يلاحظ القارىء هنا أن الآية تبتدىء بـ «كل», أي أن عطية الله الآب للمسيح تأتي بالجمع، ولكن الذين يقبلون إلى المسيح من هذا الجمع يأتون واحدا واحدا بالمفرد, حسب جذب الآب لكل واحد في وقته وترتيبه؛ فطريق المسيح ضيق لا يسع في السير إلا واحدا فواحدا, فالأخ لا يستطيع أن يفدي أخاه (مز7:49). فعلاقتنا بالمسيح فردية كعريس وعروس، ولكن العجب أن المفديين حينها يتكامل كل واحد منهم في المسيح، يجمعهم المسيح معاً بسقى الروح الواحد ليصيروا مرة أخرى واحدا في المسيح، كعذراء مخطوبة لرجل واحد، كعريس وعروس، مح أنه لا حصر لها من الكثرة، كنيسة لا عيب فيها، عروسا متسربلة بصلوات القديسين وعطرهم، نازلة من السماء مزينة بكل فضائل المسيح.
وإذا أراد القارىء أن يتعمق هذا المعنى ويتذوق هذه المقارنة, فليسمع ما يقوله وما يسبح به بولس الرسول، إذ يرى أن كل المفديين والمختارين كانوا مجموعين معا ككل، كجسد واحد في المسيح الذي يجمعهم في كيانه الإلهي قبل أن يتجسد، قبل أن يكون زمان بعد ولا عالم: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة.» (أف3:1-4)
فعطية الآب للمسيح: «كل ما يعطيني الآب» هي كل ومجموع، ومن الكل يقبل إلى المسيح كل فرد لينال التبني الموضوع لنا على أساس قبول موت الرب وقيامته، حسب الخطة المرسومة منذ الأزل: «إذ سبق فعيننا, بلا حدود, للتبثي, (لنأخذه) بيسوع المسيح، لنفسه حب مسرة مشيئته.» (أف5:1)
وهنا تتقابل مشيئة الله مع مشيئة المسيح في سيفونية الطاعة والبذل، بصورة رفعت البشرية إلى مستوى الحياة الأبدية مع الله.
+ «مجد ابنك ليمجدك ابئك أيضا، إذ أعطيته سلطانا على كل جسد (الدعوة عامة) ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته» (يو1:17-2)
+ « أبي الذي أعطاني إياها, وأنا أعطيها حياة أبدية.» (يو28:10-29)
وهذا هو منتهى سر الاتفاق في العمل الإلهي بين الآب والابن.
والمسيح يقرر حقيقة غاية في السخاء المدفوع ثمنه دماً: «ومن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً». ها اللغة العربية عاجزة عن أن توفي للمسيح حق التشديد الشديد على وعده هذا، فحرف النفي البسيط «لا» يجىء في اليونانية بصورة مشددة للغاية ( ) الذي جاءت ترجمته في الآنجليزية: I will no wise الذي ترجمته: «يستحيل بأي حال».
فتصور، أيها القارىء، هذا الوعد الذي يجيء كأنه عهد بأن الرب يستحيل بأي حال أن يُخرج من يُقبل إليه، مما يجعل كلامه لليهود هنا مؤكدا أنهم لم يأتوا إليه، بل وبصراحة مضمرة، أنهم مرفوضون من الله ومطرودون من لدنه، لأنهم لم يقبلوا إلى المسيح ولا حتى قبلوه.
أما كلمة «خارجاً» في قوله «أخرجه خارجاً»، فهي كلمة قاسية جدا ومرة للغاية، وتظهر مرارتها في قوله: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً.» (يو31:12)
والآن, أيها القارىء العزيز، ينبغي أن نسأل هل أقبلت إلى المسيح بالحق قولا وعملا؟ إذا كان ذلك فأنت ضمن عطية الآب, غير المحدودة بعدد أو زمن أو قانون ما. فالعالم كله، لو يشاء، مدعو إلى حضن الآب, فأنت للمسيح مُعين ومختار للحياة الأبدية. وإن لم يكن ذلك بعد، فأمامك الدعوة مفتوحة، ألق بنفسك على مشيئة الله لتشعر بجذب الآب لك وتكتشف فيه محبة المسيح وسره.
الكلام هنا مكمل لقول المسيح أن: «من يقبل إلي، لا أخرجه خارجا، لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني». الكلام هنا يزيد التأكيد عل شدة اهمام المسيح في تأدية رسالته بالنسبة للذين أعطاهم الآب له ليهبهم الحياة الأبدية.
وهكذا بقدر ما أعطي المسيح سلطانا على كل جسد ليعطيه الحياة الأبدية (يو2:17)، بقدر ما أخذ على نفسه الحفاظ على كل نفس تأتي إليه أن لا تتلف أو تضيع. وهذا الضمان يظل قائما حتى اليوم الأخير الذي فيه تنال النفس نصيبها في القيامة العظمى، هذا التأكيد يكرره المسيح كثيرا بسبب ضعف إيمان الإنسان بالمستقبل: «لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم، خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل (إبراهيم وموسى والآنبياء)، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد.» (يو26:10-30)
هذا وصف تصويري مُبدع لحقيقة العناية الالهية في قوتها الهائلة والشاملة لحفظ الكون كله بكل أجزائه، ثم العناية الخاصة جدا بالنفوس البشرية التي التجأت إلى المسيح في ضعفها المتناهي مستندة إلى معونته أمام قوى الشر الهائلة، التي تبدو في طغيانها وكأنها قادرة أن تبتلع البشرية كلها: «ولا يخطفها أحد من يدي» التي لها قوة يد الآب, فالمسيح هو الابن الوحيد المرسل من الآب، والذي نزل من السماء لتأدية هذه الرسالة بكل دقة وقوة وسلطان حتى اليوم الأخير، الذي فيه تُستعلن خطة الخلاص العظمى بكل أمجادها، وتلتحم قوى الحياة الأبدية التي ننالها الآن, بالسر الحاضر, بقوى الحياة الأبدية المستعلنة في الله، والتي سنشترك فيها إلى كل ملء الله!
وقد لاحظ بعض علماء الكتاب المقدس أن الأيات المتتابعة 37 – 38 – 39 – 40 لا تختص بحديث الخبز السمائي موضوع الجدل الذي انشغل به الجليليون، ولكن الحقيقة أن الجليليين في سؤالهم المسيح: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟«، هذا السؤال هو الذي رد عليه المسيح أن: «عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو ارسله»، ثم ابتدأ ينتقل من التركيز على موضوع الخبز الحي إلى موضوع رسالته العامة أولا بصفته أنه هو «عمل الله» المطروح للايمان به، ثم ابتدأ يشرح ما هو عمل الله في المسيح من إرساليته وتتميم مشيئة الآب الذي أرسله، ثم ما هي هذه المشيئة التي التزم بها المسيح أشد الالتزام.
واضح هنا أن المسيح يشرح الإجابة على نفس سؤال الجليليين له: ما هو عمل الله الذي يمكن أن نفعل؟ كما أنه هو إعادة توضيح لرد المسيح: هذا هو عمل الله. أن تؤمنوا بالذي هو أرسله أي تصدقوه!!
والاضافة التي أضافها المسيح جديدا في هذه الآية هي كيفية الإيمان به: «كل من يرى الابن», كذلك، الإيمان به: تكون له الحياة الأبدية (منذ الآن)»، ويكمل فعل هذه الحياة، واستعلانها بتجلي الجسد الروحاني في اليوم الأخير: «وأنا أقيمه في اليوم الأخير»، وهذه الآية تأتي لتوضيح وتأكيد آية سابقة بنفس المعنى: «ولكني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون» (يو36:6). فالإضافة الجديدة توضح لهم أن عدم الايمان به, أي عدم تصديقه بعد أن رأوه يعمل مشيئة الله وسمعوه يتكلم بكلام الله وأكلوا البركة الإلهية من يديه، معناه أنهم رفضوا مشيئة الله، وحرموا أنفسهم من الحياة الأبدية.
«كل من يرى الابن»: كلمة «يرى» هنا لا تمت إلى النظر الطبيعي بالعين ولكنها رؤية بالقلب والفكر الروحي المدرب بالكلمة. وتأتي باليونانية ( ) واضحة جدا لتفيد هذا المعنى. وهي تمت إلى معنى التأمل الذي نسميه في التدريب التصوفي «التاورية»، وفيها يرتقي الفكر إلى رؤية الحقائق الإلهية حيث يستنير الفكر بالنور الإلهي الداخلي. وهذا المعنى يوضحه المسيح مرة أخرى في آية تالية: «الذي يراني يرى الذي أرسلني. أنا قد جئت نورا إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة.» (يو45:6-46)
التدرج في هذه الأية هام للغاية, فالرؤية توصل إلى النور, أي التأمل القلبي والذهني في المسيح وأقواله وأعماله بعمق وتمعن, والذي يكشف بسهولة الله الذي في المسيح والذي هو أرسله، فيرى الإنسان الحق الإلهي و يصدقه ويؤمن به و يدخل في الاستنارة الإلهية المحيية.
هذه ليست عملية معقدة ولا تعتمد على أي مجهود بشري، بل إن مجرد قبول المسيح والإيمان به يصل بهذه العملية إل أقصاها بدون حساب زمني: «بنورك (يارب) نرى نورا ... لأن عندك ينبوع الحياة.» (مز9:36)
فمن الرؤيا إلى النور إلى الحياة، هذه هي القاعدة الإلهية في المسيح بالإيمان: «بعد قليل لا يراني العالم أيضا (ستنحجب حقيقة المسيح عن العالم بواسطلة عثرة الموت على الصليب) وأما أنتم فترونني إني أنا حي فأنتم ستحيون.» (يو19:14)
هنا ابتدأ العنصر اليهودي المتعلم يظهر في الحوار، مما يفيد أن الحديث كان فعلا داخل مجمع كفرناحوم. والتذمر طبيعة لم تفارق بني إسرائيل منذ أن خرجوا من مصر، وكان الله يعاقبهم على تذمرهم، ولكنهم كانوا دائما يعودو إلى هذا الداء الوبيل الذي أؤدى بحياتهم كأمة. وكان موضوع تذمرهم هنا قول الرب: «أنا هو الخبز الذي نزل من السماء»، وهو مجمل ما قاله المسيح عن نفسه في ثلاث آيات سابقة (33 و35 و38): «خبز الله هو النازل من السماء»، «أنا هو خبز الحياة»، »لأني قد نزلت من السماء».
وواضح أن وضع المسيح البشري المعروف لديهم وقف عثرة في قبول لاهوته، وهذا هو سر التجسد بكامله. ولم يكن معروفا على المستوى العام ميلاد المسيح البتولي من عذراء, ولكن حتى ولو لم يكن معلوما شيء عن سر ميلاد المسيح البتولي, فكلام الرب كان يكفي جدا أن يشير إلى ذلك السر بدون أي صعوبة أو نقاش. لذلك نرى القديس يوحنا في إنجيله يتحاشى الخوض في أنساب المسيح ويتخطى كل روايات الميلاد مكتفيا باستقلان لاهوت المسيح من فم المسيح نفسه، استعلانا لا يترك أي مجال للتحقيق البشري أو لشهادة الشهود.
وعلى هذا الأساس تماما كان رد المسيح عليهم:
يجيب الرب على موضوع تذمرهم، وهو قوله عن نزوله من السماء، بأنه لا يأتي إلي أحد بالفحص ومعرفة الآنساب، أما الذي تعلم من الله فهذا يأتي إلي، لأن الله هو أبي الذي أرسلني وهو يجتذب إلى كل الذين فتحوا عيونهم وقلوبهم لقبول مشيئة الآب، لأن مشيئة الآب هي رسالتي وعملي.
وهنا يستشهد المسيح بكلام إرميا النبي: «بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام، يقول الرب، أجعل شريعتي في داخلهم, وأكتبها على قلوبهم, وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً، ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين: اعرفوا الرب, لأنهم كلهم سيع فونني من صغيرهم إلى كبيرهم, يقول الرب.» (إر33:31-34)
المسيح هنا نقل العلم واحتكار المعرفة من أئمة اليهود, خاصة الفريسيين، وهم الذين كانوا يتزعمون دائما معارضة المسيح ومصادرة أقواله وإثارة الشعب ضد تعاليمه, كما هو حادث في هذا الموضوع أمامنا, نقله إلى عامة الشعب مباشرة وبلا تعليم، وها إشارة قوية جدا إلى عمل الروح القدس. المسيح يستشهد بهذه النبوة التي تقول إن العهد الجديد الذي سيقطعه الرب مع بني إسرائيل لن يجعل الشريعة محتكرة للتعليم العقلي والتلقين الشفاهي، بل سيجعلها مكتوبة بأصبعه, أي بالروح القدس, في ألواح قلوبهم اللحمية حيث لا يعود أحد يحتكر لنفسه التعليم. ولا يعلم الواحد الآخر معرفة الرب، لأنهم كلهم من صغيرهم إلى كبيرهم سيعرفون الرب، لأنهم سيكونوذ متعلمين من الله. والمسيح هنا يركز على كلمة «كل» فلا صغير في العلم، ولا كبير في العلم، بل الجميع بلا تفريق: «كل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلي» بدون وسيط أو معلم أو رابي.
فالمسيح يتكلم عن ظهور هذا العهد الذي قطعه الله على نفسه، وأكده بالآنبياء، وها هو قد أرسل ابنه لتنفيذه على أساس أن كلمة الله سيكتبها الآب في قلوبهم: «لكن ماذا يقول؟ الكلمة قريبة ممك في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان التي نكرز بها» (رو8:19). كل من يسمع لها ويصدقها فإنه يصبح متعلما بدون مملم، ويجتذبه الآب إلى المسيح لينال به الوعد بالحياة الأبدية فـ «كل من سمع من الآب وتعلم يقبل إليه». وتلاميذ الرب كانوا أول برهان صادق لقيام ذلك العهد.
والمسيح يضع نفسه كمعلم لـ «معرفة الله» هذه، ولكن ليس كمن يعلم عن كتاب مكتوب أو معلم مشهور، بل كمن رأى الله في جوهره وفي سره الأعظم كأب له سمع منه وتعلم: «ليس أن أحدا رأى الآب إلا الذي من الله. هذا قد رأى الآب.» (يو46:6)
لذلك كان المسيح, الكلمة, هو الوحيد الذي يتكلم بكلام الله: «لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله» (يو34:3). فمن يسمع من المسيح فهو يسمع من الله رأسا، فمن سمع وتعلم يقبل إلي المسيح، مذعنا مؤمنا أنه بالحقيقة ابن الله. والعلامة ديديموس الضرير يضع القديس بطرس الرسول في إيمانه واعترافه مثلا لذلك، والقديس أغسطينوس أيضا يقول بهذا المعنى.
وسنرى المسيح في موضع أخر قادم كيف يكشف لليهود أنهم لا يسمعون له أويسمعون منه ولكنهم يسمعون من إبليس: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي. أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا...» (يو43:8-44). هنا يكشف الرب سر من رفض المسيح وقاومه.
«كل من سمع من الآب وتعلم, يُقبل إلي. (لأن) ليس أن أحدا رأى الآب إلا الذي من الله. هذا قد رأى الآب»: هنا يقدم المسيح لليهود نقلة كبيرة وتحولا جذريا من عهد موسى الذي يُقال أنه رأى الله, ومن عهد الآنبياء الذين تكلموا عن رؤيا وسمع من الله، أنهم في الحقيقة لم يروا الله في ذاته, في طبيعته الإلهية وجوهره, بل يقول سفر العبرايين أنه كلمهم «بأنواع وطرق كثيرة» (عب1:1). فهم إنما رأوا شبه الرب كقول الله الصريح: «فنزل الرب في عمود سحاب ووقف في باب الخيمة ودعا هرون ومريم (اللذين كانا قد تكلما ضد موسى بسبب زواجه من امرأة حبشية) فخرجا كلاها. فقال: اسمعا كلامي. إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له في الحلم أكلمه. وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي. فما إلى فم وعيانا أتكلم معه لا بالألغاز، وشبة الرب يعاين. فلماذا لا تخشيان أن تتكلما على عبدي موسى؟» (عد5:12-8). وكلمة الآنجيل واضحة: «الله لم يره أحد قط.» (يو18:1)
أما الرب يسوع فيقول عن نفسه علنا وجهارا إنه رأى الله، ومنه خرج، لأنه من طبيعته وجوهره، لذلك فقد رآه في ذاته, حيث الرؤيا هنا رؤية الذات للذات. فالآب والابن ذات واحدة.
