نلاحظ في تحليل الآيات السابقة أن الرب يقدم نفسه في الآيات (1-10) باعتباره الباب، حيث الباب إما أن يكون هو التعليم الصحيح عن الآب الذي يدخل منه الرعاة المستأمنون على الخراف من قبل راعي الرعاة الأعظم، وإما أن يكون هو الإيمان الذي تدخل به ومنه الخراف وتخرج. وبذلك يكون المثل قد انتهى عند العدد 6: «هذا المثل قاله لهم يسوع, وأما هم فلم يفهموا ما هو الذي كان يكلمهم به». ثم أكمل المسيح شرح المثل لهم من عدد 7-10.
ثم ابتداء من عدد 11 يكمل المسيح شرح وتوضيح استعلانه لنفسه, من داخل المثل حيث لا يزال المثل مستمراً, فبالإضافة إلى: «أنا هو الباب» يقول: «أنا هو الراعي الصالح»، حيث يوضح الرب معنى الراعي الصالح ومؤهلاته:
1- الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف (11-13).
2- الراعي الصالح يعرف خرافة الخاصة وخرافه تعرفه (14).
3- الراعي الصالح يضع نفسه عن الخراف (15).
4- الراعي الصالح لا يلتزم بحظيرة معينة، بل يجمع خرافاً أخرى لتكون له رعية واحدة وليست لحظيرة واحدة (16).
1- بذل نفس بنفس لإعطاء حياة: يبدأ الرب استعلانه عن نفسه بأنه الراعي الصالح بقوله: «أنا هو». وهنا تقع ( ) في موضع التعريف أو الا ستعلان, وكأن الرد على سؤال: «ومن أنت بالنسبة للآخرين». فهنا الرب يعرف نفسه على أساس النسبة التي بين الراعي الصالح والأجير, حيث يقصد بالأجير كل طبقة الكهنوت والكتبة والفريسيين.
وكما هو معلوم أن ( ) هو التعريف الخاص جدأ باسم الله. وكأن المسيح يقول لهم: «أنا, الحامل لاسم الله, هو الراعي». ويلزمنا هنا أن نوضح أنه قد سئل الرب فعلاً عن من هو بالنسبة لكل من جاءوا ويجيئون باسم المسيا. ولكن تأجل السؤال في هذا الأصحاح حتى عدد 14: «فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلق أنفسنا، إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً».
فقول المسيح «أنا هو» فيه, بحد ذاته, كشف لا يُستهان به عن من هو بالنسبة لله نفسه. ولكن بسبب ضعف الأذن وعمى البصيرة، اضطر الرب أن يُعرف نفسه بالنسبة للآخرين أيضاً الذين أخذوا وظيفته خلسة, أو بالإيجار(أي بالأجرة)، والمتكلمون معه هم عينة من هؤلاء الأجراء الذين يعتبرون أنفسهم رعاة الشعب: فـ «أنا هو الراعي الصالح» تجيء في مقابل: أنتم رعاة مستأجرون.
وكلمة «الصالح» لا تفيد معنى الصلاح، وهي تجيء في اليونانية ( ). فهي لا تفيد صلاح الله كطبيعة. وبحسب أسلوب إنجيل القديس يوحنا كان يلزم أن تجىء «الحقيقى» لتتمشى مع الاستعلانات السابقة كـ «النور» و«الخبز» واللاحقة كـ «الكرمة». ولكن وظيفة الراعي هي وظيفة مؤقتة مستمدة من التشبيه بالبشر، وتجيء داخل مثل، فهي ليس لها وجود دائم في المطلق الإلهي كالخبز الحقيقي والنور الحقيقي، ولكنها صفة لله منسوبة للبشر، وهي تنتهي (أى الرعاية) بانتهاء الدينونة، لذلك فـ «الحقيقي» لا تتمشى مع الراعي.
كذلك كان من المنتظر أيضا أن تجيء الصفة بالكلمة المعروفة بـ «الصالح»» فيما يخص الله، وهي ( ). ولكن صلاح الله هو طبيعته المطلقة فيه. أما الرعاية فلأنها صفة منسوبة للبشر، بسبب جهلهم وعوزهم، فهي وظيفة تطلبتها الحاجة، لذلك جاءت كلمة ( ) التي تفيد «الحسن» وهي صفة عمل وليست صفة شخص، كما هي في الآية: «فليضىء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة» (مت16:5). لذلك، فبسبب قصور كلمة «حسن» (صالح) عن أن تفيد صلاح المسيح الشخمي (الداخلي)، وضع لها الرب تكملة لتغطي معنى صلاح العمل، قال : «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف».
وهنا يلزم أن نعود إلى مستوى «صلاح الرعاة» في تاريخ إسرائيل، لنرى موقع المسيح منهم. فالله سبق أن أقام موسى راعياً: «أصعدهم من البحر مع راعي غنمه» (إش11:63)، «هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهارون» (مز20:77). كما أقام داود أيضاً: «اختار داود عبده، وأخذه من حظائر الغنم، من المرضعات أتى به ليرعى يعقوب, شعبه, واسرائيل, ميراثه.» (مز70:78-71)
ولكن هؤلاء الرعاة جميعاً لم يزيدوا عن أنهم كانوا بدورهم خرافاً، كان الله يرعاهم، ويهدي لهم رعيتهم. فداود يعترف بذلك: «الرب راعى فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، إلى مياه الراحة يوردني، يرد نفسي، يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه» (مز1:23-3). ولا يمكن أن ننسى أن داود، كراع، رعى رعية الله حسناً، ولكنه افترس نعجة من قطيعه.
وموسى، الذي ضُربت به الأمثال في القيادة والأمانة، نجده يقف مرة واحدة عن القيادة والمسئولية ويطلب, مستصرخاً, أن يعفيه الرب: «فقال موسى للرب: لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي. ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب؟ أو لعلي ولدته حتى تقول لي احمله في حضنك، كما يحمل المربي الرضيع إلى الأرض التي حلفت لآبائه... لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جيع هذا الشعب، لأنه ثقيل علي. فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً إن وجدت نعمة في عينيك, فلا أرى بليتي» (عد11:11-15). وبسبب هذه العثرة التي عثرها موسى عين الله, مضطراً, سبعين شيخاً يشاركون في القيادة والمسئولية، الأمر الذي لم يكن في أصل تدبير الله، وهذا هو منشأ السنهدريم الذي اجتمع ضد المسيح وقتله! ...
فبالنسبة لهؤلاء الرعاة, قادة وحكاماً, وهم أفضل الرعاة في تاريخ البثرية، يقول المسيح ويعلن نفسه: «أنا هو الراعي الصالح». و يكمل معنى الرعاية والصلاح بقوله: «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف».
ويلاحظ أن المسيح لم يقدم نفسه للموت عرضاً، بل نزل من السماء خصيصا من أجل ذلك، بل إنه تجسد ووُلد ليموت: «أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة» (يو27:12)، ليس عن خراف حظيرة إسرائيل وحسب، بل وعن الخراف الأخرى من جميع أنحاء العالم وفي كل الأجيال.
على أن كل راع, سواء كان قائدا أو حاكما أو كاهنا أو أيا من كان, إذا مات دفاعا عن خرافة فهو لن يمنحها من حياته شيئا، بل وعلى أقص تقدير يحفظها حية، أما الراعي الصالح فهو يبذل نفسه ليعطي حياته لكل من يؤمن به, فهو بذل نفساً بنفس، أو بكل النفوس على وجه الأصح. وهذا هو الخلاص في أعلى مفهوم له وقمة معناه. فالخلاص ليس خلاصاً من ذئب أو موت وحسب، بل للفداء واعطاء حياة: «أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة, وليكون لهم أفضل».
فبذل يسوع «لحياته» ليعطيها لأخصائه، يرفع من مفهوم «الراعي» بكل أبعاده البشرية، حتى يكاد يلغي معنى الراعي بالمفهوم البشري ويجعله الإله الفادي. لأنه هكذا انتهت وظيفة المسيح المنظور, كراع, على الأرض بالموت، ليظهر بحقيقة الإله. وزكريا النبي يرى هذه الصورة ويصفها بدقة عجيبة: «استيقظ يا سيف على راعي, وعلى رجل رفقتي، يقول رب الجنود. اضرب الراعي فتتشتت الغنم ...» (زك7:13). ويعود المسيح ويٌحيي هذه النبوة ويطبقها على نفسه: «حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون فّي في هذه الليلة لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية. ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل» (مت31:26-32) وهكذا ينتهي موت الراعي إلى قيامته واستعلان لاهوته.
والملاحظ أن كلمة «تتشتت» أو «تتبدد» الرعية أو الغم، التي هي مقصد الشيطان الأول في موت المسيح، أي الراعي، والتي تأتي باليونانية ( ) في نبوة زكريا كما استشهد بها المسيح في إنجيل متى، هي نفس الكلمة التي يستخدمها إنجيل يوحنا في نبوة رئيس الكهنة التي تتضمن أن موت الراعي سينشىء بالتالى تجمع المتفرقين أو المتبددين مرة أخرى: «تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد» (يو51:11-52) حيث جاءت كلمة «المتفرقين» على نفس أصل الكلمة ( ).
بهذا ينتهي خط هذه النبوة العجيبة بأن «موت الراعي» الذي يقصد منه تبدد الرعية، أنشأ بذاتو تجمع المتبددين من الرعية إلى واحد!! بهذا الإحساس النبوي الفريد، كان يسوع يتكلم حينها قال: «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف»، لأنه عالم أن بموته، تتجمع الخراف إليه لتصير رعية واحدة لراع واحد. لهذا قلنا ونقول إن وظيفة الراعي التي أخذها المسيح لنفسه، إنما استعارها استعارة ليقارن بها نفسه بالآخرين الذين أرادوا أن يتشبهوا به، ليظهر مدى الفارق المستحيل تصويره. فرعاية المسيح لخرافه فى المثل الذى قاله, لمجرد المثل, ان هى إلا عملية موت وخلاص بالدرجة الاولى وبالأساس, فهي ليست مثلاً! فإن كانت هذه هي الرعاية الصالحة فمرحبأ بالراعي الصالح، بل برئيس الرعاة الأعظم, الإله الذي تجسد واتحذ صورة الراعي، بل والحمل المذبوح ليُذبح عوض خرافة، إن صح الكلام والتعبي:
«وأما الذي هو أجير وليس راعيا, الذي ليست الخراف له, فيرى الذئب مقبلاً, ويترك الخراف ويهرب, فيخطف الذئب الخراف ويبددها. والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالى بالخراف »: المقارنة هنا تتركز في العلاقة بين الخراف والراعي، والراعي والخراف، علاقة مشتركة تكشف الصاحب من الأجير, فصاحب الخراف يرعى خرافة, لأنه يمتلكها ويحبها, ويطلب صلاحها، فهو صالح لأنه يطلب لها الصلاح. أما الأجير فهو قد توظف, ليرعى الخراف من أجل نفسه. فأولا هو يطلب الأجرة ثمنا للرعاية. وثانيا وبصورة شاملة، هو يطلب تأمين حياته. فهو يرعى الخراف لكي يرتزق، ويرتزق لكي يؤمن معيشته هو. فالمنطق على هذا الوضع يجعله غير مستعد أن يموت من أجل الخراف. والذي يفضح هذا الموقف هو حدوث خطر مفاجى، الذي يمثله ظهور الذئب. والذئب هنا لا يرصده المسيح أنه الشيطان، بل أي ضيقة أو اضطهاد يفرضه العالم. فهو في الحال يهرب، لأنه يباىل أولأ واخراً بحياته، ولا يبالى بالخراف. وهكذا يجد الذئب الفرصة ليفتك بالخراف ويبددها. وهنا تصوير أليم لتفكك الجماعة، وفقدان الأفراد، عند انهزام الراعي، واكتشاف عدم كفاءته.
والرب هنا لا يهدف إلى فضح فئة معينة، لأنه يثسرح حقيقة لا يمكن تعديلها أو تصحيحها، فالأجير لا يمكن تحويله إلى صاحب، ولكن الرب هنا يستعلن نفسه أنه الراعي الوحيد والفريد في نوعه, لأنه الابن إلوحيد, ولن يكون له مثيل، لأنه «صاحب الخراف»، بمعنى الامتلاك الكلي. وبالتطبيق لا يوجد إنسان, ولن يوجد قط، من يمكن أن يمتلك أرواح ونفوس البشر، إلا خالقها ومخلصها الرب يسوع. فالرب هنا يضع هذه المقارنة بين الصاحب والأجير، لكي يستعلن نوعية رعايته للنفوس التي تفوق قامات الملوك والآباء والأنبياء والكهنة والخدام، في كل زمان ومكان. لذلك جاءت النبوة واضحة : «وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها, عبدي داود, هو يرعاها وهو يكون لها راعياً.ء» (حز23:34)
والراعي الواحد هو الذي يكلف آخرين للرعاية من تحته، وهؤلاء لا يكنون بعد غرباء ولا أجراء، بل مستأمنين ومختارين حسب قلب الله: «واقيم عليها رعاة يرعونها، فلا تخاف بعد ولا ترتعد ولا تُفقد، يقول الرب» (إر4:23)، لأنها تحت رعاية الراعي الأعظم بالدرجة الأولى: «وأعطيكم رعاة حسب قلبى, فيرعونكم بالمعرفة والفهم»(إر15:3). هؤلاء الرعاة لسيوا أجراء بعد، لأنهم يرعون بالمعرفة والفهم وليس للمال والمنفعة، ولا هم غرباء أيضاً ولا نزلاء، بل هم رعية مع القديسين وأهل بيت الله، فهم أبناء للراعي الصالح وليسوا عبيداً, لا يعملون لحسابهم بل حباً في الذي فداهم، وهم أيضاً شركاء للراعي، وشهود، سواء في موته أو في مجده، مستعدين أن يفدوا الرعية بأرواحهم، لأن مستوى حبهم هو حب قلب الله. هذا واضح في قول الرب لبطرس: « يا سمعان بن يونا أتحبني ... ارع غنمي» (16:21). وهذه هي إستجابة بطرس ومنهج رعايته: «أطلب إن الشيوخ الذين بينكم, أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح, وشريك المجد العتيد أن يُعلن, ارعوا رعية الله, التي بينكم، نظارا لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة, بل صائرين أمثلة للرعية. ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى.» (ابط1:5-4)
ولينتبه كل قارىء وكل راع، فالرعية هي رعية الله من الألف للياء، أما الراعي هنا فيتحتم أن يكون مثلاً أعلى للرعية بشبه المسيح، وإلا فليمتنع. والربح القبيح ممنوع, والتجبر والسيادة علامة فساد، والاجرة ليست مالاً، بل إكليلاً لا يفنى، من فوق، وليس هنا بالذهب الفاني، وحساب الوكالة سينشر علنا عند ظهور رئيس الرعاة.
«والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالى بالخراف»: هو لا يبال كما تأتي باليونانية, بمعنى «لا يعتني», لأن االخراف ليست له. ولكن شكرا لله رئيس الرعاة الأعظم، لأنه، وإن كان الرعاة الاجراء لا يعتنون بالرعية، فالله يعتني وسيظل يعتني بكل من يصرخ إليه، كما يقول بطرس الرسول الذي تعين راعياً من فم الرب: «ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم.» (1بط7:5)
لأول وهلة قد يظن القارىء أن الرب يضح مقارنة متساوية بين معرفته لخاصته ومعرفة خامصته له، بالمقارنة مع معرفة الآب له ومعرفته للآب. ولكن بحسب الفكر السائد في إنجيل يوحنا نعرف أن الرب دائمأ يجعل العلاقة بين الآب وبينه مصدرا يستمد منه كل عمله وفكره في العالم، وعلى وجه الخصوص بالنسبة لعلاقته بخاصته: «أنا حي بالآب، فمن يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6)؛ كذلك: «في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في وأنا فيكم» (يو20:14)؛ كذلك: «إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي، كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته» (يو10:15)؛ كذلك: «ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الآب في، وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا.» (يو21:17)
معنى هذا أن المسيح كابن الله نزل من السماء ومعه ذخيرة من العلاقة الفعالة التي تجمعه وتربطه بأبيه, يريد أن يجعلها هي نفسها فعالة في علاقته بالذين أحبوه وامنوا به، حتى نصير نحن أيضأ مربوطين ومجموين فيه وفي الآب بآن واحد. فالقياس في العلاقات بينه وبين الآب ينطبق على علاقته بنا، مح حفظ الفارق الوحيد وهو أن العلاقة بين الآب والآبن، وبين الآبن والآب هي علاقة صفات جوهرية وشخصية (أقنومية) مطلقة، بمعنى أنها بلا حدود ولا فواصل ولا فوارق على وجه الإطلاق؛ أما العلاقة معنا فهي مطلقة من طرف واحد فقط، أي من جهة المسيح والآب, فهو يحبنا خباً بلا حدود ولا قيود، ولكن نحن نحبه حباً له حدود وقيود. وكذلك في المعرفة، فهو يعرفنا بمعرفة مطلقة، أي أنه لا يُخفى عليه شيء قط من أمورنا, أما نحن فنعرفه معرفة محدودة بحدود قدرتنا الهزيلة، ومقيدة بسبب ضعف إدراكنا للحق الإلهي. لذلك يقول: «أعرف خاصتي وخاصتي تعرفني»، فذلك يتضمن الحقيقة السابقة أن معرفته لنا مطلقة ومعرفتنا له مقيدة. ولكن شكرا لله، فهذه المعرفة على وجه العموم قابلة للنمو والتكامل كل حين وإلى أبد الآبدين: «انموا في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح.» (2بط18:3)
كما أن هذه المعرفة تشمل في طياتها الحب والمشاعر الرقيقة للغاية، من جهته هي غنية بالعطاء، ومن جهتنا هي مفتوحة للأخذ كيفما شئنا وكيفما شاء الله, ألا يكفي أنه أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له؟؟
وهل توجد معرفة أغنى وأعمق من معرفة تعطي كل الذي لها حتى أعماق الله، وتمتص كل ما لنا من جهالات؟؟؟
وان الصورة المبدعة التي يصورها الروح للمسيح كراع يحمل على منكبيه (لو5:15) حملا صغيرا أجهده السير في الطريق الوعر، يحتضنه في احتمال وصبر واشفاق يفوق الوصف، لهي صورة عاطفية نبيلة تصور مقدار معرفة المسيح لكل شئون ضعفنا. ثم ألست أنت وأنا هو هذا الحمل الضعيف الذي لم يعد يقدر على السير فوق الصخور؟
ولأن المسيح يمدنا بالمعونة المستمدة من معرفته لله ومعرنة الله له على أساس الحب المطلق بينهما، استطاع بولس الرسول أن يقول بجراءة وتأكيد: «وأما الآن إذ عرفتم الله، بل بالحري عُرفتم من الله ...» (غل9:4)
أما كون هذه المعرفة قائمة على أساس المحبة، فهذا يؤكده بولس الرسول أيضاً: «ولكن إن كان أحد يحب الله فهذا معروف عنده» (1كو3:8). ويزيد هذا التأكيد القديس يوحنا من قول المسيح نفسه: «وعرفتهم اسمك وسأعرفهم (أيضاً)، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.» (يو26:17)
والآن، يا قارئي العزيز، إن كانت تنقصك معرفة المسيح بعد، فهذا لأنك لم تحبه كما ينبغي, ولم تسعد بحبه كما يرتضي. فلا كتاب ولا مدرسة ولا وعظ ولا أي شيء من أمور العلم والمعرفة، يمكن أن يزيدك معرفة بالمسيح ويزيد معرفة المسيح لك، بقدر أن تحبه وأن تكون محبوباً عنده.
3- الراعي الصالح يضع نفسه عن الخراف.
«وأنا أضع نفسي عن الخراف»: هنا وضع النفس للموت, هو غاية ونهاية للتجسد. وهذا أيضاً بالنسبة للمحب الحقيقي ممكن جداً, ولائق للغاية بالنسبة لحب المسيح الإلهي.
