لقد لخص القديس يوحنا في مقدمة إنجيله نصيب الخدمة التي قام بها الرب نحو شعبه: «جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله» (يو11:1)، ونراها في اليهودية: «لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه». وفي الجليل: سنقرأ حالاً «ولما كان إخوته قد صعدوا حينئذ صعد هو أيضا إلى العيد، لا ظاهرا، بل كأنه في الخفاء.» (يو10:7). وهكذا ترك الرب الجليل لأخر مرة وفي الخفاء. فبعد أن أشبع الخمسة الآلاف وأجرى الأيات الكثيرة هناك، رفضوه وصادروا أقواله، وتركه كثيرون من تلاميذه ولم يعودوا يسيرون معه.
أما في أورشليم: فسنرى كيف أن أعنف رفض له كان ينتظره هناك، مع التهديد بالقتل بصورة متلاحقة وشديدة حتى انتهى بالصليب.
ونقرأ على التوالى في هذا الأصحاح السابع وما يليه (الثامن) هكذا:
13:7 «وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ جِهَاراً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ».
19:7 «أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟».»
25:7 «فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟»
30:7 «فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ ......»
32:7 «...... فَأَرْسَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ خُدَّاماً لِيُمْسِكُوهُ.»
44:7 «وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ ........»
37:8 «أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي ........»
40:8 «وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ.....»
59:8 «فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. ..........»
وصدق فيه قول إشعياء النبي: «هكذا قال الرب فادي إسرائيل قدوسه للمهان النفس, لمكروه الامة, لعبد المتسلطين... في وقت القبول استجبتك. وفي يوم الخلاص أعنتك... وأجعلك عهداً للشعب...» (إش7:49-8)
ويهمنا أن نوضح من قول القديس يوحنا في هذه الآية أن المسيح كان يتردد في اليهودية قبل مجيئه إلى الجليل، وهذا يمثل الجزء الأول من خدمته التي أغفلها الإنجيليون الثلاثة.
في اليوم الخامس عشر من هذا الشهر السابع عيد المظال سبعة أيام للرب. في اليوم الأول محفل مقدس... سبعة أيام تقربوت وقوداً للرب. في اليوم الثامن يكون لكم محفل مقدس تقريون وقوداً للرب إنه اعتكاف (راحة) (لا34:23-36)
يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس [عيد المظال هو أكبر وأقدس أعياد اليهود وأكثرهم مسرة للشعب. وكان يقع في شهر تشري اليهودي, سابع شهور التقويم العبري، وكان العيد يستغرق سبعة أيام مع يوم أخير للراحة ويسمى اليوم العظيم من العيد، وهذا الشهر يوافق شهر سبتمبر_أكتوبر بالتقويم الغربي، وهو آخر الأعياد للسنة المقدسة. ويخرج اليهود في هذا العيد إلى العراء ويعيشون في مظال يصنعونها من أغصان الأشجار تذكارا لمعيشة اليهود 40 سنة في البرية بعد خروجهم من مصر.]
وهذا العيد بالذات كان يُنظر إليه أنه مرتبط برجاء آخر الآيام وأعاد وخيرات منتظرة. ولكن في أيام المسيح كانت قد أضيفت طقوس أخرى تذكارية تعليمية. ففي كل يوم كان رئيس الكهنة يخرج بملابسه الرسمية مع جوقة اللاويين، ومعهم قدر من الذهب يملأونها ماء من بركة سلوام، ويدخل بها رئيس الكهنة ويصبها على المذبح، وتصرف في في وادي قدرون، في مجرى من الفضة، وذلك تذكارا للصخرة التي أخرجت الماء وسقت شعب إسرائيل في البرية. ويرد اللاويون عليه بالآلات الموسيقية نشيد هالليل الكبير وتسابيح صهيون، ويرددون مقطعا من إشعياء النبي (2:12و3و6): «هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لى خلاصاً. فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص... صوتي واهتفي يا ساكنة صهيون لأن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك». (وهو نفس النشيد الذي تستخدمه الكنيسة القبطية في أيام أسبوع الآلام باعتبار أن المسيح أُخرج خارج أورشليم حاملاً صليبه، فالكنيسة تعيد لهذا الخروج: «لذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب. فلنخرج إذن إليه خارج المحلة حاملين عاره» (عب12:13-13). وهو نفس الخروج الذي تكلم عنه موسى وإيليا حينما ظهرا مع الرب في التجلي: «وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا. اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في اورشليم... وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يا معلم جيد أن نكون ههنا. فلنصنع ثلاث مظال. لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة» (لو30:9-33). وهكذا واضح أن خروج المسيح خارج الباب الذي يعني آلامه ثم صلبه, مرتبط في ذهن العهد القديم بالمظال وهو عيد الخروج خارج أبواب البيوت في أورشليم والإقامة في المظال، الذي هو تذكار الخروج في البرية والحياة في العراء، تمهيدا لدخول أرض الميعاد.]
وقد اتحذ الرب ذلك المشهد أساسا لتعليمه: «وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلا: إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من أمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي» (ي37:8-38)، وهذا ردا على هتاف اللاويين بالنسبة لنشيد الصخرة التي أخرجت الماء.
كذلك، كان من طقوس ذلك العيد أنه في أول يوم فيه كان يبدأ بإنارة المنارة الذهبية الكبرى ذات الثماني الشعب والأربع المنارات الأخرى التي كانت ترفع في رواق النساء. وكانت أنوارها تنعكس على كل البيوت في أورشليم ويتلألأ ضوؤها في سماء اورشليم كلها حتى جبل الزيتون. وكانت تضاء شعبة في كل يوم، حتى اليوم الأخير الثامن حيث تضاء الشعبة الأخيرة وذلك تذكارأ لعمود النور الذي كان يقود شعب إسرائيل بالليل في البرية. وقد استخدم الرب هذا المنظر أيضا لتقديم تعليمه بالمقابل: «ثم كلمهم يسوع أيضا قائلا أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظمة بل يكون له نور الحياة» (يو12:8)
وكان منظر المسيح وهو يعلم بصفته «الصخرة الحقيقية» و«النور الحقيقي» في وسط الشعب وهو مبعثر في عراء أورشليم في مظاله, وكأنه في التيه متبد، يصوره إنجيل القديس يوحنا وكأن: «الكلمة صار جسدا وحل بيننا» يلاقي الشعب التائه المهموم الذي لم يصل بعد إلى راحته ولا ظفر بوعد ميراثه... وقد جاءهم الرب بملء تحقيق وعد الدهور، ومعه راحة الله إلى الآبد ، ومفتاح بيت داود ذي المنازل الكثيرة (يو2:14) يفتح ولا أحد يغلق: «وكرسيه كالشمس أمامي. مثل القمر يثبت إلى الدهر. والشاهد في السماء أمين. سلاه.» (مز36:89-37)
وأمام الذبائح الكثيرة التي يمتاز بها هذا العيد دون جميح الأعياد، وقف المسيح يقول لليهود: «أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس. لماذا تطلبون أن تقتلونى؟» (يو19:7)؛ وكأنه يسلم بالأمر الواقع باعتباره الذبيحة العتيدة ولكن يطلب التفسير من جهة سلوكهم.
وقد التقط الكتبة والفريسيون امرأة في العيد أمسكوها وهي تخطىء . وبإباء وشمم قالوا للمسيح إن موسى في الناموس أمر أن مثل هذه ترجم. ونسي هؤلاء الأئمة والعظماء أن أباءهم الذين يفتخرون بشرف النسب إليهم، فعلوا فعلتها وهم في البرية متبددين على شكل حالهم في هذا العيد بالذات. ولعل القديس يوحنا ذكر هذه القصة في هذا العيد لهذه المناسبة: «جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب... كما زنى أناس منهم فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفا» (اكو7:10-8). وأخيرا وبعد تحقيق للضمير أجراه المسيح بهدوء ثبت أن كل المشتكين عليها كانوا خطاة. أما المسيح فرأى فيها صورة لحال شعبه، فتحنن وعفا عنها وعنه، ودفع ثمن خطيئتها دمه!!! هذا كله كان في عيد المظال.
«فقال له إخوته»: هؤلاء الإخوة هم بحسب تسجيل القديس متى (55:13): يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا. وهم بحسب تحقيقات العالم ليت فوت بالمقارنة مع إنجيل مرقس (21:3و31) أن هؤلاء الإخوة هم أولاد يوسف خطيب مريم من زواج سابق، وباعتبارهم أكبر سنا قاموا هذه النصيحة كأنهم يرشدون الرب. ويلاحظ أن إنجيل يوحنا يفصلهم عن التلاميذ وعن الرسل. مع ملاحظة أن عدم انسجامهم شعوريا مع المسيح والإفصاح عن عدم إيمانهم به يضعهم في وضع حرج واستفهام على ضوء الاعتراف الجريء الواضح الذي قدمه بطرس الرسول منذ قليل (يو68:6-69). وهم بنصيحتهم هذه, أي الذهاب لليهودية (أورشليم) يقدمون في الواقع انتقادا ضمنيا للمسيح أنه تخلف عن عيد الفصح السالف، وعن غيابه عن أورشليم الذي طال لمدة ستة شهور. والأن هي فرصة في هذا العيد لكي يرى الجموع المزدحة كلها في أورشليم في هذه المناسبة أعماله ومعجزاته، حيث يجتمع كل تلاميذه الكثيرين الذين تبعوه في اليهودية: «فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا...» (يو1:4)، بل وكان أيضا له من بين أعضاء السنهدريم من يتوددون إليه سرا مثل نيقوديموس (يو1:3)، وهؤلاء في نظر إخوته يمكن أن يكونوا عزوة له إذا رأوا أعماله الجديدة.
يبدو هنا الكلام الذي قاله إخوة الرب وكأنه غير واضح ، لكن رد المسيح عليه يظهر كل خفاياه. فالذي يوضح المعنى ثلاث جمل:
الاولى: قالها القديس يوحنا وهي: «لأن إخوته أيضا لم يكونوا يؤمنون به».
والثانية: قالها الرب: « وقتي لم يحضر بعد» .
والثالثة: «لا يقدر العالم أن يبغضكم».
بهذا نفهم أن إخوة الرب أرادوا أن يدفعوه للظهور في أورشليم في العيد. ولكنهم يضعون نصيحتهم في قالب من النقد الشديد غير اللائق؛ إذ لاحظوا أنه بقي في الجليل وحولها مختفياً لمدة ستة أشهر، لم يذهب لأورشليم ولم يحضر أعيادها طول هذه المدة، فاعتبروا ذلك أنه جبن أو خوف من الظهور العلني بسبب أن اليهود هددوه بالقتل في أورشليم أخر مرة. ووجه النقد والتعيير عندهم هو أنه يدعي أن أعماله يعملها على المستوى العلني العام، فكيف يختفي ويعمل أعماله في القرى فقط، «إن كنت تعمل ... فأظهر نفسك للعالم». وهكذا تظهر هذه النصيحة التي فيها حث ودفع للظهور أن فيها تعييراً وشماتة، ولا تأتي من مصدر صادق, بل لأنهم لم يكونوا يؤمنون به. أي لم يدركوا هذه السنين كلها رسالته الإلهية أو يشعروا بشخصه الفائق. وهذا يكشف عمى قلوبهم بل ويكشفون ضمناً استحالة أن يكونوا إخوته من الأم, لأن موقفهم يكشف انعدام الروح الأخوية والأسرية تماماً. ورد المسيح عليهم بالرفض يوضح موقفه ويفضح موقفهم .
أما دفاعه عن أسلوب اختفائه هذه المدة في الجليل فهو لأنه يتحاشى استباق الحوادث والزمن، لأنه يعلم أن ساعة الصليب, وهي نفسها ساعة الظهور العلني للعالم, يتلقى ميعادها من الآب رأساً: «لم تأت بعد». فأي إثارة زائدة للرؤساء في أورشليم, إذا ظهر علناً بتحد, قد تخلق مشاكل تعطل خطة التسليم الهادىء التي دبرها الآب السماوي والتي يعلمها مسبقاً ويريدها في حينها. «قتي لم يحضر بعدء». ولكن شهادتي ضد العالم وأعماله الشريرة باقية كما هي، وبالتالي لا يزال أمامه عمل وشهادة وتعليم. أما وقتهم فحاضر كل حين, يستطيعون أن يذهبوا إلى أورشليم حينما يشاءون كزائرين، أما المسيح فلا يذهب هذه المرة إلا ليُصلب !!
