المسيح هنا وحده على التل مع تلاميذه والشعب كله تحت التل يرى ويسمع. القديس يوحنا يود أن يدخلنا معه في هذا المنظر ليتحضر في ذهننا نفس منظر موس النبي على الجبل، بعد أن أكمل الفصح الأول ومسح عار العبودية عن الشعب المذلول، وعبر إلى سيناء يتنسم رائحة الحرية، وكان الشعب كله واقفاً ليسمع ويرى ويرتعب: «وقال لموسى اصعد إلى الرب أنت وهرون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، واسجدوا من بعيد, ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون، وأما الشعب فلا يصعد معه.» (خر1:24-2)
وعلى القارىء أن يتذكر دائمأ أن حلول عيد الفصح عند اليهود كان يوقظ فيهم مشاعر الحرية التي فقدوها تحت عبودية الرومان، وكانوا يتحرقون شوقاً إلى المخلص الذي تكلم عنه موسى ليعيد إليهم الحرية ويخلصهم من نير الرومان. فكانت حساسيتهم مرهفة للغاية، يصورها هنا القديس يوحنا أروع تصوير بكلمات مختصرة للغاية، نتمنى أن لا تفوت على مشاعر القارىء. إذ أن كل كلمة تحمل كما من المشاعر يصعب سردها. ولكن إذا وضعنا الكلمات الأسامية بجوار بعضها حينئذ ينكشف سر الآنجيل:
«صعد يسوع على الجبل» _ «عيد الفصح» _ «أكلوا وشبعوا» _ «هذا هو بالحقيقة النبي» _ «علم يسوع أنهم مزمعوم أن يختطفوه ليجعلوه ملكاً».
إذن، فالآنجيل يضعنا داخل مشهد من المشاهد الحية التي عاشها الرب وسط شعب أخفق في الرؤيا، إذ انتهى إلى قرار حاسم أن المسيح نبي، وكان عليه حتماً أن يصححح ويكشف عن حقيقة نفسه أنه ليس موسى جديداً بل هو هو الرب الإله، وأنه ليس موسى الذي عليه أن يذبح الفصح للشعب بل هو هو الفصح نفسه، الخروف المذبوح الذي يتحتم أن يؤكل لحمه، ولكن لأنه هو حمل الله الذي دمه بروح أزلى، فكان, بخلاف الفصح الأرضي, يلزم أن يُشرب دمه أيضاً!!
وإن كان فصح مصر الأول عهد خلاص من عبودية مصر، فالمسيح فصح خلاص أبدي لحياة أبدية.
فالرب صعد إلى الجبل وقلبه مملوء بهذه الرؤيا, ألم يسمع المسيح بأذنيه ما قاله يوحنا المعمدان عه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1)؟ ثم ألم يضع المسيح في نفسه أنه الراعي الصالح الذي يضع نفسه عن الخراف؟ والآن هوذا الخراف اجتمعت حوله على سطح التل كما يصفها إنجيل القديس مرقس (34:6): «فلما خرج يسوع، رأى جمعاً كثيراً, فتحنن عليهم, إذ كانوا كخراف لا راعي لها فابتدأ يعلمهم كثيراً». وبدأ الرب يقسم الخبز ويعطي وكأنه يقتطع من لحمه ودمه ليطعم الخراف الجائعة. أكل الشعب وشبع ولم يدر ماذا أكل، إذ حسب اليهود أنهم أكلوا خبز الأرض, ولكن الرب وحده كان يعلم ماذا أعطى وماذا سيعطي.
القديس يوحنا يهتم هنا بحوار المسيح مع فيلبس، ومنذ بداية الآنجيل والقديس يوحنا يركز على شخصية فيلبس، فهو التلميذ الذي لم يأتى إلى المسيح، بل المسيح هو الذي ذهب إليه في البداية ليدعوه (يو43:1), وهو الذي في النهاية بعد زمان طويل مع المسيح هذه مدته، ودون جميع التلاميذ، يسأل الرب: «يا سيد أرنا الآب» مما أدهش الرب فرد عليه لائماً: «قال له يسوع أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس» (يو8:14-9). وهنا وفي هذا الأصحاح، بادره الرب بالسؤال: «من أين نبتاع خبزاً ليأكل هذا الجمع؟», فلم يكتف فيلبس بصعوبة السؤال من جهة «من أين نبتاع الخبز»، إذ أضاف إلى السؤال صعوبة أخرى هي الأئم عنده إذ «بكم يتكلف هذا الخبز». الرب هنا يريد أن يكشف وضع فيلبس بالنسبة للرسالة.
فيلبتس يتبع الرب، ولكن بحساباته الخاصة وفي أضيق حدود الإيمان الشكلي، الرب اختاره لمميزات خاصة في أخلاقه المستقيمة وطيبة قلبه وقدرته في اتباع الرب, ولكن لم تكن له حرارة الإيمان بالرب، وبطولة المغامرة لتحقيق متطلبات الإيمان الحي؛ وكان على الرب أن يكشف له، بل يكشف لنا، بل يكشفنا معه، أن هذا الإيمان الهزيل, بل الميت, لا يوافق الإيمان المسيحي الحي القائم على قدرة الرب الفائقة. وكأن معجزة إشباع الخمسة الألاف من خمس خبزات، مقصودة قصداً لتحطيم حسابات الأرقام والتحفظات التي يضعها العقل القاصر، والحكمة الإنسانية الكاذبة، في طريق اتباع الرب إلى الصليب, ثم إلى المجد والحياة الأبدية. فإما الحسابات والأرقام مع العقل، ومعها الشح والعوز إن في الأخذ أو العطاء؛ وإما الإيمان بالمستحيل مع الله ومعه الشبع الفائض والسخاء في التوزيع والحياة الأفضل.
وليس جزافاً أن يسترعي انتباه القديس يوحنا إهتمام المسيح الشديد بفيلبس لامتحان قلبه قبل البدء بالمعجزة. فالمقصود هو القارىء والكنيسة كلها، لكي يمتحن الإنسان قبل البدء بالمعجزة فيكون على مستوى الإيمان بالمسيح كرب وإله، وهو يقرأ ويتأمل ليحصل على نصيبه هو أيضاً من شبع الحياة، بل ومن الفائض أيضاً.
ولينتبه القارىء جداً أن المسيح جاء، ليس ليسد الأعواز، بل ليملأ ويفيض، فهو القائل: «... أتيت لتكون لهم حياة ويكون لهم أفضل» (يو10:10)، حيث الترجمة «أفضل» هنا قاصرة جدا، لأن معناها الحرفي بحسب اللغة اليونانية: حياة الكثرة والفيض والسمو اللانهائي, وهذه الأوصاف تليق فقط بالحياة الأبدية. فنحن مدعوون، ليس فقط لأن نؤمن به كرب وإله في ذاته، بل وأن نؤمن أن في يديه شبع سرور: «تعرفني سبل الحياة، أمامك شبع سرور، وفي يمينك نعم إلى الأبد» (مز11:16). فمن أهم وأعظم أوصاف الحياة الأبدية التي يعطيها الله لمتقيه، الفيض في الحب والسرور والسلام والشبع حتى الملء في الأخذ والعطاء. ومن أوصاف الله الملازمة له أنه «غني في المراحم» (أف4:2)، بل وغني جداً.
«فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعاً كثيراً مقبل إليه, فقال لفيلبس: من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء. وانما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل»: لقد كانت صفة المسيح الاولى مع تلاميذه أنه «المعلم»، ولقد كانت وسيلة الرب للارتقاء بإيمان تلاميذه هي التلقين والتعليم والإمتحان. فبالرغم من أنه كان يعلم ما هو مزمع أن يفعله، ولكنه وضع فيلبس أمام السؤال الحرج للامتحان: «من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء»؟ وتركه يقدر دون أن يوعز إليه بالحل. ولقد اكتشف فيلبس بعد أن أكمل الرب المعجزة مقدار القصور المريع الذي وقع فيه، إذ تحطمت كل حساباته. وهذه هي نفسها الإمتحانات التي يضعها المسيح أمام كنيسته وتلاميذه كل يوم، ولا تزال مشكلة الحصول على «المئتي دينار» هي المشكلة الوحيدة أمام حسابات عدم الإيمان، لأنه بحسب أصول حسابات عدم الايمان يكون الوضع الإقتصادي والمادي هو الحل الأساسي لانتعاش المشاريع والذي ينتهي بها دائماً إلى الإفلاس الروحي. فنحن الآن نقرأ على كل مؤسسة الإعلان الحزين بمقتض حسابات عدم الإيمان «مطلوب مئتي دينار لإشباع الجموع» ويجمع مليون جنيه, ولا تزال الجموع جائعة للحق.
هنا السؤال الساخر الذي على فم كل إنسان ناقد: وهل السماء تمطر ذهباً؟ وهو نفس القول الساخر الذي وجهه الشيطان للمسيح، والذي واجهه الرب وهو في أشد محنة الجوع الحقيقي: «قل أن تصير هذه الحجارة خبزاً» (مت3:4). هذا في الواقع معناه الروحي هو محاولة تقييد عمل الله بفرض حلولنا العاجزة بحسب أصول حسابات عدم الإيمان. وعليه, يتحتم أن ندرك أن الإيمان وحده هو الذي يخلق الحلول لأصعب المشاكل, بل يخلق المواعيد: «بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مُجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده.» (عب17:11)
مرة أخرى يلقي علينا الآنجيل درساً ثميناً في إحترام الإمكانيات الضعيفة والمواهب الصغيرة. من يستطيع أن يصدق أن هذا الغلام الصغير المجهول الهوية يتدخل تدخلاً مباشراً في تكميل معجزة كبيرة بهذا الحد؟ لم تكن تدري أمه حينما دست في مخلاته هذه الأرغفة الشعير الخمسة والسمكتين على عجل, حينما ألح عليها للسماح له باللحاق بالمعلم مع الأهل والصحاب؛ ويا لفرحة الأم حينها أتاها ولدها في المساء يجري ويطفر ويلهث يقص عليها، وهو مقطوع الآنقاس, قصة أرغفتها الخمسة والسمكتين، التي أمسكها الرب بيديه, وباركها فأشبعت آلاف الرجال والنساء والأطفال، والأم تسمع وهي ذاهلة لا تريد أن تصدق, ومن يصدق أن مشاعر الأمومة الحانية نحو حبيبها الصغير تتحول هكذا إلى بركات فائضة في يدي الرب خلال «خمسة أرغفة شعير وسمكتين».
خبز الشعير أرخص من خبز القمح وهو غذاء الفقراء، وهذا تماد في إظهار ضعف عطايانا التي يمكن أن يباركها الله لتصير لملء الشبع والغنى، أما السمكتان فبحسب تحقيقات علماء الكتاب المقدس, كانتا مملحتين، وهي عادة أهل السواحل في الإحتفاظ بفائض أسماكهم. وقد أتت الكلمة اليوناية ( ) لتفيد أنها من نوع الأسماك الصغيرة التي نسميها في اللغة الدارجة «بساريا».
«ولكن مأ هذا لمثل هؤلاء»:
هذه مقارنة حسابات تؤدي إلى الطرق المسدودة والآبواب المغلقة. وهي مقارنة أعوازنا واحتياجاتنا بالنسبة لأرصدة إيماننا، وهي دائمأ بالناقص، والفشل مصيرها المحتم. ولكن كم مئات وألوف الأشخاص اعتمدوا على حسابات الخمس الخبزات والسمكتين، وهي حسابات الإيمان الذي يصرف من مخازن الله السرية المملوءة دائمأ حتى الفيض, فأقاموا مئات وألوف من مشاريع البر للفقراء والأيتام والمعوزين، قامت ونجحت وآوت الملايين على مر العصور وكان دليلها الإقتصادي الوحيد الخمس الخبزات والسمكتين.