«ليس أن أحدا رأى الآب إلا الذي من الله. هذا قد رأى الآب»: فالرؤيا هنا رؤيا ذاتية, ليس بالعين ولا بالتأمل بل رؤية تطابق المثيل على المثيل, فالابن يرى الآب كما يرى الآب الابن، لأن وحدة الذات والجوهر والطبيعة جعلت المعرفة بينهما واحدة: «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلآ الابن» (مت27:11). والمشيئة والكلمة واحدة والعمل واحد، لذلك قال لفيلبس: «الذي رآني فقد رأى الآب» في كل شيء (يو9:14). هذا عبر عنه المسيح في قوله للأب: «كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي» (يو10:17). ثم في موضع آخر قادم يتجمع كل ذلك في قول واحد: «أنا والآب واحد.» (30:10)
وبناء على أنه هو الوحيد الذي رأى الله الآب وخبر، أصبح الإيمان بشخصه وبكلمته وعمله ضرورة حتمية، لأن الله الآب يتكلم ويعمل به: «الله بعدما كلم الآباء بالآنبياء قديمأ بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الايام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثا لكل شيء.» (عب1:1-2)
والمسيح ينتهي من قوله أنه الوحيد الذي رأى الآب، إلى حتمية الإيمان به لنوال حياة أبدية.
«الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية»: لماذا؟ لأن هذه هي رسالته, الحياة الأبدية, التي أرسله الآب إلى العالم ليكملها، وقد أكملها، وأعطاها، بسفك دمه فدية عن العالم كله، كل من يؤمر به. وهذا هو تسلسل الكلام : المسيح هو الوحيد الذي رأى الآب، لأنه هو الوحيد «الذي من الله» (يو46:6)، لذلك إن سمعوا له وآمنوا به يكونوذ قد سمعوا الآب، وبالتالى ينالون القصد من رسالته، ورسالته هي أن ينالوا الحياة الأبدية.
ثم يبتدىء الآنجيل بعد ذلك في توضيح كيف يؤمنون به لينالوا الحياة الأبدية. وعلى مستوى أن لا حياة بدون أكل وشرب وتنفس, هكذا سيعطيهم أن يأكلوه ويشربوه ويتنفسوا روحه القدوس.
هذا هو موضوع حديث المسيح حتى نهاية الأصحاح.
يبدو لأول وهلة أن الكلام هنا مكرر ومُعاد. ولكن كل كلمة وكل آية تأخذ وضعها وترتيبها بإحكام.
«أنا هوخبز الحياة»: هذه الآية تأتي كشرح توضيحي للآيات السابقة: «الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي، فله حياة أبدية». أي أن المسيح اعتبر نفسه خبزاً لنوال الحياة الأبدية, حيث كل من المسيح والخبز الذي يعطيه يهب الحياة الأبدية، لأن الحياة الأبدية فيه. فالمسيح فيه الحياة ويعطي الحياة، لأن المسيح حي ومحيي: «لاني انا حي، فانتم ستحيون» (يو19:14). وخبز الحياة هو كذلك خبز حي, فهو يعطي الحياة لأنه خبز الله، لأنه جسد المسيح. فالتطابق الذي يجعله المسيح بين كيانه الحي «أنا هو» المحيي، وبين كيان الخبز الحي «الجسد» المحيي هو تطابق كلي؛ لذلك يعود المسيح بعد ذلك ويوضح هذا التطابق هكذا: «أنا هو الخبز الحي». وهنا يكمن سر التجسد العجيب الرهيب على مستوى إتحاد الكيان الإلهي «أنا هو» بـ «الجسد» البشري المولود من الروح القدس إتحاداً سرياً كاملاً أبدياً.
والحيرة التي يقع فيها العقل الذي لم يقبل سر التجسد تكون حيرة حقيقية, إذ كيف يمكن للمسيح وهو إنسان أن يكون خبزاً, والخبز معروف أنه يؤكل لقوام الحياة الجدية؛ أما للذين قبلوا سر التجسد، أي بالإيمان بالمسيح الكلمة المتجسد، يصير من السهل عليهم أن يدركوا سر الإفخارستيا في قول الرب: «الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي». فهذا هو غاية التجسد، فالمسيح تجسد ليعطي جسده الحي للعالم ليكون بذرة الخليقة الجديدة. هذه الحقيقة سرية للغاية والذي يقبلها إنما يقبلها بالإيمان. والمسيح عرض الإيمان به على اليهود لينكشف لهم السر فرفضوه «إن كل من يرى الابن ويؤمن به، تكون له الحياة الأبدية, ولكني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون». فقبول المسيح، أي المجيء إليه والإيمان به أولا، كفيل بأن يكشف كل أسرار المسيح والحياة الأبدية. ولكن الخطأ الذي ارتكبه اليهود, والذي لا يزال يرتكبه العالم, أن الناس يريدون أن يعرفوا سر المسيح قبل أن يأتوا إليه ويؤمنوا به, وهذا مستحيل.
والآن فالنصيحة العظمى التي نقدمها للناس جيعا هي أن يأتوا إليه بلا فحص وأن يقبلوه ويؤمنوا به لتنفتح عيونهم وقلوبهم ويدركوا سر المسيح والله بكل يقين، وسر الحياة الأبدية.
والمسيح في قوله إنه «يعطي جسده» يصير فاعلا: «أنا هو», وممفعولا به: «جسدي» بآن واحد!! فالمسيح كائن في الله وفي الجسد معا بآن واحد، لذلك حينما يبذل جسده فهو يعطي نفسه في هذا الجسد ليصير الأكل من الجسد إتحادا به وبالله الآب، وقوة هذا الاتحاد هي الحياة الأبدية.
«الخبز الذي أنا اعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم»: والخبز الحي هو جسد المسيح الذي سيُذبح بإرادته, الذي فيه الحياة الأبدية غير القابلة للموت, ليكون ذبيحة إلهية حية حياة أبدية, لكي كل من يأكل منها يحيا فيه وفي الله الآب, على أنه يستحيل على أحد أن يأكل منه أكلا حقيقيا إلا إذا كان قد آمن حقأ بالمسيح. لأن الأكل الحق من الجسد الحق لا يكون إلا بالإيمان الحق, فهنا ليس مجرد الأكل يحيي، ولكن الأكل بالروح والحق هو الذي يحيي.
«أنا هو خبز الحياة. اباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء (حقا) لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت»: وهنا يأتي الرد على اليهود بالمقارنة مع المن الذي نزل من السماء. فيقول المسيح: «آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا» والترجمة اليونانية الحرفية: «وقد صاروا مائتين أو أمواتا» وبهذا لا تأتي هنا بممنى الموت الطبيعي بل صاروا أمواتا أو مائتين روحيا. وهذا يؤكده المقابل في الآية القادمة: «هذا هو الخبز... يأكل منه الإنسان ولا يموت». علمأ بأننا نأكل من خبز الحياة (الإفخارستيا) ونموت جسديا. فهنا «لا يموت» تأتي بعنى عدم الموت الروحي؛ وفي المقابل من جهة المن، فإن كل من أكل المن مات, أي مات روحيا. وهذا كان عقابا لعدم الايمان والتذمر وعمل الشرور والزنا. فالعيب كان فيهم، وليس بسبب عيب في المن كطعام من السماء. كما يوضح ذلك بولس الرسول في سفر العبرانيين: «ولمن أقسم لن يدخلوا راحته إلا للذين لم يطيعوا. فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان» (عب18:3-19). علمأ بأن كلمة «راحته» رفعها بولس الرسول من راحة أرض كنعان إلى راحة الله الخاصة: «فلنجتهد (بالإيمان) أن ندخل (نحن) تلك الراحة لئلا يسقط أحد (منا) في عبرة العصيان هذه عينها» (عب11:4). إذن، فالذين أكلوا المن الذي نزل من السماء لم يسعفهم أكلهم مز المن، وذلك بسبب خطيتهم، فحُرمرا من دخول السماء.
«أباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا»: لينتبه الدارس للكلمة إلى القصد الذي يهدف إليه المسيح هنا، فهو لا يلغي المضمون الروحي والسمائي للمن، بل على العكس، فالقصد الذي يهدف إليه المسيح هو أنه بالرغم من أنهم أكلوا المن إلا أنهم ماتوا. لأننا نعلم علم اليقين أن الوحي المقدس على فم بولس الرسول أوضح أن المن ان طعاما روحيا كما كان الماء الخارج من الصخرة شرابا روحيا، أي بالمفهوم الكتابي أن الطعام، أي المن والماء، أي الصخرة، كانت رمزا للمسيح. ولكن الطعام الروحي والشراب الروحي لم ينفعا آكليه وشاربيه بسبب عدم الإيمان, والتذمر على الله وشهوة الشرور والزنا. (مع مزيد من الأسف والحزن فقد وقع علماء الكتاب المقدس فى خطأ فهم كلام المسيح عن المن: «آباؤكم أكلوا المن فى البرية وماتوا, بأن المن كان طعاما جسديا بلا قيمة روحية, لذلك كل من أكله مات وطُرح جسده في القبر. فى حين أن هذا هو الواقع أيضا في أكل جسد المسيح, أى الإفخارستياء فنحن نأكل الجسد المقدس ونموت أيضا وتُطرح أجسادنا في القبور. فكلمة «ماتوا« فُهمت خطأ وعلى القارىء الانتباه إلى هذا الشرح)
«وجميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيا, وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا, لأنهم كانوا يشربون نن صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح. لكن بأكثرهم لم يسر الله لأنهم طرحوا في القفر. وهذه الأمور حدثت مثالا لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين شرورا كما امشتهى أولئك... جلس الشعب للأكل والشرب (الروحي) ثم قاموا للعب, ولا نزن كما زنى أناس منهم فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفا، ولا نجرب المسيح كما جرب أيضأ أناس منهم فأهلكتهم الحيات، ولا تتذعروا كما تذمر أيضا أناس منهم فأهلكهم المهلك.» (1كو3:10-10)
وبالتطبيق, يقول المسيح ويشدد على الإيمان به قبل أن يخوض في مفهوم الأكل والشرب من خبز الحياة الذي يعطيه، الذي هو جسده الذي سيبذله على الصليب من أجل حياة العالم. فهذا الخبز الحي النازل من السماء حقا هو أيضا لن يفيدهم شيئا إذا لم يؤمنوا به. المسيح جمع الإيمان به والأكل منه كفعل روحي واحد. فالذي يؤمن به يأكل حياة أبدية، والذي لا يؤمن به يأكل دينونة .
وواضح أن هؤلاء اليهود المحاججين لم يؤمنوا به بل وتذمروا عليه, على نفس مستوى ما عمل أباؤهم في البرية مع الله. هذا هو الذي جعل المسيح يركز على صفة الأكل من الخبز الحي الجديد، أى جسده والشرب من دمه بعد ذلك. لذلك جعل المسيح الإيمان به وسماع كلمته وطاعته وعدم التذمر شرطا أولا وأساسيا لكي «يأكل منه الإنسان ولا يموت». وهذا نجده واضحأ جدا في الأيات التي سبقت الاعلان عن أن الخبز الحي الجديد هو جسده المبذول لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. وهنا نعيد قول المسيح الذي جعله شرطا للدخول في مفهوم الأكل من جسده: «وقال لهم لا تتذمروا... كل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلي... من يؤمن بي فله حياة أبدية... أنا هو خبز الحياة».
وهذا يعود علينا بالتوضيح أن الإيمان بالمسيح وقبوله مع الشكر الدائم، شرط أساسي لاستعلان الروح في الإفخارستيا ونوال الحياة الأبدية.
يلاحظ القارىء أن جسد الرب الذي يعطيه، أو الذي بذله عن حياة الإنسان، قدمه أصلا وأساسا لكي يرفع الخطية ويلغيها ويكفر عنها ويمسح دينونتها ويزيل آثارها المدمرة في جسد الإنسان وعقله وروحه. ثم نظرة واحدة سليمة إلى حال الإنسان قبل المسيح توضح لنا لماذا أعطانا جسده هذا. فالخطية أفرغت الإنسان من مضمونه ككيان مخلوق بيد الله على صورة الله وفيه نفخة روح الله!! الخطية أعمت عين الإنسان، وسدت أذنيه عن رؤية الحق والنور والله وسماع صوت لله المحيي. الخطية استبدت بالإنسان، وسادت عليه، واستعبدته لكل ما هو إثم ونجاسة وعار، وجعلته يتآخى مع الحيوان بل مع الشيطان، وأوردته مهالك الموت، فصار جسده المضىء بنور الله تلفه الظلمة. وعوض نفخة الله المحيية المبهجة، صارت تتردد في جنباته رياح الموت وعواصف الرعب والخوف ممن له سلطان الموت أي إبليس. الكل أخطأ وزغ وأعوزه مجد الله، ليس من يعمل الصلاح، ليس ولا واحد!! (راجع 23:3 ومز3:14). والجوع إلى الله والحق جعل الإنسان يتلمس الله في السماء والأرض والحجر والشجر.
الله تحنن على صورته ولم يشأ إطلاقا أن يفسد جماله فيها, أو أن يسحب روحه منها, أو تسود ظلمة الخطية على نور بهاء معرفته، أو تبقى غنى نعمته عاجزة عن أن تشبع جوع الإنسان.
لهذا تجسد ابن الله ليطعمنا من جسده ، ليرد جوعنا إلى شبع حقيقي من الله ، ويسقينا من دمه لتسري روحه فينا مرة أخرى للحياة من بعد موت. وهكذا, ولكي يقيمنا الله من الموت والعدم، أعطانا نفسه لنأكله، لكي يستبدل جسدنا بجسده ودمنا بدمه، وهكذا لا نعود نحيا نحن للموت بل هو يحيا فينا للحياة, فنحن الآن «أعضاء جسده، من لحمه ومن عظامه.» (أف30:5)
فلو ارتفعنا هنا بمستوى الخبز والمن والأكل إلى المستوى الروحي الذي أراد بعض الربيين أن يرتفعوا إليه، باعتبار المن أنه هو التوراة أي الناموس؛ نجد المقارنة أصبحت أكثر صحة وأقوى بيانا. فالخبز الحي، أي جسد المسيح المبذول أي المذبوح من أجل حياة العالم، هو المقابل للتوراة أو الناموس، مؤسسا على النعمة المجانية (البذل) للخلاص والحياة. أما التوراة أو الناموس فهو مؤسس على معرفة ناموس الخطية وحكم الموت للمخالف. فالأول جاء للحياة في مقابل الثاني الذي كان للدينونة والموت. فالذي أكل هن خبز المن, مات بسبب المخالفة والخطية التي بلا كفارة، في مقابل أن الذي يأكل من الجسد الحي يحيا ولا يموت بسبب نعمة التبرير المجانية ورفع الخطية المميتة. فإن كان المن الذي نزل من الساء بواسطة موسى، الذي هو رمز للناموس، قد أكله آباؤهم وماتوا روحيا بسبب المخالفة والخطية التي بلا كفارة، فلم يدخلوا راحة الله؛ فالمقارنة أصبحت أيضا بين موسى: «لأن الناموس بموسى أعطي»؛ وبين المسيح: «أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا». وهذا ليس على مستوى الأفضلية بين المسيح وموسى, بل على مستوى السببية لأن كل من ناموس موسى والمن لم ينتفع به إسرائيل بسبب التعدي، لهذا جاء المسيح ورفع التعدي، بل ووهب عوض التعدي نعمة، ليعطي الحياة مجانا بجسده المبذول عن حياة العالم؛ نأكله فنعيش!!
