في هاتين الآيتين يلزم التفريق بين مضمونهما، وهوالإيمان. فالترجمة العربية قاصرة جداً، حيث جاء الإيمان في الآية الاولى بشكله اليقيني مثل الإيمان في الآية الثانية تماماً دون تفريق، مما يفوت على القارىء المعنى الحقيقي. أما في الأصل اليوناني فيأتي «الإيمان» فى الآية الاول بشكله اليقيي وتأتي ترجمتها الصحيحة «يؤمن به» وفي اللغة الإنجليزية believe in him. أما «الإيمان»د في الآية الثانية فيأتي باللغة اليونانية بدون تأكيد، بمعنى «يصدق» فقط, وبالإنجليزية believe him, وبهذا يستقيم المعنى والشرح. فعندما سمع اليهود كلام المسيح المقنع اقتنعوا, إذ رأوا فيه ملامح المسيا، فأظهروا أو تظاهروا أنهم يؤمنون؛ ولكن المسيح عرف ما في ضمائرهم ونيتاتهم، إذ كان ذلك مجرد تصديق للأقوال فقط التي جاءت على هواهم لبلوغ غاية أمانيهم الوطنية، وليس إيمان التعرف على حقيقة المسيح المخلص والإلتصاق به. فكان في نيتهم أن يجاروه حتى يتأكدوا أنه «المسيا» الذي سيعيد المدد لإسرائيل ويحررهم من الرومان، أي مسيا السياسة ودنيا اليهود. وكان في قلبهم أنه إذا ظهر أنه ليس هو المسيا الذي ينتظرونه، يكون مدعياً ويستحق الموت. لذلك بادرهم المسيح بأقوال كشفت في الحال أن إيمانهم هو مجرد تصديق أقوال جائت على هواهم، بانتظار ما يستجد من الأمر، ولس اتباعه أو الإلتصاق به على أساس الإيمان به ومعرفة الحق.
«فقال يسوع لليهود الذين آمنوا به (أي صدقوه) إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي»: فالمسألة ليست تصديق كلام «ولكن ثبوت فيه», بمعنى اتباعه، واتخاذه منهجاً وطريقاً، وحينئذ يكونون من التابعين، أي تلاميذ مبادىء وطريق وحق وحياة، وهكذا يتحررون من المعرفة الخاطئة لمعلمين دخلاء: «وتعرفون الحق، والحق يحرركم».
هنا يضع المسيح موضوع تحررهم من عبودية الرومان الذي كان يشغل بالهم, والذى هو منتهى اممالهم وإيمانهم في المسيا المنتظر، الذي سيحورهم بالسيف، موضعا حرجا للغاية؛ إذ يكشف لهم أن عبوديتهم للرومان هينة وبسيطة بجوار عبوديتهم للجهل والخرافات التي طمست معالم الحق الاعلي في قلوبهم، وأن المسيح جاء ليحررهم من الجهالة, وليس ليحررهم على مستوى السياسة. وفي الأصل اليوناني يجعل المسيح «الثبوت» ليس ثبوت فكر مع فكر بل ثتبوت أشخاص: «انتم», «إن (أنتم) ثبتم في كلامي»، والنتيجة أنهم هم يصيرون تلاميذ. فالمسيح يرد تفكيرهم وآمالهم وظنونهم من أحوال دنياهم وهمومهم وأفكارهم السياسية، إلى أحوالهم القلبية الداخلية وحياتهم مع الله. فإذا صاروا تلاميذ للمسيح فإنهم يتتلمذون للحق, يعرفونه ويسيرون بمقتضاه، فيتحررون من سيرتهم الداخلية التي أبعدتهم عن الله وزيفت لهم خصائص المسيا. وقد سبق المسيح وقال: «إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8). وهنا يكمل التلمذة الصحيحة: «إن (أنتم) ثبتم فى كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي»، ثم يعطي النتيجة للايمان الصحيح والتلمذة الصحيحة وهي: «تعرفوذ الحق، والحق يحرركم». هنا يلمح المسيح إلى الصلة الجوهرية بين «التلمذة له», أي التسليم المطلق للمسيح, و«المعرفة» و«الحق», و «الحرية», فهذه الأصول الثلاثة «المعرفة، والحق، والحرية» تنبع منه هو، وبالتالى تنصب فيهم بالطاعة وتسليم الحياة. فهو الذي جاء أساساً:
اولا: ليعرف الناس بالله الآب، وبالحياة الأبدية، فالآب مصدر المعرفة الحقيقية: «عرفتهم اسمك وساعرفهم» (يو26:17). واختصارها أن الابن استعلن الآب، وهذا هو جوهر المعرفة: «هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الاله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو3:17). واختصارها أن معرفة الايمان بالآب والابن هي هي الحياة الأبدية.
وثانيا: ليعرف الناس الحق: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14), واختصارها أن المسيح هو الطريق, أي الوسيلة العملية الوحيدة لمعرفة الحق, لأنه هو الوحيد الذي حمل اللاهوت وأعلنه جسديا, أي الوحيد الذي أعلن الحق الالهي المطلق منظورا ومسموعا ومعمولا, والحق هو جوهر الحريات.
وثالثا: الحرية: بموته فك أسر الانسان من عبودية الخطية، فأصبحت مشيئة الإنسان حسب مشيئة الله، لأن المحدود الزمني، وهو الانسان، أصبح متوافقا مع المطلق الأبدي وهو الله. وهي أقصى غاية الحرية التي يمكن أن يبلغها المخلوق.
ويلاحظ أن التلمذة الصحيحة تقوم على المعرفة الصحيحة للحق، ولكن لا يمكن أذ تٌحسب التلمذة صحيحة إلا إذا اُختبر ثبوتها ورسوخها وعدم تزعزعها. وهذا كان محور تأكيد المسيح التعليمي من جهة التلمذة له: «أثبتوا فيّ», «أثبتوا في محبتي. إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي. كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته.» (يو4:15 و9 و10)
من هذا يتضح أن «ثبوت الإنسان في كلام المسيح» الذي يطالب به المسيح هنا اليهود، هو الطريق الوحيد المؤدي إلى بقية الآية: «وتعرفون الحق والحق يحرركم». فالثبوت في كلام المسيح يفتح البصيرة والذهن ويستعلن «الحق».
كذلك يكون «الحق» هنا ليس هو الحق الفلسفي الفكري، الذي ينتهي عند العقل لمعرفة حقيقة الأشياء وجوهرها وتميزها من مظاهر الأشياء؛ بل «الحق» الروحي الذي يؤدي إلى الحياة في الله ومعه، الحق الدي يحرر المشيئة من التعلق بالباطل والأوهام والخطية، وهو «حق» السلوك والعمل والحب والبذل.
هنا يلزم أن نضع «المسيح» موضع «الحق» لكي ينكشف لنا بساطة التعبير: «تعرفون الحق والحق يحرركم»، وهو ما فعله المسيح بعد ذلك في آية قاددمة (36:8). وهذا أيضا ما علم به القديس يوحنا في رسالته الاولى بوضوح: «لم أكتب إليكم لأنكم لستم تعلمون الحق, بل لأنكم تعلمونه، وأن كل كذب ليس من الحق. من هو الكذاب، إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح، هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن» (ايو21:1-22)
هنا المسيح «كحق» تكون معرفته ليست من على بعد كمعرفة التأمل في الأمور الخارجية من الإنسان، بل معرفة المسيح هي قبوله شخصيا والخضوع له بالفكر والمشيئة والقلب، لاستقبال روحه وحياته ومشيئته وحبه وعلاقته السرية بالآب!! و بالتالى نوال الفداء والخلاص والتبرير والشفاعة والمجد والتبني، وهذا هو قمة بلوغ الحق والحرية. لذلك يستحيل بلوغ الحرية, للحياة بها, إلا بمعرفة الحق، ويستحيل معرفة الحق, للحياة به, إلا بالمسيح. هذا هو جوهر الإيمان المسيحي، فالإيماذ بالمسيح ليس نطقا ولا فكرا ولا فهما، بل قبول المسيح ذاته. فالإيمان المسيحي، فعل حار، خبرة ساخنة تشعل القلب، ترفع الهم، تريح النفس، تبرىء الضمير، وهذه هي الحرة: «حرية مجد أولاد الله.» (رو21:8)
لقد استثار المسيح في هؤلاء اليهود, الذين أظهروا في البداية قبولا لكلام المسيح, أفكارهم الدفينة المترسبة عبر الأجيال والدهور، القائمة على الغلو في الوطنية السياسية المصبوغة من الخارج بالعبادة، والموضوع عليها شعار يهوه، لتصبح السياسة المقدسة التي لا يستطيع أن يمسها أحد. فكيف لهذا المعلم أن ينفي عنهم الحرية وهم قد أخذوا السيادة على العالم بكل شعوبه وأممه، بوعد وتعهد من الله لأبيهم إبراهيم! ون كانت بلادهم وأرضهم اجتاحتها جيوش أعداء على مر السنين، مصريين وبابليين وأشوريين ورومان، فكما جاءوا هكذا رحلوا دون أن يمسوا ميراثهم أو تراثهم أو عوائدهم أو عبادتهم. لقد خرج اليهود من نير الأسر مراراً وهم أحرار كما كانوا، بوعد أبيهم إبراهيم. فكيفر يعدهم هذا بالحرية وهم في حريتهم قائمون؟
نظرة عامة في الحوار في الأصحاح الثامن: (31:8-58).
في هذا الحوار بين المسيح واليهود الذين أظهروا في البداية قبولا لكلام المسيح، واضح هنا المقارنة المفتوحة بين:
التمسك بافتقاد الله في القديم, وافتقاد الله الجديد الذي أُكمل في المسيح؛ وبين النظرة الخلفية للتاريخ، والنظرة الأمامية التي للروح.
بين مظاهر الأمور الإلهية؛ وبين جوهر الفعل الأخلاقي.
بين المعالجة الزمنية للحياة الأرضية؛ وبين الخلق الجديد بالروح للحياة الأبدية.
والمقارنة التي في هذا الحوار تعتبر أكمل في مشتملاتها من الحوار السابق كله، لأن هنا يبدأ الحوار من إبراهيم أب الآباء كممثل لليهود، بينما كان موسى الممثل لليهود في الحوار السابق.
ومن معارضة اليهود لكلام المسيح يتبين الخط الذهبي للمفهوم اليهودي الذي كان المسيح يخاطبه:
(أ) 33:8 «إننا ذرية إبراهيم, ولم نُستعبد لأحد قط, كيف تقول أنت إنكم تصيرون أحراراً»
39:8 «أبونا هو إبراهيم»
41:8 «إننا لم نولد من زنا، لنا أب واحد وهو الله».
(ب) 48:8 «إنك سامري وبك شيطان».
53:8 «ألعلك أعظم من أبيما إبراهيم الذي مات ... من تجعل نفسك»
57:8 «أفرأيت إبراهيم».
أ _ وهنا نجد أن الثلاث الإجابات الاول تختص:
أولاً: بفكر اليهود عن المواعيد الروحية لميراث حسب الجسد.
وثانياً: بفكر اليهود عن القرابة الجسدية كمحل للافتخار بأعمال الآخرين.
وثالثا: باتخاذ العناية الإلهية للتمجيد الذاتي، كدرع يخفي فساد السيرة.
ب _ أما الثلاث الإجابات الأخيرة فهي ردود على:
إدانتهم للمسيح، والحكم القاطع ضده من جهة مظهر سلوكه ضدهم.
ثم من جهة مصدر سلطانه كما تراءى لهم،
ثم من جهة ادعائه بالوجود السابق لوجوده (الألوهية المستترة).
وبهذا التحليل نستطيع أن ندخل إلى فهم وهدف هذا الحوار. فالمسيح بدأ الحوار بالوعد بإعطاء الحرية للذين أرادوا أن يؤمنوا به, إن هم ثبتوا في تعليمه، ولكنهم رفضوا الكلام من أساسه باعتبارهم أحراراً. وكان رد المسيح أن حريتهم التي يزعمونها ليست حرية، لأن الذي يخطىء يصير عبداً للخطية، فالخطية تسلب الإرادة وتسلب الاختيار. فحريتهم يلوثها عصيان أخلاقي، فهي حرية ليست روحية أو بحسب الحق والبر (33-36).
وأضاف المسيح أن الاحتفاظ بميراث الآباء الديني بينما هو لا يحمل معه السلوك والأخلاق بمقتضى الآباء, ينتفي أن يدعى ميراثاً دينياً!! (37-42).
كذلك قال لهم إن إخفاقهم في الاستماع إليه، إنما يرجع لعدم قبولهم للحق وهذا ينبع من طغيان عنصر الشر فيهم (43-47).
وان كان المسيح يحكم عليهم، فحكمه عن حق (48-50).
والكلمة التي يتكلم بها، هي بحد ذاتها مُحيية (51-53).
وان الحرية التي يدعو إليها، أعلى من الحرية التي ورثوها من إبراهيم، لأنه كائن قبل أن يكون إبراهيم (54-58).
لينتبه القارىء إلى أن تكرار النطق «بالحق» بالنسبة للمسيح، يشير إلى حقيقة ثابتة تمت إلى طبيعة المسيح وعمله، فهو هنا يقرر ماهية «الحرية الحقيقية» حيث ينسبها إلى القداسة الفردية كعلاقة وثيقة مع الله، إزاء زعمهم أن الحرية هي معيار وضع الأمة سياسياً، الأمر الذي دمر مستقبلهم الخلاصي. لأن الذي يفعل الخطية فهو يحيا حياة الإثم والتعدي، إذ يرتبط بالعالم ويفقد حريته ثم نفسه، ويكون قد فقد حرية البنين وصار عبداً للخطية, لأن إبليس يكون قد تسيطر على إرادته وتولى قيادته: «كل من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضاً, والخطية هي التعدي. وتعلمون أن ذاك أُظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية. كل من تثبت فيه لا يٌخطىء» (ايو3:1-5)، «من يفعل الخطية فهو من إبليس, لأن إبليس من البدء يخطىء. لأجل هذا أُظهر ابن الله، لكي ينقض أعمال إبليس.» (ايو8:3)
والمسيح هنا يتعقب الحرية ليوصلها إلى القداسة ثم إلى الله. ويتعقب الخطية ويوصلها إلى العبودية ثم إلى إبليس.
وهكذا فكل من يحيا حياة الإثم والتعدي, يكون قد فقد حرية الينين بالنسبة لله. ولا سبيل إلى إعادة حرية البنين له إلا بواسطة ابن الله, وذلك لأنه الوحيد الذي يرفع الخطية ويقدس، فيرفع يد إبليس عن المأسور، ويحرره ويعيده إلى حق البنين، وبالتالي يعيده إلى ميراث بيت الله، بمعنى الشركة في ميراث الابن.
وهكذا فإنه عوض أن كان الإنسان يفعل الخطة، أصبح يفعل الحق: «واما من يفعل الحق, فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة» (يو21:3). والمسيح يقدم نفسه لهم كابن الله، الذي جاء ليحررهم، بمعنى ينقلهم من عمل الخطية إلى عمل البر: «إن علمتم أنه بار هو, فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه» (1يو29:2)
وهكذا يوضع المسيح لليهود أمراً هاماً للغاية بالنسبة إلى هدف حياتهم الكلي: «يبقى في البيت إلى الأبد»، وسلوكهم المربوط بهذا الهدف. فالخطية تتسبب في فقدان هدف الحياة, أما هدف الحياة فهو العلاقة مع الله. وبولس الرسول يضع هذه المقارنة وجهأ لوجه: «أنتم عبيداً للذي تطيعونه, إما للخطة للموت أو للطاعة (للمسيح) للبر. فشكرا لله أنكم كنتم عبيدا للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب ثورة التعليم التي تسلمتموها، وإذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيدا للبر (أحراراً). (رو16:6-18)؛ «لأنكم لما كنتم عبيد الخطية، كنتم أحراراً من البر. فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن؟ لأن نهاية تلك الأمور هي الموت. وأما الآن، إن أعتقتم من الخطية وصرتم عبيداً لله, أبناء, فلكم ثمركم للقداسة، والنهاية حياة أبدية.» (رو20:6-22)
فانظر أيها القارىء العزيز، كم كانت تحمل كلمة المسيح من العمق الروحي واللاهوتي والخلاصى بآن واحد، حينما قال لهم: «إن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحراراً»، وليست الحرية الكاذبة التي كانوا يفتخرون بها، وهم في الحقيقة كانوا عبيداً يعيشون في بيت الله اختلاساً، وكان طردهم وشيكاً، أما الابن (المسيح) فيبقى إلى الأبد كما يقول عنه بولس الرسول في سفر العبرانيين:.«وموسى كان أميناً في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلم به (أي المسيح), وأما المسيح فكابن على بيته. وبيته نحن، إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية.» (عب5:3-6)
ثم انظر أيضاً هذى الضلالة التي يقع فيها الإنسان الشارد عن الحق والله، حينما يقول ( أنا حر أفعل ما أشاء!)؛ أو حينما يقولون (إن الناس ولدتهم أمهاتهم أحراراً!)؛ أو حينما يفتخر أصحاب الأوطان بحرية أوطانهم, وهم يكونون وللأسف عبيداً للعالم الحاضر، وأسرى الخطية ومشورات الشيطان.
فالحرية الحقيقية إنما هي علاقة مع الله تنشىء حرية من ربط الخطية، وحرية النفس من الإنحرافات المريضة حتى ولو كانت الأرجل في المقطرة أو الأوطان تحت الإحتلال والسخرة. وهذا ما تكفل به المسيح على أعلى مستوى وأكمل وجه.
