يُلاحظ في إنجيل يوحنا أن الشهادة تأتي دائماً مدعمة بالدينونة. لقد كانت الآيات السالفة مرتكزة عل محور الدينونة. والآن ينتقل المسيح من استعلان عمله كديان إلى تدعيم هذا العمل الإلهي بالشهادة. وبادىء ذي بدء، فالمسيح كما سنرى لا يقبل الشهادة من إنسان (34:5) تماماً كما أنه لا يقبل مجداً من إنسان (41:5).
هذا له معنى لدى المسيح، سواء طرحه أمام اليهود أو طرحناه نحن على مستوى اللاهوت، لأن الذي يعتمد على شهادة الناس يحتاج إلى الناس ويعتمد عليهم، وهذا لا يستقيم عند المسيح ولا يستقيم لاهوتياً.
ولكن أيضاً إن كان المسيح يشهد لنفسه أمام اليهود، فهو يضع نفسه تحت معايير أحكامهم بالقبول أو الرفض، فيظهر كمن يبحث عن أو يطلب استحسانهم أو موافقتهم، وكأنه يطب مجداً من الناس لنفسه.
لذلك، فلكي يكون المسيح حرا من الناس, وهو بالحق كذلك, رفض أيضاً أن يشهد لنفسه أمامهم، مع أنه له الحق أن يشهد لنفسه (14:8) وقد أعطى المبرر لذلك في حينه.
وهكذا رفض المسيح أن يقبل شهادة من أحد, كما رفض أن يشهد لنفسه، ولم يحسب مجداً من الناس أمراً يهمه!
أما قول المسيح «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً»، فهذا يعني به أنها ليست حقاً لدى اليهود وحسب معاييرهم, ناموسية كانت أو عرفية. لأننا نعلم بحسب الحق أن شهادة المسيح هي الحق بعينه.
ولكن المسيح هنا يقطع خط الرجعة على المتشككين والرافضين, فلا يعطيهم فرصة للمعارضة. ولا يسمح لهم أن يظنوا عنه أنه يطلب أن يتمجد في أعينهم! أي في عين بشر. وهنا يظهر بوضوح حذر المسيح من أن يجعل خط استعلانه الإلهي سواء للآب أو لنفسه أن يتداخل فيما هو بشري. فالحق الإلهي كالمجد الإلهي، ليس في عوز ما إلى ما هو بشري قط.
ولكي نتأكد من هذا الأسلوب الإلهي الذي يسير عليه المسيح، يمكن أن نسمعه وهو يؤكد ذلك من وجهة نظره الحرة هكذا: «فقال له الفريسيون أنت تشهد لنفسك، شهادتك ليست حقاً», بحسب العرف والناموس اليهودي الإنساني, فكان رد المسيح مُفحماً هكذا: «أجاب يسوع وقال لهم وان كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت والى أين أذهب, وأما أنتم فلا تعلمون من أين آتي ولا إلى أين أذهب» (13:8-14). هنا المسيح يقول ما معناه: وإن كنت أرفض أن أشهد لنفسي بحسب معيار العالم الذي ينظر إلى من يشهد لنفسه على أنه يطلب مجد نفسه، إلا أني اشهد لنفسي ولكن ليس بحسب معيار العالم الذي لا يعرفني ولا يعرف المجد الذي أتيت منه ولا المجد الذي أنا ذاهب إليه، بل اشهد لنفسي بحسب معرفتي لذاتي من أين أنا وإلى أين أنا!!
لقد أخطأ من قال إن المسيح يتكلم هنا عن شهادة يوحنا المعمدان. فشهادة المعمدان, كما سيذكرها المسيح بعد ذلك, وصفها المسيح بأنها كانت مؤقتة وجاءت وكأنها مجاملة أو لتسوية الوضع أمام الفريسيين الذين سألوه. في حين أن المسيح يتكلم هنا عن الشهادة التي تقيم حجته أنه الديان!! والتي عليها يبني المسيح أصالة وجوده ورسالته وتعاليمه! وسيجيء ذكرها بالتفصيل بعد ذلك سواء في الأية (37) أو في الأصحاح 18:8.
كذلك يلاحظ أن الفعل «يشهد» يجيء في زمن المضارع الدائم، وهذا لا يستقيم إطلاقا في حالة شهادة إنسان مثل المعمدان، ولكن يطابق الشهادة من الله.
«وأنا أعلم»: هنا يأتي الفعل «أعلم» الذي يفيد المعرفة الكاملة والمطلقة وهي تختلف عن المعرفة التي تأتي بالبحث والاختبار ( ) والتي جاءت بعد ذلك في الآية (42). «ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم».
ويلاحظ أن قول المسيح هنا يشير إشارة سرية بليغة إلى علاقة المسيح بالآب كونها شخصية وكاملة ومطلقة، وكونها إحدى الثوابت العميقة التي يحياها المسيح في داخله.
«إن شهادته التى يشهدها لى هى حق»: تأتي بنوع من التعيين والتخصيص، والتي تفيد الإستمرارية ذات الوضوح والبرهان الداخلي والتأكيد الشخصي لدى المسيح. ثم قوله «إنها حق» يفيد المعرفة الفائقة.«الأليثيا» وهو الحق الثابت الإلهي. و يلزم هنا أن نمتد أكثر لنسمعه يقول عن الآب بالسبة لليهود أنهم «لا يعرفونه» سواء في الآيات 37:5-38 أو 19:8.
