: وبهذا القول يكون نيقوديموس قد انحاز للضباط الرافضين لصحة قرار القبض، وبطريق غير مباثر ساند المسيح إنما بالطريق القانوني.
«أجابوا وقالوا له: ألعلك أنت أيضا من الجليل. فتش وانظر. إنه لم يقم نبي من الجليل. فمضى كل واحد إلى بيته. ‏أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون»: لم يستمعوا للنصيحة القانونية حسب الناموس، بل حثهم غضبهم أن ينقلبوا على نيقوديموس أيضا فأسندوا إليه جهالة الجليليين (الفلاحين)، وعن طريق خفي ألحقوا به عارا أن يكون من أتباع المسيح لأنه يحاول الدفاع عن واحد منهم. وهذا يوضح مدى الشطط الذي اندفعوا فيه. ثم زوروا الحقيقة حينما قالوا: «لم يقم نبي من الجليل». وكأنهم أقاموا أنفسهم حكاما على العناية الإلهية يربطونها حينما أو حيثما شاءوا؛ علمأ بأن نبياً مرموقاً، وهو يونان، كان من «جت حافر» بالجليل، فهو من سبط زبولون وهم سكنذ الجليل الأصليون (2مل25:12). ولكن, بلغة القديس يوحنا وأسلوبه. حتى ولو لم يكن قد قام نبي من الجليل، فهذا لا يمت إلى قضية ابن الله في شيء، وهو الذي نزل من السماء وبقي هناك «ابن الإنسان الذي هو في السماء». وما كان الجليل ولا كانت اليهود‏ية إلا «موطئاً لقدميه».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
45:7-53«فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ لَهُمْ: «لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟». أَجَابَ الْخُدَّامُ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ». فَأَجَابَهُمُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ». قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟». أَجَابُوا: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ». فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ».
1:8 «أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ.»

‏عادت حملة الضباط (البوليس) إلى السنهدريم المنعقد بحضوو بعض الفريسيين المختارين ورؤساء الكهنة دون أن ينقذوا أمر المجمع بالقبض عليه. وكان السبب المباشر أنهم فعلا لم يستطيعوا ذلك.
‏أولاً ، لأنهم شعروا بقوة الرب الطاغية التي حلت أوصالهم، فلم يستطيعوا الإقدام على القبض عليه.
‏ثانياً، لأن الرأي الشعبي أمامهم كان معظمه منحازاً للمسيح، وكان من الخطورة أن يقدموا على هذا العمل.
‏أما العذر الذي قدموه فكان في حقيقته تحديا لأوامر السنهدريم، لأن معناه أن هذا ليس إنساناً عادياً يليق به القبض عليه!! ويلاحظ القارىء التأكيد على نفي الوضع العادي للانسان بالنسبة للمسيح في الكلام: «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان». فقوة الكلام هنا منصبة على هذا الإنسان أنه لير إنسان مثله, وثانياً على الكلام الذي سمعوه أن ليس كلام قط سُمع من إنسان مثل هذا الكلام!! وهذا في الواقع يسجله القديس يوحنا ليكشف الرأي الرسمي لبوليسى السنهدريم الذي يعتمد في تقريره على صدق الحالة أمامه والذي يحمل معنى حقيقة المسيح في شخصه: «ليس إنساناً» وفي كلامه «ليس كلاماً قط لإنسان».
‏أما رد الفريسيين الذين أخذوا المبادرة في الكلام وليس رؤساء الكهنة، وذلك طبعاً بسبب توترهم الأعمى الذي يوقعهم دائمأ في الخطأ حتى ضد القانون والناموس الذي يدعون حمايته، فكان قولهم:
«ألعلكم أنتم أيضاً ضللتم»: هنا الإتهام الموجه للضباط يصيب هدفين: الأول, أنهم خالفوا أوامر السنهدريم الصريحة بالقبض عليه دون فحص. والثاني, أنهم انحازوا إلى صفه وايدوا صحة كلامه، وبالتال عدم صحة الأمر بالقبض عليه. ولم يكن أمام الفريسيين المتسرعين في الإ تهام وفي إصدار الأوامر إلا أن يقدموا برهانا واهيا جداً للدفاع عن أنفسهم أمام إصرار الضباط على عدم صحة قرار القبض عليه ألا وهو أن يلوذوا بتقديم أعذار واهية أن أحدا من الرؤساء أو الفريسيين لم يؤمن به. وواضح أن هذا العذر يخرج عن مستوى مسئولية الضباط ولا يدخل في اختصاصات هيئة البوليس .
‏ولكن شعور الفريسيين بالكراهية والحقد ضد المسيح جعلهم ينقلبون على الشعب الذي انحاز إلى المسيح والذي سبب فشل مهمة الضباط في القبض على المسيح، فخرج السخط من أفواههم باللعنات على الشعب السالم.
«ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون»: ومعروف أن طبقة المتعلمين من الكتبة والفريسيين والناموسيين، وهم المتشددون بحرفية الناموس والمترفعون بعلمهم، ومعهم الصدقيون (كهنة ورؤساء كهنة) وهم الطبقة الأرستقراطية المترفعة بوظائفهم (الإلهية)، كانوا جميعاً ينظرون إلى الشعب المسالم غير المتعلم بنظرة الإحتقار الشديد باعتبارهم «مساكين الأرض»، كغنم تساق بالعصي، يُشرب لبنها ويُنتف صوفها وتُسام كما تُسام البهيمة لهوى صاحبها. كما كان الشعب الذي لا يدرس الناموس ويمارسه بحرفيته, في نظرهم, ملعوناً، وذلك حسب حرفية أحكام الناموس والعمل به. وطبعاً العيب عيبهم، لأن نقص التعليم والجهالة ليست هي خطية الجاهل بل خطية المتعلم. ويكفي للتدليل على ذلك تعليم الربيين ن عدم استحقاق المرأة نهائياً لنوال أي تعليم عن الناموس . أما هذا العذر الذي قدمه هؤلاء الفريسيون بأن أحد الرؤساء أو الفريسيين لم يؤمن به, وهذه اللعنات التي صبها هؤلاء الفريسيون على الشعب، لم ترق لأحد الأعضاء الحاضرين لأنه كان يؤمن بالمسيح، ولكن خفية، وهو نيقوديموس «معلم إسرائيل» (يو10:3), الذي زار المسيح ليلا. ويبدو أنه كان يتودد إلى الى المسيح. وكان صديقا للقديس يوحنا، وقد اعترف للمسيح وكثيرون معه بأنه «من الله». «يا معلم نعلم أنك أتيت من الله» (يو2:3). لذلك انتهز نيقوديموس هذه الفرصة للرد على هؤلاء الفريسيين ردا أردعهم في الحقيقة، إذ أوضح لهم بطريق غير مباشر أنهم هم الذين لا يعملون بالناموس, أو بالحري, وبحسب أسلوب القديس يوحن, هم المستحقون اللعنة وليس الشعب الذي انحاز للمسيح.
«ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يُسمع منه أولا ويعرف ماذا فعل»: وبهذا القول يكون نيقوديموس قد انحاز للضباط الرافضين لصحة قرار القبض، وبطريق غير مباثر ساند المسيح إنما بالطريق القانوني.
«أجابوا وقالوا له: ألعلك أنت أيضا من الجليل. فتش وانظر. إنه لم يقم نبي من الجليل. فمضى كل واحد إلى بيته. ‏أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون»: لم يستمعوا للنصيحة القانونية حسب الناموس، بل حثهم غضبهم أن ينقلبوا على نيقوديموس أيضا فأسندوا إليه جهالة الجليليين (الفلاحين)، وعن طريق خفي ألحقوا به عارا أن يكون من أتباع المسيح لأنه يحاول الدفاع عن واحد منهم. وهذا يوضح مدى الشطط الذي اندفعوا فيه. ثم زوروا الحقيقة حينما قالوا: «لم يقم نبي من الجليل». وكأنهم أقاموا أنفسهم حكاما على العناية الإلهية يربطونها حينما أو حيثما شاءوا؛ علمأ بأن نبياً مرموقاً، وهو يونان، كان من «جت حافر» بالجليل، فهو من سبط زبولون وهم سكنذ الجليل الأصليون (2مل25:12). ولكن, بلغة القديس يوحنا وأسلوبه. حتى ولو لم يكن قد قام نبي من الجليل، فهذا لا يمت إلى قضية ابن الله في شيء، وهو الذي نزل من السماء وبقي هناك «ابن الإنسان الذي هو في السماء». وما كان الجليل ولا كانت اليهود‏ية إلا «موطئاً لقدميه».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الأصحاح الثامن​

أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسَطِ. قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ. وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَأنا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟». قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأرض. وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!». ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأرض. وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ. فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟». فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أنا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً». ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أنا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ». فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً». أَجَابَ يَسُوعُ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أنا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أنا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أنا وَالآب الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. أنا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآب الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أنا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً». هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «أنا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أنا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا». فَقَالَ الْيَهُودُ: «أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أنا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟». فَقَالَ لَهُمْ: « أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أنا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أنا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أنا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أنا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ. إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأنا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآب. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أنا هُوَ وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. والَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآب وَحْدِي لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلاَمِيذِي. وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». أَجَابُوهُ: «إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأبد أَمَّا الابن فَيَبْقَى إِلَى الأبد. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابن فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً. أنا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأَنَّ كلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ. أنا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ». أَجَابُوا: «أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!. وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي وَأنا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ. أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. وَأَمَّا أنا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟. الَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلاَمَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ». فَقَالَ الْيَهُودُ: «أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «أنا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي. أنا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأبد». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَأنا. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ وَأَنْتَ تَقُولُ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ إِلَى الأبد». أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ. وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أنا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً لَكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ. أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أنا كَائِنٌ». فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
استعلان طبيعة المسيح «النورانية»
«أنا هو نور العالم»
‏مكان البشارة: فى أورشليم ‏في عيد المظال​

‏ويشمل هذا الأصحاح:
1 _ المرأة الخاطئة: (2:8-11).
2- حوار المسيح مع اليهود:
‏أ _ «أنا هو نور العالم»: (12:8-20).
ب _ «أنا هو» : (21:8-22).
‏ج _ «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً»: (30:8-51).
د _ المسيح وإبراهيم: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (52:8-59)
أ _ المرأه الخاطئة: يفتتح القديس يوحنا الأصحاح الثامن بحادثة المرأة التي أٌمسكت وهي تُخطىء، ويبدو أن القصة في ظاهرها لا تتمشى مع سياق أحاديث المسيح في الهيكل، ويعترض العلماء على وضع هذه القصة هنا في هذا الموضع من إنجيل يوحنا، كما يعترض البعض الآخر على خروج هذه القصة, من حيث صياغة الكلمات اليوناية والظروف المحيطة بالحديث, عن أسلوب القديس يوحنا، وخاصة لورود اسم «الكتبة» مع الفريسيين، وهو لقب لم يستخدمه القديس يوحن افي إنجيله قط، وكذلك ورود «جبل الزيتون» وذكر الرب أنه كان يعلم وهو «جالس» ... إلخ .
‏ولقد انقسم الآباء الأوائل ما بين مؤكد لصحة الرواية ولورودها في مكانها الصحيح أمثال القديس «جيروم» و«أغسطين» و«امبروسيوس» وكثير من آباء الكنيسة الغربية، على ‏أساس ورود القصة بوضعها في نسخة الفولجاتا، وهي النسخة اللاتينية التي تقول إنها وُجدت في كثير من المخطوطات اليوناية وأنها تُقرأ في عيد القديسة بيلاجية في 8 أكتوبر من كل عام.
ويكشف هؤلاء الآباء عن سبب غياب هذه القصة في المخطوطات الأخرى، وهو خوف الآباء الأوائل من استخدام هذه القصة كمشجع للانحلال الخلقي مما حدا بهم إلى حذفها من نسخ بعض المخطوطات (أغسطين، «ضد يلاجيوس» 17:2).
‏وقد وُجدت هذه القصة في المخطوطات الأكثر قدماً وهي النسخة الممفيسية, والنسخة الحبشية والنسخ الأرمنية. ويقرر العالم جرايز باخ أنه وجدها بحالها في مائة مخطوطة، ويعود العالم ألفورد ويقول إنه وجدها في ثلثمائة مخطوطة وخاصة النسخ اللا تينية، وهي التي لجأ إليها في الشرح كل من أمبروسيوس وأغسطين وجيروم.
ويلاحظ الباحث أن الآباه الشرقيين كانوا هم الأكثر تحفظاً وامتناعاً، بل وحضاً للامتناع عن الخوض في شرح هذه القصة أو الرجوع إليها أو حتى ذكرها بالمرة، بل وقد لجأ البعض إلى جحد صحة هذه القصة برمتها سواء بسبب اعتراضات خارجية في القصة أو اعتراضات جوهرية أخلاقية. والذين جحدوا هذه القصة أو صمتوا إزاءها هم: اوريجانوس ويوحنا ذهبي الفم وكبريانوس. ومعروف أن أوريجانوس كان مُحارباً جنسياً إلى الدرجة التي فيها خصي نفسه بنفسه، لذلك فإن حذفها من شرحه لإنجيل يوحنا له ما يبروه من ظروفه الخاصة. ويوحنا ذهبي الفم كان مُضطهداً على مستوى اضطهاد المعمدان بسبب التعليق على خطية الزنا، لذلك فإن حذف هذه القصة من تفسيراته يتمثى مع ظروف حياته وخدمته أيضاً.
‏ولكن الذي يقطع بصحة هذه القصة وورودها بحالها في الإنجيل هو ورودها في كتاب تعاليم الرسل‏(24:2‏)، وذلك في سياق صحة وضرورة قبول عودة الخطاة التائبين إلى الكنيسة، الأمر الذي كان بعض المتعصبين وضيقي العقل يعلمون ضد ذلك، مما كان يمكن أن يؤدي إلى تفكك الكنيسة كلها. وقد أورد كتاب «تعاليم الرسل» القصة بكلماتها.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
1:8-6 «أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسَطِ. قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ. وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟». قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأرض.