الرب هنا ينفي عن هؤلاء اليهود المعاندين أن يكونوا أولاد إبراهيم، إذ اكتفى أنهم ذرية له وحسب, لأنهم إن كانوا أبناء إبراهيم فكيف يسلكون هكذا تجاه المسيح الذي اشتهى إبراهيم نفسه أن يرى يومه (يوم المسيح) فرأى وفرح (يو56:8)؟ أليس أن هؤلاء الذين يدعرن أنهم أبناء إبراهيم, وأنهم على مستوى الوعد, قد آنعمت بصيرتهم الروحية، وانسدت آذانهم عن سماع كلماته, وأثبتوا بذلك أنهم ليسوا أبناى الوعد بل غرباء بل أعداء؟
وواضح مقدار ضعف حجة اليهود، بل مقدار ضياعهم وجهلهم أن يقولوا إننا أولاد إبراهيم، كمصدرهم الوحيد للافتخار، ولا يذكرون مدى انتمائهم للناموس أو ميراثهم الأخلاقي والتقوي من الآباء أو معرفتهم الممتازة بالتوراة. وهذا واضح لأنهم بددوا ميراث تقوى ابائهم، ولم يتبق لهم منه إلا تاريخ ميت يتمسحون فيه وهم غرباء عنه. وواضح من كلام المسيح أن اليهود كانوا غير أمناء لتاريخهم، غير أمناء على مواعيد الله لإبراهيم وكل أنبيائهم، وقد تضخمت عدم أمانتهم إلى أحط صورة في محاولة قتل المسيح للتخلص من تبكيته لهم، وهو يحاول إصلاحهم. إنهم يخافون الحق ويحاولون إسكاته.
لقد جاء المسيح «الابن» الحقيقي لله ليحقق وعد الله لإبراهيم ويكمل كل الموعود به، وها هم يريدون أن يقتلوه! هو يتودد ويتكلم وهم يتربصون ليقتلوه, هو يتكلم بما سمعه من الآب من نحوهم للحياة، وهم يتحركون لينفذوا خطة القتل كما رسمها أبوهم وسلمها إليهم للتنفيذ. الرب يجهد نفسه ليبلغهم سر الحياة، وهم يجهدون أنفسهم ليرتبوا خطة الصلب. فالقاتل, الذي نوى القتل, لا يسمع, وإن سمع لا يصغي، وإن أصغى لا يعي، وإن وعى نسي ما وعى. فكلام المسيح الذي للحياة لم يكن له موضع قط في قلوبهم, لأن قلوبهم كانت مملوءة حسداً وحقداً. ويكفي للتدليل على ذلك من قول الرب: «لكنكم تطلبون أن تقتلونى», فهذا هو هدفهم وهذا هو فكرهم وسعيهم وقد صموا آذانهم عما عداه. وفي هذا يتم التشبيه بين العبد الخائن لعهد صاحب البيت, الوشيك الطرد, وبين الابن صاحب البيت, الوشيك أن يقدم نفسه فدية عن أهل البيت الأمناء.
فالمسيح جاء ومعه خطة الآب للخلاص التى سيتممها بموته.
وهم استلموا خطة القتل كما رسمها لهم أبوهم الذي هو أبو كل كذاب وقاتل. المسيح يحاول أن يكتسب ثقتهم ليسلمهم وديعة الحياة التي جاء بها من عند أبيه.
وهم بالإختفاء وراء إبراهيم يحاولون بالكذب أن يخفوا عنه ضربة الموت التي رسمها الشيطان القتال منذ البدء.
الرب يلفت نظرهم أنه يعلم كل شيء، ويؤكد لهم أن عمل الشيطان لا يتطابق مع صلاح إبراهيم.
وهم بانصياعهم وراء الشيطان جحدوا ميراثهم، وهو وشيك أن ينزع منهم بالعدل.
وأخيراً يتنازل المسيح معهم ويحدد قضيته معهم أمام قضاة الناس، ويطرح القضية عل مستوى عدل قضاة الأرض:
فإن كان إنسان, وليس ابن الله نفسه, تكلم مجرد كلام هو «الحق» فكيف تكون أجرته الموت؟ هذه تحتسب شناعة في حق قضاء العدل على مستوى الناس, فكيف وكم إن كان هذا الإنسان هو هو ابن الله؟
وإبراهيم أبوهم لم يكن على هذا المستوى من فهم القضاء. لقد وقف إبراهيم أمام الله يوما يحاججه في أمر حرق سدوم وعمورة ويراجعه في قضائه: «أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً» (تك25:18)» وذلك خوفا على الابرار الذين فيها. وذلك حينما أعلمه الله أن هذين البلدين المنكوبين سيحرقهما الرب وسيزيلهما من الوجود. فإبراهيم حاجج الله نفسه، وه وديان كل الأرض، حاججه في بنود حكمه خوفا أن يؤخذ البار مع الأثيم، فكيف بلغ القضاء في قلوب هذا النسل الضال المضل المدعي البنوة لإبراهيم, أن يقتل البار ويترك الأثيم!! اصلب المسيح وأطلق لنا باراباس: «خذ هذا (المسيح) وأطلق لنا باراباس... اصلبه اصلبه.» (لو18:23و21)
ولكن كلام المسيح كان بالفعل ليس له موضع فيهم, فلم يفهم هؤلاء القتلة قول المسيح حينها قال لهم: «إنكم تعملون ما رأيتموه عند أبيكم». وهوذا الآن يوضحها لهم أكثر، أنهم يعملون «أعمال أبيهم». وواضح أن حقدهم وحسدهم وبغضتهم الشديدة له هي في الواقع أعمال إبليس، وبالأكثر نية القتل المبيتة ضده، ومحاولة اغتصاب البنوة لله: «لنا أب واحد وهو الله». هذا على غير صحة وبغير ذي حق، لأنهم لا يقبلون كلام الله بفم المسيح ولا أعمال الله بيده، ولا حتى كانوا أمناء لوصايا الله بحسب الناموس والآباء. فالآن، لأن عبادتهم لله مزيفة، فحتما يصبح ادعاؤهم لابوة الله مزيفاً, هنا يتحتم بحسب قول النيين إشعياء وإرميا، أن تقيم بنوتهم أنها من زنا، لأن إبليس يكون هو الذي حبل بهم وتبناهم.
وهكذا عندما أخذوا يدافعون عن بنوتهم الشرعية لإبراهيم، في حين أن المسيح كان يقصد أنهم أبناء إبليس، وأنهم صاروا بالفعل أولاد زنا وليسوا أولاد إبراهيم أو أولاد الله كما يدعون. وهاك قول النبي: «وقال الرب لي في أيام يوشيا الملك هل رأيت مافعلت العاصية إسرائيل؟ انطلقت إلى كل جبل عال وإلى كل شجرة خضراء، وزنت هناك (عبادة الأصنام) فطلقتها وأعطيتها كتات طلاقها. لم تخف الخائنة يهوذا، أختها، بل مضت وزنت هي أيضا ....نجست الأرض وزنت مع الحجر(أصنام الحجر) ومع الشجر(أصنام الخشب) ... لم ترجع ... يهوذا بكل قلبها بل بالكذب يقول الرب.» (إر6:3-10)
ويوضح إشعياء النبي أن الرب، بعد أن اعتبر حبه لإسرائيل ويهوذا كحب عريس لعروس، عاد وطلقها بسبب الأثام والذنوب التي اقترفوها، بمعنى أنه باع الشعب للأمم: «هكذا قال الرب: أين كتاب طلاق أمكم التي طلقتها ... من أجل آثامكم قد بُعتم ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم» (إش1:50-2). إذن، فلم يعد إبراهيم أبأ لهم, ولا عاد الله يعاملهم كبنين!
هذه اللغة كان يعرفها جيدا هؤلاء اليهود المعاندون للمسيح حينها قالوا له: «إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد وهو الله» (يو41:8). ولكن، للأسف، كان كلامهم بالكذب لأن الله قالها مرة على لسان كل من إرميا النبي وإشيعاء النبي: «إني طلقت أمكم». فأصبحوا أولاد زنأ بالفعل, أي أولاد عبادة الشيطان, وإبراهيم يتبرأ منهم، وليس إبراهيم فقط بل والله والمسيح أيضاً.
ويلزم هنا أن نفهم من كلام المسيح أن «العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد» (يو35:8)، أن المسيح يطرح قضية الحرة كفعل حياة مسقبلي يحدده سلوك الحاضر. والمسيح يقصد الحياة الأبدية التي جاء ليفتتح عهدها الجديد بموته وقيامته. فابن الخطية الذي يمثله هؤلاء اليهود هو على مستوى العبد الذي ليس له حق في ميراث البيت؛ أما الذي يؤمن «بالابن» فينعتق من عبودية الخطية، ويكون قد سجل لنفسه التبرير في الحاضر، وحق الحياة الأبدية عبر المستقبل وإلى الأبد في ميراث الابن لله!
المسيح هنا ينقض قولهم من جهة أن الله هو أبوهم الروحي، فبحسب إشعياء النبي وإرميا النبي تكون كل إسرائيل يهوذا مطلقتين, وها قد باعهما الله بالفعل ليكونا تحت الإحتلال والتشتت بسبب شرورهما, فمن أين يكون الله أباً لهؤلاء اليهود المعاندين الذين يرفضون ابنه؟ والقديس يوحنا يرفع هذه القضية إلى حكم الأمور المسلم بها: «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله.» (ايو1:5)
«لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني»: واضح أن المسيح يتكلم هنا كابن الله الوحيد المحبوب. فكيف لا يتعرفون على أخيهم البكر، ثم كيف لا يحبونه؟ إلا لأنهم ليسوا أبناء الله كما يدعون؛ ولأنهم زادوا على عدم تعرفهم على المسيح وعدم محبتهم له كابن الله أنهم طلبوا أن يقتلوه كبينة وبرهان أكيد أنهم ليسوا أبناء، بل أعداء لله وللابن الوحيد، بل وقتلة، وليس قتلة وحسب بل وفيهم شهوة القتل كهواة ومحترفين يتلقنون فن العداوة والقتل من أستاذ عتيق. ولا يوجد أصل أو مبدأ أو أب للقتل والقاتل إلا القتال المحترف منذ البدء، هو الذي بخداعه أوقع حواء ثم آدم في خطة العصيان، بذلك دخل الموت إلى العالم، وهو إبليس. فهم بالضرورة أبناء لهذا الأب.
«لأني خرجت من قبل الله وأتيت»: المعنى هنا يفيد التجسد، وقد استخدم الأساقفة المجتمعون في مجمع نيقية سنة 325م هذا الاصطلاح لإثبات البنوة الإلهية للمسيح. واللغة العربية هنا ركيكة ولا تفيد المعنى الصحيح. وفي الأصل اليوناني لا يوجد «من قبل الله» بل «من الله» مباشرة. جوهر من جوهر، طبيعة من طبيعة وبالتالى يلزم حذف «قبل» من النسخة العربية لتصير «من الله» لتوضيح المعنى اللاهوتي الصحيح.
واللغة اليونانية دقيقة دقة خطيرة بالنسبة للبحث اللاهتوتي في حروفها، حينما تُضاف إلى الأفعال، فـ«الخروج من» تأتي عل ثلاثة أوضاع بالسبة للحرف المضاف، فهو إما:
( ا ) خروج الابتعاد أو تغرب الشخص
(2) خروح بحانب, أى زمالة الشحصية
(3) خروج من داخل مع بقاء في الداخل لتفيد بقاء جوهر الله في جوهر الابن المتجسد
وهذه كلها للتعبير عن التجسد جوهريا وذاتيأ:
(1) أما الخروج والأبتعاد فهو التعبير الضعيف عن مجيء المسيح من الله، وهذا الاصطلاح استخدمه التلاميذ للتعبير عن فهمهم (الخاطىء نوعا ما) لقول المسيح «خرجت من عند» وقد جاءت هكذا: «الآن نعلم أنك عالم بكل شىء ولست تحتاج أن يسألك أحد لذا نؤمن أنك من الله خرجت» (يو30:16). وهذا على قدر فهم التلاميذ أن خروجه يفيد مجيئه إلى الأرض، وهذا يستلزم تركه للسماء وابتعاده المكاني عن الله: ( ) وهذا أيضاً هو فهم القديس يوحنا عن خروج يسوع من عند الله كمتغرب ثم عودة ( ): «... يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضى...» (يو3:13)
(2) وتفيد خروج وبقاء بجانب، كزمالة، وهو تعبير المسيح ولكن من وجهة نظر التلاميذ للمسيح وليس من وجهة نظره لنفسه! «لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت» (يو27:16). فهو على قدر فهمهم يعبرو يردد عما آمنوا به من نحوه، الذي لم يكن قد بلغ بعد الفهم اللاهوتي الكامل.
(3) وهي الأخيرة، أي الخروج من الداخل جاءت واضحة جداً في الآية: «خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم» (يو28:16)، حسب القراءة الصحيحة باليونانية في النسخ الدقيقة، وهذا هو تعبير المسيح عن نفسه.
كما يلاحظ أن الفعلين: من الله «خرجت» و«أتيت» هنا في اليونانية مضافان إل «من» بمعنى من الله خرجت ومن الله أتيت. وهما يفيدان في المعنى اللاهوتي أغواراً عميقة للغاية، إذ يكوذ المعنى أن الابن هو من الله فى وجوده وكيانه ومجده قبل الميلاد بالجسد، والباقي مع الله وفي الله بالرغم من خروجه وظهوره واستعلانه كابن الله المتجسد. وأيضا هو من الله في مجيئه إلى العالم وتجسده، وبقائه مع الله وفي الله بالرغم من ظهوره في الجسد كيسوع المسيح.
وبهذا يكون المسيح، وكذلك القديس يوحنا في تسجيله لقول المسيح قد جمع كل اللاهوت في هذه الجملة المضغوطة ضغطاً: «من الله خرجت ومن الله أتيت». وقد شرحها المسيح شرحاً إضافياً ليكون على مستوى هؤلاء اليهود بقوله:
«لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني»: بمعنى أني أمثل الآب تمثيلآ ذاتياً وكلياً في كل ما أقول وأعمل، بل وأمثله بشخصي كنائب عنه دون أن يكون العمل لشخصي، أي لمجد نفسي.
«تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني.» (يو16:7)
«أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً.» (يو30:5)
«من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه. وأما من يطلب مجد الذق أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم.» (يو18:7)
كما سيوضحه في الآية: «الآب الحال فىّ هو يعمل الأعمال.» (يو10:14)
هذا يوضحه المسيح لليهود ليبرهن لهم عن حقيقة طبيعته الإلهية, ووجوده بينهم كمرسل من الله وكممثل شخصى له, موضحاً بذلك مقدار ما سقطوا فيه، ليس من نحوه بقدر ما هو من نحو الله الذي أرسله والذي يدعون أنه أبوهم!
«لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولى»: وتصحيحها: «لماذا لا تفهمون حديثي (لغتي) لأنكم لا تسمعون كلمتي». المقارنة هنا بين «الفهم والسماع» تجاه «الكلام والقول».
فالفهم أو الإدراك يختص بالحديث.
والسماع بالروح, أي الكشف، يختص بالكلمة.
هنا يقدم الرب طبقتين من كلامه: الطبقة الاولى هي متابعة حديث الرب بالفهم السريع والادراك؛ والطبقة الثانية الأعلى هي التعمق لكشف طبيعة الكلمة.
أما الطبقة الثانية، فهي في المقدمة وهي الهامة جدا والخطيرة, فإذا لم يكن للإنسان أذن روحية تسمع كلمة الله فتكشف طبيعتها الإلهية، يستحيل عليه أن يفهم ما يتحدث به المسيح ويقوله، لأنه كلام روحي يحتاج إلى أذن خاصة روحية: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ7:2)، أما من ليس له الوعي فسيرى المسيح مجرد إنسان يتكلم. والمسيح لا يتكلم كإنسان، بل كإله، فهو يقول: «أنا هو نور العالم»، و«أنا هو الطريق والحق والحياة»، و:أنا والآب واحد» (يو12:8, 6:14, 30:10). فكيف يفهم الناس قول المسيح هذا إذا اعتبروه مجرد إنسان؟ إنه سيكون كمجدف، ولكن إن كان للسامع أذن روحية كاشفة، تكشف طبيعة «الكلمة» القائلة والمقولة، فحتماً سيتعرف عليها أنها إلهية وأن صاحبها إلهي هو: «لأني لم أتكلم من نفسي» (يو49:12). وهنا ذات المسيح هي الذات المنظورة للناس، والمتكلم فيه هو الله. فحينئذ, وعلى أقل تقدير, سيفهمون ما يتحدث به المسيح على أنه رسالة الله لهم، وأن حديثه يحمل الصدق والحق والقوة والروح والحياة، وهو كما هو أمام أعينهم، فعال، يشفي ويقيم من الموت، لأن كلمة الله خالقة ومُحيية.
لذلك, فليفهم القارىء أنه يستحيل على أي إنسان مهما بلغ من قوة الذكاء والفهم والتمحيص، أن يفهم الإنجيل أو يدرك ما يقوله المسيح, إذا لم تكن له أذن روحية يسمع بها طبقة رنين كلمة الله، وتحس بحركة الحياة التي فيها وتميزها عن كل ما عداها من كلمات الإنسان. فالاذن التي تستطيع أن تلتقط الموجة الروحية، وتحس بالحياة والحق لكلمة الله، هي وحدها التي تستطيع أن تفهم ما يقوله المسيح والروح.