إذن، فلتذكر على الدوام هذه المعادلة الإيمانية أن خمسة فقط مضروبة في الإيمان تساوي خسة آلاف زائد اثنتي عشرة قفة.
يلاحظ القارىء هنا أن الرب أمر التلاميذ أن ينظموا الجموع إعداداً للأكل. فمن الناحية العامة قال لهم أن «اجعلوا الناس»، وهنا تُستخدم كلمة ( ) لتفيد الرجال والنساء والأطفال عامة. ثم أمر أن يجلس الرجال بترتيب، وهنا تستخدم كلمة ( ) وهي تعني الرجال فقط ، حيث تذكر الآناجيل الأخرى أن الرب أمر أن يكونوا مجموعات، مئة مئة وخمسين خمسين: « فأمرهم أن يجعلوا الجميع يتكئون رفاقا رفاقا على العشب الأخضر. فاتكأوا صفوفا صفوفا، مئة مئة وخمسين خمسين.» (مر39:6-40)
يلاحظ أن النساء والأطفال لم يُحسبوا ضمن العدد وذلك حسب عادة اليهود, لأنهم يستثنون النساء والأولاد من التعداد, وكذلك لأن عددهم يبدو أنه كان صغيراً.
كما يلاحظ القارىء وضوح فكرة الاهتمام بالنظام والترتيب «رفاقا رفاقا» والتي تأتي باليونانية ( )، ثم الصفوف تتكون من مجموعات مجموعات ( ) وهذا الوصف لا يأتي إلا في وصف الحدائق بنظام مجموعات الزهور كل مجموعة معاً. فانظر أيها القارىء وتأمل. وسبق أن نبهنا أن ظهور العشب الأخضر يناسب بالفعل زمن قرب الفصح وهو نهاية أشهر الربيع (أبريل) بعد الشهور المطيرة، وكأن الآناجيل اتفقت معا لتقدم لنا صورة مبدعة نمقها روح المسيح الجمالية، مما أبهرت عيون التلاميذ، وجعلت هذه المعجزة مرسومة بدقة في أذهانهم.
كما أن الآناجيل ذكرت العشب الأخضر بتوضيح مما يزيد الرواية واقعية, أن الراوي شاهد عيان، وهو يستحضر لأذهاننا وصف المزمور للمسيح الراعي للخراف: «الرب راعي فلا يعوزني شيء ، في مراع خضر يربضني إلى مياه الراحة يوردني.» (مز1:23-2)
وفي الحقيقة نستطيع أن نستشف من وصف القديس. يوحنا وبقية الآناجيل صورة ما كان يجري في قلب المسيح. فالمشهد يعود بنا إلى سفر الخروج ويستحضر إلى ذهننا منظر شعب إسرائيل بعد أن رأى الله على الجبل، كيف جلسوا على السفح وأكلوا وشربوا في حضرة الله: «ثم صعد موس ... ورأوا إله إسرائيل (بحسب ما تراءى لهم) وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا» (خر9:2-11)
فهذا الذي حدث في سفر الخروج ما هو إلا نبوة إفخارستية من الدرجة الاولى، حققها المسيح على المستوى السري الملموس، حيث اجتمع فيها للانسان رؤية الله والاكل والشرب في حضرته, وهو نفس ما يصرخ به الشماس على المذبح في بداية القداس الإحتفالي: (أيها الإكليروس وكل الشعب، بطلبة وشكر، بهدوء وسكوت, ارفعوا أعينكم إلى ناحية المشرق لتنظروا المذبح, وجسد ودم عمانوئيل إلهنا موضوعين عليه ...)
وأخيراً أخذ يسوع الخمس أرغفة على يديه وشكر. وهكذا بدأت قصة البركة العظمى في حياة الإنسان. وهنا تمت عملية التحول السري العجيب؛ فالمادة الميتة أخصبت بروح الحياة، فتحول المحدود إلى اللامحدود، والقليل إلى الكثير الفائض بلا حدود، والخبز البائد إلى عينة لخبز حي يحمل سر الله ، يتكاثر دون أن يخضع لأية معادلة أو نسبة يعقلها أو يفهمها الإنسان. لقد تحولت كل لقمة في يد الرب إلى نعمة, يأكلها الجاهل فيحس بالشبع ولا يعرف من أين أتاه الشبع فيطلب المزيد, ويأكلها المؤمن فتنفتح عيناه ويمسك باليد التي ألقت في قلبه بالنور. هي خبزة شعير في فم الجائع المتلهف لملء البطن، وهي جوهرة ثمينة عليها ختم الآب في عين الجائع لروح الله. هي لقمة سائغة لذيذة في فم الأحمق، وهي نفسها للحكيم جمرة نار تحرق الخطية وتزيل العار عن الذي تنجست شفتاه. هي لقمة لسد جوع الجسد اكلها الجليليون فشبعوا, وهي السر الذي تشتهي الملائكة أن تطلع عليه (ابط12:1)، بل والآنبياء والملوك اشتهوا مجرد أن يروها فلم يروا (لو24:10).
ولينتبه القارىء، فحينما يقول الآنجيل إن المسيح «شكر», أي شكر الآب, فهو يشرك الآب في البركة ويثبت أنه «خبز» بحسب مشيئة الآب. وهذا هو «ختم الآب». ولهذا أيضا لا يتم فعل السر في الإفخارستيا إلا بالدعاء باسم الآب والابن والروح القدس .
وتأتي كلمة «شكر» بلفظها السرائري (من إفخارستية) في إنجييل القديس يوحنا فقط، وهي الفعل المسيحي المقابل للفظ اليهودي ( ) أى «بارك»، الذي استخدم في الآناجيل الأخرى.
ولكن يلاحظ القراء الذين يشتغلون بمفهومات إجراء سر الإفخارستيا، أن بعد الشكر يلزم فعل «كسر»، وهي اللفظة الملازمة دائمأ وحتما لفعل الإفخارستيا. «وبارك وقسم» كما جاءت في الآناجيل الأخرى، «وباركه وقسمه، وأعطاه ... » ( القداس الإلهي) .
ولكن القديس يوحنا يلتزم بمفهوم عجيب حقا بالنسبة للفصح الحقيقي الذي ذُبح من أجلنا، أي جسد يسوع على الصليب. إذ اهتم القديس يوحنا جداً أن يذكر أن ذبيحة المسيح العظمى لم يُكسر لها عظم. «وأما يسووع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات .. لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه» (يو33:19-36). لذلك، وبالرغم من أن الآناجيل الأخرى اهتمت أن تذكر الفعل الإفخارستي الملازم للبركة وهو «كسر» الخبز، توضيحاً أن الرب أجرى فعلاً إفخارستياً للخمس خبزات؛ نجد القديس يوحنا, وبعكس المألوف, لا يذكر الكسر بالمرة إمعاناً منه لمطابقة اكثر حرفية بين الفعل الإفخارستي الذي أجراه على الخمس خبزات وبين الفعل الإفخارستي الذي تم في جسده الذي لم يُكسر على الصليب!
فانظر أيها القارىء وتأمل في قدرة القديس يوحنا للربط المذهل بين الآية التي أجراها المسيح وبين تطبيقها الذي تم على الصليب. وكأنه يود أن يقول إن الخبز الحي النازل من السماء، الذي هو جسده، الذي قدمه على الصليب عن حياة العالم كله, لا يتجزأ ولا يكسر بل يُعطى ككل: «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6). وهذا المفهوم يلزمنا نحن أيضاً، فنحن حينما نتناول من سر الذبيحة المقدمة على المذبح, إنما نتناول، ليس كسرة خبز، بل المسيح كله. كما نلاحظ أن كلمة «شكر» و «وزع» على التلاميذ تأتي بنفس الوضع الإفخارستي كما جاء في سر العشاء الأخير.
يلاحظ في التفسير اللفظي أن كلمة «شبعوا» تُرجمت هكذا إلى العربية خطأ، لأن أصلها اليوناني ( ) معناه «امتلأوا». وهذا الفعل يأتي ليس فقط لكي يفيد الشبع من الجوع بل ليفيد «الملء», حيث يمتد المعنى عند القديس يوحنا إلى الناحية الكلية أي الملء النفسي والروحي بالراحة والسرور. أما كلمة «الشبع» من الجوع فقط فقد أوردها القديس يوحنا في كلام المسيح للتعبير العكسي عند الذين لم يدركوا السر: الحق الحق أقول كم أنتم تطلبوني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم» (يو26:6)؛ حيث «شبعتم» باللغة اليونانية ( ). والمعنى المقصود واضح، أن الرب أعطاهم أن يذوقوا خبز الإفخارستيا ليمتلئوا حياة «ونعمة» وسروراً وتفتح أعينهم فيدركوا سر الرب، ولكنهم أغفلوا ما ذاقوه من نعمة وسعادة وجروا وراء شهوة بطونهم وجهالة عقولهم وطلبوا منه بعد كل ذلك أن يصنع لهم آية، كنن يُحدر لهم مناً من السماء مثل موسى ليأكلوا ويشبعوا مجاناً. هذا هو أسلوب القديس يوحنا في استخدام الألفاظ للتعبير عن المعاني العميقة التي تحتاج إلى تعمق وفحص دقيق, أما الآناجيل الأخرى فاكتفت بكلمة «الشبع» بمعنى ملء البطن فقط (مت20:14 ومر42:6 ولو17:9).
ومما يزيد هذا التفسير يقيناً، أنه بالرغم من أن إنجيل القديس مرقس ذكر أن التلاميذ جمعوا من الكسر اثتي عشرة قفة «ملوءة» حيث جاءت كلمة «مملوءة» باللفظ اليوناني ( )، نجد أن القديس يوحنا لم يشأ أن يذكر كلمة «مملوءة» بالنسبة للقفف، فكلمة «الملء» كانت عند القديس يوحنا ذات عمق كبير ولم يستخدمها قبل ذلك إلا في معنى «ملء المسيح»، «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة.» (يو16:1)
وفي وصف الإفخارستيا في «الديداخي» تأتي أيضا كلمة «الملء» بالنبسة للأكل من الإفخارستيا هكذا:(فإذا امتلأتم (أي شبعتم) أعطوا شكراً ...)
وأما كلمة «الكسر» فلم ترد في كتب العهد الجديد إلا في قصة إشباع الجموع في الأربعة الآنا جيل. وفي العهد القديم أتت مرتين ولكن ليس بنفس المعنى إذ أتت في صيغة «فتات» «لأجل حفنة شعير ولأجل فتات من الخبز» (حز19:13)، وكذلك في سفر القضاة جاءت بالمفرد: «أسند قلبك بكسرة خبز» (قض5:19). وقد دخلت بصيغة الفعل في طقس الإفخارستيا بصورة ملازمة لـ «بارك وكسر»، وعند القديس بولس: «الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح» (1كو16:10)
أما كلمة «قفة» فتأتي في اليونانية بنفس اللفظ ويظن أنها كانت تستخدم مع الجموع لملء العليقة لإطعام الدواب التي كان يركبها الناس. أما كلمة «سل» التي جاءت في نفس الوضع بالنسبة لمعجزة إشباع الآربعة الآلاف فجاءت باليونانية ( )، وقد وردت هي نفسها في سفر الأعمال (25:9)، وتحت كلمة «زنبيل» (2كو33:11)، وكانت تتسع رجلا جالسا فيها. ومن هذا يتضح لنا حجم الققة في ذلك الوقت.