هنا تتضح معرفة المسيح بالآب أنها فوق الناموس والأنبياء والإجتهاد بكل صنوفه، كما يتضح في نفس الوقت علة عدم قبول اليهود للمسيح وهي الحجاب الكثيف الذي يحجز اليهود عن التعرف على الابن بسبب تغربهم عن الله الآب, أي تمسكهم بالحرف، فعُميت أعينهم عن «الكلمة» بمفهومها وواقعها الحي. وهذا ما أشار إليه المسيح بعد ذلك بقوله: «وليست لكم كلمته ثابتة فيكم.» (38:5).
يلاحظ القنارىء المقارنة بين «أنتم» و «أنا». «أنتم» كان يهمكم أن تسمعوا شهادة من إنسان، أما «أنا»» فلا أقبل شهادة من إنسان! ولكني أقول ذلك لكم, لكى أذكركم بما عملتموه وسمعتموه منه، لأنه قال لكم الحق وشهد له أمامكم، لعلكم تخلصون.
ويظهر حذق القديس يوحنا الباهر هنا في أنه ذكر شهادة المعمدان مباشرة في هذه الآية بعد أن ذكر شهادة الآب «آخر», (غير نفسه), في الآية السابقة. وهذا لكي يقطع خط الرجعة عل من يفكر أن المسيح بقوله: «أخر» كان يقصد المعمدان. ولكن للأسف لم ينتبه كثير جداً من الشراح لهذه اللفتة.
والسبب الذي أغوى الشراح في الخلط بين الـ «أخر» وهو الآب وبين شهادة المعمدان، هو أن المسيح ألمح لشهادة الآب بلغة خاصة وسرية إلى حد ما. لأن كلمة «أخر» هي في الحقيقة تكملة لـ «أنا», أى أنها شهادة اثنين «أنا والأخر». والعجيب أذ يظن الشراح أن الأخر هو المعمدان, فهل المعمدان يمكن جمعه مع «أنا» المسيح لتكون شهادة واحدة حسب الحق؟
«أنتم أرسلتم... فشهد»: يلاحظ هنا في الوضع التاريخي للشهادة التي أعطاها القديس يوحنا, أنها جاءت في الماضي بكل ملابساتها؛ صحيح أنه شهد للحق، وهذا كان يلزم أن يؤول إلى إيمان اليهود بالمسيح ليخلصوا. ولكن شهادته انتهت, ونُسي المعمدان, وبقيت شهادته, وذلك بالنسبة للفريسيين الذين يبحثون عن الحق عبثاً. شهادة المعمدان بصفته المُرسل من الله للشهادة كانت بحسب الحق تماماً، وهذا يوضح أن اليهود عثروا ليس فيمن شهد له المعمدان بالحق، أي المسيح, ولكنهم أيضاً عثروا في الله الذي أرسل المعمدان ليشهد للحق، وبالضرورة عثروا في الحق ذاته, فصارت شهادة المعمدان ضدهم: «جميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله، معتمدين بمعمودية يوحنا. وأما الفريسيون والناموسيين فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم غير معتمدين منه.» (لو29:7-30)
يلاحظ القنارىء المقارنة بين «أنتم» و «أنا». «أنتم» كان يهمكم أن تسمعوا شهادة من إنسان، أما «أنا»» فلا أقبل شهادة من إنسان! ولكني أقول ذلك لكم, لكى أذكركم بما عملتموه وسمعتموه منه، لأنه قال لكم الحق وشهد له أمامكم، لعلكم تخلصون.
ويظهر حذق القديس يوحنا الباهر هنا في أنه ذكر شهادة المعمدان مباشرة في هذه الآية بعد أن ذكر شهادة الآب «آخر», (غير نفسه), في الآية السابقة. وهذا لكي يقطع خط الرجعة عل من يفكر أن المسيح بقوله: «أخر» كان يقصد المعمدان. ولكن للأسف لم ينتبه كثير جداً من الشراح لهذه اللفتة.
والسبب الذي أغوى الشراح في الخلط بين الـ «أخر» وهو الآب وبين شهادة المعمدان، هو أن المسيح ألمح لشهادة الآب بلغة خاصة وسرية إلى حد ما. لأن كلمة «أخر» هي في الحقيقة تكملة لـ «أنا», أى أنها شهادة اثنين «أنا والأخر». والعجيب أذ يظن الشراح أن الأخر هو المعمدان, فهل المعمدان يمكن جمعه مع «أنا» المسيح لتكون شهادة واحدة حسب الحق؟
«أنتم أرسلتم... فشهد»: يلاحظ هنا في الوضع التاريخي للشهادة التي أعطاها القديس يوحنا, أنها جاءت في الماضي بكل ملابساتها؛ صحيح أنه شهد للحق، وهذا كان يلزم أن يؤول إلى إيمان اليهود بالمسيح ليخلصوا. ولكن شهادته انتهت, ونُسي المعمدان, وبقيت شهادته, وذلك بالنسبة للفريسيين الذين يبحثون عن الحق عبثاً. شهادة المعمدان بصفته المُرسل من الله للشهادة كانت بحسب الحق تماماً، وهذا يوضح أن اليهود عثروا ليس فيمن شهد له المعمدان بالحق، أي المسيح, ولكنهم أيضاً عثروا في الله الذي أرسل المعمدان ليشهد للحق، وبالضرورة عثروا في الحق ذاته, فصارت شهادة المعمدان ضدهم: «جميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله، معتمدين بمعمودية يوحنا. وأما الفريسيون والناموسيين فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم غير معتمدين منه.» (لو29:7-30)
«كان» فعل ماض أي «ليس هو الآن»، ربما في السجن أو قد مات، ولكن على كل حال قد توقف عن الإشتعال والإنارة. «لم يكن هو النور» عل كل حال «بل جاء ليشهد للنور»، فالمصباح يوقد لكي ينير، ولكه لا ينير من ذاته. والمصباح يستهلك ذاته، فالنور الذي يعطيه وقتي رإلى زمن محدود.
«وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة»: هنا الكلام سري للغاية، فالمسيح يراجع اليهود لأنهم ظنوا المعمدان أنه المسيا، وهكذا برزت الإرادة البشرية الخاطئة محاولة أن تلزم الإرادة الإلهية أن يكون هو المسيا، وقد هللوا له، مفتعلين البهجة للخلاص الكاذب «ساعة» في حين أن بهجة الخلاص «أبدية». وهكذا تبدو الإشارة هنا سرية حزينة وخطيرة للغاية بخصوص سجن المعمدان وموته السريع جداً، أليس خطأهم الشنيع في التعرف على النور الحقيقي وجعلهم المعمدان نوراً عوض كونه شاهداً للنور هو الذي أسرع بإنهاء رسالة المعمدان؟ أرادوا، بعناد قلبهم وزيف رؤياهم، أن يبتهجوا بنوره ساعة ففقدوه إلى الأبد؟ لقد شهد المعمدان نفسه أن نور مصباحه يلزم أن ينقص ليزداد النور الحقيقي» ولكنهم أرادوا أن يشعلوه بزيادة فانطفأ بين أيديهم!! وعوض أن يؤمنوا بشهادته ليخلصوا، عثروا في نوره فانعمت بصائرهم عن الحق الذي شهد له.
الأعمال عند المسيح يضعها في أعلى وأقصى اهتماماته، فهي برهان إرساليته والأساس الذي يبني عليه رسالته:
+ «الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي.» (يو25:1)
+ «أعمالأ كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي.» (يو32:10)
+ «إن كنت لست أعمل أعمال أبي, فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه.» (يو37:10-38)
+ «الآب الحال في هو يعمل الأعمال. صدقوني إني في الآب والآب في» وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها.» (يو10:14-11)
+ «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي.» (يو24:15)
+ «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.» (يو34:4).
+ «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.» (يو4:17)
فالأعمال عند المسيح في الواقع تغطي حياته على الأرض كمُستعين لله الآب. وكلها تصب في اتجاهين متقابلين: الدينونة، وإعطاء الحياة؛ وهما محور رسالته بكل ما تشمله من تعليم وصُع آيات, أى بالقول والفعل، وهذه هي بعينها شهادته التي يشهد بها على الدوام. وهذه هي التي يقول عنها أن له شهادة أعظم من يوحنا.
فالعمل عند المسيح شهادة متواصلة، يشهد بها وتشهد له، فهي الحق والحق شهادة بحد ذاته! لذلك فكل كلمة وكل فعل في المسيح يحمل عنصراً إيمانياً لأنه يحمل الحق. فإذا توافق مع الفكر، اهتز له القلب في الحال وتجلى المسيح بالإيمان. من هنا كان اهتمام المسيح بتكميل الأعمال التي أعطاه الآب بالغ الحد، لأنها كما قلنا تشهد له أبلغ شهادة ليس في أذان الناس بقدر ما في قلوبهم. لذلك صح القول: «من قبل شهادته (أي آمن بالقول والعمل) فقد ختم أن الله صادق» (يو33:3)
وهذا عجيب جداً وجدير بنا أن نلتفت إليه, فإيماننا بالمسيح هو بعينه تصديق الله, بمعنى أنه يمجد الله أيضاً: «هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه، من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهإدة التي قد شهد بها الله عن ابنه.» (ايو 9:5-10)
هنا أيضأ جدير بنا أن نلتفت إلى قوة الكلام، فالذي يؤمن بابن الله يصبح وله شهادة في قلبه مدموغة بصدق الله ولا يعود في حاجة أن يطلب مزيداً من شهادة أو مزيداً من تأكيد. فالإيمان بالمسيح يحمل تأكيده فيه لأنه هو شهادة صدق الله. وهل ممكن أن يكون فوق شهادة صدق الله شهادة تصديق أيضاً؟
والمسيح يؤكد لنا ذلك بقوة وفي سر، لكل من يفتح قلبه ليفهم: «أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لى بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته (مشيئة الله) يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي. من يتكلم (ويعمل) من نفسه يطلب مجد نفسه وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم.» (يو16:7-18)
«الأعمال التي أعطاني الآب لأُكملها»:
+ «الأعمال التي أعطاني الآب.» (يو36:5) القديس يوحنا يختص بالتشديد عل «العطاء» في علاقة الآب بالابن.
+ «الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. « (يو35:3)
+ «يسوع وهو عالم أن الآب قه دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضى..» (يو3:13)
+ «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو22:5)
+ «وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان.» (يو 27:5)
+ «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته.» (يو 26:5)
+ «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني، أن كل ما أعطاني (المختارون) لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير.» (يو39:6)
+ «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته. (يو2:17)
+ «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. (يو4:17)
+ «أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم. كانوا لك، وأعطيتهم لى .» (يو6:17)
+ «كنت أحفظهم في اسمك الذين أعطيتني.» (يو12:17)
+ «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.» (يو24:17)
+ «الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم.» (يو49:12)
لكي نفهم مستوى فعل العطاء بين الآب والابن يلزم أن نفهم أن العطاء من الآب إلى الابن هو بالأساس للاستعلان ثم للتكميل.