أما كيفية قبول الأذن الروحية لكلمة الله وتفهمهاه فلا يأتي بالتمرين أو التلقين أو الدراسة، بل بقبول الرب يسوع نفسه «الكلمة» أولاً، والدخول معه في شركة الحياة الجديدة. فهو الذي يرفع مستوى قلب الإنسان وروحه لمستوى الكلمة، أي لمستواه في المعرفة. ومستواه في المعرفة بعد التجد لم يعد في السماء, بل في قلبنا وفمنا: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (مت29:11)، «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به.» (يو3:15)
ولكن، ليفهم القارىء أن لكل إنسان أذناً روحية؛ وهي إما تنفتح بالإرادة والشوق والإيمان والحب لكلمة الله فتكشف طبيعتها، وإما تنقفل بالإرادة المدفوعة بالبغضة والتعالي والتجديف، فلا تعود تسمع، ولا يعود الإنسان قادراً أن يفهم أو ينفعل للكلمة.
وإرميا النبي يخاطبهم من جهة الجهل وعدم الفهم: «اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون» (إر21:5). فالجهل هو انحطاط مستوى الكشف لطبيعة كلمة الله والجهل يؤدي حتماً إلى عدم الفهم. وقد نسب إرميا النبي الجهل إلى العمى الروحي، ونسب عدم الفهم إلى الصمم الروحي. ولذلك أيضا كان يطيب للمسيح أن يفتح أعين العمي، ويفتح آذان الصم, ليس كمعجزات شفاء لهذا الشعب، ولكن كآيات لعمل كلمة الله في طبيعة الإنسان الخاطىء.
ثم يوضح إشعياء النبي العوامل التي أدت إلى عمى عيونهم وانسداد آذانهم: «قد أعمى عيونهم، وأغلظ قلوبهم, لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم» (يو40:12). لذلك يصرخ أيضا إشعياء النبي: «يا رب من صدق خبرنا, ولمن استعلنت ذراع الرب. لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا» (يو38:12-39). ولكن من الذي سد آذانهم وأغلظ قلوبهم وأعمى عيونهم؟ هنا الضمير الفاعل هو العدو الشيطان, الذي سلموا أنفسهم له, حقداً وبغضة وعداوة بلا سبب, والذي وجه إليه المسيح سهمه الخاطف، ففضحه، وفضح إرادتهم: «أنتم من أب هو إبليس».
«أنتم من أب هو إبليس ...»: لم يكن المسيح في هذا القرار المرعب مهاجما أو متعديا على مشاعر اليهود، بقدر ما كان مدافعا عن الله الذي يريدون أن ينسبوا إليه أنفسهم وتعدياتهم بقولهم إن الله هو أبوهم. فقرار قتل الابن الوحيد الذي للآب قد كتبوه في ضمائرهم، وهم يبحثون الآن فقط عن علة مناسبة لتنفيذه. الرب هنا، وبقوله هذا، يفصل بين قداسة الله أبوه، وبين هؤلاء القتلة. وفي نفس الوقت كشف عن شخصية الأب المحرك لهؤلاء اليهود المدعين. لأن المسيح بقوله: «أنتم من أب هو إبليس ... »، يكون قد رفع الستار عن حربهم الخفية التي يشنونها ضد الله والمسيح تحت اسم الناموس وأبوة الله للشعب المختار، وقد جعل المواجهة صريحة ومكشوفة بينه وبينهم، أو بين الله الذي يتكلم باسمه، وبين الشيطان الذي ينطق فيهم.
وإن كان المسيح هنا في إنجيل يوحنا قد كشف عن شخصيات هذه الحرب المريرة بينه وبين الشيطان مواجهة وبصراحة، نجد المسيح يصيغ هذه الحرب في تشكيلات رمزية غاية في الأبداع في الأناجيل الأخرى: «فأجاب وقال لهم: الزارع الزرع الجيد هو ابن الإنسان, والحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هو بنو الشرير, والعدو الذي زرعه هو إبليس.» (مت37:13-39)
«وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالا للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب»: من أعجب الأمور وأكثرها ألمأ وحزنا للنفس، أن يكون للشيطان القدرة الغريبة لتسليم شهواته الشخصية للذين يخضعون له كأب، ويسيرون في طريقه كمعلم، لأن شهوة الشيطان تنبع من عداوة شخصية لله, ولابنه يسوع المسيح، ولكل من يتبعه ويطيعه. والإنسان ضعيف جدا وأصغر من أن يتقمص شهوة الشيطان هذه ويقف لكي يعادي الرب يسوع, سواء بفكره أو قلمه أو عمله. ولكن الذين تبناهم الشيطان ألبسهم تاجه وأعطاهم صولجانه, وكانوا عظماء في عين العالم وعلى مدى التاريخ، وكانوا ذوي صيت وبطولات؛ ولكن التاريخ للعالم شيء، والتاريخ لملكوت الله شيء آخر.
«... شهوات أبيكم تريدون»: «تريدون» تأتي باليونانية في صيغة الإصرار المنتهى منه, وهذه في الحقيقة صفة غريبة يتقمصها الشخص الشارد في شره، حتى ليتعجب الناس من قوة الاصرار وشدة الاستمرار في تتميم ما صمم عليه, في حين أن الشخص يكون في طبيعته الأصلية بسيطا ووديعا ومسالما حلو الأخلاق ومطيعا, ولكن إذا استماله الشيطان وتبناه صار شرسا متنمرا، لا يلين ولا يحيد عن مقصده، ولا يهدأ حتى يتمم كل ما أفرزه الشيطان في فكره, حتى وبدون وعي؛ فالشيطان يتقمصه. لذلك فإن قول المسيح: «شهوات أبيكم تريدون أن تعملوا»، جاءت في صورة واقعية تصور حقيقة ما كان يجري في قلوبهم تصويرا يزهل العقل, من حقد مجاني وغضب وسرعة الانفعال للقتل ومهاجة كلامية شرهة وعناد لا يهدأ.
وإن هذا هو في الواقع منهج كل الذين تركوا المسيح وأبغضوا الكلمة، إذ أصبحت فيهم عداوة لا تهدأ من جهة الحق ومهاجته والإزدراء بالإيمان.
«ذاك كان قتالاً للناس منذ البدء»: منذ أن أطلق المسيح هذه الصفة على الشيطان وأصبحت اسما له في العهد الجديد، وهي موجودة في تعاليم الرسل ( ) وترجمتها: «الحية القتالة للناس» ويختصرها سفر الرؤيا بتسمية «الحية القديمة» (رؤ9:12, 2:20)، سواء بسبب إدخال الموت على الإنسان, آدم, المخلوق أصلاً على غير فساد، أو إشعال الحقد والكراهية في قلب قايين، وإقحام إرادة القتل فيه ليقتل أخاه هابيل. ولماذا قتله؟ يقول الكتاب: «لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة.» (1يو12:3)
ولذلك، وعلى هذا الأساس، نبه الكتاب أن «كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس» (ايو15:3)، لأن الرب يعلم أن صاحب مشورة وقوة البغضة هو نفسه صاحب مشورة القتل. والخطية الاولى تحوي في بطنها الخطية الثانية، التي لابد أن تلدها إن آجلا أو عاجلا، إن بالنية أو بالفعل. ويصف القديس يوحناهذه الخطية هكذا: «لأن هذا هو الخبر الذي سمعتموه من البدء أن يحب بعضنا بعضا. ليس كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه، ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة.» (ايو11:3-12)
وتسلسل الخطية حتى إلى القتل تجيء في تقليد القداس: «والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس»، وهذا مأخوذ من سفر الحكمة (حك23:2-24). وهكذا تبنى الشيطان خطية القتل والقاتل معاً، والذق يهمنا جدا في هذا المجال هو كلمة «حسد الشيطان»، فالحسد هو الذي دفع الشيطان لإسقاط آدم. وإسقاط آدم تم عل مرحلتين: الاولى «غواية» ثم «فعل» تعدي، والنتيجه موت. وكان في ظن الشيطان أن الموت سينهي على مستقبل آدم، ويظل ساقطا إلى الأبد كما هو حال الشيطان: «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم (بسبب الحسد وطلب ما هو أعظم)، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» (يهوذا 6). ولكن آدم مخلوق على الرقي والسمو وبلوغ صورة الله في القداسة والحق. فدبر الله له الخلاص بالتوبة ودم المسيح. أما الشيطان وملائكته فخلقوا على مراكز ورئاسات محددة ومساكن لا يتعدونها. وكل تعد لهم هو سقوط ليس له توبة أو قيامة: «لأنه إن كان الله لم يشفق عل ملائكة قد أخطأوا, بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء...» (2بط4:2)
«ولم يثبت في الحق»: الأصل اليوناني يفيد أنه «لم يقف» بمعنى لم «يدم» بحسب القراءات الصحيحة. أي لم يضع قدماً, أو يرسخ. هذا الأمر يهمنا للغاية، لأن فيه يوضح المسيح مسألة حساسة بالنسبة لطبيعة الله في الخلقة على مستوى اللاهوت. فالشيطان لم يدم في الحق, أو لم يثبت في الحق, يعني أنه كان في موضع رئاسي (رياسة)، أو موضع أو مسكن «مسئولية» (بحسب رسالة القديس يهوذا) على مستوى الحق، ولكه تخلى عنه طمعاً أوحسداً فيما هو أعظم فحسب ذلك خطية؛ الأمر الذي يشرحه القديس بطرس الرسول: «الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا...»، وهذا يفيد أن الله لم يخلق الشيطان على الشر أو الفساد أو الخطية، بل خلقه على مستوى الرئاسة. ولكنه تعدى وأخطأ وسقط, والله لم يشفق عليه.
«لأنه ليس فيه حق»: هذه الجملة مربوطة بالسابقة فهو لم يثبت في الحق, بسبب أنه ليس فيه حق. ولكن المعنى هنا لا يتضح لنا إلا إذا فهمنا كلمة «يثبت» حرفياً، حيث تعني «لم يضع قدما» في الحق، أي «لم يرسخ» في الحق. بمعنى أن الله أعطاه رئاسة على مستوى الحق، وكان عليه أن يثبت, أو يرسخ، أو يضع قدمه، أو يخطو خطوة في الحق، ليكون ويدوم على مستوى الرئاسة التي أعطاه الله، لكنه أخفق. واخفاق الشيطان في أن يثبت في الحق أو الرئاسة الموضوعة له, سببه أنه ليس فيه حق, بمعنى أنه ليس فيه أي شيء من «الأليثيا» التي في الله والمسيح، وكان عليه أن يكتسبها بحفظه وثباته في الرئاسة والموضع الذي وُضع فيه، فلما لم يحفظ رئاسته ولم يثبت في الحق، كان سقوطه بلا شفاء ولا رجاء. ولما فقد الحق, صار كذاباً وأبا الكذب كله وكل الكذابين. وما هو الكذب إلا فقدان الحق؟ ومن هو الكذاب إلا الذي ينكر الحق؟
هنا علينا، أيها القارىء العزيز، أن تنذكر كيف غرس الشيطان الكذت في شعور آدم وحواء، وفي اللا شعور أيضاً, حينها قال لحواء في حواره الخادع الماكر المميت, رداً على قول حواء: «أما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا؛ فقالت الحية للمرأة لن تموتا» (تك3:3-4). وهذا هو منطق الشيطان في نفي الحق واخفائه تحت ستار المعقول والمرجح, والواقع والأكثر فائدة, والأسهل والألذ، والأسرع أيضاً. فالشيطان أبرز العصيان, ونفى الموت وأخفاه عن حواء تحت ستار المعرفة : «بل انه عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر.» (تك5:3)
ولينتبه القارىء أن في نفي الموت عن الذي يعصي أوامر الله يكون بالتالي قد نفى الدينونة, بل ونفى الخطية، بل ونفى قيمة الخلاص، بل ونفى المخلص، وأخيراُ نفى الحياة, حيث لا يبقى لمن يتبع الشيطان إلا أن يخنق نفسه!!
«متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب»: في هذا الوصف يهمنا كلمتان: الاولى «الكذب» والثانية «يتكلم مما له». فالكذب يجيء في اليونانية ( ) وتعني الزيف, أي ما هو ليس حقاً أو صحيحاً، وهنا يتضح لنا أن الكذب أو الزيف أو ما هو ليس حقاً أو صحيحاً ليس جوهراً في حد ذاته، أي ليس شيئاً معروفاً أو محدد الوجود، بل هو نفي الشيء أو نفي الوجود، فعندما يقول إنسان قولاُ حقاً ويأتي آخر ويصدقه على هذا القول، فهو يقول «الحق»؛ ولكن إذا جاء إنسان أخر ونفى هذا القول، فهو كاذب لأنه نفى الحقيقة. وإذا كان هناك شيء معروف كظهور الشمس مثلاً ويقول إنسان أن الشمس غير ظاهرة، فهو يكذب لأنه ينفي وجود الموجود. وهكذا فإن الحق يعتمد على طبيعته الموجودة، أما الكذب فليس له طبيعة بالمرة بل يعتمد على نفي الحق أو نفى ما هو صحيح.
وهذا هو التحليل الصحيح لطبيعة الشيطان وملوكه وكلامه في تعريف الرب له أنه «يتكلم بالكذب، لأنه يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب». لأن الشيطان بحسب خلقته لم تكن له طبيعة الحق ولا طبيعة الكذب، بل خلق ووضع في رئاسة محددة له، كان المفروض أنه إذا أطاع بحسب حريته المحددة له, أن يثبت في رئاسته, وبالتالي يثبت في أمر الله، أي يثبت في الحق. ولكنه رفض الأمر بحسب حريته المحددة له, وتعال, فسقط من رئاسته، وسقطت طبيعته من موضع الحق نهائياً، فأصبح اعتماده قائماً على ذاته وليس على الله, أي الحق.
وهكذا أصبح الشيطان بمقتضى سلوكه وبمحض حريته وإرادته ضد الحق، لأنه فاقده. وصارت طبيعته تتغذى من مقاومة الحق، فتشكلت أفكاره وإيحاءاته وكلماته بحسب طبيعته، أي ضد الحق: وهذا ما يعرفه الرب بأنه متى تكلم فإنه يتكلم مما له, أي ليس من الله ولا من مصدر حق، بل من ذاته، أي يتكلم بحسب طبيعته التي اكتسبها لنفسه والتي لم تعط له, وهي طبيعة طفيلية تقوم على نفي الحق ومقاومته, وهي بذلك طبيعة كاذبة مزيفة, ينحصر نشاطها كله في مقاومة الحق ونفيه. وصحيح أن نفي الحق هو لا شيء في ذاته, وهو السالبية وهو اللاوجود واللاصحيح واللاقيمة له على الإطلاق؛ ولكنه في مقاومته للحق والوجود وكل القيم الصحيحة، اكتسب له وجوداً سلبياً قائمأ على نفي وجود الحق. فهو يقوم على مدى احتمال صاحب مشيئة «الحق» أي الله، له ولعمله السلبي، فهو وجود مهدد بالفناء. لأنه في اللحظة التي يعلن فيها الحق المطلق أي الله عن إدانته للشيطان بمقتضى الحق، فإنه ينتهي من الوجود لأنه ليس له حق الوجود الذاتي.
هذا على مستوى الله, أما على مستوى الإنسان، فهو بنفس القياس ولكن بدرجة محدودة. فالشيطان يقدم مشورته السالبية التي تقوم على الكذب والتزييف، فإذا رفضها الإنسان بمقتضى وصايا الحق التي يعيش بها، تلاشى الشيطان من الوجود في محيط العمل الفردي لمدة تتحدد بصلابة الإنسان في الحق.
ولكن إذا قبل الإنسان مشورة الشيطان وأفكاره المزيفة والمعروف أنها ضد الحق مائة بالمائة، فإنه يكون قد أوجد للشيطان محلاً ومسكناً ووجوداً, وهذا منتهى أمل الشيطان وغاية سعيه أن يكون له وجود مزيف في ذات الإنسان، فهذا يوسع من دائرة تخريبه ومقاومته للحق، مما يشبع وجوده وجحوده. أما إذا أتقن الإنسان حيل الشيطان وتزييفه بشغف وحذق، وبرع في مقاومته للحق، فإن الإنسان يكون قد أخذ دور الشيطان بالكامل، ويكون الشيطان قد تبنى الإنسان وأحبه ووهبه طبيعته بكل فنون التزييف ومقاومة الحق. وهذا هو الدور الذى اتخذه اليهود لأنفسهم تجاه المسيح، وهذا ما أعلنه المسيح عنهم أنه قد صارت لهم طبيعة الشيطان في الكذب ومقاومة الحق: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا»! ويكون الشيطان بذلك قد صار بالفعل أباً للكذب والتزييف في العالم وأباً لكل كذاب ...
أيها القارىء العزيز، احذر الكذب بكل أنواعه فهو صناعة الشيطان، وهي صناعة لا تبني بل تهدم، ولا تدوم بل تفنى. واحذر تزييف الحق أو الحقيقة في الأشياء والأقوال والأعمال، مهما كانت صغيرة, ومهما كان لها صورة المنفعة الوقتية، لأنها من طبيعة الشيطان التي مآلها الدينونة والفناء. الزم الحق بكل قوة وبكل إصرار، لأنه انتصار للحق والوجود والحياة ضد الفناء، وانتصار لله ضد الشيطان، فانظر كيف أعطانا الله الفرص في الحياة لكي ننصر الحق، فننتصر ضد قوى الشر والظلام، ونبقى ونحيا وندوم.