ويلاحظ أن إنجيل القديس يوحنا هو الوحيد الذي ذكر أن الرب بنفسه هو الذي أمر التلاميذ أن يجمعوا الكسر الفاصلة, وأضاف إضافة ذات قيمة إفخارستية عالية للغاية حينما ذكر السبب: «لكي لا يضيع شي».
وهنا يلزم أن ننتبه أن المسيح ركز على الخبز وحده دون السمك، لكي تُجمع كل كسرة، ثم أردف أن ذلك لكي «لا يضيع منه شيء». هذه الجملة ذاتها نسمعها من فم الرب بعد ذلك على مستوى النفوس المؤمنة: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا يتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير» (يو39:6). إذن، فقول الرب بالنسبة للكسر الفاضلة «لكي لا يضيع ممها شيء»» إشارة بليغة أن الخبز الذي باركه «إفخاريستياس» قد تحول إلى خبز إفخارستي مقدس، فلا ينبغي أن يتلف منه شيء، وهو يرمي من بعيد لتصوير المؤمينن الآكلين من جسده. علما بأن كلمة «لا يضيع» وكلمة «لا يتلف» المترادفتين في اللغة العربية، جاءتا في الأصل اليوناني بتركيب واحد بمعنى «ينحل». وفي شرح المسيح لمعنى الخبز الحي ذكر الخبز الذي يتلف أو يضيع بكلمة «البائد» وهي نفس الكلمة اليونانية ( )
كذلك فإن اهتمام الرب بأن يجمع التلاميذ الكسر الفاضلة وإعطاء السبب لذلك لكي «لا يضيع منه شيء» إشارة أخرى ذات هدف بعيد وعميق. فهو يقارن بين الخبز الإفخارستي، أي «خبز الشكر» السري في العهد الجديد، وبين «المن» الذي أكله الشعب في البرية بالضيق، والذي كان لا يفضل منه شيء، إذ كان على قدر حاجتهم اليومية فقط: «ولما كالوا بالعمر (عشر القفة) لم يُفضل المُكثر، والمقلل لم ينقص. كانوا قد التقطوا كل واحد على حسب أكله» (خر18:16). كذلك, فكان إذا طمع أحد في إبقاء شيء منه، فإنه كان يتلف وينتن: «لكنهم لم يسمعوا لموسى, بل أبقى منه أناس إلى الصباح فتولد فيه دود وأنتن فسخط عليهم موسى.» (خر20:16)
وواضح الآن من قول الرب باهتمام أن تُجمع الكسر الغاضلة لكي لا يضيع منها شيء, أن هذا في الحقيقة إشارة إلى أن هذا الخبز الإفخارستي المقدس ليس خبز العوز والحاجة فقط بل خبز الزيادة والفضلة والكثرة: «أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل (زيادة)» (يو10:10)، كما هو أيضاً إشارة إلى أنه ليس للضياع والتلف، بل هو خبز ينبغي أن يبقى، بمعنى أن الذي يأكله بعين مفتوحة وقلب مؤمن لا تضيع حياته ولا تتلف بل تبقى وتحيا. وهذه المعاني العميقة سيعود الرب و يشرحها بدقة على مستوى «الخبز الحي» النازل من السماء الذي يعطيه هو، أي جسده، في مقارنة واضحة مع المن الذي أكله آباؤهم وماتوا. ولكن ما أشهى المعاني المستترة في هذا الآنجيل العجيب!!!
ويلاحظ القارىء أن من هذه الإشارة التي اهتم بها الرب: أن يجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع منها شيء، أخذت الكنيسة منذ البدء نفس هذا الاهتمام وطبقته على كسر الخبز السري, أي جسد الرب في سر الإفخارستيا، حيث يجتهد الكاهن والشماس معاً أن يجمعوا الفتات المتبقية في الصينية بعد توزيع الجسد ويلتقطها الكاهن باهتمام حتى لا يضيع منها شيء.
كما أن جمع الكسر المتفرقة معاً في اثنتي عشرة قفة لا يزال يحمل معنى روحيأ متسعاً. فقد اتحذته الكنيسة في طقس الإفخارستيا ليشير إلى جمع شمل المتفرقين من أبناء الله، بل ورفعت الكنيسة في الطقس الإفخارستي دعاءها الرسمي على هذا المعنى بالذات، وذلك في ترتيب طقس ليتورجية «الديداخي»، التي يُظن أنها من وضع الرسل أنفهسم [أما بخصوص «المكسور» ( أي الخبز المكسور) فقولوا هكذا: نشكرك يا أبانا ... كما كان هذا «المكسور» (أي الخبز المكسور) مبعثراً فوق التلال (قمحاً) ثم جُمع معآ وصار واحداً، هكذا اجعل كنيستك تجتمع معاً من أقاصي الأرض إلى ملكوتك]
ومع الفحصر والتدقيق، نجد أن نفس الكلمات بلفظها اليوناني التي جاءت هنا في هذه الإفغارستيا، جاءت في معجزة كسر الخمس خبزات وجكع الكسر التي فضلت. وهذه الكلمات هي «كسر الخبز»، و«شكر»، «على الجبل»، «اجمعوا» و«تجمعت معاً». فإذا أضفنا إليها ما ذكر في إنجيل القديس يوحنا من محاولة جعل المسيح ملكاً بعد معجزة الخمس خبزات مباشرة، تكون قد تطابقت أيضا كلمة « ملكوتك» الواردة في الديداخي مع «المسيح كملك».
و بالنهاية نستطيع أن نقول إن رواية إشبعام الجموع من الخمس خبزات بكل تفاصيلها جاءت بوضع إفخارستي غاية في العمق الروحي، أخذته الكنيسة حتى بكلماته وحروفه، إلى درجة أن الكنيسة في العصور الاولى كانت تفضل أن يكون الخبز الإفخارستي من الشعير
أما التدقيق في كون الكسر قد جُمعت في اثنتي عثرة قفة، فهذا إشارة واضحة إلى جمع أبناء الله المتفرقين في كنيسة الرسل الاثني عشر المتحدة، في شخص يسوع.
كذلك لا يفوتني أنا كاتب هذه السطور ان أحكي للقارىء أن في أيامي وجدت تدقيقاً زائداً عن الحد في البيوت في جمع كسر أو فتافيت الخبز بوجه خاص بعد الأكل باهتمام بالغ، بإحساس جعلني شديد الآنتباه والسؤال دائماً في ذهني, لماذا هذه المبالغة في جمع الكسر أو فتافيت الخبز خاصة؟ وإني رأيت بعيني أن أمي كانت تجمع الكسر وتقبلها قبل أن تضعها في سلة الخبز بعد الأكل. وأخيرأ أدركت أن التراث القبطي لا يزال مطبوعأ بقصة الخمس خبزات، وأن البيت القبطي كان وربما لا يزال يعايش إنجيل يوحنا، بل المسيح.
وهنا نأتي، أيها القارىء العزيز، إلى أخطر ما في قصة إشباع الجموع من سالبية وجهالة وخروج عن خط الإيمان الصحيح بالنسبة لحقيقة المسيح المخلص والفادي.
واضح من بداية القصة حينما ذكر الآنجيل: «وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آيالله التي كان يصنعها في المرضى» (يو2:6)، أن هؤلاء الذين تبعوا الرب كانوا مأخوذين بالمعجزات التي تمت لمرضاهم وربما كان فيهم نفس المرضى الذين شفاهم الرب. فلما جاءت معجزة إشباعهم في القفر وصل بهم الحماس إلى أقصاه، ولكنه لم يكن حامساً روحيأ في أهدافه بل جسدياً وسياسياً في مرماه، خاصة إذا أضفنا هذا الحماس الجسدي للشبع الإعجازي المبهر إلى الإحساس بالضيق من العبودية المرة التي كانوا يعانونها تحت حكم الرومان عامة وحكم هيرودس ملك الجليل خاصة، بعدما أقدم على قتل يوحنا المعمدان في السجن, علماً بأن يوحنا المعمدان كان نبيا محبوباً لدى الناس.
والآن، لقد رأى المتحمسون من الجليليين صورة تنطبق على النبي الذي ينتظرونه مثل موس يمكن أن يشبعهم خبزاً ويحررهم من العبودية حسب تحقيقات الربيين: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون.» (تث15:18)
ولكن الرب أجرى معجزة إشباع هؤلاء الخمسة آلاف مع نساء وأولاد لأنه كان لا يمكن أن يصرفهم جائعين، لأن الراعي لا يعذب خرافة. فالرب عندما كان يجري معجزة, أي معجزة, لم يكن يقصد المعجزة بحد ذاتها, ولم تكن المعجزة معجزة بالنبسة له، فهذا عمله. فعمل المسيح هو عمل الله, وأعمال الله كلها معجزات عند الإنسان ولكن ليس عند الله. كل عمل من أعمال الله التي كان يجريها المسيح كان يحمل إشارة أو شهادة أو برهان الله الذي في المسيح .
فعندما أخذ المسيح خبزات الخمس على يديه وشكر، صار الخبز حاملاُ سر الله وقوته, صار خبز الله ولكن في سر، فلم يعد خبز الشقاء والعوز والجوع الذي تُعد خبزاته بالأرقام, بل خبز الراحة والسعة والشبع والزيادة بسبب قوة الله المحيية. فالزيادة التي حدثت في الخمس خبزات هي من فعل الروح، والمسيح كان يدرك ذلك, وكان رد الفعل الذي ينتظره هو أن الناس الذين أكلوا من بركة وقوة الله, أن يمجدوا الله ويدركوا سر الله الفائض في المسيح فيؤمنوا بالمسيح بصفته التي أعلنها عن نفسه ويصدقوه أنه ابن الله.
ولكن خطأ الناس دائمأ هو أنهم يستخلصون من بركات الله الخاصة لهم مزيدا من التعالى على الآخرين, مغالاة في التعظم بعقائدهم, وفرصة لطلب النقمة على أعدائهم. على هذا الأساس أراد بعض المتحمسين من الخمسة آلاف أن يتخلصوا من واقع جوعهم وعوزهم وأمراضهم وعبوديتهم تحت أرجل الرومان واستبداد هيرودس بأن يصنعوا من المسيح مخلصاً ومنتقماً لهم حسب فكر قلوبهم, وينصبوه ملكاً لأنفسهم بالشكل الذي يستحسنونه. وقد وضعوا في قلوبهم أنه إذا رفض, فعليهم أن يختطفوه عنوة ويجعلوه ملكاً بالقوة، الشيء الذي لم يُسمع به قط على مدى كل تاريخ شعب يعبد الله بالحق!
طبعأ، رد الفعل عند القارىء هو أن هذه جهالة، ولكن المحزن أن العالم لا يزال يطلب ذلك، بل وكثير من الحكومات والكنائس والعقائد والمتدينين يصلون ويطلبون ويلحون على الله والمسيح أن يكون ملكاً عليهم وحدهم، ليرد عنهم ظلم الآخرين، وينصرهم على الأقوياء والمستبدين! فالحروب الصليبية باسم المسيح كان شعارها الصليب مرسوماً على البيارق والسيوف، لقد نصبوا الميسح بالفعل ملكاً محارباًأ بالسيف والرمح ليقتل ويحطم المغيرين والأعداء. كذلك أيضاً كانت محاكم التفتيش والقتل واشعال النار في المؤمنين غير الخاضعين لسلطان البابوات (آنذاك), كان كل هذا يجري باسم المسيح الذي نصبه خلفاء أباطرة الرومان ملكاً لأنفسهم على روما وحدها ليخضع العالم تحت أرجلهم؛ بل ولا يزال حتى اليوم كل كنيسة وكل عقيدة تطلب وتلح وتؤكد على المسيح أن يلتزم بنصرتها كملك عليها، بالدفاع عنها، والآنتقام من أعدائها. ولو كان ممكناً أن يظهر المسيح لهم لاختطفوه ولأرادوا أن يجعلوه ملكاً عليهم وحدهم وبالقوة.