وعلى القارىء أن ينتبه إلى تسلسل المعاني وترابطها في إنجيل القديس يوحناالتي جاءت هكذا:
( أ ) أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء.
( ب ) خبز الله, هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم.
(ج ) أنا هو خبز الحياة. اباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت.
( د ) أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء
( ه ) الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي
( و) الذي أبذله من أجل حياة العالم.
ويلاحظ القارىء أن الآيات (أ) ، (ب) هي وصف المشورة الإلهية كتقرير حقيقة يراد تتميمها. فالخبز الحقيقي هو خبز الله, أي أنه يمت إلى طبيعة الله، فكلمة الحقيقي هي صفة لا تطلق على الماديات، لأنها صفة الله وصفة المسيح: «أنا هو... الحق» (يو14:6). وهذا الخبز الحقيقي، الذي هو خبز الله، موطنه الدائم «من السماء». ولكن مشورة الله تقررت أن هذا الخبز يأخذ حالة نزول من السماء لإعطاء حياة أبدية للعالم. وهنا «نازل» هو تقرير حال لم يدخل في حيز الفعل.
ثم تأتي الأية (ج) حيث يكشف فيها المسيح عن صفة هذا الخبز أنه هو هو نفسه: «خبز الحياة», أي الخاص «بالحياة الأبدية» الذي وُضع له أن ينزل من السماء (حال), لكي يأكل منه الإنسان كغذاء روحي دائم فلا يذوق الموت الروحي.
ثم تأتي الأية (د) ويضيف فيها المسيح صفة ذاتية جوهرية لهذا الخبز وهو أنه خبز «حي» أي أن جوهره حياة. ثم يدخل المسيح هذا الخبز الحقيقي، أي خبز الله الذي موطنه السماء والمعين له النزول من السماء، يدخله في حالة الحركة الفعلية في صميم الزمن: «الذي نزل». وهنا يعلن عن سر التجسد الذي تم في صميم حركة الزمان وصار فعلت ماضيا.
ثم تأتي الأية (ه) وفيها يكشف أكثر عن صلة هذا الخبز بنفسه, أنه جسده، وهنا يجعل الخبز يعبر عن نفسه وعن جسده معا.
ثم تأتي الآية (و) وفيها يكشف عن نية مبيتة عند المسيح ومقررة، أن هذا الخبز, أي جسده, هو مُعد الآن لحالة بذل أو ذبح إرادي.
وإلى هنا يكون المسيح قد أعد الفكر للدخول في سر المسيح الأعظم، وهو الفداء بالموت أي الصليب، بعد أن أمن على الجسد من الموت الروحي, عندما قرر أنه «خبز حي» وأنه «حي بالآب» حياة أبدية لا يرقى إليها الموت المادي. فالموت على الصليب أنشأ غلبة على الموت، وقد استُعلنت الحياة الأبدية التي فيه.
كما يكون قد أعد الفكر لحتمية الأكل من هذا الجسد ليحيا به الإنسان إلى الأبد، أي لنوال الحياة الأبدية التي فيه.
أما الأكل من هذا الجسد فقد أحدث الصدمة الأخيرة لعقول اليهود, والذي بدأ الرب يؤكده دون أن يشرحه» متجاوزا جهلهم
ج _ الجزء الثالث من الحديث: (52:6-58) 52- فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟».
كان تذمر اليهود سابقا ينصت على شخصيته كيف يقول: «أنا هو خبز الحياة الذي نزل من السماء... أليس هذا هو يسووع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه، فكيف يقول هذا إني نزلت من السماء؟» (يو41:6-42). وهنا كان رد المسيح يتعلق باستعلان شخصه وعلاقته بالآب والسماء: (43:6-47).
أما هنا فيتحول السؤال إلى: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟»
والمخاصمة فيما بينهم تأتي بمفهوم الأنقسام وحدة الاختلاف. فكلمة «خصام» أتت باليونانية ( ) على مستوى المحاربة بالرأي والكلمة. فبعضهم فهمها على مستوى الروح وقبلها، والآخر فهمها على مستوى الجسد الطبيعي، فرفضها بشدة.
وللأسف فإن هذه الخصومة وهذا الأنقسام قائمان حتى اليوم بين الكنائس، على نفس أساس الأنقسام في الفهم، بين الارتفاع إلى المستوى الروحي السرائري وبين النزول إلى المستوى المادي الطبيعي. ولا نريد أن نخوض هنا في صحة العقائد من عدمها، ولكن سنلتزم في الشرح بالدقة وأمانة وروحانية الكلمة التي يقولها الرب؟ متذكرين دائما أبدا، فيما يختص بأصول العلاقة بالمسيح، أنها تقوم على أساس أن قبول إعلان الرب عن نفسه والإيمان به والخضوع لسلطانه الإلهي، يؤدي إلى استعلان أسراره باستنارة الروح. وهذا ما حاوله المسيح مع اليهود: أن يقبلوه أولا، إن كان بالكلمة أو بالأية أو بالعمل، لكي يستعلن لهم حقيقته، ولكنهم أصروا على: «كيف» و«لماذا» و«من أعطاك هذا السلطان» و«أين هو أبوك؟»»» فظلوا محبوسين في ظلمة الشك أبداً تحت سلطان العقل والمعقول: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟»
أما ردود المسيح، فقد ظن علماء الكتاب أنها لم تعبأ قط بتشككات اليهود، وأنه لم يتنازل ولا بكلمة واحدة ليرد على أسئلتهم, أو يشرح لهم كيف سيقدر ان يعطيهم جسده, أو ما معنى أن يأكلوه. هذه في الحقيقة نظرة غير صحيحة، فالرب اعتنى جدأ بالرد دائما؛ إنما كعادته، كانت ردوده تحتاج إلى من يكشف عن عمق معناها والأسرار التي تحويها، ليعرف أنها فعلآ ردود كاملة وصحيحة عن كيف سيعطي جسده وكيف سيأكلونه. وإلا فما كان جيدا ولا لائقا من المسيح أن يبدأ رده بجملته الرهيبة التي تزيد الحق حقا بقوله:
الرب يقول مخاطبا اليهود, وليس اليهود فقط, بل والتلاميذ, وليس الاثنى عشر فقط بل ويخاطب السبعين الاخرين ايضا حسب التقليد. أما «كيف يقدر», وهو الجزء الأول من السؤال المحير لعقول اليهود, فيرد المسيح عليه هكذا: بأن تأكلوا جسده وتشربوا دمه. فإذا كان الجسد يؤكل وحده, فهذا يعنى أنه سينفصل عنه الدم؛ فهنا الإشارة صارخة إلى عملية الصلب العنيفة التى سيجوزها على أيديهم. فاليهود هم أنفسهم, بتقديمه للموت على الصليب, سيجعلونه «قادراً» أن يعطيهم جسده للأكل ودمه للشرب. هذا هو الرد على «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده .....»
أما الجزء الثاني من سؤالهم المحير: «كيف يعطينا جسده لنأكل»» فكان رد المسيح عليه أنه ليس الجسد وحده الذي سيؤكل، بل والدم يُشرب أيضا. فالعثرة التي صدمت عقولهم من حيث استحالة أكل الجسد البشري، حولها المسيح إلى استحالة أشد، استحالة، بشرب الدم البشري! وحينئذ يصبح لا مفر من فهم آخر للأكل والشرب بالنسبة للجسد والدم، فهنا مفهوم ذبائحي رفيع المستوى تعايشوا معه مئات السنين، والإشارة واضحة إلى ذبح إسحق بأمر الله الذي طلب من إبراهيم أن يقدمه ذبيحة له جسدا ودما.
فإن كان اليهود قد أضمروا صلبه، فالرب يسوع قبل ذلك برضى الطاعة للآب كإسحق لأبيه, أما شرب الدم فهو محرم بأمر الله بالنسبة للذبائح الحيوانية, والسبب أعلنه الوحي هكذا: لأن الدم فيه الروح وهو أيضأ رباط النفس بالجسد: «لحماً بحياته دمه لا تأكلو» (تك4:9), «لكن احترز أن لا تأكل الدم، لأن الدم هو النفس فلا تأكل النفس مع اللحم.» (تث23:12)
فإعلان المسيح هنا عن شرب دمه يرتفع أولا بمفهوم ذبيحته عن الذبائح الأخرى، ويرتفع ثانيا بمفهوم شرب دمه إلى مفهوم شرب غير جسدي وقبول روح الحياة في دم المسيح للتقديس، وهكذا يتم الارتباط بنفسه ارتباطا أبديا:
+ «لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشرش عل المُنجسين يُقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي.» (عب13:9-14)
أي أن حياة المسيح الأبدية التي في دمه تنتقل إلى من يشرب دمه بالإيمان. وهذا ما شدد عليه المسيح كنتيجة حتمية لمن يشرب دمه: «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة (أبدية) فيكم».
أما كلمة الاحتقار التي وجهوها للمسيح: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل»، فرد عليها المسيح أن «هذا» الذي احتقروه هو«ابن الإنسان» الذي أشار إليه دانيال في رؤياه أنه هو الذي سيكون عليه رجاء اليهود الذين ترجوه وانتظروه: «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى قديم الأيام, فقربوه قدامه (ذبيحة), فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة, سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض.»» (دا13:7-14)
وقول المسيح واضح: «الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه...». وهكذا يرد المسيح على احتقارهم بأن أظهر لهم عماهم، أنهم مزمعون أن يذبحوا من ترجوه منذ ابائهم وانتظروه بفارغ الصبر, وأن الذي احتقرره هو هو الذي ستتعبد له كل الشعوب.
وهنا يلزمنا أن ننبه القارىء أن يحترس من شرح بعض علماء الكتاب المقدس الذين رأوا في كلمة «ابن الإنسان» هنا بالذات، أي من جهة أكل جسد ابن الإنسان وشرب دمه، أن المعنى يشير إلى أن الرب يقدم ويبذل بشريته. وهذا أمر مؤسف ومحزن للغاية، فهذه النظرية هي بعينها نظرية فصل طبيعة المسيح إلى طبيعتين فصلا واضحا صارخا لا تؤمن به الارثوذكية اللاخلقيدونية القبطية. لأن المسيح أشار مرارا وبوضوح أنه سيبذل نفسه وليس جسده وحده أو بشريت. فهو سيبذل نفسه في جسده، ولا يمكن أن « أنا هو» ينفصل عن جسده, ولا يمكن أن تنفصل نفسه عن الله أبيه بحسب إيمان الكنيسة أن «لاهوته لم ينفصل قط لا عن نفسه ولا عن جسده» (القداس الإلهي). فالمسيح متحد بالآب وبالجسد إتحادا ليس فيه انفصال، لذلك يقول الكتاب: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه ...»» (يو16:3)، ولم يقل حتى بذل جسد ابنه.
فلينتبه القارى بل وكل عالم وباحث وشارح بل وكل لاهوتي، أن ذبيحة الصليب هي المسيح ككل، والذي قدم هذه الذبيحة هوا لآب والابن معا؛ الآب بسبب حبه للعالم، والابن بسبب حبه للآب. فهي ذبيحة حب فيها كل حب الآب وكل حب الابن وطاعته، مظهرها جسد إنسان مصلوب على الصليب, وجوهرها حب إلهي مذبوح. أما قوة الصليب والذبيحة التي عليه فلا تكمن في الجسد الظاهر للعيان، لأنه حسب قول المسيح: «الجسد لا يفيد شيئا» (يو63:6), بل قوة الذبيحة التي أنشأت خلاصا وفداء ومصالحة، فهي تكمن بالدرجة الاول في الروح والنفس, ثم الجسد, بكل كيانها الإلهي البشري معا. فالمسيح، ككل، هو الذي تحمل العار والخزي؛ أي أن الابن في ملء كيانه الإلهي يرضي الآب، لكي يخلص الإنسان من اللعنة، أما الموت الذي ماته المسيح على الصليب، فكان يستحيل أن يقع على الجسد وحده لينشء قوة خلاص, إلا إذا قبله الابن بكل إرادته ومشيئته الإلهيتين, لأن جسد المسيح وإن كان قد قبل الموت، إلا أنه كان غير مستحق للموت! والموت تم للجسد بسبب قبول ورضى الآب أولا: «لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو42:22)، وبسبب قبول ورضى الابن: «لأجل هذا أتيت أنا (الابن في ملء اللاهوت) إلى هذه الساعة.» (يو27:12)
إذن، فالموت على الصليب الذي تم للمسيح, اشترك فيه الآب والابن اشتراكا فعليا.
لذلك، فنحن حينما نأكل جسد المسيح ونشرب دمه فنحن نأكل «الكلمة المتجسد»، نأكل المسيح ككل: «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6)، نأكل كل حب الآب من نحونا، ممثلا في مشيئته التي تمت في ذبح الابن، ونأكل كل حب المسيح ممثلا في منتهى طاعة الابن للآب حتى الموت، لتكميل خلاص الإنسان. وهذا بعينه هو انفتاح سر الإتحاد الدائم بين الآب والابن علينا الذي نناله في هذا السر، وبهذا ندخل في صميم الحياة الخاصة التي بين الآب والابن التي هي هي الحياة الأبدية.
وعلى القارىء والباحث أن ينتبه دائما أبدا، أن المسيح حينما يتكلم، فكلامه لا يؤخذ على المستوى العادي الطبيعي: «الكلام الذي اتكلم به هو روح وحياة.» (يو63:6)
ثم عاد المسيح ونقل الإشارة من النبوة عن ابن الإنسان إلى الواقع الحي أمامهم، أي إلى نفسه. المسيح هنا يستحضر الآخرويات اليهودية المترجاة إلى الحاضر الزمني في شخصه. فاستعلن نفسه أنه هو هو «ابن الإنسان» رجاء الدهور الذي قبل عن رضى أن يكون ذبيحتهم بسبب المسرة الموضوعة أمامه في طاعة الآب وفي حبه للخطاة:
أي أن يكون له حياة لا تزول من الآن وتستعلن في اليوم الأخير, وتتمجد بالقيامة إلى الأبد. وهكذا يصبح أكل الجسد وشرب الدم هو هو تحقيق مجد اللأخرويات التي ترقبها اليهود على أساس أن الجسد والدم هما طعام الحياة الأبدية النازل من السماء لحياة عتيدة لا تزول إلى أن يجيء الرب: «كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي وتذكرونني إلى أن أجيء» (القداس الإلهي).
وهنا يُلاحظ أن كلمة «يأكل» لم تأت في وضعها العادي ( )، بل جاءت في اليونانية ( ) بمعنى الأكل الدائم السرور والذي لا ينتهي بزمن معين, وكذلك الشرب بمعنى الشركة الدائمة بالفعل والكلمة والروح على أساس الإفخارستيا في مفهومها الفائق.
ويلاحظ هنا أن الرب لا يدخل في المحاجاة ولا النقاش بعقلية اليهود السلبية, ولكنه احتفظ دائما دائما بخط الإيجابية الواقعية في استعلان نفسه بالنسبة للآب وللإنسان على محور واحد وهو ذبيحة نفسه.
هذه هي الإضافة الجديدة التي يشرح بها المسيح حقيقة أكل جسده وشرب دمه. فهنا لا يزال المسيح يخاطب اليهود الذين اعتقدوا أن المن هو خبز سماوي كعلامة مطلوبة في الأيام الأخيرة للتحقق أن مسيرة المسيح مع شعبه في البرية ستسأنف ثانية لافتتاح عصر المجد لإسرائيل.