المسيح هنا ينقض قولهم من جهة أن الله هو أبوهم الروحي، فبحسب إشعياء النبي وإرميا النبي تكون كل إسرائيل يهوذا مطلقتين, وها قد باعهما الله بالفعل ليكونا تحت الإحتلال والتشتت بسبب شرورهما, فمن أين يكون الله أباً لهؤلاء اليهود المعاندين الذين يرفضون ابنه؟ والقديس يوحنا يرفع هذه القضية إلى حكم الأمور المسلم بها: «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله.» (ايو1:5)
«لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني»: واضح أن المسيح يتكلم هنا كابن الله الوحيد المحبوب. فكيف لا يتعرفون على أخيهم البكر، ثم كيف لا يحبونه؟ إلا لأنهم ليسوا أبناء الله كما يدعون؛ ولأنهم زادوا على عدم تعرفهم على المسيح وعدم محبتهم له كابن الله أنهم طلبوا أن يقتلوه كبينة وبرهان أكيد أنهم ليسوا أبناء، بل أعداء لله وللابن الوحيد، بل وقتلة، وليس قتلة وحسب بل وفيهم شهوة القتل كهواة ومحترفين يتلقنون فن العداوة والقتل من أستاذ عتيق. ولا يوجد أصل أو مبدأ أو أب للقتل والقاتل إلا القتال المحترف منذ البدء، هو الذي بخداعه أوقع حواء ثم آدم في خطة العصيان، بذلك دخل الموت إلى العالم، وهو إبليس. فهم بالضرورة أبناء لهذا الأب.
«لأني خرجت من قبل الله وأتيت»: المعنى هنا يفيد التجسد، وقد استخدم الأساقفة المجتمعون في مجمع نيقية سنة 325م هذا الاصطلاح لإثبات البنوة الإلهية للمسيح. واللغة العربية هنا ركيكة ولا تفيد المعنى الصحيح. وفي الأصل اليوناني لا يوجد «من قبل الله» بل «من الله» مباشرة. جوهر من جوهر، طبيعة من طبيعة وبالتالى يلزم حذف «قبل» من النسخة العربية لتصير «من الله» لتوضيح المعنى اللاهوتي الصحيح.
واللغة اليونانية دقيقة دقة خطيرة بالنسبة للبحث اللاهتوتي في حروفها، حينما تُضاف إلى الأفعال، فـ«الخروج من» تأتي عل ثلاثة أوضاع بالسبة للحرف المضاف، فهو إما:
( ا ) خروج الابتعاد أو تغرب الشخص
(2) خروح بحانب, أى زمالة الشحصية
(3) خروج من داخل مع بقاء في الداخل لتفيد بقاء جوهر الله في جوهر الابن المتجسد
وهذه كلها للتعبير عن التجسد جوهريا وذاتيأ:
(1) أما الخروج والأبتعاد فهو التعبير الضعيف عن مجيء المسيح من الله، وهذا الاصطلاح استخدمه التلاميذ للتعبير عن فهمهم (الخاطىء نوعا ما) لقول المسيح «خرجت من عند» وقد جاءت هكذا: «الآن نعلم أنك عالم بكل شىء ولست تحتاج أن يسألك أحد لذا نؤمن أنك من الله خرجت» (يو30:16). وهذا على قدر فهم التلاميذ أن خروجه يفيد مجيئه إلى الأرض، وهذا يستلزم تركه للسماء وابتعاده المكاني عن الله: ( ) وهذا أيضاً هو فهم القديس يوحنا عن خروج يسوع من عند الله كمتغرب ثم عودة ( ): «... يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضى...» (يو3:13)
(2) وتفيد خروج وبقاء بجانب، كزمالة، وهو تعبير المسيح ولكن من وجهة نظر التلاميذ للمسيح وليس من وجهة نظره لنفسه! «لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت» (يو27:16). فهو على قدر فهمهم يعبرو يردد عما آمنوا به من نحوه، الذي لم يكن قد بلغ بعد الفهم اللاهوتي الكامل.
(3) وهي الأخيرة، أي الخروج من الداخل جاءت واضحة جداً في الآية: «خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم» (يو28:16)، حسب القراءة الصحيحة باليونانية في النسخ الدقيقة، وهذا هو تعبير المسيح عن نفسه.
كما يلاحظ أن الفعلين: من الله «خرجت» و«أتيت» هنا في اليونانية مضافان إل «من» بمعنى من الله خرجت ومن الله أتيت. وهما يفيدان في المعنى اللاهوتي أغواراً عميقة للغاية، إذ يكوذ المعنى أن الابن هو من الله فى وجوده وكيانه ومجده قبل الميلاد بالجسد، والباقي مع الله وفي الله بالرغم من خروجه وظهوره واستعلانه كابن الله المتجسد. وأيضا هو من الله في مجيئه إلى العالم وتجسده، وبقائه مع الله وفي الله بالرغم من ظهوره في الجسد كيسوع المسيح.
وبهذا يكون المسيح، وكذلك القديس يوحنا في تسجيله لقول المسيح قد جمع كل اللاهوت في هذه الجملة المضغوطة ضغطاً: «من الله خرجت ومن الله أتيت». وقد شرحها المسيح شرحاً إضافياً ليكون على مستوى هؤلاء اليهود بقوله:
«لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني»: بمعنى أني أمثل الآب تمثيلآ ذاتياً وكلياً في كل ما أقول وأعمل، بل وأمثله بشخصي كنائب عنه دون أن يكون العمل لشخصي، أي لمجد نفسي.
«تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني.» (يو16:7)
«أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً.» (يو30:5)
«من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه. وأما من يطلب مجد الذق أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم.» (يو18:7)
كما سيوضحه في الآية: «الآب الحال فىّ هو يعمل الأعمال.» (يو10:14)
هذا يوضحه المسيح لليهود ليبرهن لهم عن حقيقة طبيعته الإلهية, ووجوده بينهم كمرسل من الله وكممثل شخصى له, موضحاً بذلك مقدار ما سقطوا فيه، ليس من نحوه بقدر ما هو من نحو الله الذي أرسله والذي يدعون أنه أبوهم!
«لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولى»: وتصحيحها: «لماذا لا تفهمون حديثي (لغتي) لأنكم لا تسمعون كلمتي». المقارنة هنا بين «الفهم والسماع» تجاه «الكلام والقول».
فالفهم أو الإدراك يختص بالحديث.
والسماع بالروح, أي الكشف، يختص بالكلمة.
هنا يقدم الرب طبقتين من كلامه: الطبقة الاولى هي متابعة حديث الرب بالفهم السريع والادراك؛ والطبقة الثانية الأعلى هي التعمق لكشف طبيعة الكلمة.
أما الطبقة الثانية، فهي في المقدمة وهي الهامة جدا والخطيرة, فإذا لم يكن للإنسان أذن روحية تسمع كلمة الله فتكشف طبيعتها الإلهية، يستحيل عليه أن يفهم ما يتحدث به المسيح ويقوله، لأنه كلام روحي يحتاج إلى أذن خاصة روحية: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ7:2)، أما من ليس له الوعي فسيرى المسيح مجرد إنسان يتكلم. والمسيح لا يتكلم كإنسان، بل كإله، فهو يقول: «أنا هو نور العالم»، و«أنا هو الطريق والحق والحياة»، و:أنا والآب واحد» (يو12:8, 6:14, 30:10). فكيف يفهم الناس قول المسيح هذا إذا اعتبروه مجرد إنسان؟ إنه سيكون كمجدف، ولكن إن كان للسامع أذن روحية كاشفة، تكشف طبيعة «الكلمة» القائلة والمقولة، فحتماً سيتعرف عليها أنها إلهية وأن صاحبها إلهي هو: «لأني لم أتكلم من نفسي» (يو49:12). وهنا ذات المسيح هي الذات المنظورة للناس، والمتكلم فيه هو الله. فحينئذ, وعلى أقل تقدير, سيفهمون ما يتحدث به المسيح على أنه رسالة الله لهم، وأن حديثه يحمل الصدق والحق والقوة والروح والحياة، وهو كما هو أمام أعينهم، فعال، يشفي ويقيم من الموت، لأن كلمة الله خالقة ومُحيية.
لذلك, فليفهم القارىء أنه يستحيل على أي إنسان مهما بلغ من قوة الذكاء والفهم والتمحيص، أن يفهم الإنجيل أو يدرك ما يقوله المسيح, إذا لم تكن له أذن روحية يسمع بها طبقة رنين كلمة الله، وتحس بحركة الحياة التي فيها وتميزها عن كل ما عداها من كلمات الإنسان. فالاذن التي تستطيع أن تلتقط الموجة الروحية، وتحس بالحياة والحق لكلمة الله، هي وحدها التي تستطيع أن تفهم ما يقوله المسيح والروح.
أما كيفية قبول الأذن الروحية لكلمة الله وتفهمهاه فلا يأتي بالتمرين أو التلقين أو الدراسة، بل بقبول الرب يسوع نفسه «الكلمة» أولاً، والدخول معه في شركة الحياة الجديدة. فهو الذي يرفع مستوى قلب الإنسان وروحه لمستوى الكلمة، أي لمستواه في المعرفة. ومستواه في المعرفة بعد التجد لم يعد في السماء, بل في قلبنا وفمنا: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (مت29:11)، «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به.» (يو3:15)
ولكن، ليفهم القارىء أن لكل إنسان أذناً روحية؛ وهي إما تنفتح بالإرادة والشوق والإيمان والحب لكلمة الله فتكشف طبيعتها، وإما تنقفل بالإرادة المدفوعة بالبغضة والتعالي والتجديف، فلا تعود تسمع، ولا يعود الإنسان قادراً أن يفهم أو ينفعل للكلمة.
وإرميا النبي يخاطبهم من جهة الجهل وعدم الفهم: «اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون» (إر21:5). فالجهل هو انحطاط مستوى الكشف لطبيعة كلمة الله والجهل يؤدي حتماً إلى عدم الفهم. وقد نسب إرميا النبي الجهل إلى العمى الروحي، ونسب عدم الفهم إلى الصمم الروحي. ولذلك أيضا كان يطيب للمسيح أن يفتح أعين العمي، ويفتح آذان الصم, ليس كمعجزات شفاء لهذا الشعب، ولكن كآيات لعمل كلمة الله في طبيعة الإنسان الخاطىء.
ثم يوضح إشعياء النبي العوامل التي أدت إلى عمى عيونهم وانسداد آذانهم: «قد أعمى عيونهم، وأغلظ قلوبهم, لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم» (يو40:12). لذلك يصرخ أيضا إشعياء النبي: «يا رب من صدق خبرنا, ولمن استعلنت ذراع الرب. لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا» (يو38:12-39). ولكن من الذي سد آذانهم وأغلظ قلوبهم وأعمى عيونهم؟ هنا الضمير الفاعل هو العدو الشيطان, الذي سلموا أنفسهم له, حقداً وبغضة وعداوة بلا سبب, والذي وجه إليه المسيح سهمه الخاطف، ففضحه، وفضح إرادتهم: «أنتم من أب هو إبليس».
«أنتم من أب هو إبليس ...»: لم يكن المسيح في هذا القرار المرعب مهاجما أو متعديا على مشاعر اليهود، بقدر ما كان مدافعا عن الله الذي يريدون أن ينسبوا إليه أنفسهم وتعدياتهم بقولهم إن الله هو أبوهم. فقرار قتل الابن الوحيد الذي للآب قد كتبوه في ضمائرهم، وهم يبحثون الآن فقط عن علة مناسبة لتنفيذه. الرب هنا، وبقوله هذا، يفصل بين قداسة الله أبوه، وبين هؤلاء القتلة. وفي نفس الوقت كشف عن شخصية الأب المحرك لهؤلاء اليهود المدعين. لأن المسيح بقوله: «أنتم من أب هو إبليس ... »، يكون قد رفع الستار عن حربهم الخفية التي يشنونها ضد الله والمسيح تحت اسم الناموس وأبوة الله للشعب المختار، وقد جعل المواجهة صريحة ومكشوفة بينه وبينهم، أو بين الله الذي يتكلم باسمه، وبين الشيطان الذي ينطق فيهم.
وإن كان المسيح هنا في إنجيل يوحنا قد كشف عن شخصيات هذه الحرب المريرة بينه وبين الشيطان مواجهة وبصراحة، نجد المسيح يصيغ هذه الحرب في تشكيلات رمزية غاية في الأبداع في الأناجيل الأخرى: «فأجاب وقال لهم: الزارع الزرع الجيد هو ابن الإنسان, والحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هو بنو الشرير, والعدو الذي زرعه هو إبليس.» (مت37:13-39)
«وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالا للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب»: من أعجب الأمور وأكثرها ألمأ وحزنا للنفس، أن يكون للشيطان القدرة الغريبة لتسليم شهواته الشخصية للذين يخضعون له كأب، ويسيرون في طريقه كمعلم، لأن شهوة الشيطان تنبع من عداوة شخصية لله, ولابنه يسوع المسيح، ولكل من يتبعه ويطيعه. والإنسان ضعيف جدا وأصغر من أن يتقمص شهوة الشيطان هذه ويقف لكي يعادي الرب يسوع, سواء بفكره أو قلمه أو عمله. ولكن الذين تبناهم الشيطان ألبسهم تاجه وأعطاهم صولجانه, وكانوا عظماء في عين العالم وعلى مدى التاريخ، وكانوا ذوي صيت وبطولات؛ ولكن التاريخ للعالم شيء، والتاريخ لملكوت الله شيء آخر.
«... شهوات أبيكم تريدون»: «تريدون» تأتي باليونانية في صيغة الإصرار المنتهى منه, وهذه في الحقيقة صفة غريبة يتقمصها الشخص الشارد في شره، حتى ليتعجب الناس من قوة الاصرار وشدة الاستمرار في تتميم ما صمم عليه, في حين أن الشخص يكون في طبيعته الأصلية بسيطا ووديعا ومسالما حلو الأخلاق ومطيعا, ولكن إذا استماله الشيطان وتبناه صار شرسا متنمرا، لا يلين ولا يحيد عن مقصده، ولا يهدأ حتى يتمم كل ما أفرزه الشيطان في فكره, حتى وبدون وعي؛ فالشيطان يتقمصه. لذلك فإن قول المسيح: «شهوات أبيكم تريدون أن تعملوا»، جاءت في صورة واقعية تصور حقيقة ما كان يجري في قلوبهم تصويرا يزهل العقل, من حقد مجاني وغضب وسرعة الانفعال للقتل ومهاجة كلامية شرهة وعناد لا يهدأ.
وإن هذا هو في الواقع منهج كل الذين تركوا المسيح وأبغضوا الكلمة، إذ أصبحت فيهم عداوة لا تهدأ من جهة الحق ومهاجته والإزدراء بالإيمان.
«ذاك كان قتالاً للناس منذ البدء»: منذ أن أطلق المسيح هذه الصفة على الشيطان وأصبحت اسما له في العهد الجديد، وهي موجودة في تعاليم الرسل ( ) وترجمتها: «الحية القتالة للناس» ويختصرها سفر الرؤيا بتسمية «الحية القديمة» (رؤ9:12, 2:20)، سواء بسبب إدخال الموت على الإنسان, آدم, المخلوق أصلاً على غير فساد، أو إشعال الحقد والكراهية في قلب قايين، وإقحام إرادة القتل فيه ليقتل أخاه هابيل. ولماذا قتله؟ يقول الكتاب: «لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة.» (1يو12:3)
ولذلك، وعلى هذا الأساس، نبه الكتاب أن «كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس» (ايو15:3)، لأن الرب يعلم أن صاحب مشورة وقوة البغضة هو نفسه صاحب مشورة القتل. والخطية الاولى تحوي في بطنها الخطية الثانية، التي لابد أن تلدها إن آجلا أو عاجلا، إن بالنية أو بالفعل. ويصف القديس يوحناهذه الخطية هكذا: «لأن هذا هو الخبر الذي سمعتموه من البدء أن يحب بعضنا بعضا. ليس كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه، ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة.» (ايو11:3-12)
وتسلسل الخطية حتى إلى القتل تجيء في تقليد القداس: «والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس»، وهذا مأخوذ من سفر الحكمة (حك23:2-24). وهكذا تبنى الشيطان خطية القتل والقاتل معاً، والذق يهمنا جدا في هذا المجال هو كلمة «حسد الشيطان»، فالحسد هو الذي دفع الشيطان لإسقاط آدم. وإسقاط آدم تم عل مرحلتين: الاولى «غواية» ثم «فعل» تعدي، والنتيجه موت. وكان في ظن الشيطان أن الموت سينهي على مستقبل آدم، ويظل ساقطا إلى الأبد كما هو حال الشيطان: «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم (بسبب الحسد وطلب ما هو أعظم)، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» (يهوذا 6). ولكن آدم مخلوق على الرقي والسمو وبلوغ صورة الله في القداسة والحق. فدبر الله له الخلاص بالتوبة ودم المسيح. أما الشيطان وملائكته فخلقوا على مراكز ورئاسات محددة ومساكن لا يتعدونها. وكل تعد لهم هو سقوط ليس له توبة أو قيامة: «لأنه إن كان الله لم يشفق عل ملائكة قد أخطأوا, بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء...» (2بط4:2)
«ولم يثبت في الحق»: الأصل اليوناني يفيد أنه «لم يقف» بمعنى لم «يدم» بحسب القراءات الصحيحة. أي لم يضع قدماً, أو يرسخ. هذا الأمر يهمنا للغاية، لأن فيه يوضح المسيح مسألة حساسة بالنسبة لطبيعة الله في الخلقة على مستوى اللاهوت. فالشيطان لم يدم في الحق, أو لم يثبت في الحق, يعني أنه كان في موضع رئاسي (رياسة)، أو موضع أو مسكن «مسئولية» (بحسب رسالة القديس يهوذا) على مستوى الحق، ولكه تخلى عنه طمعاً أوحسداً فيما هو أعظم فحسب ذلك خطية؛ الأمر الذي يشرحه القديس بطرس الرسول: «الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا...»، وهذا يفيد أن الله لم يخلق الشيطان على الشر أو الفساد أو الخطية، بل خلقه على مستوى الرئاسة. ولكنه تعدى وأخطأ وسقط, والله لم يشفق عليه.