لهذا كان قلب المسيح ثقيلاً وحزيناً على هؤلاء الجليليين الذين تاهوا عن الله وعن خلاصهم الحقيقي، وفقدوا الرؤية الصحيحة للمسيح كمخلص وفاد. ولم يكن أمام المسيح بعد أن صنع المعجزة إلا أن يختفي فجأة عنهم, «وينصرف وحده»!
ولا يزال المسيح إلى الآن يرفض أن يكون ملكاً عنصرياً أو عقائدياً على شعب ما أو على عقيدة ما، أو يكون واسطة لتسهيل الحياة الطبيعية، أو ضامناً لمسرات الناس الأرضية، فـ «المسيح هو رب لمجد الله الآب» (في11:2). وآيات المسيح كلها هي لمجد الآب الذي لن يتأتى إلا بحب الناس بعضهم للبعض, والعفو عن الخاطىء المذنب. وإن قول المسيح: «أنا مجدتك على الأرض» (يو4:17)، يعني أنه أعطى نفسه ذبيحة حب لكل الناس، والمسيح هو مسيح العالم كله لحساب الآب السماوي.
«أبصرتك المياه يا الله, أبصرتك المياه ففزعت, أرتعدت أيضاً اللجج ... في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة وآثارك لم تُعرف.» (مز16:77و19)
«الباسط السموات وحده والماشي على أعالي البحر.» (أيوب8:9)
«أنت متسلط على كبرياء البحر عند ارتفاع لججه أنت تسكنها» (مز9:89)
لقد اشترك مع إنجيل القديس يوحنا في رواية هذه المعجزة الملازمة لمعجزة إشباع الجموع كل من إنجيل القديس متى (22:14)، وإنجيل القديس مرقس (45:6), ولكن بأوصاف تختلف اختلافات طفيفة.
فبينما يسرد القديس يوحنا هذه المعجزة باختصار شديد، نقرأ في إنجيل القديس مرقس أن المسيح «ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوا إلى العبر, إلى بيت صيدا (الجليل)، حتى يكون قد صرف الجمع. وبعدما ودعهم مضى إلى الجبل ليصلي» (مر45:6-46). بهذا تكمل الصورة التي أعطاها القديس يوحنا في إنجيله حيث يتضح من كلمة «آلزم» تلاميذه، عند القديس مرقس، أن الرب استخدم سلطانه أمام إلحاح التلاميذ في البقاء معه خوفاً عليه من المتحمسين الذين أرادوا أن يختطفوه، ولكن الرب هو الرب, لا يحتاج إلى آخر. كذلك نفهم من كلمة «ويسبقوا» إلى العبر»، أن الرب وعدهم بالمجيء إليهم. ولكن كيف سيتقابل معهم؟ لم توضح الآناجيل ذلك، وربما كان الإتفاق أن يسروا بالسفينة بحذاء الشاطىء الشمالي للبحيرة, حيث يقابلهم سائراً على الشاطىء. لذلك نقرأ في إنجيل القديس يوحنا: «وكان الظلام قد أقبل، ولم يكن يسوع قد أتى إليهم.» (17:6)
ويلاحظ أن الرب ألزم تلاميذه على ركوب السفينة في المساء، فـ «المساء» هنا لا تفيد المقصوا من كلمة «أبسيا» اليونانية, فكلمة «أبسيا» في اليونانية تفيد «الغروب» أي آخر ساعات النهار ولكن قبل ظلام الليل. فالتلاميذ ركبوا السفينة في الغروب. وعندما حل الظلام, وهذا هو بدء الليل الذي يكون بعد الغروب بحوالي ساعة, يقول إنجيل القديس يوحناأن بدخول الليل لم يكن يسوع قد أتى إليهم بعد، فانقطع أملهم من رؤيته سائراً على الشاطىء.
والقديس يوحنا هنا لا يورد كلمة «الظلام» إلا ووراءها معنى غياب النور اي المسيح، وهكذا ينسج القديس يوحنا هن الألفاظ معاني أعمق من مجرد شكلها ومعناها البسيط. ومعنى مجيء الظلام بأسلوب القديس يوحنا يكون غياب النور أو الإيمان أي عدم مجيء المسيح، وهذا يحمل معه حدوث تجربة خطرة، فيقول مباشرة: «وهاج البحر من ريح عظيمة تهب»، حيث التجربة هنا تصنعها الطبيعة سواء الرياح أو الأمواج بإيعاز من رئيس سلطان الهواء, القوة المعادية, كما يقول القديس بولس (أف2:2). وهكذا يكون غياب المسيح قد كشف عن حضور المجرب. ومن سياق القصة, كما جاء في إنجيل القديس مرقس: «ولما صار المساء كانت السفينة في وسط البحر, وهو على البر وحده, ورآهم معذبين في الجذف, لأن الريح كانت ضدهم» (مر47:6-48). نفهم من ذلك أن الرياح كانت شمالية غربية، واتجاه السفينة كان نحو الشمال الغربي وهذا اتجاه موقع كفزناحوم. والنتيجة أن الرياح والأمواج قذفت بالسفينة إلى عمق البحيرة بعيدا جدا عن الشاطىء. فإذا عرفنا أن أقص عرض للبحيرة كان نحو أربعين غلوة, بالقياس الروماني, والغلوة أو الستاديون تساوي حوالي 200 متر, أي أن عرض البحيرة حوالى ثمان كيلومترات. والقديس يوحنا يذكر أنهم جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة أي ما بين خمسة إلى ستة كيلومترات بعيداً عن الشاطىء. ويضيف القديس مرقس أن ذلك استغرق منهم وقتاً طويلاً حيث أصبحوا في الهزيع الرابع: «ونحو الهزيع الرابع من الليل آتاهم ماشياً على البحر» (مر48:6). والهزيع الرابع يقابل الساعة الثالثة بعد نصف الليل. وهذا معناه أنهم ظلوا يجدفون معذبين من الرياح والأمواج التي ضدهم نحو عشر ساعات متواصلة بلا راحة!!
وهكذا أيضا, وبالمعنى الروحي العميق, يجيء المسيح في الهزيع الرابع من الليل للمعذبين الذين ينتظرونه بفروغ الصبر. وداود النبي، وكأنه كان على الشاطىء الآخر وراء الدهور السالفة يرصد بالنبوة هذا المنظر المأساوي العجيب، وكيف سيجيء الرب حتماً في الميعاد للخلاص المرسوم يقول: « اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ الْعَامِلُونَ عَمَلاً فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ. هُمْ رَأُوا أَعْمَالَ الرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ. أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحاً عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ. يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ يَهْبِطُونَ إِلَى الأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاءِ. يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ. فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ. يُهَدِّئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا. فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ. فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ.» (مز23:107-31)
إن قول القديس يوحنا أنهم «نظروا يسوع ماشيا على البحر مقتربا من السفينة فخافوا فقال لهم «أنا هو» لا تخافوا», يحمل مقارنة على التوازي بين موسى والمسيح تأتي في موضح الإعجاز والإعجاب، لأن موسى بعد أكل خروف الفصح مباشرة انطلق بالشعب إلى البحر الأحمر ليشقه ويسير وسط أمواجه بإعجاز يُتعجب منه.
وبالعودة إلى قصة الخمس خبزات وما رادفها من ذكر الفصح, يأتي مباشرة ذكر المسيح ماشيا على البحر المضطرب ليعطي تكملة المقارنة مع موسى، الذي لكي يعبر البحر الأحمر مع الشعب أمره الرب أن يفلق المياه ليسير على اليابس في العمق، أما الرب فسار هنا وهو يتهادى على سطح المياه: ابصرته المياه ففزعت!! «أبصرتك المياه يا الله أبصرتك الميا, ففزعت ارتعدت أيضاً اللجج .... في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة وأثارك لم تُعرف» (مز16:77و19). أما كيف فزعت المياه وارتعدت اللجج, فهذا يصفه القديس مرقس في اختصار شديد: «فصعد إليهم إلى السفينة فسكنت الريح، فبهتوا وتعجبوا في أنفسهم جداً إلى الغاية.» (مر51:6)
أما سلطانه على الرياح والأمواج فيصفه القديس مرقس في موضع أخر هكذا: «فحدث نوء ريح عظيم, فكانت الأمواج تضرب إلى السفينة حتى صارت تمتلىء. وكان هو في المؤخر على وسادة نائماً. فأيقظوه وقالوا له: يا معلم أما يهمك أننا نهلك؟ فقام وانتهر الريح وقال للبحر: أسكت, ابكم, فسكنت الريح وصار هدوء عظيم. وقال لهم ما بالكم خائفين هكذا. كيف لا إيمان لكم. فخافوا خوفا عظيما وقالوا بعضهم لبعض: من هو هذا فإن الريح أيضا والبحر يطيعانه.» (مر37:4-41)
«فرضوا أن يقبلوه (يأخذوه) في السفينة»: الآن يلزم أن نصحح الترجمة العربية للآية: »فرضوا أن يقبلوه في السفينة... » والتي جاءت في الترجمة الآنجليزية بصورة أفضل: and willingly received. هنا فعل إرادة ومشيئة وليس «رضا» . وقد جاء الفعل في اليونانية في زمن الماضي المتصل كحالة مستديمة، بمعنى أنه كانت لهم إرادة بتلهف أن يدخل السفينة، وقد جاءت في الترجمة اللا تينية ( ) لتفيد الشعور المتلهف بالإرادة لاستقبال الرب. والذي يزيد هذا المعنى تأكيدا ما جاء في إنجيل القديس مرقس: « وأتاهم ماشيا على البحر وأراد أن يتجاوزهم ... » ونحن نفهم من هذا أن الرب كان سائرا على الأمواج بمحاذاتهم، ولم يكن له قصد أن يدخل السفينة، مكتفيا بأن يظهر نفسه لهم ليبدد خوفهم, ولكن على العكس, فقد ازداد خوفهم من أن يكون الذي يرونه خيالا فطمأنهم بصوته وبالجملة المعهودة: «أنا هو, لا تخافوا» . و«أنا هو» التي سجلها هنا القديس يوحنا تأتي برنينها اللاهوتي المعبر عن شخص الله, فالمسيح أراد أن يعلن عن حضوره الإلهي لتلاميذه في هذه المناسبة. فلما اطمأنوا أنه الرب ، أظهروا إرادتهم أن يأخذوه معهم في السفينة. وكلمة «فرضوا أن يقبلوه» بلغة القديس يوحنا السرائرية تفيد قبول الإيمان بعد نفور الخوف الذي يأتي من عدم الإيمان: « كيف لا إيمان لكم» (مر40:4). كذلك حينما تدخل القديس بطرس ليختبر حقيقة أنه الرب ، (كما ورد في إنجيل متى), «وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشياً على البحر. فلما أبصره التلاميذ ماشيا على البحر اضطربوا قائلين إنه خيال، ومن الخوف صرخوا. فللوقت كلمهم يسوع قائلا: تشجعوا, أنا هو, لا تخافوا. فأجابه القديس بطرس وقال: يا سيد، إن كنت أنت هو فمرني أن آتي إليك على الماء.» (مت25:14-28)
يتضح من هذا أكثر أن الرب كان ماشيا بمحاذاة السفينة، كما يتضح أن القديس بطرس أراد أن يسير نحوه ليسير معه.