فهو يقول هنا أن جسده هو الطعام «الحقيقي», ودمه هو الشراب «الحقيقي», وليس المن أو ما يشبه المن ولا ماء الصخرة أو ما يشبهها. وهذا هو المعنى الأبسط والأضعف الذي يخاطب به عقول اليهود. ولكن المعنى الأعمق والأهم هو بالنسبة لمستوى حديث المسيح الذي يهدف به إلى استعلان الحق فيما يخص شخصه بالنسبة لعلاقته بالآب وبالإنسان.
فكلمة «الحق» التي أتت مرتين في مأكل الجسد وشرب الدم هي استعلان لجوهر الجسد ولجوهر الدم. وكلمة «الحق» جاءت في اليوناية في بعض المخطوطات ( ) «الحق»، والمخطوطات الأخرى ( ) «حقاً». فالاولى أي «الحق» تأتي بمعنى الواقع الحقيقي «ضد الظاهر» أو بالمفهوم اللاهوتي facts، والثانية أي «حقاً» تأتي بالمفهوم اللاهوتي «ضد المزيف» أي أصلي genuine وتهدف إلى معنى أنه مأكل يختص بحاجة الإنسان «الحقيقية» وليس للحاجة العارضة كالجوع. والحاجة الحقيقية للإنسان هي لروحه.
وهكذا يتحقق فعلا أن قول المسيح يهدف إلى إقناع اليهود أن جسده ودمه «حقاً» أي للحاجة الحقيقية بالنسبة لإسرائيل, أي الحياة الأبدية, وليس لحاجة ملء البطن أو المسرة بعمل إعجازي, لحياة المجد الدنيوي, كما تجيء كلمة «حقاً» للمعنى الأعمق كما فهمها وسجلها الإنجيل، أن الأكل من الجسد ليس كما تصوروا أنه أكل قطعة لحم جسد إنسان عادي وأن الشرب من الدم ليس هو شرب ملء الفم من الدم المادي حسب ظاهر المعنى، وظاهر اللحم والدم، بل هو أكل روحي بالحق وبالجوهر أي أكل الجسد كله بملء الكلمة فيه. «والكلمة صار جسداً» (يو14:1)، أي «أكل سر التجسد بأكمله», هذا هو جوهر الجسد، وشرب الدم هو شرب أو احتواء كل دم ذبيحة المسيح على الصليب أي «شرب سر الفداء», «بشرب كل حياة المسيح التي في دمه». هذا هو المأكل الحق للجسد والشرب الحق للدم، لأن الحق لا يتجزأ قط وهو يختص بالإلهيات.
ولا ننسى أن كلام المسيح دائما أبدا هو روح وحياة. ولكن لا ننسى أيضا أن كلام المسيح كان مسموعا بالأذن اللحمية ونحن الآن نقرأه بالحروف المكتوبة، وقول المسيح أن الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا، وأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له، فهنا الروح والحق في السجود لا يلغيان السجود الجسدي بل يرفعانه إلى مستوى الروح والحق. هكذا أيضا في أكل الجسد وشرب الدم فإنه يجري على المستوى الجسدي المحسوس المنظور في سر الإفخارستيا بالخبز والخمر, لأن المسيح المأكول محسوس ومنظور، ولكن المأخوذ منه للحياة الأبدية هو الروح والحق على مستوى «أنا هو الحق».
ولكن حتى هذه الآية لم يفصح المسيح عن إجراء سر الإفخارستيا بالخبز والخمر لأن ميعاده لم يحضر بعد. فالمسيح هنا يضع الأساس الذي سيبني عليه يوم الخميس سره الخالد، ثم يتمم هذا السر بالفعل يوم الجمعة. على أن القديس يوحنا لم يطرق جميع الأسرار على مستواها الطقسي المادي، بل استعلنها جميعا على المستوى الإلهي الروحي. فقد ذكر الميلاد الثاني من الماء والروح، ولكنه لم يذكر كلمة واحدة عن إجراء سر العماد؟ وذكر الجسد والدم والأكل والشرب منهما، ولم يذكر كلمة واحدة عن كيفية إجراء سر الافخارستيا بالخبز والخمر؛ وذكر التجسد الإلهي بعمق لا يُجارى وعن حياة الكلمة قبل التجسد، ولم يكتب كلمة واحدة عن ولادة المسيح العجيبة أو سر بتولية العذراء مريم ولا حتى اسمها مع أنها عاشت معه زمنا طويلا في بيته.
هذا هو القديس يوحنا وهذا هو إنجيله, فهو دائما أبدا يتكلم عما لم يتكلم عنه بقية الإنجيليين، وشغله الشاغل هو استعلان الحق الإلهي في حياة المسيح وكل أعماله وأقواله.
هنا ينتقل المسيح بعقول اليهود نقلة كبيرة وهامة للغاية, فالأكل من المن السماوي لم يغير شيئا من طبيعة ابائهم، فقد ماتوا «روحيأء» بمفهوم أنهم حرموا من الدخول إلى راحة الله بسبب عدم الإيمان, وبالأكثر بسبب العصيان والتذمر على الله والتمرد، بل واستخدام الأكل للذة الجسد وشهوة النفس: «كما هو مكتوب جلس الشعب للأكل (من المن) والشرب (من ماء الصخرة)، ثم قاموا للعب, ولا نزن كما زنى أناس منهم...» (اكو7:10-8). واضح أن الأكل من المن والشرب من ماء الصخرة مع أنه كان «طعاما روحيا وشرابا روحيا» (اكو3:10-4), إلا أنه لم يغير من طبيعتهم شيئا, بل تحول لهم الأكل والشرب إلى لعب وزنا.
هنا يعطي المسيح المقارنة بين أكل وشرب يثمر موتا لأنه لم يتغلغل جوهر الروح والنفس، وبين خبز الحياة الذي يعطيه المسيح بجسده ودمه لينشىء حياة أبدية؛ فجسده مأكل حق أي جوهري، أي إلهي، وفي نفس الوقت هو جسد ذاتي أي يختص بشخص المسيح ابن الله. فالذي يأكل منه، أو على الأصح يأكله, فالجسد يصير فيه ويبقى فيه كما هو, جسد ابن الله الوحيد بصفاته الحية.
ويلاحظ القارىء أن كلمة «يثبت» كما جاءت بالعربية هي في اللفة اليونانية يبقى وهو نفس الفعل المشتق منه كلمة «الباقي»: «الخبز الباقي للحياة الأبدية» في الآية: اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ. (يو27:6)
وكذلك الدم، فالذي يشرب منه أو عل الأصح يشربه، يصير الدم فيه ويبقى فيه دم ابن الله الوحيد المذبوح بصفاته، بالروح الأزلى الذي فيه ونفس المسيح الحية الخالدة.
وبمعى كلي، يكون كل «من يأكل جسدي ويشرب دمي»، أصير أنا كلى فيه وأبقى فيه بجسدي، أي بسر تجسدي، وبدمي، أي بسر فدائي بحياتي وموتي وقيامتي، فيصير موتي فيه لموته, أي فدائه، وحياتي لحياته الأبدية، وتصير قيامتي لقيامته في ملء المجد.
وهكذا يتم القول بالحرف الواحد: «يثبت فيّ وأنا فيه». هذا الثبوت هنا عجيب حقا وسري للغاية. فهو ثبوت الجسد الإلي بالجسد (الروحي) للإنسان وثبوت الروح الأزلى بروح الإنسان، وهذا هو الذي ينشىء فينا القيامة. إنه التحام حي، شخص بشخص، ينشىء إتحادا ووحدة. وهذا هو ما حدا ببولس الرسول أن يقول: «لأننا أعضاء جسمه من لحمه وعظامه» (أف30:5)
والعجيب أيضا في سر الثبوت هذا أنه متبادل لتأمين الإتحاد، خوفا من ضعف الإنسان وانفلاته. فنحن لا نثبت فيه بإمكانياتنا الضعيفة وإيماننا الأضعف فقط، وإلا فالإنفكاك وشيك الحدوث لا محالة, لذلك أمنه المسيح بنفسه أيما تأمين: «يثبت في وأنا فيه». ولاحظ هنا، أيها القارىء العزيزه أن الثبوت جاء هنا فرديا لكل من يأكل ويشرب بإيمان، واحدا واحدا. إنها علاقة فردية أنشأها المسيح بموته عن كل نفس، لأنها علاقة حب، بل عشق متبادل, ملأت قلب المسيح نحو النفس البشرية كعريس وعروس. ولكن لا يخطىء الفاهم والشارح، فالحب سبب، والبذل ثم الثبوت والإتحاد نتيجة: «هكذا أحب... حتى بذل» «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» (يو13:15)؛ «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني, والذي يحبني يحبه أبي، وأنا احبه واظهر له ذاتي. في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم في وأنا فيكم.» (يو20:14-21)
إذن لا يخطءى أحد ويفهم أن الأكل من الجسد والشرب من الدم أنه فريضة، أو هو طقس فرضه المسيح كما فرض موسى الناموس كقانون، بل هو فعل محبة وثمرة عشق متبادل بين النفس والمسيح المذبوح كعريس من أجلها. لذلك يصرح المسيح لليهود بمواجهة صعبة ومرة: إنهم محرومون من خبزه الحي, من جسده ودمه، لأنهم رفضوه كابن الله الحبيب: «لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني.» (يو42:8)
أما بالنسبة للربط بين الآيات، فبعكس ما يرى كثير من علماء الكتاب المقدس بأن الآيات مكررة وغير مترابطة، نجدها نحن مترابطة أشد الارتباط لو أخذنا بالعمق الروحي الذي هو من خصائص هذا الآنجيل, فقوله: «لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق»، فهو هنا ينقل الأكل والشرب من الجسد والدم إلى مستوى «الحق», أي مستوى «أنا هو» أي بالمفهوم اللاهوتي، إلى مستوى الجوهر الذاتي، أي بتوضيح أكثر إلى مستوى «أنا» = الذات الإلهية للابن + «هو» كيان الابن أي جوهره أو طبيعته.
لذلك فالتسلسل يأتي هنا بمنتهى القوة والعمق حينما يقول بعد ذلك: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه. «فالحق» في الآية السابقة يفسر في الآية التي بعدها بـ «أنا».
وإلى هنا لم ينحرف المسيح بنظره أو توجيه كلماته بعيدا عن اليهود الذين يحاججونه، كما يرى علماء الكتاب المقدس، ولكن المسيح كان، بآن واحد، ينظر إلى تلاميذه وإلينا وإلى الأجيال كلها إلى منتهى الدهور، لذلك تجيء كلمات المسيح دائمأ ذات أبعاد متسعة لا تغيب عن القلوب المتسعة.
وهنا ختام التنقل بالفكر اليهودي إلى نهايته وغايته العظمى. فلقد تدرج المسيح تدرجا غاية في الدقة والاستعلان:
+ من الخبز الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان
+ إلى «خبز اللة االنازل من السماء»
+ إلى «أنا هو خبز الحياة»
+ إلى «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء»
+ إلى «الخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم»
+ إلى «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم»
+ إلى «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية, وأنا أقيمه في اليوم الأخير»،
+ إلى «جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق»
+ إلى «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه»
+ إلى هذه الآية الأخيرة التي نحن بصددها: «من يأكلني فهو يحيا بي»
هنا فى هذه الآية الأخيره، يعلن المسيح وجوده الكلي ككل as a whale « يحيا بي» في إفخارستيا الجسد والدم، كحياة نحياها في حياته.
«كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب, فمن يأكلني فهو يحيا بي».
«أرسلني الآب».
الإرسالية هنا تستهدف الإعلان عن «التجسد»، ولكنها تتضمن معنى ضمنيا ذا أهمية، وهو وحدة التناسق بين الآب والابن على أساس وحدة الكرامة، وليس كسيد وعبد: « لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله.» (يو23:5)
وهنا يضع المسيح إرساليته في الموازنة المتوازنة «كما ...., ... كذلك» التي يلجأ إليها المسيح ليجعل علاقته بالآب مثلا يُحتذى ويُمتلك لنا : مثل «كما أرسلتني إلى العالم ، (كذلك) أرسلتهم أنا إلى العالم» (يو18:17) , «كما أحبني الآب ، كذلك أحببتكم أنا» (يو9:15)؛ «... كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك (كذلك) ليكونوا هم أيضا واحدا فينا.» (يو21:17)
والقديس يوحنا يستخدم نفس أسلوب المسيح في رسالته: «من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك (تجاه الآب) هكذا يسلك هو أيضا.» (1يو6:2)
فإذا كانت الإرسالية تستهدف معنى التجسد والشهادة والاستعلان للآب، فالمسيح يضعها ضمن الأشياء الموهوبة لنا عندما «نأكله» في سر الإفخارستيا. فعندما نأكله، نحيا بحياته بكل مخصصاته مثل: «كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب، (كذلك) أعرف خاصتي وخاصتي تعرفني.» (يو14:10-15)
والمسيح نقل لنا في شخصه بجسده ودمه علاقته بالآب وعلاقة الآب به.
«الآب الحي»: صفة من الصفات الجوهرية الطبيعية لله التي طالما وصف بها الله في العهد القديم: «لأنه من هو جميع البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش» (تث26:5)
أما كلمة «الحي» فهي ليست صفة شخصية فقط وإنما صفة جوهرية, كما قلنا, يعبر عنها المزمور: «عندك ينبوع الحياة.» (مز9:36)
«وأنا حي بالآب»: هنا اللغة العربية قاصرة عن أداء المعنى الوارد في الأصل اليوناني( ) والتي تجيء بمعنى «بسبب» والتي لا يمكن فهمها في اللغة اليونانية على أن الآب علة أو آلة لحياة المسيح، إذ كان يتحتم أن تجىء ( )
والتعبير «أنا حي بالآب» تعبير لاهوتي مبسط معناه أن الابن لا يحيا وحده، ولكن حياة الآب هي حياة الابن.
فإذا أكلنا الجسد والدم، فنحن لا نعود نحيا وحدنا, بل نحيا حياة المسيح النابعة من نفس ينبوع الآب. وهكذا يتم الرباط الإلهي بين الإنسان والله الآب بحياة المسيح التي ننالها ونحيا بها من الإفخارستيا, أي الجسد والدم.
ونلاحظ أن المسيح سبق وأعلن أن له حياة أبدية في ذاته, وكلمة «في ذات» تعني في صميم طبيعته وجوهره: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته, كذلك أعطى الابن أيضا أن تكون له حياة في ذاته» (يو26:5). فهنا الحياة الذاتية للأب والابن واحدة, لأن الحياة الأبدية هي من جوهر الطبيعة الإلهية. ولكي تكون العلاقة بين الآب والابن واضحة في ذهن القارىء, فليفهم أن الابن يستمد من الآب بنوته فقط، وهذه العلاقة ليست مستحدثة قط, أي لم يكن هناك زمن ما لم يكن في الذات الإلهية بنوة، بل البنوة والأبوة قائمتان أزليا في ذات الله الأزلية. فالأبوة صفة جوهرية في الله, والبنوة مثلها تماما صفة جوهرية في الله. أما الطبيعة, أي الجوهر, فواحد، فطبيعة الآب هي طبيعة الابن، وحياة الآب هي حياة الابن، لأن الحياة ليست صفة ذاتية بل جوهرية. فالمسيح هو الحياة الأبدية من جهة طبيعته, وهذا يعلنه القديس يوحنا في بداية رسالته الاولى هكذا: «فإن الحياة أُظهرت, وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا.» (ايو2:1)
أما المسيح فقد كرر مرارا وتكرارا أنه هو الحياة: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14)، «أنا هو القيامة والحياة.» (يو25:11)
فهنا قول المسيح «أنا حي بالآب» يفيد إتحاد الابوة بالبنوة في حياة واحدة غير منفصلة, يكشفها المسيح ويعلنها بالقول والعمل. أما هنا في هذه الأية فهو يسلمها لمن يأكل جسده ويشرب دمه لأنه يحيا به: «من يأكلني فهو يحيا بي» وبالتال يحيا بالآب, لأن المسيح حي بالآب.