أما موقف إخوته المفضوح فيرد عليه بطريق غير مباش: «لا يقدر العالم أن يبغضكم» ... لأنه سبق وأن شهد على العالم «أن أعماله شريرة». وهذا يفيد أن العالم لا يبغضهم لأن أعمالهم متوافقة مع العالم. ولهذا فقط لم يكونوا يؤمنون به, لأنهم كانوا يطلبون ما للعالم, ولا هو كان يؤمن بهم، وهذا واضح غاية الوضوح على الصليب, إذ سلم أمه القديسة العذراء مريم ليوحنا تلميذه, ولم يسلمها لهؤلاء الإخوة المزعومين الحقودين. ولا يفوت علينا أن يوحنا هنا بالذات كان يعلم بسلوكهم ونياتهم. وفي الوقت الذي يفضح فيه المسيح نيتهم وأعمالهم، يعلن أنه لم ولن يهادن العالم ولا الشر الذي في أعمالهم: «ولكنه يبغضني أنا لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة». وهنا يتضح أن أهل العالم لا يحتملون التبكيت، ويواجهون كشف الخطايا بالهجوم والبغضة وان لزم فبالقتل.
ويلاحظ القارىء أن انتقاد أعمال الرب سهل، ويسقط فيه كل من لم يحتفظ في قلبه بصورة صادقة للايمان بالرب، بالضبط كما يسهل انتقاد الله في أعماله في الخليقة، بسبب قصر النظر وعدم شمول الإدراك البشري لقدرة وقوة الله غير المحدودة واللانهائية.
وقد سقط يهوذا ليس الإسخريوطي أحد التلاميذ الاثني عشر في نفس النقطة التي هوى فيها إخوة الرب , حتى في الليلة الأخيرة قبل التسليم, وذلك بانتقاد أقوال الرب وأعماله، ولكن ليس بسبب عدم الإيمان وانما بسبب ما أضمره يهوذا من انتظار محبة العالم، وهذا بسبب عدم الثبوت في كلام الرب ومحبته: «قال له يهوذا ليس الإسخريوطي يا سيد ماذا حدث حتى إنك مزمع أن تظهر ذاتك لنا وليس للعالم» (يو22:14). والعجيب أن الرب لم يرد مباشرة على يهوذا موضحأ هذا الأمر, لأن الرب علم أن علة سؤاله لا ترجع إلى طلب المعرفة بل محبة العالم, وهذا بالتالى يرجع لعدم ثبوته في الرب، لا في كلامه ولا في محبته: «أجابه الرب إن أحبني أحد يحفظ كلامي, ويحبه أبي، وإليه نأتي وعنده نصنع منزلا.» (يو23:14)
وهكذا يشترك الجليليون مع التلاميذ الذين رجعوا إلى الوراء، مع إخوة الرب، وحتى مع يهوذا ليس الإسخريوطي في خداع البصر الذي وقعوا فيه جميعا، بسبب انتظارهم اليهودي التقليدي الكاذب لمجد دنيوي في شخص ملوكية المسيا, فلما أدركوا أن نهاية رسالة المسيح هي موت وذبح وجسد ودم، انقلبوا ناقدين وناقمين وعلى الأقل جداً غير فاهمين...
ولكن هذا الموقف من إخوة الرب لم يمنع أن يصبح يعقوب أخو الرب واحدا من الرسل فيما بعد، ولا أن يكون يهوذا ليس الإسخريوطي أحد التلاميذ الإثني عشر المؤتمنين. وهذان الاثنان بالذات يبدو أن خبرتهما المؤلمة أنشأت إيماناً ساخناً حاراً بعد استعلان مجد الرب بالقيامة، فكتب كل منهما رسالته. ولكن يبدو من الرسالتين مدى تأثر الشخصية بالتقليد والقوالب اليهودية القديمة إلى حد ما، مما يكشف عن سر عثرتهم الاولى.
بالرغم من تضارب أفكار علماء الكتاب المقدس في هذه الآيات إلا أن المعنى واضح أمامنا كل الوضوح. فإخوة الرب لم يكن قصدهم من ذهاب المسيح للعيد إلا للظهور العلني أمام العالم وعمل الآيات جهارا ليجمع حوله التلاميذ وذلك لعلة في النفس. ورد المسيح واضح: «اصعدوا أنتم إلى هذا العيد» بالقصد الذي ترونه من مشاركة المعيدين في الاحتفالات وأفراح هذا العيد، حيث كانوا يذهبون في جماعات كبيرة، وهذا يشير إلى أن رفض المسيح يكاد يكون لهم هم ولصحبتهم ولأفكارهم وليس للذهاب إلى العيد.
أولاً: ورود كلمة «بعد»: «أنا لا أصعد بعد إلى هذا العيد»، معناها واضح وهو: «أنا لا أصعد الآن». وهذا توضحه بقية الرواية هكذا: «فلما صعدوا صعد هو أيضاً». إذن، فعدم صعوده لم يقصد منه النفي الكامل للصعرد بل النفي للظرف الزماني الآن وبصحبتهم، لأنه صعد بعد ذلك بمفرده. وبالرغم من ورود الكلمتين مترادفتين «صعدوا ... وصعد أيضاً» إلا أن الزمن بينهما كبير وسيظهر ذلك من الشرح.
ثانيا: أما المسيح فهو لا يصعد أصلا إلى العيد ليعيد أو يشارك في التعييد، إلا أنه صعد إلى اورشليم في هذا العيد ليكمل عملا آخر غير العيد.
ثالثاً: إن صعودهم كان في جماعة، أي صعود علني ترافقه التسابيح والزمر والطبل وأغصان النخيل, وهذا غير الصعود الذي كان يضمره الرب أن لا يكون علنياً بل في الخفاء, ودون أن يأخذ تلاميذه معه، لأنه كان لا يريد إثارة الأوساط الرئاسية في أورشليم, كما أنه لم يكن مثل بقية المعيدين، بل صعد إلى أورشليم ليكمل رسالته ويسلم حياته. فهو لم يصعد للعيد ليقدم ذبائح بل صعد ليقدم ذبيحة نفسه. هذا هو المعنى بل المعاني المستترة وراء الكلمات التي تبدو متضاربة شكلاً فقط: «اصعدوا (إلى العيد) أنتم، أنا لا أصعد بعد إلى هذا العيد ولما صعدوا صعد هو أيضاً».
رابعاً: نفهم من الأناجيل الأخرى أن الرب لم يصعد مباشرة إلى أورشليم كما جاء في إنجيل القديس متى (1:19): «ولما أكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم اليهودية من عبر الارن»، أي عبر في إقليم بيريه. وكذلك كما جاء في إنجيل القديس مرقس (1:10): «وقام من هناك وجاء إلى تخوم اليهودية من عبر الاردن فاجتمع إليه جوع أيضاً, وكعادته كان أيضاً يعلمهم». وهذا يؤكد كلام الرب أنه فعلا لم يكن مقصده أورشليم مباشرة لحضور العيد, إذ أمضى مدة طويلة في عبوره الاردن في إقليم بيريه، ثم منها عبر ثانية إلى تخوم اليهودية ثم إلى أورشليم. وهذا يتوافق جداً مع إنجيل القديس يوحنا في موضع متقدم: «فطلبوا أيضاً أن يمسكوه فخرج من أيديهم ومضى أيضأ إلى عبر الاردن إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولاً ومكث هناك (يو39:10-40). وفي نهاية رحلته حط الرحال في قرية بيت عنيا بجوار أورشليم لزيارة خاطفة لمرثا ومريم وأخيهم لعازر (قبل معجزة إقامته من الموت): «وفيما هم سائرون دخل قرية، فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها وكانت لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه» (لو38:10-39). ومن قرية بيت عنيا دخل إلى أورشليم في منتصف العيد.
واضح من هذا الكلام أن المسيح كان غائباً في الأيام الاولى من العيد: «أين ذاك», وواضع جداً أنه لم يظهر إلا في منتصف العيد: «ولما كان العيد قد انتصف صعد يسوع».
«فكان اليهود يطلبونه في العيد ويقولون أين ذاك»: كلمة «اليهود» هنا تشمل المعادين له والأصدقاء، والمعادون هم الرؤساء والفريسيون الذين قاوموه بشدة، كما جاء في الأصحاح الخامس، وكان رده عليهم موبخاً عنيفاً فبلغت الخصومة أقصاها: «كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه. لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب. يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم.» (يو44:5-45)
وهؤلاء كانوا يبحثون عنه في كل الجماعات القادمة من الجليل, عل مستوى مباحث أمن الدولة, ولم يجدوه. وهكذا صح فكر المسيح وقوله لإخوته: «اصعدوا أنتم إلى هذا العيد أنا لست أصعد بعد إلى هذا العيد» (يو8:7)، لأنه تخلف عن الركب حتى لا يعطي أعداءه فرصة لتدبير المكائد.
«أين ذاك»: تأتي كلمة «ذاك» في قالب الإحتقاروالحقد والتنمر، كما جاءت كلمة «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل» (يو52:6)، بمعنى الازدراء والتجاهل. وهذا يكشف مقدار ما بلغه الصدام من التربص به وانتظاره مدة ستة أشهر منذ ترك أورشليم، لأن ضغينتهم لم تهدأ.
«وكان في الجموع مناجاة كثيرة من نحوه. بعضهم يقولون إنه صالح. وأخرون يقولون لا بل يضل الشعب»: كلمة «مناجاة» ترجمة ركيكة للأصل اليوناني ( ) والتي تأتي بمعنى «لغط» وهي باللاتينية murmur (ويعرفها الأطباء كوصف لدقات القلب الغير منتظمة). واللغط هو بالنسبة للشعب أصوات غير منسجمة أو متضاربة بين من يقول أنه صالح, أي طيب ومستقيم ولا عيب فيه، وهي صفة من صفات الله: «ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله» (مت17:19)، أوردها إنجيل يوحنا عن عمد ليعلن بها الإتجاه الإيماني الصحيح؛ والآخر ينفي الصلاح عنه على أساس سياسي وناموسي: لأنه «يضل الشعب», سواء من جهة السبت أو من جهة إدعاء أنه المسيا. وهي نفس العلة التي قدمها رؤساء الكهنة ضده ليُصلب (لو2:23و14). ولكن بالرغم من ذلك لم يستطع الرؤساء هؤلاء أن يحركوا الشعب ضده، لأنه كان قد اكتسب ثقتهم: «وقالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب.» (مت5:26)
«لسبب الخوف من اليهود»: اليهود هنا تتضح صفتهم، فهم ولاة الشعب سواء فريسيين أو كتبة أو كهنة. فبالرغم من أنهم لم يصدروا حكمهم عليه بعد، ولكن نياتهم كانت معروفة للشعب، لذلك كان الذين يساندونه بالرأي والفعل لا يجرؤون أن يظهروا ذلك جهارا.
تنقسم هذه التعاليم إلى ثلاثة أقسام بحسب الأشخاص الذين يسألون والرد عليهم.
أ _ تعاليم موجهة لليهود: (14:7-24).
ب _ تعاليم موجهة إلى سكان أورشليم: (25:7-31).
ج _ تعاليم موجهة إلى الخدام المرسلين من الفريسيين ورؤساء الكهنة: (32:7-36).