عاملان أساسيان كانا يعملان في «وضع» المسيح لنفسه، أي في موته من أجل خاصته الذين في العالم كله: الأول الحب, والثاني الطاعة. فالحب كان يملأ كل كيان المسيح «الإلهي البشري». كما أن الحب من نحو الآب أنتج طاعة مذعنة لمشيئة الآب من أجل خلاص العالم، جعل الموت الفدائي موضع سرور: «من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب.» (عب2:12)
أما الحب من نحونا فكان مملوءاً مشاعر عميقة وقوية, لا يمكن لأي عقل بشري أو قلم كاتب أذ يصفها، عبر عنها بولس الرسول هكذا: «ليحل المسيح بالإيماذ في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسون فى المحبة, حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمئق والعلو، وتعرفوا محبة الله الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف17:3-19)
أنظر أيها القارق وتمعن الكلام جيداً: إن المسيح إذ حل في القلب بالحب, انطلقت المعرفة بلا قيود, لتدرك محبة المسيح لنا إدراكاً يفوق كل قوى العقل الطبيعي، إلى أن يبلغ الإنسان إلى ملء الله أو الامتلاء بالله. فالمحبة والمعرفة هما مفتاحا سر الملء من الإلهيات، والمحبة هي الأساس. ويكفي أن نلمح للقارىء أن حالة الحب الإلهي الناضج، أي المسنود بالمعرفة، يُسمى عند المتصوفين بـ «الشهادة», أي أنها حالة رؤيا واستشهاد، فالشهادة مشاهدة تنتج بذلاً, أي موتاً إرادياً عذباً. أما عند المسيح، فالحب يساوي الفداء تماماً. فالفداء الذي صنعه، استوفى الحب الذي كان يملأ قلبه. وعلى القارىء أن يستجلي السر المدفون في هذه الآية: « أما يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب, إذ كان قد أحب خاصته الذبن في العالم, أحبهم إلى المنتهى...» (يو1:13)
هذا التصور الفريد من نوعه، أي تصور الحب الذي يؤدي إلى الموت طواعية، سبق أن رآه زكريا النبي بكل دقائقه، إذ رأى من وراء الزمن هذه المعركة الأخيرة والمريرة بين المسيح الراعي الصالح وهو يحاجج رعاة إسرائيل الغشاشين، كهنة وكتبة وفريسيين، إلى أن أعيت نفسه فيه، حتى تقيأهم، وأبادهم من خطة الخلاص التي أزمع أن يكملها لحساب الخراف المذلولة والمعوقة. ونظر من بعيد، فرأى رؤساء الكهنة وهم يزنون الثلاثين من الفضة ويسلمونها ليهوذا، كمندوب فوق العادة عن قتل المعلم: «فرعيت غنم الذبح، لكنهم أذل الغنم... وأبدت الرعاة الثلاثة في شهر واحد، وضاقت نفسي بهم وكرهتني أيضاً نفسهم... فقلت لهم إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا. فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة. فقال لى الرب: ألقها إلى الفخاري, الثمن الكريم الذي ثمنوني به» (زك7:11-13). وقد تم: « حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يُدعى يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة. ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه... حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلاً قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً. فقالوا ماذا علينا، أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم . فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري.» (مت14:16-16؛ مت3:27-7)
وهكذا مات الراعي الصالح على يد الرعاة الخونة واللصوص؛ ولكن كان موته لحياة الخراف .
يلاحظ القارىء الصلة الجوهرية بين «أنا أضع نفسي عن الخراف» وبين «لي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة يبغي (مستقبلاً) أن آتي بتلك أيضاً». فموت المسيح هو الذي سيوسع من دائرة الرعية: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع» (يو32:12). فالمسيح لا تقصر رعايته الصالحة على حظيرة إسرائيل، سواء في فلسطين أو خارجها. وهذا هو نص نبوة رئيس الكهنة، التي قالها دون أن يدري مضمونها: «ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة، تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت من الأمة؛ وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.» (يو51:11-52)
ولقد مهد القديس يوحنا لهذه الحقيقة في مطلع إنجيله: «كان النور الحقيقي، الذي ينير كل إنسان، آتياً إلى العالم» (يو9:1). وقد ألمح المسيح إلى ذلك في قصة قائد المائة في إنجيل متى: «وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية.» (مت11:8-12)
ويلاحظ أنه بالسنبة للخراف الأُخر، لا يذكر الرب كلمة «حظيرة» أو «حظائر»، فهي خراف متفرقة في جميع أنحاء ممالك الأرض, لا توحدهم عبادة سابقة, ولا يجمعهم ناموس ولا أرض.
«ينبغي أن أتي بتلك أيضًاً»: هنا يبدأ العمل بالنسبة للخراف الأُخر بأن «يأتي» بها وليس «يجمعها»، فالرب يأتي بها إلى الآب أولاً بعمل دمه المسفوك عنها، وحينما يجمعها ويوحدها بالروح مع الآب, يجمعها ويوحدها معاً. فالوحدة المسيحية أو الوحدة الإيمانية أو الكنسية، يستحيل أن تتم في دائرة المجهود الإنساني، بل يتحتم وبالضرورة أن يتحد كل واحد وكل جماعة أو كنيسة بالله أولاً, بعمل الروح, وبعد ذلك يمكن وينبغي أن يتحد الكل معا, حتى تصبح رعية واحدة لراع واحد. والراعي الواحد يبقى دائماً والى الأبد هو الرب يسوع دون سواه, لأنه هو المصالح وليس آخر, وهو الوحيد الذي يجمع لأنه يجمع في شخصه, وليس في المبادىء أو القوانين، ثم هو الوحيد الذي يوحد بعمل روحه القدوس الذي يرفع الفوارق من كل نوع, سواء كانت فوارق لون أو جنس أو فكر أو ثقافة أو تقليد. ويكون معيار الواحد هو معيار الكل: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فّي» (غل20:2)
«فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد»: المسيح هنا لا يزال يتعلق بالمثل، أي الخراف وصوت الراعي. فهي لا تتبع إلا إذا ميزت صوت الراعي وتعرفت عليه. أما بالنسبة للرب وأخصائه، فسماع صوته خبرة روحية ذات قيمة ومدلولات غنية يصعب على الفكر والقلم أن يجمعها في سطور.
فالإنسان خُلق وله حاسة تمييز صوت الله، وهذا نسميه «السماع», فالله كان يتكلم مع آدم وحواء، وكانا يسمعان صوت الله. وقبل الخطية كان السمع يلازمه الطاعة، ولما أخطأ لم يفقدا تمييز صوت الله: «فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت. فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان, فاختبأت» (تك9:3-10). وهكذا تحول السمح من «سمع وطاعة» إلى «سمع وخوف», وهكذا ظل الإنسان الخاطىء يلازمه الخوف عند سماع صوت الله, إلى أن تعلم كيف يتوب ويعود إلى الله. فصار صوت الله للتائب للبهجة والخلاص عوض الخشية والخوف وتعتبر خبرة التائب إلى الله من جهة سماع صوت الله وتمييزه، الركيزة الاولى والعظمى في كل خبرات الإنسان على مدى حياته كلها, والتي على أساسها يبدأ يتعلم الفهم والحكمة, ويتدرب على قبول صوت المشورة الإلهية، وينمو في تمييز صوت الله من درجة إلى درجة. فدرجة سماع صوت الله تتغير في شدتها ورقتها ولطفها وحنانها وحبها وقربها من مستوى العبد الخاضع، إلى الابن، إلى الخادم الأمين، إلى النبي، إلى الملك، إلى الكاهن, إلى العروس، وكل درجة لها مسئوليتها. وهي تتعدد بتعدد الأشخاص، ولكن قد يحوزها إنسان واحد على مدى خبرات حياته.
ولكن أعجب درجات صوت الله، عموماً هي درجة صوت المسيح التي تخترق كل الحواجز والمستخيلات. فالميت يسمعها ويستجيب لها ويقوم، سواء من موت الجسد كأليعازر، أو موت الخطية مثلي ومثلك، أو في اليوم الأخير حيث يكون موت المسيح هو للقيامة العتيدة التي يتحرك لها كل مخلوق، الأموات والأحياء جميعاً بلا استثناء لقيامة الدينونة. ويعوزني الوقت والأذن التي تسمع لنتكلم عن صوت المسيح مع النفس التي دخلت معه بالتوبة في عهد حب أبدي, كيف يملأها فرحاً ونعيماً وسروراً, يفيض عليها من دسم السماء ويشرق عليها بالمراحم كل صباح، يزينها بكل زينة الروح ويقودها في مراع خضر، كما في المزمور (مز70).
لقد جمع المسيح له رعية من كل لسان وشعب وأمة, لأنه ذُبح واشتراها جميعاً, ألوف ألوف وربوات ربوات مغتسلين بالدم، يقدمون له الخدمة ويستقون من نبع الحكمة. صوتهم بالفرح لا ينقطع عن التسبيح، يدوم على وجه كل الأرض بدوام مجرى الشمس! ... وهكذا صارت بالحق رعية واحدة لراع واحد، تسمع صوته, وتُسمعه صوتها، شهادة أبدية لصالح راعيها... أما إسرائيل فثقلت أذنه عن السمع، وتم فيهم القول: « إنه حسناً كلم الروح القدس أباءنا بإشعياء النبي قائلاً: اذهب إلى هذا الشعب وقل ستسمعون سمعاً ولا تفهمون, وستنظرون نظراً ولا تبصرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ, وبآذانهم سمعوا ثقيلاً, وأعينهم أغمضوها, لئلا يبصروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم، و يرجعوا فأشفيهم. فليكن معلوما عندكم ان خلاص الله لا أُرسل إلى الأمم وهم سيسمعون» (أع25:28-28)
«رعية واحدة وراع واحد»: قول الرب هنا مطابق حرفياً لنبوة حزقيال النبي: «وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها، عبدي داود هو يرعاها, وهو يكون لها راعياً» (حز23:34). وهكذا، فإن ما كان منذ الأزل وما صوره حزقيال بالرؤيا من وراء الزمن، تحقق في عمق التاريخ في شخص يسوع المسيح، الراعي الواحد.
ويلاحظ أن الرب لم يذكر أنها تصير حظيرة واحدة، وكأنها أمة أو شعب محدد بحدود وقيود، وهذا يحتسب في المفهوم الكنسي غاية في الأهمية. فلا عودة إلى حظيرة إسرائيل، ولا شركة في نظام تلك الحظيرة كأنه, إنضمام أو تهود، ولكن هو اكتساب للأصل فقط، وليس الفروع, بمعنى اكتساب لكل مواعيد الله للآباء والأنبياء التي تحققت في شخص المسيح. فمن خلال المسيح وحده نستقي من نبع العهد القديم، فهو الأصل الذي تصور عليه العهد القديم كله بكل أمجاده: « أنا يسوع أرسلت ملاكي لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس, أنا أصل وذرية داود, كوكب الصبح المنير.» (رؤ16:22)
وعلى هذا الأصل بُنيت الكنائس, ولم يقل هنا «كنيسة» بل «كنائس»، كنائس شعوب وكنائس دهور وأحقاب, ولا سيادة لكنيسة على كنيسة!! عن هذا الأصل الواحد الغني بالله والدسم بالنعمة يقول بولس الرسول: «وان كانت الباكورة مقدسة فكذلك العجين. وان كان الأصل مقدساً (المسيح) فكذلك الأغصان. فإن كان قد قُطع بعض الأغصان وأنت زيتونة برية طُعمت فيها فصرت شريكا في أصل الزيتونة ودسمها... من أجل عدم الإيمان قُطعت وأنت بالإيمان ثبت. لا تستكبر بل خف.» (رو16:11-20)
فالمسيح هو الأصل «أصل داود», أي أصل الوظيفة التي تعين عليها داود كملك ورئيس وراع ونبي للشعب. وكلمة «أصل» تجيء باليونانية جذر( )، فإن كان جذر داود هو المسيح، فالمعنى أن داود كان يستمد من المسيح كل كيانه.
كذلك فالمسيح هو أمل ذرية داود، حيث «ذرية»» تجيء باليونانية ( ) وتفيد معنى الجنس أو غصن ينبت من الأصل shoot. فالمسيح هو الأصل الذي قام عليه داود هو وذريته، أي امتداده. هذا هو «الشداى» (القدير)، «الأدوناى» (الرب)، «يهوه» ( الله )، رب إبراهيم ، وراعي إسرائيل وداود، المسيا، ملك الدهور إلى الأبد.
وهنا لو نظرنا إلى المسيح كراع واحد أي وحيد، فباعتباره أصل داود فهو وحده الذي يملك مراعي العهد القديم؛ وباعتباره هو ذرية داود، فعليه تقوم الرعاية إلى الأبد. والآن إذ طُعمت الكنائس على هذا الأصل، صارت تمتلك في المسيح وحده كل مراعي العهد القديم وامتدادها فيه إلى الأبد.
على هذا الأساس قامت العلاقات بين الأمم واليهوده لا على أساس ناموس وتعاليم ووصايا بعد ذاتها، بل على أساس المسيح نفسه, كفكر وخلاص وفداء وحياة, فكل ناموس في القديم يعترف بالمسيح رباً وإلها فهو عهد جديد، وكل تعاليم أو وصايا في العهد القديم تشهد للمسيح أنه رب وإله، فهي تعاليم ووصايا العهد الجديد.
وباختصار، نلقي شعاعاً من نور يوضح هذا القانون الإلهي: فإن إسرائيل في القديم كانت حياتها، وكان كيانها كله وبقاؤها متعلقأ بعلاقتها بالله, يهوه، والآن قد اُستعلن يهوه فى المسيح. فكل من لم يؤمن ويعترف بالمسيح من شعب إسرائيل, يكون قد فقد علاقته بالتالي مع الله يهوه. وكل من آمن بالمسيح من الأمم بأنه هو«يهوه» المسيا الله الآتي بالجسد والمستعلن للعالم, «الله ظهر في الجسد» (اتى16:3), يكون قد اكتسب بالتالي كل ميراث العهد القديم في شخص يسوع المسيح.
فالمسيحية ليست امتدادا لليهودية، ولكن المسيحية هي استعلان الله في شخص يسوع المسيح, لتكميل مقاصد الله وخطته الآزلية من أجل خلاص العالم الذي كانت إسرائيل مرحلة بدائية من مراحله الاولى, والتي انتهت برفضها المسيح.
«رعية واحدة»: كان هناك نزاع قديم بدأ منذ القرون الوسطى في الكنيسة الغربية, وقد تعدل فيما بعد, من جهة تغيير قراءة «رعية» إلى حظيرة، بقصد جعل بابا روما هو «الراعي الواحد» وكنيسة روما هي «الحظيرة» الواحدة للراعي الواحد، وللأسف فهذا بعينه هو الرجوع إلى الفكر اليهودي العنصري، حيث إسرائيل هي الحظيرة الأوحد ولا حظائر غيرها قط، فالأمم كلاب لا غنم !!
ولكنها جاءت في اللغة اليونانية وفي النسخ السريانية والمصرية هكذا: «رعية واحدة وراع واحد».
ولكن الفولجاتا اللاتينية حصل فيها تعديل لتناسب الفكر البابوي الروماني، وذلك في بداية سنة 1582وجعلوها قراءة مقدسة غير قابلة للتغيير: «حظيرة واحدة لراع واحد». وللأسف أخذت منها بعض الطبعات الأخرى. وكانت هذه القراءة المغلوط سبباً في التأثير على فكر الكنيسة الرومانية إلى يومنا هذا.
والسؤال الذي بلا جواب هو: إذ كانت الخراف الأخر التي سيجمعها المسيح من كل الشعوب والأمم لم تنشأ من أصل الحظيرة اليهودية في قليل أو كثير: «خراف أخر ليست من هذه الحظيرة»، ولم يرتب لها الرب أن تنضم إلى الحظيرة اليهودية لتأخذ مبدأها من هناك، فقد قال: «ينبغي أن أتي بها»، ولم يقل أنه يجمعها إلى الحظيرة، بل جعلها رعية لا يجمعها إلا شخصه المبارك في حظيرته السمائية، فكيف يمكن أو يتصور أحد أن يقوم في الرعية (من الخراف الأخر) من يدعى هذا الحق، حق أن تتبعه الخراف الأخرى أو تأخذ مبدأها ومنشأها منه؟ ثم فوق هذا وذاك هل «الراعي الواحد» الذي جمع الخراف استقال وسلم وظيفته لآخر؟ أم أنه يقيم رعاة كيفما يشاء ولا يميزهم عنده إلا حساب الوكالة؟ ثم كلمة راع «واحد» هل كلمة «الواحد» هنا عددية أم أنها قرينة الابن «الوحيد» بل ونابعة من الله «الواحد»؟! فالراعي الواحد هنا ليس إنساناً هو كأحد الخراف، بل هو بكل المعايير إله! «وأنتم يا غنمي غنم مرعاي اناس أنتم, أنا إلهكم يقول السيد الرب.» (حز31:34)
وكأنه بالمثل الذي قاله المسيح، يريد الوحي الإلهي أن يصور لنا المسيح بصورة شاملة وعجيبة، فهو الباب، وهو البواب، وهو الحظيرة الجديدة, إسرائيل الجديد, التي بلا حدود، وهو الراعي، والخراف هي من لحمه ومن عظامه!!! فالوحدة الشخصية معه القائمة على الخلاص الفردي وهبها المسيح لكل من يؤمن به ويأكله. وهذه الصورة الفردية الوحدوية لعلاقة الراعي الصالح بالرعية، أنهت عل عهد احتكار الرعاة للغنم إلى الأبد.
يلاحظ القارىء الصلة الجوهرية بين «أنا أضع نفسي عن الخراف» وبين «لي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة يبغي (مستقبلاً) أن آتي بتلك أيضاً». فموت المسيح هو الذي سيوسع من دائرة الرعية: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع» (يو32:12). فالمسيح لا تقصر رعايته الصالحة على حظيرة إسرائيل، سواء في فلسطين أو خارجها. وهذا هو نص نبوة رئيس الكهنة، التي قالها دون أن يدري مضمونها: «ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة، تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت من الأمة؛ وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.» (يو51:11-52)
ولقد مهد القديس يوحنا لهذه الحقيقة في مطلع إنجيله: «كان النور الحقيقي، الذي ينير كل إنسان، آتياً إلى العالم» (يو9:1). وقد ألمح المسيح إلى ذلك في قصة قائد المائة في إنجيل متى: «وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية.» (مت11:8-12)
ويلاحظ أنه بالسنبة للخراف الأُخر، لا يذكر الرب كلمة «حظيرة» أو «حظائر»، فهي خراف متفرقة في جميع أنحاء ممالك الأرض, لا توحدهم عبادة سابقة, ولا يجمعهم ناموس ولا أرض.
«ينبغي أن أتي بتلك أيضًاً»: هنا يبدأ العمل بالنسبة للخراف الأُخر بأن «يأتي» بها وليس «يجمعها»، فالرب يأتي بها إلى الآب أولاً بعمل دمه المسفوك عنها، وحينما يجمعها ويوحدها بالروح مع الآب, يجمعها ويوحدها معاً. فالوحدة المسيحية أو الوحدة الإيمانية أو الكنسية، يستحيل أن تتم في دائرة المجهود الإنساني، بل يتحتم وبالضرورة أن يتحد كل واحد وكل جماعة أو كنيسة بالله أولاً, بعمل الروح, وبعد ذلك يمكن وينبغي أن يتحد الكل معا, حتى تصبح رعية واحدة لراع واحد. والراعي الواحد يبقى دائماً والى الأبد هو الرب يسوع دون سواه, لأنه هو المصالح وليس آخر, وهو الوحيد الذي يجمع لأنه يجمع في شخصه, وليس في المبادىء أو القوانين، ثم هو الوحيد الذي يوحد بعمل روحه القدوس الذي يرفع الفوارق من كل نوع, سواء كانت فوارق لون أو جنس أو فكر أو ثقافة أو تقليد. ويكون معيار الواحد هو معيار الكل: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فّي» (غل20:2)
«فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد»: المسيح هنا لا يزال يتعلق بالمثل، أي الخراف وصوت الراعي. فهي لا تتبع إلا إذا ميزت صوت الراعي وتعرفت عليه. أما بالنسبة للرب وأخصائه، فسماع صوته خبرة روحية ذات قيمة ومدلولات غنية يصعب على الفكر والقلم أن يجمعها في سطور.
فالإنسان خُلق وله حاسة تمييز صوت الله، وهذا نسميه «السماع», فالله كان يتكلم مع آدم وحواء، وكانا يسمعان صوت الله. وقبل الخطية كان السمع يلازمه الطاعة، ولما أخطأ لم يفقدا تمييز صوت الله: «فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت. فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان, فاختبأت» (تك9:3-10). وهكذا تحول السمح من «سمع وطاعة» إلى «سمع وخوف», وهكذا ظل الإنسان الخاطىء يلازمه الخوف عند سماع صوت الله, إلى أن تعلم كيف يتوب ويعود إلى الله. فصار صوت الله للتائب للبهجة والخلاص عوض الخشية والخوف وتعتبر خبرة التائب إلى الله من جهة سماع صوت الله وتمييزه، الركيزة الاولى والعظمى في كل خبرات الإنسان على مدى حياته كلها, والتي على أساسها يبدأ يتعلم الفهم والحكمة, ويتدرب على قبول صوت المشورة الإلهية، وينمو في تمييز صوت الله من درجة إلى درجة. فدرجة سماع صوت الله تتغير في شدتها ورقتها ولطفها وحنانها وحبها وقربها من مستوى العبد الخاضع، إلى الابن، إلى الخادم الأمين، إلى النبي، إلى الملك، إلى الكاهن, إلى العروس، وكل درجة لها مسئوليتها. وهي تتعدد بتعدد الأشخاص، ولكن قد يحوزها إنسان واحد على مدى خبرات حياته.