كذلك فإن قول إنجيل القديس مرقس:«دفأراد أذ يجاوزهم»، لا يأتي دون معى أو أهمية لاهوتية، فهذا هو وضع الله حينما كان يتراءى للانساذ قديما، ملما ترادى لموسى؛ حينما اجتاز الرب، أي تجاوزه، ليرى موسى خلفه ولا يرى وجهه: «فقال (موسى): آرني مجدك. فقال (الله): أجيز كل جودتي قدامك, وأنادي باسم الرب (أنا هو) قدامك, وأتراءف على من أتراءف وأرحم من أرحم. وقال: لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش. وقال الرب: هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة, ويكون متى اجتاز مجدي، أني آضعك في نقرة من الصخرة، واسترك بيدي حتى اجتاز, ثم أرفع يدي فتنظر ورائي, وأما وجهي فلا يُرى» (خر18:33-23)
وهكذا نرى الرب يسير بجوار موسى ويجتاز أمامه، حيث يقول الوحي الإلهي هنا بضرورة أن يجتاز الرب حتى يمكن للانسان التعرف عليه.
كذلك نرى نفس الوضع مع إيليا حينما تراءى له الله بعد أن اجتاز أمامه «فقال (الرب): اخرج وقف على الجبل أمام الرب، وإذا بالرب عابر(مجتاز) وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة ولم يكن الرب في الزلزلة, وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوث منخفض خفيف,~ فلما سمع إيليا, لف وجهه بردائه وخرج ووقف في باب المغارة، واذا بصوت إليه يقول: مالك ههنا يا إيليا.» (امل11:19-13)
وهنا أيضاً نرى عبور الرب (اجتيازه) أمام إيليا ضرورة إلهية يشترطها الوحي، حتى يمكن التعرف عليه بعد ذلك من صوته.
وهذا ما حدث تماما في قصة سير الرب على المياه بجوار السفينة واجتيازه: «وأراد أن يتجاوزهم»، ثم إذ صرخوا كان صوته إليهم: «أنا هو لا تخافورا». هكذا استعلن المسيح ذاته لهم كرب وإله، وليس كخيال، فتعرفوا عليه، فأرادوا في الحال أن يأخذوه في السفينة. هنا يضيف القديس مرقس: «فصعد إليهم في السفينة». وهذا أيضاً رد مباشر عل كثير من العلماء الذين أرادوا أن يقللوا من معجزة السير عل البحر، إذ قالوا أن قول الآنجيل: «ماشياً على البحر»، يفيد أنه كان يسير على شاطئ البحيرة وليس على الماء. فبشيء من البصيرة والدقة العلمية نكتشف زيف تحليلهم للكلمات، إذ يقول القديس مرقس إنه صعد إليهم في السفينة، فلو كان المسيح سائرا على الشاطئ، لكان القول: «ونزل» إليهم في السفينة، لأن الشاطئ، أعلى من مستوى البحر والسفينة. ولكنه يقول «صعد إليهم في السفينة، لأن مستوى الموج الذي كان يسير عليه منخفض عن مستوى السفينة.
كذلك يضيف القديس مرقس «فسكت الريح». نعم، فدخول الرب إلى سفينتنا المضطربة، يتبعه حتم سكون وهدوء. وهنا يتضح القصد الآنجيلي أن الرب هو قاهر قوى الموت وسلطانه .
هنا يضيف القديس يوحنا معجزة أخرى على نفس مستوى السير على الماء، تتوافق تماما مع سلطان الرب على إخضاع عنف الريح ولجج البحر. فالذي أضافته الرياح العاصفة من مشقة على الرحلة، وما كسحتله الأمواج من مسافة زائدة، رفعه الرب من حساب الرحلة؛ فللحال وجدوا أنفسهم على الشاطىء. وهنا تطابق لنص القديس يوحنا على النص النبوي في المزمور الذي صور هذه الرحلة من وراء الآزمنة، آمر يتعجب له: «يهدى العاصفة فتسكن، وتسكت أمواجها. فيفرحون، لأنهم هدأوا, فيهديهم إلى المرفإ الذي يريدونه» (مز29:107-30)
وبلغة القديس يوحنا, فإنهم حالما تبلوه بإرادة فرحة, بلغوا شاطىء الأمان. إنها صورة حية لنهاية تجربة بحر الحياة الصاخب، ومعاندة القوى الشريرة التي تقف معاندة إلى أن يدخل الرب سفينة العبور، لتعير للحال في ميناء الراحة الأبدي.
هنا نكتفي بالشرح القليل الذي قدمناه من خلال السطور أثناء تحليلنا للنصوص الواردة في القصة. لأن الشرح الكامل سوف يقدمه المسيح بنفسه وبإسهاب في مجمع كفرنا حوم في اليوم الثاني من وصول السفينة إلى كفرناحوم .
حديث الرب فى مجمع كفرناحوم عن جسده الحى كخبز الحياة الأبدية
هذا الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام مطولة، وكل قسم يبدأ بمبادرة من اليهود.
أ- الجزء الأول من الحديث (26:6-40), ويبدأ بالسؤال البسيط: «ولما وجدوه في عبر البحر قالوا له: يا معلم متى صرت هنا؟»
ب _ الجزء الثاني من الحديث (41:6-51): و يبدأ بتذمر بسؤال استنكاري: «فكان اليهود يتذمرون عليه لأنه قال أنا هو الخبز الذي نزل من السماء, وقالوا : أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه...».
ج _ الجزء الثالث من الحديث (52:6-58): ويبدأ إثر منازعة فيما بينهم: «فخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين: «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟»
وكانت الحقائق التي جاءت ردا على هذه الأسئلة الثلاثة، كغاية لكل حديث، كالأ تي:
الجزء الأول من الحديث: اختص باستعلان الحياة الأبدية المخفية في جسد المسيح: «أنا هو خبز الحياة».
الجزء الثاني من الحديث: اختص بعلاقة الابن بالآب: «ليس أن أحدا رأى الآب إلا الذي من الله. هذا قد رأى الآب»؛ «لا يقدر أحد أن يقبل إلي إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني...»
الجزء الثالث من الحديث: اختص بالحصول على المسيح الكلمة المتجسد بأكل جسده وشرب دمه: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية... فمن يأكلني فهو يحيا بي».
من هذه الرواية يتضح لنا أن الجمووع كانت تراقب المسيح مراقبة شديدة لعلهم يستطيعون أن ينجحوا في محاصرته وإقناعه أن ينصبوه ملكاً، حسب الرواية السابقة. وقد لاحظ الجمع، وخاصة المتحمسون منهم، أن التلاميذ مضوا وحدهم, وأما الرب فبقي على الجبل وحده وأنهم في الصباح لم يجدوه.
«غير أنه جاءت سفن من طيرية إلى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز إذ شكر الرب»: هذا تعبير إفخارستي واضح: «الذي شكر عليه الرب» أي الذي باركه أو قدسه الرب بصلاة الشكر أو الإفخارستيا.
ويلاحظ هنا أن مجيء السفن إلى هذا الموضح ليس طبيعيا، فالمكان ليس به مرفأ. ولكن إذا لاحظنا أن الريح العاصف الشديد كان يهب من الشمال الغربي، لأدركنا في الحال أن الرياح اكتسحت سفنا (بدون الـ التعريف, أي عرضا)، إلى هذه الناحية الشرقية، فانتهزها الرجال المتحمسون وركبوا هذه السفن إلى كفرناحوم بحثا عن المعلم. وبهذا أيضأ ندرك أن هؤلاء الرجال كانوا في غاية الحماس ومتأثرين غاية التأثر من عجيبة الخبز الذي أكلوا وفاض عنهم. ومما زاد من حماسهم اكتشافهم عند عثورهم عليه في كفرناحوم أن المسيح لم يركب أي سفينة، ولا بد أنه شاع خبر عبوره البحيرة سائرا على الماء، فأهاج أمالهم في مملكة الأحلام التي كانوا يحلمون بها. وسؤالهم له: «متى (أو كيف على وجه الأمح) صرت هنا؟» هو محاولة ملحة منهم ليكشف لهم المعلم عن سر قدرته المتعاظمة في نظرهم علانية، ولكن للأسف فإن كل هذا الحماس والسعي والأمل الذي اعتمل في نفوسهم بخصوص المسيح، لم يخرج عن المحيط المادي والسياسي الذي كانوا يحلمون به على مستوى ما كان يعيش فيه أباؤهم مع موسى.
وهنا يبدأ المسيح يصحح مفهوماتهم عن قدرته الفائقة ومصدرها وغايتها، ويصحح المقارنة الخاطئة بينه وبين موسى، ويضع أسس العلاقة الصحيحة التي تربطه بالإنسان على نور العلاقة التي تربطه بالآب السماوي.
كان رد المسيح على سؤالهم عنه ردا كاشفا حاسما مبكتا، ومعناه أنكم لستم تطلبونني بل تطلبون عطاياي. لما أكلتم من الخبز لم تروا فيه آية بل طعامأ للشبع، كما لم تروا في كل الأشفية التي صنعتها أمامكم أية إشارة أو آية إلى من صنعها، بل ربحاً وراحة للجسد تطمعون في المزيد منه وتطلبون الأكثر والأعجب؛ حيث يلاحظ هنا أن قول الآنجيل: «ليس لأنكم رأيتم آيات» يفيد «رؤية الايمان» وهي غائبة عنهم.
ويلاحظ القارىء أن المسيح نفسه لم يكن يرى في الآيات التي يصنعها للناس من أشفية وغيرها مجرد أعمال رحمة أو محبة أو عطف، بل فعل إثارة لعقولهم وقلوبهم, حتى يدركوا ويؤمنوا بحقيقة شخصه، لكي بالإيمان به تكون لهم الحياة الأفضل والنعمة الدائمة الأبدية والشبع الحقيقي لأرواحهم وليس لأجسادهم. وهذا نفهمه بوضوح من تبكيته لهم: «اعملوا لا للطعام البائد, الخبز للشبع الجسدى, بل للطعام الباقي للحياة الأبدية (جسد المسيح نفسه) الذي يعطيكم ابن الإنسان, لأن هذا الله الآب قد ختمه».
ليتذكر القارىء قول الرب أثناء جمع الكسر في الاثنتي عشرة قفة: «لكي لا يضيع منه شيء» (آية 12). هنا كلمة «يضيع» هي نفسها التي جاءت هنا بمعنى «يبيد» أو «البائد»، إشارة من الرب أن الخبز الذي كسره ووزعه عليهم ينبغي أن لا يضيع فهو ليس من نوع الخبز البائد، بمعنى أن فيه من الديمومة والحياة، إن بلغوا سر القوة التي كانت فيه, بالإيمان بالمسيح, الذي باركه وقدسه وأعطاه.
وهنا نرى أن الرب يشير إلى أن كل أعماله واياته التي صنع قد تؤخذ وتفهم وتؤكل على أنها بائدة، أي مادية أرضية، إذا لم يؤخذ المسيح الذي فيها بالإيمان. كما أنها قد تؤخذ وتفهم على أنها باقية وحية وأبدية إذا أخذ المسيح القائم فيها بالسر.