فعمل الآب يعطيه الآب للابن، ليخرجه إلى حيز الوجود. لذلك فعمل الابن هو استعلان بالفكر والفعل لنفس عمل الآب على مستوى التنفيذ. فكل شيء وكل عمل وكل مشيئة هي عند الآب غير منظورة, والآب يعطيها للابن ليظهرها، أو يعطي الابن أن يظهرها ويعلنها على مستوى الفعل والواقع المنظور.
لذلك، فالأعمال عند الآب والابن هي واحدة، غير منظورة عند الآب ومنظورة بالابن. من هذا نفهم أن «العطاء» في الله من الآب للابن لا يفيد الأخذ بالنسبة للابن بمفهومه السالبي، كما لا يفيد التكليف بنوع الأمر من الأعلى للأقل بل هو للتكميل فالابن يكمل عمل الآب.
واضح هنا الهدف من إعطاء الآب الأعمال للابن، حيث كلمة «يكملها» تفيد التكميل حتى النهاية أو حتى الكمال. إذن، فليس مجرد التكميل ولا مجرد النهاية، بل المعنى يتضمن بلوغ النهاية الحقيقية, فالعمل ليس للتكميل بل للكمال: أي يكملها كمالاً ولس تكميلاً. وهذا الأسلوب العجيب الذي اختص به القديس يوحنا يجعلنا نرى الأعمال التي يعملها الابن دائماً في مستوى «الكمال المسيحي»: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته (كمالاً) (يو 4:17)
+ «أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين (كمالاً) إلى واحد.» (يو 23:17)
+ «بعد هذا رأى يسوع أن كل شىء قد كمل (كمالاً)، فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان.» (يو28:19)
ويشترك القديس بولس في سفر العبرانيين في هذا الأسلوب من جهة الكمال المسيحي: «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالألام: (عب10:2). هنا يرتفع مفهوم الآلام إلى مستوى بلوغ الكمال.
+ «واذ كمل, صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي.» (عب 9:5)
المسيح ينتقل من شهادة الأعمال التي يعملها، وهي نفسها أعمال الآب، إلى شهادة الآب نفسه بصورة مباشرة: «لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني» (يو16:8). وهو يعود ويكرر ذلك في نفس الأصحاح بقوله: «الذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه» (يو29:8). لذلك فمن المستحيل أن نتصور الابن وحده بدون الآب بأي حال من الأحوال.
لذلك حينما يشهد الابن لنفسه، تكون شهادة الآب مع شهادته حتماً: «أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لى الآب الذي أرسلني» (يو18:8). هكذا تأتي شهادة الآب في الأصحاح الثامن في صيغة الفعل المضارم الدائم.
أما شهادة الآب في الآية التي نحن بصددها فقد جاءت بالفعل الماضي (37:5)، وهي الشهادة الذي شهد بها الله على فم الأنبياء كما جاءت في الأسفار المقدسة، والتي انتهت بشهادة المعمدان، والتي على أساسها ذكر المسيح «كلمة الله», في الأسفار, موبخاً اليهود أنهم لم يثبتوا فيها: «وليست لكم كلمته ثابتة فيكم» (يو38:5)، كذلك عاد فذكر الأسفار بوضوح في الأصحاح العاشر قائلاً إنها تشهد له (35:10).
«لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته. وليست لكم كلمته ثابتة فيكم, لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به»: المسيح يبدأ هنا يستعلن ذاته على أنه هو هو صوت الآب وهيئته, وكلمته أيضاً, ولكن ليس بالعيان بل بالإيمان؛ ليس برؤية العين وسماع الأذن التي انحبست في الماديات، وإما بالعين الروحية التي يمكن أن ترى الله في المسيح، والأذن الروحية المفتوحة على صوت الله في المسيح الذي هو الوعي المسيحي. فاليهود إذ رفضوا المسيح، رفضوا صوت الله, وانحجب عنهم الله واختفى من محيط حياتهم لما عجزوا أن يتحققوا من المسيح. أما كلمته, التي بثها في الأ سفار, فضاعت من متناول إدراكهم .
المسيح يوضح هنا أن قبول «إرسالية المسيح» هو بعينه الانفتاح على صوت الله وكلمة الله وهيأته, وإرسالية المسيح مثبتة وواضحة في الأسفار المقدمة، والمسيح هو نفسه كلمة الله في الأسفار. فلو كانوا أخلصوا للأسفار المقدسة وثبتوا في كلمة الله، لكان من السهل عليهم أن يؤمنوا بالمسيح. والتأكيد هنا على الشهادة, شهادة الله للمسيح التي أكملها لهم في الأسفار المقدسة.