ولكن أعجب درجات صوت الله، عموماً هي درجة صوت المسيح التي تخترق كل الحواجز والمستخيلات. فالميت يسمعها ويستجيب لها ويقوم، سواء من موت الجسد كأليعازر، أو موت الخطية مثلي ومثلك، أو في اليوم الأخير حيث يكون موت المسيح هو للقيامة العتيدة التي يتحرك لها كل مخلوق، الأموات والأحياء جميعاً بلا استثناء لقيامة الدينونة. ويعوزني الوقت والأذن التي تسمع لنتكلم عن صوت المسيح مع النفس التي دخلت معه بالتوبة في عهد حب أبدي, كيف يملأها فرحاً ونعيماً وسروراً, يفيض عليها من دسم السماء ويشرق عليها بالمراحم كل صباح، يزينها بكل زينة الروح ويقودها في مراع خضر، كما في المزمور (مز70).
لقد جمع المسيح له رعية من كل لسان وشعب وأمة, لأنه ذُبح واشتراها جميعاً, ألوف ألوف وربوات ربوات مغتسلين بالدم، يقدمون له الخدمة ويستقون من نبع الحكمة. صوتهم بالفرح لا ينقطع عن التسبيح، يدوم على وجه كل الأرض بدوام مجرى الشمس! ... وهكذا صارت بالحق رعية واحدة لراع واحد، تسمع صوته, وتُسمعه صوتها، شهادة أبدية لصالح راعيها... أما إسرائيل فثقلت أذنه عن السمع، وتم فيهم القول: « إنه حسناً كلم الروح القدس أباءنا بإشعياء النبي قائلاً: اذهب إلى هذا الشعب وقل ستسمعون سمعاً ولا تفهمون, وستنظرون نظراً ولا تبصرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ, وبآذانهم سمعوا ثقيلاً, وأعينهم أغمضوها, لئلا يبصروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم، و يرجعوا فأشفيهم. فليكن معلوما عندكم ان خلاص الله لا أُرسل إلى الأمم وهم سيسمعون» (أع25:28-28)
«رعية واحدة وراع واحد»: قول الرب هنا مطابق حرفياً لنبوة حزقيال النبي: «وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها، عبدي داود هو يرعاها, وهو يكون لها راعياً» (حز23:34). وهكذا، فإن ما كان منذ الأزل وما صوره حزقيال بالرؤيا من وراء الزمن، تحقق في عمق التاريخ في شخص يسوع المسيح، الراعي الواحد.
ويلاحظ أن الرب لم يذكر أنها تصير حظيرة واحدة، وكأنها أمة أو شعب محدد بحدود وقيود، وهذا يحتسب في المفهوم الكنسي غاية في الأهمية. فلا عودة إلى حظيرة إسرائيل، ولا شركة في نظام تلك الحظيرة كأنه, إنضمام أو تهود، ولكن هو اكتساب للأصل فقط، وليس الفروع, بمعنى اكتساب لكل مواعيد الله للآباء والأنبياء التي تحققت في شخص المسيح. فمن خلال المسيح وحده نستقي من نبع العهد القديم، فهو الأصل الذي تصور عليه العهد القديم كله بكل أمجاده: « أنا يسوع أرسلت ملاكي لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس, أنا أصل وذرية داود, كوكب الصبح المنير.» (رؤ16:22)
وعلى هذا الأصل بُنيت الكنائس, ولم يقل هنا «كنيسة» بل «كنائس»، كنائس شعوب وكنائس دهور وأحقاب, ولا سيادة لكنيسة على كنيسة!! عن هذا الأصل الواحد الغني بالله والدسم بالنعمة يقول بولس الرسول: «وان كانت الباكورة مقدسة فكذلك العجين. وان كان الأصل مقدساً (المسيح) فكذلك الأغصان. فإن كان قد قُطع بعض الأغصان وأنت زيتونة برية طُعمت فيها فصرت شريكا في أصل الزيتونة ودسمها... من أجل عدم الإيمان قُطعت وأنت بالإيمان ثبت. لا تستكبر بل خف.» (رو16:11-20)
فالمسيح هو الأصل «أصل داود», أي أصل الوظيفة التي تعين عليها داود كملك ورئيس وراع ونبي للشعب. وكلمة «أصل» تجيء باليونانية جذر( )، فإن كان جذر داود هو المسيح، فالمعنى أن داود كان يستمد من المسيح كل كيانه.
كذلك فالمسيح هو أمل ذرية داود، حيث «ذرية»» تجيء باليونانية ( ) وتفيد معنى الجنس أو غصن ينبت من الأصل shoot. فالمسيح هو الأصل الذي قام عليه داود هو وذريته، أي امتداده. هذا هو «الشداى» (القدير)، «الأدوناى» (الرب)، «يهوه» ( الله )، رب إبراهيم ، وراعي إسرائيل وداود، المسيا، ملك الدهور إلى الأبد.
وهنا لو نظرنا إلى المسيح كراع واحد أي وحيد، فباعتباره أصل داود فهو وحده الذي يملك مراعي العهد القديم؛ وباعتباره هو ذرية داود، فعليه تقوم الرعاية إلى الأبد. والآن إذ طُعمت الكنائس على هذا الأصل، صارت تمتلك في المسيح وحده كل مراعي العهد القديم وامتدادها فيه إلى الأبد.
على هذا الأساس قامت العلاقات بين الأمم واليهوده لا على أساس ناموس وتعاليم ووصايا بعد ذاتها، بل على أساس المسيح نفسه, كفكر وخلاص وفداء وحياة, فكل ناموس في القديم يعترف بالمسيح رباً وإلها فهو عهد جديد، وكل تعاليم أو وصايا في العهد القديم تشهد للمسيح أنه رب وإله، فهي تعاليم ووصايا العهد الجديد.
وباختصار، نلقي شعاعاً من نور يوضح هذا القانون الإلهي: فإن إسرائيل في القديم كانت حياتها، وكان كيانها كله وبقاؤها متعلقأ بعلاقتها بالله, يهوه، والآن قد اُستعلن يهوه فى المسيح. فكل من لم يؤمن ويعترف بالمسيح من شعب إسرائيل, يكون قد فقد علاقته بالتالي مع الله يهوه. وكل من آمن بالمسيح من الأمم بأنه هو«يهوه» المسيا الله الآتي بالجسد والمستعلن للعالم, «الله ظهر في الجسد» (اتى16:3), يكون قد اكتسب بالتالي كل ميراث العهد القديم في شخص يسوع المسيح.
فالمسيحية ليست امتدادا لليهودية، ولكن المسيحية هي استعلان الله في شخص يسوع المسيح, لتكميل مقاصد الله وخطته الآزلية من أجل خلاص العالم الذي كانت إسرائيل مرحلة بدائية من مراحله الاولى, والتي انتهت برفضها المسيح.
«رعية واحدة»: كان هناك نزاع قديم بدأ منذ القرون الوسطى في الكنيسة الغربية, وقد تعدل فيما بعد, من جهة تغيير قراءة «رعية» إلى حظيرة، بقصد جعل بابا روما هو «الراعي الواحد» وكنيسة روما هي «الحظيرة» الواحدة للراعي الواحد، وللأسف فهذا بعينه هو الرجوع إلى الفكر اليهودي العنصري، حيث إسرائيل هي الحظيرة الأوحد ولا حظائر غيرها قط، فالأمم كلاب لا غنم !!
ولكنها جاءت في اللغة اليونانية وفي النسخ السريانية والمصرية هكذا: «رعية واحدة وراع واحد».
ولكن الفولجاتا اللاتينية حصل فيها تعديل لتناسب الفكر البابوي الروماني، وذلك في بداية سنة 1582وجعلوها قراءة مقدسة غير قابلة للتغيير: «حظيرة واحدة لراع واحد». وللأسف أخذت منها بعض الطبعات الأخرى. وكانت هذه القراءة المغلوط سبباً في التأثير على فكر الكنيسة الرومانية إلى يومنا هذا.
والسؤال الذي بلا جواب هو: إذ كانت الخراف الأخر التي سيجمعها المسيح من كل الشعوب والأمم لم تنشأ من أصل الحظيرة اليهودية في قليل أو كثير: «خراف أخر ليست من هذه الحظيرة»، ولم يرتب لها الرب أن تنضم إلى الحظيرة اليهودية لتأخذ مبدأها من هناك، فقد قال: «ينبغي أن أتي بها»، ولم يقل أنه يجمعها إلى الحظيرة، بل جعلها رعية لا يجمعها إلا شخصه المبارك في حظيرته السمائية، فكيف يمكن أو يتصور أحد أن يقوم في الرعية (من الخراف الأخر) من يدعى هذا الحق، حق أن تتبعه الخراف الأخرى أو تأخذ مبدأها ومنشأها منه؟ ثم فوق هذا وذاك هل «الراعي الواحد» الذي جمع الخراف استقال وسلم وظيفته لآخر؟ أم أنه يقيم رعاة كيفما يشاء ولا يميزهم عنده إلا حساب الوكالة؟ ثم كلمة راع «واحد» هل كلمة «الواحد» هنا عددية أم أنها قرينة الابن «الوحيد» بل ونابعة من الله «الواحد»؟! فالراعي الواحد هنا ليس إنساناً هو كأحد الخراف، بل هو بكل المعايير إله! «وأنتم يا غنمي غنم مرعاي اناس أنتم, أنا إلهكم يقول السيد الرب.» (حز31:34)
وكأنه بالمثل الذي قاله المسيح، يريد الوحي الإلهي أن يصور لنا المسيح بصورة شاملة وعجيبة، فهو الباب، وهو البواب، وهو الحظيرة الجديدة, إسرائيل الجديد, التي بلا حدود، وهو الراعي، والخراف هي من لحمه ومن عظامه!!! فالوحدة الشخصية معه القائمة على الخلاص الفردي وهبها المسيح لكل من يؤمن به ويأكله. وهذه الصورة الفردية الوحدوية لعلاقة الراعي الصالح بالرعية، أنهت عل عهد احتكار الرعاة للغنم إلى الأبد.
هنا يلتفت المسيح نحو الآب ليقدم له ذبيحته، التي هي في الواقع ذبيحة حب، لتجد عند الآب ما يساويها. وإن كان هو يقدمها بحرية إرادته، إلا أنها أيضأ مقدمة في الطاعة المطلقة للآب، لأنها في الأصل هي استجابة لوصية الآب.
ولكن لكي يبرز المسيح العنصر الإلهي في تقديم نفسه ذبيحة حسب الطاعة لوصية الآب، عاد وأوضح أنه لا يقدم نفسه جزافاً, كمن يضيعها أو يفقدها برجاء التعويض، ولكنه قدمها قصداً ليعبر بها الموت بكل أهواله وآلامه، وهو عالم أنه سيقيمها من الموت بسلطانه وبتأكيد الآب. فالذبيحة ليست ذبيحة للموت وحسب، بل هي ذبيحة «موت وقيامة» بحسب مضمون وصية الآب، أو بحسب اتفاق الآب والابن معاً، كخطة أزلية. لأن الابن وُضع عليه أن يخوض الموت بالجسد من أجل افتتاح طريق القيامة من الأموات ليقيم من الموت كل ذي جسد.
هنا لا ينبغي أن يغيب عن بالنا صورة المثل الذي وضعه المسيح من جهة الراعي والخراف والمرعى. فهنا يبلغ المسيح بنفسه حد التفوق المطلق على مفهوم الراعي والرعية والمرعى. فالراعي في مفهوم المسيح هو القادر بإرادته وسلطانه وحده أن يموت من أجل الخراف, ويقوم من الأموات، ليقيم الرعية من الموت ويعطيها المرعى الذي بتذوقه لا تذوق الموت أبداً... هذا هو راعي الخلاص الأبدي.
بهذا ينتقل المسيح, من داخل المثل الذي قاله, من عورة الراعي إلى حقيقته الأزلية أنه المخلص القادر أن يذهب وراء خروفه الضال حتى إلى أعماق الموت والهاوية ، ليقيمه حياً، وليحيا أمامه إلى الأبد. ولتأكيد معنى اهتمام هذا الراعي العجيب بكل خروف على حدة يقول بولس الرسول: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة, يسوع, نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت لكي يذوق, بنعمة الله, الموت لأجل «كل واحد» (عب9:2)
إن الموت الذي كان يمثله الذئب, والذى كان يرعب قلب الراعي والخراف معا. لا يوجد له مكان في قلب المسيح . لقد افترس المسيح الموت والذئب معاً، واعطى خرافة صك الخلاص من موت ووهبهم حق الحياة الأبدية: «فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم, اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت, أى إبليس, ويعتق أولئك الذين خوفا من الموت كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية.» (عب14:2-15)
«ليس أحد يأخذها مني, بل أضعها أنا من ذاتى, لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً, هذه الوصية قبلتها من أبي»: عجيب حقاً أن يضع المسيح هذه المعادلة الصعبة في صورتها البسيطة المتناهية في البساطة. فهو يستعلن لنا سلطانه المطلق على الموت والحياة معاً, ثم يضع هذا السلطان في توافق مطلق أيضأ مع الآب. هنا جوهر اللاهوت حي ومتلألئ أمام عيوننا وقلوبنا. فالآبن متساو مع الآب في المفاعيل الذاتية للجوهر الإلهي، أي السلطان والقوة والمجد، لأن الآب والابن واحد في هذا الجوهر الإلهي المطلق، فكل ما للآب هو للابن، وما هو للابن هو للآب، ليس على وجه التساوي بالمفهوم الحسابي الذي يفهم الثنائية في الجوهر, بل على وجه الوحدة المطلقة التي تلغي الثنائية في جوهر الله.
على ضوء هذه الحقيقة اللاهوتية، يقول المسيح ويعلن عن سلطانه الفائق بالتالى على كل بشر وكل سلطان بني البشر: «ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي... ». المسيح هنا يتحدى كل قوى الظلمة وكل قوى البشر المتعاقده مع الظلام، المسيح يضع «أنا» إزاء أي أحد.
المسيح هنا يجعل موته «أضع حياتي» فعلا إلهياً, يفوق أي تطاول شيطاني أو بشري. وقد عزز المسيح تأكيده هذا في مواقف عدة: «فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه, وقال لم: من تطلبون, أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو» (يو4:18-5). وحينما جازف بيلاطس ليعلن سلطانه أمام المسيح بموته أو بإطلاقه، أنكر عليه المسيح هذا السلطان واستعلن هو سلطانه السامي الذي له أن يلغي أي سلطان آخر: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟ أجاب يسوع: لم يكن لك علي سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق» (يو10:19-11). وبهذا القول استعلن المسيح حريته المطلقة في اختيار الموت حسب مشورة الآب الأزلية. لذلك لم يكن صعبا عليه ولا ثقيلا أن يحمل صليب العار والموت على كتفه: «فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع...» (يو17:19). وفي اللحظة الحاسمة لاقتراب الموت، استقبله المسيح كمن ينتظره وعلى رأسه إكليل الحياة والمجد: «فلما أخذ يسوع الخل قال قد أكمل، ونكس رأسه، وأسلم الروح» (يو30:19). قالها وهو فاتح ذراعيه يسلم الروح في يد الآب إلى حين...
«لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتها من أبي»: لم يكن كافيا لعقول السامعين أن يعلن المسيح عن سلطانه في «أن أضعها من ذاتي»، لذلك أردف هذا السلطان, أي سلطان الموت الإرادي الذي يمكن أن يكون عل مستوى البشر, بسلطان آخر ليس في طاقة البشر قط، وهو سلطان الإقامة من الموت! هنا يعزز المسيح موته كفعل إرادة إلهي غير منظور بفعل إرادة إلهي منظور ومحسوس، وهو القيامة, ليستعلن موته أنه فعل فداء وخلاص، وليبرىء موته من مفهوم الاضطرار أو الانهزام لقوى الظلام.
فقول الرب: «لى سلطان أن آخذها أيضاً», الأمر الذي حققه بالفعل, يستعلن فيه سلطانه على الموت، بمعنى أنه يأخذ الموت لنفسه عندما يشاء ويلقيه عنه كما يشاء. وهذا بعينه هو «سلطان عدم الموت» القائم والدائم في طبيعة الابن وجوهره الإلهي.
وإذا تعمقنا قليلا في هذه الطبيعة الفائقة التي فيها يتساوى سلطان حرية الموت مع سلطان حرية القيامة من الموت، لأدركنا أن فعل الموت والقيامة هما حاضران معاً, كحدث واحد, في تدبير المسيح بدون اهتزاز ولا افتراق. هذا السلطان على الموت والقيامة من الموت قبله المسيح من الآب كوصية للتنفيذ لينفذه في ذاته لتكميل تدبير خطة الآب لخلاص العالم. ومن هذا «السلطان» عينه على الموت والإقامة من الموت, الذي نقذه المسيح الكلمة المتجسد في ذاته، حسب وصية الآب من أجل الإنسان, صار بالتالي للمسيح نفس «هذا السلطان» على إعطاء عبور الموت والقيامة, أي الميلاد الجديد السماوي, لكل من يؤمن به، «وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولادالله أي المؤمنون باسمه، الذين وُلدوا... من الله» (يو12:1-13). أي أنه نفذ هذا «السلطان» في نفسه ليعطيه للآخرين, إنما من خلال إخضاعه الموت والقيامة لنفسه أولاً!!
«فسلطان» المسيح عل إعطاء الحياة الأبدية للإنسان يستمده من طبيعته ومن وصية الآب, ومن فعل ذبيحته التي جاز بها الموت وظفر بالحياة بالقيامة من الموت: «تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد آتت الساعة، مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.» (يو1:17-2)
أما بعد قيامته من الأموات، بعد أن داس الموت وأبطل سلطانه وأخضع كل سلاطين الظملة تحت قدميه، أعلن لتلاميذه عن سلطانه المطلق هكذا: «فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دُفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض.» (مت18:28)
ولكن لم يكن المسيح أبداً بدون هذا السطان حتى قبل موته وقيامته، لأن هذا السلطان في طبيعته, فقد أعلن بالقول والفعل عن سلطانه على مغفرة الخطايا (مت6:9) وسلطانه على الدينونة (يو27:5) وسلطانه على إعطاء الحياة (يو2:17) وسلطانه على القيامة من الموت (يو18:10). لذلك، فإعلانه عن سلطانه المطلق في السماء وعلى الأرض لتلاميذه بعد القيامة (مت18:28)، لم يكن إلا استعلاناً وتحقيقاً فعليا لما كان ولما هو موجود ولكل ما سمعوه ورأوه من أقواله وأعماله، ولإعطائهم هذا «السلطان باسمه» على مغفرة الخطايا وإجراء المعمودية لقبول الميلاد الجديد.
وهنا يلزمنا أن نصالح بين الزمني والأبدي في أفعال المسيح من جهة موته وقيامته. فكل ما صار إليه المسيح تحت الزمن والناموس، كان قائما في العلم والمشيئة والإرادة الإلهية قبل إنشاء العالم. فكل النبوات أعلنت ما سيكون قبل أن يكون، خاصة عن موته الخلاصي وقيامته المحيية. اسمع ما يقوله بولس الرسول حينها رفع عينيه فرأى ما هو قائم في نص الخطة الأزلية من جهة أسمائنا المكتوبة بين المخلصين قبل تأسيس العالم! «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة» (أف3:1-4)
أما القديس يوحنا فقد اطلع على السفر المكتوب فيه أسماء الخراف الناطقة المعينين للحياة الأبدية: «فسيسجد له (للوحش) جميع الساكنين على الأرض، الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذُبح» (رؤ8:13)
كذلك، حينما خاطب المسيح الآب، فإنما كان يخاطبه كابن ليُسمعنا نحن عن سر علاقته الأزلية بالآب، التي لم تتغير ولم تنقص ولم تزد إلا بما استلزمته مظاهر التجسد التي قبلها الابن لحسابنا. فالمجد والحب وكل شيء بين الآب والابن انحجبت قليلا بالتجسد، لتعود كما كانت بالقيامة من الأموات: «والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يو5:17)، «كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي...» (يو10:17)، «... لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو24:17). والمسيح ألمح إلى ذلك في لفتة سريعة، إنما ذات عمق لانهائي بقوله: «فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً...» (يو62:6) هنا يكشف المسيح عن سر كينونته الدائمة والأزلية مع الآب منذ البدء، عابراً على فعل تجسده وموته وقيامته على أنها إرسالية زمنية عابرة لغربة على الأرض، أكمل واجباتها حسب الوصية دون أن تحتجز أو تنتقص شيئاً من كيانه.