وهنا يستهدف القديس يوحنا القارىء والسامع، فهو يروي رواية المسيح مع الجليليين واليهود ليس كتاريخ أو قصة, بل كفعل إشارة وآية موجهة لقلب القارىء والسامع. وعطايا المسيح, أي عطايا, يستحيل أن تعمل للحياة الأبدية أو يكون لها نفع روحي إذا لم يكن المسيح هو قصدها الكلي ومنتهى غايتها. فالذي يطلب من المسيح أن يشفى، لن ينتفع من شفائه شيئا إذا لم تكن الصحة المعطاة المتمتاة هي آية بحد ذاتها تعمل لحساب المسيح، والا يكون شفاؤه كملء بطن الجليليين من الخمس خبزات التي لإفخارستيا المسيح، ليس إلا.
يلاحظ هنا كلمة «يعطيكم ابن الإنسان»، فالكلت باليوناية ( ) هي عطية للحياة الأبدية، وهي من نفس أصل الكلمة التي رأيناها في قصة السامرية: «لوكت تعلمين عطية الله» (يو10:4)، فهي هناك «عطية المياه» الحية للحياة الأبدية، وهنا «عطية الطعام, أي الخبز الحي» للحياة الأبدية.
وهنا يضمر النص الآنجيلي فعل الروح القدس المحيي، إن كان في الماء للمعمودية للميلاد الثاني, وإن كان في الخبز أي الجسد للافخارستياا كطعام الحياة الدائمة.
أما كلمة «ختمه» فهي هنا واقعة عل المسيح, وليس على «الطعام» لأنها تأتي واقعة عل اسم مذكر عاقل وليس عل مؤنث حيث كلمة «طعام» في اليونانية مؤنثة، وهي تأتي في كتابات العهد الجديد لتفيد فعل الروح القدس في الميلاد الثاني أي ختم المعمودية (أف13:1 و2كو22:1)؛ أما هنا وهي تخص المسيح فتفيد ختم التقديس: «الذي ختمه الآب وأرسله إلى العالم» (يو36:10). ختم التقديس الذي تم بواسطة الآب سواء في الميلاد: «فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لو35:1)، «لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس» (مت20:1), أو في المعمودية: «الذي ترى الروح القدس نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي سيعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» (يو33:1-34)، أو في القيامة: «وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو4:1)
كما تأتي «ختمه» في قول الآنجيل: «لأن هذا الله الآب قد ختمه» بمعنى إضافي أن الله الآب قد «شهد له بنفسه». [كما نقول في أحاديثنا أنا مستعد أن أختم وأبصم على هذا أنه حق، حيث يفيد قولنا هذا شهادة للتصديق). وهذا المعنى تكرر كثيراً في إنجيل القديس يوحنا. ولكن المعنى الثاني أن الآب يشهد له يأتي مترتبا عل المعنى الأول «الآب قدسه».
كما يُلاحظ أنه للمرة الاولى والوحيدة في كل الآناجيل يأتي التعبير عن الله بـ «الله الآب» من فم المسيح بالمعنى العام، لأن المعتاد أن يقول المسيح إما أبي أو الآب، ولكن أن يأتي الله بالصيغة الآبوية العامة من فم المسيح، فهذا ليفيد أنه ليس ختما خاصأ بالمسيح نفسه ولكن ختما خاصا بالإنسان ككل، فهو ختم أبوة الله على جسد الابن الوحيد, الكلمة المتجسد، ليصير الله به أباً لكل من يقبله (ويتناول منه).
سؤال مستمد من قول الرب السابق: «اعملوا ... للطعام الباقي للحياة الأبدية».
كان هؤلاء الجليليون يريدون أن يأخذوا, يأخذوا شبعا جسديا وراحة وكبريا, وسلطة، ليتحرروا بالجسد، فأرادوا وتحمسوا لأن يستخدموا الرب لتكميل شهواتهم بأن يجعلوه ملكا. والمسيح الآن يردهم إلى الوضع الصحيح الذي يوصلهم إلى أكثر مما كانوا يريدون ويشتهون, ولكن ليس لحساب الجسد الفاني, والطعام البائد، والعبودية السياسية, والعالم الذي وُضع بجملته في يد الشرير؛ ولكن لحساب الروح والحياة الأبدية. والمسيح, كملك سماوي، يعطي عطايا للمجد, وذلك بأن يعملوا ويعطوا ويبذلوا ويخسروا كل شيء لامتلاك المسيح كملك على قلوبهم لمجد الله. وشتان بين شهوة الأخذ وشهوة العطاء. فالاولى دائمأ لحساب الجسد البائد، والثانية لحساب الجسد المقام في مجد.
وأما سؤالهم للمسيح: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟» فهو سؤال يبدو صحيحا في مظهره، ولكنه يضمر إصرارا على استخدام القدرة المظهرية، من عبادة وطقس، والفكر او التدبير المادي كوسيلة للعمل، فالسؤال يكون صحيحا إن هم قالوا: ما هو عمل الله لنعمله مباشرة؟ ولكنهم وضعوا قوة أنفسهم قبل قوة عمل الله: «ماذا نفعل حتى نعمل».
هذا هو انطباع الفكر اليهودي العام، وهذا يتضح من رد المسيح المصحح الكاشف أن عمل الله لا يحتاج إلى فعل إنسان بل إلى إيمان: «هذا هو عمل الله, أن تؤمنوا بالذي هو أرسله»، هذا هو عمل الله، وهو العمل الوحيد الذي يطلبه الله لكي ينالوا الطعام الباقي للحياة الأبدية ولكي يحيوا إلى الأبد.
سؤال مستمد من قول الرب السابق: «اعملوا ... للطعام الباقي للحياة الأبدية».
كان هؤلاء الجليليون يريدون أن يأخذوا, يأخذوا شبعا جسديا وراحة وكبريا, وسلطة، ليتحرروا بالجسد، فأرادوا وتحمسوا لأن يستخدموا الرب لتكميل شهواتهم بأن يجعلوه ملكا. والمسيح الآن يردهم إلى الوضع الصحيح الذي يوصلهم إلى أكثر مما كانوا يريدون ويشتهون, ولكن ليس لحساب الجسد الفاني, والطعام البائد، والعبودية السياسية, والعالم الذي وُضع بجملته في يد الشرير؛ ولكن لحساب الروح والحياة الأبدية. والمسيح, كملك سماوي، يعطي عطايا للمجد, وذلك بأن يعملوا ويعطوا ويبذلوا ويخسروا كل شيء لامتلاك المسيح كملك على قلوبهم لمجد الله. وشتان بين شهوة الأخذ وشهوة العطاء. فالاولى دائمأ لحساب الجسد البائد، والثانية لحساب الجسد المقام في مجد.
وأما سؤالهم للمسيح: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟» فهو سؤال يبدو صحيحا في مظهره، ولكنه يضمر إصرارا على استخدام القدرة المظهرية، من عبادة وطقس، والفكر او التدبير المادي كوسيلة للعمل، فالسؤال يكون صحيحا إن هم قالوا: ما هو عمل الله لنعمله مباشرة؟ ولكنهم وضعوا قوة أنفسهم قبل قوة عمل الله: «ماذا نفعل حتى نعمل».
هذا هو انطباع الفكر اليهودي العام، وهذا يتضح من رد المسيح المصحح الكاشف أن عمل الله لا يحتاج إلى فعل إنسان بل إلى إيمان: «هذا هو عمل الله, أن تؤمنوا بالذي هو أرسله»، هذا هو عمل الله، وهو العمل الوحيد الذي يطلبه الله لكي ينالوا الطعام الباقي للحياة الأبدية ولكي يحيوا إلى الأبد.
الرب هنا يكشف سر قصورهم في فهم كل الآيات التي عملها أمامهم، وفي فهم جوهر معجزة الخمس خبزات التي فجرت شهوتهم للعودة إلى القوة والملك. فلأنهم أخفقوا في أن يرتفعوا بالآيات من مجرد الآنتفاع بها إلى الإيمان البسيط السهل بالذي صنعها, لذلك ضاع عليهم الآنتفاع بعمل الله لخلاصهم ولنوال الحياة الأبدية.
والمسيح الآن يردهم إلى الوضع الصحيح بالنسبة له وللآيات التي منعها، وبالنسبة لآمالهم في فهم المُلك والحرية والخلاص. فـ «عمل» الله الذي عمله, ويلاحظ القارىء أن كلمة العمل هنا جاءت بالمفرد الفريد, هو أنه أرسل لهم من سيخلصهم ويحررهم ويشبعهم ويفرحهم ويحييهم من الموت, وهو العمل الأعظم من كل الأعمال التي عملها لهم الله في السابق، والعمل الوحيد الذي يحوي كل الأعمال الأخرى ويكملها ويستعلن الله فيها، سواء عمل الخلقة أو بركات الأباء أو التوراة أو الناموس أو الآنبياء، فإذا آمنوا به يكونون قد آمنوا بكل أعمال الله وتمموها، وختموا أن الله صادق: «ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله.» (يو33:3-34)
وإذ يتكلم هنا إنجيل يوحنا بصدد الخبز الباقي للحياة الأبدية وكيفية الحصول عليه عمليا بالنسبة لسؤال الجليليين: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟», لا يمكن أن يتوه عن ذهننا قول المسيح بنفسه عن نفسه وعن هذا الطعام عينه أنه هو هو عمل مشيئة الآب!! وقد حدث سابقا حينما سأله التلاميذ أن يأكل وهم حول بئر يعقوب: «وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين يا معلم كل, فقال لهم أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم ... طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو31:4-34). هنا يكمن جوهر معنى الطعام في قول المسيح: «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله»، لأنه إن كان المسيح قد عمل مشيئة الله الآب الذي أرسله، واعتبر هذا العمل بمثابة طعامه السري الأسمى الذي يغتذي عليه، فكم وكم يكون الإيمان بالمسيح؟ ألا يكون هو الطعام الذق فيه عمل كل مشيئة الآب والابن معا؟ وماذا كان طعام المسيح السري إلا تكميل كل مسرة ومشيئة الآب من نحو خلاص العالم الذي أحبه بتقديم جسده على الصليب؟ فإذا كان طعام المسيح السري هو تقديم جسده على الصليب، إذن فقد صار جسده طعامنا السري الذي فيه تكميل كل مشيئة ومسرة وحب الآب والابن معا من نحو خلاصنا وحياتنا. ويلاحظ أن في قول المسيح: «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا» جاءت كلمة تؤمنوا بالقراءة اليونانية المصححة على النسخ الأكثر صحة، فبدل كلمة ( ) تقرأ ( ), وقد جاءت كفعل دائم مستمر الذي يفيد معنى «الشركة والارتباط السري الدائم».
يلاحظ هنا أن الجليليين الذين رأوا معجزة الخمس خبزات وأكلوا وشبعوا واعتبروها حافزا لهم مناسبا جدا لكي ينصبوا المسيح ملكا، اعتمادا على أنها معجزة مكافئة لمعجزة موس والمن ذات رنين واضح وشديد أن المسيح حتما هو النبي؛ عادوا يضيفون على طلبهم أية من السماء، أو بالأحرى إنزال المن من السماء. وهنا نرى دخول عنصر جديد على فكر هؤلاء الجليليين شككهم فيما انتهوا إليه سابقا, من أنه بمقتضى معجزة الخمس خبزات والسمكتين يستحق أن يكون ملكا؛؟ وهذا كان من تأثير دخول عناصر متعلمة فريسية أخرى في النقاش، مما يفيد أيضا أن تكملة الحديث هنا يدور في مجمع اليهود في كفرناحوم.