هنا بلغ المسيح نهاية التوضيح. فاللوم عليهم شديد، لأنهم وهم متخصصون في البحث في الأسفار المقدسة وشرحها وتأويلها، كيف بعد هذه السنين كلها من البحث والتفتيش لم ينفتح ذهنهم على سر الحياة الأبدية الكائنة في الأسفار ليدركوا منها الأمور المختصة بالمسيح؟ فالشهادة التي تقدمها الأسفار للمسيح غزيرة وواضحة: «ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب» (لو27:24). فالأسفار المقدسة هي بحد ذاتها استعلان كامل للمسيح، وهي لم تترك شيئاً من حياته وأعماله وموته وقيامته والخلاص الذي أكمله بالفداء بذبيحة نفسه إلا وتعرضت له في أكثر من موضع. إن شهادة الأسفار للمسيح تكاد تكون صورة كاملة طبق الأصل من حياته وأعماله:
+ «لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مُقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس. وعندنا الكلمة النبوية وهي أُثبتت, التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم, إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصباح في قلوبكم. عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان, بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس.» (2بط17:1-21) ويعود القديس بطرس لموضوع البحث والتفتيش في الكتب وفي الزمان من المسيح هكذا:
+ «الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم, باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم, إذ سبق (بالنبوة) فشهد بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدها.» (ابط10:1-11)
«فتشوا»: في المعنى اليوناني تدل على الفحص الدقيق الشديد المثابر للأسفار، الذي يتجه ناحية التأويل والتفسير الروحي والسري للمدراش. وللتدليل على هذا المعنى نأتي بقول للعلامة الفريسي اليهودي هلليل: [قد اعتاد هلليل القول: مزيد من التوراة، مزيد من النار!! من اقتنى كلمات التوراة، اقتنى لنفسه حياة الدهر الآتي]. ويتمادى العشق القلبي والفكري بكلمات التوراة عندهم حتى قالوا: [إن التعرف على الله في التوراة، حتى ولو لم يكن مصحوباً بتوبة، يجعلها تعطي غفراناً للخطايا]. طبعأ خطأ لأن التعرف على الله يأتي ومعه التوبة.
المسيح لا يقول لهم «فتشوا» لكي يبدأوا ويفتشوا؛ بل هو يراجع عليهم مهنتهم في المعرفة وجهادهم في الدراسة التي كلها باءت بالفشل. لقد ظنوا أن في الحرف, الناموس, حياة فاشتبكوا مع الموت, (كسر السبت), وما قاموا ولا استقاموا. ولم تأت مراجعة الرب لهم من فراغ، لقد واجههم بالعلة القاتلة التي قتلت فيهم حاسة الكلمة والحياة والروح: «ليست لكم محبة الله في أنفسكم» (42:5). وليس هذا فقط بل: «وتقبلون مجدا من بعضكم بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه.»(44:5)
والمسيح يضمن اتهامه حقيقة مخفية غاية في الأهية وهي: إن كونهم قد أخفقوا أن يسمعوا صوت المسيح يعني أنهم أخفقوا في أن يسمعوا صوت الله في الأسفار!! وهذا عودة مرة أخرى للآية (24): «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية». اليهود كانوا يبحثون عن الحياة الآبدية بواسطة تفتيشهم للأسفار. كانوا يجرون وراء صوت الله! وها هوذا صوت الله في فم المسيح؛ ولكنهم لأنهم لم يكونوا على مستوى صوت الله في الأسفار لم يجدوه، فعثروا فى صوت المسيح ولم يتبينوه!
المسيح هنا ينبههم، وكأنه يقول لهم إنتبهوا، شهادة الله لى في الأسفار لا تزال قائمة أمامكم، إنتبهوا، أنا هو صوت الله!! لا تفوتوا الفرصة على أنفسكم، تعالوا لأن عندي حياة لكم!! الحياة الأبدية التي تفتشون عليها في الأسفار هي معي، هي فيّ، هي أنا: «فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا.» (ايو 2:1)
«ولا تريدون...لتكون لكم حياة»: إنها أخطر جريمة يقترفها الإنسان ضد نفسه! حينها يشعر بالدعوة للعودة إلى الله!! ويكون باب الحياة قد فُتح أمامه، والصوت يدعوه مُلحا في الدعوة، مُشفقاً، مُشجعاً، متوسلاً!! فتقف الإرادة لتسد منفذ الحياة، متهللة بعلل كلها الضلال والموت بعينه!!
تتمشى الشهادة مع المجد في إنجيل القديس يوحنا سلباً وإيجاباً. المسيح لا يقبل شهادة من الناس لذلك لا يقبل المجد أيضأ من الناس. لأن كلا الوصفين يتلزم الاعتماد على الإنسان والخضوع لمعايير البشر.
المسيح يطرح هذه الآية أمام اليهود تأميناً لهم حتى يأتوا إليه. فهو لا يطلب المجد لنفسه ولا يقبله من أحد, ولكن يطلبهم هم ليقبلوا إليه. المسيح يكرر بأسلوب آخر ما سبق أن قاله «وأنا لا أقبل شهادة من إنسان. ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم.» (يو 34:5)
تسلل الأفكار يأتي هكذا: المسيح لا يقبل المجد من الناس، لأن مجد المسيح الوحيد هو مع الآب وفيه. ولا أحد يستطيع أن يأتي إلى المسيح إن لم يجتذبه الآب أولاً, اليهود «لا يريدون» أن يأتوا إلى المسيح, لأن الآب لا يجتذبهم، والآب لا يجتذبهم لأنهم ليست لهم محبة الله في أنفسهم. لو كانوا أحبوا الله، لجاءوا إلى المسيح بإرادتهم. لذلك, فرفضهم للمسيح علامة على أنهم في عداوة مح الله. لقد أصابهم المسيح هنا في مقتل!!!
