وفي الحقيقة إن المسيح لم يصنح هذه الآية بالرغم من أنه «سبت»، بل لأنه «سبت». لأن هذا الا ختيار هو جزء من استعلان المسيح لنفسه باعتباره «رب السبت», حسبما قال مرة (مر 28:2, لو5:6)؛ ولكونه جاء ليعطى «سبتاً» جديداً، أي راحة «جديدة» عوض الراحة الجسدية القديمة (عب10:4).
أما إجابة المقعد فتنم عن تقدير لمن قال له قم ... واحمل ... وامشى، أكثر من تقديره لموضوع السبت، لقد ذُهل المُقعد؛ أبعد أن أفنى عمره في الكساح الذي هو فيه وجاء من شفاه يُطالب بذنب شفائه وحمل سريره وسيره على رجليه صحيحة؛ إن هذه المغالطة المناقضة للواقع ظهرت في قلب ذلك المريض صارخة مستغيثة! لمن أسمع، ولمن أطيع؟ للناموس الذي عجز عن أن يشفي عجزي؟ أو لذلك الإنسان الذي شفاني وقواني ودعاني للسير على قدماي؟ لقد قصد المسيح ذلك قصداً، أن يضع هذه الموازنة بصورتها العملية ليس في نظر المُقعد وحده, وهو صاحب الحق الآول في المقارنة والموازنة بين الناموس وذلك الإنسان, بل وفي نظر البشرية كلها!!
ولينتبه القارىء، فإن المسيح هنا لا يقدم ناموساً يُحفظ، ولا قانوناً يُحكم بمقتضاه، ولا نظاماً يُدرّس؛ بل قدم نفسه للمُقعد في «كلمة» قالها فكانت له الشفاء والحياة.
لاحظ هنا أنهم لا يستفسرون عن الذي شفاه لأنهم يعرفونه تمام المعرفة؛ ولكنهم يسخرون من قول الرجل إذ يضعون «هذا الإنسان» في مقابل سبت «الله وناموسه».
ثم انظر كيفر يتجاهل هؤلاء الفريسيون عمل الآية المذهلة، التي لو كانت قد حدثت في أيامنا هذه لرجت العالم كله، ولا يرون في كل ما صار للمقعد إلا كونه يحمل سريره في يوم الراحة، وينظرون إلى ذلك بمنظار مرعب, إذ يرون في ذلك استحقاقه للموت!! رجماً!!
[إذا حدث أن حمل أي إنسان أي شيء من مكان عام إل بيته الخاص في السبت ويكون ذلك عمدا فإنه يكون مستحقاً للموت رجماً]
إنهم يبثحون عن الموت في كل ما هو حياة، وصح فيهم قول المسيح أنهم: «يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل.» (مت 24:23)
ليعلم القارىء أن قدرة المسيح على الشفاء وإعطاء صحة الحياة قائمة أصلاً ومتأسسة على سر الفداء وقدرته على مغفرة الخطية، الذي دفع ثمنه بسفك دمه على الصليب. والمسيح كان يعمل ويتكلم على أساس أنه مصلوب، لأن الصلب أمر قد تقرر ومنذ الأزل، فلم يعد المسيح خاضعاً لتصريف الفعل «يصلب» كماض وحاضر ومستقبل. فالمسيح مصلوب في الفكر التوراتي أو الطقس الموسوي منذ أن ذُبح خروف الفصح الآول: «وتكون جثتاها على شارع المدينة العظيمة التي تدعى روحيأ سدوم ومصر حيث صُلب ربنا أيضاً.» (رؤ8:11)
وبحسب فكر بولس الرسول، فالصليب هو قصد الله الذي قصده في المسيح منذ الدهور: «لي أنا أصغر جميع القديسين أُعطيت هذه النعمة, أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور, في الله خالق الجميع بيسوع المسيح؛ لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة, حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا» (أف8:3-11)
وعند بطرس الرسول، هو معروف قبل تأسيس العالم: «بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهر في الآزمنة الأخيرة من أجلكم.»( 1بط19:1-20)
فقدرة المسيح على الشفاء والإقامة من الموت نابعة من قوة ذبيحة نفسه القائمة والدائمة فيه, والتي قدمها على الصليب، في الوقت المعين، عن كل خطاة الأرض، من أول الزمان وإلى آخر كل زمان.