انتصاف العيد، أي في اليوم الرابع من بدايته، وواضح هنا بالتأكيد أن المسيح لم يحضر العيد من أوله بالفعل. كما أن ظهوره في منتصف العيد بعد أن أجهد الرؤساء أنفسهم في البحث عنه، يوضح ظهوره المفاجىء لهم. وهذا يقصده المسيح ويدركه القديس يوحنا جيدا ويحاول أن يبرزه بصورة نبوية، فهذا تحقيق فعلي لقول ملاخي النبي: «هأنذا أرسل ملاكي فيهيىء الطريق أمامي. ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه... ومن يحتتمل يوم مجيئه ومن يثبت عند ظهوره لأنه مثل نار.» (مل1:3-2)
والعجيب حقا أن زكريا النبي يصف ذلك اليوم الذي فيه يتغير كل شيء بمجيء الرب أنه يكون عيد المظال بعينه!! «ويكون أن كل الباقي من جميع الأمم الذين جاءوا على أورشليم يصعدون من سنة إلى سنة ليسجدوا للملك رب الجنود وليعيدوا عيد المظال» (زك16:14). وحينما قدم إخوة الرب النصيحة, دون أن يقصدوا الحق, كانت نبوة دهرية دون أن يدركوها أو يحترموها: «أظهر ذاتك للعالم» ، وتأتي مُحكمة على نبوة زكريا السابقة أن ذلك يكون في عيد المظال. وهي رنين مبدع مسموع للنبوة التي قدمها سمعان الشيخ: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب (يهود الشتات من كافة أقطار وشعوب الأرض) نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل» (لو29:2-30)
ولاحظ أن الرب في هذا العيد وقف وقال: «أنا هو نور العالم» كما سيأتي (12:8). كما سيتكلم في هذا الأصحاح أيضا عن الحياة والنور، فيأتي الكلام موقعا توقيعا صادقا على ما جاء في مقدمة الإنجيل: «فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس.» (يو4:1)
أ- تعاليم موجهة لليهود : (14:7-24).
وتنحصر في: مصدر رسالته (16-18)؛ في دحض الشرح الخاطئ للناموس (17-19)؛ وضد روح وتاريخ الناموس (20-24).
واضح هنا أن الكتب تعني الأسفار المقدسة، وكلمة «يتعلم» تفيد التلمذة للربيين ودراسة اللغة، ولكن المقصود طريقة التعليم بسلطان والشرح والحوار وضرب الأمثال والإقناع! فهي التي أذهلت كل من سمعه حتى أعداءه. فنقرأ في كل من إنجيل مرقس وإنجيل متى وانجيل لوقا: «وللوقت دخل المجمع في السبت وصار يعلم. فبهتوا من تعليمه, لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (مر21:1-22 ومت8:7)
«ولما كان السبت ابتدأ يعلم في المجمع. وكثيرون إذ سمعوا، بهتوا قائلين من أين لهذا هذه, وما هذه الحكمة التي أعطيت له...» (مر2:6 ومت54:13)
«وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه.» (لو22:4)
ولكن أصعب من كل ما يمكن تصوره في التعليم اليهودي هو الدخول في دقائق الناموس وشرحه. وهذا هو ما أراد القدىس يوحنا تقديمه من جهة قدرة المسيح الفائقة على ذلك, ويقصد بذلك قصدا أن يكشف المصدر الإلهي في المسيح.
ومعروف أن أي ناموسي لا تقبل شهادته أو شرحه للناموس إلا إذا أعلن عن الشخص الذي تلقى منه المعلومة المطروحة للكلام, والذي يتحتم أن يكون «ربي» أي معلم سنهدريمي رسمي ومعترف به. و يلاحظ القارىء أن الرب يسوع استخدم نفس الأسلوب الناموسى رداً على اندهاشى الذين سمعوا تعليمه، والذي لابد أنه كان تعليمأ عن الناموس:
أي مستمد من الله رأساً. فالكلام والتعاليم التي أقولها منسوبة، ليس لمعلم ولا لربي أو ناموسي، بل منسوبة إلى صاحبها وهو الآب الذي أرسلنى وهذا رد قاطع ومفحم.
هنا يطرح المسيح أمام سامعيه الوسيلة للتحقق من المصدر الإلهي لتعليمه، ليتأكد أنه تعليم الله وليس تعليم «ربى» أو حتى تعليم المسيح. فهو يقول أن الطريقة الوحيدة هي طريقة عملية أخلاقية توافقية. فإذا استطاع إنسان أن يتوافق مع مشيئة الله، أي أن يكون فكره وسلوكه بحسب مشيئة الله, فإنه يدرك في الحال أن ما أقوله أنا هو كلام الله، وإن كان يوضح مشيئة الله, أم أتكلم أنا من نفسي. وبمعنى آخر أيضاً، فإن الإنسان الذي يؤمن حقاً أن المسيح قد أتى من الآب يكون هو الإنسان الذي شاء ويشاء أن يعمل ويعرف مشيئة الآب. وهذا هو الأسلوب المحبب للمسيح وهو الأسلوب العملي جداً والبسيط للغاية المطروح أمام كل إنسان دائمأ أبداً: ونبسطه أمام القارىء في أربع كلمات:
آمن بالرب، تستعلن أسراره؛ تعال ليسوع، تكتشف الله؛ اخضح لمشيئته، تُدرك مشيئته.
والعكس مستحيل المستحيل. فالفحص والدراسة والتحليل لا توصل إلى الحقيقة الإلهية الكائنة في أقوال المسيح وتعاليمه. فلو كان المسيح يتكلم من نفسه ويعلم من نفسه وبسلطانه الشخصي، لكان من الممكن إخضاع كل أقواله وتعاليمه للفحص العقلي والنقد لكشف محتواها حسب الثوابت الأدبية. ولكن الحقيقة المذهلة أن كل كلام المسيح، وكل تعاليمه، ليست له ولا منه ولكنها من الله الآب ولله الآب؛ وأصبح التسليم لها حتمية روحية كلية.
المسيح يثبت هنا أنه مرتبط بالمصدر الذي يقول ويعلم لحسابه. فلو كان تعليمه هو حصيلة فكره ودراسته الخاصة، لكان يطلب ثمنه شهرة أو مجداً لنفسه. ولكنه لا يطلب الآن لنفسه شيئاً، لا شهرة ولا مجداً ولا أتعاباً خاصة، ولكنه يطلب فقط مجد الله أبيه الذي أرسله. إذن، فلأنه أخرج نفسه من التأثير الشخصي في عملية التعليم وأصبح التعليم كله خاصأ بالله، يكون التعليم إلهياً مائة بالمائة، وحقاً وصدقاً وليس فيه أي ابتزاز، ويكون المسيح صادقاً وعادلاً في كل ما يقول، وليس ظالماً كما يفترون.
نفهم من هذا بالنسبة لأنفسنا، أن طلب المجد الشخصي والسعي إليه يثبتان تزييف التعليم وابتزاز مجد الآخر وهو الله. كذلك فإن صدق التعليم الإلهي وصدق المعلم الذي من الله يتوقفان على لمن يطلب المعلم المجد: لنفسه أم لله؟ والرب سبق ووبخ الفريسيين، وهم معلمو الشعب: «كيفت تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض؟» (يو44:5). الرب هنا أخرج الفريسيين ليس من دائرة التعليم الصحيح فحسب، بل ومن دائرة الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله يتوقف بالدرجة الاول على تمجيد الله.
والرب هنا في الآية: «من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه» يطبق نفس المبدأ على نفسه على نمط ما وجهه إلى الفريسيين. ثم يعود يوجه التعليم الصحيح إلى غايته الصحيحة: «أما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم (أي عادل)».
ويلاحظ الدارس المدقق أن هذا المبدأ ينطبق تماما على قول القديس بولس: «لكنه أخلى نفسه» (في7:2). فالمسيح أخلى نفسه من المجد وطلب المجد: «مجداً من الناس لست أقبل» (يو41:5)، بل ومن الكرامة أيضاً كما رأيناه في غسل أرجل تلاميذه كعبد: «أجاب يسوع: أنا ليس بي شيطان لكني اكرم أبي وأنتم تهينونني. أنا لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين» (يو49:8-50). وذلك كله لحساب مجد وكرامة الآب الذي أرسله!! والنتيجة أن الآب رد له المجد مجدين، إذ رد عليه الآب بصوت مسموع من السماء علنا : «مجدتُ وأُمجد أيضاً» (يو28:12). فالذي أخلى نفسه من المجد عاد إليه المجد مضاعفاً: مجد في الأرض ومجد في السماء! ولكن الذي يطلب ويأخذ مجداً من الناس وهو أصلاً لحساب مجد الله، فإنه بتعبير الإنجيل ظالم ومبتز. اسمع ما يقول الرب بشأنه: «لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب، يوجد الذي يشكوكم.» (يو45:5)
المسيح ينقل هنا التعليم نقلة خطيرة، فهو يهاجم الفريسيين على أرضهم المزعومة وفي بيتهم الذي جعلوه مغارة لصوص: يهاجهم في أمانتهم للناموس بل وفي معرفتهم له بل وفي عملهم به. ويهاجمهم داخل الهيكل وليس في الخفاء أو في زاوية!! ولكن على أي أساس يهاجمهم؟
الكلام هنا متصل اتصالاً وثيقاً بما قبله، وليس كما يظن خطأ علماء الكتاب أنه متصل بالأصحاح الخامس، حيث يدعون أنه نقل وتغييرفي ترتيب الأصحاحات. لقد قال الرب في الآيات السابقة: «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته, يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي» (يو16:7-17). فهو يبني على هذا الكلام أنهم لا يعملون مشيئة الآب لأنهم لم يعرفوا تعليم المسيح أنه من الله. هذا أولا، أما ثانيأ، فلأنهم على خلاف ناموس موسى وقواعده وأصوله يريدون أن يقتلوه, مع أنه جاء ليكمل الناموس. وهكذا بينما هم يتهمونه بكسر السبت بدون حق، ها هو الآن يقيم عليهم الدعوى أنهم لا يكسرون الناموس فحسب، بل ويعملون ضده بمحاولة قتله مع أنه يعمل مشيئة الله.
ويلاحظ القارىء أن في الأصحاح الخامس ينتهي المسيح إلى إقامة الدعوى ضدهم أيضاً على أساس الناموس، ويجعل الناموس نفسه قاضياً ودياناً وشاكياً ضدهم، على أساس أنهم لا يقرأون الناموس قراءة صحيحة واعية، وإلا كانوا قد عرفوا منها أنها تشهد له، إذ قال لهم: «فتشوا الكتب» (يو39:5)، وأيضاً على أساس أنه ليس لهم محبة الله فيهم، لأنه وهو ابن محبة الله رفضوه ولم يقبلوه مع أنه جاء باسم أبيه ولم يجىء إليهم باسم نفسه!! ثم أضاف على الدعوى ضدهم في الأصحاح الخامس شكوى ثقيلة للغاية، إذ اتهمهم بأن ليس لهم إيمان بالله، لأن مجد الله أنكروه وطلبوا مجد أنفسهم وبدأوا يطلبون مجد الناس بعضهم من بعض.
أما هنا، في الأصحاح السابع، فالدعوى قائمة عليهم على أساس التعليم نفسه وذلك بشهادتهم هم: «كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟»، فبالرغم من اعترافهم بمعرفته المدهشة بالكتب، وقدرته ذات السلطان في التعليم وليس كالكتبة والفريسيين, وطبعا هذا يعود على أن تعليم الكتبة والفريسيين قائم على ناموس موسى، أما تعليم المسيح فهو من المصدر الأعلى من الناموس أي الله نفسه، كما أن تعليم المسيح جاء ليكمل كل تعاليم سابقة ويصححها, فبالرغم من اعترافهم هذا إلا أنهم بسبب أن المسيح لا يمت إلى مدارسهم ومعلميهم، اعتبروه أنه يضل الشعب، مع أن تعليمه من الله. ولو كانوا «يعملون الناموس», أو بمعنى آخر لو كانوا يقيسون التعليم الذي يعلم به المسيح على الناموس، لأدركوا مصدر التعليم أنه من الله. ولكنهم لأنهم «لا يعملون الناموس» خرجوا عن مقياس الناموس، فانعمت بصيرتهم وطلبوا أن يقتلوا الذي جاء ليكمل لهم الناموس!