وسفر الرؤيا يعلن ذلك في اختصار شديد ورتابة مبدعة: «نعمة لكم وسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي...» (رؤ4:1)، «أنا هو الألف والياء, البداية والنهاية, يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي القادر على كل شيء.» (رؤ8:1)
وهكذا يتبين لنا من كل هذه الأقوال والنبوات، أن أعمال الله تقطع فراسخ الزمن في ومضة البرق وتطوي الأماكن والأجيال والخلائق وكل ما كان وما سيكون، في كلمة: «أنا هو الأف والياء البداية والنهاية». والمسيح جاء ليكمل بالفعل الزمني ما كان كائناً وكاملاً في الحق الأبدي. أو باختصار أشد: إن كل أعمال الكلمة الابن المتجسد كانت جاهزة وحاضرة، بل ومكملة أيضاً، لحظة مجيئه وظهوره، وذلك واضح في قوله: «لى سلطان...». وإن هذا السلطان هو «وصية قبلتها من أبي», وهي قائمة بالنبوة في انتظاره، «لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لى جسداً... ثم قلت هأنذا أجيء, في درج الكتاب مكتوب عني, لأفعل مشيتك يا الله.» (عب5:10و7)
وكما هي العادة، فبعد كل تعليم يقدمه المسيح, ينقسم السامعون إلى مناقض فاقد الاتزان في النقد، وإلى مدافع خائف متراجع عن إعلان إيمانه. كما أن الانقسام, كما رأينا سابقاً, إما يكون بين الجموع، وهو تعبير عن عامة الشعب غير المتعلم: «فحدث انشقاق في الجمع لسببه. وكان قوم منهم يريدون أن يمسكوه، ولكن لم يلق أحد عليه الايادي» (يو43:7-44)؛ وإما يكون بين الفريسيين، وهي طبقة المتعلمين وحفظة الناموس: «فقال قوم من الفريسيين: هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت، أخرون قالوا: كيف يقدر إنسان خاطىء أن يعمل مثل هذه الآيات؟ وكان بينهم انشقاق» (يو16:9)؛ وإما أن يكون بين اليهود، وهو تعبير عام يشمل المتعلمين وغالباً من سكان أورشليم، كما جاء في الآية التي نحن بصددها.
وهذا الحكم المتهور على تعاليم المسيح: « به شيطان وهو يهذي» يوضح تغرب الأذن والقلب عند هؤلاء السامعين عن مستوى إدراك صوت الله وفهم مقاصده الإلهية. ونحن لا نستنكنر عليهم هذه الجهالة والحماقة ، فالتعاليم التي أسسوا عليها فكرهم وإيمانهم بلغت حدا من التفاهة، وذلك بالخوض في صغائر التخريجات الخرافية للوصايا والإنشغال بالأمور السياسية والدنيوية، حتى انطمست معالم الحكمة من قلوبهم فعميت بصائرهم عن رؤية الحق المستعلن لهم في المسيح قولا وعملا
ولا تزال هذه الخطورة محدقة بالإيمان السيحي حتى اليوم عندما يترك الرعاة جوهر الإيمان، والتمسك بمبادىء الفداء والخلاص، والدعوة إل التوبة وتسليم الحياة في سيرة القداسة والطهارة, وينشغلون بالأمور الأخرى.
من جهة ما هو عيد التجديد، نرجو الرجوع للشرح في أول الأصحاح التاسع. أما من جهة المناسبة، فقد كان من أسلوب القديس يوحنا أن يذكر مناسبة الحديث، إما في بدء الكلام أوفي نهايته. فحديث الراعي الصالح كان هو حديث عيد التجديد في أورشليم. كما يذكرة القديس يوحنا أيضا أن المسيح كان يتمشى في رواق سليمان لأن الوقت كان شتاء, وموسم أمطار ثقيلة, فكان الهيكل ورواق سليمان ملجأ للمعلم من البرد والمطر. ولو حسبنا التاريخ لوجدنا أن عيد التجديد الواقع في هذه السنة كان في 25 من شهر كسلو اليهودي لسنة 29 م ويقابل الآن 19 ديسبر.
أما المناسبة الأساسية التي تربط سؤال اليهود للمسيح بهذا العيد، فهو الرجاء الملتهب الذي تثيره ذكريات هذا العيد في قلوب اليهود من جهة الخلاص السياسي من المستعمر والعبودية للسلطة الرومانية، كما عمل الله على يدي يهوذا المكابي وهزم السوريين وطردهم من البلاد. والآن، قد ظنوا أن على يدي المسيح أيضأ يتم الخلاص من عبودية الرومان، فكان هذا الإلحاح على المسيح لكي يكشف لهم عن شخصه، لأن أحاديث السيح كلها كانت تمس الخلاص ولكن بنوع لم يفهموه، فتعلقت نفوسهم بين القبول والرفض. فأجابهم المسيح وكشف لهم, لا عن شخصه بل عن شخصهم، وكيف أنهم أخطاوا الرؤية والفهم، فهو هو المسيا ولكن ليس لهم، وهم اليهود ولكن ليسوا يهود الموعد.
«فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلق أنفسنا؟»: هذا الوصف لا يمت إلى شدة التعلق أو عن رغبة ملحة للسماع, ولكن هي محاولة للضغط والإرهاب، فسؤال اليهود كان على مستوى التحقيق والإلزام النهائي بكشف السر عن شخصيته؛ لأن المعروف عن المسيح أنه كان دائماً أبداً يتكلم بالأمثال مع الذين ليسوا من خاصته، مما أرهق فكرهم الضيق، فوجدوها الآن فرصة سانحة في هذا العيد أن يلزموه بالإفصاح العلني عن شخصه. فهذا هو عيد الأنوار, وهو يقول: إنه هو «نور العالم» (5:9). وهذا عيد الحرية، وهو يقول: «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (36:8). وهذا هو عيد تطهير الهيكل، وهو سبق أن تولى تطهيره بنفسه (13:2-17). فلماذا إذن لا يحمل راية القائد المحرر؟
والأن على القارىء أن يتصور مدى تعلق أنفسهم فعلا بكل كلام المسيح، ولكن لشدة الأسف كان ذلك على المستوى السياسي والوطني. كانوا على أتم استعداد لإعلان الثورة وحمله على الأعناق، وتقديم أجسادهم للذبح والحريق بلا أي تردد, ولكن وللأسف لم يكونوا مستعدين للتوبة عن خطاياهم أو إعلان تجديد حياتهم! أليس هذا حال الكثيرين من المتحمسين للكنيسة والدين حتى إلى سفك الدم, وهم غرباء عن الإنجيل، وغير مستعدين لقبول كلمة التوبة أو الخلاص؟
«إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي»: لم يكن كلام المسيح لهم إلا اختباراً لإيمانهم. المسيح يتكلم بكلام هو بحد ذاته نور وحق وحياة؛ إذن فهو دينونة مريعة للذين يرفضون بلا عذر, ولكن إن قالوا إن الكلام صعب عليهم، فهوذا الأعمال تشهد لصدق القول وتحكم بصدق الدينونة. إذن، الكلام والأعمال هي بحد ذاتها تتكلم أن المسيح هو من عند الآب، وباسمه كل ما يقول ويعمل. إذن، فلا داعي أن «يقول جهراً» إنه المسيح، هذا متروك لهم هم أن يقولوه ويشهدوا له ويؤمنوا به: أليسوا هم معلمي إسرائيل؟ كيف لا يعرفون مسيح الكتب والأنبياء؟ لو كان رجاؤهم صحيحا لعرفوا المسيح، ولكن رجاءهم مزيف هو، ومعرفتهم غاشة صنعتها أهواؤهم ونسجها كبرياؤهم.
المسيح هنا يكشف السبب الأساسي لإخفاقهم في معرفته وبالتالي عدم إيمانهم. وما هو السبب الرئيسي في عدم إيمانهم؟ يقول الرب: إن خرافة تسمع صوته فتجري إليه، وهو أيضأ يعرف خرافة ويسير أمامها وهي تتبعه، وما معنى هذا؟
معناه، أن للإنسان أذناً روحية مُنحت له ووُضعت في تركيب كيانه ليسمع بها صوت الله. هذه الأذن الروحية إما تنشغل بصوت الله، وتتمرن على تمييزه فتتعرف عليه بسهولة، وتطيع مشوراته بدون حذر أو خوف أو شكوك، فتسير أمام الله بالكمال الروحي الذي يرضيه, «سر أمامي وكن كاملاً» (تك1:17)؛ وإما تنشغل بمشاغل الدنيا وتتلهى بها، إلى الدرجة التي تطمس معالم صوت الله، فلا يعود الإنسان ينشغل بصوت الله، بل يجد صعوبة في طاعته, وتتربى عنده حاسة العقل الشكاك على قياس المعارف والمنطق الدنيوي الناقص، فيشك في كل إيحاءات الخير التي تصطدم بها أذناه ء فيلقيها جانباً ريثما يتحقق منها, وهيهات إن يتحقق، فإنها تتلاشى ولا تعود...
هؤلاء اليهود سلموا آذانهم لمجد الدنيا، وإعلاء شأن أرض الوطن, ومحبة المال, أصل كل الشرور (1تى10:6) والتمسك بالحرف القاتل، وفهم ميراث الآباء الروحي على أنه تركة تؤول من تلقاء ذاتها لأبناء الجسد؛ كل هذا أضعف حاسة سماع صوت الله في الأذن الروحية وازداد طنين العالم المادي فيها حتى أتلفها... فلما ظهر الله بالجسد وتكلم معهم وجهاً لوجه أشد مما كلم الله موسى في القديم، لم يسمعوه على قياس أذن الآباء والأنبياء في القديم. ولما سمعوه لم يفهموه، لأن قياس العطايا والمواهب الإلهية تلوثت عندهم بالتراب تلوثاً شديداً، ولم يعودوا يميزون بين السماويات والأرضيات. ولما سمعوه ولم يفهموه, لم يأتوا باللوم على أنفسهم, بل شتموه وأهانوه ورفعوا أيديهم عليه ليقتلوه مرات كثيرة. فقامت ضدهم القضية وتثبتت الدينونة عليهم؛ لأن منهم من سمع الصوت، وتعرف على الله, وأطاع، وتبع, هؤلاء هم بالحق أبناء الميراث وحفدة الآباء والأنبياء، هؤلاء كانوا معروفين لله والمسيح منذ البدء منذ إنشاء العالم، أسماؤهم مكتوبة كنقش الحجارة على كف الله الآب منذ الدهر, هؤلاء هم بنو الله الحى, أبناء الملكوت, أهل بيت الله، خراف اليمين, أصدقاء العريس, ومدعوو العرس السماوي، ورثة العهد الأبدي، وأصحاب صهيون الجديدة: «وقالت صهيون: قد تركني الرب, وسيدي نسيني. هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك. هوذا على كفي نقشتك, أسوارك أمامي دائماً.» (إش14:49-16)
هؤلاء قد تثبتت لهم الحياة الأبدية كميراث، كما بقسم إلهي، ليس لأنهم عرفوا الرب وكأنهم اكتشقوه، بل لأنهم لما لم يريدوا أن يعرفوا سواه، أدركوا أنهم معروفون عنده، وبقي هو نصيبهم كما هو!! «نصيبي هو الرب قالت نفسي» (مرا24:3)، «إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك.» (يو68:6)
هؤلاء لم يحبوا الرب كأنهم أصحاب فضل، ولكن لأنهم لما «لم يحبوا حياتهم حتى الموت» (رؤ11:12), انسكب روح الحياة وحب الله في قلبهم, فصاروا أحياء، أحباء، ومحبوبين.
هؤلاء يقول الرب عنهم إنهم خراف الحياة الأبدية، فهي لن تهلك إلى الأبد، ليس لأنه حصنها ضد الهلاك, ولكن لأنها تحصنت بالرب ضد نفسها، فلا يُهلك النفس إلا نفسها... وهل الخراف الناطقة بالروح التي سمعت صوت الله وظفرت بالمسيرة خلف الراعي الصالح تخشى موارد الهلاك؟ «أيضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا, لأنك أنت معي» (مز4:23). وهل يستطيع الذئب أن يخطف نفساً أمسك بها الرب يسوع؟ فأن يُمسك الرب نفساً هو هو على المستوى اللاهوتي أن يتحد بها؛ وعلى المستوى الإنجيلي هي تصير من «أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه» (أف30:5). وبعد هذا هل يمكن أن يخطفها أحد من يده؟
الإعلان الأعظم عن سر الحياة والأمان المطلق لمختاري الله
«أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل, ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد»: المعنى سهل لو تتبعنا تداعي المعاني السابقة، فالفريسيون يدعون السيادة على الشعب، بصفتهم رعاة استلموا الرعاية من ابائهم بمقتضى تلمذتهم لموسى والناموس الذي استلمه موسى بيد ملائكة. لكن المسيح يستعلن المصدر الذي استلم منه الرعاية، وبالتالي الخراف، فليس هو الآباء ولا موس ولا الناموس من يد ملائكة، بل من الله مباشرة بصفته أباه «أبي»، والله بصفته أبا ربنا يسوع المسيح هو أعظم من الكل، أعظم من الآباء جيعا ومن موسى ومن الملائكة ومن كل ما في السموات أو الأرض. والخراف المختارة هي في الحقيقة ملك الله وحده. والله, وإن كان قد استأمن الآباء والأنبياء والملوك قديما على خرافة, إلا أنهم كانوا كلهم عبيدا أخطأوا، وزلوا جميعا على مستوى الخراف ذاتها. أما المسيح فقد أعطاه الآب الخراف عن جدارة بصفته الابن المحبوب القدوس والممجد والمساوي للآب. فانتقلت الخراف من يد الآب إل يد الابن كما من المثيل إلى المثيل: «كانوا لك وأعطيتهم لي» (يو6:17). انتقلت من يد المالك إلى الفادي، ولو تمعن القارىء لوجد أن الفادي والمالك واحد, لأن الفادي فدى خراف الآب الضالة بحياته، وإذ فداها بحياته يكون قد امتلكها، ولكنه بالنهاية امتلكها لحساب المالك: «وبعد ذلك... متى سلم الملك لله الآب... » (اكو24:15) «أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم, كانوا لك وأعطيتهم لى... وكل ما هو لى فهو لك, وما هو لك فهو لي... » (يو6:17و10)
«ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي»: الذين فداهم المسيح، قدسهم بالروح القدس، ثم قدسهم للآب بالتالى لينالوا تقديس الآب كما نالوا تقديس الابن والروح القدس: «لأنه به (بالمسيح) لنا كلينا (اليهود والأمم) قدوما في روح واحد إلى الآب» (أف18:2). ثم يكمل بولس الرسول ليوضح منتهى مشيئة الله من جهة مختاريه هكذا: «فلستم إذا بعد غرباء ونًزلا، بل رعية (خراف) مع القديسين وأهل بيت الله» (أف19:2). فالذين كانوا ممسوكين بيد المسيح (متحدين)، ولم يستطيع أحد أن يخطفهم من يد المسيح لأنه وضع حياته ثمناً لحياة كل خروف، وصاروا أعضاء جسده من لحمه ومن عظامه، هؤلاء صاروا بالتالى في يد الآب محفوظين مع القديسين، مختومين رعية الله الآب، محسوبين أهلا في بيت الله. أما الذين هم في يد الآب فلم يعد يقدر أحد أن يخطفهم، ولا حتى الشيطان يستطيع أن يمسهم، لأن روح الله صار هوبذرة الحياة التي يحيونها في الله كأبناء, أي صاروا متحدين بالآب كما هم متحدون بالابن والروح القدس.
فالقديس يوحنا مهد لهذا المعنى، من قبل، بقوله: «أما كل الذين قبلوه (قبلوا المسيح) فأعطاهم سلطاناً (الروح القدس) أن يصيروا أولاد الله, أي المؤمنون باسمه (المسيح)، الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله» (يو12:1-13) ويكمل القديس يوحنا مفهوم «المولود من الله» هكذا: «كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه (بذرة حياة الله) يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله...» (1يو9:3)
ولكن، إذ يظهر من هذا أن هناك وعداً من الله بالحفظ الكامل والنهائي للذين قبلوا المسيح وصاروا أولاد الله، يتحتم علينا أن نفرق بين تأكيدات وعود الله النابعة والمتشية مع قدراته السرمدية اللانهائية من جهة, وبين ضعف الإنسان وتغيرات مشيئاته من جهة أخرى. فإذا سقط الإنسان من حياته الروحية في مرحلة من مراحل نموه وتكامله، فهذا ليس قصوراً في عمل النعمة الإلهية, ولا هو بسبب طغيان الشر فوق ما يحتمل الإنسان، ولكن السبب والعلة إنما هما في عدم استخدام الإنسان لعوامل النعمة المتعددة والموضوعة لخدمته, واستهانته بخديعة الخطية، فالإنسان يستحيل أن يُحفظ ضد نفسه رغم مشيئته!!!
إذن، لماذا أعطى الله لنا هذه التأكيدات، وكأنها أسوار تحمينا كلية وكاملة؟ السبب في ذلك غاية في العجب وغاية في القوة: وهو أن من يتمسك بهذه التأكيدات الإلهية تمسكاً قويا بكل قلبه وفكره وقدرته ومن كل نفسه، يفوز بعملها الكامل بلا نقصان، والقصص في ذلك كثيرة. لهذا يعطي القديس يوحنا تكميلاً لمفهوم الميلاد من الله وعمل بذرة الله في كيان الإنسان إيجابياً من قتل استجابة الإنسان هكذا: «نعلم أن كل من وُلد من الله لا يخطىء، بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه» (ايو18:5). هنا «بذرة الله» أثمرت قوة في الإنسان، يحفظ بها نفسه ضد إغراءات الخطية وسطوة الشر والشرير، إلى الدرجة التي فيها, في هذه القوة, لا يستطيع الشيطان أن يقترب إليه!! وهذا ما نسمعه كثيرا وكثيرا جداً في تاريخ حياة القديسين في كل جيل وفي كل أمة.
وهذا الكلام الذي يقوله الرب يسوع عن الأمان والعناية والرعاية معاً والحفظ في يد الله، هذه التي يطرحها كوثيقة من الآب نفسه ويضمنها المسيح بحياته للذين يتبعونه ويعيشون تحت رعايته, سبق أن عبر عنها الروح في العهد القديم كوعد سيكون وقد كان: «أنتم شهودي يقول الرب، وعبدي, الذي اخترته، لكي تعرفوا وتؤمنوا بي، وتفهموا أني أنا هو, قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب وليس غيري مُخلّص. أنا أخبرت وخلصت وأعلمت وليس بينكم غريب، وأنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله. أيضاً من اليوم أنا هو ولا منقذ من يدي, أفعل ومن يرد» (إش10:43-13). وتوضيح ذلك، أن كل الذين هم تحت رعاية المسيح، هم بالتال تحت حماية الله نفسه كوعد... لأن حماية الله الفائقة المتساوية مع قدراته, تضمنها الآن علاقة المسيح بالآب.
المسيح هنا يكشف السبب الأساسي لإخفاقهم في معرفته وبالتالي عدم إيمانهم. وما هو السبب الرئيسي في عدم إيمانهم؟ يقول الرب: إن خرافة تسمع صوته فتجري إليه، وهو أيضأ يعرف خرافة ويسير أمامها وهي تتبعه، وما معنى هذا؟
معناه، أن للإنسان أذناً روحية مُنحت له ووُضعت في تركيب كيانه ليسمع بها صوت الله. هذه الأذن الروحية إما تنشغل بصوت الله، وتتمرن على تمييزه فتتعرف عليه بسهولة، وتطيع مشوراته بدون حذر أو خوف أو شكوك، فتسير أمام الله بالكمال الروحي الذي يرضيه, «سر أمامي وكن كاملاً» (تك1:17)؛ وإما تنشغل بمشاغل الدنيا وتتلهى بها، إلى الدرجة التي تطمس معالم صوت الله، فلا يعود الإنسان ينشغل بصوت الله، بل يجد صعوبة في طاعته, وتتربى عنده حاسة العقل الشكاك على قياس المعارف والمنطق الدنيوي الناقص، فيشك في كل إيحاءات الخير التي تصطدم بها أذناه ء فيلقيها جانباً ريثما يتحقق منها, وهيهات إن يتحقق، فإنها تتلاشى ولا تعود...