‏«جبل الزيتون»: ذهاب المسيح إلى جبل الزيتون كان أمراً معتاداً وذلك للصلاة هناك. وقد كان هذا محور قصة التسليم. وقد تعرف يهوذا على المكان بسبب اعتياد الرب قضاء الليالى مصلياً هناك: «وكان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، وكان كل الشعب يبكرون إليه في الهيكل ليسمعوه» (لو37:21-38). علماً بأن بيت عنيا التي كان يلجأ إليها الرب للراحة في بيت مريم ومرثا كانت خلف تلك التلال من جهة الشرق. وكان بستان جثسيماني عل منحدرات الجبل المواجهة لأورشليم.
‏وأما مجيئه إلى الهيكل في «الصباح الباكر» أى «مبكراً»، فهي كلمة سقط معناها في الترجة العربية, فهذا كان اعتياد الرب في الخدمة.
‏وجلوس الرب أثناء التعليم هو من اعتياد كبار المعلمين، إذا كانت التعاليم تمتد إلى أوقات طويلة.
‏وذكر كلمة «الكتبة» مع «الفريسيين» ليس أصلاً من استخدام القديس يوحنا وهي تخصيص للجماعة المدققة ، ويكنى عن الاثنين في إنجيل يوحنا عادة بـ « اليهود». وقد اعتنى هؤلاء المكدرون أن يزعجوا الجمع الملتف حول المعلم بهذه القضية الخاصة بهذه المرأة كحيلة مدبرة، والتي غالباً كانت جاهزة ومحجوزة لرفعها للجهات القضائية المختصة، ولكنهم أحضروها في الصباح للشوشرة ولاستخدامها كوسيلة ليستخلصوا من المسيح حكماً منافياً للناموس يكون نواة للشكوى عليه. والقضية بالصورة التي قدموها للمسيح ناقصة ومبتورة. فالفاعل الأصلي مع المرأة غير موجود, والشهود غير موجودين، وهم الذين يلزم أن يكونوا اثنين على الأقل، مح زوج المرأة إذا كانت متزوجة.
‏وأحكام الناموس بمقتضى هذه الحالات هي كالآتي:
«إذا زنا رجل مع امرأة: فإذا زنا مع امرأة قريبه فإنه يقتل، الزاني والزانية» (لا10:20)، وهما حالتان متساويتان غير أن الحالة الثانية تعتبر«فعل فاضح».
‏«إذا وُجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجة بعل يُقتل الاثنان, الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة.» (تث22:22‏)
«إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموها بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه.» (23:22-24‏)
«ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجح معها، يموت الرجل الذي اضطجع معها وحده, وأما الفتاة فلا تفعل بها شيئاً. ليس على الفتاة خطية للموت.» (تث25:22-26)
«إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها واضطجع معها فوجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضة وتكون هي له زوجة من أجل أنه قد أذلها. لا يقدر أن يطلقها كل أيامه» (تث28:22-29)
‏وقد أورد هؤلاء المنكدون سنداً قانونياً لا يمكن أن يفلت منه القاضى بأي حال من الأحوال، وهو حدوث القبض على الزانية «في ذات الفعل» والذي يُسمى في القضاء: «حالة تلبس».
‏وهكذا قدم هؤلاء المنكدون هذه القصية على حالها وتركوا للمسيح أن يختار الحكم القضائي في مقابل اختيارهم هم الرجم بحسب الناموس.
‏وفي الحقيقة حاول كثير من العلماء إقصاء هذه القصة برمتها من إنجيل يوحنا لعدم توافقها مع أسلوب الإنجيل، علمأ بأن القديس يوحنا أوردها كعادته كآية مخفية غاية في الأهمية والخطورة، إذ يبرز هنا القديس يوحنا الصورة الحقيقية التي كانت في ذهن الكتبة والفربيين عن مستوى المسيح التشريعي والقضائي؛ ومن ناحية أخرى يبرز المسيح باعتباره المشرّع الجديد الذي بحكمه وقضائه سيلغي حالاً وفي جلسة واحدة غير مباشرة كل شريعة موسى القضائية القائمة على البينة والملابسات, والتي أهملت تماماً حكم الضمير, والباعث الأخلاقى وتقوى الشهود ونزاهة القاضي!! وإني في الحقيقة لأتعجب كل العجب كيف يحدث هذا الهجوم المكثف من بعض الآباء والعلماء على هذه القصة التي قضت بعجز التشريع والقضاء الموسوي واستحدثت للقضاء المسيحي مستوى عال من الاستنارة الروحية والأخلاقية وتقديس حق الحياة للخاطىء؟
‏وعلى القارىء أن يتبصر معي في مطلب هؤلاء المتعطشين لسفك الدم, المطالبين بحياة امرأة هي إنسان له حق الحياة كما لهم . واعتمادهم الوحيد في هذا السلوك الدموي اللا إنساني هو ناموس موسى! ولم يكفيهم هذا المطلب القاتل الذي بيتوا له لهذه المرأة التي وقعت في أيديهم، بل استخدموه أسوأ استخدام لتلفيق تهمة قتل أخرى أضمروها وأحكموا التمهيد لها لاصطياد المسيح ذاته ...
‏وليلاحظ القارىء, إذا تبصر في نية هؤلاء القتلة، مقدار إحكام الفخ الذي وضعوه للمعلم لأنه ‏إن حكم المسيح بحسب الناموس القائم على الحرف والدينونة، فقُتلت المرأة أمام عينيه وبحكم منه، يكون قد انحرف انحرافاً هائلاً عن مستوى الحب والرحمة والفداء الذي جاء ليرفعه عالياً كمعيار للحياة الجديدة بكل مقوماتها، سواء من جهة الأخلاق العامة أو السلوك أو الخدمة أو التشريع أو القضاء. فالمسيح رفع الرحمة فوق العدل, وجعل المحبة الينبوع والمصب، وأسس عمل التوبة ليحتوي كل بأس الإنسان.
‏وإن هو حكم بمقتضى الحب والرحمة، يكون قد تجاهل الناموس بنفس الجهالة التي في قلوب هؤلاء الأدعياء التي يرونها أنها هي هي الناموس الأقدس القائم, في أذهانهم, على الحرف القاتل، ويكون المسيح بذلك مستحقاً للقتل!! علمأ أنهم يضعونه هنا في مأزق, لأنه سبق وقال إنه ما جاء لينقض الناموس بل ليكمله!! (مت17:5)
‏والذي يلزم أن ننتبه إليه في هذا المضمار التشريعي والقضائي الذي أقحم فيه المسيح, أن المسيح سبق أن قال، وسيعيد القول: «إني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم» (يو17:3, 47:12)؛ وبالمعنى الآبسط أنه جاء ليبرئ الخاطىء لا ليقتله، وهو سيبرئه على حساب نفسه، إذ سيدفع هو ثمن خطيته من دمه. فإن كنا سنسمع منه حالاً حكم براءة مذهل لهذه المرأة الخاطئة المختارة: «أنا لا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضاً!!»‏، فهذا حكم قائم على دفع غرامة فادحة: حياة بحياة ونفس بنفس. لقد فداها المسيح قبل أن يعطيها البراءة, لقد حكم على نفسه بالقتل ليبرئها!!, إنه قاض، نعم قاض، ولكنه محام بآن واحد، وليى محامياً فقط بل وأب، بل وحبيب يكره الخطية ولكنه يحب الخطاة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
6:8-9: « قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأرض. وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!». ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأرض. وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ.»

‏أمام حماس هؤلاء النكديين المتربصين للقتل والإيقاع بالمسيح، انحنى الرب في هدوء وبدا كمن يكتب على الأرض بأصبعه وكأنه غير مبال بتحمسهم. وقد اصطنع الرب هذا الموقف ليقلل من غلوائهم, ويمهد للدخول داخل ضمائرهم. ولكنهم استمروا يطالبونه بالجواب وبإلحاح، فما كان منه إلا أن انتصب فجأة ليستحضر انتباههم وبادرهم بالحكم: فهو موافق على ناموس موسى تماماً، لأنه لم يأت لينقضه، ولكنه جاء ليكمل ما نقص فيه وفيهم, ليصير«ناموس الكمال» وليس ناموس موسى بعد. فلكي يُرجم الخاطىء بحسب نص ناموس موسى يلزم أن يكون من ينطق بالحكم، ومن ينقذ الحكم، لم يأت الخطيئة، وإلا يكون هو الأوجب بالرجم والموت: «من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر».
‏فلما واجههم بالحق الذي في روح الناموس واشترط على من ينفذ الناموس أن يكون على مستوى الناموس, وهذا حق وعدل لا يختلف عليه اثنان، خرجوا من ساحة المحكمة التي أقاموها بأنفسهم، الواحد بعد الآخر, لأن ضمائرهم كانت تبكتهم. لأنه من ذا الذي يستطيع أن يتصور أن خاطئاً يتحمل دم خاطىء أمام الله؟ لقد أصابتهم الرعبة أمام عيني المسيح التي اخترقت ضمائرهم، بل عظامهم، وكان تأثير كلام المسيح على الشيوخ شديد الوطأة لأنهم لم يكونوا أفضل من قضاة سوسنة في سفر دانيال. لقد تخلوا عن فريستهم بين يديه، بل وتركوه هو أيضاً بعد أن بيتوا أن يكون هو فريستهم الأخرى.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
10:8-11: «فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟». فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».

«أين هم أولئك المشتكون عليك. أما أدانك أحد. فقالت. لا أحد يا سيد»: لقد خسر هؤلاء المشتكون قضيقهم واستقالوا كقضاة وتركوا منصتهم. فالمشتكون صاروا تحت الشكوى عينها والقضاة فقدوا صلاحيتهم، لأنهم صاروا تحت الدينونة. فإذا وضح أن الناموس هكذا أصبح بلا قضاة في إسرائيل فقد بطل الناموس!!
‏وهكذا عرى المسيح كل من الناموس والناموسيين, فالناموس صارم وأساسه «رفع الشر» أي إبطال الخطية, ولكن وضح أنه لا يوجد من يستطيح أن يحكم به لأنه لا يوجد من هو بلا خطية حتى يستطيع أن يرفع الشر من إسرائيل أو يبطل الخطية!
‏إذن، الناموس, بحد كلماته, يحكم على الخاطىء ويدين الخطية, ولكن لا يستطيع أن يبطل الخطية. وهذا أول عمل استعلاني عمله المسيح إزاء الناموس، لقد استعلن عجزه باستعلان عجز كل من يحكم ويدين به» لأنه إذا حكم أي قاض على الخاطىء أو أدانه, وهو نفسه خاطىء, يحكم ويدين نفسه بآن واحد. هذا القانون المسيحي يذكره القديس بولس, شيخ الفريسيين, الذي يعلم ما هو الصحيح في الناموس حقاً: «لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان، كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك, لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها ... أفتظن هذا، أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها، أنك تنجو من دينونة الله.» (رو1:2-3)
‏كما كشف المسيح نقص الناموس الخطير في كونه يحكم بحسب الظاهر والمنظور، ويتجاهل عن عمد ما في الباطن والضمير, وذلك إزاء حكم المسيح الذي اعتمد اعتماداً قوياً على حكم الضمير, والذي ثبت أنه قادر أن يلغي حكماً بالإعدام ثابتاً على يد شهود عيان.
‏وهكذا حينما وقف المشتكون, والحجارة في أيديهم في لهفة لتنفيذ حكم الموت في هذه النفس الخاطئة, أيقظ المسيح ضمائرهم, فرأوا فجأة أنهم واقعون في نفس الفعل الذي يدينونه، فألقوا الحجارة من أيديهم، وخرجوا من ساحة قضاء الناموس، وتركوا الخاطئة للمسيح!! بل وتركوا المسيح أيضاً، إذ ذابت نفوسهم فيهم.
‏ويقول في هذا القديس أغسطين: [وبقي اثنان: المرأة التعسة (بل السعيدة) في مواجهة الرحمة المتجسدة]
‏وبذلك أصبح المسيح, وبموافقة القوامين على الناموس, أنه هو وحده القادر أن يحكم على الخاطىء ويدين بمقتضى الناموس لأنه هو وحده والوحيد الذي بلا خطية! ولكن لكي تظهر رسالة المسيح واضحة كل الوضوح قال: «ولا أنا أدينك». ولماذا لا يدين؟ وأين الناموس؟
‏لقد أدان المسيح نفسه وأكمل حكم الناموس في نفسه عنا وعن هذه الخاطئة، وتقبل عن كل خطاة الأرض حكم الموت؛ فأصبح الوحيد الذي له حق التبرئة, فهو يبرىء الخاطىء والفاجر، لأنه دفح دمه ثمناً لخطية الخاطىء وفجر الفاجر, كان من كان. لهذا يقول بولس الرسول: «واما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يُحسب له برا.» (رو5:4)
‏وهنا يقول القديس أغسطين أيضاً: [لأنك في، أصبحت بلا خطية.]
[وبقول المسيح «اذهبي ولا تخطئي أيضاً» ‏فقد أدان الخطية ولكن برأ الخاطىء.]
وحينما مات المسيح على الصليب عن الخطاة، أكمل كل مطالب الناموس وأحكامه ضد كل الخطاة. فحفظ للناموس كرامته، وأرسل كل محافظ قضاياه للحفظ في دار مخازن رحمة الله. وبذلك يكون المسيح قد أنشأ بموته ناموساً آخر فوق ناموس موسى. فناموس موسى يحكم ويدين على أساس ثبوت الخطية، فالخطية هي قوة الناموس حيث تتنوع قوانين الناموس على أساس تنوع الخطية. فجاء المسيح ورفع الخطية بكل أنواعها بموته، وأبطلها بكل أشكالها نهائيا بذبيحة نفسه، فصار ناموس موسى بلا قوة، وتعطلت كل بنوده وقوانينه ونحى قضاته. ألم يحدث هذا فعلاً أمام المسيح حينما خرج القضاة المشتكون بمقتضى الناموس؟ أما تنحى القضاة؟ فانخفضت هامة الناموس وارتفعت هامة المسيح! فتجلت محبة الله ورحمته في قوة ذبيحة المسيح. فإن كانت قوة ناموس موسى هي الخطية لحكم الموت, فقد صارت قوة ناموس المسيح هي النعمة للبراءة. وهكذا حكمت النعمة في المسيح عوض النقمة في الناموس. وعلى هذا الأساس قال المسيح للمرأة المرتجفة تحت نقمة الناموس «ولا أنا أدينك, اذهبي ولا تخطئي أيضاً».
‏وللقارىء أن يتعجب كيف خرج المسيح من هذه القضية الشائكة المميتة وقد برأ المرأة, وأدان المشتكين, وزكى ناموس موسى واحتفظ له بكرامته, وأخيراً أرسى قواعد ناموس النعمة والحياة.
«اذهبي ولا تخطئي أيضاً.»: ‏كلمة «اذهبي» بالمفرد هي نفسها تأتي بالجمع «اذهبوا بسلام»، والتي تقال في نهاية الليتورجيا, أي الصلاة العامة أو الإفخارستيا؛ وتسمى Missa وهي الإذن للمصلين بالخروج من حضرة الله محملين بالبركة. وهذه الكلمة تحمل بالفعل قوة إلهية للحفظ والرعاية من لدن الله القدير وكأن المسيح يدعو لها بالحفظ. ويكفي توضيحاً لذلك أن نتذكرأن هذه المرأة الخاطئة قد انتقلت من حكم الموت إلى حكم الحياة، ومن لعنة الناموس إلى رحمة المسيح.
‏كما يلاحظ أنه قبل أن يقول لها المسيح «لا تخطئي أيضاً» قال لها «اذهبي» محملة بقوة براءة أو تبرير من عنده، هي لا تستحقها بسبب أعمالها، ولكن استحقتها بسبب حضورها إليه، أو بالحري مثولها في حضرته, والمثول في حضرة الله نعمة عظمى؛ حتى وإن كان على غير دعوة أو ميعاد كالسامرية أو هذه الخاطئة أو كبولس الرسول نفسه!! يكفي أنها انتظرت منه رحمة, ‏فوجدتها مضافاً إليها نعمة.
‏إن معظم الشراح والعلماء والآباء الأوائل لم ينصفوا هذه المرأة الخاطئة، ولكن كيف؟ ولماذا؟
نحن جيعاً سنمثل أمام كرسي المسيح على هذا الحال نفسه، وليس من يستحق أن يتزكى قط بسبب أعماله، ولكن إن كنا نتنظر رحمة فسنجدها، وإن كنا نرجو منه حياة فسنحيا.
«لا تخطئي أيضاً»: أي لا تعودي إلى سيرتك الأولى، هي دعوة للتوبة. ولكن الذي يدعو إلى التوبة هنا هو المسيح ويوجهها شخصيا منه إليها، فهي دعوة مدعمة بالقوة، وكأنه يعرض نفسه كسند خفي لجهادها ويعدها سرا بالمؤازرة. إنه يستحث فيها إرادتها الحرة، ولكنه هو نفسه يشاء ذلك منها، أي أنه يضم مشيئته إلى مشيئتها, فأي رجاء ملأ قلب هذه الخاطئة في هذه الساعة. إنه في الحقيقة رجاء يمتد إلينا وإلى كل خاطىء يلقي نفسه بلا شفقة بين يدي المسيح، كما ألقى هؤلاء الكتبة الأفظاظ هذه المرأة الخاطئة, بل السعيدة، في يدي المسيح.
‏وفي نهاية قصة المرأة الخاطئة التي اعترضت حديث المسيح في عيد المظال، وفرقت بين حديثه عن «الماء الحي» و«نور العالم»، نود أن نوجه نظر الباحث أن كلام المسيح بخصوص المرأة الخاطئة كان بحد ذاته تعليماً هاما للغاية عن ناموس موسى ومقارنته العملية بناموس المسيح. أي أن قصة المرأة الخاطئة قدمها القديس يوحنا في مكانها الصحيح.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
10:8-11: «فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟». فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».