حينما تنعمي بصيرة الإنسان، يرى الأبيض أسود. فعكس الرؤيا الصحيحة للمسيح أنه ابن الله، رأوه وكأن به شيطان. والدليل على أن البصيرة قد انعمت عند هؤلاء، أنهم كانوا قد رأوا بأعينهم كيف شفى مريض بيت حسدا المشلول وتعجبوا جميعهم من هذه الأية. إذا، فكان ينبغي أن تُقيم هذه الآية تقيماً صحيحاً، فهي عُملت في السبت، فكان ينبغي أن تنسب لبركات الله في السبت كما تنسب لبركات الناموس، هذا هو الحكم الصحيح. والرب أعطاهم جواز عمل الختان في يوم السبت (الختان يُعمل إلزاما في اليوم الثامن من الولادة, فاحتمال وقوعه في سبت أمر وارد دائما, فالختان يُعمل أصلا من أجل الصحة, أي الطهارة, وكلمة الشفاء الواردة باليونانية تفيد الصحة الجسدية التي تُنطق ( ) والتي جاءت منها الكلمة الإنجليزية Hygie أي الصحة العامة، فإذا تطهر الإنسان في اليوم الثامن أصبح صحيحا ومقبولا في جماعة بني إسرائيل).
فإن كان الختان يُعمل أصلا من أجل صحة الإنسان, فكم وكم بالحري أن يشفي المسيح إنسانا كسيحا مشلولا ليصير صحيحا, ليس في عضو واحد بل في كل أعضاء جسمه؟ وهنا يظهر المسيح أنه يعمل فعلا مكملا للناموس، إذ جعل الإنسان كله طاهرا. وهذا في الحقيقة جزء لا يتجزأ من عملية الفداء، فلا ننسى إطلاقا قول إشعياء النبي أننا بجلداته شفينا وأنه حمل أمراضنا وأسقامنا عليه (إش4:53-5). فعملية الشفاء الروحي التي أجراها المسيح لنا أجراها من رصيد آلامه ودمه.
كما يظهر المسيح أنه يكرم السبت ويكمل بركاته، بأن عمل فيه أعمالت لمجد الله وتكريم الإنسان. ويكفي كرامة لهذه السبوت أن جعل السبت يوما من أيام ابن الإنسان، بسبب أعمال الشفاء التي أكملها فيه.
ثم يعود المسيح لائماً هؤلاء، سواء كانوا فريسيين أو من العامة قائلاً: «لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكماً عادلاً». هنا لفتة من لفتات المسيح الخطيرة، إذ اعتبر أن الأعمال الطقسية والمراسيم والقوانين تحمل صورتين للحق الإلهي، صورة ظاهرية ترى بالعين وصورة جوهرية حقيقية تقاس على بر الله أو حق الله. فالصورة الظاهرية نسبها المسيح للعين والصورة الجوهرية نسبها للحق أو البر. والخلط بينهما أو الاكتفاء بالظاهر، كفيل بأن يضيع حق الله و يطمس معالم البر الإلهي. والنتيجة أنهم من أجل حفظ رسوم يوم السبت، رفضوا رب السبت وقرروا قتله.
يلزمنا هنا أن نفرق بين الاوساط التي يتكلم معها المسيح: اليهود ويمثلهم دائما الفريسيون، والجموع وهم أهل الجليل وعامة الشعب، وأهل أورشليم وهم سكان العاصمة ولهم دائمأ دراية بأحوال الرؤساء وسيساساتهم ولكن لم يكونوا موافقين دائماً على أعمالهم.
وهنا يبرز هذا العنصر الذي كان واقفا يراقب الحوار الذي استظهر فيه المسيح على خصومه من اليهود والجموع، الذين، في الحال، انحازوا لجانب المسيح نوعا ما، وبدأوا يستنتجون من صمت اليهود أن خططهم لقتله غير لائقة. وتقدموا فى استنتاجهم خطوة أخرى: ألعل الرؤساء يتيقنون من صدق رسالته أنه المسيح؟إ
ولكن العقبة التي وقفت إزاء تفكيرهم وتقريرهم عن صحة رسالة المسيح والتيقن من شخصه، هي أن المتداول بين عامة الشعب، متعلمين وغير متعلمين، وخاصة في الأوساط التي تمارس حضور التعليم في الهيكل والمجامع, كان أن المسيح حينما يأتي لا يعرف أحد من أين يأتي؛ وذلك من واقع الكتابات الرؤيوية . ولكن كان معروفا عن المسيح أنه من الجليل, ومن الناصرة، وأنه مولود في بيت لحم، وأن أباه (؟) وأمه معروفان لديهم وحتى إخوته وأخواته (؟).
وأيضا يرد المسيح على ما كان يدور في قلوب هؤلاء الاورشليميين وقد عرفه بإحساسه الإلهي:
لقد أدرك المسيح بإحساسه الإلهي ما كان يدور في قلوبهم، ووافق على أنهم يعرفومه ويعرفون من أين أتى، ولكن معرفتهم للأسف كانت أيضا حسب الظاهر. والظاهر لا يحل محل الحق والجوهر، وإنما يشير إليه إشارة بليغة؛ فكونه «من الناصرة» إشارة ليست بسيطة، بل هي نبوية، وتفيد حقيقته، لو أنهم فتشوا الكتب. وكونه مولودا في بيت لحم، هه أيضا إشارة نبوية تفيد حقيقته، لو أنهم فتشوا الكتب. وهكذا نرى أنه حتى الظاهر عجزوا عن أن يسيروا على هواه ليدخلوا إلى الحقيقة المخفية تحته. لذلك جاهر المسيح بصوت عال, لأن كلمة «نادى» تأتي باليونانية ( ) وتفيد «الصراخ» أو «المناداة بصوت عال»؛ وقال: «من نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفزنه». وهكذا بدأ المسيح يستعلن لهم ما هو تحت الظاهر، أي من أين أتى ومن هو: أمور تمت إلى الحق الذي يفوق معرفتهم الناموسية، ويلزم أن يتقبلوها لتكمل معرفتهم. فـ«الحق» الذي أرسل المسيح لا يعرفه إلا المسيح، والمسيح يعرفه لأنه منه، أي أنه هو نفسه من الحق. والكلام كان واضحا بالنسبة للسامعين إذ أدركوا أنه يتكلم عن الله، وأنه هو من الله، وأن الله هو الذي أرسله؛ لأنه قد سبق وأوضح ذلك مرارا. ولكن الجديد في الموضوع هو أن المسيح بذلك قد أخرس الذين يتماحكون بقولهم إن المسيح لما يأتي لا يعرف أحد من أين يأتي ولا من هو. فهو الآن يقول لهم جهارا وفي الهيكل إني أتيت من عند الله, من حيث لا يعرفون, وليس من الأرض أو البحر, وأنه هو ابن الله, وليس كما يظنون أنه ابن يوسف
ولما فهموا أنهم في نظره لا يعرفون الله ولا يعرفون حتى الكتب، اغتاظوا وتحركوا و«طلبوا أن يمسكوه»، لأن انفعالهم كان على مستوى الهوس الناموسي. ويكمل الإنجيل أنهم لم يستطيعوا أن يلقوا عليه اليد لأن ذلك كان فوق طاقتهم الهزيلة، ولأنه ينبغي أنه هو الذي يسلم ذاته حب التدبير الإلهي عندما تأتي الساعة!...
ولكن في الجانب الأخر كان قوم يسمعون ويميزون بين الحق والكذب وبين النور والظلمة. قوم رأوا في كل آية عملها المسيح برهانا صادقا على دعوته، ثم رأوا في العدد المهول من الآيات المعمولة تأكيدا على صدق دعوته. ويمكن أن ندعوهم مؤمني الآيات: «ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟». ونفهم من قولهم هذا أنهم كانوا يطبقون، في أفكارهم، بين المسيا الذي سمعوا عنه وعن أوصافه من المعلمين وبين يسوع الواقف أمامهم ووراءه هذه الآيات كلها!...
الآن نعن ندخل المرحلة الثالثة من المحادثة؛ كان حديث الشعب عن المسيح يلتقط أولا بأول ويُبلغ به مجمع السنهدريم الذي يضم كل الطبقات الدينية المسئولة، من فريسيين ورؤساء كهنة عاملين وغير عاملين. فبمجرد أن بلغ السنهدريم خبر إنحياز قطاع من الشعب لتعاليم المسيح, تشكلت لجنة في الحال, وأرسلت مجموعة من الخدم, وهم ضباط يأتمرون بأمر السنهدريم, لهم صفة رسمية تخول لهم القبض على الأشخاص.
رؤساء الكهنة: وهذه الفئة تتشكل من الرؤساء السابقين: حنان، والرئيس الحالي قيافا، ومن يساعده من أبنأئهم: أليعازار بن حنان، وسمعان بن قمحيت، وإساعيل بن قابي، وكذلك أعضاء أُخر من العائلات الرئاسية، علمأ بأن لقب رؤساء الكهنة لا يمت للوظيفة الدينية بقدر ما يعني العمل السياسي, كما نسمع ذلك في سفر الأعمال: «وحدث في الغد أن رؤساءهم وشيوخهم وكتبتهم اجتمعوا إلى أورشليم مع حنان رئيس الكهنة وقيافا ويوحنا والإسكندر وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة» (أع5:4-6). وهذه التشكيلة هي صورة للسنهدريم، وهو الهيئة العليا لمحكمة القضاء العالي، ومركزها أورشليم, والتي تشكلت لأداء عملها أثناء حكم الرومان وكان عليها تصريف الأمور، ولكن لم يكن في سلطتها إصدار حكم الموت على أحد. وكان من سياسة الرومان أن يساندوا سلطة السنهدريم.
والسنهدريم كان يتكون من ثلاث طبقات:
الاولى: رؤساء الكهنة العاملين وكل رؤساء الكهنة السابقين وبعض أبنائهم، وهي الهيئة الأرستقراطية في أورشليم، وكان مركز عملهم ورزقهم من الهيكل، ولم يكن لهم صلة كبيرة بالمجامع المحلية. وكانوا يلعبون بمصير الأمة اليهودية تحت ستار السلطة الدينية.
الثانية: الصدوقيون وكانوا يتسمون بالكهنة أو الشيوخ. ولم يكونوا كهنة بالمعنى الديني ولكنهم كانوا دائما ملتصقين برؤساء الكهنة, ولهم صفة قضائية. والكهنة ورؤساء الكهنة كانوا في عداء وصدام خفي مستمر مع الطبقة الثالثة.
الثالثة: وهم «الفريسيون» أو «الكتبة» وهم ما يمكن أن نسميهم طبقة المحامين ويسمون باليونانية «الكتبة» أو «الناموسيون» (ولم يذكرهم بهذا الاسم القديس يوحنا في إنجيله), وكانوا يذكرون تحت اسم «الفريسيين». وهؤلاء كانت لهم دراية دقيقة وواسعة بالناموس اليهودي والتقاليد المتعلقة به. وكانت وظيفتهم متابعة تطبيق الشريعة بترقت يفوق حد الوصف. وكانت تدخلاتهم وسلطانهم متزايدين على المجامع المحلية وليس الهيكل؛ أي لم يكن لهم تدخل في مراسيم العبادة, وانما الحفاظ عل التقاليد وتعاليمها. لذلك كان صدامهم مع المسيح متواصلا، وكانوا يندسون وسط الشعب ليديروا الحوار والأمثلة والإعتراضات، وكانوا يبلغون السنهدريم في الحال بأي انحراف عن أفكارهم المقفولة. وقد ورد ذكرهم تحت اسم الفريسيين: «فقال الفريسيون بعضهم لبعض: انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً (لم يحسنوا إحكام التضييق عليه وعلى تعاليمه) هوذا العالم قد ذهب وراءه.» (يو19:12)
وقد انضم هؤلاء مع الصدوقيين (الكهنة) في عملية القبض على المسيح ومحاكمته، تحت اسم الفريسيين: «فأخذ يهوذا الجند وخداماً (ضباط) من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاءوا إلى هناك بمشاعل ...» (يو3:18)
«فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة»: فالمحركون الأساسيون في هذه العملية هم الفريسيون. ولكن بدون أمر رسمي من رؤساء الكهنة لا يمكن تنفيذ أي حكم في السنهدريم. لذلك نجد أن أية حركة نحو تطبيق أية عملية يلزم أن يشترك فيها رؤساء الكهنة مع الفريسيين، كما يجيء في (45:7 و57:11)، حيث يكونان معاً السلطة المنفذة للسنهدريم.