وبمعنى أخر أيضأ : فلأن «الآب حي» فيتحتم بالضرورة أن يكون الابن حياً, لأن الابن بالآب قائم ويكون ويحيا، وكما أن الابن (المسيح بالتجسد) حي فيتحتم بالضرورة أن من يأكل المسيح يصير حيا, لأن الإنسان بتناوله الجسد والدم يصير ويقوم ويدوم في المسيح وبالمسيح.
وقد أعلنها المسيح في موضع قادم: «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو19:14)، ويصفها القديس يوحنا في نهاية رسالته الاولى بمنتهى الوضوح والقوة: «وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية. وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن فله الحياة ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة... ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق، ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية.» (ايو11:5و12و20)
أما إذا أردنا أن نفهم القصد والغاية العظمى من أكل جسد المسيح وشرب دمه كمأكل حق ومشرب حق, هذا الذي عبر عنه المسيح أخيرا: «من يأكلني فهو يحيا بي» فعلينا أن نعود إلى فكر بولس الرسول الذي يعبر عنه تعبيرا واقعيأ غاية في العمق والتصوير اللاهوتي لمفهوم كيف يتحول جسد المسيح فينا إلى جسد كلي وشامل, جسد سري, نصير فيه أعضاء بل نصير من نفس مادته الروحية الفائقة: «لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه.» (أف30:5)
فانظر أيها القارىء وافهم أن الإفخارستيا, أي الأكل والشرب من جسد المسيح ودمه بالروح والحق والشكر, هي المدخل الحي والروحي واللاهوتي بآن واحد للدخول في جسد المسيح السري, بل للاتحاد به أيضاً, بل للثبوت الأبدي, بل للحياة الأبدية والتمجيد الدائم.
وهنا بعد أن أستعلن المسيح وجوده الذاتي الكلي كحياة في الجسد والدم، وبعد أن استعلن الثبوت المتبادل بين المسيح والإنسان من خلال الجسد والدم؛ كشف الرب الاستعلان الأخير بأن الإنسان أصبح له نصيب مع الله الآب, أي ثبوت حياة الإنسان, بالتالي, بالله الآب أيضاً من خلال المسيح الحي في الإنسان, بالجسد والدم، أي من خلال الإفخارستيا في مضمون ذبيحة المسيح.
وهكذا يصل المسيح بالفكر اليهودي إلى أساس العهد الجديد بدم المسيح, كعهد دم بروح أزلى يربط الإنسان بالله الحى, هذا العهد الجديد استعلنه المسيح وسجله بالقول والكلمة يوم الخميس: «هذا هو جسدي ... هذا هو دمي الذي للعهد الجديد, الذي يُسفك من أجل كثيرين» (مر22:14و24). ثم حققه على مستوى ذبح الجسد وسفك الدم الفعلي يوم الجمعة.
وهكذا يضع المسيح الفكر اليهودي أمام عهد جديد بفصح جديد، ليس بالمن ولا بلحم خروف مذبوح، ولكن بذبيحة نفسه التي هم مزمعون ومضمرون تقديمها، ليصير جسده ودمه هما عمل الله الجديد مع شعبه.
والميح يوضح بذلك لليهود أن المن الجديد الذي يطلبونه يستلزم عهدا جديدا سبق الرب وأعلن عنه بفم أنبيائه:
+ «لأنه يقول لهم لائماً هوذا أيام تأتي، يقول الرب، حين أكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا, لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر, لأنهم لم يثبتوا في عهدي وأنا أهملتهم، يقول الرب. لأن هذا هو العهد الذي أعهده مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام، يقول الرب, أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا.» (عب8:8-10)
وهكذا يقدم المسيح جسده ودمه لليهود المزعين أذ يذبحوه، كمن جديد وفصح جديد معا, للحياة وليس للموت بعد, حيث يصير دمه وثيقة عهد الله الجديد مع شعبه؛ وهذا يعبر عنه القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية هكذا:
+ «كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة (الأبدية) والتقوى، بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وهب المواعيد (العهد) العظى والحية، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية.» (2بط3:1-4)
فحياة الآب والابن المتحدة, وهي صميم الطبيعة الإلهية، سلمها لنا المسيح في الجسد والدم، لنشترك فيها فنحيا بالله وبالتقوى.
وعودة المسيح على ذي بدء لنفس الآية التي انطلق منها ليشرح لليهود معنى الخبز الحقيقي النازل من السماء، هذا الذي يطلبونه بخداع البصر كأنه المن القديم، هذا الرجوع والذي يختم به المسيح شرحه المطول، يثبت أن نظر المسيح المثبت على اليهود المحاججين كما هو لم ينحرف، فهم كانوا من البداية إلى النهاية الهدف الذي سلط عليه كل إعلاناته. ولكن للأسف لم تكن لهم أذن تسمع، ولا عيون تبصر, فأباؤهم أكلوا المن وماتوا, وهم اشتهوا أن يأ كلوه, فما أكلوه، وما عاشوا.
فكان كلام المسيح عل آذانهم كلغز بقي بلا حل، أو بحسب قول المسيح نفسه: «لكم قد أعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله، وأما للباقين فبأمثال حتى إنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يفهمون» (لو10:8). وليمعن القارىء ملياُ في كلمة «أسرار ملكوت الله»، لأنها هي هي موضوع حديثه في الجسد والدم، كما يلاحظ أن أسرار ملكوت الله تعبر عن العيون فلا تراها وعلى الآذن فلا تسمعها لأن سر الرب لمتقيه (أو لخائفيه) (مز14:25). والذي يصدق أقوال الله وهي كلها تحمل سر الله، فالله يعلن له أسراره فيفهمها ويسر بها: «تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضا بأمثال، بل أخبركم عن الآب علانية» (يو25:16)، وهذا تم بالحرف الواحد في عشاء الخميس، وفي يوم الخمسين.
«هذا هو الخبز»: في هذه الكلمة الصغيرة «هذا هو» يعبر الرب بشريط أقواله كلها من «الخبز النازل من السماء» إلى «من يأكلني يحيا بي»، والتي انتهى بها إلى، والتي تحوي في داخلها، سر موت الرب وقيامته. فالأكل يحمل، بقوة، معنى الذبيحة المذبوحة. «ويحيا بي» يحمل معنى القيامة والحياة. والاثنان معاً يحملان الشركة الكاملة السرية في فعل وقوة الفداء والخلاص. كما يطرحان، مسبقاً، سر الإفخارستيا الذي سيأتيه الرب في وقته.
كما يلاحظ القارىء أن كلمة «هذا هو» تجيء لتشير إشارة مباشرة ومنطبقة انطباقأ سرياً على قول المسيح «أنا هو». لأن الخبز النازل من السماء أصبح واقعاً حياً ملموساً مشخصاً في المتكلم، أي ابن الله الكلمة المتجسد الذي ذُبح فعلاً وقام وهو حي.
التعقيب على حديث الرب فى مجمع كفرناحوم (59:6-71) 59- قَالَ هَذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ.
القديس يوحنا هو المتكلم الآن, وهو يعين المكان الذي تم فيه حديث المسيح الذي سبق أن سجله، أي في المجمع، ولم يكن ذلك أثناء العبادة ولكن في وقت التعليم. ومن الأمور التي تبهج القارىء أن بقايا آثار مجمع كفرناحوم هذا لا تزال قائمة بصورة حية جيلة في فلسطين، في الموضع المعروف «تل حوم» حيث وجد العالم ولسن أثناء حفرياته حجرا كبيرا محفورا عليه صورة وعاء المن.
والمعروف أن درس نزول المن كان ضمن خدمة الصباح في مجامع اليهود. والدروس في المجمع كانت تقام في أيام السبت والاثنين والخميس.
«الروح هو الذي يُحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة«: المسيح يلح على العقل البشري أن لا يهبط بالإلهيات إلى مستوى التراب، ولقد كرر ذلك في كل حديث, ولكن ليس بنفس الهدف.
فأولاً مع نيقوديموس, كان الهدف هو الميلاد الجديد للانسان من فوق وبالروح, ولما عجز عن إدراك «الميلاد الثانيه» الروحي للانسان, اضطر المسيح أن يقول له: «المولود من الجسد جسد هو, والمولود من الروح هو روح» (يو6:3). أما كيف يتم ذلك؟ فمن المستحيل على العقل البشري متابعته، كما لو أردت أن تتتبع ريحاً يهب, فأنت لا تعرف لا من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح، فأنت ترى فيه الواقع المتغير, أي الإنسان الروحي الجديد بالعقل الروحي الجديد، فتندهش، ولكن يعذر عليك الفحص.
وثانياً مع المرأة السامرية, كان الهدف أن يسقيها الماء الحي, أي الروح القدس، ولما تفكرت أنه ماء جسدي وعجزت عن إدراك شرب الماء الحي، طلب منها أن تتوب عن خطاياها التي كانت سر العجز، فلما تابت شربت من الماء الحي. ولكن كيف شربت؟ لا نعلم، الذي نعلمه أنها صارت مُبشرة بالخلاص، وقادرة أن تسقي الأخرين، لأن نبع المياه الحية اندفق في أحشائها.
وثالثاً مع الجليليين, أراد أن يطعمهم من خبز الحياة النازل من فوف ، فحسبوه مناَ، وعجزوا عن فهم خبز الحياة. طلب منهم أن يؤمنوا به أولا حتى يدركوا سر جسده المذبوح وسر دمه المسفوك اللذين هما خبز الحياة الأبدية، فلما عثروا, حتى تلاميذه عثروا, في كيفية أكل الجسد وشرب الدم، عاد مرة أخرى يقول إن كلامه على مستوى الروح وليس على مستوى الجسد. فهو أكل حق وشرب حق، أي أكل جسد روحي سماوي، وشرب دم روحي سماوي, وليس أكل جسد إنسان وشرب دم إنسان, بل هو أكل الكلمة في الجسد وشرب الروح في الدم, أما كيف يكون ذلك؟ فهذا ما لا يمكن أن يلاحقه العقل، تماماً كما لا يمكن أن يلاحق كيف صار الكلمة جسداً. هكذا وبنفس السرية يصير الإنسان بالأكل من الجسد والشرب من الدم إنساناً روحيا يتغذى بالروح وسر الكلمة، الكلمة الذي كان منذ البدء عند الله، الفعال في الخليقة، فلكي يكمل فعله في الخليقة البشرية، أخذ جسداً؛ وبدون هذا الجسد لم يكن ممكناً أن تبلغنا كلمة الله كفعل خلاص. فكلمة الله في ذاتها مخلصّة، ولكنها لم تخلّص بالفعل إلا بالجسد والدم على مستوى الذبح وسفك الدم.
فاللاهوتيون وأصحاب الفكر القائل أن الأكل والشرب هما على مستوى الإيمان بالكلمة المقروءة والمبشر بها فقط، وليس بالخبز والخمر المتحولين، يتجاوزون سر التجسد كفعل حدث، و يتخطون عملية الذبح وسفك الدم كفعل حدث، هذه التي بها أدركنا سر الكلمة ابن الله!! أي أن الأكل من جسد المسيح والشرب من دم المسيح يستحيل أن يكون نظرياً تأملياً تصوفياً بالفكر أو حتى بالإيمان فقط. إن الأكل من الجسد والشرب من الدم ها شركة في فعل مأسوي عنيف, شركة في ألم وغصة موت وقيامة، وليس شركة في مبدأ إيماني يؤخذ بالفهم. فالله لم يخلص العالم بالكلمة المنطوقة، بل بالكلمة المتجسدة المذبوحة.
إن قول الرب: «الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة», لا معنى له ولا قوة إلا بفعل الموت والقيامة. «فالروح والحياة» لم يستعلنا لنا، ولن يستعلنا فينا إلا بشركة فعلية في الموت هذا عينه، وفي القيامة هذه عينها، وهذا لن يتم فينا إلا بأكل الجسد الذي فيه سر الموت وشرب الدم الذي فيه سر الحياة.
لذلك، وبالنهاية, يكون استعلان الحياة الأبدية هو بالكلمة الحية, وفي الفعل المحيي معاً، بلا تعارض أو تمييز.
أما سر الإفخارستيا الذي أسسه الرب في عشاء الخميس بالخبز والخمر، اللذين بث فيهما سر جسده ودمه، أي سر تجسده وذبحه، فقد جاء بعد أن أكمل المسيح استعلان الموت والقيامة في نفسه، مقدما جسده ودمه عطية حب مسبقة لأحبائه كخبز الحياة الأبدية, كحقيقة مطلقة لا بد أن تؤخذ أولا بحد ذاتها قبل أن تطبق على مادة سر الإفخارستيا. فالمسيح قدم الحقيقة المطلقة أولاً, ثم بعد ذلك أخضعها للممارسة العملية. فالإفخارستيا حقيقة مطلقة بقوة سر المسيح للممارسة عملياً.
وفي سر الإفخارستيا تتحد الكلمة المطلقة بالفعل المنظور: [ ... كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس، تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي] (القداس الإلهي).
الأكل ينشىء بشارة، والشرب ينشىء اعترافاً، وهكذا نشترك في حياة المسيح وموته بالسر والكلمة معاً، بالحقيقة المطلقة والفعل المنظور.
وليلاحظ القارىء أن المسيح لم يرد على نيقوديموس حينها سأله: «كيف يمكن أن يكون هذا» (يو9:3)، عن الميلاد من الروح, كما أنه لم يرد على اليهود عندما سألوا: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل»، لأن المسيح قصر استقلان الفعل السرائري، سواء في المعمودية أو الإفخارستيا فقط على الذين آمنوا بالكلمة. وكل ما استطاع المسيح أن يزيده شرحا هو قوله إن الكلام الذي يقوله «روح وحياة»، لأن الجسد، أي المادة، لا يفيد شيئاً بحد ذاته, ولكن الروح والحياة اللذين في الجد والدم يفيدان في كل شيء.
والقديس يوحنا تحاشى ذكر الطقس ليوفي الحقيقة الروحية المطلقة فهمها وعملها أولاً، وهو بذلك يحرس الطقس من أن يُبتر فيكون بشكله المادي نهاية بحد ذاته، فتسقط الكنيسة في أحد خطأين: الخطأ الأول أن تحسب المادة فعالة بحد ذتلها، والخطأ الثاني أن ينحصر سرالإفخارستيا في أن يكون مجرد رمز.
وللقديس أُغسطينوس شرح يفيد هذا المعنى إذ يقول: [ وهكذا يريد المسيح أن يُفهم هذا الأكل وهذا الشرب على أنهما واسطة للشركة في جسده وأعضائه التي هي الكنيسة... فالسر في الإفخارستيا هو الوحدة في المسيح القائمة بين الجسد والدم اللذين يقدمان على مائدة الرب يوميا في بعض الكنائس وعلى فترات معينة في كنائس أخرى، واللذين يتناولهما البعض للحياة والبعض الآخر للهلاك. أما السر نفسه فهو مرضوع لحياة كل الناس وليس لهلاك أحد بالمرة لكل من يتناوله]
[ هكذا فإن معنى أن يأكل الإنسان من الجسد وأن يشرب من الدم, هو أن يثبث في المسيح والمسيح يثبت فيه؛ وبالتال فإن كل من لا يثبت في المسيح والمسيح لا يثبت فيه، فهو بلا شك لم يأكل جسده ولا شرب دمه، بل إنه في الحقيقة أكل وشرب من سر عظيم بهذا المقدار لدينونة نفسه].
وهكذا جمع القديى أغسطينوس بين الحقائق المطلقة التي شرحها الرب وبين عمل السر في الإفخارستيا، وجعل الحقائق المطلقة حارسا لصحة السر وعمله.