هؤلاء اليهود سلموا آذانهم لمجد الدنيا، وإعلاء شأن أرض الوطن, ومحبة المال, أصل كل الشرور (1تى10:6) والتمسك بالحرف القاتل، وفهم ميراث الآباء الروحي على أنه تركة تؤول من تلقاء ذاتها لأبناء الجسد؛ كل هذا أضعف حاسة سماع صوت الله في الأذن الروحية وازداد طنين العالم المادي فيها حتى أتلفها... فلما ظهر الله بالجسد وتكلم معهم وجهاً لوجه أشد مما كلم الله موسى في القديم، لم يسمعوه على قياس أذن الآباء والأنبياء في القديم. ولما سمعوه لم يفهموه، لأن قياس العطايا والمواهب الإلهية تلوثت عندهم بالتراب تلوثاً شديداً، ولم يعودوا يميزون بين السماويات والأرضيات. ولما سمعوه ولم يفهموه, لم يأتوا باللوم على أنفسهم, بل شتموه وأهانوه ورفعوا أيديهم عليه ليقتلوه مرات كثيرة. فقامت ضدهم القضية وتثبتت الدينونة عليهم؛ لأن منهم من سمع الصوت، وتعرف على الله, وأطاع، وتبع, هؤلاء هم بالحق أبناء الميراث وحفدة الآباء والأنبياء، هؤلاء كانوا معروفين لله والمسيح منذ البدء منذ إنشاء العالم، أسماؤهم مكتوبة كنقش الحجارة على كف الله الآب منذ الدهر, هؤلاء هم بنو الله الحى, أبناء الملكوت, أهل بيت الله، خراف اليمين, أصدقاء العريس, ومدعوو العرس السماوي، ورثة العهد الأبدي، وأصحاب صهيون الجديدة: «وقالت صهيون: قد تركني الرب, وسيدي نسيني. هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك. هوذا على كفي نقشتك, أسوارك أمامي دائماً.» (إش14:49-16)
هؤلاء قد تثبتت لهم الحياة الأبدية كميراث، كما بقسم إلهي، ليس لأنهم عرفوا الرب وكأنهم اكتشقوه، بل لأنهم لما لم يريدوا أن يعرفوا سواه، أدركوا أنهم معروفون عنده، وبقي هو نصيبهم كما هو!! «نصيبي هو الرب قالت نفسي» (مرا24:3)، «إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك.» (يو68:6)
هؤلاء لم يحبوا الرب كأنهم أصحاب فضل، ولكن لأنهم لما «لم يحبوا حياتهم حتى الموت» (رؤ11:12), انسكب روح الحياة وحب الله في قلبهم, فصاروا أحياء، أحباء، ومحبوبين.
هؤلاء يقول الرب عنهم إنهم خراف الحياة الأبدية، فهي لن تهلك إلى الأبد، ليس لأنه حصنها ضد الهلاك, ولكن لأنها تحصنت بالرب ضد نفسها، فلا يُهلك النفس إلا نفسها... وهل الخراف الناطقة بالروح التي سمعت صوت الله وظفرت بالمسيرة خلف الراعي الصالح تخشى موارد الهلاك؟ «أيضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا, لأنك أنت معي» (مز4:23). وهل يستطيع الذئب أن يخطف نفساً أمسك بها الرب يسوع؟ فأن يُمسك الرب نفساً هو هو على المستوى اللاهوتي أن يتحد بها؛ وعلى المستوى الإنجيلي هي تصير من «أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه» (أف30:5). وبعد هذا هل يمكن أن يخطفها أحد من يده؟
الإعلان الأعظم عن سر الحياة والأمان المطلق لمختاري الله
«أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل, ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد»: المعنى سهل لو تتبعنا تداعي المعاني السابقة، فالفريسيون يدعون السيادة على الشعب، بصفتهم رعاة استلموا الرعاية من ابائهم بمقتضى تلمذتهم لموسى والناموس الذي استلمه موسى بيد ملائكة. لكن المسيح يستعلن المصدر الذي استلم منه الرعاية، وبالتالي الخراف، فليس هو الآباء ولا موس ولا الناموس من يد ملائكة، بل من الله مباشرة بصفته أباه «أبي»، والله بصفته أبا ربنا يسوع المسيح هو أعظم من الكل، أعظم من الآباء جيعا ومن موسى ومن الملائكة ومن كل ما في السموات أو الأرض. والخراف المختارة هي في الحقيقة ملك الله وحده. والله, وإن كان قد استأمن الآباء والأنبياء والملوك قديما على خرافة, إلا أنهم كانوا كلهم عبيدا أخطأوا، وزلوا جميعا على مستوى الخراف ذاتها. أما المسيح فقد أعطاه الآب الخراف عن جدارة بصفته الابن المحبوب القدوس والممجد والمساوي للآب. فانتقلت الخراف من يد الآب إل يد الابن كما من المثيل إلى المثيل: «كانوا لك وأعطيتهم لي» (يو6:17). انتقلت من يد المالك إلى الفادي، ولو تمعن القارىء لوجد أن الفادي والمالك واحد, لأن الفادي فدى خراف الآب الضالة بحياته، وإذ فداها بحياته يكون قد امتلكها، ولكنه بالنهاية امتلكها لحساب المالك: «وبعد ذلك... متى سلم الملك لله الآب... » (اكو24:15) «أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم, كانوا لك وأعطيتهم لى... وكل ما هو لى فهو لك, وما هو لك فهو لي... » (يو6:17و10)
«ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي»: الذين فداهم المسيح، قدسهم بالروح القدس، ثم قدسهم للآب بالتالى لينالوا تقديس الآب كما نالوا تقديس الابن والروح القدس: «لأنه به (بالمسيح) لنا كلينا (اليهود والأمم) قدوما في روح واحد إلى الآب» (أف18:2). ثم يكمل بولس الرسول ليوضح منتهى مشيئة الله من جهة مختاريه هكذا: «فلستم إذا بعد غرباء ونًزلا، بل رعية (خراف) مع القديسين وأهل بيت الله» (أف19:2). فالذين كانوا ممسوكين بيد المسيح (متحدين)، ولم يستطيع أحد أن يخطفهم من يد المسيح لأنه وضع حياته ثمناً لحياة كل خروف، وصاروا أعضاء جسده من لحمه ومن عظامه، هؤلاء صاروا بالتالى في يد الآب محفوظين مع القديسين، مختومين رعية الله الآب، محسوبين أهلا في بيت الله. أما الذين هم في يد الآب فلم يعد يقدر أحد أن يخطفهم، ولا حتى الشيطان يستطيع أن يمسهم، لأن روح الله صار هوبذرة الحياة التي يحيونها في الله كأبناء, أي صاروا متحدين بالآب كما هم متحدون بالابن والروح القدس.
فالقديس يوحنا مهد لهذا المعنى، من قبل، بقوله: «أما كل الذين قبلوه (قبلوا المسيح) فأعطاهم سلطاناً (الروح القدس) أن يصيروا أولاد الله, أي المؤمنون باسمه (المسيح)، الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله» (يو12:1-13) ويكمل القديس يوحنا مفهوم «المولود من الله» هكذا: «كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه (بذرة حياة الله) يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله...» (1يو9:3)
ولكن، إذ يظهر من هذا أن هناك وعداً من الله بالحفظ الكامل والنهائي للذين قبلوا المسيح وصاروا أولاد الله، يتحتم علينا أن نفرق بين تأكيدات وعود الله النابعة والمتشية مع قدراته السرمدية اللانهائية من جهة, وبين ضعف الإنسان وتغيرات مشيئاته من جهة أخرى. فإذا سقط الإنسان من حياته الروحية في مرحلة من مراحل نموه وتكامله، فهذا ليس قصوراً في عمل النعمة الإلهية, ولا هو بسبب طغيان الشر فوق ما يحتمل الإنسان، ولكن السبب والعلة إنما هما في عدم استخدام الإنسان لعوامل النعمة المتعددة والموضوعة لخدمته, واستهانته بخديعة الخطية، فالإنسان يستحيل أن يُحفظ ضد نفسه رغم مشيئته!!!
إذن، لماذا أعطى الله لنا هذه التأكيدات، وكأنها أسوار تحمينا كلية وكاملة؟ السبب في ذلك غاية في العجب وغاية في القوة: وهو أن من يتمسك بهذه التأكيدات الإلهية تمسكاً قويا بكل قلبه وفكره وقدرته ومن كل نفسه، يفوز بعملها الكامل بلا نقصان، والقصص في ذلك كثيرة. لهذا يعطي القديس يوحنا تكميلاً لمفهوم الميلاد من الله وعمل بذرة الله في كيان الإنسان إيجابياً من قتل استجابة الإنسان هكذا: «نعلم أن كل من وُلد من الله لا يخطىء، بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه» (ايو18:5). هنا «بذرة الله» أثمرت قوة في الإنسان، يحفظ بها نفسه ضد إغراءات الخطية وسطوة الشر والشرير، إلى الدرجة التي فيها, في هذه القوة, لا يستطيع الشيطان أن يقترب إليه!! وهذا ما نسمعه كثيرا وكثيرا جداً في تاريخ حياة القديسين في كل جيل وفي كل أمة.
وهذا الكلام الذي يقوله الرب يسوع عن الأمان والعناية والرعاية معاً والحفظ في يد الله، هذه التي يطرحها كوثيقة من الآب نفسه ويضمنها المسيح بحياته للذين يتبعونه ويعيشون تحت رعايته, سبق أن عبر عنها الروح في العهد القديم كوعد سيكون وقد كان: «أنتم شهودي يقول الرب، وعبدي, الذي اخترته، لكي تعرفوا وتؤمنوا بي، وتفهموا أني أنا هو, قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب وليس غيري مُخلّص. أنا أخبرت وخلصت وأعلمت وليس بينكم غريب، وأنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله. أيضاً من اليوم أنا هو ولا منقذ من يدي, أفعل ومن يرد» (إش10:43-13). وتوضيح ذلك، أن كل الذين هم تحت رعاية المسيح، هم بالتال تحت حماية الله نفسه كوعد... لأن حماية الله الفائقة المتساوية مع قدراته, تضمنها الآن علاقة المسيح بالآب.
كثير من المفسرين غير المستقيمي الفكر أرادوا أن يُضعفوا من فهم هذه الآية على أنها لا تختص بلاهوت المسيح ومساواته لله الآب. ولكن رد فعل هذه الآية على أسماع وأفهام اليهود، وهم أقدر العلماء قاطبة في فهم وتحديد مفهوم الله، هو الذي يؤكد المعنى الذي قصده الرب يسوع: «أنت تجدف», «وأنت إنسان», «أنت تجعل نفسك إلها». ولكن المسيح لا يجدف، ولا يجمل نفسه غير نفسه، فهو إله, وليس ذلك فقط, فقول المسيح: «أنا والآب واحد»، يفوق ما تصوره اليهود أيضاً. فهو عندما قال: «أنا والآب واحد»، لا يقصد أن يعرف نفسه أنه إله وحسب, بل أراد أن يعرف ماهية نفسه بالنسبة لماهية الآب، حيث الـ «ماهية» هي الطبيعة، فالمسيح والآب طبيعة واحدة، ولكن لم يذكر المسيح كلمة الطبيعة ولكنه كان يعبر عنها في كل أحاديثه.
فالمسيح احتوى معنى الطبيعة الواحدة, أي الجوهر، أي الكيان اللاهوتي, الذي له كما هو للآب في معنى الفداء الواحد الذي أكمله المسيح بالعمل مع الآب، بالمشيئة, بالنسبة للخراف. فقوة الفداء غير منقسمة ولا متوزعة بالتساوي بين الآب والمسيح, بل هي قوة واحدة لله مشيئة وعملاً. كذلك الحب الواحد كقوة فعالة, لم يتنازل عنها الآب للابن من نحو الخراف، ولم تنقسم أو تتوزع أعمال الحب الواحد بين الآب والمسيح، بل المسيح أكمله تماماً ولا يزال يكمله مع الآب. فمحبة الله واحدة من نحو الأخصاء, الخراف, والآب يعبر عنها تعبيراً كلياً كما يعبر عنها المسيح تعبيراً كلياً. وهذا كان واضحاً تمام الوضوح، دون أي مفارقة أو تمييز بين الحفظ في يد المسيح والحفظ في يد الآب. فلا استطاعة لأحد ما أن يخطفها من يد المسيح، كما لا استطاعة لأحد ما أن يخطفها من يد الآب. وهذا تعبير ضمني عن وحدة القوة الإلهية مع وحدة الحب الإلهي من نحو الخراف للآب كما للمسيح.
فإذا انتقلنا من وحدة قوى الجوهر الإلهي, وهي القدرة اللانهائية والحب الأبدي للآب والابن, إلى الابوة والبنوة وهي صفة الجوهر الإلهي، نجد أن الآب والابن هما ذات واحدة (مع الروح القدس)، وشخصية معنوية واحدة (الله)، وكيان إلهي واحد: «أنا هو»، أزلي لا بداية ولا نهاية له
فقول المسيح: «أنا والآب واحد»، آية مانعة للخلط في الجوهر الإلهي، وهي محملة بكل المعاني الإلهية، لأنها تشمل مفهوم وحدة قوى الجوهر, أي الطبيعة, ووحدة الذات أي الصفة الجوهرية، حيث لا يتبقى للتمييز بين الآب والابن إلا صفة الابوة والبنوة. فالآب ليس ابناً والابن ليس آباً، والأبوة والبنوة هما في الذات الواحدة لله. والذي يجعل هذه الآية معيارا لاهوتيأ غنيا نستقي منه أعمق وأخصب, بل وأعز المكاسب الروحية والخلاصية، هو أن الذي يقولها هو«المسيح», الابن متجسداً, أي الحامل جسد إنسان، فالتجسد هنا داخل في الاعتبار, أي داخل في التكوين المعنوي لقول المسيح: «أنا والآب واحد».
فإذا تنبهنا أن البشرية المفدية, أي الأخصاء الذين يؤمنون ويحبون ويحيون في الرب، هم داخلون ومتحدون «بالجسد السرى» الذي للمسيح, لأدركنا كم تكون هذه الآية ذات اعتبار خطير وضمان وثيق لحياتنا الأبدية ورجائنا العتيد في المجد، كأبناء وورثة مع المسيح في الله، كقول بولس الرسول.
وفي النهاية، يلزم أن ننبه أن كل تماحك لإضعاف مفهوم هذه الآية: « أنا والآب واحد»، كأن ينسبها البعض إلى واحدية أدبية أخلاقية أو روحية، يلزم أن نعترف في وجهه بشرح اليهود لهذه الآية، وهم المتعصبون لمفهوم لاهوت الله إلى أقص حدود التعصب حتى إلى الرجم: «لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف, فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً»، علما بأن المسيح لم ينفي هذا المعنى الذي فهموه، الذي هو نفس القصد الذي قصده هو، بل زاده تأكيداً!!
ولا يفوتنا أن نعرف هنا، أن المسيح يكشف عن وحدة لاهوته مع الآب ليرفع من مستوى مفهومنا لمقدار الحفظ والأمان اللذين يتمتع بهما المؤمنون المتمسكون بالرب، فهما قائمان بضمان وحدة الابن والآب معاً. وهذا بحد ذاته هو قوة الله وقوة الرجاء في الخلاص الذي أكمله المسيح لنا.
كثير من المفسرين غير المستقيمي الفكر أرادوا أن يُضعفوا من فهم هذه الآية على أنها لا تختص بلاهوت المسيح ومساواته لله الآب. ولكن رد فعل هذه الآية على أسماع وأفهام اليهود، وهم أقدر العلماء قاطبة في فهم وتحديد مفهوم الله، هو الذي يؤكد المعنى الذي قصده الرب يسوع: «أنت تجدف», «وأنت إنسان», «أنت تجعل نفسك إلها». ولكن المسيح لا يجدف، ولا يجمل نفسه غير نفسه، فهو إله, وليس ذلك فقط, فقول المسيح: «أنا والآب واحد»، يفوق ما تصوره اليهود أيضاً. فهو عندما قال: «أنا والآب واحد»، لا يقصد أن يعرف نفسه أنه إله وحسب, بل أراد أن يعرف ماهية نفسه بالنسبة لماهية الآب، حيث الـ «ماهية» هي الطبيعة، فالمسيح والآب طبيعة واحدة، ولكن لم يذكر المسيح كلمة الطبيعة ولكنه كان يعبر عنها في كل أحاديثه.
فالمسيح احتوى معنى الطبيعة الواحدة, أي الجوهر، أي الكيان اللاهوتي, الذي له كما هو للآب في معنى الفداء الواحد الذي أكمله المسيح بالعمل مع الآب، بالمشيئة, بالنسبة للخراف. فقوة الفداء غير منقسمة ولا متوزعة بالتساوي بين الآب والمسيح, بل هي قوة واحدة لله مشيئة وعملاً. كذلك الحب الواحد كقوة فعالة, لم يتنازل عنها الآب للابن من نحو الخراف، ولم تنقسم أو تتوزع أعمال الحب الواحد بين الآب والمسيح، بل المسيح أكمله تماماً ولا يزال يكمله مع الآب. فمحبة الله واحدة من نحو الأخصاء, الخراف, والآب يعبر عنها تعبيراً كلياً كما يعبر عنها المسيح تعبيراً كلياً. وهذا كان واضحاً تمام الوضوح، دون أي مفارقة أو تمييز بين الحفظ في يد المسيح والحفظ في يد الآب. فلا استطاعة لأحد ما أن يخطفها من يد المسيح، كما لا استطاعة لأحد ما أن يخطفها من يد الآب. وهذا تعبير ضمني عن وحدة القوة الإلهية مع وحدة الحب الإلهي من نحو الخراف للآب كما للمسيح.
فإذا انتقلنا من وحدة قوى الجوهر الإلهي, وهي القدرة اللانهائية والحب الأبدي للآب والابن, إلى الابوة والبنوة وهي صفة الجوهر الإلهي، نجد أن الآب والابن هما ذات واحدة (مع الروح القدس)، وشخصية معنوية واحدة (الله)، وكيان إلهي واحد: «أنا هو»، أزلي لا بداية ولا نهاية له
فقول المسيح: «أنا والآب واحد»، آية مانعة للخلط في الجوهر الإلهي، وهي محملة بكل المعاني الإلهية، لأنها تشمل مفهوم وحدة قوى الجوهر, أي الطبيعة, ووحدة الذات أي الصفة الجوهرية، حيث لا يتبقى للتمييز بين الآب والابن إلا صفة الابوة والبنوة. فالآب ليس ابناً والابن ليس آباً، والأبوة والبنوة هما في الذات الواحدة لله. والذي يجعل هذه الآية معيارا لاهوتيأ غنيا نستقي منه أعمق وأخصب, بل وأعز المكاسب الروحية والخلاصية، هو أن الذي يقولها هو«المسيح», الابن متجسداً, أي الحامل جسد إنسان، فالتجسد هنا داخل في الاعتبار, أي داخل في التكوين المعنوي لقول المسيح: «أنا والآب واحد».
فإذا تنبهنا أن البشرية المفدية, أي الأخصاء الذين يؤمنون ويحبون ويحيون في الرب، هم داخلون ومتحدون «بالجسد السرى» الذي للمسيح, لأدركنا كم تكون هذه الآية ذات اعتبار خطير وضمان وثيق لحياتنا الأبدية ورجائنا العتيد في المجد، كأبناء وورثة مع المسيح في الله، كقول بولس الرسول.
وفي النهاية، يلزم أن ننبه أن كل تماحك لإضعاف مفهوم هذه الآية: « أنا والآب واحد»، كأن ينسبها البعض إلى واحدية أدبية أخلاقية أو روحية، يلزم أن نعترف في وجهه بشرح اليهود لهذه الآية، وهم المتعصبون لمفهوم لاهوت الله إلى أقص حدود التعصب حتى إلى الرجم: «لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف, فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً»، علما بأن المسيح لم ينفي هذا المعنى الذي فهموه، الذي هو نفس القصد الذي قصده هو، بل زاده تأكيداً!!
ولا يفوتنا أن نعرف هنا، أن المسيح يكشف عن وحدة لاهوته مع الآب ليرفع من مستوى مفهومنا لمقدار الحفظ والأمان اللذين يتمتع بهما المؤمنون المتمسكون بالرب، فهما قائمان بضمان وحدة الابن والآب معاً. وهذا بحد ذاته هو قوة الله وقوة الرجاء في الخلاص الذي أكمله المسيح لنا.