«عرفتكم»: عن اختبار ويقين، المسيح هنا يستعلن مخبآت قلوبهم، المخفية ليس عن عين الله بل عن أعينهم هم!! فالفاقد لمحبة الله لا يعلم أين يسير، لأن الظمة قد أعمت عينيه!!
«في أنفسكم»: المحبة موجودة حتماً في أفواههم وفي محفوظاتهم ونصوص إيمانهم، فهي أول الوصايا. ولكن المسيح فحص أنفسهم فلم يجدها!! واذا غابت المحبة عن القلب, سكنت البغضة: «وأما الأن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. كن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم إنهم أبغضوني بلا سبب.» (يو24:15-25)
تغرب اليهود عن محبة الله أفقدهم القدرة على التعرف على المسيح لما جاء باسم الآب، مع أن «قوة الاسم» عاملة في المسيح، ولها برهانها القوي في تعاليم المسيح وأعماله. كيف تغاضى اليهود عن ذلك؟ هذا في الحقيقة محير لعقولنا للغاية! هذا بالإضافة إلى التحذير المخيف الذي أنذر به الله الذين لا يطيعون المسيا الآتي والمتكلم باسم الله: «ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به «باسمى» أنا أطالبه» (تث19:18). ولكن فقدان حب الله أفقدهم كل ما هو لله، فلم تبق لهم إلا ما هو لأنفسهم. لذلك، إن جاءهم من يتكلم باسم نفسه, رأوا فيه أنفسهم فيقبلونه.
«كيف تقدرون أن تؤمنوا»: الإيمان في أبسط وأقوى صوره هو «تمجيد الله» بالقول والعمل؛ ثمر الإيمان الفاخر هو التسبيح بمجد الله على الدوام. إذا انشغل المؤمن بتمجيد الآخرين ضعفت قوة تسبيح الله من قلبه. والذي انشغل بتسبيح مجد الناس عجز لسانه عن النطق بمجد الله.
فإذا كان انشغال الإنسان بتمجيد الناس هكذا يحط من قدرته على عمل واجبات الإيمان نحو الله، فكم بالحري إذا انشغل إنسان بطلب المجد لنفسه؟
وإذا كان طلب الإنسان المجد لنفسه هكذا يحطه عن أداء واجبات الإيمان من نحو الله، فكم أيضاً يكون لو استهان ولم يطلب ولم يعط المجد الذي للاله الواحد؟ ثم أليست هذه هي العلة التي أنهت على مجد إسرائيل وبني إسرائيل وأتت بالخراب على الهيكل والمدينة والشعب والأمة؟ وأطاحت بالميراث والتراث؟ وعلى الناس أن يختاروا بين مجد الله ومجد أنفسهم!
المسيح يحيل قصية اليهود على محكمة الإختصاص: أي الناموس بقيادة موسى، لأن وظيفة الابن تبقى كمُصالح وشفيع لدى الآب فقط عن الذين يؤمنون به؛ أما من أخطأ في الناموس وتعدى ولم يعط الكرامة لمن له الكرامة، فبالناموس يُدان. وإن كنتم تلاميذ موسى, حسب ما تقولون, فموسى يطالب. والمسيح هنا يوقعهم في تناقض مشين، لأنهم بتصرفهم المعادي للمسيح وتمسكهم بناموس موسى فى آن واحد، يظهرون ويكشفون تناقضهم. فموسى كتب عن المسيح فكيف يعادونه، إن كانوا يؤمنون بموسى وإله موسى حقاً.
موقف خطير للغاية، فالفريسيون يتصرفون كقضاة لناموس موسى، ويطالبون بالتطبيق الحرفي للناموس, الذي بلغوا به إلى المطالبة بموت المسيح بسبب كسر وصية السبت. والميسح واقف على قمة الناموس بصفته النبي الذي سيقيمه الله بدل مومى رأساً برأس: «نبياً» «مثلي», وهذا الذي عليه ينعقد لواء المرحلة الأخرى للناموس، وهي مرحلة الإنتقال من الحرف للروح، بوصايا وتعاليم وذبيحة أعظم، وبكلام أخر يضعه الله في فمه, يبدو كلامه حينئذ وكأنه مخالف للناموس الأول؟ لذلك احتاط الله وسبق وحكم ضد من يتمرد على هذا النبي الأخر، فكل من يسمع ولم يطع, يقع في الحال تحت حكم الله وليس الناموس «أنا أطالبه»: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون!... أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك, وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أُطالبه.» (تث15:18-19)
والأن يقدم المسيح دعواه ضد حفظة الناموس والقوامين على شرفه. وكأني به يقول لهم وأمام موسى: هوذا أنا الذي مثل موسى أتيت بحسب وعد الناموس، وهوذا باسم الله أتكلم وبوصية الله أوصي, فإن سمعتم لي كنتم تلاميذ موسى عن حق، وأبناء الله الحي؛ وإن لم تسمعوا فأنتم تحت الحكم، وموسى والناموس يشهدان ضدكم!
الجزء الثالث: انجيل الاستعلان
استعلان طبيعة المسيح وشخصه
استعلان الآب والابن
ويشمل الأصحاحات من السادس حتى الثاني عشر
الاصحاح السادس: استعلان طبيعة المسيح المحيية وشخصه السماوي.