«أين هم أولئك المشتكون عليك. أما أدانك أحد. فقالت. لا أحد يا سيد»: لقد خسر هؤلاء المشتكون قضيقهم واستقالوا كقضاة وتركوا منصتهم. فالمشتكون صاروا تحت الشكوى عينها والقضاة فقدوا صلاحيتهم، لأنهم صاروا تحت الدينونة. فإذا وضح أن الناموس هكذا أصبح بلا قضاة في إسرائيل فقد بطل الناموس!!
‏وهكذا عرى المسيح كل من الناموس والناموسيين, فالناموس صارم وأساسه «رفع الشر» أي إبطال الخطية, ولكن وضح أنه لا يوجد من يستطيح أن يحكم به لأنه لا يوجد من هو بلا خطية حتى يستطيع أن يرفع الشر من إسرائيل أو يبطل الخطية!
‏إذن، الناموس, بحد كلماته, يحكم على الخاطىء ويدين الخطية, ولكن لا يستطيع أن يبطل الخطية. وهذا أول عمل استعلاني عمله المسيح إزاء الناموس، لقد استعلن عجزه باستعلان عجز كل من يحكم ويدين به» لأنه إذا حكم أي قاض على الخاطىء أو أدانه, وهو نفسه خاطىء, يحكم ويدين نفسه بآن واحد. هذا القانون المسيحي يذكره القديس بولس, شيخ الفريسيين, الذي يعلم ما هو الصحيح في الناموس حقاً: «لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان، كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك, لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها ... أفتظن هذا، أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها، أنك تنجو من دينونة الله.» (رو1:2-3)
‏كما كشف المسيح نقص الناموس الخطير في كونه يحكم بحسب الظاهر والمنظور، ويتجاهل عن عمد ما في الباطن والضمير, وذلك إزاء حكم المسيح الذي اعتمد اعتماداً قوياً على حكم الضمير, والذي ثبت أنه قادر أن يلغي حكماً بالإعدام ثابتاً على يد شهود عيان.
‏وهكذا حينما وقف المشتكون, والحجارة في أيديهم في لهفة لتنفيذ حكم الموت في هذه النفس الخاطئة, أيقظ المسيح ضمائرهم, فرأوا فجأة أنهم واقعون في نفس الفعل الذي يدينونه، فألقوا الحجارة من أيديهم، وخرجوا من ساحة قضاء الناموس، وتركوا الخاطئة للمسيح!! بل وتركوا المسيح أيضاً، إذ ذابت نفوسهم فيهم.
‏ويقول في هذا القديس أغسطين: [وبقي اثنان: المرأة التعسة (بل السعيدة) في مواجهة الرحمة المتجسدة]
‏وبذلك أصبح المسيح, وبموافقة القوامين على الناموس, أنه هو وحده القادر أن يحكم على الخاطىء ويدين بمقتضى الناموس لأنه هو وحده والوحيد الذي بلا خطية! ولكن لكي تظهر رسالة المسيح واضحة كل الوضوح قال: «ولا أنا أدينك». ولماذا لا يدين؟ وأين الناموس؟
‏لقد أدان المسيح نفسه وأكمل حكم الناموس في نفسه عنا وعن هذه الخاطئة، وتقبل عن كل خطاة الأرض حكم الموت؛ فأصبح الوحيد الذي له حق التبرئة, فهو يبرىء الخاطىء والفاجر، لأنه دفح دمه ثمناً لخطية الخاطىء وفجر الفاجر, كان من كان. لهذا يقول بولس الرسول: «واما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يُحسب له برا.» (رو5:4)
‏وهنا يقول القديس أغسطين أيضاً: [لأنك في، أصبحت بلا خطية.]
[وبقول المسيح «اذهبي ولا تخطئي أيضاً» ‏فقد أدان الخطية ولكن برأ الخاطىء.]
وحينما مات المسيح على الصليب عن الخطاة، أكمل كل مطالب الناموس وأحكامه ضد كل الخطاة. فحفظ للناموس كرامته، وأرسل كل محافظ قضاياه للحفظ في دار مخازن رحمة الله. وبذلك يكون المسيح قد أنشأ بموته ناموساً آخر فوق ناموس موسى. فناموس موسى يحكم ويدين على أساس ثبوت الخطية، فالخطية هي قوة الناموس حيث تتنوع قوانين الناموس على أساس تنوع الخطية. فجاء المسيح ورفع الخطية بكل أنواعها بموته، وأبطلها بكل أشكالها نهائيا بذبيحة نفسه، فصار ناموس موسى بلا قوة، وتعطلت كل بنوده وقوانينه ونحى قضاته. ألم يحدث هذا فعلاً أمام المسيح حينما خرج القضاة المشتكون بمقتضى الناموس؟ أما تنحى القضاة؟ فانخفضت هامة الناموس وارتفعت هامة المسيح! فتجلت محبة الله ورحمته في قوة ذبيحة المسيح. فإن كانت قوة ناموس موسى هي الخطية لحكم الموت, فقد صارت قوة ناموس المسيح هي النعمة للبراءة. وهكذا حكمت النعمة في المسيح عوض النقمة في الناموس. وعلى هذا الأساس قال المسيح للمرأة المرتجفة تحت نقمة الناموس «ولا أنا أدينك, اذهبي ولا تخطئي أيضاً».
‏وللقارىء أن يتعجب كيف خرج المسيح من هذه القضية الشائكة المميتة وقد برأ المرأة, وأدان المشتكين, وزكى ناموس موسى واحتفظ له بكرامته, وأخيراً أرسى قواعد ناموس النعمة والحياة.
«اذهبي ولا تخطئي أيضاً.»: ‏كلمة «اذهبي» بالمفرد هي نفسها تأتي بالجمع «اذهبوا بسلام»، والتي تقال في نهاية الليتورجيا, أي الصلاة العامة أو الإفخارستيا؛ وتسمى Missa وهي الإذن للمصلين بالخروج من حضرة الله محملين بالبركة. وهذه الكلمة تحمل بالفعل قوة إلهية للحفظ والرعاية من لدن الله القدير وكأن المسيح يدعو لها بالحفظ. ويكفي توضيحاً لذلك أن نتذكرأن هذه المرأة الخاطئة قد انتقلت من حكم الموت إلى حكم الحياة، ومن لعنة الناموس إلى رحمة المسيح.
‏كما يلاحظ أنه قبل أن يقول لها المسيح «لا تخطئي أيضاً» قال لها «اذهبي» محملة بقوة براءة أو تبرير من عنده، هي لا تستحقها بسبب أعمالها، ولكن استحقتها بسبب حضورها إليه، أو بالحري مثولها في حضرته, والمثول في حضرة الله نعمة عظمى؛ حتى وإن كان على غير دعوة أو ميعاد كالسامرية أو هذه الخاطئة أو كبولس الرسول نفسه!! يكفي أنها انتظرت منه رحمة, ‏فوجدتها مضافاً إليها نعمة.
‏إن معظم الشراح والعلماء والآباء الأوائل لم ينصفوا هذه المرأة الخاطئة، ولكن كيف؟ ولماذا؟
نحن جيعاً سنمثل أمام كرسي المسيح على هذا الحال نفسه، وليس من يستحق أن يتزكى قط بسبب أعماله، ولكن إن كنا نتنظر رحمة فسنجدها، وإن كنا نرجو منه حياة فسنحيا.
«لا تخطئي أيضاً»: أي لا تعودي إلى سيرتك الأولى، هي دعوة للتوبة. ولكن الذي يدعو إلى التوبة هنا هو المسيح ويوجهها شخصيا منه إليها، فهي دعوة مدعمة بالقوة، وكأنه يعرض نفسه كسند خفي لجهادها ويعدها سرا بالمؤازرة. إنه يستحث فيها إرادتها الحرة، ولكنه هو نفسه يشاء ذلك منها، أي أنه يضم مشيئته إلى مشيئتها, فأي رجاء ملأ قلب هذه الخاطئة في هذه الساعة. إنه في الحقيقة رجاء يمتد إلينا وإلى كل خاطىء يلقي نفسه بلا شفقة بين يدي المسيح، كما ألقى هؤلاء الكتبة الأفظاظ هذه المرأة الخاطئة, بل السعيدة، في يدي المسيح.
‏وفي نهاية قصة المرأة الخاطئة التي اعترضت حديث المسيح في عيد المظال، وفرقت بين حديثه عن «الماء الحي» و«نور العالم»، نود أن نوجه نظر الباحث أن كلام المسيح بخصوص المرأة الخاطئة كان بحد ذاته تعليماً هاما للغاية عن ناموس موسى ومقارنته العملية بناموس المسيح. أي أن قصة المرأة الخاطئة قدمها القديس يوحنا في مكانها الصحيح.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- حوار المسيح مع اليهود (12:8-59)
‏أ- الجزء الأول من الحوار: «أنا هو نور العالم» (12:8-20)
«الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيماً. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور.» (إش2:9‏)
‏«الجلوس في الظلمة وظلال الموت موثقين بالذل والحديد ... أخرجهم من الظلمة وظلال الموت وقطع قيودهم.» (مز10:107و14)

12- ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ».