المسيح يشهد بالمزمور الثاني والثمانين: «الله قائم في مجمع الله, فى وسط الالهة يقضي ... انا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم». فالوحي الإلهي هنا يعطي صفة الآلهة للمجمع الذي يجتمع على أساس الحكم بكلمة الله. فالذي أُعطي كلمة الله ليعيش وليحكم بها لمدعو من الله, هو فى الناموس اليهودي (ناموسكم) محسوب بصفة إله من نحو الناس من أجل كلمة الله؛ «ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضاً» (عب4:5). وصفة إله أطلقت أيضاً على موسى لأن الله وضع كلمته في فمه يكلم بها هرون كأنها من الله «وهو يكلم الشعب عنك. وهو يكون لك فما وأنت تكون له إلهاً.» (خر16:4)
المسيح هنا يشير إشارة بالغة الخطورة إلى القيمة الإلهية للناموس، كعهد الله مع الإنسان، الذي لم يُنقض بالرغم من أن هؤلاء الناس (القضاة) الذين دعوا آلهة نقضوا الناموس وأهانوا الكلمة وأتعبوا قلب الله: «الله قائم ... في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار... لا يعلمون ولا يفهمون. في الظلمة يتمشون. تتزعزع كل أسس (الحق) الأرض. أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون. قم يا الله دن الأرض, لأنك أنت تمتلك كل الأمم.» (مز1:82-8)
والإشارة هنا بليفة، تهدف إلى رفض هؤلاء القضاة الظلمة وإلى إسقاطهم من رتبتهم العالية، وهو تعبير عن نقض العهد القديم بقوله: «لكن مثل الناس تموتون» بمعنى فقدان الصفة الإلهية التي كانت تؤهلهم للاتحاد بالله وبالتالي ميراث الحياة الأبدية؛ بل ويزيد على ذلك أن سقوطهم سيكون كسقوط الشيطان: «وكأحد الرؤساء تسقطون». وبنهاية سقوط حكمهم وقضائهم بالناموس، ينتهي العهد القديم، فيقوم الله ليدين ويملك على الأمم، والإشارة هنا للمسيح.
كذلك يلزم أن ننتبه إلى بقية الآية التي اختارها المسيح من المزمور: «أنا قلت إنكم آلهة»، لأن باقي الكلام «وبنى العلي كلكم»، وهذا يأتي حبكاً محكماً على تطبيق المسيح الكلام على نفسه: «أتقولون له إنك تجدف، لأني قلت إني ابن الله؟» فالتطبيق هنا يتم على جزئين:
الجزء الأول: «انا قلت إنكم آلهة»، حيث التطبيق يأتي ردا على ادعائهم أن كون المسيح إلهاً يعتبر تجديفاً، في حين أن كل الذين صارت إليهم كلمة الله يدعون في الناموس آلهة.
والتطبيق الثاني يأتي كتغطية إيجابية على قول المسيح أنه «ابن الله» فلا عجب في ذلك إذا كان كل من صارت إليهم كلمة الله دُعوا في الناموس بني العلي, وأبناء الله.
وقصد المسيح من طرح هذا الاقتباس من الناموس، وخاصة عند قوله: «ولا يمكن أن يُنقض المكتوب»، هو أن الناموس سبق ومهد بالحق للأذهان إمكانية دعوة الإنسان في شخص يسوع المسيح لحمل صفة اللاهوت، كما أن هذه الدعوة نفسها أعطت الإنسان في شخص يسوع المسيح الإمكانية أن يكون هو ابن الله. هذا من جهة الفكر الناموسي. ولكن المسيح الآن يرتفع من هذا الفرض إلى الواقع، ويقدم نفسه كإله وابن الله بالفعل، مبرهناً على صدق ذلك بأنه إن كان مجرد الذين صارت إليهم كلمة الله ليحكموا بها أو ليحكم هو (الكلمة) بهم، هكذا دُعُوا آلهة وبني العلي، فكم يكون بالحري الذي هو هو «الكلمة» ذاته، الذي إذ أخذ جسدا قدمه الآب وأرسله إلى العالم، ليستعلن الله الآب، وليعطي الناس كلمة الله؟ فهل يُحسب مجدفاً إن قال: «أنا ابن الله»؟ أو إن قال: «أنا والآب واحد»؟
وفي الحقيقة، إن المقارنة هنا غير معقولة وغير متكافئة، ويقدمها المسيح تهكماً من عقولهم، لأنه إذا أردنا أن نوضح هذه المقارنة على حقيقتها تكون كالآتي: «كلمة الله» وهو المسيح قبل التجسد، عندما أعطى رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين أن يحكموا بقتضى إلهامه بحسب الحق، وهم لم يحكموا أبدأ بالحق، دعوا آلهة وبني العلي، وهم لم يكونوا من القداسة في شيء. ولما جاء «كلمة الله» ذاته متجسداً، وهو المسيح، مقدساً ومرسلاً من الآب، وقال إنه ابن الله، قالوا له أنت تجدف. علماً بأن كلمة «قدسه» تفيد التخصيص لعمل الله في العالم، والذي يتمحور حول خلاص الإنسان.
وعلينا أن ننتبه إلى العلاقة بين قول المسيح: «إني ابن الله»، وقوله السابق: «أنا والآب واحد»، وقول اليهود له: «وأنت إنساناً تجعل نفسك إلهاً»، فبهذه الإعلانات الثلاثة يقوم علم اللاهوت، فيما يختص بالمسيح في العهد الجديد، بكل امتداده من نحو الإنسان من جهة الإتحاد بالله والتبني.
فقول المسيح: «إني ابن الله»، هو تكميل لاهوتي محكم لقوله السابق: «أنا والآب واحد». هنا يكمل الإعلان أن الله آب وابن معاً، في وحدة ذاتية مطلقة لا تقربها الثنائية إطلاقاً، لا في الجوهر ولا في الذاتية. كما أن شرح اليهود لمضمون معنى «أنا والآب واحد» بأن المسيح وهو إنسان (جعل) نفسه إلهاً, وموافقة المسيح على ذلك, يضيف «سر التجسد» داخل وحدة الآب والابن, وبالتالي يُدخل البشرية في سر الله. وهنا كمال السر وكمال العجب.
ولكن العجيب حقا أن تكون هذه الصورة اللاهوتية موجودة كاملة في العهد القديم بالذات: هذا المزمور الذي اختاره المسيح ليستعلن فيه نظرة الناموس كله من نحو لاهوته وبنوته الفريدة، وبالتالي من نحو إتحاد الإنسان به؛ فقوله: «أنا قلت إنكم آلهة» هذه عملية مثيلة لعملية الخلق ومكملة لها: «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تك26:1). ومن الاثنين يتضح أصالة تدبير الله من حيث قبول الإنسان للاتحاد بالله والحياة معه، ليس خلسة, بل بقدر ما تنطبق الصورة على الأصل، لأنها لهذا خلقت ولهذا عاشت، وان ماتت فلكي تقوم وتزداد أصالة.
هذا هو روح الناموس وخلاصته، فالناموس في العهد القديم ليس كما يراه اليهود: أنه دعوة لإفراز الله بعيدا عن الإنسان بعدا مطلقاً، وتوحيده توحيدا مطلقاً، ضمانأ لعدم مساسه بنجاسات فكر الإنسان؛ ولكن الناموس في حقيقته، وكما كشفه المسيح، على العكس تماماً, فالعهد القديم وكل الناموس يقوم على تقريب الإنسان إلى الله تقريباً شديداً جداً: «نعمل الإنسان على صورتنا, كشبهنا». و يظهر ذلك أكثر في محاولة الله من جهته لرفع الفوارق والحواجز التي تحرم الإنسان من الدخول في دائرة اختصاصات الله الخاصة جداً: «أنا قلت: إنكم آلهة».
هنا الله يمنح نفسه للانسان بمقولة نافذة الفعل والمفعول تتخطى كل عجز الإنسان، لتلبسه تاج الألوهة بلا قيد ولا شرط، وعلى الإنسان أن يأخذ منه قدر ما يحتمل وقدر ما تطمع نفسه في سخاء حب الله، حيث أعطى المسيح لنا الصورة الأعلى والأعظم والمطلقة بلا حدود لكيف يحل الله في الإنسان: «الآب الحال في هو يعمل الأعمال» (يو10:14), «فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً، وأنتم مملوؤون فيه» (كو9:2-10). ثم أليس في المسيح رُئي الإنسان إلها, أو على وجه الأصح رُئي الله في صورة الإنسان «الذي وُضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة» (عب9:2)؟ إذن, لم يكن عبثاً أن يقول الناموس «أنا قلت إنكم آلهة», فالإشارة هادفة رأساً إلى المسيح, ومنه إلينا، فالوحي الإلهي هنا يخاطب الناس في المسيح!
ثم في قول الناموس: «وبنو العلي كلكم» تُظهر نتيجة عطاء الله لنفسه، كيف يشد الإنسان ليرفعه من العبودية إلى التبني, فالذي يأخذه الإنسان من الله كفيل, بحد ذاته, أن يمنحه حق التبني. ولكن, وبطريق غير مباشر, يظهر الابن كوسيط لهذا التبني والتقرب إلى الآب. فالمسيح الذي أخذ الآب لنفسه أخذا كليا ومطلقا، كابن وحيد لأبيه، أعطي أن يعطي لأحبائه قدر ما يشاء من ميراثه البنوي لأبيه. «الروح نفسه أيضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً, ورثة الله ووارثون مع المسيح.» (رو16:8-17)
ولكن الناموس في العهد القديم قد أخفق في أن يعطي الناس الألوهة والبنوة للعلي التي نطق بها الله، التي كان يلزم أيضا أن يرافقها عدم الموت، كما يقول الزمور: «ولكنكم مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون». هنا يكشف الناموس عن عجزه، لأن الناموس في كلياته وجزئياته لم يكن إلا شبه السماويات وظلها... كذلك لم يكن إلا ليمهد للحق الإلهي النازل من السماويات, النور الحقيقي الذي ليس فيه ظل دوران، الذي له ملء الحياة، القائم والمقيم من الأموات، الواهب التبني لبني العلي، بضمان بنوته الإلهية القائمة في ذات الله منذ الأزل. لذلك, فإنه بالمسيح وحده يكمل الناموس، وفيه يتحقق وعد الله ويظفر الإنسان بكل المواعيد الصادقة والأمينة.
المسيح يشهد بالمزمور الثاني والثمانين: «الله قائم في مجمع الله, فى وسط الالهة يقضي ... انا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم». فالوحي الإلهي هنا يعطي صفة الآلهة للمجمع الذي يجتمع على أساس الحكم بكلمة الله. فالذي أُعطي كلمة الله ليعيش وليحكم بها لمدعو من الله, هو فى الناموس اليهودي (ناموسكم) محسوب بصفة إله من نحو الناس من أجل كلمة الله؛ «ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضاً» (عب4:5). وصفة إله أطلقت أيضاً على موسى لأن الله وضع كلمته في فمه يكلم بها هرون كأنها من الله «وهو يكلم الشعب عنك. وهو يكون لك فما وأنت تكون له إلهاً.» (خر16:4)
المسيح هنا يشير إشارة بالغة الخطورة إلى القيمة الإلهية للناموس، كعهد الله مع الإنسان، الذي لم يُنقض بالرغم من أن هؤلاء الناس (القضاة) الذين دعوا آلهة نقضوا الناموس وأهانوا الكلمة وأتعبوا قلب الله: «الله قائم ... في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار... لا يعلمون ولا يفهمون. في الظلمة يتمشون. تتزعزع كل أسس (الحق) الأرض. أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون. قم يا الله دن الأرض, لأنك أنت تمتلك كل الأمم.» (مز1:82-8)
والإشارة هنا بليفة، تهدف إلى رفض هؤلاء القضاة الظلمة وإلى إسقاطهم من رتبتهم العالية، وهو تعبير عن نقض العهد القديم بقوله: «لكن مثل الناس تموتون» بمعنى فقدان الصفة الإلهية التي كانت تؤهلهم للاتحاد بالله وبالتالي ميراث الحياة الأبدية؛ بل ويزيد على ذلك أن سقوطهم سيكون كسقوط الشيطان: «وكأحد الرؤساء تسقطون». وبنهاية سقوط حكمهم وقضائهم بالناموس، ينتهي العهد القديم، فيقوم الله ليدين ويملك على الأمم، والإشارة هنا للمسيح.
كذلك يلزم أن ننتبه إلى بقية الآية التي اختارها المسيح من المزمور: «أنا قلت إنكم آلهة»، لأن باقي الكلام «وبنى العلي كلكم»، وهذا يأتي حبكاً محكماً على تطبيق المسيح الكلام على نفسه: «أتقولون له إنك تجدف، لأني قلت إني ابن الله؟» فالتطبيق هنا يتم على جزئين:
الجزء الأول: «انا قلت إنكم آلهة»، حيث التطبيق يأتي ردا على ادعائهم أن كون المسيح إلهاً يعتبر تجديفاً، في حين أن كل الذين صارت إليهم كلمة الله يدعون في الناموس آلهة.
والتطبيق الثاني يأتي كتغطية إيجابية على قول المسيح أنه «ابن الله» فلا عجب في ذلك إذا كان كل من صارت إليهم كلمة الله دُعوا في الناموس بني العلي, وأبناء الله.
وقصد المسيح من طرح هذا الاقتباس من الناموس، وخاصة عند قوله: «ولا يمكن أن يُنقض المكتوب»، هو أن الناموس سبق ومهد بالحق للأذهان إمكانية دعوة الإنسان في شخص يسوع المسيح لحمل صفة اللاهوت، كما أن هذه الدعوة نفسها أعطت الإنسان في شخص يسوع المسيح الإمكانية أن يكون هو ابن الله. هذا من جهة الفكر الناموسي. ولكن المسيح الآن يرتفع من هذا الفرض إلى الواقع، ويقدم نفسه كإله وابن الله بالفعل، مبرهناً على صدق ذلك بأنه إن كان مجرد الذين صارت إليهم كلمة الله ليحكموا بها أو ليحكم هو (الكلمة) بهم، هكذا دُعُوا آلهة وبني العلي، فكم يكون بالحري الذي هو هو «الكلمة» ذاته، الذي إذ أخذ جسدا قدمه الآب وأرسله إلى العالم، ليستعلن الله الآب، وليعطي الناس كلمة الله؟ فهل يُحسب مجدفاً إن قال: «أنا ابن الله»؟ أو إن قال: «أنا والآب واحد»؟
وفي الحقيقة، إن المقارنة هنا غير معقولة وغير متكافئة، ويقدمها المسيح تهكماً من عقولهم، لأنه إذا أردنا أن نوضح هذه المقارنة على حقيقتها تكون كالآتي: «كلمة الله» وهو المسيح قبل التجسد، عندما أعطى رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين أن يحكموا بقتضى إلهامه بحسب الحق، وهم لم يحكموا أبدأ بالحق، دعوا آلهة وبني العلي، وهم لم يكونوا من القداسة في شيء. ولما جاء «كلمة الله» ذاته متجسداً، وهو المسيح، مقدساً ومرسلاً من الآب، وقال إنه ابن الله، قالوا له أنت تجدف. علماً بأن كلمة «قدسه» تفيد التخصيص لعمل الله في العالم، والذي يتمحور حول خلاص الإنسان.
وعلينا أن ننتبه إلى العلاقة بين قول المسيح: «إني ابن الله»، وقوله السابق: «أنا والآب واحد»، وقول اليهود له: «وأنت إنساناً تجعل نفسك إلهاً»، فبهذه الإعلانات الثلاثة يقوم علم اللاهوت، فيما يختص بالمسيح في العهد الجديد، بكل امتداده من نحو الإنسان من جهة الإتحاد بالله والتبني.
فقول المسيح: «إني ابن الله»، هو تكميل لاهوتي محكم لقوله السابق: «أنا والآب واحد». هنا يكمل الإعلان أن الله آب وابن معاً، في وحدة ذاتية مطلقة لا تقربها الثنائية إطلاقاً، لا في الجوهر ولا في الذاتية. كما أن شرح اليهود لمضمون معنى «أنا والآب واحد» بأن المسيح وهو إنسان (جعل) نفسه إلهاً, وموافقة المسيح على ذلك, يضيف «سر التجسد» داخل وحدة الآب والابن, وبالتالي يُدخل البشرية في سر الله. وهنا كمال السر وكمال العجب.
ولكن العجيب حقا أن تكون هذه الصورة اللاهوتية موجودة كاملة في العهد القديم بالذات: هذا المزمور الذي اختاره المسيح ليستعلن فيه نظرة الناموس كله من نحو لاهوته وبنوته الفريدة، وبالتالي من نحو إتحاد الإنسان به؛ فقوله: «أنا قلت إنكم آلهة» هذه عملية مثيلة لعملية الخلق ومكملة لها: «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تك26:1). ومن الاثنين يتضح أصالة تدبير الله من حيث قبول الإنسان للاتحاد بالله والحياة معه، ليس خلسة, بل بقدر ما تنطبق الصورة على الأصل، لأنها لهذا خلقت ولهذا عاشت، وان ماتت فلكي تقوم وتزداد أصالة.
هذا هو روح الناموس وخلاصته، فالناموس في العهد القديم ليس كما يراه اليهود: أنه دعوة لإفراز الله بعيدا عن الإنسان بعدا مطلقاً، وتوحيده توحيدا مطلقاً، ضمانأ لعدم مساسه بنجاسات فكر الإنسان؛ ولكن الناموس في حقيقته، وكما كشفه المسيح، على العكس تماماً, فالعهد القديم وكل الناموس يقوم على تقريب الإنسان إلى الله تقريباً شديداً جداً: «نعمل الإنسان على صورتنا, كشبهنا». و يظهر ذلك أكثر في محاولة الله من جهته لرفع الفوارق والحواجز التي تحرم الإنسان من الدخول في دائرة اختصاصات الله الخاصة جداً: «أنا قلت: إنكم آلهة».
هنا الله يمنح نفسه للانسان بمقولة نافذة الفعل والمفعول تتخطى كل عجز الإنسان، لتلبسه تاج الألوهة بلا قيد ولا شرط، وعلى الإنسان أن يأخذ منه قدر ما يحتمل وقدر ما تطمع نفسه في سخاء حب الله، حيث أعطى المسيح لنا الصورة الأعلى والأعظم والمطلقة بلا حدود لكيف يحل الله في الإنسان: «الآب الحال في هو يعمل الأعمال» (يو10:14), «فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً، وأنتم مملوؤون فيه» (كو9:2-10). ثم أليس في المسيح رُئي الإنسان إلها, أو على وجه الأصح رُئي الله في صورة الإنسان «الذي وُضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة» (عب9:2)؟ إذن, لم يكن عبثاً أن يقول الناموس «أنا قلت إنكم آلهة», فالإشارة هادفة رأساً إلى المسيح, ومنه إلينا، فالوحي الإلهي هنا يخاطب الناس في المسيح!
ثم في قول الناموس: «وبنو العلي كلكم» تُظهر نتيجة عطاء الله لنفسه، كيف يشد الإنسان ليرفعه من العبودية إلى التبني, فالذي يأخذه الإنسان من الله كفيل, بحد ذاته, أن يمنحه حق التبني. ولكن, وبطريق غير مباشر, يظهر الابن كوسيط لهذا التبني والتقرب إلى الآب. فالمسيح الذي أخذ الآب لنفسه أخذا كليا ومطلقا، كابن وحيد لأبيه، أعطي أن يعطي لأحبائه قدر ما يشاء من ميراثه البنوي لأبيه. «الروح نفسه أيضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً, ورثة الله ووارثون مع المسيح.» (رو16:8-17)
ولكن الناموس في العهد القديم قد أخفق في أن يعطي الناس الألوهة والبنوة للعلي التي نطق بها الله، التي كان يلزم أيضا أن يرافقها عدم الموت، كما يقول الزمور: «ولكنكم مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون». هنا يكشف الناموس عن عجزه، لأن الناموس في كلياته وجزئياته لم يكن إلا شبه السماويات وظلها... كذلك لم يكن إلا ليمهد للحق الإلهي النازل من السماويات, النور الحقيقي الذي ليس فيه ظل دوران، الذي له ملء الحياة، القائم والمقيم من الأموات، الواهب التبني لبني العلي، بضمان بنوته الإلهية القائمة في ذات الله منذ الأزل. لذلك, فإنه بالمسيح وحده يكمل الناموس، وفيه يتحقق وعد الله ويظفر الإنسان بكل المواعيد الصادقة والأمينة.
الرب هنا ينتقل من الإقناع الفكري إلى الإقناع العملي، فيجعل أعماله التي يعملها بالآب هي القاعدة التي يبني عليها كيفية إدراك لاهوته. فهو يبدأ ببرهان العمل، وينتهي بنتيجة أنه هو والآب واحد؛ وهذا على أساس أن يكون ماثلا على الدوام في الأذهان أنه «مُرسل» من الآب ليعمل أعمال الآب!! الأمر الذي أشار إليه: «فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم...». الرب هنا يعتمد إمكانية رفض الإيمان بأقواله إذا لم تكن له أعمال الآب. وفي هذه الحالة يمكن رفض أقواله, باعتبار أنها غير صحيحة فرضاً, ولكن يتحتم أن يؤمنوا بأن الأعمال صحيحة، لأنها واضحة أمامهم وتشهد أنها بالله معمولة. وهنا لا يطلب المسيح, مبدئياً, أن يؤمنوا به شخصيا بل أن يقبلوا صحة أعماله, وهي حسب النص اليوناني واضحة، هيث تأتي بمعنى: «إن كنتم لا تصدقونني, فصدقوا الأعمال». وهي تأتي مطابقة لآية سابقة: «لو كنتم تصدقون موسى، لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني» (يو46:5)، وهي تأتي باللغة الإنجليزية واضحة بسبب الفرق بين «صدقني» =me believe وبين «آمن بي» = believe in me. فالمسيح يركز أساساً على الأعمال، ويطلب أن يقبلوها في حد ذاتها، فإذا قبلوها، فهي نفسها تحمل الشهادة له، لأنها عُملت على أساس أنها آية تشير إلى أن الذي قام بتفتيح العين هو أعظم وأهم من العين ذاتها بلا نزاع.