وهنا نسمع أن كثيرين من تلاميذه قالوا: «هذا الكلام صعب من يقدر أن يسمعه»، لنتذكر دائما قول النبوة عند ميلاد المسيح على فم سمعان الشيخ: «ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم.» (لو34:2)
لقد سقط هؤلاء الكثيرون من تلاميذه عن مستوى الروح والحياة. وكلمة «كثيرين» توضح الشبة بينهم وبين الاثني عشر، أي بين الذين يسقطون والذين يقومون في المسيح يسوع عل مستوى الإيماذ وتصديق الرب، وهي دائما نسبة محزنة. وهي ليست محزنة لأنها على المستوى العام فقط بل وعلى المستوى الخاص جدا، إذ هي قائمة بين المدعوين أيضا: «هكذا يكون الآخرون أولين والأولون أخرين. لأنأ كثيرين يدعون وقليلين يُنتخبون.» (16:20)
لماذا؟؟ لأن الكثيرين يحكمون العقل والمنطق، والقليلون هم الذين يطيعون الإيماذ والكلمة ببساطة قلب، والعقل بطيعته يحكم حسب مقايس العالم، ويبدأ بفرح كاذب وينتهي بالحزن والتشاؤم (مت13:14-14)، أما القلب فيعيش بمقياس الروح، ويبدأ بالتسليم الهادئ وينتهي إلى الفرح والأبتهاج: «وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتاولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله وهم نعمة لدى جميع الشعب.» (أع46:2-47)
«هذا الكلام صعب»: «صعب» تأتي في اليونانية بمعنى «التصلب» أى «يجف»، أو «ينشف», وهذه الكلمة يفهمها الأطباء، إذ هي تستخدم لوصف الأوعية الدموية حينما تُصاب بالتصلب وعدم الليونة فتمنع مسيرة الدم فيها. فلو أضفنا إليها الكلمة التي جاءت بعدها: «من يقدر أن يسمعه»، فهذا يكمل المعنى بأن كلام المسيح لم يدخل مجاري أسماعهم، لأن آذانهم الروحية مسدودة ولم تنفتح بكل الكلام الروحي الذي قاله المسيح، والكلمة صارت ثقيلة على أذانهم وغير مقبولة، والنتيجة أنهم بدأوا يتذمرون، لأن: «من ليس معي فهو علي» (مت30:12)، لن الاذن الطبيعية احتكرت العقل وامتلأت بمتطلبات الدنيا. أما صعوبة الكلمة التي انسدت آذانهم عن قبولها، فهي على مستويين مرتفعين:
الأول الذين سقطوا من دونه وهو: كيف أن «يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه» يكون نزل من السماء؟
والثاني: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل» ودمه لنشرب؟
لهذا كان رد المسيح على الصعوبة الاولى هكذا: ماذا سيكون موقفكم حينما ترون ابن الإنسان صاعدا إلى السماء حيث كان أولا ومن حيث نزل؟
والمستوى الثاني الذي سقطوا منه وعثروا فيه كان رده عليه أن الجسد المأكول ليس لحما بشريا، بل جسداً إلهياً حقيقياً يؤكل بالحق أي بالروح (في الصورة التي سيعطيها, أي الخبز)، والدم ليس دماً بشرياً بل هو دم بروح أزلي يُشرب بالروح (في الصورة التي يعطيها، أي الكأس)، لأن أكل الجسد بالجسد لا يفيد شيئا، ولكن الأكل الروحي للجسد بالروح يُحيي.
وقد عقب المسيح على ما قاله فيما يخص الأكل والشرب, بأنه على مستوى الروح والحياة ويوصل إليهما، وهما كأساس للروح يُبنى عليه القلب ويرتفع، أما العقل أو الجسد فلا يستطيع أن يبلغ إليهما.
ويلاحظ القارىء أن المستوى الأول الذي أنشأ صعوبة عند التلاميذ المزيفين يختص بنزول المسيح من السماء، وهذا يفيد التجسد الإلهي وهو حجر الأساس في بناء الإيمان, أما المستوى الثاني الذي أعثرهم والذي يختص بالأكل من الجسد والشرب من الدم، فيفيد الفداء والخلاص, وهو جوهر الايمان وتاجه.
«فإذ رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولاً»: هذه هي المرة الاولى التي يذكر فيها إنجيل القديس يوحنا «صعود» الرب باللفظ الواضح، إذ لم يذكر إنجيل القديس يوحنا صعود الرب إلا بعد قيامته، حينما قال للمجدلية: «...اذهبي إلى إخوتي وقولى لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم والهي وإلهكم.» (يو17:20)
أما إغفأل ذكره حادثة الصعود ذاتها في الرواية، بعد القيامة فلأن الأناجيل الأخرى استوفت شرحها كرواية. بينما اهتم القديس يوحنا بالآيات والإعلانات التي لم تذكرها الأناجيل الأخرى، واستوفى الشرح اللاهوتي للصعود مرارا وتكرارا في قول المسيح إنه نزل من السماء، والذي نزل سيصعد حتماً:
+ «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
+ «أنا ممكم زمانا يسيرا بعد ثم أمضى إلى الذي أرسلني.» (يو33:7)
+ «أما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب...» (يو1:13)
+ «أنا أمضى لاعد لكم مكاناً.» (يو2:14)
+ «وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق.» (يو4:14)
+ «لأني ماضى إلى أبي.» (يو12:14)
+ «سمعتم أني قلت لكم أنا أذهب ثم آتي إليكم.» (يو28:14)
+«وأما الآن فأنا ماضى إلى الذي أرسلني ... إنه خير لكم أن أنطلق, لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي.» (يو5:17-7)
+ «... فلأني ذاهب إلى أبي ولا تروني أيضاً.» (يو10:16)
+ «خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم، وأيضا أترك العالم وأذهب إلى الآب.» (يو28:16)
+ «ولست أنا بعد في العالم، وأما هؤلاء فهم في العالم، وأنا آتي إليك.» (يو11:17)
+ «وأما الآن فإني آتي إليك.» (يو13:17)
هنا يعطينا إنجيل القديس يوحنا رؤية لاهوتية عميقة ومبدعة عن «معنى» الصعود «وقوته».
فمعنى الصعود لاهوتياً: هو أن النزول، أي التجسد، رسالة مؤقتة (زماناً قليلاً) انتهت تماماً بالصليب، وهي خاصة بابن الله المتجسد وحده: «ليس أحد صعد ... إلا الذي نزل» (يو13:3). والصعود تكميل للنزول. أما الإقامة الدائمة فهي في السماء: «ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
والنزول تحقيق فعلي وعملي مُبدع من جهة الله في مشاركه الإنسان: «حل بيننا» (يو14:1)؛ »اسمه عمانؤيل. الذي تفسيره الله معنا.» (مت23:1)
أما قوة الصعود: فهي في ارتباطه بإرسال الروح القدس الذي حل محل المسيح وكمل عمله، وكان الشرط الوحيد والأساسي لإرسال الروح القدس هو صعود المسيح، إذ أن صعود المسيح كان جزءاً أساسياً لتكميل الخلاص. علماً بأن الصعود كان قوة روحية هائلة فكت آسر المقيدين بالروح: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا» (أف8:4)، كما أنه بالصعود تم إعداد مكان لنا في أقداس الله العليا: «دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً» (عب20:6 و12:9)، بل وفتح طريقا ملوكياً صاعداً إلى السماء: «وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق» (يو4:14)، «طريقاً كرسه لنا حدياًأ حيا بالحجاب, أي جسده.» (عب20:10)
لذلك، فقوة الصعود أصبحت هبة لنا، حتى أننا نحسب بالإيمان أنه أصعدنا معه وأجلسنا معه في السماويات (أف6:2)، والذي يقرأ الأصحاحين الأول والثاني من سفر الأعمال يشعر بقوة الصعود وكيف ألهبت قلوب التلاميذ لينطلقوا في الصلاة استعدادا لقبول الروح القدس لبدء كرازة العالم!!
وأخيرا، فإن صعود الرب أثبت لاهوت المسيح، أولاً لأن الرب كان يعلم بالصعود وتحدث عنه, كالنزول تماماً، أي أنه كان عنده جزءاً أساسياً في خطة الخلاص، وثانياً صعوده بالجسد بعد الموت والقيامة استعلن به مجده الإلهي وأثبت به أن نزوله وتجسده كان حقيقة خلاصية. وصعوده بقوة لاهوته وسلطانه تميز عن صعود إيليا بأن قيل عن إيليا أنه «صعد بواسطة الرب»، وبأن ذلك تم في مركبة أُرسلت إليه لتحمل ثقله البشري أو ثقل خطاياه، وأن هذه المركبة كانت نارية للتطهير ليؤهل للدخول في عالم الأرواح المبررة (2مل1:2-11).
كذلك، فإن صعود المسيح إلى فوة كان إشارة إلى البركة العظمى التي وهبها للعالم، كما كان إشارة مبدعة إلى أنه جعل أعداءه تحت قدميه. كما كان صعوده، بحسب تعليمات الملائكة للتلاميذ، إشارة وأية عظمى أنه كما صعد هكذا سرف يأتي أيضاً في مجده ومجد أبيه (لو26:9)؛ ونحن بهذا ننتظر مجيئه بفارغ الصبر في رجاء حار صادق, «نعم ... أمين تعال أيها الرب يسوع.» (رؤ20:22)
«الروح هو الذي يُحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة«: المسيح يلح على العقل البشري أن لا يهبط بالإلهيات إلى مستوى التراب، ولقد كرر ذلك في كل حديث, ولكن ليس بنفس الهدف.
فأولاً مع نيقوديموس, كان الهدف هو الميلاد الجديد للانسان من فوق وبالروح, ولما عجز عن إدراك «الميلاد الثانيه» الروحي للانسان, اضطر المسيح أن يقول له: «المولود من الجسد جسد هو, والمولود من الروح هو روح» (يو6:3). أما كيف يتم ذلك؟ فمن المستحيل على العقل البشري متابعته، كما لو أردت أن تتتبع ريحاً يهب, فأنت لا تعرف لا من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح، فأنت ترى فيه الواقع المتغير, أي الإنسان الروحي الجديد بالعقل الروحي الجديد، فتندهش، ولكن يعذر عليك الفحص.
وثانياً مع المرأة السامرية, كان الهدف أن يسقيها الماء الحي, أي الروح القدس، ولما تفكرت أنه ماء جسدي وعجزت عن إدراك شرب الماء الحي، طلب منها أن تتوب عن خطاياها التي كانت سر العجز، فلما تابت شربت من الماء الحي. ولكن كيف شربت؟ لا نعلم، الذي نعلمه أنها صارت مُبشرة بالخلاص، وقادرة أن تسقي الأخرين، لأن نبع المياه الحية اندفق في أحشائها.
وثالثاً مع الجليليين, أراد أن يطعمهم من خبز الحياة النازل من فوف ، فحسبوه مناَ، وعجزوا عن فهم خبز الحياة. طلب منهم أن يؤمنوا به أولا حتى يدركوا سر جسده المذبوح وسر دمه المسفوك اللذين هما خبز الحياة الأبدية، فلما عثروا, حتى تلاميذه عثروا, في كيفية أكل الجسد وشرب الدم، عاد مرة أخرى يقول إن كلامه على مستوى الروح وليس على مستوى الجسد. فهو أكل حق وشرب حق، أي أكل جسد روحي سماوي، وشرب دم روحي سماوي, وليس أكل جسد إنسان وشرب دم إنسان, بل هو أكل الكلمة في الجسد وشرب الروح في الدم, أما كيف يكون ذلك؟ فهذا ما لا يمكن أن يلاحقه العقل، تماماً كما لا يمكن أن يلاحق كيف صار الكلمة جسداً. هكذا وبنفس السرية يصير الإنسان بالأكل من الجسد والشرب من الدم إنساناً روحيا يتغذى بالروح وسر الكلمة، الكلمة الذي كان منذ البدء عند الله، الفعال في الخليقة، فلكي يكمل فعله في الخليقة البشرية، أخذ جسداً؛ وبدون هذا الجسد لم يكن ممكناً أن تبلغنا كلمة الله كفعل خلاص. فكلمة الله في ذاتها مخلصّة، ولكنها لم تخلّص بالفعل إلا بالجسد والدم على مستوى الذبح وسفك الدم.
فاللاهوتيون وأصحاب الفكر القائل أن الأكل والشرب هما على مستوى الإيمان بالكلمة المقروءة والمبشر بها فقط، وليس بالخبز والخمر المتحولين، يتجاوزون سر التجسد كفعل حدث، و يتخطون عملية الذبح وسفك الدم كفعل حدث، هذه التي بها أدركنا سر الكلمة ابن الله!! أي أن الأكل من جسد المسيح والشرب من دم المسيح يستحيل أن يكون نظرياً تأملياً تصوفياً بالفكر أو حتى بالإيمان فقط. إن الأكل من الجسد والشرب من الدم ها شركة في فعل مأسوي عنيف, شركة في ألم وغصة موت وقيامة، وليس شركة في مبدأ إيماني يؤخذ بالفهم. فالله لم يخلص العالم بالكلمة المنطوقة، بل بالكلمة المتجسدة المذبوحة.
إن قول الرب: «الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة», لا معنى له ولا قوة إلا بفعل الموت والقيامة. «فالروح والحياة» لم يستعلنا لنا، ولن يستعلنا فينا إلا بشركة فعلية في الموت هذا عينه، وفي القيامة هذه عينها، وهذا لن يتم فينا إلا بأكل الجسد الذي فيه سر الموت وشرب الدم الذي فيه سر الحياة.
لذلك، وبالنهاية, يكون استعلان الحياة الأبدية هو بالكلمة الحية, وفي الفعل المحيي معاً، بلا تعارض أو تمييز.
أما سر الإفخارستيا الذي أسسه الرب في عشاء الخميس بالخبز والخمر، اللذين بث فيهما سر جسده ودمه، أي سر تجسده وذبحه، فقد جاء بعد أن أكمل المسيح استعلان الموت والقيامة في نفسه، مقدما جسده ودمه عطية حب مسبقة لأحبائه كخبز الحياة الأبدية, كحقيقة مطلقة لا بد أن تؤخذ أولا بحد ذاتها قبل أن تطبق على مادة سر الإفخارستيا. فالمسيح قدم الحقيقة المطلقة أولاً, ثم بعد ذلك أخضعها للممارسة العملية. فالإفخارستيا حقيقة مطلقة بقوة سر المسيح للممارسة عملياً.
وفي سر الإفخارستيا تتحد الكلمة المطلقة بالفعل المنظور: [ ... كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس، تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي] (القداس الإلهي).
الأكل ينشىء بشارة، والشرب ينشىء اعترافاً، وهكذا نشترك في حياة المسيح وموته بالسر والكلمة معاً، بالحقيقة المطلقة والفعل المنظور.
وليلاحظ القارىء أن المسيح لم يرد على نيقوديموس حينها سأله: «كيف يمكن أن يكون هذا» (يو9:3)، عن الميلاد من الروح, كما أنه لم يرد على اليهود عندما سألوا: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل»، لأن المسيح قصر استقلان الفعل السرائري، سواء في المعمودية أو الإفخارستيا فقط على الذين آمنوا بالكلمة. وكل ما استطاع المسيح أن يزيده شرحا هو قوله إن الكلام الذي يقوله «روح وحياة»، لأن الجسد، أي المادة، لا يفيد شيئاً بحد ذاته, ولكن الروح والحياة اللذين في الجد والدم يفيدان في كل شيء.
والقديس يوحنا تحاشى ذكر الطقس ليوفي الحقيقة الروحية المطلقة فهمها وعملها أولاً، وهو بذلك يحرس الطقس من أن يُبتر فيكون بشكله المادي نهاية بحد ذاته، فتسقط الكنيسة في أحد خطأين: الخطأ الأول أن تحسب المادة فعالة بحد ذتلها، والخطأ الثاني أن ينحصر سرالإفخارستيا في أن يكون مجرد رمز.