«أنا هو خبز الحياة» 48:6
+ «هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت» (50:6)
+ «من يأكلني فهو يحيا بي» (57:6)
+ «الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.» (51:6)
الأصحاح السابع: استعلان طبيعة المسيح الروحية (الصخرة)
(أنا هو الماء الحى)
+ «إن عطش أحد فاليقبل إلىّ ويشرب» (37:7)
+ «من آمن بى .... تجرى من بطنة أنهار ماء حى» (38:7)
+ «قال هذا عن الروح الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه» (39:7)
الأصحاح الثامن: أستعلان طبيعة المسيح النورانية المحررة الأزلية.
«أئا هو نورالعالم» (12:8)
+ «من يتبعنى، فلا يمشي في الظمة، بل يكون له نور الحياة.» (12:8)
+ «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (36:8)
+ «من قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن.» (58:8)
الأصحاح التاسع: التطبيق العملي لاستعلان طبيعة المسيح النورانية.
«ما دمت في العالم، فأنا نور العالم» (5:9)
+ «أتؤمن بابن الله ... قد رأيلله والذي يكلمك هو هو.» (35:9-37)
+ «لدينونة أتيت انا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يرون ويعمى الذين يبصرون» (39:9)
الأصحاح العاشر: أ- أستعلان عمل المسيح الفدائي من نحونا
«أنا هو الراعي الصالح» (11:10)
+ «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (11:10)
+ «خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية.» (27:10-28)
ب- استعلان بنوة المسيح ومساوالله للآب
+ «لأني قلت إني ابن الله...» (36:10)
+ «أنا والآب واحد.» (30:10)
الأصحاح الحادي عشر: استعلان قوة المسيح المُحيية والمُقيمة من الموت.
«أنا هو القيامة والحياة» (25:11)
+ «من آمن بي ولو مات فسيحيا.» (25:11)
+ «لعازر هلم خارجاً» (43:11)
الأصحاح الثانى عشر حتى العدد 36: إستعلان ملوكية المسيح ودينونة رئيس هذا العالم
+ «أوصنا مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل.» (13:12)
+ «الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً.» (31:12)
ختام لإنجيل الاستعلان: (37:12-43).
ملخص لإنجيل الاستعلان: (44:12-50).
مكان البشارة: الجليل (1:6-71)
الأصحاح السادس: أستعلان طبيعة المسيح المُحيية وشخصه السماوى
«أنا هو خبز الحياة»
ويشمل هذا الأصحاح:
1- المعجزة التي سيجعلها المسيح آية تعليمه: إشباع الجموع (1:6-15).
2- الأية الملازمة لإشباع الجموع: السير على الماء (16:6-21).
3- حديث الرب في مجمع كفرناحوم عن جسده كخبز الحياة الأبدية، موسى طلب فأرسل الله المن من السماء لإعالة الشعب في البرية، المسيح هو نفسه الخبز الحي الذي نزل من السماء ليأكله الإنسان فيحيا إلى الأبد (21:6-71).
يلزم لنا من بداية هذا الأصحاح حتى نهاية الآنجيل أن ننتبه لما سيعلنه المسيح عن نفسه، فالمعجزات كلها عبارة عن أيات أو إشارات توضح من هو المسيح. فالتركيز ليس على المعجزة ولا حتى على تأثيرها من جهة إيمان الناس، ولكن على ما تشير إليه من جهة من هو المسيح.
لذلك سنواجه في هذا الأصحاح قول المسيح عن نفسه: «أنا هو» والتي تأتي في الأصل كاسم شخصي لله: «أنا الكائن بذاتي»، أي أنها أصلاً تتعلق بطبيعة وكيان الله، وقد استخدمها المسيح بتأكيد وإصرار، وسوف تتكرر في إنجيل يوحنا في مواضع عديدة، وتأتي هنا «أنا هو خبز الحياة».
«هكذا قال الرب في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك فأحفظك وأجعلك عهداً للشعب... قائلاً للأسرى اخرجوا, للذين في الظلام اظهروا. على الطرق يرعون وفي كل الهضاب مرعاهم. لا يجوعون ولا يعطشون ولا يضربهم حر ولا شمس لأن الذي يرحمهم يهديهم وإلى ينايع المياه يوردهم.» (إش8:49-10)
ملاحظات هامة: لاحظ أن المسيح انتقل من الخدمة في أورشليم، وذهب إلى الجليل حيث أجرى هذه المعجزة. وتعتبر هذه الحادثة أنها الوحيدة في خدمة المسيح العامة التي تُذكر في الأربع أناجيل بدون استثناءه قبل زيارة المسيح الأخيرة لأورشليم ليصلب هناك. وهذا مما ينبه فكر القارىء إلى الأهية القصوى لهذه القصة وما سيبني الآنجيل عليها من مبادىء لاهوتية.