نحن لا نزال فى عيد المظال, وعودة على ذى بدء: ‏لقد توقف حديث المسيح الذي قدمه في الهيكل للشعب وهو في «الخزانة» عند قوله: «وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسرع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي» (يو37:7-38). توقف الحديث لشرح القديس يوحنا عن معنى هذه الآية بالنسبة لانسكاب الروح القدس, ثم تلا ذلك وصف انقسام الشعب بين مؤيد ومعارض, ثم أتت حملة الضباط التي أرسلها رؤساء الكهنة والفريسيون للقبض عليه, ثم التحقيق مع أعضاء الحملة بسبب عدم القبض عليه. وينتهي الأصحاح السابع بانقسام أعضاء السنهدريم على أنفسهم, ثم انفضاض السنهدريم، وذهاب كل واحد إلى بيته.
‏ثم يبتدىء الأصحاح الثامن بحضور المسيح مبكراً من جبل الزيتون، واستئناف التعليم في الهيكل بحضور الشعب, ثم محاولة الكتبة والفريسيين الشوشرة على التعليم بإحضار المرأة الخاطئة، وتنتهي قصتها أيضاً بخروج الكتبة والفريسيين منهزمين واحدا فوحدا, وتخرج الخاطئة منتصرة.
ثم يستأنف المسيح تعليمه من بعد «الماء الحي» إلى «نور العالم».
«ثم كلمهم يسوع أيضاً...»: هنا يرتبط الحديث بالآية: «من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي.» (38:7)
‏ونحن هنا, من جهة مجرى الحوادث المترادفة، أمام حقيقة طقس آخر هو طقس «النور» في عيد المظال الذي كان يجري بإيقاد أربع منارات مرتفعة جداً داخل الهيكل، كل منها لها أربعة صحون على الظهر، يصلون إليها لإشعالها بواسطة سلم، وفي كل صحن فتيلة مشتعلة مصنوعة من القماش الذي يستخدمه الكهنة كأحزمة لربط الوسط. وكانت توضع في بيت النساء في رواق النساء، حيث كان المسيح يعلم. كذلك نحن الآن أيضاً في آخر أيام العيد وهو اليوم الثامن.
‏والإحتفال الطقسي بإيقاد النور في رواق النساء, في الخزانة التي في الهيكل، وفي كل المظال التي كانوا يعيشون فيها في هذه الأيام, كان تذكاراً لعمود النور الذي أرسله الله لهم، يقودهم في برية التيه أثناى الليل (خر21:13). وهنا أيضاً يرى المسيح المناسبة لكي يستعلن لهم نفسه أنه هو النور الحقيقي الذي جاء لينير العالم.
«أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة»: أما عمود النور الذي قادهم في البرية في ليل تيههم وقتياً فكان قد انقطع لعدم الحاجة إليه، وأما المسيح فهو النور الذي جاء لينير العالم دائمأ والى الأبد.
‏وحينما يعلن المسيح أنه «نور العالم‏»، فهذا تعبير عن روح رسالته وفعلها: إنه «الكاشف والمعلن عن الله في العالم المظلم»؛ إنه إعلان عن تحقيق كل مواعيد الله السابقة متركزة فيه شخصياً. كما أنه دعوة عامة لليهود والعالم كله أن ينتبه إلى هذا الشروق الإلهي. إنها دعوة موازية لدعوته السابقة في الأصحاح السابع: «إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب: (يو37:7). أما هنا فهي: «إن أعوز العالم معرفة الله في ما سبق، فها الآن المعرفة تغطى كل الأرض؛ المعرفة التي تشرح كل وجود كان ما كان، في حضرة وجود الله!!
‏فحينما يقول المسيح: «أنا هو نور العالم»، فهو يعني، بحسب اللغة اليونانية: «أنا هو النور للعالم»، الذي شرحه المسيح بعدها مباشرة في آية موازية: «بل يكون له نور الحياة»، فهو النور للعالم، النور المعطي للحياة!! والتي لخصها القديس يوحنا شارحاً بقوله في مقدمة إنجيله: «فيه كانت الحياة, والحياة كانت نور الناس» (يو4:1)، حيث الحياة في المسيح تكون بعينها هي نور الناس، أو نور العالم!! «فالنور» بالمعنى الإلهي هو «الحياة في عالم الله». ودخول النور إلى عالم الإنسان حوله إلى عالم الله, ليحيا فيه الإنسان.
‏ثم لينتبه القارىء جدا, فقول المسيح: «أنا هو نور العالم» لا يعني به النور المختص بمشاكل الإنسان تجاه العالم، بل النور المختص بالإنسان نفسه تجاه الله!! لأن مشكلة الإنسان العظمى في العالم هي نفسه، هي معرفته لذاته على ضوء معرفته لله. وحينما يقول المسيح: «أنا هو نور العالم»، فهو يكشف بصورة مفاجئة وقوية مدى اقتحام الذات الإلهية للعالم، هذه القوة التي لا يشرحها إلا بالتجسد. فهو وحده الذي يرفع الغموض منها، لأن قائلها هو الإنسان يسوع المسيح بحسب الفكر البشري.
‏لذلك لكي يرفع المسيح مفهوم «أنا هو نور العالم» من المستوى الرمزي أو التصوري، الذي قد يقع فيه السامع أوالقارىء، دعمه في الحال بالفعل العملي والإختباري الذي يعلن مدى الحق الإلهي فيه، فيقول: «من يتبعني فلا يمشي في الظمة، بل يكون له نور الحياة»، حيث يتحول «النور» إلى «حياة»، أي إلى عمل وسلوك يشهد بمدى الحق في هذا النور!! هنا النور يصير «كخبز الحياة» الذي كل من يأكله يحيا به إلى الأبد، أي يحيا بالمسيح، والماء الحي الذي كل من يشربه تخرج من بطنه أنهار ماء الحياة، أي يكرز بالمسيح الذي يحيا فيه؛ هكذا النور كل من يقبله، أي يؤمن به، يصير له «نور الحياة، أي المسيح نفسه يحيا فيه.
‏هكذا ، فالخبز الحي والماء الحي ونور الحياة هو هو شخص المسيح، عدما يؤمن به الإنسان يصير خبزه الجديد وماءه الجديد ونوره الجديد في حياته الجديدة.
‏والمسيح هو الخبز الحي ومعطي هذا الخبز، والماء الحي ومعطي هذا الماء، ونور الحياة ومعطي هذا النور. هنا لينتبه القارىء، لأن معنى هذا أن كل استعلانات المسيح يستحيل فهمها أو قبولها أو الإيمان بها أو الحياة فيها بدون المسيح نفسه. فهي ليست مدركات يمكن أن تُفهم وتُنسى، بل هي واقع حياة في حياة. فبقدر ما نؤمن بالمسيح، نأخذ، وبقدر ما نأخذ، نقترب، وبقدر ما نقترب، نفهم وندرك ونستعلن ونكرز!!
لقد دخل النور «الحقيقي» إلى العالم ملتحفاً جسد إنسان، وهو أصلاً «اللابس (الملتحف) النور كثوب» (مز2:104‏)، جاء لينير البشرية من داخل كيانها، فصارت حياة الإنسان نوراً بعد أن كان يتخبط في ظلمة العالم. لقد استنارت حياة الانسان بالنور الإلهي, فأنارت ، وصارت أنواراً في العالم: «أنتم نور العالم» (مت14:5). ولا يزال المسيح هو هو عمود النور الذي يسير بالبشرية المستنيرة به وبالله، في طريقها الضيق الحرج، داخل ليل برية العالم المظلم، يقودنا خطوة بعد خطوة. والذي يتبع النور لا يشعر بليل العالم, ولن تدركه الظلمة، هذه حقيقة يدركها كل من استنار بالمسيح والتصق به: «الرب نوري وخلاصي ممن أخاف» (مز1:27)، هذا نشيد داود الذي سار وراء الرب وتسبحته في فمه، وتهليل الخلاص في قلبه.
‏وحينما نطرق هذا الفكر من الوجهة اللاهوتية يتضح لنا عمقه، فالطبيعة البشرية بالنسبة للنور الإلهي مظلمة, خاطئة، ضيقة, يدب فيها الموت, وشعاع الله لم يكن ينفذ إليها, ولكن حينما استعلن لنا الرب الطبيعة الإلهية التي فيه، وصيرنا شركاء فيها، نفذ النور الإلهي إلى أعماقنا, فأدركنا طبيعة الله وأسراره، واستنارت عقولنا وقلوبنا بفكره ومشيئته وكلماته. لأن طبيعتنا العمياء الخرساء، بالنسبة لشخص ذات الله, اُستهدفت لعمل روح الله القدوس، فدخلها النوره ودخلتها الحياة الإلهية، فتغيرت وتجددت, وصار لها أُذن تسمع ما لم يكن يُسمع، وعين ترى ما لم يكن يُرى، وقلب يستطلع بالروح حتى أعماق الله: «ورأينا مجده» (يو14:1)، وروح تحيا مع الله: «من التصق بالرب فهو روح واحد.» (اكو17:6)
«أنا هو نور العالم»: هذا القول يستحيل أن ينطقه إلا الله وحده: «وقال لى أكتب، فإن هذه الأقوال صادقة وأمينة. ثم قال لى قد تم. أنا هو الألف والياء, البداية والنهاية. أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانا ... والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها, لأن مجد الله قد أنارها, والخروف سراجها. وتمشي شعوب المخلصين بنورها ... لأن ليلاً لا يكون هناك» (رؤ5:21و23و24و25)
‏ويلزم أن نرجع إلى مقدمة إنجيل يرحنا، لنرى كيف قدم الإنجيل المسيح باعتباره «الكلمة» و«النور الحقيقي» و«الحياة الأبدية», ثم كيف شهد القديس يوحنا ضمن شهادة التلاميذ: و(نحن) رأينا مجده».
‏فالكلمة، وهو بهاء ونور مجد الآب والحامل للحياة اللأبدية, تجسد, فاستُعلن فيه نور الآب, واستعلنت الحياة الأبدية التي كانت عند الآب مخفية عن حياة هذا العالم. والنور لما أضاء في قلوب التلاميذ، كان هو التجلي بعينه حيث رأوا مجده, فالنور والمجد معاً لا يفترقان. والمجد هو التعبير البشري لرؤية الحضور الإلهي أو الكيان الإلهي في المسيح: «أنا هو». لذلك، فالنور الإلهي في المسيح: «أنا هو نورالعالم» الذي صار بتجسده، هوتعبير عن طبيعة الله التي استعلنت للإنسان في تجسد الكلمة, خصيصاً لإعلان عهد الخلاص للإنسان. وبمعنى آخر يكون النور الإلهي المُعلن في المسيح والذي يشهد له المسيح «أنا هو نور العالم»، هو تعبير عن حقيقة فعل الخلاص الذي يُفهم أنه انعتاق ‏من ظلمة هذا الدهر وتفاهة مجده. وإشعياء النبي يصف هذا الاشراق العجيب في ملء الزمن بالنسبة لكنيسة الله هكذا: «قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك، لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض (الؤثنية)، والظلام الدامث الأمم (الخطية). أما عليك فيشرق الرب (أنا هو نور العالم) ومجده عليك يٌرى. فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك.» (إش1:60-3)
‏‏ثم انظر كيف يرى إشعياء النور الإلهي المتجلي بالمجد في كنيسته يلتحم بالخلاص التحاماً, وباعتباره الغاية العظمى في خطته الإلهية، يقول إشعياء: «تسمين أسوارك خلاصاً وأبوابك تسبيحاً. لا تكون لك بعد الشمس نوراً في النهار ولا القمر ينير لك مضيئاً، بل الرب يكون لك نوراً أبدياً وإلهك زينتك (أنا هو نور العالم). لا تغيب بعد شمسك وقمرك لا ينقص، لأن الرب يكون لك نوراً أبدياً، وتكمل أيام نوحك، وشعبك كلهم أبرار.» (إش18:60-21)
‏ويطيب لهذا النبي القديس أن يمزج النوم بالخلاص بالتسبيح بزينة النفس، أي التجلي الروحي.
لقد أشار إليه إشعياء النبي: «أنا الرب, قد دعوتك بالبر، فامسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب، ونوراً للأمم, لتفتح عيون العمي, لتخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن، الجالسين في الظمة.» (إش6:42-7)
‏وليلاحظ القارىء أن المسيح بعد أن قال: «أنا هو نور العالم»، فتح عيني الأعمى بالفعل!... كذلك يقول إشعياء، وكأنه يحكي ما يرى من وراء الزمان، كيف أُهين النور وحاولت الظلمة عبثاً إطفاءه، ولكنه انتصر، وصار خلاصاً لأقصى الأرض, واستنارت به الشعوب، وتحررت من سلطان الظلمة، وصارت الكلمة غذاء للروح وماء للحياة كينبوع أبدي: «قد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاص إلى أقصى الأرض. هكذا قال الرب فادي إسرائيل، قدوسه للمهان النفس, لمكروه الأمة, لعبد المتسلطين ... قائلاً للأسرى: اخرجوا، للذين في الظلام. اظهروا ... لا يجوعون ولا يعطشون، ولا يضربهم حر ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم، والى ينابيع المياه يوردهم ..» (إش 6:49-10)
‏وهنا يجمع إشعياء النبي النور, وتفتيح العيون, وخبز الحياة, والماء الحى, والينابيع.
‏«نور الحياة» : وكذلك ملاخي النبي: «ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها.» ‏(مل2:4)
‏وما يهمنا هنا في هذه النبوة الأخيرة: أن الله سيعطي اسمه مقروناً بإشراق النور, وبالحياة التي فيه, التي بلا أسقام، كناية عن الخليقة الجديدة التي تتنفس بالروح، وسوف يرى القارىء أن الرب سيكشف عن اسم الله الذي يتكلم به، بعد أن قال: «أنا هو نور العالم»، وكيف أعطى الشفاء بالفعل للمولود أعمى، فأصبح له «نور الحياة» على المستوى المحسوس. ونبوة ملاخي تعطي المقارنة صحيحة وعملية؛ كما أن الشمس هي للعالم لحياة الجسد وتجديده وشفائه، كذلك الرب هو شمس الروح وبرها ونورها وطهارتها.
‏وقد حاول الربيون تفسير النور كما جاء في العهد القديم، كما في المزامير: «الرب نوري... ممن أخاف» (مز1:27)، بأنه هو الناموس، لأن الناموس يوضح السلوك في الحياة كالنور في الظلمة. وهذا لم يغب عن سماع الرب وفكره، فهو يصحح ويعلن نفسه أنه «نورالحياة», و«الطريق» أيضاً، و«الباب» وأن من يتبعه، لا تدركه الظمة ولا يدركه ليل.
وحينما يوضع الناموس في مواجهة المسيح، يكون المسيح هو كمال الناموس. وكما قال الربيون إن «الهيكل» هو «النور» قال المسيح انقضوه وأنا أُقيمه في ثلاثة أيام، هيكلاً يملأ لا الأرض فقط، بل والماء، نوراً ومجداً، كناية عن الخليقة الجديدة بجسده.
‏والقديس يوحنا في رؤياه رأى منظر هذا الهيكل الجديد بالفعل، والرب سراجه، وشعوب المخلصين تمشي في نوره (رؤ23:21-24).
‏إن استعلان الطبيعة الإلهية في المسيح كان بقصد أساسي، وهو أن تمتد قوى هذه الطبيعة وتتخلل الإنسان ككيان مخلوق أصلاً على صورة الله. وتعاليم المسيح وكلماته كانت انبعاثاً وامتداداً لهذه القوى الإلهية التي في طبيعة المسيح: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6)، ونور أيضاً بالضرورة، وخاصة حينما كان يتكلم المسيح عن نفسه وعن طبيعته «أنا هو نور العالم». هذه ‏هي انبعاثات الطبيعة الإلهية في كلمات، وكأن الكلمات شعاع هذا النور، إذا أصاب قلبا مفتوحاً تخلله وأضاءه. هذا هو قول المسيح: «من يتبعني فلا يمشي في الظمة بل يكون له نو والحياة». وهكذا فإن نور العالم يتضح أنه «نور الحياة».
‏وما معنى «يكون له نور الحياة»؟ أليس أن نور الحياة يكون قد استقر فيه, «المسيح يحيا فيّ» (غل20:2)، وصار ملكا له؟ ثم ما معنى أن نمتلك نور الحياة الذي في المسيح؟ أليست هذه هي الشركة في أعلى وأعمق معناها، حيث يجمعنا فيه وإليه شعاع نوره وقوة حياته المنبعثة من تعاليمه وكلماته وروحه؟ وأليس هذا هو بعينه الذي يقوله المسيح في صلاته للآب: «أنا فيهم وأنت فىّ» (يو23:17)؟ هذا هو منبع النور ومصبه. أما قوته فقد أوضحها المسيح على المستوى العملي: «أنتم الأن أنقياء (مضيئون) لسبب الكلام الذي أكلمكم به. اثبتوا في وأنا فيكم» (يو3:15-4). «إن حفظتم وصاياي (نور). تثبتون في محبتي, كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته» (يو10:15). أما رفع هذا المستوى العملي إلى المستوى الرؤيوي فقد هتف به داود: «بنورك نرى نوراً» (مز9:36). فنور المسيح واسطة لمعاينة نور الآب، أي واسطة لرؤيا واتحاد. لذلك فنور المسيح أو المسيح كنور، هو شاهد للمسيح، سواء كان بالكلمة أو العمل.
‏فالنور أصلاً كطبيعة بحد ذاتها لا يحتاج إلى شاهد, أي إلى من يشهد له, بل يحتاج إلى مُشاهد، أي إلى من يرى ويفرح، لأن النور يكون دائمأ شاهداً لنفسه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
13:8-14: فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً». أَجَابَ يَسُوعُ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ».