وللقديس أُغسطينوس شرح يفيد هذا المعنى إذ يقول: [ وهكذا يريد المسيح أن يُفهم هذا الأكل وهذا الشرب على أنهما واسطة للشركة في جسده وأعضائه التي هي الكنيسة... فالسر في الإفخارستيا هو الوحدة في المسيح القائمة بين الجسد والدم اللذين يقدمان على مائدة الرب يوميا في بعض الكنائس وعلى فترات معينة في كنائس أخرى، واللذين يتناولهما البعض للحياة والبعض الآخر للهلاك. أما السر نفسه فهو مرضوع لحياة كل الناس وليس لهلاك أحد بالمرة لكل من يتناوله]
[ هكذا فإن معنى أن يأكل الإنسان من الجسد وأن يشرب من الدم, هو أن يثبث في المسيح والمسيح يثبت فيه؛ وبالتال فإن كل من لا يثبت في المسيح والمسيح لا يثبت فيه، فهو بلا شك لم يأكل جسده ولا شرب دمه، بل إنه في الحقيقة أكل وشرب من سر عظيم بهذا المقدار لدينونة نفسه].
وهكذا جمع القديى أغسطينوس بين الحقائق المطلقة التي شرحها الرب وبين عمل السر في الإفخارستيا، وجعل الحقائق المطلقة حارسا لصحة السر وعمله.
وهنا نسمع أن كثيرين من تلاميذه قالوا: «هذا الكلام صعب من يقدر أن يسمعه»، لنتذكر دائما قول النبوة عند ميلاد المسيح على فم سمعان الشيخ: «ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم.» (لو34:2)
لقد سقط هؤلاء الكثيرون من تلاميذه عن مستوى الروح والحياة. وكلمة «كثيرين» توضح الشبة بينهم وبين الاثني عشر، أي بين الذين يسقطون والذين يقومون في المسيح يسوع عل مستوى الإيماذ وتصديق الرب، وهي دائما نسبة محزنة. وهي ليست محزنة لأنها على المستوى العام فقط بل وعلى المستوى الخاص جدا، إذ هي قائمة بين المدعوين أيضا: «هكذا يكون الآخرون أولين والأولون أخرين. لأنأ كثيرين يدعون وقليلين يُنتخبون.» (16:20)
لماذا؟؟ لأن الكثيرين يحكمون العقل والمنطق، والقليلون هم الذين يطيعون الإيماذ والكلمة ببساطة قلب، والعقل بطيعته يحكم حسب مقايس العالم، ويبدأ بفرح كاذب وينتهي بالحزن والتشاؤم (مت13:14-14)، أما القلب فيعيش بمقياس الروح، ويبدأ بالتسليم الهادئ وينتهي إلى الفرح والأبتهاج: «وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتاولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله وهم نعمة لدى جميع الشعب.» (أع46:2-47)
«هذا الكلام صعب»: «صعب» تأتي في اليونانية بمعنى «التصلب» أى «يجف»، أو «ينشف», وهذه الكلمة يفهمها الأطباء، إذ هي تستخدم لوصف الأوعية الدموية حينما تُصاب بالتصلب وعدم الليونة فتمنع مسيرة الدم فيها. فلو أضفنا إليها الكلمة التي جاءت بعدها: «من يقدر أن يسمعه»، فهذا يكمل المعنى بأن كلام المسيح لم يدخل مجاري أسماعهم، لأن آذانهم الروحية مسدودة ولم تنفتح بكل الكلام الروحي الذي قاله المسيح، والكلمة صارت ثقيلة على أذانهم وغير مقبولة، والنتيجة أنهم بدأوا يتذمرون، لأن: «من ليس معي فهو علي» (مت30:12)، لن الاذن الطبيعية احتكرت العقل وامتلأت بمتطلبات الدنيا. أما صعوبة الكلمة التي انسدت آذانهم عن قبولها، فهي على مستويين مرتفعين:
الأول الذين سقطوا من دونه وهو: كيف أن «يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه» يكون نزل من السماء؟
والثاني: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل» ودمه لنشرب؟
لهذا كان رد المسيح على الصعوبة الاولى هكذا: ماذا سيكون موقفكم حينما ترون ابن الإنسان صاعدا إلى السماء حيث كان أولا ومن حيث نزل؟
والمستوى الثاني الذي سقطوا منه وعثروا فيه كان رده عليه أن الجسد المأكول ليس لحما بشريا، بل جسداً إلهياً حقيقياً يؤكل بالحق أي بالروح (في الصورة التي سيعطيها, أي الخبز)، والدم ليس دماً بشرياً بل هو دم بروح أزلي يُشرب بالروح (في الصورة التي يعطيها، أي الكأس)، لأن أكل الجسد بالجسد لا يفيد شيئا، ولكن الأكل الروحي للجسد بالروح يُحيي.
وقد عقب المسيح على ما قاله فيما يخص الأكل والشرب, بأنه على مستوى الروح والحياة ويوصل إليهما، وهما كأساس للروح يُبنى عليه القلب ويرتفع، أما العقل أو الجسد فلا يستطيع أن يبلغ إليهما.
ويلاحظ القارىء أن المستوى الأول الذي أنشأ صعوبة عند التلاميذ المزيفين يختص بنزول المسيح من السماء، وهذا يفيد التجسد الإلهي وهو حجر الأساس في بناء الإيمان, أما المستوى الثاني الذي أعثرهم والذي يختص بالأكل من الجسد والشرب من الدم، فيفيد الفداء والخلاص, وهو جوهر الايمان وتاجه.
«فإذ رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولاً»: هذه هي المرة الاولى التي يذكر فيها إنجيل القديس يوحنا «صعود» الرب باللفظ الواضح، إذ لم يذكر إنجيل القديس يوحنا صعود الرب إلا بعد قيامته، حينما قال للمجدلية: «...اذهبي إلى إخوتي وقولى لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم والهي وإلهكم.» (يو17:20)
أما إغفأل ذكره حادثة الصعود ذاتها في الرواية، بعد القيامة فلأن الأناجيل الأخرى استوفت شرحها كرواية. بينما اهتم القديس يوحنا بالآيات والإعلانات التي لم تذكرها الأناجيل الأخرى، واستوفى الشرح اللاهوتي للصعود مرارا وتكرارا في قول المسيح إنه نزل من السماء، والذي نزل سيصعد حتماً:
+ «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
+ «أنا ممكم زمانا يسيرا بعد ثم أمضى إلى الذي أرسلني.» (يو33:7)
+ «أما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب...» (يو1:13)
+ «أنا أمضى لاعد لكم مكاناً.» (يو2:14)
+ «وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق.» (يو4:14)
+ «لأني ماضى إلى أبي.» (يو12:14)
+ «سمعتم أني قلت لكم أنا أذهب ثم آتي إليكم.» (يو28:14)
+«وأما الآن فأنا ماضى إلى الذي أرسلني ... إنه خير لكم أن أنطلق, لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي.» (يو5:17-7)
+ «... فلأني ذاهب إلى أبي ولا تروني أيضاً.» (يو10:16)
+ «خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم، وأيضا أترك العالم وأذهب إلى الآب.» (يو28:16)
+ «ولست أنا بعد في العالم، وأما هؤلاء فهم في العالم، وأنا آتي إليك.» (يو11:17)
+ «وأما الآن فإني آتي إليك.» (يو13:17)
هنا يعطينا إنجيل القديس يوحنا رؤية لاهوتية عميقة ومبدعة عن «معنى» الصعود «وقوته».
فمعنى الصعود لاهوتياً: هو أن النزول، أي التجسد، رسالة مؤقتة (زماناً قليلاً) انتهت تماماً بالصليب، وهي خاصة بابن الله المتجسد وحده: «ليس أحد صعد ... إلا الذي نزل» (يو13:3). والصعود تكميل للنزول. أما الإقامة الدائمة فهي في السماء: «ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
والنزول تحقيق فعلي وعملي مُبدع من جهة الله في مشاركه الإنسان: «حل بيننا» (يو14:1)؛ »اسمه عمانؤيل. الذي تفسيره الله معنا.» (مت23:1)
أما قوة الصعود: فهي في ارتباطه بإرسال الروح القدس الذي حل محل المسيح وكمل عمله، وكان الشرط الوحيد والأساسي لإرسال الروح القدس هو صعود المسيح، إذ أن صعود المسيح كان جزءاً أساسياً لتكميل الخلاص. علماً بأن الصعود كان قوة روحية هائلة فكت آسر المقيدين بالروح: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا» (أف8:4)، كما أنه بالصعود تم إعداد مكان لنا في أقداس الله العليا: «دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً» (عب20:6 و12:9)، بل وفتح طريقا ملوكياً صاعداً إلى السماء: «وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق» (يو4:14)، «طريقاً كرسه لنا حدياًأ حيا بالحجاب, أي جسده.» (عب20:10)
لذلك، فقوة الصعود أصبحت هبة لنا، حتى أننا نحسب بالإيمان أنه أصعدنا معه وأجلسنا معه في السماويات (أف6:2)، والذي يقرأ الأصحاحين الأول والثاني من سفر الأعمال يشعر بقوة الصعود وكيف ألهبت قلوب التلاميذ لينطلقوا في الصلاة استعدادا لقبول الروح القدس لبدء كرازة العالم!!
وأخيرا، فإن صعود الرب أثبت لاهوت المسيح، أولاً لأن الرب كان يعلم بالصعود وتحدث عنه, كالنزول تماماً، أي أنه كان عنده جزءاً أساسياً في خطة الخلاص، وثانياً صعوده بالجسد بعد الموت والقيامة استعلن به مجده الإلهي وأثبت به أن نزوله وتجسده كان حقيقة خلاصية. وصعوده بقوة لاهوته وسلطانه تميز عن صعود إيليا بأن قيل عن إيليا أنه «صعد بواسطة الرب»، وبأن ذلك تم في مركبة أُرسلت إليه لتحمل ثقله البشري أو ثقل خطاياه، وأن هذه المركبة كانت نارية للتطهير ليؤهل للدخول في عالم الأرواح المبررة (2مل1:2-11).
كذلك، فإن صعود المسيح إلى فوة كان إشارة إلى البركة العظمى التي وهبها للعالم، كما كان إشارة مبدعة إلى أنه جعل أعداءه تحت قدميه. كما كان صعوده، بحسب تعليمات الملائكة للتلاميذ، إشارة وأية عظمى أنه كما صعد هكذا سرف يأتي أيضاً في مجده ومجد أبيه (لو26:9)؛ ونحن بهذا ننتظر مجيئه بفارغ الصبر في رجاء حار صادق, «نعم ... أمين تعال أيها الرب يسوع.» (رؤ20:22)
المسيح يوجه الكلام هنا إلى مجموعة كبيرة من تلاميذه, ربما السبعين الذين كان منهم القديسان مرقس ولوقا ، ويفرزهم بعينه الفاحصة كاشفاً الذين لا يؤمنون به أمام ضمائرهم. لأن تذمرهم السابق وعدم إيمانهم كانا في داخل قلوبهم وغير معلنين. ولكن من العسير أن يخادع الإنسان الله. فالمسيح هنا يعلن لاهوته من خلال درايته بالقلوب وما تخفيه. فلما واجههم المسيح بحقيقة ضمائرهم، لم يستطيعوا أن يستمروا في مسيرتهم الكاذبة مع الرب، فكشفوا نيتتهم بأن تركوه علنا، ولم يعودوا يسيرون معه، بل رجعوا إلى الوراء وساروا في طريقهم. وما ألعنها مسيرة! «وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض.» (رو28:1)
والمسيح هنا يعود فيكرر أمام تلاميذه عامة أنه لا يجمع تلاميذه جزافاً؛ ولا أحد يأتي إليه من ذاته, بل إن كان المسيح يختار أحداً فإنه يختار الذي دعاه الآب, وإن كان أحد يأتي إليه فهو الذي يجذبه الآب. لذلك فالمسيح غير آسف على المفقود وغير خائف على الموجود. فالمفقود ليس من نصيبه أصلاً، والموجود لا يستطيع أحد أن يخطفه من يده لأنه أخذه من يد الآب!
وبسبب علم المسيح بالذي له وبالذي ليس له، لم يكن يمالىء ولم يكن يهادن، ولا يترجى ولا يسترضي، فكانت كلمته دائماً أمضى من كل سيف ذي حدين، تدخل إلى مفارق النفس والروح، وتميز أفكار القلب ونياته (عب12:4).
«من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء, ولم يعودوا يسيرون معه»: يا حسرة البشرية كلها على هؤلاء التلاميذ. كيف صاروا عارا على سيرة الحب والوفاء.
اسمع ما قيل عن حب المسيح لتلاميذه: «... إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى.» (يو1:13)
الآن نحن نعلم أن الرب كان يتكلم معهم من مصدر الحق الإلهي، كان يدعوهم إلى شركته في الآب أن يكونوا واحداً معه في مسيرة الحياة الأبدية، كان يعرض عليهم سر أكله وشربه بالروح لإتحاد أبدي، كان يكشف لهم عمق أعماق أسرار الله ليكونوا، لا علماء ولا خبراء فيها فحسب، بل وشركاء، شركاء لا في معرفته بل شركاء في الطبيعة الإلهية بكل مذخراتها ومواهبها لبني الإنسان. لم يكن يفرض نفسه للأكل والشرب من مستوى الأسياد والعظماء حينما يدعون العبيد لحرية مقيدة, بأن يأكلوا معهم على مائدتهم تكريماً لهم، بل كان يدعوهم من المستوى الأقل، من مركز الخدم والعبيد. «... آخذاً صورة عبد» (في7:2)، ويدعوهم ليكونوا شركاء معه في مجد الالوهية: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو22:17). أعطى مجده في اتضاع العبيد، في وداعة الخدام، في دموع التوسل: «قام عن العشاء وخلع ثيابه (ثياب الكرامة) وأخذ منشفة واتزر بها (على وسطه كعبد) ثم صب (بيده) ماء في مغسل (طشت)، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها (أيضاً) بالمنشفة التي كان مئتزرأ بها ... فلما كان قد غسل أرجلهم ... قال لهم: أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسنأ تقولون لأني أنا كذلك، فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض.» (يو4:13-14)
ولكن التلاميذ لم يستحسنوا كلام المسيح وقرروا أن يقطعوا علاقتهم به, وعادوا إلى الوراء إلى سيرتهم الاولى وفضلوها على سيرته, لأنها أصبحت ثقيلة على قلوبهم، وصارت تكلفهم خسارة أرباحهم المعنوية والمادية:
بعضهم كانت علة دوافعهم كرامة وعادات وتقاليد، واخرون كانت دوافعهم مالية وأرباحاً من الحرام والممنوعات، وآخرون كانت غير ذلك، وآخرون وآخرون, هذه الدوافع كانت مخفية في قاع القلب تنتهز العلل والمسوغات التي تبرر الترك. فمالهم والتواضع والمحبة، ومالهم والتوبة المكلفة، ومالهم للدخول في أسرار الله ومواهب الروح، ومالهم وتكاليف القداسة وربح الحلال الضيق! لقد ظنوه في البداية غنيمة يغتنمون من ورائها المزيد من الأرباح والكرامات والجلوس عن اليمين واليسار في ملكه الذي توهموه وجاهدوا من أجله. وهوذا الآن يعرض عليهم موته وذبيحته وتقديم جسده وشرب دمه، فهل هذا هو ما يخرجون به من الغنيمة؟
وبعد عشرة قصيرة كان هذا الفراق الحزين والمؤلم على قلب المعلم، لم يتركهم بل هم الذين تركوه، حتى يهوذا لم يطرده الرب بل احتمله بصبر فائق حتى آخر الطريق وإلى أن طرد نفسه, فقد قال الرب مرة: «ومن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً» (يو37:6). ولكن إن كان ترك المسيح هكذا يبدو سهلا هيناً, فالخسارة فادحة عليهم وعلى أولادهم وإلى الأبد.