القديس يوحنا ينفرد هنا ببعض بيانات هامة في سرد هذه القصة؛ فقبل أن يبدأها، ينبه القارىء أن فصح (البصخة) اليهود كان قريباً. هنا أسلوب القديس يوحنا السرائري أو اللاهوتي يظهر بوضوح لأن «الفصح» بالمفهوم المسيحي هو تقديم جسد المسيح ذبيحة، أي أصل وأساس الإفخارستياء الخبز الذي نكسره كل يوم على المذبح. إذن، فهو يسبق القصة بفتح الأذهان أنه بصدد ربط الخبز المكسور, الذي شكر عليه الرب وبارك وبثه قوة روحية من عنده فأشبع به الخمسة الآلاف من الخمس خبزات, ربطه بالإفخارستيا أي جسد المسيح المكسور لإشباع العالم بالروح للحياة الأبدية. (توجد في سراديب روم رسومات حائطية توضح مائدة إفخارستية وعلييها خمس خبزات وسمكتين إشارة إلى أن معجزة إشباع الجموع أخذتها الكنيسة الاولى على أنها ذات هدف إفخارستي. كذلك وُجد في مدينة هيرابوليس بأسيا الصغرى شاهد عل قبر أبركيوس مكتوب عليه ( ) وهو اسم السمكة باليونانية حيس أوائل الحروف تُقرأ: «يسوع الميسح ابن الله مخلص» ، مح إشارة إلى خبز وكأس الإفخارستيا. )
علماً بأن ربط الخبز الجديد الحي النازل من السماء بالفصح يتوازى مع ربط «الفصح» بنزول «المن» في طقوس الفصح اليهودي, وهذا ما سيركز عليه المسيح في حواره مح اليهود .
كذلك فالرواية في إنجيل يوحنا أكثر توضيحاً من بقية الآناجيل، فهي ذات ملامح حية ودقيقة، تثير بلا أي تحفظ أن الراوي كان واحداً من الموجودين سواء أثناء المعجزة الاولى أي إشباع الجموع، أو الثانية وهي السير على الماء. فهو الوحيد الذي يذكر أنهم جزفوا نحو خمس وعشرين غلوة أو ثلاثين. فتقدير المسافة هنا تقدير شخصي يتوخى الدقة؛ مما يعطي الرواية إحاساً حياً بواقعية واعية وذاكرة حديدية، أو قل هي تذكير من الروح القدس.
كذلك فمن الصعب أن لا نلتفت إلى الغاية التي يهدف إليها القديس يوحنا من ربط معجزة إشباع الجموع من الخبز مح معجزة السير على الماء واختفاء المسيح عن الذين أرادوا أن يجعلوه ملكاً. (كان في التقليد اليهودي عند الربيين أن المسيا سيأتي من البحر, أي ماشياً على الماء. فهنا معجزة سير المسيح على الماء آتيا إلى تلاميذه في الظلام تنبيه من قبل المسيح لأذهان اليهود أنه المسيا دون أن يعلن ذلك)
فهو أولاً بصدد تقديم المسيح في موازنة مح موسى حيث «المن» يترادف مح السير في البحر الأحمر, ليوضح أن عهد الشبع والمسرة المادية المحلية كميراث أرض تفيض لبناً وعسلاً قد انتهى، ونحن بصدد عهد الروح لشبع وسرور الروح للانسان عامة لميراث الحياة الأبدية وفيض الروح القدس. وثانياً, الآنتقال بالفكر اليهودي من انتظار مسيا اليهود المحدود الذي سيعيد المُلك لإسرائيل، ويحرر الأمة ويخلصها من عبودية الرومان، ويعطي المن من السماء، ويحطم الأمم كموسى الجديد؛ إلى حقيقة المسيح الإلهية في العهد الجديد والخلاص العام من الخطية وتحرير الإنسان, كل إنسان, من عبودية الشيطان إلى حرية أولاد الله.
القصة: ظروف المعجزة (1-4) - التحضير للمعجزة (5-10) - إشباع الجموع (11-13) - تأثير المعجزة (14-15).
«بعد هذاء» التي ابتدأ بها القديس يوحنا الأية متصلة بأخر الآية (2)، أي بعد أن أجرى آيات شفاء لأمراض كثيرة في منطقة الجليل, التي اختصها بأكثر وقت من خدمته. بعد هذا عبر في قارب كبير, أي سفينة صيد ذات الحجم الكبير, تتسع ثلاثة عشر شخصاً, هو وتلاميذه. وقد عبر البحيرة من ناحية الغرب، أي من كفزناحوم (عدد24) التي كان يخدم فيها، وهي مقر إقامته مع التلاميذ، متجهين إلى ناحية الشمال الشرقي عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية.
بحر طيرية: لا يُذكر اسم بحر الجليل بهذا الاسم إلا في إنجيل القديس يوحنا, وهو الاسم الحكومي أو الرسمي لبحر الجليل بعد إقامة طبرية العاصمة (الغير مقدسة) التي أقامها هيرودس رئيس ربع الجليل شرق بحر الجليل وذلك سنة 26م.
والقديس لوقا الآنجيلي يذكر اسم المدينة التي ذهب إليها الرب هو وتلاميذه (طلباً للراحة) أنها بيت صيدا شرقاً. وهي ليست بيت صيدا التي في غرب البحيرة بل بيت صيدا أخرى منسوبة ليولياس الذي أقامها باسمه، «فأخذهم وانصرف منفرداً إلى موضع خلاء لمدينة تسمى بيت صيدا.» (لو10:9)
وهذه المدينة تُسمى الآن «التل». وهي في أقص الشمال الشرقي للبحيرة, وتقع في منطقة الجولان. أما مكان عمل المعجزة فيبعد عنها بحوالى ميل واحد (ويسمى الآن «البطيحة»)، وبه عشب أخضر للرعي يزدهر وقت الفصح فعلاً. أما المسافة, على الأرض, بين هذا المكان الذي سعى إليه الرب للراحة وبين كفرناحوم التي أتت منها الجموع جرياً وراء الرب فهي حوالى تسعة أميال، أي نحو ساعتين مشياً على الأقدام، وكانت الجموع في غاية الحماس والفرح بسبب الآيات الكثيرة التي صنعها الرب، وكان معظمها لشفاء مرضاهم.