‏موضوع الشهادة والدينونة بالنسبة للمسيح أمر خطير للغاية، فهو يلتحم التحاما محكماً مع طبيعة المسيح الكلمة المتجسد, الابن المُرسل.
‏فالمسيح يطرق هذا الموضوع من ناحيتين: من ناحية مصدرها أي «الكلمة» أي «الابن»؛ ومن ناحية التجسد, أي «ابن الإنسان». وهنا يلزم بل يتحتم التعارض فتظهر المضادة: فهو من جهة ليس له أن يدين لأنه جاء «كمرسل» ليخلص فقط، كما أنه ليس له أن يشهد لنفسه، لأنه لم يأت ليعمل مشيئته أو يتكلم من نفسه. هذا من وجهة نظر ابن الإنسان.
‏وفي نفس الوقت أيضاً, له أن يدين لأن الآب أعطى له كل الدينونة، لأنه وإن كان هو ابن الإنسان بالتجسد فهو لم يتغير كونه الابن الوحيد وهو والآب واحد، فهو يُعرف كمرسل من أين أتى وإلى أين يذهب ليجلس عن يمين الآب.
‏كذلك له أن يشهد لنفسه, وشهادته تكون هي الحق، لأنه لا يطلب من شهادته القول الذي يقوله أو العمل الذي يعمله مجداً لنفسه, إنما هو يستعلن الآب كغاية ونهاية لكل قوله وعمله, لذلك تأتي شهادته حقاً ملء الحق, لأنه يطلب مجد الآب.
‏والمسيح يدرك جداً هذه الحقيقة ويضغط عليها ضغطا بقوله: «وإن كنت أشهد لنفسي» وهي تجيء باليونانية: ( ) وتعني «حتى ولو» موضحاً بها أنه بنوع من التنازل قال سابقاً: «إن كنت أشهد لنفي فشهادتي ليست حقاً» (يو31:5)، فهو يستدرك هنا هذا القول السابق بقوله: «وإن كنت أشهد لنفي فشهادتي حق» للتأكيد على أن شهادتي لنفسي تبقى هي الأصح وهي الحق، بحسب الاستعلان الصحيح لشخصي الذي وان كمنتم لا تدركونه أنتم ولكي أنا أدركه، فأنا أعرف من أين أتيت وإلى أين أذهب باعتباري الابن و«الكلمة», حيث أن الابن يشهد له أبوه حتماً، فشهادة الابن لنفسه هي شهادة مزدوجة: شهادته لنفسه وشهادة أبيه له. كذلك فهو باعتباره «الكلمة» الذي يستعلن الآب لا يقبل شهادة إنسان، وإلا ما كان هو «كلمة الله», فـ «الكلمة» لأنه كلمة الله وقد جاء ليشهد لله تكون شهادته هي بعينها شهادة الله, فهي الحق عين الحق.
‏و يلاحظ القارىء, إثباتاً لقولنا هذا, أنه في حالة قول المسيح: «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً» (يو31:5) تجيء «أنا» في اليونانية مخففة ( ) ‏في وضعها الشخصي كإنسان. ولكن في قوله: « أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لى الآب الذي أرسلني» (يو18:8)، تأتي «أنا هو» في اليونانية بثقلها الإلهي ( ).
‏وهكذا، وبالنهاية، فإن «شهادة» المسيح ود«دينونة» المسيح عل السواء إذا نُظرت من وجهة نظر بشرية كالتي نظر بها الفريسيون للمسيح، فهي فعلاً ليست حب الحق ولا هي تُحسب شهادة أو دينونة. ولكن يوم أن نعرف من أين جاء المسيح والى أين يذهب, أي نعرف حقيقة المسيح الإلهية, حينئذ سنعرف أن شهادته حق ودينونته حق.
‏وهكذا نرى في هذا الاعتراض على شهادة المسيح لنفسه عجز الفريسيين عن اللحاق بفكر المسيح وطبيعته الإلهية الناطقة فيه. فالمسيح يقول: «أنا هو نور العالم» على أساس عملي قد قام بإثباته بالبرهان والدليل القاطع، بالكلمة القوية الحية الفعالة، وبالفعل الإعجازي. وهذه بحد ذاتها هي القوى المنبعثة من طبيعته الإلهية المنيرة، أو هذا هو النور الذي يشير بكل هدوء وبساطة إلى مصدره وهو الله الآب. والنور يشهد لنفسه لا محالة بمجرد ظهوره، حيث يكشف عن مصدره ويستعلن هدفه بآن واحد. لذلك يستحيل إخفاء النور الإلهي، فبمجرد أن ظهر النور الإلهي متجسداً، بدأ فعله يسري في القلوب والعقول ليستعلن ماهيته وليستعلن مصدره: «و(نحن) رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب.» (يو14:1)
‏وشهادة المسيح باعتباره النور الإلهي حق منتهى الحق، لأنه وإن كان يشهد لنفسه فهو يشهد بآن واحد إلى مصدره أي الله الآب, الذي منه أتى, فهو في الحقيقة «حق من الحق»، أو كما كان يقول المسيح دائماً: «الحق الحق أقول لكم...». لأنه حق مرتين: حق له وفيه، وحق الآب الذي هو منه!!
‏فقول الفريسيين: «أنت تشهد لنفسك. شهادتك ليست حقاً»، هو تماماً مثل قول الأعمى للنور: «أنت الظلمة»، أو مثل محاولة عابثة لإطفاء الشمس. هنا العيب ليس في النور على الإطلاق، ولكن العيب في غياب العين الروحية والعقل المميز للحق حتى يمكن أن يرى النور فيقول للنور: «أنت نور بالحقيقة».
‏هنا اعتراض لا بد من توضيحه، إذ ما ذنب هؤلاء الفريسيين والرؤساء الذين ليست لهم عيون تبصر ولا آذان تسمع؟ هذا أجاب عنه المسيح مراراً وتكراراً: إن آمنتم بي ترون الروح، وتسمعون للحق وتدركون الحياة، وتعلمون من أين أتيت وإلى أين أذهب، واذا لم تؤمنوا بي فعبثاً تحاولون إذ تظل عيونكم تبصر النور ولا تراه إلا ظلمة، وآذانكم تسمع الحق ولا تميزه إلا باطلاً، وتجهلون من أين أتيت وإلى أين أذهب, لأنكم تبحثون عن أنساب الجسد. أما مسوغات الإيمان بي فهي الأعمال التي عملتها بينكم ولم يعملها أحد غيري قط. فإن عسر عليكم الإيمان بي متكلماً وموضحاً، فآمنوا بالأعمال التي تنطق بأنها بالله معمولة!
أما قولكم أن شهادتي لنفسي ليست حقاً، فهذا دليل قاطع أن عيونكم لا ترى النور وآذانكم لا تتبين الحق؛ ولهذا لا تعرفون من أين أتيت وإلى أين أذهب, وهذا لا ينفي الحقيقة، فعدم رؤية النور ليست كفيلة بأن تلغي وجوده. ويكفي للنور ان يعرف أن مصدره هو الله، ورسالته هي أن ينير العالم، وأنه هو هو قائم في الله وممتد إليه, وحينئذ حق له أن يقول: «أنا هو نور العالم»!
 

خادم البتول

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
13 أبريل 2012
المشاركات
1,094
مستوى التفاعل
1,068
النقاط
113
الإقامة
عابـــر سبيــــل
10:8-11: «فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟». فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».

«أين هم أولئك المشتكون عليك. أما أدانك أحد. فقالت. لا أحد يا سيد»: لقد خسر هؤلاء المشتكون قضيقهم واستقالوا كقضاة وتركوا منصتهم. فالمشتكون صاروا تحت الشكوى عينها والقضاة فقدوا صلاحيتهم، لأنهم صاروا تحت الدينونة. فإذا وضح أن الناموس هكذا أصبح بلا قضاة في إسرائيل فقد بطل الناموس!!
‏وهكذا عرى المسيح كل من الناموس والناموسيين, فالناموس صارم وأساسه «رفع الشر» أي إبطال الخطية, ولكن وضح أنه لا يوجد من يستطيح أن يحكم به لأنه لا يوجد من هو بلا خطية حتى يستطيع أن يرفع الشر من إسرائيل أو يبطل الخطية!
‏إذن، الناموس, بحد كلماته, يحكم على الخاطىء ويدين الخطية, ولكن لا يستطيع أن يبطل الخطية. وهذا أول عمل استعلاني عمله المسيح إزاء الناموس، لقد استعلن عجزه باستعلان عجز كل من يحكم ويدين به» لأنه إذا حكم أي قاض على الخاطىء أو أدانه, وهو نفسه خاطىء, يحكم ويدين نفسه بآن واحد. هذا القانون المسيحي يذكره القديس بولس, شيخ الفريسيين, الذي يعلم ما هو الصحيح في الناموس حقاً: «لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان، كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك, لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها ... أفتظن هذا، أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها، أنك تنجو من دينونة الله.» (رو1:2-3)
‏كما كشف المسيح نقص الناموس الخطير في كونه يحكم بحسب الظاهر والمنظور، ويتجاهل عن عمد ما في الباطن والضمير, وذلك إزاء حكم المسيح الذي اعتمد اعتماداً قوياً على حكم الضمير, والذي ثبت أنه قادر أن يلغي حكماً بالإعدام ثابتاً على يد شهود عيان.
‏وهكذا حينما وقف المشتكون, والحجارة في أيديهم في لهفة لتنفيذ حكم الموت في هذه النفس الخاطئة, أيقظ المسيح ضمائرهم, فرأوا فجأة أنهم واقعون في نفس الفعل الذي يدينونه، فألقوا الحجارة من أيديهم، وخرجوا من ساحة قضاء الناموس، وتركوا الخاطئة للمسيح!! بل وتركوا المسيح أيضاً، إذ ذابت نفوسهم فيهم.
‏ويقول في هذا القديس أغسطين: [وبقي اثنان: المرأة التعسة (بل السعيدة) في مواجهة الرحمة المتجسدة]
‏وبذلك أصبح المسيح, وبموافقة القوامين على الناموس, أنه هو وحده القادر أن يحكم على الخاطىء ويدين بمقتضى الناموس لأنه هو وحده والوحيد الذي بلا خطية! ولكن لكي تظهر رسالة المسيح واضحة كل الوضوح قال: «ولا أنا أدينك». ولماذا لا يدين؟ وأين الناموس؟
‏لقد أدان المسيح نفسه وأكمل حكم الناموس في نفسه عنا وعن هذه الخاطئة، وتقبل عن كل خطاة الأرض حكم الموت؛ فأصبح الوحيد الذي له حق التبرئة, فهو يبرىء الخاطىء والفاجر، لأنه دفح دمه ثمناً لخطية الخاطىء وفجر الفاجر, كان من كان. لهذا يقول بولس الرسول: «واما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يُحسب له برا.» (رو5:4)
‏وهنا يقول القديس أغسطين أيضاً: [لأنك في، أصبحت بلا خطية.]
[وبقول المسيح «اذهبي ولا تخطئي أيضاً» ‏فقد أدان الخطية ولكن برأ الخاطىء.]
وحينما مات المسيح على الصليب عن الخطاة، أكمل كل مطالب الناموس وأحكامه ضد كل الخطاة. فحفظ للناموس كرامته، وأرسل كل محافظ قضاياه للحفظ في دار مخازن رحمة الله. وبذلك يكون المسيح قد أنشأ بموته ناموساً آخر فوق ناموس موسى. فناموس موسى يحكم ويدين على أساس ثبوت الخطية، فالخطية هي قوة الناموس حيث تتنوع قوانين الناموس على أساس تنوع الخطية. فجاء المسيح ورفع الخطية بكل أنواعها بموته، وأبطلها بكل أشكالها نهائيا بذبيحة نفسه، فصار ناموس موسى بلا قوة، وتعطلت كل بنوده وقوانينه ونحى قضاته. ألم يحدث هذا فعلاً أمام المسيح حينما خرج القضاة المشتكون بمقتضى الناموس؟ أما تنحى القضاة؟ فانخفضت هامة الناموس وارتفعت هامة المسيح! فتجلت محبة الله ورحمته في قوة ذبيحة المسيح. فإن كانت قوة ناموس موسى هي الخطية لحكم الموت, فقد صارت قوة ناموس المسيح هي النعمة للبراءة. وهكذا حكمت النعمة في المسيح عوض النقمة في الناموس. وعلى هذا الأساس قال المسيح للمرأة المرتجفة تحت نقمة الناموس «ولا أنا أدينك, اذهبي ولا تخطئي أيضاً».
‏وللقارىء أن يتعجب كيف خرج المسيح من هذه القضية الشائكة المميتة وقد برأ المرأة, وأدان المشتكين, وزكى ناموس موسى واحتفظ له بكرامته, وأخيراً أرسى قواعد ناموس النعمة والحياة.
«اذهبي ولا تخطئي أيضاً.»: ‏كلمة «اذهبي» بالمفرد هي نفسها تأتي بالجمع «اذهبوا بسلام»، والتي تقال في نهاية الليتورجيا, أي الصلاة العامة أو الإفخارستيا؛ وتسمى Missa وهي الإذن للمصلين بالخروج من حضرة الله محملين بالبركة. وهذه الكلمة تحمل بالفعل قوة إلهية للحفظ والرعاية من لدن الله القدير وكأن المسيح يدعو لها بالحفظ. ويكفي توضيحاً لذلك أن نتذكرأن هذه المرأة الخاطئة قد انتقلت من حكم الموت إلى حكم الحياة، ومن لعنة الناموس إلى رحمة المسيح.
‏كما يلاحظ أنه قبل أن يقول لها المسيح «لا تخطئي أيضاً» قال لها «اذهبي» محملة بقوة براءة أو تبرير من عنده، هي لا تستحقها بسبب أعمالها، ولكن استحقتها بسبب حضورها إليه، أو بالحري مثولها في حضرته, والمثول في حضرة الله نعمة عظمى؛ حتى وإن كان على غير دعوة أو ميعاد كالسامرية أو هذه الخاطئة أو كبولس الرسول نفسه!! يكفي أنها انتظرت منه رحمة, ‏فوجدتها مضافاً إليها نعمة.
‏إن معظم الشراح والعلماء والآباء الأوائل لم ينصفوا هذه المرأة الخاطئة، ولكن كيف؟ ولماذا؟
نحن جيعاً سنمثل أمام كرسي المسيح على هذا الحال نفسه، وليس من يستحق أن يتزكى قط بسبب أعماله، ولكن إن كنا نتنظر رحمة فسنجدها، وإن كنا نرجو منه حياة فسنحيا.
«لا تخطئي أيضاً»: أي لا تعودي إلى سيرتك الأولى، هي دعوة للتوبة. ولكن الذي يدعو إلى التوبة هنا هو المسيح ويوجهها شخصيا منه إليها، فهي دعوة مدعمة بالقوة، وكأنه يعرض نفسه كسند خفي لجهادها ويعدها سرا بالمؤازرة. إنه يستحث فيها إرادتها الحرة، ولكنه هو نفسه يشاء ذلك منها، أي أنه يضم مشيئته إلى مشيئتها, فأي رجاء ملأ قلب هذه الخاطئة في هذه الساعة. إنه في الحقيقة رجاء يمتد إلينا وإلى كل خاطىء يلقي نفسه بلا شفقة بين يدي المسيح، كما ألقى هؤلاء الكتبة الأفظاظ هذه المرأة الخاطئة, بل السعيدة، في يدي المسيح.
‏وفي نهاية قصة المرأة الخاطئة التي اعترضت حديث المسيح في عيد المظال، وفرقت بين حديثه عن «الماء الحي» و«نور العالم»، نود أن نوجه نظر الباحث أن كلام المسيح بخصوص المرأة الخاطئة كان بحد ذاته تعليماً هاما للغاية عن ناموس موسى ومقارنته العملية بناموس المسيح. أي أن قصة المرأة الخاطئة قدمها القديس يوحنا في مكانها الصحيح.