«ومن تلك الساعة»: وما أشقاها ساعة! إنها ساعة بؤس في يوم رفض, لا تزال تتكرر وتُذكر حتى هذه الساعة. إنها ساعة لعنة في تاريخ المؤمنين الذين يبيعون الرب والايمان بلا ثمن أوبثمن بخس, وبخس للغاية.
68- فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ القديس بطرس: «يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ.
السؤال هنا الذي يسأله المسيح للاثني عشر هو سؤال استنكاري، يستفز به حرية الرأي والإرادة فيهم. ومعلوم أن الرد عليه سيكون بالنفي, مما يفيد أن الرب يسأله لطرح الحرية أمام الاختيار حتى يستوثق كل واحد فيهم من موقفه وأمام نفسه، لأنه، في الواقع وعين الأمر, كان يوجد بينهم من هو مهيأ للسقوط، ومن هو ساقط بالفعل، فالقديس بطرس لولا مساندة الرب له في اللحظة الحرجة لهوى وصار كنجم سقط، أما يهوذا حامل الصندوق, أو بلغة الزمن الحاضر, مدير الادارة المالية أو أمين الخزانة لزمرة التلاميذ, فكان يسرق أولا بأول ما يقع في الصندوق، والذي يسرق يبيع دائما بأرخص الثمن، فقد باع معلمه بحصيلة يوم أو يومين.
«يا رب إلى من نذهب, كلام الحياة الأبدية عندك»: في الحقيقة, كان رد القديس بطرس ليس تماما ردا على سؤال المسيح، بل كان هو الرد الحاسم القاسم على جحود التلاميذ الذين رجعوا إلى الوراء ولم يعودوا يسيرون معهم ولا مع معلمهم. وكأنما رأهم داود النبي من وراء الزمن وتكلم بلسانهم: «هذا كله جاء علينا وما نسيناك ولا خنا في عهدك, لم يرتد قلبنا إلى وراء ولا مالت خطوتنا عن طريقك.» (مز17:40-18)
لقد كانت شهادة القديس بطرس أقوى شهادة نطق بها التلاميذ، وقد جاءت متوافقة مع فكر المسيح، ولو أنها لا تدخل إلى عمقه. فقد جاءت بما يتناسب مع حاجتهم, فقد رأوا في المسيح كنز الحياة الأبدية الذي لا يفرغ؛ وليس مجرد الكلمات أو الحديث في ذاته؛ ولكنه الكلام المؤدي إلى الحياة الأبدية الذي شعرت به قلوبهم ووثقوا منه بعقولهم، فنطقت به أفواههم.
ويلاحظ أن رد القديس بطرس بهذه الأية: «كلام الحياة الأبدية عندك»، هو مستمد من قول المسيح «الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة», «من يسمع كلامي... فله الحياة الأبدية» (يو63:6، 24:5) كما هو رد مفحم على التلاميذ الذين خانهم إيمانهم واعتبروا أن كلام المسيح صعب. كما هو أيضا رد يؤمن به القديس بطرس تأمينا مباشرا على ما أعلنه الرب أنه «خبز الحياة» المعطي الحياة الأبدية، كما هو«ماء الحياة» ونورها.
وعلى هذا الأساس: «إلى من نذهب» إن كان هو الوحيد الذي يقود إلى الحياة الأبدية، فهنا إشارة موبخة ومستهينة برجوع بعض التلاميذ إلى الوراء، كما هي إشارة إلى فكر الجليليين الذين يطلبون نبيا يكون على مستوى موسى ويعطيهم المن من السماء.
وهكذا يضع القديس بطرس المقارنة المستحيلة بين المسيح وبين أي آخر. فكلام المسيح في نظر القديس القديس بطرس يشهد للمسيح أنه هو هو وليس آخر الذي ينبغي أن يُذهب إليه, او بلغة المسيح: «يأتي إلي», الذي في موضع أخر يترجمه القديس القديس بطرس الرسول هكذا: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» (لو28:18)، وبهذه الآية كان القديس بطرس الرسول يمهد لبقية اعترافه:
لا يزال القديس القديس بطرس يتكلم بلسان التلاميذ، لأنه كان أكثرهم اندفاعأ وحرارة، ولو أنه ليس أكثرهم إيمانا أو محبة للمسيح. و يلاحظ أن القديس القديس بطرس يضع الإيمان والمعرفة في موضعهما الصحيح، فالإيمان باعتباره تصديق الله ببساطة قلب بدون محاورة العقل يأتي أولا، ومنه يستمد السلوك طبيعته المتواضعة والأمينة. كما يستضيء العقل الروحي بنور المعرفة فيبلغ به الإيمان حد العمل كشهادة، وحد الرؤيا العقلية فيتواجه مع الحق الإلهي، وهنا يبلغ الإيمان اليقين.
ولم يكن هذا المبدأ الإيماني عند القديس بطرس مجرد فكر عارض بل نسمعه بعد ذلك بسنين كثيرة يشرح هذا المبدأ عينه في رسالته الثانية: «ولهذا عينه، وأنتم باذلون كل اجتهاد، قدموا في إيمانكم فضيلة (عمل) وفي الفضيلة معرفة (رؤية مستنيرة).» (2بط5:1)
والرب يسوع يؤمن على هذا بقوله: «وهم قبلوا (آمنوا) وعلموا يقيناً (بالسلوك والفكر) أني خرجت من عندك» (يو8:17). وبولس الرسول يؤكد ذلك جاعلا القلب مخرنا للايمان والفم مخرجا للمعرفة والشهادة: «لأن القلب يؤمن به للبر, والفم يعترف به للخلاص.» (رو10:10)
هذا المبدأ يتنكر له كثير من علماء الكتاب المقدس، مع أنه هو المفتاح السري الذي إذا استهان به الإنسان شق عليه الإيمان البسيط الفعال وسقط عن المعرفة الصحيحة المستنيرة بالروح. علمأ بأنه قد تجيء كلمة «االمعرفة» قبل كلمة «الإيمان» في بعض مواضع الآنجيل، وهذا لا يقلل من أهمية اشتراكهما معا في بلوغ الحق الإلهي، فلا معرفة بدون إيمان ولا إيمان بدون معرفة.
وقول القديس بطرس: «أنت المسيح, ابن الله الحي»، هي شهادة ذات وزن عال، لأنها تجيء بعد خيانة الجزء الأكبر من التلاميذ، كما تجيء بعد أن أعلن المسيح عن هدف مجيئه، وهو الموت الذي يعتبر في نظر القديس بطرس إخفاقا شديدا للرجاء الذي وضعه القديس بطرس والتلاميذ أن يكون المسيح ملكا يحكم ويسود ويعطيهم نصيبهم في الحكم. فهذه الشهادة لا تأتي مجاملة ولا من أجل رجاء كاذب، بل عن يقين. ومضمون هذه الشهادة هو أن التلاميذ قبلوا المسيح وآمنوا به وتبعوه بإخلاص، فعلموا بالخبرة والواقع أنه هو المسيح ابن الله, أو قدوس الله, كما جاءت في بعض المخطوطات، و«قدوس الله» تأتي في فم المسيح كأساس للتعرف عليه: «فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله.» (يو36:10)
وتأتي الصفتان معا في فم الملاك المبشر: «فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لو35:1)
فـ «قدوس الله» هي صفة المسيح الاولى التي يمكن أن تبنى عليها كل الصفات الإلهية الأخرى، من جهة إرساله إلى العالم أو كشف سر تجسده أو كشف سر بنوته لله.
ويلاحظ أن المسيح خاطب الله بـ «الآب القدوس» (يو11:17). فهنا، إذ يلقب القديس بطرس المسيح بـ «قدوس الله» يضعه في موضع المساواة في الكرامة والقداسة مع الآب من حيث الطبيعة الواحدة للآب وللمسيح (القداسة).
وفي سفر الرؤيا يلقبه الوحي: «هذا يقوله القدوس الحق الذي له مفتاح بيت داود...» (رؤ7:3)، وكلمة «قدوس» هي مدخل إلى طبيعة الله واستعلان الصلة بصميم هذه الطبيعة. فتسمية «قدوس الله» للمسيح هي تأكيد لطبيعة المسيح المعلنة لطبيعة الله، واستعلان لصلة المسيح بالله كواحد معه, وصفة هذه القدوسية في المسيح هي فريدة لشخصه التي جاء ليعطيها لتلاميذه والمؤمين به بذبيحة نفسه، ليشتركوا بجسده ودمه في هذه القداسة.
ومرة أخرى يرد القديس بطرس على المستوى الإلهي العميق الذي يتكلم منه المسيح، فالقديس بطرس حينها قال: «أنت هو» فهو يجيب إجابة مباشرة على قول المسيح: «أنا هو»، وهي اسم ذات الله، فالمسيح يقولها ليستعلن بها نفسه والآب، بهذا المعنى يكون كلام القديس بطرس صحيحاً وواقعيا؛ حينما قال: «نحن قد آمنا وعرفنا»، فهنا كلمة «عرفنا» التي تجيء باليونانية ( ) تتضمن معرفة الاستعلان وكشف الحقيقة التي أظهرها القديس بطرس.
وعلى كل حال, فإن شهادة القديس بطرس الرسول توضح الثقة المطلقة والأمانة والتبعية للمسيح، هذا ما أراد أن يعلنه القديس بطرس للمسيح، مؤكدا أن كل كلامه عن الحياة الأبدية قد صار هو أكلهم وشربهم بالفعل. وهكذا ألقيت النار على الأرض لكي تحرق وتنير، تحرق الأفكار والنيات التي تغتذي على الظلمة فترتد، وتنير وتبهج القلوب التي تسعى نحو النور فتمتد.
وحتى بعد رجوع كثيرين من التلاميذ إلى الوراء فلا يزال في حظيرة الاثني عشر ذئب، ليس مرتدا إلى الوراء فحسب بل وجاحد وخائن أيضا، إذ وهو يمارس التلمذة مع التلاميذ كان يمارس وظيفة الجاسوس للذي يدبر عملية التسليم. أمر مؤلم وفظيع. فلولا طبيعة قلب الرب وعطفه على التلاميذ بلا استثناء لاأفرز هذا الخائن منذ اللحظة الاولى، فالتلاميذ كانوا متيقظين له واكتشفوا ممارسته لرقة الصندوق أولا بأول، فكانوا يعضون على نواجذهم، ولكن لم يجرؤ أحد أن يفاتح المسيح بحقيقة هذا التلميذ الخائن، ولا المسيح نفسه شاء أن يفضح سره وسريرته، بالرغم من أنه كان يعلم منذ البدء من سيسلمه!!
فبعد ما أعلن القديس بطرس بحماس وشجاعة عن إيمان الجماعة وثقة الاثني عشر، لم ينساق الرب وراء هذه الشهادة، لأنها لم تكن تخص إلا أحد عشر فقط! فأراد أن يصحح الشهادة، لا من حيث مضمونها، ولكن من حيث من يحملها ويمثلها منهم!
وحينما قال الرب ردا على اعتراف القديس بطرس: «أليس إني أنا اخترتكم الاثني عشر»، لم يقصد العدد في مفرداته ولكن كان يصور إسرائيل الجديد في بطن الكنيسة, فالتصوير كامل من حيث مضمون العهد، والعهد لا يقوم على الأفراد، لذلك لما سقط الخائن ومات بيد نفسه لم يفرق شيئا, إذ انتخب التلاميذ من يلحم العدد على أصله، فـ «الاثني عشر» عدد لا يحوي عدداً، بل يحوي كنيسة ذات رأس واحد لجسد واحد, ولكن الألم الذي كان يعتصر قلب المسيح، وهو يشير إل خائن من وسط تلاميذه الأخصاء، كان واضحا في كلماته: «أليس إني اخترتكم»، فهو يشير بحزن شديد إلى براءة قلبه وضميره، وإلى حبه الشامل الكامل الذي لا يتوقف في عمله وقصده ذلك كله أمام خائن وهو يستمع. لقد اختار يهوذا ليُظهر فيه منتهى حبه المجاني الذي يقوم على عدم انحيازه للصالح دون الطالح: «أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي أم عيئك شريرة لأني أنا صالح» (مت15:20)
المسيح حينما أطاع الله الآب حتى إلى الموت، موت الصليب, كان يُظهر في طاعته صفة البنوة الفريدة, ولكن حينما احتمل المسيح خيانة يهوذا كل يوم حتى الذبح, كان يُظهر في احتماله صبر الله على الخطاة.
أعمال كثيرة عملها المسيح في الظاهر والخفاء استعلن فيها صفات الألوهية والنبل البشري معا، التي كانت تلتحم في انسجام بديع، ولكن احتماله ليهوذا سنين طويلة حتى إلى يوم العشاء، وهو يعلم أنه سيسلمه كان من روائع صفات الكلمة المتجسد!!
ولكن طول أناة المسيح عل التلميذ الخائن كانت تذخر له غضبأ يوم الغضب واستعلان دينونة عادلة، دون أن يغضب المسيح أو يندم أو يدين.
+ «والذي سلمني إليك له خطية أعظم.» (يو11:19)
+ «أما أنا فلست أدين أحداً» (يو15:8)
+ «وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه, لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم. من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه, الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير» (يو47:12-48)
«وواحد منكم شيطان» = واحد من الأخصاء التابعين.
لو كان يهوذا قد ارتد إلى الوراء مع المرتدين ومعه الصندوق، لكان هذا له أكثر شرفا وأقل نقمة!!
ولكنه استمرأ بساطة روح التلاميذ وطيبة قلب المعلم!! وصار في موكب القديسين حاملاً عاره داخل صندوق!! «وكان الصندوق معه وكان يحمل ما يُلقى فيه» (يو6:12)
كان عمل الشيطان منذ بدء خدمة المسيح أن يرد المسيح إلى الوراء: «أعطيك هذه جيعها إن خررت وسجدت لى» (مت9:4)، «فقال له يسوع اذهب يا شيطان» (مت10:4)، فذهب الشيطان مدحوراً.
ولكن يهوذا بإغراء الفضة خر وستد، فدخله الشيطان وصال به وجال, وتبع المعلم مع التابعين، وحبك الخطة مع رؤساء الكهنة وقضاة روما ... «فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع: ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة.» (يو27:13)
كان يسوع يرى يهوذا في اتفاق وترد مع الشيطان، ملتصقا به على الدوام, فلم يشأ أن يفرق بين عمل هذا وعمل ذاك، لأنهما صارا واحدأ، فكان من حق المسيح أن يسمي يهوذا بالشيطان.
وحتى القديس بطرس نفسه لما أراد أن يُثني المسيح عن مشيئة الآب في قبول الصليب، الذي من أجله كان قد جاء، نظر الرب فرأى القديس بطرس ملتحفاً بالشيطان وقد تبخرت منه ادعاءات الإيمان، فلم يتردد الرب أن يخاطب الشيطان فيه: «فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (مت22:16-23). ولكن القديس بطرس, بالكاد, فلت من قبضة الشيطان بسبب «بقية» إيمان: «ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» (لو32:22). ولكن يهوذا لم يكن له إيمان البقية.
ولكن تبقى إشارة المسيح الحزينة «واحد مكم»، ذات مفزى، لم يعين الرب من هو هذا الواحد الذي سيخون، فكان على كل واحد يتبع الرب في كل زمان ومكان أن يفحص نفسه! وخاصة حاملي الصناديق!!
وهكذا ينتهي أصحاح خبز الحياة الذي سيُبذل عن حياة العالم، بالإشارة إلى الموت المزمع أن يكون، والإشارة أيضا إلى أن هذا الموت هو بسبب عدم الإيمان الذي حتماً ينتهي إلى خيانة!!