هنا ينبغي أن نرجع إلى الفكر اليهودي المعتمد, في زمن المسيح, الذي استقى منه اليهود هذا الطلب من المسيح بانزال المن من السماء لإثبات أنه المسيا الذي ينتظرونه. فالمعروف أن هذا الفكر الذي كان ينادي به المتعلمون من اليهود يرجع إلى الكتابات الرؤيوية التي كانت سائدة, بتحقيق العلماء, في ذلك الزمن، مثل رؤية باروخ التي جاء فيها: [ إنه سيأتي زمان فيه تنفتح مخازن المن، وينزل المن من السماء، وسيأكلون منه في هذه السنين (زمن ملوكية المسيا على الأرض)، لأن هؤلاء هم الذين سينتهي إليهم كمال الزمان.]
كذلك كان شائعا قول للربيين يقول: [ إن الذي فدى في السابق، أنزل لهم المن. كذلك فادينا في الأيام الأخيرة سينزل لنا المن، كما هو مكتوب في المزمور: «تكون حفنة بر (قمح) في الأرض في رؤوس الجبال» (مز16:72). في حين أن نزول المن من السماء كان مجرد رمز لنزول الكلمة المتجسد. ومعروف أن الرمز لا يُحيي, والرمز أيضا لا يتكرر, فكان المن رمزا لما سيأتي. وأوضح تعبير لذلك أن نزول المن من السماء توقف عندما دخل بنو إسرائيل أرض كنعان واكلوا من ثمر الحنطة، لأن الوقت آنذاك كان في الربيع . وثمر الحنطة (الخبز) كان واضحا أنه إشارة إلى كلمة الله. فالمن, كرمز, توقف لما أكلوا من الحنطة التي هي الخبز. وها هو المسيح يقدم جسده الإلهي باعتباره أنه هو الخبز الحقيقي. فإن كان العهد القديم كان قائمأ بالمن؛ فالعهد الجديد قائم بالخبز الحقيقي، والحقيقي يلغي الرمز. والعهد القديم وإن كان قائما بالناموس كخمسة أسفار موسى؛ فالعهد الجديد قائم بكلمة الله الحية.
وقد أصبح من المسلمات في تعاليم الربيين في ذلك الوقت أن عودة نزول المن من السماء ستكون هي العلامة المميزة والثابتة التي ستلازم مجيء المسيا، والتي أصبح اليهود يترقبونها بفارغ الصبر. وهكذا كان طلب اليهود من المسيح أن يجري آية نزول المن من السماء، لازمة لكي يثبت بها صدق دعوته. علما بأن التعبير عن المن بأنه الخبز السمائي كان أمرا مألوفا لدى اليهود، كما ورد في المزامير: «أمطر عليهم منا للأكل وبر(قمح) السماء أعطاهم . أكل الإنسان خبز الملائكة، أرسل عليهم زاداً للشبع» (مز24:78-25). كما أن واقع قول المسيح لهم: «اعملوا ... للطعام (الخبز) الباقي للحياة الأبدية»، كان حافزا لهم ليطلبوا مزيدا، من واقح النص.
هذا مما حدا بالمسيح أن يصحح لهم مفهوم معنى المن ويصحح لهم من هو الذي أنزل المن من السماى. كما صحح لهم مفهوم استخدام الخبز السمائي.
المسيح هنا يصحح بأن المن لم يكن إلا رمزا فقط للخبز السمائي، لقد جاء من السماء فعلا والله هو الذي أرسله عليهم، وليس موسى، ولكنه كان رمزا للحقيقي الذي هو «مأكل حق»، فلم يكن المن خبزا جوهريا. أما الخبز الذي يتكلم عنه المسيح فهو خبز جوهري، أي حقيقي يختص بطبيعة الله والعبادة الحقة الذي سبق المسيح وعرفها للسامرية هكذا: «ولكن تأتي ساعة وهي الآن (ساعة المسيح) حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح
والحق (يو23:4)
هنا الخبز الذي يتكلم عنه المسيح هو خبز حقيقي من الله ومقدم إلى الله، وبقوله «االنازل» كفعل دائم النزول، يشير إلى طبيعته الفائقة غير الزمنية. فالمن مهما كان على مستوى المعجزة باعتباره نزل من السماء, إلا أنه كرمز فقط لا يختص بطبيعة الله ولكن بطبيعة الإنسان المادية؛ ولذلك فإنه إذا تُرك، كان ينتن ويضربه الدود شأن جثة الإنسان التي تغتذي منه، فهو «خبز بائد»: «الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة، والله سيبيد هذا وتلك.» (1كو13:6)
المسيح هنا يهتم، في الواقع، بتصحيح نظرة اليهود ومفهومهم لحقيقة طبيعة الاخرويات, أو الزمن الماسياني الذي كانوا يترقبونه؛ فقد أخطأت كل التعاليم اليهودية في هذا الأمر وربطته بالخيرات المادية والسلام المادي الجسدي، وقد تسرب إلى بعض الأفاق المسيحية في العصور الاولى هذا التعيم اليهودي الخاطىء والفاسد، والذي اعتبر أنه هرطقة، أي تعليم غريب غير إلهي، وظلت هذه الهرطقة لاصقة في بعض الشيع المسيحية حتى اليوم سواء في مفهوم عصر الألف سنة أو في مفهوم القيامة والحياة الجديدة بأنها حياة جسدية تماما.
والمسيح يشدد جداً في رده على السامرية أن هذا العصر قد حضر وصار بالفعل منذ « الآنا», ولم يعد مستقبلاً أخر للانسان، إذ بمجيء المسيح قد بدأت الساعة. كما يشدد أيضأ على أن العبادة الحقيقية لهذا العصر ليست في أورشليم ولا في مجامع من حجارة أو طوب أو على تلال مرتفعة أو جبال، ولا هي سجود مظهري بالجسد: «قال لها يسوع يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب.» (يو21:4)
والعصر الروحي الجديد الذي وصفه بأنه « تأتي ساعة وهي الآن»، لا ينتمي بعد للمظاهر الجسدية سواء في العبادة أو عطايا الله جميعا، بل الكل يتعلق بالروح لأنه عصر الحضور الإلهي، وكل ما يتعلق به يتناسب مع طبيعة الله، أي يكون بالروح والحق.
فلما تكلم مع السامرية فيما يختص بالماء، رفعه في مفهوم السامرية من ماء الجسد الذي يسد العطش الجسدي، إلى الماء الروحي، الذي يروي الإنسان بصورة دائمة للحياة الأبدية. ويلاحظ أن عطية الماء من الصخرة والمن من السماء تجيء دائمأ مجتمعة في تذكار عطايا الله الإعجازية في القديم. كما جاء في سفر نحميا: «وأعطيتهم خبزا من السماء لجوعهم، وأخرجت لهم ماء من الصخرة لعطشهم.» (نح35:6)
وهنا يلزمنا أن ننتبه كيف ربط أيضا القديس يوحنا في إنجيله على التوالى وعلى نفس المستوى بين الماء الحي في قصة السامرية والخبز الحي في قصة إشباع الجموع ، لكن ليس كأنهما عطايا للشبع والإرتواء الجسدي لامتداد الحياة الجسدية المحدودة, بل كعطية واحدة سرية مستعلنة في شخص المسيح لنوال الحياة الأبدية مع الله بلا حدود: «أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلا يجوع, ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً.» (يو35:6)
المسيح يتكلم هنا عن الخبز بالنسبة للعصر الماسياني على أنه: خبز ليس لإشباع الجسد، بل خبز حقيقي، أي جوهري، لإشباع الروح للحياة الأبدية. فهو خبز لا يختص بالجسد المادي، لأن الجسد بالمفهوم المادي لا يفيد شيئاً: «الروح هو الذي يُحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئاً.» (يو63:6)
هذا المعنى ينقلنا إلى مفهوم أن هذا الخبز يستحيل أن يأتي أو يكون بواسطة إنسان, لأنه خبز روحي جوهري يختص بطبيعة الله، فهو خبز الله الحقيقي الذي يتحتم أن يكون خبزاً سمائياً، لا أرضياً، بالمعنى الحقيقي. وأن يكون موهوباً من الله ليس على المستوى الزماني كأنه يختص بزمن ما يأتي في المستقبل. بل خبز حقيقي يختص بالأبدية القائمة في الله باستعلانه في الحاضر الدائم إلى أبد الأبدين: «تأتي ساعة وهي الآن». وأن يكون خبزاً غير محدود بالزمن كالمن الذي دام فقط أربعين سنة وانقطع لعدم الحاجة إليه، بل هو خبز دائم الفعل والعمل، غير محدود لشعب كما كان المن في القديم، بل خبز خاص بالعالم كله: «لأن خبز الله, أي الخبز الذي هو من طبيعة الله, هو النازل من السماء, أي ليس من طبيعة الأرض, الواهب حياة للعالم, حياة سمائية من نفس طبيعة مصدره السمائي» (يو33:6)، حيث الإشارة هنا بدأت تتركز في شخص سمائي وليس في شيء أرضي.
فالمسيح يشير خفيا هنا إلى نفسه, وإن كان لا يتعجل الاستعلان عن نفسه أنه هو الخبز الحي الحقيقي النازل من السماء, مما جعلهم يظنون أن هذا الخبز هو شيء يمكن أن يُعطى لهم فيريحهم من زراعة وحصاد وطحين وعجين وخبيز وتخزين.
ولكن يمكن أن نتعمق مع القارىء، إذا أطال أناته علينا، لنشرح له معنى أعمق لمفهوم التوراة كخبز وطعام عند الروحيين المتأملين من متصوفي اليهود وكبار الربيين على مستوى «فيلو» اليهودي وغيره الذين أخذوا عن سفر الحكمة قوله: «الحكمة تشيد بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذبحها، مزجت خمرها، أيضا رتبت مائدتها، أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالى المدينة: من هو جاهل فلقبل إلى هنا, والناقص الفهم قالت له: هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها. اتركوا الجهالات فتحيوا، وسيروا في طريق الفهم.» (أم1:9-6).
فقد اعتبروا التوراة، أي الناموس، أنه الغذاء الروحي والخبز المتحصل من القراءة والهذيذ المتواصل فيهما. علما بأن القديس يوحنا كان متيقطا منذ مطلع إنجيله إلى هذا الاتجاه، وقد أطاح بهذه النظرية في أية واحدة: «لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا (يو17:1). وهنا وضع الآنجيل الحد الفاصل بين طبيعة الناموس وهدفه، وبين طبيعة النعمة والحق. فالأول (أي الناموس) كان لتهذيب الحياة بالسلوك البشري في خوف الله، والثاني كان لقبول حياة الغبطة بالروح والشركة في الحق، أي قبول طبيعة الله.
وقد امتد «فيلو» العالم المتصوف اليهودي بمفهوم الخبز الروحي إلى المن أيضا، معتبرا أن المن هو رمز للتوراة وتعبير عن «الحكمة», كما جاء في سفر الأمثال.
وهنا يشير المسيح إلى أن المن لم يكن إلا رمزا والرمز لا يُحيي؛ ولم يكن هو الخبز الحقيقي الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية, وبالتالي فإن المن باعتباره خبز التوراة عند حكماء اليهود لم يؤدى ولن يؤدي إلى الحكمة الحقة ولا إلى معرفة الله الحقيقية.