«فقال لهم يسوع أنا معكم زماناً يسيراً بعد, ثم أمضي إلى الذي أرسلني»: المسيح هنا أمام ضباط السنهدريم الذين معهم أمر للقبض عليه، يخاطبهم الرب بصفتهم أنهم هم الذين سيقبضون عليه فعلا بعد قليل (يوم الخميس). فما معنى التسرع «وهو» ليس معه أمر (من الآب) بالتسليم؟
الخدام الضباط وجدوا أنفسهم أمام سلطة ذات مستوى أرقى وأعلى لم يواجهوها من قبل، شلت أيديهم وجمدت أرجلهم. لم يكن سهلا على أنفسهم ولا على وظاثفهم أن يعودوا بدونه، ولكن كان سهلا عليهم أن يفقدوا «هذه» و«تلك» ولا يمدوا أيديهم عليه!!! لم يكن الخوف وحده الذي أرعبهم من الاقتراب إليه, ولكن كلامه كان فيه روح وحياة أنعشت نفوسهم المجدبة, ورفعت من أرواحهم فوق السنهدريم والقوانين والوظائف والحياة والموت. فعادوا فرحين لأنهم لم يقبضوا عليه، وليكن ما يكون ...
أما الزمان اليسير الذي حسبه الرب وقاسه: فكان ستة شهور ليأتي الفصح الأخير وليكمل الزمان ويُذبح المسيح فصحنا ...
«ثم أمضي إلى الذي أرسلني»: كلمة «أمضى» هنا، وهي بمعنى مجرد الذهاب، تأتي مترادفة مع كلمتين بنفس المعنى ولكن بشرح آخر: «وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضأ وآخذكم إلى ...» (يو3:14). والكلمة الثالثة: «إن ذهبت أرسله إليكم» (يو7:16). ويهمنا هنا أن نشرح الفرق بين هذه الثلاثة الأفعال المترادفة.
فالاولى: «أمضي إلى الذي أرسلني» (33:7). المعنى هنا يفيد عملا شخصيا بمعنى «الإنسحاب». وقد أتت أيضا في يو14:8: «وأعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب». وفي الآية 3:13 «وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضى». وفي الآية 4:14«وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق». وفي الآية 5:16 «وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني». ويلاحظ هنا أن معنى المضي في اللغة اليونانية هو مجرد إنسحاب شخصي يفيد معناه فقط .
والثانية: وقد أتت في الآية 3:14 «وإذ مضيت وأعددت لكم مكانا ... ». وفي الآية 3:13 « ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم هناك». وفي الآية 7:16 «ولكن إن ذهبت أرسله إليكم». وهنا ينصب معنى «الذهاب» باللغة اليونانية على القصد منه، فهو ذهاب ومضي له عمل وهدف. فيظهر الذهاب أنه مكمل لإرسالية لها غاية.
والئالثة: وقد أتت في 7:16 «إنه خير لكم أن أنطلق». وفي الآية 68:6 «يا رب إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك». وهنا الذهاب يأتي باللغة اليونانية بمعنى الفراق فقط. ومجرد الفراق هو الذي تشدد عليه الآية بالرغم من أن الفراق نفسع قد يُنشىء شيئاً آخر
وقد اعتنينا بتوضيح هذه الفروقات لسبب واحد، وهو أن اللغة العربية تقف عاجزة في مواقف كثيرة عن أن تعبر عن المعنى بكلمة واحدة، فتأتي الكلمة غير كافية إطلاقاً لشرح المعنى كما رأينا. فالذهاب قد يكون لعمل ما، وقد يكون إنسحاباً، وقد يكون مجرد ذهاب فرقة.
«أمضى إلى الذي أرسلني» : لا يزال المسيح هنا يخاطب الين أرسلهم السنهدريم, وهو يتكلم بنفس المشاعر التي تجول في قلوبهم فهو مُرسل كما هم مُرسلون, هم مرسلون من السنهدريم وهو مرسل من الله. والكلام واضح لهم ومؤثر للغاية. رسالتهم قبض ودينونة وعنف، هم كرهوها أشد الكره، ولولا أكل العيش لتركوها. ورسالته وضحت أمامهم أنها للحب والسلام والفرح والشفاء والشكر. لقد خجلوا جداً من أنفسهم وعادوا يتحدثون بفضل الذي سمعوه»
«ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تستطيعون أنتم أن تأتوا»: بمجرد سماع هذه الآية يتوارد إلى الذهن قول الرب: «اطلبوا تجدوا» (مت7:7). ولكن هنا للأسف سيطلبون ولا يجدون, ليس لفوات الوقت، ولكن لفوات الفهم والإدراك والتعرف على المرسل والراسل. فهي فرصة حرجة للغاية لا تتكرر ولن تتكرر بالنسبة للذين رأوه وأنكروه، للذين سمعوه ورفضوه، للذين تحدث إليهم وابتسم في وجههم وأفاض من حبه عليهم، وفي النهاية رجعوا إلى الوراء ولم يعودوا يسيرون لا معه ولا خلفه. هؤلاء سيطلبونه فيما بعد، ولكن لن يجدوه لأنه يكون قد أنهى رسالة النظر والسمع واللمس، ودخل في مجال مجد التجلي الأبدي حيث لا يرى بعد بالعين بل بالإيمان ... سيذهب المسيح كعريس إلى خدره الأبدي السري، ويغلق الباب حينما تغرب شمس يوم الإفتقاد: «كم مرة أردت أن أجمع أولادك ... ولم تريدوا» (لو34:13). فإلى الذين قبلوه يقول: «تعالوا إلي»؛ وإلى الذين رفضوه يقول: «اذهبوا عني». إنها لحظات في عمر الإنسان تقرر مصيره الأبدي والذين تفوتهم ساعة الخلاص المعروضة دائماً «الآن», يطلبونها بعد فلا يجدونها.
« ... ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين. ويعلم اليونانيين»: لقد بح صوت المسيح إزاء آذان مسدودة. لقد سبق ورد في الآيات السابقة على «من أين أتى», «ومن هو» التي كانت علة التعرف عليه، وهم علموا أنه يقول عن الله مصدر كيانه ومصدر مجيئه. وهوذا الآن يكمل القول أنه ذاهب إلى الذي أرسله، ولكن إلى هناك لا يستطيع أحد أن يتبعه، وهو إن كان معهم الآن فهو إلى زمان قليل للغاية ... ولكن طاشت عقولهم في جغرافية الأرض والى أماكن التمشي فيها واستقرت في مواضع اليونانيين. أليس أنه مولود في الناصرة أو بيت لحم وأبو وأمه عندنا ... فعساه قد قرر أن يغير المواضع والأوطان، إن كان قد عز عليه العودة إلى الجليل. إلى هذا الحد الضيق الغريب انتهت أفكارهم وتأملاتهم وانتهى ذكاؤهم الأحمق. ولكن شيئاً واحداً صادقاً ظل لاصقاً بعقولهم هو أنه ذاهب, لا خوفاً منهم, ولكن رغبة في التعليم، فهولا يزال في مخيلتهم أنه هو هو«المعلم» حيث يعلم هناك شتات اليهود. ولهذا الأمر ارتاحت جداً عقول ضباط السنهدريم, فهو وان كان سيكون نورا للأمم هناك فهو لا يزال يطلب مجد إسرائيل. على قدر هذا تنبأوا وهم لا يدرون ... ولكن بقي السؤال محيرا لعقولهم: ما هذا القول الذي قال، ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟ وكان على المسيح أن يضع هذا في قلبه ليوضحه لنا شيئاً فشيئاً.
الآن نعن ندخل المرحلة الثالثة من المحادثة؛ كان حديث الشعب عن المسيح يلتقط أولا بأول ويُبلغ به مجمع السنهدريم الذي يضم كل الطبقات الدينية المسئولة، من فريسيين ورؤساء كهنة عاملين وغير عاملين. فبمجرد أن بلغ السنهدريم خبر إنحياز قطاع من الشعب لتعاليم المسيح, تشكلت لجنة في الحال, وأرسلت مجموعة من الخدم, وهم ضباط يأتمرون بأمر السنهدريم, لهم صفة رسمية تخول لهم القبض على الأشخاص.
رؤساء الكهنة: وهذه الفئة تتشكل من الرؤساء السابقين: حنان، والرئيس الحالي قيافا، ومن يساعده من أبنأئهم: أليعازار بن حنان، وسمعان بن قمحيت، وإساعيل بن قابي، وكذلك أعضاء أُخر من العائلات الرئاسية، علمأ بأن لقب رؤساء الكهنة لا يمت للوظيفة الدينية بقدر ما يعني العمل السياسي, كما نسمع ذلك في سفر الأعمال: «وحدث في الغد أن رؤساءهم وشيوخهم وكتبتهم اجتمعوا إلى أورشليم مع حنان رئيس الكهنة وقيافا ويوحنا والإسكندر وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة» (أع5:4-6). وهذه التشكيلة هي صورة للسنهدريم، وهو الهيئة العليا لمحكمة القضاء العالي، ومركزها أورشليم, والتي تشكلت لأداء عملها أثناء حكم الرومان وكان عليها تصريف الأمور، ولكن لم يكن في سلطتها إصدار حكم الموت على أحد. وكان من سياسة الرومان أن يساندوا سلطة السنهدريم.
والسنهدريم كان يتكون من ثلاث طبقات:
الاولى: رؤساء الكهنة العاملين وكل رؤساء الكهنة السابقين وبعض أبنائهم، وهي الهيئة الأرستقراطية في أورشليم، وكان مركز عملهم ورزقهم من الهيكل، ولم يكن لهم صلة كبيرة بالمجامع المحلية. وكانوا يلعبون بمصير الأمة اليهودية تحت ستار السلطة الدينية.
الثانية: الصدوقيون وكانوا يتسمون بالكهنة أو الشيوخ. ولم يكونوا كهنة بالمعنى الديني ولكنهم كانوا دائما ملتصقين برؤساء الكهنة, ولهم صفة قضائية. والكهنة ورؤساء الكهنة كانوا في عداء وصدام خفي مستمر مع الطبقة الثالثة.
الثالثة: وهم «الفريسيون» أو «الكتبة» وهم ما يمكن أن نسميهم طبقة المحامين ويسمون باليونانية «الكتبة» أو «الناموسيون» (ولم يذكرهم بهذا الاسم القديس يوحنا في إنجيله), وكانوا يذكرون تحت اسم «الفريسيين». وهؤلاء كانت لهم دراية دقيقة وواسعة بالناموس اليهودي والتقاليد المتعلقة به. وكانت وظيفتهم متابعة تطبيق الشريعة بترقت يفوق حد الوصف. وكانت تدخلاتهم وسلطانهم متزايدين على المجامع المحلية وليس الهيكل؛ أي لم يكن لهم تدخل في مراسيم العبادة, وانما الحفاظ عل التقاليد وتعاليمها. لذلك كان صدامهم مع المسيح متواصلا، وكانوا يندسون وسط الشعب ليديروا الحوار والأمثلة والإعتراضات، وكانوا يبلغون السنهدريم في الحال بأي انحراف عن أفكارهم المقفولة. وقد ورد ذكرهم تحت اسم الفريسيين: «فقال الفريسيون بعضهم لبعض: انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً (لم يحسنوا إحكام التضييق عليه وعلى تعاليمه) هوذا العالم قد ذهب وراءه.» (يو19:12)
وقد انضم هؤلاء مع الصدوقيين (الكهنة) في عملية القبض على المسيح ومحاكمته، تحت اسم الفريسيين: «فأخذ يهوذا الجند وخداماً (ضباط) من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاءوا إلى هناك بمشاعل ...» (يو3:18)
«فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة»: فالمحركون الأساسيون في هذه العملية هم الفريسيون. ولكن بدون أمر رسمي من رؤساء الكهنة لا يمكن تنفيذ أي حكم في السنهدريم. لذلك نجد أن أية حركة نحو تطبيق أية عملية يلزم أن يشترك فيها رؤساء الكهنة مع الفريسيين، كما يجيء في (45:7 و57:11)، حيث يكونان معاً السلطة المنفذة للسنهدريم.