هذه الحلقة (وما سبقها من حلقات الأمس) من أروع الحلقات وأهمها! أشكر بكل العرفان والامتنان تعبك أستاذنا الحبيب، مجهود حقا باهر وخدمة مشرقة مباركة ربنا يباركك.

بالمناسبة مما يذكر أن أبينا الجليل متى المسكين عندما أراد القيام بهذا التفسير لم يستطع كتابة حرف واحد قبل أن يتحقق له "الوعي الكلي" كما كان يسميه وقبل أن يمتثل ويقترب تماما ربما إلى حد التماهي والاندماج مع روح النص وصاحبه! هكذا وبسبب هذه الرؤية وهذه الأمانة والإخلاص اضطر للانتظار عشرين عاما كاملة قبل أن يبدأ هذا التفسير الذي بين أيدينا! أو حسب تعبيره هو شخصيا ـ في محاورته مع الدكاتره الكبار هدى وصفي ونصر أبو زيد وجابر عصفور ـ ردا على سؤال الأخير:
جابر عصفور: في هذه الحالة، حين يكون هناك نوع من الاتحاد الوجداني، هل نستطيع القول إن شرح الإنجيل الذي كتبه الأب متى كان مرآة الأب متى التي انعكس عليها الوعي الكلي بطريقة تتناسب مع درجة الاتحاد الذي تم بين الأب متى الشارح والنص المشروح؟

متى المسكين: في الحقيقة، لا أخفي عليك، أنا لم أتجرأ طيلة عشرين عاما أن أقترب من إنجيل يوحنا، لشموخه ولشعوري بالعجز والقصور، ماذا حدث؟ إن هذه السنين جعلت الوعي يرتفع ويتذوق، إلي أن بدأت أقرأ إنجيل يوحنا واكتشف أن هناك معاني مختلفة وجديدة، وقلت لرهبان كثيرين، كم أتمني شرح إنجيل يوحنا ولكني لا أقدر، إلي أن جاء اليوم، وأحسست أن الوعي الذي أشعر به قريب من الوعي الذي كتب به يوحنا، لدرجة أنني حين كان يستعصي عليَّ مفهوم، كنت أتوقف، وأجلس صامتا وأصلي، أريد أن أشعر به وتقريبا أخاطبه، وأقول له: ماذا تريد أن تقول؟ إن الكلام واضح ومفهوم ولكني لا أستطيع أن أعيه كي أكتبه: لحظتها، يأتي الحدس فأكتب، وهذا هو خلاصة قولي، حين تقترب من صاحب النص تحصل علي الشرح، أنت تقول إنني مرآة، في الحقيقة لست مرآة، أنا موصل صديق لصاحب النص، قريب منه وأحبه.
كنت أتمنى أن أنقل هذه المحاورة كلها أو على الأقل ما ورد بها حول هذا التفسير (علما بأن الأب متى بدأ بالترجمة نفسها فأعاد الترجمة كلها قبل أن يبدأ مرحلة الشرح ثم التفسير) ولكن أتعشم أن يعطينا هذا القدر القليل ولو فكرة بسيطة عن حجم وقيمة هذه الهدية الثمينة الرائعة التي ترسلها مشكورا لنا في هذه الحلقات، أستاذنا الكبير ميشيل (ولعلنا عند انتهائك بمشيئة الرب نضع هذا ـ على الأقل ـ في مقدمة قصيرة نضيفها للرسالة الأولى نفسها، تمهيدا للقارئ وتعريفا له منذ البداية بحجم هذا العمل الفريد وقيمته، العمل الذي تجاوزت مقدمته وحدها 400 صفحة على ما أذكر). بكل حال أشكرك مرة أخرى على هذا الجهد المتميز والعطاء الكبير أستاذنا الحبيب مع عاطر تحياتي ومحبتي. :16_4_10:



 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
15:8-16: أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي.
«أنتم حسب الجسد تدينون»: هنا يستطرد المسيح من مجرد الشهادة لنفسه التي ينفون حقيقتها إلى هدف هؤلاء الفريسيين من هذا النفي. فقولهم: «شهادتك ليست حقاً» هو في الحقيقة اتهام مباشر له بالإدعاء والتزييف والكذب. فهم بذلك أقاموا أنفسهم «ديانين» للحق, بالرغم من أنه ليست لهم معرفة صحيحة به. فالرب هنا يكشف من أين انخدعوا، وكيف أن دينونتهم هي الباطلة, وليس الحق الذي يشهد به هو. فيقول لهم: «أنتم حسب الجسد تدينون» ذلك لأن ليست لهم معرفة روحية. أي أن اعتمادهم هو فقط على المقاييس البشرية من رؤية جسدية ودراسة أنساب ووطن وفهم جسدي وتعاليم حرفية على مستوى الجسد؛ وكأنه يقول لهم: أنتم تحاولون أن تقيسوا الروحيات بالجسديات وتحكموا على الإلهيات بالمعرفة القائمة على الحرف، فعثرتم في الله الآب الذي أرسلني، وعثرتم في أنا الذي جئت لأخرجكم من الظلمة إلى النور.
‏«أما أنا فلست أدين أحداً»: ‏أنا لا أدينكم على هذا، ولا أحكم عليكم في ذلك، ولا أدين أحداً غيركم بالمرة. لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص (الذين في) العالم.
‏أما الدليل على صحة قوله هذا فهو أنه لم يدن المرأة الخاطئة التي أمسكرها في ذات الفعل، والتي يقضي الناموس برجمها، بل دعاها للتوبة وآزرها بقوة من عنده دون أن يلغي الناموس.
«وان كنت أنا ادين, فدينونتي حق, لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني»: المسيح هنا يعلن لهم أن هناك دينونة أخرى خطيرة ليست حسب الظاهر، وليست حسب الجسد، بل حسب فكر الآب وموازين الله، وهي التي «أعطيت كلها للابن». هذه الدينونة هي حسب الحق‏، وهي التي ستُدان بها الخطية والعالم والشيطان، أي دينونة كل الذين ليس فيهم الحق.( أما دينونة الخطية فهي عمل الآب والابن وقد أوضحها بولس الرسول: "فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد. لكي يتم حكم الناموس فينا. (رو3:8-4)
ب- أما دينونة العالم فهي أيضاً عمل الآب والابن: "الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة, ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء مُجدت وأمجد أيضاً .. أجاب يسوع ... الأن دينونة هذا العالم, الأن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً" (يو27:12-31)
ج- وأما دينونة الشيطان رئيس هذا العالم فهي أيضاً من عمل الآب والابن: "ولكن إن ذهبت أرسله (الروح القدس) إليكم, ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية، فلأنهم لا يؤمنون بي؟ وأما على بر، فلأني ذاهب إلى أبي ولا تروني أيضاً؛ وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين." (يو7:16-11) )
‏هذه يقول عنها المسيح: «وإن كنت أنا أدين فدينونتي حق, لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني». أما من جهة الدينونة عامة، فالمسيح وعد أنه لن يدينهم على ما قالوه وتفكروا به من جهته, إن كان على مستوى الجهل والجهالة والحكم حسب الظاهر والجسد. «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو34:23)، ولكن إن كانت مقاومتهم لشهادته وعدم الإيمان به ليس عن جهل أو جهالة وليس مجرد حكم حسب الظاهر والجسد، بل كان مقاومة عن معرفة وانصياعاً وراء «الحسد» لأنهم: «كانوا قد أسلموه حسدا» (مر10:15)، حفاظاً على مراكزهم ومجدهم الكاذب, فهم يكونون قد انحازوا إلى هذا العالم ورئيس هذا العالم والى الباطل, ويكونون قد وقعوا تحت «دينونة الحق»: «لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم» (يو11:19)!! لأن جوهر«دينونة الحق» هو الفصل بين الحق والباطل, وبالتالى وبالضرورة, إسكات صوت الباطل.
«لأني لست وحدى, بل أنا والآب الذي أرسلني»: ثم انتقل المسيح من الدينونة إلى الشهادة مرة أخرى لينفي عن نفسه، عندما قال: «أنا هو نور العالم»، أنه يطلب ما لنفسه أو يسعى لمجد نفسه. فأوضح لهم أن شهادته هذه ليست من ذاته أو لمجد نفسه، بل مستمدة من شهادة الله الآب له، وعلى ذلك فهذه الشهادة التي يشهد لها هي شهادة اثنين. هو والآب. وبذلك تكون صحيحة حسب مقاييس حرفية الناموس الذي يفهمونه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
15:8-16: أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي.
«أنتم حسب الجسد تدينون»: هنا يستطرد المسيح من مجرد الشهادة لنفسه التي ينفون حقيقتها إلى هدف هؤلاء الفريسيين من هذا النفي. فقولهم: «شهادتك ليست حقاً» هو في الحقيقة اتهام مباشر له بالإدعاء والتزييف والكذب. فهم بذلك أقاموا أنفسهم «ديانين» للحق, بالرغم من أنه ليست لهم معرفة صحيحة به. فالرب هنا يكشف من أين انخدعوا، وكيف أن دينونتهم هي الباطلة, وليس الحق الذي يشهد به هو. فيقول لهم: «أنتم حسب الجسد تدينون» ذلك لأن ليست لهم معرفة روحية. أي أن اعتمادهم هو فقط على المقاييس البشرية من رؤية جسدية ودراسة أنساب ووطن وفهم جسدي وتعاليم حرفية على مستوى الجسد؛ وكأنه يقول لهم: أنتم تحاولون أن تقيسوا الروحيات بالجسديات وتحكموا على الإلهيات بالمعرفة القائمة على الحرف، فعثرتم في الله الآب الذي أرسلني، وعثرتم في أنا الذي جئت لأخرجكم من الظلمة إلى النور.
‏«أما أنا فلست أدين أحداً»: ‏أنا لا أدينكم على هذا، ولا أحكم عليكم في ذلك، ولا أدين أحداً غيركم بالمرة. لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص (الذين في) العالم.
‏أما الدليل على صحة قوله هذا فهو أنه لم يدن المرأة الخاطئة التي أمسكرها في ذات الفعل، والتي يقضي الناموس برجمها، بل دعاها للتوبة وآزرها بقوة من عنده دون أن يلغي الناموس.
«وان كنت أنا ادين, فدينونتي حق, لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني»: المسيح هنا يعلن لهم أن هناك دينونة أخرى خطيرة ليست حسب الظاهر، وليست حسب الجسد، بل حسب فكر الآب وموازين الله، وهي التي «أعطيت كلها للابن». هذه الدينونة هي حسب الحق‏، وهي التي ستُدان بها الخطية والعالم والشيطان، أي دينونة كل الذين ليس فيهم الحق.( أما دينونة الخطية فهي عمل الآب والابن وقد أوضحها بولس الرسول: "فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد. لكي يتم حكم الناموس فينا. (رو3:8-4)
ب- أما دينونة العالم فهي أيضاً عمل الآب والابن: "الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة, ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء مُجدت وأمجد أيضاً .. أجاب يسوع ... الأن دينونة هذا العالم, الأن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً" (يو27:12-31)
ج- وأما دينونة الشيطان رئيس هذا العالم فهي أيضاً من عمل الآب والابن: "ولكن إن ذهبت أرسله (الروح القدس) إليكم, ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية، فلأنهم لا يؤمنون بي؟ وأما على بر، فلأني ذاهب إلى أبي ولا تروني أيضاً؛ وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين." (يو7:16-11) )
‏هذه يقول عنها المسيح: «وإن كنت أنا أدين فدينونتي حق, لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني». أما من جهة الدينونة عامة، فالمسيح وعد أنه لن يدينهم على ما قالوه وتفكروا به من جهته, إن كان على مستوى الجهل والجهالة والحكم حسب الظاهر والجسد. «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو34:23)، ولكن إن كانت مقاومتهم لشهادته وعدم الإيمان به ليس عن جهل أو جهالة وليس مجرد حكم حسب الظاهر والجسد، بل كان مقاومة عن معرفة وانصياعاً وراء «الحسد» لأنهم: «كانوا قد أسلموه حسدا» (مر10:15)، حفاظاً على مراكزهم ومجدهم الكاذب, فهم يكونون قد انحازوا إلى هذا العالم ورئيس هذا العالم والى الباطل, ويكونون قد وقعوا تحت «دينونة الحق»: «لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم» (يو11:19)!! لأن جوهر«دينونة الحق» هو الفصل بين الحق والباطل, وبالتالى وبالضرورة, إسكات صوت الباطل.
«لأني لست وحدى, بل أنا والآب الذي أرسلني»: ثم انتقل المسيح من الدينونة إلى الشهادة مرة أخرى لينفي عن نفسه، عندما قال: «أنا هو نور العالم»، أنه يطلب ما لنفسه أو يسعى لمجد نفسه. فأوضح لهم أن شهادته هذه ليست من ذاته أو لمجد نفسه، بل مستمدة من شهادة الله الآب له، وعلى ذلك فهذه الشهادة التي يشهد لها هي شهادة اثنين. هو والآب. وبذلك تكون صحيحة حسب مقاييس حرفية الناموس الذي يفهمونه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
17:8-18: وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

‏يلاحظ هنا تأكيد المسيح لشخميته الإلهية «أنا هو» وهي تمهيد لشهادة واحدة: الآب والابن.
«وأيضاً في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق»: هنا يعلن المسيح مقدار الهوة التي تفصله, كصاحب العهد الجديد, عن «ناموس اليهود»، أي عن روح الأحكام التي صار يحكم بها الفريسيون بحسب الجسد فلوثوا روحانية العهد القديم.
‏لذلك فالمسيح عندما يقول هنا «ناموسكم»، فذلك لا يحتسب تقليلاً من قيمة الناموس أو إلغاء له، ولكنه يتكلم عن الناموس بحسب تفسيرهم الجسدي الذي رأيناه أنه أنشأ في فكرهم دينونة الحق والله نفسه. أما ناموس موسى الصحيح, فيعلن ويصرخ من جهة المسيح الذي سيأتى, بدينونة من يرفضه: «ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا اطالبه» (تث19:18). فلو عاملهم المسيح حسب ناموس موسى الصحيح لقطعهم، ولكننا رأيناه لا يدينهم بالرغم من أنهم انحرفوا عن متطلبات الناموس وفهمه الصحيح: «لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب يوجد الذى يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى (الناموس) لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي.» (يو45:5-47)
«أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لى الآب الذي أرسلني»: ويلاحظ القارىء أن قول المسيح في الآية السالفة: «لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني»، ثم يكرر «أنا والآب الذي أرسلني»، تم إذ يضيف عليها: «إن شهادة رجلين حق», يوضح بأبرز تعبير عن «الوحدة» الذاتية القائمة بينه وبين الآب. بل ومن تطابق الشهادتين, شهادته عن نفسه وشهادة الآب عنه, تبرز وحدة المشيئة والفكر.
‏والذي نخرج به من شرح المسيح أن استعلان المسيح لذاته والآب هو حقيقة، بل حق مطلق, لا يحتاج أن يكون له شهادة من بشر تؤيده. والتجاء المسيح للناموس: «إن شهادة رجلين حق» هو احتقار لتفكير اليهود، وإخضاع لمنطق الناموس ليخدم الحق وليس ليؤيده. أما دليل جهلهم للحق وجهالتهم بالناموس فتظهر في سؤالهم الأتي:
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
19:8- فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً».