ولكن بينما كان المسيح يضع أسس الحكمة الحقيقية ويشرح معنى الخبز الحقيقي، توطئة للدخول في مفهوم ذبيحة الحكمة العظمى، بتقديم جسده وليمة على مائدة الحياة الأبدية؛ هبط فكر اليهود إلى مستوى السامرية عندما سمعت بالماء الحي فطلبته لكي يغنيها عن عطش وجهد وعن جذب هذا العالم الشديد، فسألوه:
وتشديد سؤال اليهود على أن يكون عطاء هذا الخبز كل حين لا يجيء من فكرهم، بل لأن المسيح أكد وشدد على أن خبز الله هو«النازل من السماء»، حيث جاءت كلمة «النازل» كفعل دائم السريان في الصيغة الدائمة المستمرة. فظنوه أنه ينزل كل يوم. وفي الواقع لا نرى في سؤالهم هنا: «يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز» أي انحراف في محيط فهمهم أنه خبز ينزل إليهم من السماء فيعطيهم حياة دائمة. غير أن اعتراضهم الشديد على هذا الخبز ظهر بوضوح حينها كشف المسيح عن سر هذا الخبز انه هو جسده الذي سيبذله عن حياة العالم. بعكس السامرية التي سألت نفس السؤال ببساطة: «يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي» (يو15:4), ثم علمت أن هذا الماء ليس ماء للشرب بل هو دعوة لسيرة مقدسة وطاهرة فيها ترتوي من حب الله والمسيح, أو بمعنى آخر، هو توبة؛ فلم تعترض، بل اعترفت وتابت وتطهرت، وقبلت المسيح مُخلصاً، بل وبشرت، وكأنما يريدنا الآنجيل أن نعرف أن الخاطىء (السامرة) لما لم يتمسك ببره واعترف بخطيته خلص، والبار (اليهود) في عين نفسه هلك.
لما سألت السامرية المسيح أن يعطيها من مائه الحي لكي لا تعطشى، أعطاها نفسه فقبلته.
وعلى نفس المستوى لما طلب منه اليهود أن يعطيهم من خبز الله الحقيقي، أشار إلى نفسه: «... يا سيد أعطينا في كل حين هذا الخبز، قال لهم: أنا هوخبز الحياة من يقبل إلي فلا يجوع، فلو كانوا قد قبلوا منه عطية نفسه، لما جاعوا. العطية جاهزة أمامهم والخبز حاضر: «أنا هو خبز الحياة»، «أنا هو نور العالم»، «أنا هو الباب»، «أنا هو الطريق»، «أنا هو الحق»، «أنا هو الراعي الصالح»، «أنا هو الكرمة الحقيقية»، «اأنا هو القيامة»، «أنا هو الحياة» ... فهل يمكن أن يكون التعريف بنفه أكثر من هذا؟! لو فتشوا الكتب لوجدوه، إنه هو الحياة الأبدية: خبزاً وماءً؛ فهو يخاطب اليهود أصحاب التوراة وميراث الآنبياه بطوله وعرضه، فهوذا الذي يغطي هذه النبوات كلها بالنسبة للحياة الأبدية يقول لهم علانية: «أنا هو»، «أنا هو خبز الحياة وماؤها. اسمع ما تقوله التوراة وهي ترمز إلى المسيح:
+ «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا, عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد.» (تك22:3)
+ « وشجرة الحياة في وسط الجنة.» (تك9:2)
+ «من يغلب فسأعطيه أن يأكل مز شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله.» (رؤ7:2)
+ «طوبى للانسان الذي يجد الحكمة ... هي شجرة حياة لممسكيها والمتمسك بها مغبوط.» (أم13:3و18)
+ «ثمر الصديق شجرة حياة.» (أم30:11)
+ «وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة, ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس (الآناجيل الأربعة).» (تك10:2)
+ «وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور، خارجاً من عرش الله والخروف ... وعل النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة.» (رؤ1:22-2)
+ «يروون من دسم بيتك, ومن نهر نعمك تسقيهم لأن عندك ينبوع الحياة وبنورك نرى نوراً.» (مز8:36-9)
+ «أنا هو الألف والياء, البداية والنهاية، أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً.» (رؤ6:21)
والرب في قوله لليهود: «أنا هو خبز الحياة, من يقبل إلي فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً» يجمع الأكل والشرب معا, فهو الطعام السمائي الكلي والكافي، الذي عاد ووصفه كسر الإفخارستيا الأبدية، الذي هنا نأكله ونشربه بالسر وهناك نشبع ونرتوي منه بالحق إلى الأبد.
أنظر أيها القارىء في قوله «أبداً». «لا يعطش أبداً»، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية» ... «الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم.» (يو53:6-54)
فهو شجرة الحياة الوحيد المستعلن هناك بالحق, وهنا بالسر المكتوم. ولكن المسيح سواء هنا أو هناك هو مأكل حق ومشرب حق، منه نستمد قوة الحياة ونورها وفرحها ومسرتها، و«الآن» عنمد المسيح مربوط «بالأبد» لأنه في المسيح المسقبل حاضر كله وممتد بلا تغير فيه ولا ظل دوران. فما نراه هنا فى مرآة نراه هناك هو هو وجهاً لوجه.
إسمعه وهو يقول للسامرية التائبة: «من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية» (يو14:4). ثم اذكر كيف ارتوت هذه التائبة المباركة من ماء الحياة وأروت آخرين. وتأمل أيها القارىء في قوله: «من يقبل إلي فلا يجوع, ومن يؤمن بي فلا يعطش ...»، فهو لا يخيب رجاء من يقبل إليه لأن في يمينه شبع سرور: «أمامك شبع سرور. في يمينك نعم إلى الأبد» (مز11:16). وإشعياء النبي يقول: «يقودك الرب على الدوام ويشبع في الجدوب نفسك، وينشط عظامك، فتصير كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه.» (إش11:58)
فالمسيح يقدم نفسه لليهود ولنا كطعام حقيقي «مأكل حق» يدوم هنا وفي السموات, ولا ينقطع قط. فالشبع´من المسيح هو شبع إلهي سمائي لا يؤول إلى جوع دنيوي قط. والارتواء من المسيح هو ارتواء الروح بالروح. فينبوع المسيح ينبوع سمائي إلهي ينسكب بجملته في أحشاء الإنسان لينبع فيه ومنه، هذا وعد المسيح وعمل الروح الذي يجري الآن أمام عيونن, وطوبى لمن يرى و يسمع.
هذا الكلام حلو كشهد العسل، ولكن هناك فرق بين من يشتهي عطايا المسيح ومن يشتهي المسيح نفسه. فالجليليون كانوا كالسامرية، لما سمعوا هذا الكلام الحلو الذي يقطر عسلاً قالوا له: هات منه يا سيد، ولقبو بالسيد تملقاً لعلهم يفوزون بعطاياه، ولكن كاشف الكلى والقلوب أدرك أنهم يقبلون عطاياه ولا يقبلونه هو، ويؤمنون بمنفعة مواهبه ولا يؤمنون به هو. فلما قال: «أنا هو» ازدروا به وبعطاياه. فوضع لهم الشرط كالمشرط: عطاياي لمن يقبل إلي، وغناي لمن يؤمن بي.
الكلام هنا تكملة للقول: «أنا هو خبز الحياة»، ورداً على قولهم: «أعطنا في كل حين هذا الخبز»، لقد أخطأوا الرؤية وتزيفت لهم الحقيقة، بل الحق الناصع، بسبب تركيزهم الكلي على شهواتهم ومنافعهم وأمالهم الدنيوية الكاذبة. فخبز الحياة الذي قدمه المسيح لهم هو شخصه، ولكنهم تجاوزوه وأرادوا آية المن النازل من السماء، لأن ذلك كان يرضي شهواتهم.
فهنا يواجه المسيح رؤيتهم المزيفة ويحاول أن يردهم للحقيقة مرة أخرى: «ولكني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون». الإشارة هنا إلى أية سابقة هي: «االحق الحق أقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات, بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم» (يو26:6), لقد رأوا الآية واضحة أمامهم عندما بارك الخبز وأطعمهم: خسة آلاف من خمس خبزات، فكان شخصه هو محور الآية لأنهم راوه كمُعطي خبز الشبع، كصاحب بركة السماء، هذه البركة التي رأوها بل أكلوها، ولكنهم آمنوا بالخبز الذي ملأ بطونهم ولم يؤمنوا لا بالبركة ولا بمصدرها. لماذا؟
هنا يشرح لهم المسيح سبب عدم إيمانهم وهو أنهم مرفوضون من الله الآب, فلو كانوا مقبولين لدى الله الآب لكان الآب قد سلمهم للابن، ولكانوا أقبلوا على الابن بمسرة إرادتهم، ولكان الابن قد أدخلهم في النور وصاروا أبناء الله. أما لماذا رفضهم الله؟ فالمسيح يشير بكل وضوح إلى أية سابقة وهي: «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يو29:6)، عندما يعمل عمل الله. فالمسيح عمل أمامهم وتحت بصرهم عمل الله، مبرهناً أنه هو الذي أرسله الله لهم, ولكن: «قد رأيتموني ولستم تؤمنون»
بالإضافة إلى رؤية المسيح صانعاً معجزات، وهذا بحد ذاته هو عمل الله الذي ينبغي أن يؤدي إلى التعرف على المسيح شخصيا كمرسل من الله وابن له، يركز المسيح هنا وفي مرات أخرى أيضاً على التعرف عليه شخصيا بل وفى مرات أخرى أيضاً على التعرف عليه شخصيا بدون آيان. هذا نعرفه بوضوح من قوله لفيلبس: «أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس، الذي رأني فقد رأى الآب, فكيف تقول أنت آرنا الآب» (يو9:14). وهذا يشير إلى أن شخص الرب كان يحمل سمات إلهية لا تُخفى عن العيون المفتوحة التي طوبها الرب: «فإني الحق أقول لكم إن أنبياء وأبرارا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا» (مت17:13). الرؤيا هنا والسمع حاستان مفتوحتان على الإيمان, فالحواس البشرية جُعلت لا لتخدم الجسد فقط، بل هي متصلة بالروح إذا تهذبت بالكلمة الإلهية وخضعت لهاتف الخير وايحاء الروح.
ولكن شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة تتلف حواس الإنسان وتخضعها لتخدم ملذات الإنسان، فيصاب بالعمى والصمم الروحيين.
فالرب يتعجب جدا من فيلبس كيف فات عليه الإحساس بالحقيقة الإلهية الكائنة في المسيح، كما يتعجب جدا من اليهود هنا الذين لم يؤمنوا به, حتى بعد أن رأوه متكلما بكلام الله وعاملا أعمال الله.
ولكن المسيح يشدد أولا على سهولة وإمكانية الإيمان به بدون رؤية آيات وأعمال ولكنهم أخطأوا رؤيته لأنهم أخطاوا إلى الله: «فقالوا له أين هو أبوك؟ أجاب يسوع لستم تعرفونني أنا ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً.» (يو19:8)
ثم يتنازل المسيح إلى واجب الإيمان به إذا تكلم كلام الله: «فإن كنت أقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي؟ الذي من الله يسع كلام الله لذلك أنتم لستم تسعون لأنكم لستم من الله» (يو46:8-47)؛ «لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية, وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم.» (يو22:15)
ثم يتنازل المسيح أكثر ويرى أنه من الواجب بل ومن الضرورة أن يؤمنوا به لأنه يعمل أعمال الله: «إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي, ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي (شخصيا) فآمنوا بالأعمال، لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه.» (يو37:10-38)
أي أن الإيمان بالمسيح مفتوح في الدرجة الأولى برؤيا بدون قول أو عمل، وإلا فالدرجة الثانية بالقول وبالعمل، فإن انغلق الإيمان وانحجب المسيح حتى بعد الرؤيا والقول والعمل، فهذه علامة غضب الله.