«فقال لهم يسوع أنا معكم زماناً يسيراً بعد, ثم أمضي إلى الذي أرسلني»: المسيح هنا أمام ضباط السنهدريم الذين معهم أمر للقبض عليه، يخاطبهم الرب بصفتهم أنهم هم الذين سيقبضون عليه فعلا بعد قليل (يوم الخميس). فما معنى التسرع «وهو» ليس معه أمر (من الآب) بالتسليم؟
الخدام الضباط وجدوا أنفسهم أمام سلطة ذات مستوى أرقى وأعلى لم يواجهوها من قبل، شلت أيديهم وجمدت أرجلهم. لم يكن سهلا على أنفسهم ولا على وظاثفهم أن يعودوا بدونه، ولكن كان سهلا عليهم أن يفقدوا «هذه» و«تلك» ولا يمدوا أيديهم عليه!!! لم يكن الخوف وحده الذي أرعبهم من الاقتراب إليه, ولكن كلامه كان فيه روح وحياة أنعشت نفوسهم المجدبة, ورفعت من أرواحهم فوق السنهدريم والقوانين والوظائف والحياة والموت. فعادوا فرحين لأنهم لم يقبضوا عليه، وليكن ما يكون ...
أما الزمان اليسير الذي حسبه الرب وقاسه: فكان ستة شهور ليأتي الفصح الأخير وليكمل الزمان ويُذبح المسيح فصحنا ...
«ثم أمضي إلى الذي أرسلني»: كلمة «أمضى» هنا، وهي بمعنى مجرد الذهاب، تأتي مترادفة مع كلمتين بنفس المعنى ولكن بشرح آخر: «وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضأ وآخذكم إلى ...» (يو3:14). والكلمة الثالثة: «إن ذهبت أرسله إليكم» (يو7:16). ويهمنا هنا أن نشرح الفرق بين هذه الثلاثة الأفعال المترادفة.
فالاولى: «أمضي إلى الذي أرسلني» (33:7). المعنى هنا يفيد عملا شخصيا بمعنى «الإنسحاب». وقد أتت أيضا في يو14:8: «وأعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب». وفي الآية 3:13 «وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضى». وفي الآية 4:14«وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق». وفي الآية 5:16 «وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني». ويلاحظ هنا أن معنى المضي في اللغة اليونانية هو مجرد إنسحاب شخصي يفيد معناه فقط .
والثانية: وقد أتت في الآية 3:14 «وإذ مضيت وأعددت لكم مكانا ... ». وفي الآية 3:13 « ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم هناك». وفي الآية 7:16 «ولكن إن ذهبت أرسله إليكم». وهنا ينصب معنى «الذهاب» باللغة اليونانية على القصد منه، فهو ذهاب ومضي له عمل وهدف. فيظهر الذهاب أنه مكمل لإرسالية لها غاية.
والئالثة: وقد أتت في 7:16 «إنه خير لكم أن أنطلق». وفي الآية 68:6 «يا رب إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك». وهنا الذهاب يأتي باللغة اليونانية بمعنى الفراق فقط. ومجرد الفراق هو الذي تشدد عليه الآية بالرغم من أن الفراق نفسع قد يُنشىء شيئاً آخر
وقد اعتنينا بتوضيح هذه الفروقات لسبب واحد، وهو أن اللغة العربية تقف عاجزة في مواقف كثيرة عن أن تعبر عن المعنى بكلمة واحدة، فتأتي الكلمة غير كافية إطلاقاً لشرح المعنى كما رأينا. فالذهاب قد يكون لعمل ما، وقد يكون إنسحاباً، وقد يكون مجرد ذهاب فرقة.
«أمضى إلى الذي أرسلني» : لا يزال المسيح هنا يخاطب الين أرسلهم السنهدريم, وهو يتكلم بنفس المشاعر التي تجول في قلوبهم فهو مُرسل كما هم مُرسلون, هم مرسلون من السنهدريم وهو مرسل من الله. والكلام واضح لهم ومؤثر للغاية. رسالتهم قبض ودينونة وعنف، هم كرهوها أشد الكره، ولولا أكل العيش لتركوها. ورسالته وضحت أمامهم أنها للحب والسلام والفرح والشفاء والشكر. لقد خجلوا جداً من أنفسهم وعادوا يتحدثون بفضل الذي سمعوه»
«ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تستطيعون أنتم أن تأتوا»: بمجرد سماع هذه الآية يتوارد إلى الذهن قول الرب: «اطلبوا تجدوا» (مت7:7). ولكن هنا للأسف سيطلبون ولا يجدون, ليس لفوات الوقت، ولكن لفوات الفهم والإدراك والتعرف على المرسل والراسل. فهي فرصة حرجة للغاية لا تتكرر ولن تتكرر بالنسبة للذين رأوه وأنكروه، للذين سمعوه ورفضوه، للذين تحدث إليهم وابتسم في وجههم وأفاض من حبه عليهم، وفي النهاية رجعوا إلى الوراء ولم يعودوا يسيرون لا معه ولا خلفه. هؤلاء سيطلبونه فيما بعد، ولكن لن يجدوه لأنه يكون قد أنهى رسالة النظر والسمع واللمس، ودخل في مجال مجد التجلي الأبدي حيث لا يرى بعد بالعين بل بالإيمان ... سيذهب المسيح كعريس إلى خدره الأبدي السري، ويغلق الباب حينما تغرب شمس يوم الإفتقاد: «كم مرة أردت أن أجمع أولادك ... ولم تريدوا» (لو34:13). فإلى الذين قبلوه يقول: «تعالوا إلي»؛ وإلى الذين رفضوه يقول: «اذهبوا عني». إنها لحظات في عمر الإنسان تقرر مصيره الأبدي والذين تفوتهم ساعة الخلاص المعروضة دائماً «الآن», يطلبونها بعد فلا يجدونها.
« ... ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين. ويعلم اليونانيين»: لقد بح صوت المسيح إزاء آذان مسدودة. لقد سبق ورد في الآيات السابقة على «من أين أتى», «ومن هو» التي كانت علة التعرف عليه، وهم علموا أنه يقول عن الله مصدر كيانه ومصدر مجيئه. وهوذا الآن يكمل القول أنه ذاهب إلى الذي أرسله، ولكن إلى هناك لا يستطيع أحد أن يتبعه، وهو إن كان معهم الآن فهو إلى زمان قليل للغاية ... ولكن طاشت عقولهم في جغرافية الأرض والى أماكن التمشي فيها واستقرت في مواضع اليونانيين. أليس أنه مولود في الناصرة أو بيت لحم وأبو وأمه عندنا ... فعساه قد قرر أن يغير المواضع والأوطان، إن كان قد عز عليه العودة إلى الجليل. إلى هذا الحد الضيق الغريب انتهت أفكارهم وتأملاتهم وانتهى ذكاؤهم الأحمق. ولكن شيئاً واحداً صادقاً ظل لاصقاً بعقولهم هو أنه ذاهب, لا خوفاً منهم, ولكن رغبة في التعليم، فهولا يزال في مخيلتهم أنه هو هو«المعلم» حيث يعلم هناك شتات اليهود. ولهذا الأمر ارتاحت جداً عقول ضباط السنهدريم, فهو وان كان سيكون نورا للأمم هناك فهو لا يزال يطلب مجد إسرائيل. على قدر هذا تنبأوا وهم لا يدرون ... ولكن بقي السؤال محيرا لعقولهم: ما هذا القول الذي قال، ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟ وكان على المسيح أن يضع هذا في قلبه ليوضحه لنا شيئاً فشيئاً.
«وفي اليوم الأخير العظيم من العيد»: كان العيد سبعة أيام يعيشونها في مظال من فروع الشجر التي تمثل التيه أربعين سنة في المظال في البرية, أما اليوم الثامن فكان يُعامل كأيام السبوت، فكانت له كرامة السبت، لذلك سُمي باليوم الكبير أو العظيم، ويمثل عندهم في الذكرى يوم الوصول إلى أرض كنعان. والآن في زماننا هذا يعيد اليهود له عيداً خاصاً يسمونه «الهنوكة» أوعيد الأنوار, وهو يلي عيد الشكر عند الأمريكان, ويعيدون له بإنارة المنارة ذات الشعب الثماني، حيث تبقى الشعبة الثامنة لتنار في هذا اليوم.
وفي كل يوم من الأيام السبعة, حسب ما سبق ووضحنا, كان رئيس الكهنة يذهب باحتفال خاص إلى بركة سلوام ويملأ جرة من الذهب ماء يصبها على مذبح النحاس وقت ذبيحة الصباح، حيث تجري المياه في مجرى خاص من الفضة لتصب في وادي قدرون. وأثناء ذلك يسبحون تسبحة إشعياء النبي مع المزامير.
أما في اليوم الثامن فتتوقف هذه العملية حيث يُمنع العمل فيه. وقد وجد الرب أن هذه هي المناسبة الوحيدة حيث وقف, ويبدو أنه وقف على ملكان عال, ونادى قائلا:
«إن عطش أحد فليقبل إلي»: إن طقس حمل الماء وصبه على المذبح كان يمثل خروج الماء من الصخرة في البرية التي شرب منها الشعب. وبولس الرسول رأى أن هذه الصخرة التي كانت تتبعهم هي المسيح. ولم يكن استدلاله على ذلك من عنده، ولكنه أدرك ذلك بالروح، من موقف الرب في هذا اليوم الثامن بالذات من العيد ليقول، عوض ماء الصخرة: «إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب». وطبعاً، سبقت السامرية أهل أورشليم في شربها من هذا الماء الحي عوض ماء بئر سوخار.
كما سبق أن علم المسيح بذلك في يو 35:6 في المناسبة التي أوضح فيها أنه هو المن الحقيقي, خبز الحياة, جسده الذي سيبذله من أجل حياة العالم, ليأكل المؤمنون ولا يموتون بل يحيون إلى الأبد: «فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً», أي أنه هو المن، وهو الصخرة في برية العالم، للأكل الحقيقي والشرب الحقيقي. لقد أخذ على عاتقه أن يعولنا في برية هذا العالم حتى نصل إلى الوطن السمائي الدائم بخبزه السري للغاية ومائه السري لأقصى غاية. فالإرتواء منه للقلب العطش لا يبقى إرتواء وحسب ولكنه يحول الصخر إل نهر, فيصير ينبوع إرتواء للآخرين. شيء يفوق عقل العطشان!! أما السر في ذلك فلأن الإيمان بالمسيح، الذي هو مصدر الإرتواء, يأتي بالإتحاد بالرب. فالرب، حينما نشرب من ملئه، يصير فينا كما هو ينبوع إرتواء للآخرين. نفتح فمنا والروح يتكلم، ونتكلم والروح يعلم، ونعلم والروح يعمد، ونعمد والمسيح يخلق إنساناً جديداً على صورة خالقه في القداسة والمجد. لقد ذهب زمان الحبل بالأنين والولادة بالوجع. فبطن الإنسان، عوض أن كانت مقر الخطيئة والموت, صارت عرشاً لله والروح. وعوض أن كانت تحبل بالخطية وتلد بالألم والدموع, صارت تحبل بالروح لتجري منها أنهار ماء وينابيع الفرح للحياة ... والإنسان الذي كان يأكل من تراب الأرض بعرق جبينه ويمزج لقمته بدموعه, صار يأكل خبز الله النازل من السماء ويغمس لقمته في دم ابن الله.
«من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي»: الكتاب هنا يعود بالسامع والقارىء إلى قصة الصخرة في البرية التي عليها سيبني المسيح كنيسته ويخلق منها الإنسان الجديد على صورته, وهي نفس قراءات مراسيم الهيكل في عيد المظال.
إذ يقرأون فصلا من سفر الخروج: «ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب» (خر6:17). وهكذا لم تعد الصخرة صخرة، بل ينبوع سقي!