‏يلاحظ أن الفريسيين لا يسألون عن من هو أبوك؟ لأنهم أدركوا باليقين أنه يتكلم عن الله، ولكنهم في استهانة بهذه العلاقة يحاولون أن ينفوا عن المسيح قدرة هذا «الآب» على الشهادة لحساب المسيح، مدركين أنه يتعذر على المسيح أن يستحضر شهادة شفوية أو كتابية من هذا الآب.
‏أما إجابة المسيح ففيها ألمعية وحكمة عميقة، إذ واجههم بالغباء الذي وقعوا فيه حينما قالوا: «أين هو أبوك؟» لأنه كان يلزم التعرف بهذا الآب قبل أن يسأل عن مكان وجوده: فكأنه يقول لهم: كان يلزم أولا أن تتعرفوا على أبي قبل أن تسألونني أين هو. فبقوله: «لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموي لعرفتم أبي أيضاً»، يجيب عليهم إجابة مستترة هي نفس الإجابة التي أجاب بها فيلبس حينما سأله: «أرنا الآب وكفانا» (يو8:14)؛ لأنهم لو كانوا قد عرفوا المسيح، لعرفوا الآب، لأن المسيح هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور، وكلمته هي الكلمة المنطوقة من الآب، والعمل الذي يعمله معمول بتدبير الآب، وكذلك المشيئة هي مشيئة الآب. ولكن لأنهم عثروا في المسيح ولم يروا منه إلا بشريته, انحجب عنهم لاهوته، لذلك غابت عنهم صلته بالآب, وبالتالي لم يدركوا من هو أبوه ولا أين هو أبوه.
‏كذلك لو كان اليهود على علم صحيح بالله «يهوه»، ولهم صلة حقيقية به, لأدركوا المسيح، لأنه ابنه والحامل لصفاته. وفي هذا تعيير مر لليهودية على وجه العموم التي استؤمنت أصلا على معرفة الله دون بقية الشعوب, ولكنها برفضها للمسيح، أثبتت أنها متغربة تماماً عن الله.
‏ومن حيث منهج الحوار، واضح أن اليهود برفضهم شهادة المسيح عن نفسه التي هي شهادة الآب حتماً وبالضرورة، فإن عيونهم وأذانهم انسدت عن إدراك الله. هم سدوها بأعمالهم وأخلاقهم، والله سدها لهم، لأنهم لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم. وبهذا تلفت أدوات المعرفة الحقيقية عندهم «لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً», وبالتال تعذرت الطاعة لصوت الله لغياب الصوت ذاته!! وهكذا بلغ الاستعداد عندهم لادراك الاستعلان الذي جاء به المسيح إلى الصفر. فانهى بهم الأمر إلى رفض المسيح لأنهم لم يعرفوه, أو بالحري لأنهم لم يتعرفوا عليه. وهكذا ذهبت دقات الإنذار المتوالية التي أطلقها الله شديدة ومتكررة في آذانهم: « تأتي ساعة وهي الآن»، «الآن»، «الآن» حى انتهى الأوان! وصدر الحكم ووقعوا تحت الدينونة: «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالا لم يعملها أحد غيري، لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي, لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم إنهم أبغضوني بلا سبب.» (يو24:15-25)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
20:8 - هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ.

‏وضح الآن المكان الذي التجأ إليه المسيح لإجراء هذه التعاليم، وهو المكان المخصص لوضع خزائن جمع الأموال. وهو داخل رواق النساء المكان المحبب جدا للشعب حيث كانت توقد المنارات الأربع في عيد المظال. وقد اختار الرب هذا المكان بالذات داخل الهيكل لأنه قريب، بل في مواجهة المكان المخصص لانعقاد السنهدريم والذي يجتمع فيه اليهود عادة، وهذا المكان هو المسمى «جازت»، ويقع بين رواق النساء والرواق الداخلي. وهذا يوضح أن المسيح كان يلقي تعليمه على مسمع من أعضاء السنهدريم. وقد أشار إليه المسيح أثناء محاكمته: «فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود (الفريسيون) دائمأ وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.» (يو19:18-20‏)
‏وعلى المفهوم الميستيكي الذي يرمي إليه القديس يوحنا، يكون قد صدر الحكم النهائي على اليهود من داخل هيكلهم، وعلى خلفية ناموسهم, وفي حضرة سنهدريمهم: أن ليست لهم معرفة بالله.
‏وليس عبثا ولا هو لماماً أن يذكر القديس يوحنا أن هذا الحكم صدر في هذا الموضع ومن هذا المنبر الرسمي، فهو إنما قصد قصدا أن يوثق الحكم ويسجله للتاريخ وللعالم وللإنسان ككل، فليس اليهود فقط، من حصرهم هذا النطق، بل وكل من يدعي بادعاء اليهود وينتهي إلى ما انتهوا إليه.
‏«ولم يمسكة أحد لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد»: مراراً وتكراراً انتهى اليهود إلى الأمر بإلقاء القبض عليه، ورُتبت كل الأمور، ولكن في آخر لحظة يلغيها المسيح بحق الفيتو الإلهي, لأن حكم الإنسان على الله هو محض افتراء لا يرقى أبداً إلى التنفيذ، فصلب المسيح لم يكن بأي حال من الأحوال بحسب مشيئة إنسان بل بحسب ضرورة رآها الله وحدد ساعتها، ولأن ساعة التسليم الإرادي لم تكن قد جاءت بعد، فهكذا تتفرق الأجهزة والأيدي المتربصة في مرارة وسخط يندهش لها رؤساء الكهنة الذين لم يستطيعوا أن يخفوا سخطهم من هذا الأمر أثناء المحاكمة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
ب- الجزء الثاني من الحوار
«أنا هو» (21:8-29)


21:8-24 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا». فَقَالَ الْيَهُودُ: «أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟». فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ».
«أفعالهم لا تدعهم يرجعون إلى إلههم، لأن روح الزنا في باطنهم، وهم لا يعرفون الرب. وقد أذلت عظمة إسرائيل في وجهه، فيتعثر إسرائيل وأفرايم في إثمهما، ويتعثر يهوذا أيضاً معهما. يذهبون بغنمهم وبقرهم (ذبائح) ليطلبوا الرب ولا يجدونه، قد تنحى عنهم. قد غدروا بالرب.» (هو4:5-7)
‏مفتاح فهم هذه الآيات كلمة «أيضاً» والتي تأتي باليونانية «ومن أجل ذلك»، أي أن هناك سبباً متكرراً يتكلم من أجله المسيح. ويلاحظ القارىء أن في الأصحاح السابع عدد 33و34 قال المسيح هذا الكلام نفسه تقريباً، وفي نفس الموقف لما جاءت حملة ضباط الهيكل للقبض عليه، وهنا أحس المسيح أن نيتهم متجهة أيضاً للقبض عليه مرة ثانية، لذلك وبسبب وضوح نيتهم للقتل، بدأ المسيح هنا يحذر بتأكيد وجدية أنهم هم الخاسرون في هذه القضية، خسارة لن تعوض لأنها ستكون لهم للموت الأبدي، لأن خطيتهم ستبقى في عنقهم ولن تغفر لهم.
‏«تموتون في خطاياكم»: يلاحظ أن الخطية هنا هي خطية رفض المسيح: «والذي لا يؤمن بالابن ... يمكث عليه غضب الله» (يو36:3)
«ستطلبونني»: ولكن للأسف ستبحثون عني على الأرض وأنا سأكون في السموات، لذلك عبثاً تبحثون, ولن تجودنني لأنكم محبوسون في النظرة الجسدية الأرضية, ويا ليتكم كنتم تبحثون عني بصلاح نية، ولكنكم في حقدكم اليائس وعناد مقاومتكم لمشيئة الله, لن تكون خيبة أملكم هينة أو يمكن تعويضها، بل ستكون حكماً مؤبداً بالموت في خطيتكم. أما هذه الخطية فسوف يكفر عنها المسيح بعد ذلك بوضوح.
«حيث أمضى أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا»: يلاحظ أن المسيح هنا يركز على الفارق الشاسع بين «أنا» و«أنتم». هذا هو أساس وجوهر الإنفصال الذي لا يمكن تلاحمه مرة أخرى كما هوحادث وسهل الآن بالجسد، الأمر الذي سيوضحه المسيح في آية قادمة.
«فقال اليهود: العله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا»: ‏اليهود هنا هم الفريسيون المتربصون، الذين سبق أن قالوا، ردا على تحذيره أنه سيمضي ولا يقدرون أن يأتوا إليه, إنه ربما يكون قد فكر أن يمضي إلى شتات اليونانيين ليعلم هناك (35:7‏). ولكن هنا نجد أن ردهم يشتد فيه التهجم والخساسة مع مرارة الحقد، ربما لشعورهم أن المسيح يتعالى عليهم ويترفع عن مستواهم. كما يكشف ردهم: إنه ربما «يقتل نفسه»، مقدار ضيق العقل والتفكير المسدود، إذ بحثوا في أنفسهم كيف لا يستطيعون أن يذهبوا إليه؛ باعتبار أن إمكانياتهم في نظرهم تفوق إمكانياته؛ فرأوا أن هناك مكانا واحدا لا يستطيعون الذهاب إليه، وهو جهنم، حيث تستقر أرواح الذين يقتلون أنفسهم (حسب مذهب اليهود). كل ذلك تفكروا فيه في ضمائرهم, ولكن المسيح علم بما يضمرون وبما يفكرون.
‏«فقال لهم. أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم. فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكحم لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم»: المسيح هنا يشرح السبب الذي سيحتم بعدم قدرتهم على تتبع المسيح. ويوضحه على أساس اختلاف الطبيعة واختلاف الوجود بين ما هو أرضي وما هو سماوي، هذا الإختلاف الذي هو أيضا السبب فى قصور فهمهم.
هذا الاختلاف في الطبيعة سبق أن شرحه لهم الرب بصورة أخرى: «لأني أعلم من أين أتيت والى أين أذهب, وأما أنتم فلا تعلمون من أين أتي ولا إلى أين أذهب... أنتم حسب الجسد...» (14:8-15). هنا يكون عدم معرفتهم لطبيعة المسيح ومن أين جاء، هو الذي سبب عدم معرفة المسيح؛ وأما عدم معرفتهم إلى أين يذهب فقد أضاع عليهم معرفة رسالته ومعرفة الذي أرسله.
‏هنا المسيح يوضح أكثر جداً من أي شرح أخر من أين هو وما هي طبيعته:
«أنتم من أسفل»، أي من الطبيعة الترابية، من الأرض، من المحدود الزمني المنتهي إلى الموت، من تحت الباطل والزيف والأقنعة الزائلة.
«أما أنا فمن فوق», أي من الطبيعة الخالقة، من السماء، من اللامحدود الأزلي، من الخالد الأبدي، من الحق القائم بذاته والدائم بكيانه.
‏«أنتم من هذا العالم»، المتغير والزائل المحكوم بالقوى الطبيعية, والذي أُخضع للباطل، ويسوده الشر، ويغطيه الظل ويعبث به الدوران!
‏«أما أنا فلست من هذا العالم»، أتيت إليه مرسلا، وأتركه وأذهب من حيث أتيت؛ دخلته لاخلصه, وأفديه، وأحييه، وأنيره، ثم أنطلق مفتتحاً الطريق المؤدي إلى السماء لمن استطاعوا أن يغلبوه, كما غلبته «بدم الخروف وبكلمة شهادتهم» (رؤ11:12). هنا رد يخرس ظنهم الآثم أنه يذهب إلى الجحيم بقتله لنفسه.
‏وها يبغي أن نلاحظ أن طبيعة المسيح هي «من فوق» ولم تنزل أبداً «إلى أسفل». فنزوله إلينا كان فقط من أجلنا، وأما هو من حيث طبيعته فهو لم يزل «من فوق»، وهو لم يزل موجوداً فوق في السماء حتى أثناء وجوده معنا على الأرض: «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3). فنزوله كان فقط من أجل أن يجذبنا معه إلى فوق ويرفعنا معه حتى إلى الآب ، كما قال هو نفسه في مناسبة أخرى: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو32:12)، حيث هذا الجذب السري يعتمد أساساً على كون طبيعته طبيعة إلهية «من فوق» والى فوق، فإن تم الإتحاد بينه وبيننا نحن الذين «من أسفل» فلابد أن يجذبنا معه إلى فوق.
هنا تظهر للغاية أهمية الإتحاد بالمسيح. لأن الخطايا التي عُملت هي في الواقع شهوات ورغبات أرضية ارتبطت بها النفس وصارت تشكل ثقلا أرضيا شديداً جداً، يستحيل معه أن نرتفع إلى السماء، إن لم تتغلب عليها جاذبية المسيح. فالإرتفاع إلى فوق مع المسيح مدخر للذين أحبوا المسيح وعاشوا معه وصادقوه واتحدوا به. فإن لم نكن عائشين معه في شركة حقيقية, وليس بمجرد شركة فكرية أو عقائدية, يستحيل أن نرتفع معه إلى فوق, لأن طبيعتنا توقعنا من جديد إلى الأرض.
‏وأما هو فطبيعته سماوية «من فوق» ولها القدرة على الرفع إلى فوق, بل إن هذه القدرة على الرفع هي قدرة مطلقة. وأما ثقلنا فهو غير مطلق ولكنه محدود، حتى إذا اعتبرنا ثقل البشرية كلها مجتمعة، فهي في مجموعها لا تخرج عن كونها خليقة محدودة, وخطايانا مهما كثرت هي أيضاً محدودة, وأما هو فله طبيعة إلهية مطلقة، ولذلك فقدرته على الجذب «إلى فوق» تفوق بلا قياس ثقل البشرية الذى يجتذبنا إلى أسفل.
‏من أجل ذلك، فالإتحاد بالمسيح في غاية الأهمية لأنه الوسيلة الوحيدة التي بها نرتفع معه إلى فوق, بكل هدوء وبكل سلام، لأنه هو الذي يجذبنا ويرفعنا ولسنا نحن من ذواتنا.
‏وبهذا المعنى أيضاً قال: «أنا أمضي لأعد لكم مكاناً. وإن مضيت وأعددت لكم مكانا، آتي أيضاً وآخذكم إليّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو2:14-4). «آخذكم إليّ» لأنكم بدوني لا تستطيعون أنتم أن تأتوا إلى فوق لأنكم أنتم بسبب طبيعتكم «من أسفل». ولذلك: «كما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا أقول لكم أنتم الآن» (يو33:13). ولما اعترض بطرس قائلاً: «لماذا لا أقدر أن أتبعك الآن؟»، أوضح الرب أنه طالما الخطية كائنة فيه, وهي التي ستقوده إلى الإنكار, فهو لا يستطيع أن يتبع الرب ولا أن ينجذب إليه «إلى فوق». «ولكنك ستتبعني أخيراً» (يو36:13)، أي متى طهرتك من خطيتك التي تثقلك الآن وتجذبك إلى أسفل ..
‏فالأماكن النورانية الفوقانية التي لها الإرتفاع المهول تحتاج إلى خفة كبيرة للوصول إليها، فلن نبلفها إلا بعد أن يرفع الرب عنا أثقالنا, ويعلمنا كيف نصعد معه إلى فوق ثم إلى فوق وإلى أبد الأبدين.
‏هذه هي في الحقيقة شهوة المسيح الأزلية التي من أجلها احتمل كل شيء، والتي طلبها من أجلنا بإلحاح من الآب: «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني، يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.» (يو24:17)
هذا هو نصيبنا المفتخر فوق. ولكنه يٌصنع هنا في الزمان الحاضر. فإن متنا قبل أن نحصل على هذا الإتحاد وقبل أن نحقق هذه الصلات الحية بالمسيح, فكما يقول لليهود: «ستطلبوني وتموتون في خطيتكم» (يو21:8), حيث الخطية هنا بالمفرد وهي خطية رفض المسيح وعدم التجاوب معه.
‏لذلك يجب أن ننتبه جداً أن في قول المسيح: «أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق» دعوة سرية وتنبيهاً لأذهاننا لضرورة تكوين علاقة حية به حتى نتغير ونتجدد، فنعرفه على حقيقته ونأخذه، وإذا ما أخذناه يحملنا معه إلى فوق!
‏أما إن تغاضينا عن الدعوة وأهملناها، فإننا نصير كاليهود الذين رفضوه ونبقى بعيدين عنه.
‏ولذلك، يوضح المسيح مدى الهوة التي بينه، والتي تختبىء وراء كيانه الإلهي غير المنظور والمتغرب زمانا يسيراً بعد، وبينهم كبشر يهود عندما رفضوه ليبقوا على الأرض التي استوطنوها. ويعقب المسيح مستزيداً قوله توضيحاً: «فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكم». لأن مجيئي لم تدركوه، وخلاصي لم تقبلوه، وفدائي أهنتموه, لهذا بقيت لكم خطاياكم مربوطة في أعناقكم.
«لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو, تموتون في خطاياكم»: والمسيح هنا يبلغ في استعلان شخصه الإلهي أقص المدى، حينما يقول: «إن لم تؤمنوا أني أنا هو». و«أنا هو» كما قك مرارا، هو«اسم الله» الشخصي، أي الذاتي الذي عُرف به، ويُنطق بالعبرية «Ani ho‏» (تث39:32, إش10:43). وقد لقب المسيح نفسه بهذا الاسم، ليس اختطافاً، بل إن الآب أعطاه اسمه ليعلنه ويتكلم به: «أنا أظهرت اسمك للناس» (يو6:17)، «عرفتهم اسمك وسأُعرفهم, ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم» (يو26:17). ومعنى كلام المسيح: أنه إذا لم يؤمنوا باسمه «أنا هو»، أي يؤمنوا به باعتباره حامل اسم الله والمتكلم عنه لكي يحمل خطاياهم ويفديهم، فسيموتون في خطاياهم.
‏ويلاحظ القارىء في هذه الآيات أننا الآن في اليوم الأخير من العيد، والكل يتهيأ لأن يمضى إلى بلده ووطنه وأهله. فمن هذا المنطلق والإحساس قال لهم المسيح: «أنا أمضى وستطلبونني»، (أي لن يكون معهم في عيد المظال القادم)، ولن يستطيعوا أن يذهبوا وراءه بعد ذلك، وسيموتون في خطاياهم بسبب عدم إيمانهم ورفضهم له, كذلك كما لاحظنا في تسجيل القديس يوحنا لكلام الفريسيين السابق عندما قالوا عنه: «ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين» (يو35:7)، فإن القديس يوحنا يُنبىء من بعيد إلى مستقبل الكنيسة وكرازتها في العالم اليوناني, كذلك هنا يُنبىء بقول الفريسيين: «ألعله يقتل نفسه»، بما سيتم فعلا على مستوى تسليم ذاته ليُذبح بإرادته، وذلك في أسلوب سري مبدع.
‏كذلك نلاحظ في قول المسيح: «أأنا من فوق», «أنا لست من هذا العالم»، أنه لتوجيه الذهن إلى الآب الذي جاء من عنده، ثم في قوله: «‏أنتم من أسفل», «أنتم من هذا العالم»، أنه ليوجه ذهنهم إلى أب الآباء الذي منه انحدروا، أي إبراهيم، وهو سيستخدم هذا المعنى بعد قليل حينما يقول: «قبل أن يكون إبراهيم, أنا كائن»، مشيراً إلى أزليته. ويمتد بنفس المعنى ليعلن أن الذين أضمروا قتله، فقدوا أبوة إبراهيم، فصاروا من أب هو إبليس.
‏ولكن اليهود أصابهم الدوار حينما سمعوا المسيح يقول بوضوح عن نفسه: «أنا هو»، فاستدرجوه: «من أنت»؟
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
25:8 فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ».