بهذه القوة والقدرة الذبائحية والفدائية التي فيه، أعطي مُقعد بيت حسدا الشفاء والحياة الجديدة، على أساس أن كل خطاياه وعاره السابق حمله المسيح عنه في جسده بانتظار يوم الصليب. لذلك لا نسمع أن المسيح قد دان هذا المقعد، ولكن فقط، ولكي يضمن له هذه الحياة التي أعطاها له كي تبقى له بلا دينونة، أمره بل آزره بنصيحة تكاد تكون دعاء: أن لا يخطىء أيضاً أي ثانية, وذلك حينما وجده في الهيكل، لئلا يسقط عنه العفو الذي أعطاه لخلاصه المجاني. كما أن المسيح لم يشأ أن يظل هذا المريض الذي نال نعمة الشفاء جاهلاً بمن شفاه, فأعلن نفسه له ليعطيه فرصة الإيمان بالمسيح وقتما اكتمل انتباه وعيه المسيحي.
ثم قول المسيح: «لا تخطىء أيضاً» فيه إيماءة إلى أن علة مرضه الذي طال واستطال هي الخطية, فالخطية هي علة الإنسان الاولى التي أوجبت عليه الموت. والمرض مهما كان، فهو جزء من الموت الذي ورثه الإنسان من رأس جنسنا آدم الأول, ولكن يقابله الآن الحياة التي ورثناها من المسيح الذي ولدنا ثانية بالروح لله، والذي صار رأس الجسد أي الكنيسة، والذي حول الموت إلى حياة بالإيمان به، وحول المرض من تأديب وعقاب إلى علة لتمجيد الله!!: «يا معلم من أخطأ, هذا (الأعمى) أم أبواه حتى وُلد أعمى؟ أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه, لكن لتظهر أعمال الله فيه» (يو2:9-3)؛ «فلما سمع يسوع قال: هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله، ليتمجد ابن الله به.» (يو4:11)
وهكذا كل مرض مهما كان ومهما أصاب، فهو لمجد الله، إذا حولناه إلى شكر حقيقي واحتملناه بصبر، فيتمجد الله فينا بسبب هذا المرض عينه!! لذلك لم تفت على القديس يوحنا أن يُكمل قائلاً:
«بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل»: واضح أن المُقعد اتجه مباشرة إلى الهيكل, ربما حاملاً سريره, وهذا هو الذي أثار حوله العاصفة، ولكن القصد واضح أنه أراد أن يقدم الشكر لله مما يلفت نظرنا أنه كان على شيء من التقوى، فالفتيلة المدخنة ما فتئت تدخن حتى اشتعلت!
واضح أن المُقعد وجد في المسيح من يستطيع أن يتحمل عنه تهمة حمل السرير, فأسرع في تبرئة نفسه، لا خيانة لمن شفاه, بل اعترافاً من واقع الحال. ثم أن المسيح لم يوصيه أن لا يقول لأحد، حتى يُحسب أنه أخل بالوصية, بل ذهب لُيري نفسه للكاهن اعترافاً بفضل الله ومن شفاه.
المصادمة الأولى مع اليهود: المسيح يعلن عن لاهوته وشخصيته الماسيانية في أعمق ما بلغه إنجيل القديس يوحنا، بطرحه أعظم قضية لاهوتية لتحتل الصدارة في الإيمان المسيحي، وذلك في خطوات متلاحقة وبتنظيم متدرج منسجم من الاستعلانات التي تكشف عن طبيعة الآب والابن والوحدة الفعلية القائمة بينهما.
والموقف الذي يقفه المسيح هنا أمام اليهود يتسم بالشجاعة البالغة القوة والاتزان، وهو يكشف عن إلوهيته أمام أعدائه المتربصين به، دون حذر، وهوي علم تمام العلم أنه بذلك يخطب الموت ويستدعيه، ولكنه فى آن واحد يرمي أساس الايمان المسيحي برمته! أما سامعوه فكانوا, ويتحتم أن يكونوا, إما واحد يصدق القول تصديق الإيمان فيقبل المسيح رباً وإلهاً، وإما واحد يصر بأسنانه إذ يراه مجدفاً ويستحق الموت بلا رحمة. ولم يقف المسيح من قبل مثل هذا الموقف الحرج الذي فيه يتقاسم سامعوه الحب الطاغي والكراهية المرة بلا توسط! وبالفعل كان هذا الدفاع اللاهوتي المنقطع النظير هو هو بعينه أدلة الاتهام التي قدمته إلى الصليب! كما صار هو بعينه دستور الحب والايمان عند ملايين الملايين من بني الإنسان!
خطوات الإستعلان:
1- «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل.» (يو 17:5)
2- «كماأن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء.» (يو21:5)
3- «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن.» (يو 22:5)
4- «لكي يكرم الجميع الابن، كما يكرمون الآب.» (يو 23:5)
5- «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
6- تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون.» (يو25:5)
7- «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته.» (يو26:5)
8- «وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً, لأنه ابن الإنسان.» (يو27:5)
9- «تأتي ساعة فيها يسمح جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.» (يو 28:5-29)
ويلاحظ أن هذه الحقائق الأساسية في لاهوت المسيح، المقدمة هنا كدستور عمل، هي التي انبثقت منها كل تعاليمه التي قدمها قبل أو بعد ذلك، سواء كونه خبز الحياة، أو الماء الحي، أو نور الحياة، أو الراعى الصالح، أو الكرمة الحقيقية، أو القيامة والحياة.