كما يقرأون فصلاً من سفر العدد: «ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير, فشربت الجماعة ومواشيها» (عد11:20)، وهنا الصخرة لم تعد صخرة، بل نهرا يفيض.
ثم يقرأون فصلا من سفر التثنية: «الذي أخرج لك الماء من الصخرة الصوان» (تث15:8)؛ ومن سفر المزامير: «المحول الصخرة إلى جداول مياه, الصوان إلى ينابيع مياه» (مز8:114)، وهنا الصخرة تتحول إلى جداول وينابيع.
وهكذا فليس مثل الخاطىء الذي نشفت روحه وجفت مشاعره نحو الله إلا الصخرة الصوان .
وليس الذي آمن بالمسيح إلا هذه الصخرة عينها, حينما يمسها روح الله لتخرج منها أنهار وينابيع وجداول. وسر الماء والإرتواء يظل هو المسيح وحده! ...
وهكذا يستعلن المسيح نفسه في الصخرة، ثم يستعلن عمله في النفس البشرية, مؤكدا أنه هو وحده الذي فيه ومنه الروح والحياة قديماً وجديداً.
«قالت هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد, لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد»: هنا يتدخل القديس يوحنا لكي, من خبرته الخاصة ومن مجرى الأيام والحوادث, يشرح ما التبس في قول المسيح في حينه، إذ كيف تخرج من بطن الإنسان، إذا آمن بالمسيح، أنهار ماء حي والكتاب لم يذكر شيئاً مثل هذا بالنسبة للماء؛ فهذا ظل في الحقيقة أحجية ولغزاً ، إلى أن حل الروح القدس بعد الصليب والقيامة وانسكب على التلاميذ، فشعروا كيف ينسكب الروح عليهم كالماء ويفيض الروح من قلوبهم وأفواههم كأنهار.
وهنا يتضح قول إشعياء : «لأني أسكب ماء على العطشان، وسيولاً على اليابسة، أسكب روحي على نسلك وبركتي على ذريتك.» (إش3:44)
ونبوة يوئيل: «و يكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر, فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلاماً، ويرى شبانكم رؤى، وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام» (يوئيل28:2-29)؛ حيث «السكب» صفة تختص بالماء. وهو هنا يصف بها عطية الروح القدس.
وإشعياء النبي يصف الماء الذي نبع من الصخرة على هذا المستوى من عمل الروح: «قولوا قد فدى الرب عبده يعقوب ولم يعطشوا في القفار التي سيرهم فيها. أجرى لهم من الصخرة ماء وشق الصخرة ففاضت المياه» (إش20:48-21). وهكذا، كما فاضت المياه من بطن الصخرة، هكذا فاض الروح القدس من بطن الذين شربوا من نعمة المسيح، ولم يتوقف فيضانهم، فصار كنهر جار، جرى هذه السنين كلها ولم يتوقف حتى جرفنا تياره نحن أيضاً في أواخر الدهور.
«لأن الروح القدس لم يكن قد آُعطي بعد, لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد»: نعلم أن انسكاب الروح القدس هو عطية الآب حسب وعد الآب (أع4:1)، حتى إن الروح القدس سُمي «روح الموعد» (أف13:1). وقد ارتبط موعد انسكاب الروح بصعود المسيح وانطلاقه إلى الآب: «إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي» (يو7:16)، فطالما بقي المسيح على الأرض على المستوى الزمني تعطل انسكاب الروح.
أما تمجيد المسيح فهو اصطلاح وضعه القديس يوحنا ليشمل النصرة عل الصليب والموت والنصرة عل العالم وتكميل العمل الخلاصي الذي آل إلى المجد.
أما مجد الصليب والموت فواضح من قول الرب: «الآن تمجد ابن الإنسان» (يو31:13)، عند أول خطوه فى تقرير الموت على الصليب، لحظة خيانة يهوذا.
وأما النصرة على العالم فواضح من قول المسيح: «الآن دينونة هذا العالم, الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو31:12)، وذلك في لحطة سماع صوت الآب: «مجدت وأمجد أيضاً.» (يو28:12)
وأما عن تكميل العمل الخلاصي فواضح من قول الرب في صلاته للآب: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته، والأن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم.» (يو4:17-5)
أما مجد الصعود والعودة إلى الآب، فواضح من قول الرب: «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني.» (يو24:17)
فكل خطوات ودرجات المجد جمعها القديس يوحنا في قول واحد: «لم يكن قد مجد بعد». وهذا يقيم لاهوتياً على أعلى مستوى، إذ نرى أعمال المسيح متحدة في وحدة المجد الواحد. فالقديس يوحنا، بهذا القول الواحد الذي تبرهنه جميع أقوال الرب، يجعل أعمال المسيح الاستعلانية في الموت والقيامة والصعود وحدة مطلقة في المجد ليس فيها ما هو أقل من المجد, الذي تصوره آلامه وتذللاته: «ظلم أما هو فتذلل» (إش7:53)، وقبوله الموت كخاطىء، وما هو ممجد الذي تصوره القيامة، وما هو على مستوى المجد الأسنى في أعلى السموات. بل إن القديس يوحنا يقرر، في واقعية مذهلة، أن جميع صور الآلام والصليب تقف في قوة مجدها وكرامتها على مستوى مجد الجلوس عن يمين الآب سواء بسواء.
ولتوضيح القديس يوحنا لكلام المسيح وزن عال جدا, فكلام المسيح: «من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي», هو في ذاته وعد معطل, لأن المسيح لم يكن قد صُلب وقام وانطلق إلى الآب، ولم يكن قد انسكب الروح القدس بعد؛ مما جعل وعد المسيح غير المحقق موضع سؤال محير، لولا تدخل القديس يوحنا بالشرح. فهو تدخل إلهامي أنقذ حيرتنا، لأن التلاميذ على سبيل المثال ظلوا عطاشى وبلا أنهار تفيض منهم حتى وإلى ما بعد القيامة. ولكن هناك، في يوم الخمسين، بدأ قول المسيح يتحقق ويُفهم.
والقديس يوحنا يتدخل, لا ليشرح ما غمض من كلام المسيح, بل ليثبت صدق قول الرب بالدرجة الاولى
«الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد»: وهذا القول في ذاته أيضا محير، لأن في الأصل اليوناني في معظم المخطوطات لا توجد كلمة «أُعطي» فهي مُضافة. فكيف أن الروح لم يكن بعد، مع أن الروح عامل في الخليقة وفي التجسد وفي كلام الرب وأقواله وجميع أعماله؟ الحقيقة هنا تختص بنا نحن، بالبشرية التي لم تكن مهيأة بعد أن تتقبل الروح القدس وعطاياه إلا بعد أن دخل المسيح إلى الأقداس العليا فوجد لنا فداء أبدياً. فالبشرية انتقلت نقلات متلاحقة في شخص المسيح وبشريته من تجسد، لموت، لقيامة، لصعود، وهي تترقى معه وفيه، ولكنها لم تبلغ كمال استحقاقها لتكون في شركة حقيقية مقدسة مع الله والمسيح إلا بعد أن تراءى المسيح أمام الآب، وهو لابس بشريتنا، وجروحه فيه كحمل أُكملت ذبيحته، فكمل بذلك فداء الإنسان وتصالحه مع الآب. لذلك ظل الروح القدس معطلا عن انسكابه على الإنسان، حتى أكمل المسيح في نفسه المصالحة النهائية مع الآب، واستعاد الابن كل مجد الله كابن، فانفتح الطريق المغلق والمحروس بلهيب نار الشاروبيم إلى قلب الآب ونعمته، فصار دخولنا إلى الآب بلا مانع. عندئذ انسكب الروح القدس ليعطينا كل ما اكتسبه المسيح لحسابنا: «يأخذ مما لى ويخبركم.» (يو14:16)
وبذلك يلزمنا أن نفهم أن علاقة تمجيد المسيح بمجيء الروح لا تتعلق بشخص المسيح في حد ذاته, وهي لا تنصب على طبيعة المسيح بالتالى وكأنه كان ينقصها المجد، بقدر ما تنصب على طبيعتنا نحن. فتعذر مجيء الروح القدس قبل أن يكمل المسيح مجده أمر يختص بطبيعتنا نحن بالدرجة الاولى؛ إذ قبل أن يكمل المسيح أعمال الخلاص من نحونا, التى هى أعمال تمجيده, لم نكن نحن مؤهلين لمجيء الروح القدس.
«وفي اليوم الأخير العظيم من العيد»: كان العيد سبعة أيام يعيشونها في مظال من فروع الشجر التي تمثل التيه أربعين سنة في المظال في البرية, أما اليوم الثامن فكان يُعامل كأيام السبوت، فكانت له كرامة السبت، لذلك سُمي باليوم الكبير أو العظيم، ويمثل عندهم في الذكرى يوم الوصول إلى أرض كنعان. والآن في زماننا هذا يعيد اليهود له عيداً خاصاً يسمونه «الهنوكة» أوعيد الأنوار, وهو يلي عيد الشكر عند الأمريكان, ويعيدون له بإنارة المنارة ذات الشعب الثماني، حيث تبقى الشعبة الثامنة لتنار في هذا اليوم.
وفي كل يوم من الأيام السبعة, حسب ما سبق ووضحنا, كان رئيس الكهنة يذهب باحتفال خاص إلى بركة سلوام ويملأ جرة من الذهب ماء يصبها على مذبح النحاس وقت ذبيحة الصباح، حيث تجري المياه في مجرى خاص من الفضة لتصب في وادي قدرون. وأثناء ذلك يسبحون تسبحة إشعياء النبي مع المزامير.
أما في اليوم الثامن فتتوقف هذه العملية حيث يُمنع العمل فيه. وقد وجد الرب أن هذه هي المناسبة الوحيدة حيث وقف, ويبدو أنه وقف على ملكان عال, ونادى قائلا:
«إن عطش أحد فليقبل إلي»: إن طقس حمل الماء وصبه على المذبح كان يمثل خروج الماء من الصخرة في البرية التي شرب منها الشعب. وبولس الرسول رأى أن هذه الصخرة التي كانت تتبعهم هي المسيح. ولم يكن استدلاله على ذلك من عنده، ولكنه أدرك ذلك بالروح، من موقف الرب في هذا اليوم الثامن بالذات من العيد ليقول، عوض ماء الصخرة: «إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب». وطبعاً، سبقت السامرية أهل أورشليم في شربها من هذا الماء الحي عوض ماء بئر سوخار.
كما سبق أن علم المسيح بذلك في يو 35:6 في المناسبة التي أوضح فيها أنه هو المن الحقيقي, خبز الحياة, جسده الذي سيبذله من أجل حياة العالم, ليأكل المؤمنون ولا يموتون بل يحيون إلى الأبد: «فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً», أي أنه هو المن، وهو الصخرة في برية العالم، للأكل الحقيقي والشرب الحقيقي. لقد أخذ على عاتقه أن يعولنا في برية هذا العالم حتى نصل إلى الوطن السمائي الدائم بخبزه السري للغاية ومائه السري لأقصى غاية. فالإرتواء منه للقلب العطش لا يبقى إرتواء وحسب ولكنه يحول الصخر إل نهر, فيصير ينبوع إرتواء للآخرين. شيء يفوق عقل العطشان!! أما السر في ذلك فلأن الإيمان بالمسيح، الذي هو مصدر الإرتواء, يأتي بالإتحاد بالرب. فالرب، حينما نشرب من ملئه، يصير فينا كما هو ينبوع إرتواء للآخرين. نفتح فمنا والروح يتكلم، ونتكلم والروح يعلم، ونعلم والروح يعمد، ونعمد والمسيح يخلق إنساناً جديداً على صورة خالقه في القداسة والمجد. لقد ذهب زمان الحبل بالأنين والولادة بالوجع. فبطن الإنسان، عوض أن كانت مقر الخطيئة والموت, صارت عرشاً لله والروح. وعوض أن كانت تحبل بالخطية وتلد بالألم والدموع, صارت تحبل بالروح لتجري منها أنهار ماء وينابيع الفرح للحياة ... والإنسان الذي كان يأكل من تراب الأرض بعرق جبينه ويمزج لقمته بدموعه, صار يأكل خبز الله النازل من السماء ويغمس لقمته في دم ابن الله.