«فقالوا له: من أنت؟»: واضح أن الفريسيين يسألون، ولكن ليس على أساس من صحة الضمير والنية، فهم يطالبونه أن يوضح شخصيته لا لكي يؤمنوا به ولكن ليجدوا علة أخطر يمسكونها عليه، خاصة وهو يستخدم اسم الله «أنا هو»: «آني هو_ بالعبرية Ani ho» والتي تُرجمت في السبعينية بـ «أنا هو الكائن بذاتي». وحتى ولو كانت لهم أقل نية لمزيد من معرفة شخصه، بعد كل الذي قاله لهم، لكان سؤالهم يتحدد في طلب المزيد، ولكنهم هنا يطالبونه بإعلان محدد: «من أنت؟». وهو نفس السؤال الذي سألوه ليوحنا المعمدان، فالمعمدان رد عليهم رداً واضحأ يتناسب مع نيتهم فقال: أنا لست المسيح. ولست إيليا, ولست النبي (الذي تنبأ عنه موسى). أي كان الرد بالسلب الكامل من جهة الأسماء الكبيرة, ثم حدد شخصه بعمله قائلاً «أنا صوت صارخ». ثم أشار إلى المسيح الذي ينتظرونه: «ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه». أما رد المسيح هنا فهو إيجابي، من نحو الإعلان عن شخصه والإعلان عن عمله.
‏«أنا من البدء ما اكلمكم أيضاً به»: ‏المسيح هنا يشير إلى شخصه «أنا», وشخصه لا بد وأن يكون قد ظهر من الإعلأنات العديدة التي تكلم بها عن نفسه: إنه هو «نورالعالم»، و«الخبز النازل من السماء»، و «ينبوع الماء الحي»، وأن كلامه على وجه العموم « روح وحياة». أما كلمة «من البدء» فهي في أسلوب القديس يوحنا إشارة إلى أن شخصه المتحدث لم يُستحدث في العالم, بل هو ممتد في الأزل: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله»، ولكن استعلانه ابتدأ منذ بدأ المسيح يتكلم عن نفسه ورسالته: فكلمة في البداية « من البدء» تعود على الكلام مباشرة « أنا ... ما أكلمكم به»، ثم تعود على شخص المسيح بطريق غير مباشر بالتالى. فكلام المسيح لا يُقصد به أن يعلن لهؤلاء المقاومين أنه «‏البدء» أو أنه «في البدء» أو «من البدء»، لأن هذه الاصطلاحات اللاهوتية تحتم وجود ظرف يوناني معين مثل: ( ) ‏أو ( )، ولكن المستخدم في هذه الآية هو ( )، ومعها لم يجيىء الكلام, أكلمكم, من أصل «الكلمة اللوغس» حتى كان يتبادر إلى الذهن «في البدء كان الكلمة»؛ بل جاء الكلام بمعنى «الحديث» ( ) وليس ( )، وفي الفعل المضارع أيضاً. لذلك فكلمة «بالبداية» لا تعود على شخص المسيح، ولكن تعود على الحديث نفسه. أي أن المسيح منذ البداية أعلن من شخصه في أحاديثه, وكان يبغي أن يُعرف من كلامه, ولكن حديثه منذ البداية عن نفسه يحمل معنى يمتد بالضرورة الحتمية ليغطي وجوده أيضاً، الذي هو منذ البداية. أليس هو القائل بعد ذلك مباشرة: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»، و« إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح» (يو57:8 و56)؟
‏لذلك فرد المسيح: «أنا من البدء ما أكلمكم به»، يفيد أن شخصه من البدء قد استعلن بواسطة حديثه. والملاحظ دائما في كل ردود المسيح على المقاومين أنه لا يرد ردا مباشرا على السؤال، ولكنه كان يجيب إجابة تغطي أسئلتهم المخادعة، وتجيب على عدم فهمهم له, وتعطي معلومات جديدة وصحيحة عن حقيقة شخصه. لذلك يكمل المسيح رده عليهم بما يفيد نقص فهمهم مع مكرهم وخداعهم, أي جهلهم ولؤمهم معاً.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
26:8-27 «إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ.

‏واضح هنا من استطراد المسيح، أن رده: «أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به» لا يغطي اتساع جهلهم وعمق لؤمهم, وأن عنده «كلام» و«حكم». كلام يغطي جهلهم وحكم يحكم به على خداعهم ولؤمهم. ثم يستطرد المسيح، إنه مهما أشاعوا من الكذب والتضليل بين الشعب، فهو يكفيه أنه يعلن الحق الذي سمعه من الآب, ليس لهم بل للعالم كله. ويقول القديس يوحنا معلقاً، إنهم لم يفهموا أنه كان يتكلم عن الآب عندما قال: «الذى أرسلنى هو حق».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
28:8-29 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. والَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ».

‏وكأنما المسيح قطع كل الأمل في أن يتعرف عليه خاصته, أي اليهود، أو يقبلوا إليه: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله» (يو11:1). فلم يبق أمامهم إلا أن يعودوا ويدركوا, إنما بعد فوات الآوان, بعد أن يفعلوا به فعلتهم, حينما تأتي ساعتهم متوافقة مع ساعة سلطان الظلمة، ويتم رفعه على الصليب، وحينئذ تتجلى حقيقته أنه: «أنا هو» الذي هو الاسم الجليل والكريم والمرعب الذي ليهوه، الذي حمله المسيح وأعلنه باعتداد نائبا عن الآب الذي أعطاه كل ما يقول ويعمل. أما من نفسه فلم يعمل شيئاً، بل في كل شيء لمرضاة ومشيئة الآب الحال فيه, والذي لم يتركه لأيديهم قط. وهنا ليس من الضرورة أن تكون إشارة المسيح إلى كونهم سيعرفونه, في الصلب أو بعد الصليب, بل هي إشارة غير مربوطة بالزمن بل بالعمل، فالعمل الذي عملوه سينقش على عقولهم وقلوبهم، ولن يُنسى الآن قط، لأن السماء والأرض ما تزال تردد ما فعلوه إلى أن يُستعلن في مجده مجروح الجانب، وحينئذ «ستنظره كل عين والذين طعنوه وينوحون عليه» (راجع رؤ7:1) نوح الندم بلا ندم، حينما يُستعلن، لا مسيا إسرائيل بعد، بل ديان العدل!
«متى رفعتم ابن الإنسان»: هنا المسيح يستخدم الاصطلاح المحبب إليه، والمعروف في التقليد العبراني، والذي يشير إلى الصليب والقيامة معا، فهو ارتفاع ورفعة, هوان ومجد، فعلان مترافقان ومتضامنان. وقد استخدم هذا التعبير في العهد القديم بنفس هذا المعنى. فنقرأ عن ارتفاع االمجد: «في ثلاثة أيام أيضا يرفع فرعون رأسك ويردك إلى مقامك.» (تك13:40)
‏أما عن الرفع للهوان والموت فنقرأ: «في ثلاثة أيام أيضا يرفع فرعون رأسك عنك ويعلقك على خشبة» (تك19:40‏). وهكذا حينما تتعارض مشيئة الخطاة مع مشيئة الله، فلا بد من الصليب ولابد من المجد. وحينما يصلبون ابن الإنسان، حينهذ سيدركون أنه ابن الله.
«بل أتكلم بهذا كما علمني أبي»: المسيح هنا يشير إلى كل تعاليمه، وإلى شرح مركزه بالنسبة لله الآب، وإلى قوله «أنا هو»‏. هذه كلها هي نطق الآب فيه، وهي حق كل الحق، وليس فقط أن كل قول وعلم وعمل هو من الآب وإلى الآب، بل والآب نفسه المتكلم والعامل فيه وبه، هو«كائن معه». فالكلمة قبل التجسد كان عند الله كائناً معه, ابناً في حضن أبيه، وبعد التجسد صار الآب عند الابن كائناً معه. لأن الابن المتجسد لم يفارق الآب قط، ولم يفارق الآب الابن, فجوهر الألوهية يجمعهما، ويجمعهما جوهر الحب المتبادل أيضاً وبالتساوي» والحب بعد التجسد صار من جهة الآب مُعلناً بالارسالية، الآب أحب الابن وأرسله. أما من جهة الابن فاستعلن الحب فيه بالطاعة المطلقة للآب. طاعة مذعنة حتى إلى أداء الموت، ولكن لم تكن قط طاعة مذلة أو إذلال، بل طاعة رضى وإرضاء، طاعة حب واسترضاء، طاعة تحيطها المسرة من كل جانب, طاعة قوتها العمل الجاد واحتمال المخاطر, وليست بمشاعر بشرية تتوقف عند الخطر: «ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه».
 
أعلى