«لأنه ليس فيه حق»: هذه الجملة مربوطة بالسابقة فهو لم يثبت في الحق, بسبب أنه ليس فيه حق. ولكن المعنى هنا لا يتضح لنا إلا إذا فهمنا كلمة «يثبت» حرفياً، حيث تعني «لم يضع قدما» في الحق، أي «لم يرسخ» في الحق. بمعنى أن الله أعطاه رئاسة على مستوى الحق، وكان عليه أن يثبت, أو يرسخ، أو يضع قدمه، أو يخطو خطوة في الحق، ليكون ويدوم على مستوى الرئاسة التي أعطاه الله، لكنه أخفق. واخفاق الشيطان في أن يثبت في الحق أو الرئاسة الموضوعة له, سببه أنه ليس فيه حق, بمعنى أنه ليس فيه أي شيء من «الأليثيا» التي في الله والمسيح، وكان عليه أن يكتسبها بحفظه وثباته في الرئاسة والموضع الذي وُضع فيه، فلما لم يحفظ رئاسته ولم يثبت في الحق، كان سقوطه بلا شفاء ولا رجاء. ولما فقد الحق, صار كذاباً وأبا الكذب كله وكل الكذابين. وما هو الكذب إلا فقدان الحق؟ ومن هو الكذاب إلا الذي ينكر الحق؟
هنا علينا، أيها القارىء العزيز، أن تنذكر كيف غرس الشيطان الكذت في شعور آدم وحواء، وفي اللا شعور أيضاً, حينها قال لحواء في حواره الخادع الماكر المميت, رداً على قول حواء: «أما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا؛ فقالت الحية للمرأة لن تموتا» (تك3:3-4). وهذا هو منطق الشيطان في نفي الحق واخفائه تحت ستار المعقول والمرجح, والواقع والأكثر فائدة, والأسهل والألذ، والأسرع أيضاً. فالشيطان أبرز العصيان, ونفى الموت وأخفاه عن حواء تحت ستار المعرفة : «بل انه عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر.» (تك5:3)
ولينتبه القارىء أن في نفي الموت عن الذي يعصي أوامر الله يكون بالتالي قد نفى الدينونة, بل ونفى الخطية، بل ونفى قيمة الخلاص، بل ونفى المخلص، وأخيراُ نفى الحياة, حيث لا يبقى لمن يتبع الشيطان إلا أن يخنق نفسه!!
«متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب»: في هذا الوصف يهمنا كلمتان: الاولى «الكذب» والثانية «يتكلم مما له». فالكذب يجيء في اليونانية ( ) وتعني الزيف, أي ما هو ليس حقاً أو صحيحاً، وهنا يتضح لنا أن الكذب أو الزيف أو ما هو ليس حقاً أو صحيحاً ليس جوهراً في حد ذاته، أي ليس شيئاً معروفاً أو محدد الوجود، بل هو نفي الشيء أو نفي الوجود، فعندما يقول إنسان قولاُ حقاً ويأتي آخر ويصدقه على هذا القول، فهو يقول «الحق»؛ ولكن إذا جاء إنسان أخر ونفى هذا القول، فهو كاذب لأنه نفى الحقيقة. وإذا كان هناك شيء معروف كظهور الشمس مثلاً ويقول إنسان أن الشمس غير ظاهرة، فهو يكذب لأنه ينفي وجود الموجود. وهكذا فإن الحق يعتمد على طبيعته الموجودة، أما الكذب فليس له طبيعة بالمرة بل يعتمد على نفي الحق أو نفى ما هو صحيح.
وهذا هو التحليل الصحيح لطبيعة الشيطان وملوكه وكلامه في تعريف الرب له أنه «يتكلم بالكذب، لأنه يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب». لأن الشيطان بحسب خلقته لم تكن له طبيعة الحق ولا طبيعة الكذب، بل خلق ووضع في رئاسة محددة له، كان المفروض أنه إذا أطاع بحسب حريته المحددة له, أن يثبت في رئاسته, وبالتالي يثبت في أمر الله، أي يثبت في الحق. ولكنه رفض الأمر بحسب حريته المحددة له, وتعال, فسقط من رئاسته، وسقطت طبيعته من موضع الحق نهائياً، فأصبح اعتماده قائماً على ذاته وليس على الله, أي الحق.
وهكذا أصبح الشيطان بمقتضى سلوكه وبمحض حريته وإرادته ضد الحق، لأنه فاقده. وصارت طبيعته تتغذى من مقاومة الحق، فتشكلت أفكاره وإيحاءاته وكلماته بحسب طبيعته، أي ضد الحق: وهذا ما يعرفه الرب بأنه متى تكلم فإنه يتكلم مما له, أي ليس من الله ولا من مصدر حق، بل من ذاته، أي يتكلم بحسب طبيعته التي اكتسبها لنفسه والتي لم تعط له, وهي طبيعة طفيلية تقوم على نفي الحق ومقاومته, وهي بذلك طبيعة كاذبة مزيفة, ينحصر نشاطها كله في مقاومة الحق ونفيه. وصحيح أن نفي الحق هو لا شيء في ذاته, وهو السالبية وهو اللاوجود واللاصحيح واللاقيمة له على الإطلاق؛ ولكنه في مقاومته للحق والوجود وكل القيم الصحيحة، اكتسب له وجوداً سلبياً قائمأ على نفي وجود الحق. فهو يقوم على مدى احتمال صاحب مشيئة «الحق» أي الله، له ولعمله السلبي، فهو وجود مهدد بالفناء. لأنه في اللحظة التي يعلن فيها الحق المطلق أي الله عن إدانته للشيطان بمقتضى الحق، فإنه ينتهي من الوجود لأنه ليس له حق الوجود الذاتي.
هذا على مستوى الله, أما على مستوى الإنسان، فهو بنفس القياس ولكن بدرجة محدودة. فالشيطان يقدم مشورته السالبية التي تقوم على الكذب والتزييف، فإذا رفضها الإنسان بمقتضى وصايا الحق التي يعيش بها، تلاشى الشيطان من الوجود في محيط العمل الفردي لمدة تتحدد بصلابة الإنسان في الحق.
ولكن إذا قبل الإنسان مشورة الشيطان وأفكاره المزيفة والمعروف أنها ضد الحق مائة بالمائة، فإنه يكون قد أوجد للشيطان محلاً ومسكناً ووجوداً, وهذا منتهى أمل الشيطان وغاية سعيه أن يكون له وجود مزيف في ذات الإنسان، فهذا يوسع من دائرة تخريبه ومقاومته للحق، مما يشبع وجوده وجحوده. أما إذا أتقن الإنسان حيل الشيطان وتزييفه بشغف وحذق، وبرع في مقاومته للحق، فإن الإنسان يكون قد أخذ دور الشيطان بالكامل، ويكون الشيطان قد تبنى الإنسان وأحبه ووهبه طبيعته بكل فنون التزييف ومقاومة الحق. وهذا هو الدور الذى اتخذه اليهود لأنفسهم تجاه المسيح، وهذا ما أعلنه المسيح عنهم أنه قد صارت لهم طبيعة الشيطان في الكذب ومقاومة الحق: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا»! ويكون الشيطان بذلك قد صار بالفعل أباً للكذب والتزييف في العالم وأباً لكل كذاب ...
أيها القارىء العزيز، احذر الكذب بكل أنواعه فهو صناعة الشيطان، وهي صناعة لا تبني بل تهدم، ولا تدوم بل تفنى. واحذر تزييف الحق أو الحقيقة في الأشياء والأقوال والأعمال، مهما كانت صغيرة, ومهما كان لها صورة المنفعة الوقتية، لأنها من طبيعة الشيطان التي مآلها الدينونة والفناء. الزم الحق بكل قوة وبكل إصرار، لأنه انتصار للحق والوجود والحياة ضد الفناء، وانتصار لله ضد الشيطان، فانظر كيف أعطانا الله الفرص في الحياة لكي ننصر الحق، فننتصر ضد قوى الشر والظلام، ونبقى ونحيا وندوم.
المسيح يبدأ قوله بـ «أما» وكأنه يعطى المقابل لإبليس الذي تبناهم وأصبح ينطق فيهم كأولاد طاعة للشر وأساتذة لمقاومة الحق. المسيح ها هو النقيض «لأبيهم»، والمنافق لهم ولأفكارهم. لو كان المسيح يتكلم بالكذب (وحاشاه)، لصدقوه، لأنه يتكلم مما لهم ولأبيهم, وللعالم الذي أحبوه وعبدوه؛ و«لكن أما أنا فلأني أقول الحق لستم تؤمنون بي». التقابل هنا صارخ بين «هم» و«الكذب» من جهة، و«أنا» و «الحق» من جهة أخرى.
والآن يتضح لنا لماذا لا يؤمنون بالمسيح، مع أن المسيح يقول الحق؟! ذلك لأن طبيعتهم التي تساوت في سلوكها مع حيل الشيطان وتزييفه للحق، أصبحت ضد الحق, أينما كان, فأصبح إيمانها بالحق أو بالمسيح أمر مستحيل عليهم.
ثم أخيراء وفي كلمة واحدة استعلنها لنا المسيح, فإن كل من هو ليس ابن الحق، هو ابن إبليس بالضرورة.
«من منكم يبكتني على خطية؟»: المسيح هنا يجمع كل أنواع الكذب ومقاومة الحق في كلمة واحدة هي «الخطية»، والتي ينصب معناها على من يتعدى الحق, بحسب قياس نص قانون الله، أي الوصية. والخطية لا تشمل العمل فقط بل والنية أيضاً. كما أن الخطية مربوطة بالمشاعر والعواطف والسلوك، لذلك يستحيل أن تعيش الخطية في الإنسان دون أن تعلن عن نفسها، ومن هنا يمكن معرفة الخاطىء بأدلة كثيرة.
ويلاحظ هنا أن المسيح يبلور الجزء الأول من الآية: «لأني أقول الحق» في مفهوم عملي واضح بقوله: «من منكم يبكتني على خطية؟»، بمعنى أن المسيح يقول الحق ويعمله؛ وبهذه الكلمة: «قن منكم يبكتني على خطية»، يضح قياس الحكم على أن ما يقوله هو حق، فإذا لم يعثروا له على خطية، أصبح الحكم عليهم لازماً بأنهم يقاومون الحق. كما أصبح الحكم على السيح بأنه من الله حتماً لأنه بلا خطية، في مقابل اضطراري أنهم من إبليس لأن ليس فيهم حق, ولكن ليس معنى هذا أن المسيح يعطي حقاً لليهود أو لأي إنسان أن يقيس عليه سلوكه أو يحكم على شخصه بأي حال من الأحوال، ولكن الذي طرحه المسيح دائماً ليكون قياساً هو«كلمته». فالكلمة طرحها المسيح للفحص لندرك منها أنه هو من الله وابن الله؛ وهنا يقول المسيح لليهود: «وأما أنا فلأني أقول الحق»، وهكذا يطرح المسيح قوله للفحص قياساً على سلوكه الذي يتحدى به فكر الإنسان الفاحص. وكأنه يقولها صراحة: «أنا بلا خطية», «ما أقوله هو الحق», وهكذا وبالضرورة فإن كل من لا يؤمن يدان، بل وكل من لا يؤمن، فهو ليس من الله.
«يبكتني»: وتأتي في اليونانية ( )، وهذه الكلمة بحد ذاتها هي اصطلاح قانوني يفيد الفحص المضاد من محامي الخصم، وهو نوع من «إقامة الدليل الضد», وهي تقوم على إثبات الخطأ بالدليل المدعم، إما بشهادة الشهود، أو بالوثائق الدامغة، أو بمهارة المحقق في جعل المتهم يعترف ضد نفسه. وقد أورد إنجيل يوحنا هذا الاصطلاح في 8:16 عن الروح القدس أنه «يبكت العالم على خطية ... ».
والمسيح بقوله: «من منكم يبكتنى على خطية» يكون قد كشف كشفاً واضحاً عن المستوى الذى تعيش به بشريته, فهو مستوى يفوق قامة البشر حيث يستحيل أن يوجد إنسان بلا خطية.
وبهذا يكون هذا النص هو استعلان للمستوى الإلهي الذي كان يعيشه المسيح في بشريته, وهو المعروف في اللاهوت: أن المسيح «بلا خطية»: «لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضففاتنا بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية» (عب15:4)
«فإن كنت أقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي؟»: والمسيح يقصد, بقوله هذا، أنه إذا لم يبكتني أحد عل خطية الكذب والتزييف، إذن، فأنا لا أكذب ولا أزيف الحق، أي إني أقول الحق, فإن كنت أقول الحق، فلماذا لم تستجيبوا للحق فـ «تؤمنوا بي» : حيث تجيء «تؤمنون» هنا خالية من الحرف «بي» أي بمعنى «تصدقونني» في الأصل اليوناني.
المسيح يبدأ قوله بـ «أما» وكأنه يعطى المقابل لإبليس الذي تبناهم وأصبح ينطق فيهم كأولاد طاعة للشر وأساتذة لمقاومة الحق. المسيح ها هو النقيض «لأبيهم»، والمنافق لهم ولأفكارهم. لو كان المسيح يتكلم بالكذب (وحاشاه)، لصدقوه، لأنه يتكلم مما لهم ولأبيهم, وللعالم الذي أحبوه وعبدوه؛ و«لكن أما أنا فلأني أقول الحق لستم تؤمنون بي». التقابل هنا صارخ بين «هم» و«الكذب» من جهة، و«أنا» و «الحق» من جهة أخرى.
والآن يتضح لنا لماذا لا يؤمنون بالمسيح، مع أن المسيح يقول الحق؟! ذلك لأن طبيعتهم التي تساوت في سلوكها مع حيل الشيطان وتزييفه للحق، أصبحت ضد الحق, أينما كان, فأصبح إيمانها بالحق أو بالمسيح أمر مستحيل عليهم.
ثم أخيراء وفي كلمة واحدة استعلنها لنا المسيح, فإن كل من هو ليس ابن الحق، هو ابن إبليس بالضرورة.
«من منكم يبكتني على خطية؟»: المسيح هنا يجمع كل أنواع الكذب ومقاومة الحق في كلمة واحدة هي «الخطية»، والتي ينصب معناها على من يتعدى الحق, بحسب قياس نص قانون الله، أي الوصية. والخطية لا تشمل العمل فقط بل والنية أيضاً. كما أن الخطية مربوطة بالمشاعر والعواطف والسلوك، لذلك يستحيل أن تعيش الخطية في الإنسان دون أن تعلن عن نفسها، ومن هنا يمكن معرفة الخاطىء بأدلة كثيرة.
ويلاحظ هنا أن المسيح يبلور الجزء الأول من الآية: «لأني أقول الحق» في مفهوم عملي واضح بقوله: «من منكم يبكتني على خطية؟»، بمعنى أن المسيح يقول الحق ويعمله؛ وبهذه الكلمة: «قن منكم يبكتني على خطية»، يضح قياس الحكم على أن ما يقوله هو حق، فإذا لم يعثروا له على خطية، أصبح الحكم عليهم لازماً بأنهم يقاومون الحق. كما أصبح الحكم على السيح بأنه من الله حتماً لأنه بلا خطية، في مقابل اضطراري أنهم من إبليس لأن ليس فيهم حق, ولكن ليس معنى هذا أن المسيح يعطي حقاً لليهود أو لأي إنسان أن يقيس عليه سلوكه أو يحكم على شخصه بأي حال من الأحوال، ولكن الذي طرحه المسيح دائماً ليكون قياساً هو«كلمته». فالكلمة طرحها المسيح للفحص لندرك منها أنه هو من الله وابن الله؛ وهنا يقول المسيح لليهود: «وأما أنا فلأني أقول الحق»، وهكذا يطرح المسيح قوله للفحص قياساً على سلوكه الذي يتحدى به فكر الإنسان الفاحص. وكأنه يقولها صراحة: «أنا بلا خطية», «ما أقوله هو الحق», وهكذا وبالضرورة فإن كل من لا يؤمن يدان، بل وكل من لا يؤمن، فهو ليس من الله.
«يبكتني»: وتأتي في اليونانية ( )، وهذه الكلمة بحد ذاتها هي اصطلاح قانوني يفيد الفحص المضاد من محامي الخصم، وهو نوع من «إقامة الدليل الضد», وهي تقوم على إثبات الخطأ بالدليل المدعم، إما بشهادة الشهود، أو بالوثائق الدامغة، أو بمهارة المحقق في جعل المتهم يعترف ضد نفسه. وقد أورد إنجيل يوحنا هذا الاصطلاح في 8:16 عن الروح القدس أنه «يبكت العالم على خطية ... ».
والمسيح بقوله: «من منكم يبكتنى على خطية» يكون قد كشف كشفاً واضحاً عن المستوى الذى تعيش به بشريته, فهو مستوى يفوق قامة البشر حيث يستحيل أن يوجد إنسان بلا خطية.