«من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي»: الكتاب هنا يعود بالسامع والقارىء إلى قصة الصخرة في البرية التي عليها سيبني المسيح كنيسته ويخلق منها الإنسان الجديد على صورته, وهي نفس قراءات مراسيم الهيكل في عيد المظال.
إذ يقرأون فصلا من سفر الخروج: «ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب» (خر6:17). وهكذا لم تعد الصخرة صخرة، بل ينبوع سقي!
كما يقرأون فصلاً من سفر العدد: «ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير, فشربت الجماعة ومواشيها» (عد11:20)، وهنا الصخرة لم تعد صخرة، بل نهرا يفيض.
ثم يقرأون فصلا من سفر التثنية: «الذي أخرج لك الماء من الصخرة الصوان» (تث15:8)؛ ومن سفر المزامير: «المحول الصخرة إلى جداول مياه, الصوان إلى ينابيع مياه» (مز8:114)، وهنا الصخرة تتحول إلى جداول وينابيع.
وهكذا فليس مثل الخاطىء الذي نشفت روحه وجفت مشاعره نحو الله إلا الصخرة الصوان .
وليس الذي آمن بالمسيح إلا هذه الصخرة عينها, حينما يمسها روح الله لتخرج منها أنهار وينابيع وجداول. وسر الماء والإرتواء يظل هو المسيح وحده! ...
وهكذا يستعلن المسيح نفسه في الصخرة، ثم يستعلن عمله في النفس البشرية, مؤكدا أنه هو وحده الذي فيه ومنه الروح والحياة قديماً وجديداً.
«قالت هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد, لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد»: هنا يتدخل القديس يوحنا لكي, من خبرته الخاصة ومن مجرى الأيام والحوادث, يشرح ما التبس في قول المسيح في حينه، إذ كيف تخرج من بطن الإنسان، إذا آمن بالمسيح، أنهار ماء حي والكتاب لم يذكر شيئاً مثل هذا بالنسبة للماء؛ فهذا ظل في الحقيقة أحجية ولغزاً ، إلى أن حل الروح القدس بعد الصليب والقيامة وانسكب على التلاميذ، فشعروا كيف ينسكب الروح عليهم كالماء ويفيض الروح من قلوبهم وأفواههم كأنهار.
وهنا يتضح قول إشعياء : «لأني أسكب ماء على العطشان، وسيولاً على اليابسة، أسكب روحي على نسلك وبركتي على ذريتك.» (إش3:44)
ونبوة يوئيل: «و يكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر, فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلاماً، ويرى شبانكم رؤى، وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام» (يوئيل28:2-29)؛ حيث «السكب» صفة تختص بالماء. وهو هنا يصف بها عطية الروح القدس.
وإشعياء النبي يصف الماء الذي نبع من الصخرة على هذا المستوى من عمل الروح: «قولوا قد فدى الرب عبده يعقوب ولم يعطشوا في القفار التي سيرهم فيها. أجرى لهم من الصخرة ماء وشق الصخرة ففاضت المياه» (إش20:48-21). وهكذا، كما فاضت المياه من بطن الصخرة، هكذا فاض الروح القدس من بطن الذين شربوا من نعمة المسيح، ولم يتوقف فيضانهم، فصار كنهر جار، جرى هذه السنين كلها ولم يتوقف حتى جرفنا تياره نحن أيضاً في أواخر الدهور.
«لأن الروح القدس لم يكن قد آُعطي بعد, لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد»: نعلم أن انسكاب الروح القدس هو عطية الآب حسب وعد الآب (أع4:1)، حتى إن الروح القدس سُمي «روح الموعد» (أف13:1). وقد ارتبط موعد انسكاب الروح بصعود المسيح وانطلاقه إلى الآب: «إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي» (يو7:16)، فطالما بقي المسيح على الأرض على المستوى الزمني تعطل انسكاب الروح.
أما تمجيد المسيح فهو اصطلاح وضعه القديس يوحنا ليشمل النصرة عل الصليب والموت والنصرة عل العالم وتكميل العمل الخلاصي الذي آل إلى المجد.
أما مجد الصليب والموت فواضح من قول الرب: «الآن تمجد ابن الإنسان» (يو31:13)، عند أول خطوه فى تقرير الموت على الصليب، لحظة خيانة يهوذا.
وأما النصرة على العالم فواضح من قول المسيح: «الآن دينونة هذا العالم, الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو31:12)، وذلك في لحطة سماع صوت الآب: «مجدت وأمجد أيضاً.» (يو28:12)
وأما عن تكميل العمل الخلاصي فواضح من قول الرب في صلاته للآب: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته، والأن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم.» (يو4:17-5)
أما مجد الصعود والعودة إلى الآب، فواضح من قول الرب: «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني.» (يو24:17)
فكل خطوات ودرجات المجد جمعها القديس يوحنا في قول واحد: «لم يكن قد مجد بعد». وهذا يقيم لاهوتياً على أعلى مستوى، إذ نرى أعمال المسيح متحدة في وحدة المجد الواحد. فالقديس يوحنا، بهذا القول الواحد الذي تبرهنه جميع أقوال الرب، يجعل أعمال المسيح الاستعلانية في الموت والقيامة والصعود وحدة مطلقة في المجد ليس فيها ما هو أقل من المجد, الذي تصوره آلامه وتذللاته: «ظلم أما هو فتذلل» (إش7:53)، وقبوله الموت كخاطىء، وما هو ممجد الذي تصوره القيامة، وما هو على مستوى المجد الأسنى في أعلى السموات. بل إن القديس يوحنا يقرر، في واقعية مذهلة، أن جميع صور الآلام والصليب تقف في قوة مجدها وكرامتها على مستوى مجد الجلوس عن يمين الآب سواء بسواء.
ولتوضيح القديس يوحنا لكلام المسيح وزن عال جدا, فكلام المسيح: «من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي», هو في ذاته وعد معطل, لأن المسيح لم يكن قد صُلب وقام وانطلق إلى الآب، ولم يكن قد انسكب الروح القدس بعد؛ مما جعل وعد المسيح غير المحقق موضع سؤال محير، لولا تدخل القديس يوحنا بالشرح. فهو تدخل إلهامي أنقذ حيرتنا، لأن التلاميذ على سبيل المثال ظلوا عطاشى وبلا أنهار تفيض منهم حتى وإلى ما بعد القيامة. ولكن هناك، في يوم الخمسين، بدأ قول المسيح يتحقق ويُفهم.
والقديس يوحنا يتدخل, لا ليشرح ما غمض من كلام المسيح, بل ليثبت صدق قول الرب بالدرجة الاولى
«الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد»: وهذا القول في ذاته أيضا محير، لأن في الأصل اليوناني في معظم المخطوطات لا توجد كلمة «أُعطي» فهي مُضافة. فكيف أن الروح لم يكن بعد، مع أن الروح عامل في الخليقة وفي التجسد وفي كلام الرب وأقواله وجميع أعماله؟ الحقيقة هنا تختص بنا نحن، بالبشرية التي لم تكن مهيأة بعد أن تتقبل الروح القدس وعطاياه إلا بعد أن دخل المسيح إلى الأقداس العليا فوجد لنا فداء أبدياً. فالبشرية انتقلت نقلات متلاحقة في شخص المسيح وبشريته من تجسد، لموت، لقيامة، لصعود، وهي تترقى معه وفيه، ولكنها لم تبلغ كمال استحقاقها لتكون في شركة حقيقية مقدسة مع الله والمسيح إلا بعد أن تراءى المسيح أمام الآب، وهو لابس بشريتنا، وجروحه فيه كحمل أُكملت ذبيحته، فكمل بذلك فداء الإنسان وتصالحه مع الآب. لذلك ظل الروح القدس معطلا عن انسكابه على الإنسان، حتى أكمل المسيح في نفسه المصالحة النهائية مع الآب، واستعاد الابن كل مجد الله كابن، فانفتح الطريق المغلق والمحروس بلهيب نار الشاروبيم إلى قلب الآب ونعمته، فصار دخولنا إلى الآب بلا مانع. عندئذ انسكب الروح القدس ليعطينا كل ما اكتسبه المسيح لحسابنا: «يأخذ مما لى ويخبركم.» (يو14:16)
وبذلك يلزمنا أن نفهم أن علاقة تمجيد المسيح بمجيء الروح لا تتعلق بشخص المسيح في حد ذاته, وهي لا تنصب على طبيعة المسيح بالتالى وكأنه كان ينقصها المجد، بقدر ما تنصب على طبيعتنا نحن. فتعذر مجيء الروح القدس قبل أن يكمل المسيح مجده أمر يختص بطبيعتنا نحن بالدرجة الاولى؛ إذ قبل أن يكمل المسيح أعمال الخلاص من نحونا, التى هى أعمال تمجيده, لم نكن نحن مؤهلين لمجيء الروح القدس.
انقسم السامعون إلى ثلاثة أقسام:
فالبعض رأوا في المسيح تحقيق نبوة موسى كما جاءت في سفر التثنية (15:18)، وبذلك تحقق لهم الرجاء على مستوى الأمة للخلاص السياسي. وللأسف، فإن المسيح لا يمثل هذا الرجاء الدنيوي، فهو حقا جاء على مستوى النبوة، كما شرح ذلك بإسهاب بطرس الرسول في خطابه في سفر الأعمال في الأصحاح الثالث (وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ. فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَسْمَعُ لِذَلِكَ النَّبِيِّ تُبَادُ مِنَ الشَّعْبِ. وَجَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَيْضاً مِنْ صَمُوئِيلَ فَمَا بَعْدَهُ جَمِيعُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا سَبَقُوا وَأَنْبَأُوا بِهَذِهِ الأَيَّامِ. أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. إِلَيْكُمْ أَوَّلاً إِذْ أَقَامَ اللهُ فَتَاهُ يَسُوعَ أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ» أع20-26), ولكن ليس لرد الأمة من عبوديتها للرومان أو لإنزال المن من السماء، ولكن «لرد كل واحد منكم عن شروره»؛ فهو خلاص فردي وروحي وليس خلاص أمة وسياسة.
أما البعض الأخر فوجد فيه المسيا، ودليله الآيات التي صنعها أمامهم. فهو مسيا المعجزات في نظرهم الذي يمثل القوة الخارقة لمزيد من البركات الدنيوية والجسدية. وللأسف أيضا فإن المسيح لم يجىء ليصنع آيات, بل لتكون آياته وأعماله كلها آية تشير إلى شخصه كابن الله وإلى طبيعته الإلهية التي منحها للانسان عامة: ليرفعه إلى خليقة جديدة جديرة بالموطن السماوي.
أما البعض الثالث فقد وقفت أمامه العثرات والعقبات التي فرضتها تعاليم الربيين أمامهم، فجعلتهم يتركون كل ما قاله وعمله المسيح جانبا ليبحثوا عن مولده وموطنه. والقديس يوحنا يسجل لهم نتائج فحوصاتهم، إذ رأوا أنه لا ينبغي أن يأتي المسيح من الجليل بل يتحتم أن يأتي من يت لحم كأقوال الأنبياء. وهنا يهدف القديس يوحنا من تسجيله الحرفي لأقوالهم هذه إلى هدفين:
الأول: وهو الأبسط في نظره، أنهم يجهلون تاريخ المسيح, لأنه وُلد فعلا في يت لحم, وجاهلون في تأكيداتهم, لأنهم يبحثون عن الظاهر.
أما الهدف الثاني: وهو الأعظم والأخطر، فإن القديس يوحنا يرى أنه حتى ولو صحت أبحاثهم أنه ولد في بيت لحم فإن ميلاده في بيت لحم لا يشير ولا يؤكد من أين جاء المسيح على مستوى الإرسالية وعلى مستوى الوطن الحقيقي وعل مستوى الطبيعة التي جاء بها: «تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ولكن من نفسي لم آت بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه» (يو28:7). وهذه هي المبادىء الأساسية التي نهج عليها القديس يوحنا في إنجيله فلم يذكر قصة ميلاده أصلاً، لأنه اهتم بموطنه السمائي.