فالمسيح له الحق منتهى الحق أن يجعل الآيات التي عملها علة وسبباً مُلزماً لليهود أن يؤمنوا به، لأنها تفوق عمل أي بشر: «صدقوني أني في الآب والآب في، وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها» (يو11:14)، ولكن إذا تمادوا في المقاومة ولم يصدقوا الأعمال أيضاً، فهذا يصير لهم سبب دينونة: «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي.» (يو24:15)
«فآمنوا بالأعمال, لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا في الآب»: الرب هنا يستخدم الأعمال للاقناع الفكري ثم للايمان القلبي، وذلك بالنسبة للذين رفضوا استعلانه بالكلمة. وهنا يواجهنا في هذه الآية أربعة أفعال, كل فعل منها له أبعاده ويؤدي إلى الآخر حتى تبلغ الحقيقة الإلهية:
الفعل الأول: هو الأ عمال التي عملها الرب, وهو الفعل الذي يحوي في أعماقه حقيقة صانعه. فأبعاد عمل الرب تحوي بالأساس عمل الآب وعمل الابن، ويلزم الاحساس بهما من داخل العمل، أي من قوة المعجزة المصنوعة. فتفتيح عين الأعمى هو بالأساس عمل الله, ما من ذلك شك على الإطلاق. والذي قام بالعمل هو المسيح علانية.
الفعل الثاني: هو تصديق العمل «آمنوا بالأعمال»، وفعل التصديق مستمد من صحة العمل المعمول. فالأعمى وُلد أعمى بشهادة أبويه، وهو الآن يبصر، فالتصديق أصبح حتميا. ولكن التصديق بالآية المعمولة معناه مواجهة لتصديق صانع الآية من داخل الآية، أي مواجهة الله صاحب المشيئة والمسيح صاحب العمل الذي يعمل بحسب مشيئة الآب.
الفعل الثالث: هو«لكي تعرفوا». الفعل «تعرفوا» هنا جاء في اليونانية ( ) وأمامها ( ) «لكي». المعرفة في هذا الفعل ليست معرفة سطحية عابرة, بل معرفة تؤدي إلى ما هو أكثر من معرفة, فالفعل هنا جاء بالمفهوم المدخلي, أي معرفة تنتهي إلى معرفة. فإذا انتبهنا لقول المسيح: «فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا»، ندرك في الحال ماذا يريد المسيح. فتصديق الأعمال يؤدي حتماً «لكي» إلى معرفة مستقرة ومتعمقة أو مستغرقة في الآية، لكشف قوتها وفهم مقاصدها وأهدافها، وتستمر هذه المعرفة تأخذ مجراها من كشف إلى كشف لكي تبلغ:
الفعل الرابع: «تؤمنوا» ( ). وفي الحقيقة جاء هذا النص هكذا في معظم المخطوطات اليونانية، فأضاعت عمق المعنى، ولكن في بعض الترجمات اللاتينية القديمة وبعض المخطوطات اليونانية ذات الحروف الكبيرة جاءت ( ) بمعنى الإدراك النهائي أو الاستقرار في المعرفة، وهذا مما جعل المخطوطات اليوناية تحولها إلى «تؤمنوا» الذي هو الاستقرار الأخير في المعرفة، أو «إيمان المعرفة».
ولكن ما هو موضوع المعرفة المؤدية إلى الإيمان؟ هنا المسيح يستعلن نفسه: «إن الآب في وأنا في الآب»، كغاية ونهاية وكل مقصد الأعمال التي يعملها. والاستعلان, كالعادة, لا يأتي بصورة شخصية مفردة، بل بالنسبة للآب؛ ولا يأتي كمعلومة ليس لها برهان، بل ببرهان وقوة الآيات، فـ «الآب فىّ» لأن العمل الإعجازي هو أصلا عمل الله مائة بالمائة. وهذا بالتأكيد هو مسئولية «المعرفة» الفاحصة المستغرقة في الآية. و«أنا في الآب» لأني أنا الوحيد الذي عملت أعمالاً مثل هذه: «أعمالاً لم يعملها أحد غيري.» (يو24:15)
لذلك، أصبحت أعمال المسيح في حقيقتها استعلاناً ناطقاً لسر وحدة العلاقة بين المسيح والله الآب. لهذا جعل المسيح الإيمان بأعماله هو المدخل لمعرفة من هو، بالنسبة لليهود المتشككين الذين قالوا له: «إلى متى تعلق أنفسنا، إن كت أنت المسيح فقل لنا جهراً».
ولكننا نرى أن المسيح أعلن نفه بواسطة الكلمة فقط لتلاميذه الذين تركوا كل شيء وتبعوه، وليس بواسطة الأعمال، لأن «سر الرب لخائفيه» (مز14:25): «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به» (يو3:15)، «الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم, وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجت من عندك، وآمنوا أنك أنت أرسلتني.» (يو8:17)
فالرب يسوع المسيح مُستعلن بالكلمة بالنسبة لأحبائه: «الله... كلمنا... في ابنه» (عب1:1). والذين يقبلون الكلمة في قلب صالح، هم الذين هم أذان روحية للسمع، تدخلها الحياة الأبدية مع صوت ابن الله: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5). والذي ليست له أذن مفتوحة لسماع «الكلمة»، هيهات أن يؤمن: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولى» (يو43:8)، «الذي من الله يسمع كلام الله لذلك أنتم لستم تسمعون، لأنكم لستم من الله» (يو47:8). أما الذي يطلب آية فهو الجيل الشرير، الذي لا يتبقى له إلا خبر القيامة (راجع لو29:11).
وأخيراً، فلينتبه القارىء، لأن المسيح هو «الكلمة». هكذا جاء، وهكذا تجسد، وهكذا اُستعلن، وهذا هو إنجيل يوحنا كله. فالذي يمتلك الأذن الروحية، هو الذي له الطوبى، والقادر أن يتعرف على المسيح «الكلمة» ويقبل إليه: «قال له يسوع: لأنك رأيتي يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا.» (يو29:20)
ولكن، فلينتبه القارىء أيضاً، فلا تعارض إطلاقاً بين «الكلمة» و«الآية», فالآية هي كلمة معمولة, أو هي فعل. والفعل هو الكلمة فعالة. وليس أدل على ذلك من الترجمة الفرنسية لمطلع إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة»، حيث تأتي: «في البدء كان الفعل... »
ويلاحظ هنا أن اليهود يطلبون «الكلمة»: «قل لنا إن كنت أنت المسيح»، ولكن حينما «يتكلم» المسيح يعلن نفسه أنه هو المن (الخبز) الحقيقي النازل من السماء، يطلبون منه «آية». «أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟» (30:6). وفي هذا يتعجب عليهم ذهبي الفم بقوله: [حينما تصرخ الأعمال عالية يطلبون منه قولاً؛ وحينما يعلم بالكلمة, فحينئذ ينسحبون ويطلبون الأعمال. وهكذا يقفون الموقف المعاكس] (على الآية 30 من الأصحاح العاشر).
وفي رأي المسيح، فإن الأعمال تكفي كشهادة لليهود للايمان به، وأما المؤمنون, فالكلمة تكفي لتكون لهم قاعدة للايمان، ولا ينبغي أن يطلبوا معها آية ليزداد إيمانهم أو يثبت.
الرب هنا ينتقل من الإقناع الفكري إلى الإقناع العملي، فيجعل أعماله التي يعملها بالآب هي القاعدة التي يبني عليها كيفية إدراك لاهوته. فهو يبدأ ببرهان العمل، وينتهي بنتيجة أنه هو والآب واحد؛ وهذا على أساس أن يكون ماثلا على الدوام في الأذهان أنه «مُرسل» من الآب ليعمل أعمال الآب!! الأمر الذي أشار إليه: «فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم...». الرب هنا يعتمد إمكانية رفض الإيمان بأقواله إذا لم تكن له أعمال الآب. وفي هذه الحالة يمكن رفض أقواله, باعتبار أنها غير صحيحة فرضاً, ولكن يتحتم أن يؤمنوا بأن الأعمال صحيحة، لأنها واضحة أمامهم وتشهد أنها بالله معمولة. وهنا لا يطلب المسيح, مبدئياً, أن يؤمنوا به شخصيا بل أن يقبلوا صحة أعماله, وهي حسب النص اليوناني واضحة، هيث تأتي بمعنى: «إن كنتم لا تصدقونني, فصدقوا الأعمال». وهي تأتي مطابقة لآية سابقة: «لو كنتم تصدقون موسى، لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني» (يو46:5)، وهي تأتي باللغة الإنجليزية واضحة بسبب الفرق بين «صدقني» =me believe وبين «آمن بي» = believe in me. فالمسيح يركز أساساً على الأعمال، ويطلب أن يقبلوها في حد ذاتها، فإذا قبلوها، فهي نفسها تحمل الشهادة له، لأنها عُملت على أساس أنها آية تشير إلى أن الذي قام بتفتيح العين هو أعظم وأهم من العين ذاتها بلا نزاع.
فالمسيح له الحق منتهى الحق أن يجعل الآيات التي عملها علة وسبباً مُلزماً لليهود أن يؤمنوا به، لأنها تفوق عمل أي بشر: «صدقوني أني في الآب والآب في، وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها» (يو11:14)، ولكن إذا تمادوا في المقاومة ولم يصدقوا الأعمال أيضاً، فهذا يصير لهم سبب دينونة: «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي.» (يو24:15)
«فآمنوا بالأعمال, لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا في الآب»: الرب هنا يستخدم الأعمال للاقناع الفكري ثم للايمان القلبي، وذلك بالنسبة للذين رفضوا استعلانه بالكلمة. وهنا يواجهنا في هذه الآية أربعة أفعال, كل فعل منها له أبعاده ويؤدي إلى الآخر حتى تبلغ الحقيقة الإلهية:
الفعل الأول: هو الأ عمال التي عملها الرب, وهو الفعل الذي يحوي في أعماقه حقيقة صانعه. فأبعاد عمل الرب تحوي بالأساس عمل الآب وعمل الابن، ويلزم الاحساس بهما من داخل العمل، أي من قوة المعجزة المصنوعة. فتفتيح عين الأعمى هو بالأساس عمل الله, ما من ذلك شك على الإطلاق. والذي قام بالعمل هو المسيح علانية.
الفعل الثاني: هو تصديق العمل «آمنوا بالأعمال»، وفعل التصديق مستمد من صحة العمل المعمول. فالأعمى وُلد أعمى بشهادة أبويه، وهو الآن يبصر، فالتصديق أصبح حتميا. ولكن التصديق بالآية المعمولة معناه مواجهة لتصديق صانع الآية من داخل الآية، أي مواجهة الله صاحب المشيئة والمسيح صاحب العمل الذي يعمل بحسب مشيئة الآب.
الفعل الثالث: هو«لكي تعرفوا». الفعل «تعرفوا» هنا جاء في اليونانية ( ) وأمامها ( ) «لكي». المعرفة في هذا الفعل ليست معرفة سطحية عابرة, بل معرفة تؤدي إلى ما هو أكثر من معرفة, فالفعل هنا جاء بالمفهوم المدخلي, أي معرفة تنتهي إلى معرفة. فإذا انتبهنا لقول المسيح: «فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا»، ندرك في الحال ماذا يريد المسيح. فتصديق الأعمال يؤدي حتماً «لكي» إلى معرفة مستقرة ومتعمقة أو مستغرقة في الآية، لكشف قوتها وفهم مقاصدها وأهدافها، وتستمر هذه المعرفة تأخذ مجراها من كشف إلى كشف لكي تبلغ:
الفعل الرابع: «تؤمنوا» ( ). وفي الحقيقة جاء هذا النص هكذا في معظم المخطوطات اليونانية، فأضاعت عمق المعنى، ولكن في بعض الترجمات اللاتينية القديمة وبعض المخطوطات اليونانية ذات الحروف الكبيرة جاءت ( ) بمعنى الإدراك النهائي أو الاستقرار في المعرفة، وهذا مما جعل المخطوطات اليوناية تحولها إلى «تؤمنوا» الذي هو الاستقرار الأخير في المعرفة، أو «إيمان المعرفة».
ولكن ما هو موضوع المعرفة المؤدية إلى الإيمان؟ هنا المسيح يستعلن نفسه: «إن الآب في وأنا في الآب»، كغاية ونهاية وكل مقصد الأعمال التي يعملها. والاستعلان, كالعادة, لا يأتي بصورة شخصية مفردة، بل بالنسبة للآب؛ ولا يأتي كمعلومة ليس لها برهان، بل ببرهان وقوة الآيات، فـ «الآب فىّ» لأن العمل الإعجازي هو أصلا عمل الله مائة بالمائة. وهذا بالتأكيد هو مسئولية «المعرفة» الفاحصة المستغرقة في الآية. و«أنا في الآب» لأني أنا الوحيد الذي عملت أعمالاً مثل هذه: «أعمالاً لم يعملها أحد غيري.» (يو24:15)
لذلك، أصبحت أعمال المسيح في حقيقتها استعلاناً ناطقاً لسر وحدة العلاقة بين المسيح والله الآب. لهذا جعل المسيح الإيمان بأعماله هو المدخل لمعرفة من هو، بالنسبة لليهود المتشككين الذين قالوا له: «إلى متى تعلق أنفسنا، إن كت أنت المسيح فقل لنا جهراً».
ولكننا نرى أن المسيح أعلن نفه بواسطة الكلمة فقط لتلاميذه الذين تركوا كل شيء وتبعوه، وليس بواسطة الأعمال، لأن «سر الرب لخائفيه» (مز14:25): «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به» (يو3:15)، «الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم, وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجت من عندك، وآمنوا أنك أنت أرسلتني.» (يو8:17)
فالرب يسوع المسيح مُستعلن بالكلمة بالنسبة لأحبائه: «الله... كلمنا... في ابنه» (عب1:1). والذين يقبلون الكلمة في قلب صالح، هم الذين هم أذان روحية للسمع، تدخلها الحياة الأبدية مع صوت ابن الله: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5). والذي ليست له أذن مفتوحة لسماع «الكلمة»، هيهات أن يؤمن: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولى» (يو43:8)، «الذي من الله يسمع كلام الله لذلك أنتم لستم تسمعون، لأنكم لستم من الله» (يو47:8). أما الذي يطلب آية فهو الجيل الشرير، الذي لا يتبقى له إلا خبر القيامة (راجع لو29:11).
وأخيراً، فلينتبه القارىء، لأن المسيح هو «الكلمة». هكذا جاء، وهكذا تجسد، وهكذا اُستعلن، وهذا هو إنجيل يوحنا كله. فالذي يمتلك الأذن الروحية، هو الذي له الطوبى، والقادر أن يتعرف على المسيح «الكلمة» ويقبل إليه: «قال له يسوع: لأنك رأيتي يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا.» (يو29:20)
ولكن، فلينتبه القارىء أيضاً، فلا تعارض إطلاقاً بين «الكلمة» و«الآية», فالآية هي كلمة معمولة, أو هي فعل. والفعل هو الكلمة فعالة. وليس أدل على ذلك من الترجمة الفرنسية لمطلع إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة»، حيث تأتي: «في البدء كان الفعل... »
ويلاحظ هنا أن اليهود يطلبون «الكلمة»: «قل لنا إن كنت أنت المسيح»، ولكن حينما «يتكلم» المسيح يعلن نفسه أنه هو المن (الخبز) الحقيقي النازل من السماء، يطلبون منه «آية». «أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟» (30:6). وفي هذا يتعجب عليهم ذهبي الفم بقوله: [حينما تصرخ الأعمال عالية يطلبون منه قولاً؛ وحينما يعلم بالكلمة, فحينئذ ينسحبون ويطلبون الأعمال. وهكذا يقفون الموقف المعاكس] (على الآية 30 من الأصحاح العاشر).
وفي رأي المسيح، فإن الأعمال تكفي كشهادة لليهود للايمان به، وأما المؤمنون, فالكلمة تكفي لتكون لهم قاعدة للايمان، ولا ينبغي أن يطلبوا معها آية ليزداد إيمانهم أو يثبت.
عجبي على هؤلاء اليهود! كم مرة حاولوا هذه المحاولة الفاشلة, ولكن إلحاحهم على التخلص منه يعكس مدى الضيق الذي آلم بهم بسبب الحق الظاهر في حياته وأعماله, والذي يوبخ ويدين حياتهم وأعمالهم. ولكن العجب الأكثر هو محاولتهم «أن يمسكوه», مع أنه كان في التو يقول لهم إن لا أحد يقدر أن يخطف خروفاً واحداً من يده, فبرهنوا على أنهم فعلا يسمعون ولا يفهمون!! فهل استطاع الذئب الذي لم يقو على خطف الخروف من يد الراعي أن يضع يده على الراعي ويخطفه؟ لذلك يسخر منهم القديس يوحنا ويصف كيف انشلت أيديهم وخرج الرب ويدهم قابضة على الريح... مقارنة تحكي في صورة ساخرة بين أيديهم التي لم تقدر على الإمساك به، ويده التي تمسك ولا أحد يخطف البتة. وأخيراً، صورة ملكية ذات جلال ووقار لله الآب وهو ممسك أيضاً بالابن، يقوده ويحفظه ولا يخطفه أحد ساعة الخطر: «أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك, وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم، لتفتح عيون العمي لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت الحبس الجالسين في الظلمة.» (إش6:10-7)
هنا اهتم إنجيل يوحنا, في ختام روايته, أن يكمل عامل الأعمال في استعلان الرب والإيمان به، بعامل آخر اهتم به إنجيل يوحما منذ أول مطلعه، وهو شهادة المعمدان التي لا زالت راسخة في أذهان الناس وأفواههم .
«كل ما قاله يوحنا عن هذا (المسيح) كان حقاً»: والتشديد هنا على «كل» وعلى «حقاً» من قبل الراوي وهو القديس يوحنا، ينبع أيضاً من شهادة القديس يوحنا ورؤيته وخبرته الشخصية. وهذه الشهادة تعتبر في جملتها، سواء من شعب عبر الأردن وهو بعيد عن مراكز العداوة للمسيح، أو من القديس يوحنا، تأتي كتاج على قمة رواية إنجيل يوحنا. كما أراد الإنجيل أن يضع في مقابل رفض أورشليم واليهودية الإيمان به، قبول أهل عبر الأردن له والإيمان به. وبسبب ازدياد تهديد رؤساء الكهنة والفريسيين له، ترك اليهودية وانطلق إلى عبر الأردن وهي «بلاد بيرية» التي ذكرها إنجيل متى 1:19، وإنجيل مرقس 1:10
ويفيد إنجيل القديس مرقس أن الجموع تقاطرت من كل الجهات تستمع إليه (1:10)، وذلك بسبب شهادة المعمدان عن المسيح، والتي كانت لا تزال تملأ أسماعهم وقلوبهم. على أن عدم قدرة المعمدان على إتيان الآيات، أضافت أهمية كبيرة للمسيح، لأن الآيات التي صنعها أوضحت لهم شدة المفارقة بين «النبي» و «المسيا». وهذا بحد ذاته يراه إنجيل يوحنا سبباً مباشراً لإيمان «الكثيرين به». وهذا أيضاً هو ما يراه المسيح نفسه داعياً للايمان به: «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيرى, لم تكن لهم خطية» (يو24:15). ومن هنا تتضح الحكمة الإلهية أولا في تقييد عمل الآيات عند المعمدان إذ لم يكن لها داع على الإطلاق؛ وثانياً في كثرة الآيات التي صنعها يسوع لتكون شاهداً له بحد ذاتها: «الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لى.» (يو25:10)
وبإشارة غاية في الحكمة والإحكام، وتنم عن نعمة زاخرة والهام، يختم القديس يوحنا خدمة الرب بأن ينتهي في التسجيل لها بالإشارة إلى حيث ابتدأ أولاً: «المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولا»، وهو عينه المكان الذي فيه أخضع الرب نفسه للمعمودية تحت يد المعمدان ليبدأ خدمته بالصوم والتجربة. والقديس يوحنا يتجاوز هنا, بأسلوبه السري, مجرد الانتهاء من خدمة الرب إلى جوهر قوتها وغايتها, وهو الصليب, لأنه بقوله: «حيث كان يوحنا يعمد أولاً»، فهو يذكر, بغير تذكرة, قول المعمدان عن مضمون وجوهر خدمة الرب هذه: «هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1 و36). وهكذا ينتهي القديس يوحنا إلى الصليب من حيث ابتدأ به أولاً.