وبهذا يكون هذا النص هو استعلان للمستوى الإلهي الذي كان يعيشه المسيح في بشريته, وهو المعروف في اللاهوت: أن المسيح «بلا خطية»: «لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضففاتنا بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية» (عب15:4)
«فإن كنت أقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي؟»: والمسيح يقصد, بقوله هذا، أنه إذا لم يبكتني أحد عل خطية الكذب والتزييف، إذن، فأنا لا أكذب ولا أزيف الحق، أي إني أقول الحق, فإن كنت أقول الحق، فلماذا لم تستجيبوا للحق فـ «تؤمنوا بي» : حيث تجيء «تؤمنون» هنا خالية من الحرف «بي» أي بمعنى «تصدقونني» في الأصل اليوناني.
هنا المسيح يذهب إلى جذور القضية، مرة أخرى، أي إلى المصدرين اللذين ينحدر منهما الحق والكذب، وهما الله والشيطان. فهو يسأل ثم يجيب: «لماذا لستم تؤمنون بي؟» الجواب: لأنني أقول الحق, كلمة الله, لأني من الله. وأنتم تقولون الكذب وتضمررن القتل, لأنكم من إبليس, والذى من الله (ابن الله) هو وحده الذي يسمع كلام الله, ويقوله ويعمله, ويستطيع أن يقوله باسم الله ليسمعه الناس, الذين من الله, فيؤمنون أنه من الله. هذا يوضحه القديس يوحنا في رسالته الاولى هكذا: «نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا ومن ليس من الله لا يسمع لنا. من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال» (ايو6:4). أما الذي من إبليس فهو يسمع من إبليس ويقول الكذب الذي يسمعه مز إبليس ويضمر القتل، حتى لا يؤمن الناس بالحق ويصدقوا الكذب. والذي يسمع الكذب لا يسمع الحق لأنه ليس من الله.
ومرة أخرى نقول أن كلمة «يسمع» هنا تأتي في معناها الروحي، فهو سماع القلب, الذي يلازمه التنفيذ, أي السماع والطاعة معاً: «فقال له بيلاطس: أفأنت إذاً ملك؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك, لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق, كل من هو من الحق يسمع صوتي» (يو37:18)
وأيضاً نود أن نؤكد أن السماع الروحي للحق يتبعه الطاعة حتماً، كعمل أو فعل تنفيذي, مؤازر من الله بقوة خاصة, على مستوى الروح أيضاً, ولكي ندرك هذا الأمر الخطير، فلنتأمل مماً في قول الرب: «الحق الحق أقول كم إنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون» (يو25:5). هنا الطاعة تأتي كفعل تنفيذي حتمي، كنعمة، يسري في الميت روحيا فيقيمه الصوت المحيي من موت الخطية. وهنا أيضاً يلزمنا أن ننتبه أن فعل الطاعة التنفيذي الذي يسري في الميت روحياً، أي الميت بسبب الخطية، لا يحتاج منه الى جهد لأنه فعل إحياء من موت, هو من صنع الله, حيث الموت هو اللاإرادة والسكون القاتل، تماما كما سمع لعازر صوت ابن الله وهو ميت منتن في القبر, فقام. المطلوب فقط هو «السمع» أي السماح للصوت المحيي أن يسري في الروح وذلك بعدم إقامة العوائق أمامه, سواء من الشكوك، أو الادعاء بعدم الاستحقاق، أو التملص لعدم المناسبة الزمنية, أو من الهروب وتسويف العمر باطلاً، أو الانشغال الأحمق بالتلذذ بالخطية، بل بتصميم ويقظة وارادة مذعنة للصوت الإلهي المحيي، يعمل عمله بالاستعداد, والامتثال لتأثيره, في صمت الخضوع المريح: «قلبي مستعد يا الله قلبي مستعد» (مز7:57 حسب السبعينية). ولكن إن أبقينا على الخطية في القلب، فلن نسمع الله، ولن يسمع لنا الله: «إن راعيت إثما في قلبي، لا يستمع لي الرب.» (مز18:66)
أما هؤلاء اليهود المعاندون، فكانت لهم آذان حكيمة تستطيع أن تميز بين الحق والباطل, لكنهم فقدوا إرادة الصلاح، فسدوا آذانهم لكي لا تسمع صوت الله عن دراية وإرادة: «مثل الصل الأصم (بإرادته) يسد أذنه (لكي) لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رقى حكيم» (مز4:58-5). هذا كان حال هؤلاء اليهود في عيني الرب تماماً، وهم أدركوا بالفعل أن المسيح قد كشف عوارهم، وسد عليهم منافذ الهروب من مواجهة الحقيقة المرة في حلقهم، فأثبتوا بسلوكهم أنهم ليسوا من الله كما سبق وواجههم، إنهم لا يؤمنون بالله، لأنهم استحوزوا على مجد الله لأنفسهم كمعلمين. كما أنهم لا يحبون الله، لأنهم أبغضوا من أحبه الله وأرسله إلى العالم. لهذا كله، قال لهم: «أنتم من أب هو إبليس»، مما هيج سخطهم:
لم يتزحزح هؤلاء اليهود عن موقفهم المعاند، فهم فقدوا، ليس فقط القدرة على السماع من الله، بل وقطعوا خط الرجعة على أنفسهم إذ بدأوا يهينون الله في شخص من يتكلم باسمه.
«سامري»: هذا الوصف قالوه ليشفي حقدهم على المسيح لأنه قال لهم: «أنتم لستم أولاد إبراهيم»، وهو ما اعتبروه تجريدا من وطنيتهم. فهذا هو الاتهام الأول والأساسي الذي يقول به السامريون ضد اليهود. ومعنى الكلام الموجه للمسيح، أنك بهذا الكلام تكون قد تبنيت فكر السامريين ضدنا وضد مملكتنا وميراثنا. ومعلوم مدى العداوة التي يكنها اليهود نحو السامريين، فهم ضمنا ينفسون عن عداوتهم للمسيح بهذا الوصف.
أما قولهم: «وبك شيطان»، فهو إفلاس من وجود اتهام حاضر في ذهنهم. فلا هم استطاعوا أن يبكتوه على كذب، ولا استطاعوا أن يقللوا من سلطانه في الكلام باسم الله، أو الرد على الآيات التي يعملها. فكما تسجل في بقية الأناجيل، فإن متنفسهم الوحيد ضد هذه النماذج الفائقة التي يقدمها بالقول والعمل للتدليل على سلطان بنوته لله, كان أن يتهموه بأن أعماله وأقواله إنما هي بعمل الشيطان: «ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين» (لو15:11). وهذا خداع منهم ومراوغة لكي يضللوا أنفسهم والشعب معهم حتى لا يؤمنوا به. وهنا هم يكررون نفس الاتهام ليفلتوا من الحكم عليهم بأنهم يعملون أعمال إبليس. وذلك بتدبير خطة قتله، ليتخلصوا من سلطان الحق المسلط على رقابهم.
«أجاب يسوع: أنا ليس بي شيطان»: المسيح ترك اتهامهم له بأنه سامري لأنه لا يريد أن يدخل في نقاش الأنساب والأجناس، ولأن نفي الاتهام في حد ذاته لا يغير من حقيقة الأمر انهم بالفعل لم يعودوا أولادا لإبراهيم ولا شعب الله المختار، وأنه لن ينفعهم هيكل سليمان العظيم الذي لن يبقى فيه حجر على حجر لا ينقض! إنما احتفظ المسيح لنفسه بالرد على الاتهام الثاني لأهميته، بل ولخطورته في نظره لأنه يمس كرامة أبيه, ولهذا استحال عليه أن يصمت تجاهه.
«لكني اكرم أبي وأنتم تهينونني»: المسيح هنا يوقع اليهود في خطية لا تغتفر. فكما سبق وجاء في الأناجيل الأخرى، فإن رد المسيح على نفس الاتهام أنه: «برئيس الشياطين يخرج الشياطين» (مت34:9)، و «أن معه روحا نجسا» (مر30:3)، اعتبر ذلك خطية مباشرة ضد الروح القدس، لأنه إنما كان بروح الله يخرج الشياطين؛ فإن هم نسبوا إلى رئيس الشياطين عمل الروح القدس، يكونون قد جدفوا على الروح القدس: «الحق أقول لكم: إن جميع الخطايا تغفر لبني البشر، والتجاديف التي يجدفونها، ولكن من جدف على الروح القدس، فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة أبدية. لأنهم قالوا إن معه روحا نجسا.» (مر28:3-30)
وهنا في إنجيل يوحنا اعتبر المسيح قولهم: «بك شيطان» هو إهانة؛ وأنها وإن كانت موجهة منهم له شخصيا، إلا أنها قيلت له بسبب أنه يكرم الآب, فهنا الإهانة موجهة بالأصل وبالأساس إلى الآب الذي جاء ليكرمه، وهم يهينونه بسبب ذلك. ولكي ينفي المسيح عن نفسه أنه يدينهم بسبب إهانتهم له، يكرر أنه لا يطلب مجد نفسه، ولكن الذي يطالب بالمجد هو الله الذي أهانوه، والذي سيدين من أهانه. وبهذا ينتهي المسيح من تكييف إهانتهم له بقولهم «بك شيطان»، بأن هذه الإهانة هي موجهة ضد الله, وثمنها دينونة حتمية.
حينما يكرر المسيح قول «الحق» فهو إنما يبدأ استعلانا جديدا عن نفسه.
فإزاء الدينونه الرهيبة التي يقع فيها من يهين الابن الذي جاء ليكرم الآب، يوجد في المقابل وعد أبدى بأن من يحفظ كلمة المسيح, أي تعاليمه في مجموعها الكلي، فإنه لن يرى الموت إلى الأبد. هنا كلمة «يحفظ» لا تجيء بمعنى الحراسة, بل بمعنى الاستيعاب والملاحظة والطاعة. كما تجيء كلمة «يرى الموت» ليس بمعنى النظر, بل بمعنى التأمل المستديم (ثيئوريا) في مواجهة الموت، وهي تجيء هنا للمرة الاول والوحيدة في جميع كتب العهد الجديد, وتفيد المعنى العكسي للموت, أي أن من يحفظ ويطيع تعاليم المسيح في مجموعها, علما بأن كلام المسيح هو روح وحياة, فلن يكون للموت سلطان مرعب على النفس أو تأثير مخيف ودائم إلى الأبد: «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أى إبليس، ويعتق أولئك الذين، خوفا من الموت، كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية» (عب14:2-15)، بل استمتاع برؤية وممارسة الحياة الدائمة إلى الأبد. والمعنى الكلي أن الحياة تسود بفرحها على الموت بصورته المخيفة والمستمرة إلى الأبد حتى ولو مات الإنسان بالجسد. وباختصار شديد يقول المسيح إن من يهين الابن يسود عليه الموت بالدينونة والخوف من الموت إلى الأبد، ومن يحفظ ويستوعب تعاليمه تسود عليه الحياة الأبدية.
اليهود المعاندون يقولون: «الآن علمنا». هذا هو العلم الكاذب بأصوله وفروعه. وماذا علموا، وماذا تأكدوا من علمهم؟ أن المسيح أيضا وللمرة الثانية به شيطان؟ هذا يكشف عن مدى صدق المسيح ودقته في وصف هؤلاء: إنهم من أب هو إبليس، وشهوات أبيهم يعملون. وفي نفس الوقت لم يرد المسيح الإهانة، فصدق قول بطرس الرسول: «الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً، إذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يسلم لمن يقضي بعدل.» (ابط23:2)
«قد مات إبراهيم والأنبياء»: المعنى هنا مختفي بسبب شدة الاختصار، والمراد من هذا القول أن الله كلم إبراهيم وهو أبو الآباء, وكلم الأنبياء وكانوا أمناء على كلمة الله وحفظوها، وبالرغم من ذلك ماتوا كلهم, ولم تقو كلمة الله على منع الموت عنهم.
«وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد»: لم يكفك أن تكون كإبراهيم أو أحد الأنبياء بأن لا تذوق أنت الموت إن كنت حفظت كلام الله، بل تزيد وتقول إن كان أحد آخر يحفظ كلامك أنت فإنه لا يذوق الموت إلى اللأبد؟
ها الخطأ المتعمد الذي وقع فيه اليهود في تحويل كلمة «يرى الموت» في كلام المسيح إلى «يذوق الموت». نجد أن هذا الاصطلاح عام، فالمسيح نفسه ذاق الموت: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللا بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد» (عب9:2)، كذلك هذا الاصطلاح معروف لدى التقليد اليهودي في التلمود، أي أنه كان على ألسنة اليهود. وقد اختار هؤلاء اليهود هذا الاصطلاح «يذوق الموت» بدل الاصطلاح الذي وضعه المسيح لأول مرة في العهد الجديد وهو «يرى الموت» بمعنى «يتأمل ويتصور الموت»، بمعنى يعيش الخوف الدائم منه، فهذا الاصطلاح «يذوق الموت» يجىء في الواقع ليخدم اللاهوت في أعماقه، فالمسيح ذاق الموت مرة، ولكنه لم يتأمله أو يراه أو يعيش الخوف منه ولا إلى لحظة. كذلك كل من يؤمن بالمسيح، فإنه ينتقل من الموت إلى الحياة، أي يحيا إلى الأب, ولا يعود «يتأمل الموت» بفزعه والخوف منه «لكى يبيد الموت (الذي ماته على الصليب) ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين، خوفاً من الموت, كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية» (عب14:2-15). هذا الخوف من الموت الذي كان يجعلنا كعبيد للخوف كل أيام حياتنا هو هو الذي يقصده المسيح بخصوص الذين يحفظون كلامه: «لن يرى الموت إلى الأبد».
«ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات والأنبياء ماتوا. من تجعل نفسلك؟»: لا تزال الهوة التي تفصل قول المسيح عن قول اليهود سحيقة، كما كانت أيضا في نظر السامرية: «ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟» (يو12:4). فالسيح يتكلم عن موت الخطية الأبدي والحياة الأبدية. وهم يتكلمون عن الموت الزمني المحتم بحسب حياة الجسد. هو يتكلم عن الوجود الإلهى الفائق على الزمن، وهم يتكلمون عن الوجود التاريخي, المنظور تحت العدم. هو يتكلم عن نفسه كابن الله الأزلى، وهم يرونه ابن الناصرة، مواطن جليلى، غير مثقف.
«من تجعل نفسك ؟»: سؤال على مستوى فكر اليهود المحدود، فهو يستنكر مقدما أي احتمال أنه أعظم من إبراهيم. من تجعل نفسك بالنسبة لإبراهيم والأنبياء، تعبيرا عن حتمية الموت للانسان مهما كان؟ سؤال لا يجيب عليه المسيح إجابة مباشرة، لأن ذلك سيكون على مستوى لاهوتي يفوق فكرهم الضيق. لذلك يبدأ المسيح يفحص الإعتراضات الجانبية، فسؤالهم: «من تجعل نفسك»، يستشعر منه أن المسيح يمجد ذاته أكثر من الآباه والأنبياء. وهنا يتحتم الرد على ذلك لئلا يمس مجد الآب وتُجرح طاعته لمن أرسله
المسيح هنا يستعلن حقيقة لاهوتية، ولكن على مستوى فكر اليهود, وهي ما يسمى بالاخلاء، وهو ما يقول عنه بولس الرسول: «لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد» (في7:2). فبعد التجسد يظهر ابن الله في هيئة بشرية ليس لها مظهر الألوهية، أي «المجد» ولكنه احتفظ بطبيعة الألوهية في القوة والعمل. فمن جهة بشريته يقول المسيح لليهود إنه ليس له مجد شخصي (كإنسان)، فإذا اعتبروا كلامه «إن كان أحد يحفظ كلمتي (لوغس) فلن يرى الموت إلى الأبد» أنه تمجيد لنفسه، يكونون قد أخطأوا، إذ ليس له مجد شخصي، أو أن مجده ليس شيئاً موجوداً في الاعتبار قط؛ ولكن الذي يمجده حقاً هو أبوه, ليس كأنه سيضيف إليه شيئاً للتكريم، وإنما يسترد منه المجد الذي سبق أن تخلى عنه حتى يستطيع أن يتجسد ويصير في هيئة عبد: «والآن مجدني انت أيها الآب عند ذاتك, بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم» (يو5:17), و «عند ذاتك» في هذه الآية تعنى أن مجد الابن هو مجد ذات الله. هذا الذى نصرخ به فى الذكصا الكبرى «المجد للآب والابن والروح القدس».
« ... الذي تقولون أنتم إنه إلهكم»: هنا يوضح المسيح الفرق الجوهري بين ابوة الله للمسيح، وبين علاقة الله باليهود. فابوة الله للمسيح قائمة على أساس بنوة المسيح لله، فالأبوة هي أبوة في ذات الله، والبنوة هي بنوة في ذات الله، أي أن الله أب وابن ذات واحدة غير مفترقة. ومن ذلك يتضح سر قول المسيح إن الله أبوه الشخصي «الذاتى». وفي نفس الوقت يدعي اليهود أن الله هو إلههم, ولكن هذه النسبة بين الله وبينهم مقطوعة، بسبب عدم معرفتهم الله معرفة شخصية، والتي من أوضح مظاهرها رفضهم للمسيح الذي يحمل أقوى استعلان لذات الله. فهو فوق أنه ابن ذات الله، فهو يعمل أعمال الله! «إن كنت لست أعمل أعمال أبي، فلا تؤمنوا بى؛ ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال, لكى تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ وأنا فيه» (يو37:10-38)
«الذي تقولون أنتم إنه إلهكم ولستم تعرفونه, وأما أنا فأعرفه»: هنا معرفة المسيح للآب التي يسلط عليها الضوء هي معرفة الجوهر للجوهر، معرفة الطبيعة للطبيعة، معرفة الذات للذات, معرفة المثيل للمثيل. هنا معرفة الابن للآب تساوي معرفة الآب للابن، أي معرفة تمام الانطباق!! فإذا دخلنا على هذه المعرفة اللاهوتية بالعقل أو الفكر أو التحليل, نتوه ونضل؛ ولكن قد اعطي لنا أن ندخلها من باب الحب والطاعة والارادة, أي بالصفات التي نشابه فيها الله. فنحن نحس بمعرفة المسيح لله من خلال حب الله الآب, المطلق, للمسيح الابن، ومن خلال طاعة الابن المطلقة للآب.
ثم نحن نقيس هذه المعرفة الإلهية أيضا بمقياس الإرادة والمشيئة، فنشعر من خلال بذل الله الآب لابنه بمقدار إرادة الآب الفائقة جداً على الوصف, التي تنازلت حتى إلى بذل الابن إلى أقصى حد من المذلة والهوان بالموت على الصليب. وهذه الإرادة الأبوية التي فرطت في مجد الابن وكرامته جاءت على نفس الإرادة التي أحب بها الله عالم الخطاة، بمعنى أن الله أحب العالم ففرط في ابنه وبذله ليخلصهم, أي أنا وأنت, وسعى لخلاصهم وحياتهم، وأعطاهم نصيبا خاصاً في مجده وكرامته الشخصية!!!
والآن نستطيع أن نفهم، ولو قليلا من معرفة المسيح, سواء للآب أو لنا التي يصفها بولس الرسول هكذا: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسونن في المحبة، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة, لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف17:3-19)
والمسيح يقول لليهود إنهم يقولون عن الله أنه إلههم, وهم لا يعرفونه، لأنهم لو عرفوه حقاً لما صلبوا ابن محبته. ثم يقول: «أما أنا فأعرفه»، ومن أعظم مظاهر هذه «المعرفة» وأقوى الأدلة على صدقها وعمقها اللانهائي, طاعة المسيح حتى الموت, موت الصليب. هنا جعل المسيح قياس المعرفة على المستوى العملي المطلق. فاليهود لم يعرفوا الآب، فصلبوا ابنه بجهالة وإصرار. والمسيح أظهر معرفته الخاصة بالله الآب، بأن حفظ كلمته, وأطاع مشيئة الآب طاعة مطلقة تحدى بها جهالة اليهود والعالم، ورضي بأن يصلبوه ليكمل بموته مصالحة العالم بالآب.
وهكذا يكون ادعاء اليهود أنهم يعرفون الله هو ادعاء كاذب، يفضحه ما عملوه بابنه على الصليب. والمسيح يقول إنه يستحيل عليه أن يجاريهم في هذه المعرفة التي هي منتهى عدم المعرفة... فلو كان قد تمشى معهم, في مستوى توقيرهم الحرفي للناموس وتكريمهم لموسى، والمن، وتعظيمهم لميراث وعد الآباه عن إبراهيم, لما صُلب، ولكان احتفظ بمجد نفه ومجد إسرائيل الكاذب، ولأصبح كاذباً مثلهم في ادعاء المعرفة والعمل ضدها في نفس الوقت. لأن معرفة الله هي التي تختص بخلاص العالم، والتي تبدأ من الصليب وتكمل بالقيامة من الأموات، وافتتاح الطريق إلى الحياة الأبدية!! «أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك (فأكمل صلب الابن). أما أنا فعرفتك (ببرهان صليبي)، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني (وكانوا شهود صليبي)، وعرفتهم اسمك, وسأعرفهم (بقيامتي)، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم.» (يو25:17-26)
المسيح هنا يستعلن حقيقة لاهوتية، ولكن على مستوى فكر اليهود, وهي ما يسمى بالاخلاء، وهو ما يقول عنه بولس الرسول: «لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد» (في7:2). فبعد التجسد يظهر ابن الله في هيئة بشرية ليس لها مظهر الألوهية، أي «المجد» ولكنه احتفظ بطبيعة الألوهية في القوة والعمل. فمن جهة بشريته يقول المسيح لليهود إنه ليس له مجد شخصي (كإنسان)، فإذا اعتبروا كلامه «إن كان أحد يحفظ كلمتي (لوغس) فلن يرى الموت إلى الأبد» أنه تمجيد لنفسه، يكونون قد أخطأوا، إذ ليس له مجد شخصي، أو أن مجده ليس شيئاً موجوداً في الاعتبار قط؛ ولكن الذي يمجده حقاً هو أبوه, ليس كأنه سيضيف إليه شيئاً للتكريم، وإنما يسترد منه المجد الذي سبق أن تخلى عنه حتى يستطيع أن يتجسد ويصير في هيئة عبد: «والآن مجدني انت أيها الآب عند ذاتك, بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم» (يو5:17), و «عند ذاتك» في هذه الآية تعنى أن مجد الابن هو مجد ذات الله. هذا الذى نصرخ به فى الذكصا الكبرى «المجد للآب والابن والروح القدس».
« ... الذي تقولون أنتم إنه إلهكم»: هنا يوضح المسيح الفرق الجوهري بين ابوة الله للمسيح، وبين علاقة الله باليهود. فابوة الله للمسيح قائمة على أساس بنوة المسيح لله، فالأبوة هي أبوة في ذات الله، والبنوة هي بنوة في ذات الله، أي أن الله أب وابن ذات واحدة غير مفترقة. ومن ذلك يتضح سر قول المسيح إن الله أبوه الشخصي «الذاتى». وفي نفس الوقت يدعي اليهود أن الله هو إلههم, ولكن هذه النسبة بين الله وبينهم مقطوعة، بسبب عدم معرفتهم الله معرفة شخصية، والتي من أوضح مظاهرها رفضهم للمسيح الذي يحمل أقوى استعلان لذات الله. فهو فوق أنه ابن ذات الله، فهو يعمل أعمال الله! «إن كنت لست أعمل أعمال أبي، فلا تؤمنوا بى؛ ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال, لكى تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ وأنا فيه» (يو37:10-38)
«الذي تقولون أنتم إنه إلهكم ولستم تعرفونه, وأما أنا فأعرفه»: هنا معرفة المسيح للآب التي يسلط عليها الضوء هي معرفة الجوهر للجوهر، معرفة الطبيعة للطبيعة، معرفة الذات للذات, معرفة المثيل للمثيل. هنا معرفة الابن للآب تساوي معرفة الآب للابن، أي معرفة تمام الانطباق!! فإذا دخلنا على هذه المعرفة اللاهوتية بالعقل أو الفكر أو التحليل, نتوه ونضل؛ ولكن قد اعطي لنا أن ندخلها من باب الحب والطاعة والارادة, أي بالصفات التي نشابه فيها الله. فنحن نحس بمعرفة المسيح لله من خلال حب الله الآب, المطلق, للمسيح الابن، ومن خلال طاعة الابن المطلقة للآب.
ثم نحن نقيس هذه المعرفة الإلهية أيضا بمقياس الإرادة والمشيئة، فنشعر من خلال بذل الله الآب لابنه بمقدار إرادة الآب الفائقة جداً على الوصف, التي تنازلت حتى إلى بذل الابن إلى أقصى حد من المذلة والهوان بالموت على الصليب. وهذه الإرادة الأبوية التي فرطت في مجد الابن وكرامته جاءت على نفس الإرادة التي أحب بها الله عالم الخطاة، بمعنى أن الله أحب العالم ففرط في ابنه وبذله ليخلصهم, أي أنا وأنت, وسعى لخلاصهم وحياتهم، وأعطاهم نصيبا خاصاً في مجده وكرامته الشخصية!!!
والآن نستطيع أن نفهم، ولو قليلا من معرفة المسيح, سواء للآب أو لنا التي يصفها بولس الرسول هكذا: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسونن في المحبة، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة, لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف17:3-19)
والمسيح يقول لليهود إنهم يقولون عن الله أنه إلههم, وهم لا يعرفونه، لأنهم لو عرفوه حقاً لما صلبوا ابن محبته. ثم يقول: «أما أنا فأعرفه»، ومن أعظم مظاهر هذه «المعرفة» وأقوى الأدلة على صدقها وعمقها اللانهائي, طاعة المسيح حتى الموت, موت الصليب. هنا جعل المسيح قياس المعرفة على المستوى العملي المطلق. فاليهود لم يعرفوا الآب، فصلبوا ابنه بجهالة وإصرار. والمسيح أظهر معرفته الخاصة بالله الآب، بأن حفظ كلمته, وأطاع مشيئة الآب طاعة مطلقة تحدى بها جهالة اليهود والعالم، ورضي بأن يصلبوه ليكمل بموته مصالحة العالم بالآب.
وهكذا يكون ادعاء اليهود أنهم يعرفون الله هو ادعاء كاذب، يفضحه ما عملوه بابنه على الصليب. والمسيح يقول إنه يستحيل عليه أن يجاريهم في هذه المعرفة التي هي منتهى عدم المعرفة... فلو كان قد تمشى معهم, في مستوى توقيرهم الحرفي للناموس وتكريمهم لموسى، والمن، وتعظيمهم لميراث وعد الآباه عن إبراهيم, لما صُلب، ولكان احتفظ بمجد نفه ومجد إسرائيل الكاذب، ولأصبح كاذباً مثلهم في ادعاء المعرفة والعمل ضدها في نفس الوقت. لأن معرفة الله هي التي تختص بخلاص العالم، والتي تبدأ من الصليب وتكمل بالقيامة من الأموات، وافتتاح الطريق إلى الحياة الأبدية!! «أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك (فأكمل صلب الابن). أما أنا فعرفتك (ببرهان صليبي)، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني (وكانوا شهود صليبي)، وعرفتهم اسمك, وسأعرفهم (بقيامتي)، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم.» (يو25:17-26)
يفتتح المسيح هذا الاعلان بكلمة «أبوكم» باعتبار أن المسيح «ابن الله»؛ وهكذا يرتفع المسيح بمستوى رؤيته لنفسه بالنسبة لإبراهيم. فإبراهيم أبوهم بحسب مستواهم الجسدى, أما إبراهيم نفسه فهو لا يزيد عن كونه شاهداً للمسيح من وراء الزمن؛ وهذه دائماً هي نظرة إنجيل يوحنا لكل الآباه والأنبياء والناموس والمزامير بالنسبة للمسيح.
«تهلل»: تأتي باليونانية ( ) وتعني الإبتهاج الروحي أو السرور المفرط. وقد تحير جميع علماء الكتاب المقدس قديما وحديثا بالنسبة لشرح هذه الكلمة، وانتحوا نواحي شتى خرجت بهم عن المعنى المقصود. وصعوبة هذه الكلمة لا تأتي في معناها بل في عملها، فالسرور المفرط في الاختبار التصوفي هو نفسه حالة رؤيا واختبار. وقد جاءت هذه الكلمة التي تفيد هذا الاختبار على لسان القديسة العذراء مريم في نبوتها وهي عند أليصابات، حينما تكلمت عن مستقبل المسيح، وهي حامل به لأيام قليلة في بطنها: «فقالت مريم: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي» (لو46:1-47), وهنا مريم تتكلم وهي في حالة ابتهاج، أي رؤيا واختبار يختص بوعد الله لإبراهيم!! فالعجيب حقأ أن يأتي الاصطلاح (الأبتهاج _ السرور المفرط) على فم المسيح. «أبوكم إبراهيم تهلل» كما جاء على لسان القديسة العذراء مريم وفي نفس الموضوع, إذ أكملت قولها: «عضد إسرائيل فتاه, ليذكر رحمة، كما كلم أباءنا, لإبراهيم ونسله إلى الأبد.» (لو54:1-55)
كذلك نأتي إل كلمة «بأن يرى» على نفس الصعوبة وأشد. وقد خرج كل الشارحين والمترجمين لانجيل يوحنا عن المعنى الصحيح لهذا التركيب اللغوي، لأنهم حرفوا هذا الاصطلاح لكي يناسب الكلمة السابقة «تهلل». إذ وجدوا أن الترجمة الصحيحة الحرفية لها «تهلل لكي» غير موافقة فجعلوها «تهلل بأن»، فطوحوا بالمعنى كله بعيداً عن المفهوم الصحيح لهذا الاختبار الروحي التصوفي. فالترجة الصحيحة الحرفية، والتي توافق المعنى تماما بحسب الاختبار الروحي هي: «تهلل لكي» وهذا يعني بحسب الاختبار الروحي لكلمة «تهلل», أن إبراهيم دخل في هذا الاختبار الروحي: «لكي يرى, فرأى وفرح».
والصعوبة الأكثر التي واجهت الدارسين لإنجيل يوحنا هي: متى وكيف رأى إبراهيم يوم الرب فرأى وفرح؟ فريق قال: إن ذلك حدث في ميلاد إسحق، وإن ضحك إبراهيم وسارة مو هذا «التهليل». وفريق آخر قال: عندما أقدم إبراهيم على ذبح إسحق فمنعه الملاك ثم أبصر خروفا قدمه عوض إسحق. وفريق آخر قال: وقت عتمة الليل أثناء تقديم قطح الذبيحة. وفريق قال: إن ذلك حدث على مرحلتين: مرحلة السؤال والطلبة أثناء حياة إبراهيم، ومرحلة الرؤيا والفرح تمت بعد الصلب أثناء نزول المسيح إلى الجحيم لفك أرواح المأسورين.
ولكن بالرجوع إلى الكتاب المقدس نجد أن العذراء القديسة مريم قد حددت وعد الله لإبراهيم هكذا: «فقالت مريم: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصى لأنه نظر إلى اتضاع آمته... عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمته، كما كلم أباءنا, لإبراهيم ونسله إلى الأبد» (لو46:1-55) وهنا الرد على السؤال هل رأى إبراهيم يوم الرب؟ حيث جاء الرد على لسان العذراء أن الذي في بطنها هو وعد الله لإبراهيم.
ولكي نتحقق كيف تمت الرؤيا أثناء كلام الله مع إبراهيم نقرأ الأتي:
أ _ في الرسالة إلى غلاطية: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله، لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحده وفي نسلك (مفرد)، الذي هو المسيح.» (غل16:3)
ب _ كذلك نقرأ في سفر الأعمال: «أنتم أبناء الأنبياء والعهد الذي عاهد به الله آباءنا قائلاً لإبراهيم: وبنسلك (مفرد) تتبارك جميع قبائل الأرض. إليكم أولاً إذ أقام الله فتاه يسوع, أرسله يبارككم برد كل واحد منكم عن شروره.» (أع25:3-26)
ج _ ثم نقرأ في سفر العبرانيين: «فإنه لما وعد الله إبراهيم إذ لم يكن له أعظم يقسم به، أقسم بنفسه قائلاً: إني لأباركنك بركة وأكثرك تكثيراً. وهكذا إذ تأنى نال الموعد» (عب13:6-15)
د- كذلك نقرأ في سفر العبرانيين: «بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب. قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل له: إنه بإسحق يدعى لك نسل (مفرد). إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً، الذين منهم أخذه أيضاً في مثال.» (عب17:11-19)
وهنا تأكيد الوحي الإلهي على أن فعل إرادة الذبح عند إبراهيم كان مشفوعاً بإيمان قدرة الله بالإقامة من الأموات، وهذا هو جوهر الرواية كلها.
ومن مجموع هذه الآيات أ، ب، ج، د، يتضح لنا أن الإشارة الأساسية التي تخص المسيح في حديث الله مع إبراهيم جاءت بعد أن قدم إبراهيم ابنه وحيده إسحق بنية ذبحه، طاعة لأمر الله، والتي جاءت في سفر التكوين الأصحاح الثاني والعشرون.
ففي الآية أ _ النسل الموعود به بالمفرد: هو المسيح.
وفي الأية ب _ النسل الذي به تتبارك جيع قبائل الأرض: هو يسوع.
وفي الآية ج ~ الله أقسم بذاته ليؤكد ضمان الوعد بالنسل. وقد تم بالفعل إذ نال عربون الموعد في إسحق.
وفي الآية د _ ثم إبراهيم يقدم ابنه إسحق الذي فيه تم عربون الموعد، يقدمه ذبيحة بإيمان أن الله قادر أن يقيمه من الموت. وبذلك تمت كل مفردات رؤية إبراهيم للمسيح، وهذا نقرأه بوضوح في سفر التكوين:
+ وقال (الله): إبراهيم إبراهيم فقال: هأنذا. فقال لا تمد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئاً، لأني الآن علمت أنك خائف الله. فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكاً في الغابة بقرنيه. فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه. فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوة يرأه (الرب يرى). حتى إنه يقال اليوم في جبل الرب يرى.» (تك11:22-14)
وهكذا عندما نفذ إبراهيم وصية الله في ابنه بإيمان أن الله قادر على الإقامة من الأموات (تماماً كما نفذ المسيح وصية الله في نفسه مقدما نفسه على الصليب بإيمان القيامة من الأموات) ... عند هذا تقف الرواية في سفر التكوين فجأة, ويتم الإعلان عن حدوث رؤية يصمت الوحي عن بحشف تفاصيلها إلى أن يعلنها المسيح بنفسه: «أبوكم إبراهيم تهلل لكي يرى يومي فرأى وفرح»
ومما سبق يتضح لنا تفاصيل معنى «يرى يومي», فقد رأى إبراهيم الموت (الصليب) والقيامة معاً. رأى صورة الذبيحة بفعلها الكفاري لمسرة الله، ورأى القيامة في بهجة فعلها الخلاصي. ورأى كيف سيتم أن تتبارك قبائل الأرض في نسله «أي بالمسيح». ثم نكرر القول أن رؤية الرب تتم فقط للذين حفظوا كلمته من خلال السرور المفرط، أي التهليل الخلاصي. لذلك يقول المسيح: «تهلل لكي يرى يومي، فرأى وفرح».