وليس ذلك فقط كل ما يحويه أسلوب القديس يوحنا السري البديع من ذكره هذا المكان: حيث ابتدأ المعمدان وابتدأ الرب، بل وحيث ابتدأ هو نفسه، أي القديس يوحنا، لأن هذا المكان يحمل الذكرى العطرة لمقابلته للرب هناك والانتقال من تلمذة المعمدان إلى تلمذة المسيح. فهذا المكاذ هو أيضاً الذي وُلدت فيه الشهادة للرب والإيمان به.
«فأتى إليه كثيرون وقالوا إن يوحنا لم يفعل آية واحدة»: هنا يتضح لنا كيف أن الناس البسطاء كانوا يعولون على عمل الآيات في تزكية الرب ، وطالما لم يتدخل رؤساء الكهنة والفريسيون، كان الإيمان بالمسيح سهلاً عليهم للغاية. ولكن تسجيل القديس يوحنا الإنجيلي لهذا القول كان في الحقيقة ذا إتجاهين:
الإتجاه الأول: كان ليرفع مستوى حرارة المقارنة بين المسيح والمعمدان إلى أقصاها، وذلك لكي يضع المعمدان أخيراً في حجمه الصحيح بالنسبة للرب.
أما الإتجاه الثاني: وهو الذي يأتي دائمأ بصورة سرية وبديعة, فهو لتمهيد ذهن القارىء لاستقبال أخر وأعظم آية صنعها المسيح, والتي كان يعتبرها القديس يوحنا ذات مضمون لاهوتي وفريد للغاية، وهي آية إقامة لمعازر من الموت، التي مهد بها الرب لاستعلان سلطانه على الموت، والحياة بالقيامة من الأموات، المزمع أن يتمثلها بجسده.
كذلك في هذه الآية: «ومضى أيضاً إلى عبر الأردن، إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولاً، ومكث هناك»، لنا في هذه الآية رأي خاص. فالمسيح هنا ذهب بمفرده، أو ربما مع القديس يوحنا الرسول، ولم يكن تلاميذه الآخرون معه، وهذا واضح غاية الوضوح, ولكن كان له في عبر الأردن تلاميذ قدامى يقال أن عددهم كان خمسة بحسب رواية بعض الرابيين اليهود في التلمود، وكان منهم توما، هؤلاء هم الذين رافقوه من بيت عنيا عبر الاردن إلى بيت عنيا، لعازر ومرثا ومريم، حيث أقام المسيح لعازر من الموت. فلم يكن حاضراً هذه الآية من الإنجيليين إلا القديس يوحنا. لذلك فهو الوحيد الذي سجلها كشاهد عيان، ولهذا سقطت هذه الآية من روايات الأناجيل الثلا ثة الأخرى، كما سقطت معها حوادث خدمة الرب في عبر الاردن لهذه المدة.
مكان البشارة: اليهودية بيت عنيا
استعلان قوة المسيح المحيية والمقيمة من الموت
«أنا هو القيامة والحياة»
آية إقامة لعازر مز الموت
[أقمت الموتى من القبور, أقمت الطبيعة بالكلمة] (القداس الغريغوري القبطى).
مقدمة عامة.
إقامة لعازر من الموت آية اختص بها إنجيل القديس يوحنا بمفرده دون بقية الأناجيل الأخرى. ولكن الأناجيل الثلاثة تقدم ما يمكن اعتباره المقومات الأساسية للتركيب الإعجازي والتاريخي لهذه الآية, فإنجيل القديس مرقس في الأصحاح الخامس (43:21) يقدم الموازي الإعجازي وهو إقامة ابنة يايرس من الموت. وانجيل القديس لوقا في الأصحاح السابع (17:11) يقدم المثيل الإعجازي أيضاً وهو إقامة ابن أرملة نايين.
وامتناع إنجيل القديس يوحنا عن ذكر هاتين الآيتين إنما ينبع من التقليد الذي يقوم على أساسه تدوين الإنجيل الرابع بجملته، وبعد ما يقرب من نصف قرن من تدوين أسفار العهد الجديد بأناجيله الثلاثة ورسائله, وهو تقديم آيات أخرى جديدة مختارة بنوع خاص، تكون على نفس المستوى الإعجازي العالي، ولكن ذات اعتبار هام من جهة تدعيم الإيمان, وليس لمجرد السرد التاريخى لتغطية سني حياة المسيح في الخدمة. وهذا واضح غآية الوضوح من المنهج العام الذي اختطسه القديس يوحنا في كتابة إنجيله ودونه بنفسه في ختام الإنجيل: «وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم، إذا آمنتم، حياة باسمه» (يو30:20-31)؛ مما يؤكد لنا أن الأناجيل الثلاثة, بل والأربعة لم تستوف السرد الكامل لجميع الآيات التي صنعها الرب الأمر الذي لم يفت على إنجيل القديس يوحنا أن يسجله أيضاً: «وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كُتبت واحدة فواحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين.» (يو25:21)
كذلك لو لاحظنا الخط الفكري لإنجيل يوحنا في تدوينه للآيات الأخرى، نجده ينتقي الآيات ذات العناصر الخارقة لحدود الطبيعة والعقل لتخدم الغرض الأساسي من جهة الإيمان, مثل شفاء مريض بيت حسدا المشلول لثماني وثلاثين سنة (يو5:5)، وشفاء المولود أعمى من بطن أمه (يو9)، وفي الآية التي نحن بصددها إقامة لعازر من الموت, وأي موت؟ بعد أربعة أيام في القبر, وهذا هو العنصر الأساسي في الآية. وهكذا نرى أن آية إقامة لعازر من الموت تأتي في إنجيل القديس يوحنا، وفي منهج كاتبه، متوافقة تماماً مع مستوى الآيات الاخرى فيه.
القصد الأساسى من آية إقامة لعازر من الموت: ينبغي أن نستبعد من إنجيل يوحنا ومن منهج كاتبه فكرة أنه يعرض لنا المسيح كصانح معجزات على أعلى مستوى؛ هذا خطأ. ولكنه، ومنذ مطلع إنجيله يود أن يعرض لنا, وخاصة في هذه الآية, أن المسيح عنده الحياة الآبدية، وأن القيامة من الموت في حوزته وتحت سلطانه. ولكي يلفت نظر إيماننا أنه حقاً صاحب سلطان على الموت في أعنف سطوته، ترك لعازر لأربعة أيام في القبر حتى استبد الموت بجسده، ومزق أوصال لحمه، وجمد دهه، وأنتن. وهنا صورة مصغرة ولكنها ذات ملامح متكاملة لقيامة الأجساد في اليوم الأخير. إذن، فبإقامة لعازر من الموت هكذا بعد أربعة أيام في القبر, يحضرنا المسيح ويوقفنا أمام القيامة في اليوم الأخير: وعلى الوجه الأصح، يحضرنا ويوقفنا أمامه باعتبار أنه هو هو القيامة وهو هو الحياة؛ الأمر الذي التبس على مرثا وصححه لها المسيح: «قالت له مرثا: أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير، قال لها يسوع أنا هو القيامة والحياة» (يو24:11-25). هنا يظهر القصد الرئيسي من آية إقامة لعازر من الموت. فالقيامة والحياة هما في المسيح، وعلينا أن نواجههما الآن وليس في اليوم الأخير، ولا حتى في يوم مماتنا، بل الآن لأن الآن هو في حوزتنا أما اليوم الأخير ويوم مماتنا فليسا في حوزتنا. و«الآن» في إنجيل القديس يوحنا يعي «الآن»، والانتقال من الموت ونتن الموت إلى ملء الحياة هو أيضآ «الآن»: «الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5). ولكي يؤكد بل يزيد صحة مفهوم «الآن» يضيف المسيح مباشرة: «الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الأن حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون (التائبون) يحيون.» (25:5)
والمسيح يطبق قوله من جهة سماع صوته «الآن» في القلب وقبول العفو من الدينونة، بالتوبة والاعتراف والحصول على الانتقال من الموت الآبدي بالخطية إلى الحياة الآبدية, يطبقه على ما سيحدث تماما فى اليوم الاخير, إذ عاد وقال نفس الكلمات، مح حذف كلمة «الآن»: «لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة (وهي ليست الآن) فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو28:5-29) هنا ينطبق سماعلا الخطاة صوت ابن الله الآن, على سماع الأموات صوته فى اليوم الاخير من جهة القيامة من الموت تمام الإنطباق, مما يؤكده حتماً وبالضرورة، أن القيامة والحياة الآبدية يعملان فينا منذ الآن كاليوم الأخير تماماً. وهذا أيضاً هو نفس جوهر تعليم المسيح من جهة أكل الجسد وشرب الدم, الذي يأتي بالتساوي في مقابل سماع صوت ابن الله الآن بالتوبة، وقبول الانتقال من الموت إلى الحياة، وفي اليوم الأخير, استجابة لنداء الدينونة الأخيرة للقيامة العامة: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية, وأنا أقيمه في اليوم الأخير.» (يو54:6)
هذا المفهوم الإيماني هو جوهر القضية في آية إقامة لعازرعن الموت. ولكن المسيح امتد بهذا الإيمان، ليزيده توضيحا من وضع لعازر هكذا: «قال لها يسوع: أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي، ولو مات، فسيحيا» (يو25:11). ثم بعد ذلك قال: «لعازر قم»، فقام. والقصد هنا إعطاء النموذج التطبيقي لقدرة المسيح على الإقامة من الموت الجسدي، ليوضح نفس مستوى قدرته على الإقامة من موت الخطية, لكي يبرهن المسيح على أن قوة القيامة والحياة فيه هي واحدة بالنسبة للخطاة، ببرهان إقامة لعازر من الموت بعد أن أنتن. هذا من جهة قدرة المسيح، أما من جهة المسيح ذاته فواضح أنه وهو أمام قبر لعازر يبكي، ثم وهو يأمر الميت المنتن في القبر لأربعة أيام, ليقوم ويهبه الحياة، يكون قد حقق في شخصه ما هو للانسان وما هو لله بآن واحد, دون أي قصور أو نشاز! وأنه حقاً «لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً» (يو18:10) فيما لفسه، وأنه هو ديان الأحياء والأموات.
العناصر التاريخية في الأناجيل الأخرى عن إقامة لعازر من الموت: لقد رأينا أنه، وإن كان إنجيل القديس يوحنا قد انفرد بهذه الآية، إلا أنها ليست غريبة عن مثيلاتها في الأناجيل الأخرى. والآن إذا دققنا وجدنا أن عناصر قصة هذه الآية بعينها قد وردت في الأناجيل الأخرى هكذا:
أ _ مثل الرجل الغني و«لعازر» في إنجيل لوقا (19:16-31), ليس التشابه هنا مجرد ورود اسم «لعازر» الذي مات وانتقل إلى حضن إبراهيم، بل الكيفية التي انتهى بها المثل عندما طلب الغني الذي مات من إبراهيم أن يرسل لعازر, أي يقيمه من الموت ويرسله إلى بيت أبيه, ليشهد لهم بالقيامة والدينونة, فقال له إبراهيم: «إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء, ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون.» (لو31:16)
واضح هنا أن ما سمعه القديس لوقا وسجله في إنجيله عن «مثل» الغني ولعازر، مو الذي رآه القديس يوحنا وسجله في إنجيله كشاهد عيان. فالمعجزة واحدة، القديس لوقا سجل جانبها التصوري التعليمي, بحسب مثل المسيح, عن الدينونة والقيامة والإيمان والتوبة؛ والقديس يوحنا سجل وقائعها، ليعلق بحسب الرؤية الواقعية على أن المسيح هو صاحب الدينونة والقيامة، وأساس التوبة والإيمان. فتسجيل الآيات في الأناجيل يعتمد على الغرض الذي من أجله اختار كل إنجيلي آياته. وكملاحظة عامة، نجد أن الآيات التي صنعها المسيح في أورشليم وما حولها لم يسجلها الإنجيليون الثلاثة» بينما اهتم القديس يوحنا بتسجيلها أقصى اهتمام.
القصد التصوري النهائي في ختام مثل لعازر والغني في إنجيل لوقا، يقدمه إنجيل القديس يوحنا مُطبقاً تطبيقاً عملياُ؛ فلعازر الفقير قام من الأموات فعلا، ولكن لم يصدق قيامته إخوة الفني الجشع، وهم الفريسيون, لأنهم لم يسمعوا لموسى والأنبياء, ولا صدقوا من أقام لعازر من الأموات أمام عيونهم، ولا خافوا من الدينونة.
أما صحة قصة لعازر في إنجيل يوحنا, كونها آية قد حدثت, أو يمكن أن تحدث بالفعل, فهذا يتضح من قول المسيح لتلميذي المعمدان اللذين جاءا ليستفسرا من المسيح عن المسيح هل هو الآتي أم ينتظرون أخر؟ فكان رد المسيح عليهما: «فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما، أن العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون؛ والمساكين يبشرون.» (لو22:7)
ب _ «مرثا ومريم» في إنجيل القديس لوقا: من يقرأ إنجيل لوقا (38:10-42)، يسمع عن مرثا ومريم التي جلست عند قدمي الرب لأنها اختارت النصيب الصالح، وها نفس الأختان المذكورتان في إنجيل يوحنا (11). والمسيح هو في الإنجيلين ضيف الشرف.
ج _ مريم بصفتها المرأة التي دهنت الرب بالطيب: وتشترك الأناجيل الأربعة, في تقليد واحد, وهو توصيف «مريم» بالمرأة التي دهنت المسيح بطيب ناردين غالى الثمن, كانت قد حفظته عندها, ولم تعلم أنه كان بمثابة تكفين الجسد حسب قول الرب، وذلك في بيت سمعان الآبرص, الفريسي. وهذا التقليد محقق، لأنه وإن كانت الأناجيل الثلاثة لم تذكر مريم بالاسم, بل ذكرتها باعتبارها المرأة التي دهنت المسيح بالطيب، إلا أن إنجيل يوحنا انفرد عنهم جيعا بأن ذكرها بالاسم، مما يوضح أن تقليد القديس يوحنا في إنجيله هو الأكثر مطابقة (أنظر يو2:11؛ 1:12-8؛ مر3:14-9؛ مت6:13-13؛ لو36:7-39)
بهذا نرى أن التقليد الإنجيلي التاريخي العام يقف خلف مفردات قصة قيامة لعازر عن الموت في إنجيل يوحنا، ليعطيها صحتها التقليدية والتاريكية معاً.
وآية إقامة لعازر من الموت هي بحسب ترتيبها في إنجيل يوحنا تكون هي الآية السابعة والأخيرة:
الآية الأولى: تحويل الماء إلى خمر_ الأصحاح الثاني.
الآية الثانية: شفاء ابن خادم الملك _ الأصحاح الرابع
الآية الثالثة: شفاء مشلول بيت حسدا بعد 38 سنة ~ الأصحاح الخامس.
الآية الرابعة: إشباع الجموع من خمس خبزات وسكتين _ الأصحاح السادس.
الآية الخامسة: السير على الماء واسكات الريح والموج - الأصحاح السادس
الآية السادسة: شفاء الأعمى المولود هكذا من بطن أمه _ الأصحاح التاسع
الآية السابعة: إقامة لعازر من الموت بعد أربعة أيام في القبر _ الأصحاح الحادي عشر.
ويلاحظ الباحث أن كل من الآية الاولى والأخيرة صنعهما الرب في الوسط العائلي, وبقصد اظهار مجده (11:2): «هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله, ليتمجد ابن الله به»، «ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله» (يو4:11و40) ولتشديد الإيمان: «وأنا أفرح لأجلكم إني لم أكن هانك لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه.» (يو15:11)
العناصر التاريخية داخل القصة: الملامح الزائدة الحساسية الواردة في قصة إقامة لعازر من الموت، والتي تشير إلى حضور القديس يوحنا كشاهد عيان شديد الملاحظة دقيق التدوين، هي بحد ذاتها تزيد ثقل كفة الصدق التاريخي للرواية وهى:
+ إبراز العلاقات الحميمة بين عائلة لعازر والمسيح (5:11).
+ تأخر المسيح عن الذهاب لبيت عنيا يومين عن قصد (6:11).
+ موقع قرية بيت عنيا بدقة (18:11).
+ حضور اليهود (19:11).
+ الرسالة السرية (28:11).
+ لقب المسيح المحبوب «المعلم» (28:11).
+ صمت يسوع (30:11).
+ انزعاج الرب لبكاء اليهود مع مريم (33:11).
+ سجود مريم أمام المسيح (32:11).
+ إظهار عواطف المسيح البشرية بحرية دون أي حذر(33:11 و35 و38)
+ وصف هيئة لعازر عند ظهوره (44:11).
القيمة اللاهوتية لآية إقامة لعازر من الموت: لقد أصاب القديس يوحنا كثيراً في جعل آية لعازر ختاماً للآيات التي صنعها يسوع ولتعاليمه العامة جميعاً. فهو بهذه الآية يجيب على جميع الأسئلة والاستفسارات التي كانت تتتابع وراء الحقائق التي أبرزها الإنجيل دون برهان أو توضيح: فالآن يتضح كيف أن المسيح هو «الكلمة» التي يسمعها الميت فيقوم من الأموات، وهو الله المتكلم الذي يحيي من يشاء، وهو الذي يمكن أن يخلق كل شيء من العدم أو الموت؛ وكيف أن فيه الحياة, وأن الحياة هي نور الناس، وكيف أن النور أضاء في الظلمة، ثم كيف يولد الإنسان من جديد, وكيف أن الاموات يسمعون صوت المسيح ابن الله, وكيف يستطيع المسيح أن يعطي حياة للعالم, وكيف يمكن أن يقوم الأموات بالجسد, بل كيف سيقوم المسيح من الموت بسلطانه وحده تحقيقاً لقوله: «لى سلطان أن أضعها, ولى سلطان أن آخذها أيضاً» (يو18:11)؛ وكيف أن المسيح يبطل الموت ويقهر سلطانه؛ وأخيراً كيف يكون المسيح بالنسبة للعالم هو فعلاً الألف والياء, البدآية والنهآية.
كل هذه الأسئلة يرد عليها كل من يتعمق في هذه المعجزة التي صنعها الرب يسوع المسيح جهاراً أمام تلاميذه واليهود. وما عليك أيها القارىء العزيز إلا أن تسير مع مفردات هذه المعجزة كأحد المشاهدين، وتتأمل الرب وهو واقف أمام قبر لعازر ومريم وأختها تبكيان، ومعهما اليهود والمعزون يبكون, وصوت ابن الله, الكلمة, يدوي فجأة ليخترق ظلام القبر والهاوية وحجب العالم الآخر غير المنظوره كما يخترق النور حجب الظلام ويهتكها جميعاً، وىصرع الموت في داره ليقوم لعازر!! الهاوية انشقت وخرجت منها روح لعازر, والمادة الميتة والمنتنة في القبر تقبلت رعشة الحياة، فوُلد لعازر من رحم الحياة مرة أخرى, ووطىء الموت وقام من جديد!
كان المسيح, كما هو الإنسان المحبوب, واقفاً على باب القبر، وكلمته باعتباره ابن الله تزلزل أركان الهاوية بسلطانها الإلهي، لترتعب لها سلاطين الظلمة والموت، فينفك من أسرها أسير محبة المسيح: «سبى سبيا, وأعطى الناس عطايا» (أف8:4)، ويخرج لعازر إلى الحياة بقوة الكلمة المحيية.
ثم, يا قارئي العزيز, من هو لعازر الحقيقي إلا أنا وأنت الملفوف بربط الخطية التي آقعدته عن حركة الروح وآسكنته صمت القبور إزاء تسابيح صهيون والأرواح المكملة في المجد مع كل ملائكة الله؟ آذاننا إليك يا ابن الله بانتظار كلمة الحياة، «الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد» (رو18:7). ألست أنا ميتك؟ ليست لى مريم ولا مرثا ليبكوا علي! وليس لى رسول يحمل رسالتي سرا إليك إلا روحك القدوس, لا تتأخر كثيراً وتعال، نعم تعال سريعاً، قبل أن تعكر نتانتي صفو محبتك، قل لمن دحرج الحجر عن قبرك أن يدحرجه عني، قل كلمتك وأوعز إلى ملائكتك أن «حلوه ودعوه يذهب...»