القديس يوحنا يصمم على تسجيل هذه المفارقة للحقيقة من جهة سنه، فالمسيح لم يكن يتعدى في عمره الثلاث والثلاثين سنة, ولكن يبدو أن هيئة المسيح كانت في عيون هؤلاء اليهود تفوق سنه. ثم يسجل عليهم المفارقة الثانية، التي هي نوع من تزييف الكلام وتحويل الأبدي إلى زمني «أفرأيت إبراهيم». المسيح لم يقل هذا، بل قال ما هو أعظم وأخطر من هذا. فقد قال إن إبراهيم هو الذي رأى يومي، كتعبير عن تكميل المواعيد في شخص المسيح! ولكنهم لما أرادوا أن يحرفوا الكلام ويهبطوا به إلى مستوى تواريخ الميلاد، واجههم المسيح باستعلان أقوى عن أزلية وجوده: «الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن».
بهذا يكون المسيح قد أقر بقولهم أن إبراهيم مات، ومات كل الأنبياء» ولكنه, أي المسيح, كان قبل كل هؤلاء حياً ومعطي الحياة. وأقر أن أباهم هو إبراهيم كما كانوا يفتخرون, ولكنه, أي المسيح, هو فخر إبراهيم ورجاؤه الذي تتم به بركة جميع قبائل الأرض. إبراهيم كان أرامياً تائهاً، آواه الرب في أرض غريبة، والمسيح هو ابن الله الذي نزل من السماء ليرد غربة إبراهيم ونسله إلى الوطن السماوي.
كان المسيح هذا وأكثر ألف مرة من هذا، وكان يدرك المفارقة التي لا تحد بينه وبين إبراهيم. لذلك لم يكن أمام المسيح إلا أسلوبه الإلهي العالى ليحطم به كبرياء اليهود المتعالين بالأنساب والألقاب: «الحق الحق أقول لكم...». أما المفارقة فلم يجعلها المسيح بين إبراهيم وبين شخصه، بل رفعها مرة واحدة وباستعلان متناه ليبلغ بها جوهر كيانه الإلهي فقال: «قبل أن يكون (يصير أو يُخلق) إبراهيم أنا هو» و «أنا هو» هو اسم يهوه نفسه = أنا الكائن الذي يكون.
ويلاحظ القارىء أن المسيح رفض أن يجعل المفارقة زمنية بأن يقول «قبل إبراهيم كنت أنا»، بل رفعها على مستوى المطلق الأزلي اللازمني: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»، لكي يجعل المفارقة صارخة بين المخلوق والخالق, الزمني والأبدي. والتي على مستواها قال المسيح مرة لتلاميذه: «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو19:14). فنحن من ملء حياته الأبدية نأخذ حياة بل نأخذ ملئا. فأية مقارنة يمكن أن توضع بين الحياة والموت؟ أو بين المحيي والميت؟
ولم يكن صعباً على هؤلاء اليهود أن يدركوا أنه يتكلم عن لاهوته, أو كما عبروا هم مرة، أنه يجعل نفسه مساوياً لله. إنه تجديف... فليحيا الناموس وليمت المسيح: «فرفعوا حجارة ليرجموه». كانت الحجارة جاهزة في جيوبهم ورفعوها بالفعل بأعلى أذرعهم، ولكن أذرعهم وقفت بلا قوة على الرجم؛ إذ لم يروه؛ سقطت الحجارة من أيديهم واختفى هو عن أعينهم مع أنه جاز في وسطهم .
ولكي يمعن القديس يوحنا في إحكام ربط الأقوال بالأعمال، ثم ربط الأقوال والأعمال بالنبوات، يسجل في الختام جملة ذات مغزى سري للغاية، إذ يقول: «أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى هكذا». هذا تعبير حزين وموجع، له إحساس نبوي صادق. فاختفاء المسيح عنهم، وهو في وسطهم، يرمز لعمى بصيرتهم (إش10:6)، وخروجه من الهيكل (مت38:23) يرمز إلى التخلي عن الأمة اليهودية بأجمعها، وإن كثروا الصلاة فلن يعود يسمع بعد!! أما أنه اجتاز في وسطهم ومضى, فهي صورة لختام رسالته: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله.» (يو11:1)
إبراهيم والنسل والأولاد بمفهوم كلام المسيح: ولكن لا يفوتنا هنا أن نبين أن كلام المسيح عن إبراهيم لا ينتقص من إبراهيم، ولكنه يحذف حق البنوة لإبراهيم بالقوة. فإبراهيم لم يأخذ مكانته أمام الله إلا بعد أن أكمل الوصية: «سر أمامي, وكن كاملاً, فأجعل عهدي بيني وبينك واكثرك كثيراً جداً» (تك1:17-2). فالعهد الذي أقامه الله مع إبراهيم تأسس على السلوك بالكمال. فإبراهيم لم يخل بالعهد، ولكن أولاد إبراهيم لم يسلكوا بالكمال، فنقضوا العهد من أساسه، فكيف سيصيرون بركة لكل الأمم، وهم صاروا لعنة لأنفسهم؟ حسبوا البركة ميراثأ يُنهب بالقوة، مع أنها رسالة ومسئولية! ولكي يصون الرب هذا الميراث الروحي ويفضح الناهبين ويوقظ الحالمين، ضرب الرب في إنجيل لوقا مثل إبراهيم ولعازر والبنين الشاردين, والمثل ينتهي بهذا المشهد الحزين: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغني أيضأ ودُفن. فرفع عينيه في الجحيم وهو في العذاب ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه. فنادى وقال يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم يا ابني اذكر انك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب. وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت حتى إن الذين يريدون العبور من هنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا. فقال أسألك إذأ يا أبت أن ترسله إلى بيت أبي. لأن لي خمسة إخوة. حتى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضاً إلى موضع العذاب هذا. قال له إبراهيم عندهم موسى والأنبياء. ليسمعوا منهم. فقال لا يا أبي إبراهيم. بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون. فقال له إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون.» (لو22:16-31)
ويوحنا المعمدان بنظرة نبوية ثاقبة، رأى من بعيد خطورة العثرة التي وقفت أمام شعبه لتكون حجر عثرة في الإيمان بالمسيح، فبصوته الصارخ نبه الطالبين التوبة أن الإتكال على نسب إبراهيم لن يشفع فيهم أمام الله: «فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته قال لهم: يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم. والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتلقى في النار. أنا أعمدكم بماء للتوبة. ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني, الذي لست أهلا أن أحل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن. وأما التبن فيحرق بنار لا تطفأ.» (مت7:3-12)
المسيح في إنجيل متى وضع التبني فوق البنوة الجسدية، بل وجعل الغرباء أهلا لصحبة إبراهيم في وليمة الأبدية، والابناه المنتفخون يُطردون: «وأقول كم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطردون إلى الظمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.» (مت11:8-12)
وإلى اليهود المتمسكين بأبوة إبراهيم فوق وصايا الله أعطى هذا المعيار الجديد بالذات في السلوك بالروح أمام الله: «لا تدعوا لكم أباً على الأرض (المقصود هنا إبراهيم أبو اليهود) لأن أباكم واحد الذي في السمرات.» (مت9:23)
وعلى أساس التحديد الإلهي لقيمة النسب لإبراهيم الذي وضعه المسيح بتعاليمه، انطلق بولس الرسول ليؤكد, بالروح أيضاً, أن وعد الله وعهده لم يكونا مع أولاد إبراهيم بل مع, واحد, نسل إبراهيم. وكلمة «نسل» بالعربية خاطئة ومضللة فهي في اليونانية ( ) أى «النطفة» أو البذرة الحية من صلبه (الصلب هو المركز الجنسي في أسفل الظهر)، وتأتي بالقبطية ( ) أي البذرة بكل وضوح. وشرح بولس الرسول أن هذا لا يفيد النسل, ككثرة, على وجه العموم أو الإطلاق، بل بذرة واحدة, تنتهي عندها ذرية إبراهيم موضحا أنها تعني المسيح, ففي المسيح وحده تتبارك الأمم: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله, لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين (من الأولاد) بل كأنه عن واحد: وفي نسلك الذي هو المسيح» (غل16:3)، وينتهي بولس الرسول في شرحه لهذا الموضوع الخطير بقول يطابق تعاليم المسيح: «إن كنتم للمسيح, فأنتم إذاً نسل إبراهيم, وحسب الموعد ورثة» (غل29:3).
والمسيح سبق وأوضح مفهوم الحرية والأحرار على المستوى الروحي، ليقابل المفهوم الخاطىء للحرية على المستوى السياسي الذي يدعيه اليهود، أنه, أي مفهوم الحرية, ضمن ميراث أولاد إبراهيم. إذ أدخل المسيح عنصر الخطيئة كأساس للعبودية. أما الحرية فهى الأساس للخلاص من الخطية.
وهذا يعني أن ميراث البنين لإبراهيم لا يكفي أن يجعل أولاد إبراهيم أحرارا، بل هم عبيد إن فعلوا الخطية، وأحرار ان خلصهم المسيح من الخطية.
وينوه المسيح من بعيد على ابني إبراهيم (اسماعيل ابن الجارية واسحق ابن الحرة) قائلا إن «العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد أما الابن فيبقى إلى الأبد» (يو35:8). وبولس الرسول يلتقط هذا المعنى ويزيده وضوحاً وتطبيقاً, مشيرا إلى أن هاجر الجارية هي الرمز لجبل سيناء (غل25:4) الذي وُلد فيه الناموس الوالد للعبودية. «لأن بدون الناموس الخطية ميتة. أما أنا فكنت بدون الناموس عائشأ قبلاً، ولكن لما جاءت الوصية، عاشت الخطية (بالوصية)، فمت أنا (بحكم الوصية)» (رو8:7-9). وبهذا الحكم يكون الناموس, هاجر, آيلاً للزوال، أي الطرد من البيت (الله)، لأنه ابن الجارية, لأنه والد العبودية.
أما سارة الحرة فهي باقية رمز«الموعد» نظير إسحق المستعلن في المسيح. والناموس الوالد للعبودية يقابله أورشليم الأرضية الواقعة تحت العبودية هي وبنيها.
وأما الموعد بسارة الحرة وبإسحق (المكمل بالمسيح)، فيقابله أورشليم العليا، وهي (الكنيسة) حرة التي هي أمنا جميعاً (ام المفديين من الخطية): «لكن ماذا يقول الكتاب اطرد الجارية وابنها لأنه لا يرث ابن الجارية (الناموس) مع ابن الحرة «المفديين)» (غل30:4)؛ «إذا أيها الإخوة لسنا أولاد جارية (عبودية الناموس)، بل أولاد الحرة (حرية المسيح بالفداء من الخطية)» (غل31:4)؛ «فاثبتوا إذا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبودية (الناموس).» (غل1:5)
وهكذا، بحذق روحي مدهش ومهارة فائقة بمنطق فريس متنصر، يرد بولس كل اليهود الرافضين للمسيح إلى هاجر كأولاد للجارية, كعبيد الخطية المحكوم عليهم من الناموس, وهم المتمسكون به, بالطرد من البيت والحرمان من الميراث.
أما الذين قبلوا المسيح وتحرروا من نير الخطية الذي بالناموس فردهم إلى سارة واسمحق كأولاد شرعيين لميراث إبراهيم في الله: «إن كنتم للمسيح, فأنتم إذا نسل إبراهيم, وحسب الموعد ورثة.» (غل29:3)
مكان البشارة في اورشليم في عيد التجديد
مقدمة للأصحاحين التاسع والعاشر
نحن الأن في الشتاء، وقد انقض ثلاثة أشهر على موسم عيد المظال الذي احتفل به اليهود من 15-22 من شهر تشري الموافق سبتمبر/ أكتوبر. وقد اختص الأصحاح السابع ومعظم الأصحاح الثامن بتعاليم المسيح ومحاوراته مع اليهود، والمناسبة لطقوس وقراءاللههذا الموسم. ولم يذكر الإنجيل أن المسيح غادر أورشليم، بل ظل يعلم فيها وفيما حواليها. حتى جاء موسم عيد التجديد 25 كثلو الموافق ديسمبر والذي يستمر لمدة سبعة أيام، وابتدأ المسيح يعطي تعاليمه المناسبة لاحتفالات هذا العيد.
عيد التجديد: يبدأ ذكر عيد التجديد في الأصحاح العاشر عدد 22. ويلاحظ أن القديس يوحنا بعد أن يسرد القصة وتعاليمها، يعلق عليها إما من الوجهة الروحية أو التاريخية أو المكانية، وهنا يأتي التعليق تاريخيا ومكانياً، أي أن التعاليم والحوادث التي حدثت على مدى الأصحاحين التاسع والعاشر وحتى العدد22 كانت في زمن عيد التجديد وفي الهيكل.
«وكان عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء, وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان.» (يو22:10-23)
وقد احتار علماء الكتاب المقدس في تفسير «وكان عيد الجديد»، والتي جاءت في مخطوطاللهأخرى منها الطيبية القبطية والأرمنية ( ) وقد أخذ العالم وستكوت بالنسخة الطيبية وترجمتها: «وفي ذلك الحين كان عيد التجديد»، مما يفيد أن هذا التوقيت يختص بكل ما سبق سرده، بعكس ما أخذه العلماء الآخرون على أنها «وكان قد صار» أي أن التوقيت يختص بماسميجيء من الكلام.
ونحن نأخذ برأي وستكوت، لأنه واضح فيه الصحة والدقة، فإن تعاليم المسيح التي قدمها القديس يوحنا في الأصحاحين التاسع والعاشر تختصى بالفعل بطقوس عيد التجديد ومعناه.
وعيد التجديد يأتي ذكره في سفر المكايين الثاني 9:1 وهو خاص بذكرى انتصاراللهالمكابيين لمدة ثلاث سوالله(167-164 ق م)، وفيه يذكر طرد يهوذا المكابي للسوريين الذين نجسوا مذبح المحرقة بإقامة صنم بعل «شاميم»، الذي اعتبر أنه «رجسة الخراب» التي تكلم مها دانيال النبي (27:9)، والتي ذكرها المسيح في إنجيل القديس متى 15:24 على أنها ستتكرر لتكون علامة خراب الهيكل وأورشليم، وقد تمت هذه بالفعل في أيام الرومان سنة 70م, وقد بنى يهوذا المكابي المذبح من جديد ودشن الهيكل كله في يوم 25 من شهر كسلو(1مك41:4-61) وصار يعيد كل سنة لتذكار تجديد المذبح والهيكل.
والاسم اليهودي لعيد التجديد هو «حنوكا» والتي تعني التدشين (أي المسح بالزيت - حنك بالتعبير العربي العامي)، وباليونانية ( ) أي التجديد.
وكان اليهود يسمون هذا العيد بعيد الأنوار، وعيد مظال (مظلة) شهر كسلو، معتبرين أن تجديد الهيكل هو إعادة عودتهم تحت مظلة = خيمة الله، أو عودة حلول الله في وسطهم ، كما في أول خيمة في البرية وفي تدشين هيكل سليمان حينما حل الله ببهائه وملأ الخيمة أو الهيكل . وهذا في الحقيقة كان رمز قرب مجيء الرب بالفعل وحلوله في وسط إسرائيل = «عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (مت23:1)، ولكن ليس لكي يبني ويدشن خيمة من جلد أو هيكلاً من حجر وتحف، ولكن ليدشن جسده هيكلاً سماويا يجمع فيه وإليه كل مفديي الله ومختاريه منذ أول الدهور وإلى آخر الزمان. وقد أقام هيكله هذا لا في أورشليم ولا في جرزيم، ولكن على جبل صهيون الحقيقي، في مدنية الله، أورشليم العليا المزينة بقديسيها من أرواح مكملة بالمجد، وربوات هم محفل ملائكة (عب22:12-23) وكنيسة حية على الأرض تصل أخبار كرازتها إلى السماء أولاً بأول: «لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة... » (أف10:3)
أما العلاقة بين تعاليم الرب التي جاءت في هذين الأصحاحين وبين طقوس هذا العيد ومعناه, فكانت تتركز في الربط بين آمال اليهود الملتهبة التي تثيرها ذكرى انتصار المكابيين وتخليص الأمة اليهودية من أعدائها, وبين موضوع الخلاص الذي ينادي به المسيح كقائد النور والخلاص الأبدي الذي خلص خرافة ودشن هيكله بدمه, وحيث كان يملأ الهيكل أصداء ترانيم العيد التي تذكر جميع مواقف نجاة وخلاص الشعب في السابق، ودعاء وصلاة من أجل خلاص في الحاضر.
وبيما كانت تُضاء جميع الأنوار في الهيكل، لأن هذا العيد كان يسمى عيد الأنوار، وقف المسيح كالعادة يقول: «ما دمت في العالم فأنا نور العالم» (يو5:9). وحينما كان يُفتح باب الخراف في الهيكل لتدخل خراف العيد للذبائح اليومية، وقف المسيح يقول: «أنا هو باب الخراف» للهيكل الجديد، «كما هو مكتوب إننا من أجلك نمات كل النهار، قد حُسبنا مثل غنم للذبح.« (رو36:8)