واضح أن المُقعد وجد في المسيح من يستطيع أن يتحمل عنه تهمة حمل السرير, فأسرع في تبرئة نفسه، لا خيانة لمن شفاه, بل اعترافاً من واقع الحال. ثم أن المسيح لم يوصيه أن لا يقول لأحد، حتى يُحسب أنه أخل بالوصية, بل ذهب لُيري نفسه للكاهن اعترافاً بفضل الله ومن شفاه.
المصادمة الأولى مع اليهود: المسيح يعلن عن لاهوته وشخصيته الماسيانية في أعمق ما بلغه إنجيل القديس يوحنا، بطرحه أعظم قضية لاهوتية لتحتل الصدارة في الإيمان المسيحي، وذلك في خطوات متلاحقة وبتنظيم متدرج منسجم من الاستعلانات التي تكشف عن طبيعة الآب والابن والوحدة الفعلية القائمة بينهما.
والموقف الذي يقفه المسيح هنا أمام اليهود يتسم بالشجاعة البالغة القوة والاتزان، وهو يكشف عن إلوهيته أمام أعدائه المتربصين به، دون حذر، وهوي علم تمام العلم أنه بذلك يخطب الموت ويستدعيه، ولكنه فى آن واحد يرمي أساس الايمان المسيحي برمته! أما سامعوه فكانوا, ويتحتم أن يكونوا, إما واحد يصدق القول تصديق الإيمان فيقبل المسيح رباً وإلهاً، وإما واحد يصر بأسنانه إذ يراه مجدفاً ويستحق الموت بلا رحمة. ولم يقف المسيح من قبل مثل هذا الموقف الحرج الذي فيه يتقاسم سامعوه الحب الطاغي والكراهية المرة بلا توسط! وبالفعل كان هذا الدفاع اللاهوتي المنقطع النظير هو هو بعينه أدلة الاتهام التي قدمته إلى الصليب! كما صار هو بعينه دستور الحب والايمان عند ملايين الملايين من بني الإنسان!
خطوات الإستعلان:
1- «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل.» (يو 17:5)
2- «كماأن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء.» (يو21:5)
3- «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن.» (يو 22:5)
4- «لكي يكرم الجميع الابن، كما يكرمون الآب.» (يو 23:5)
5- «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
6- تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون.» (يو25:5)
7- «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته.» (يو26:5)
8- «وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً, لأنه ابن الإنسان.» (يو27:5)
9- «تأتي ساعة فيها يسمح جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.» (يو 28:5-29)
ويلاحظ أن هذه الحقائق الأساسية في لاهوت المسيح، المقدمة هنا كدستور عمل، هي التي انبثقت منها كل تعاليمه التي قدمها قبل أو بعد ذلك، سواء كونه خبز الحياة، أو الماء الحي، أو نور الحياة، أو الراعى الصالح، أو الكرمة الحقيقية، أو القيامة والحياة.
«الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يميته». (مز32:37)
«ولهذا»: أي «بسبب ما عمله يسوع في السبت»، ولكن تأتي كلمة «عمل» في اليونانية بمعنى «بسبب ما تعود أن يعمله», بصيغة التكرار والدوام من جهة كسر الناموس علناً وبإصرار وباستمرار، إذ كان يكاد لا يعمل آياته إلا في السبت.
وهذه في الحقيقة أول مرة يعلن فيها اليهود عن عداوتهم بالفعل، بنية القتل. وهذا يعود إلى المغالاة التي فاقت كل الحدود في حفظ السبت، حتى بلغت إلى الحد الذي تساءل فيه كبار الربيين عن مدى خضوع الله نفسه لهذه الوصية! ويخبرنا العالم دودد في شرحه لإنجيل يوحنا أنه قد جرى بالفعل حوار بين أشهر أربعة ربيين يهود وهم غمالائيل الثاني ويشوع بن حنانيا وإلعازر ابن عزاريا ورابي عقيبا, أثناء وجودهم معاً في روما سنة 95م، أي في زمن كتابة إنجيل يوحنا، وقد انتهى بهم الحوار إلى تقرير ان [الله يحفظ الوصية لأنه لا يعمل خارج حدود مسكنه أي السماء والأرض، ولا يسير مسافة أطول من قامته، لذلك فعمل الله هو في الحدود المسموحة!] أنظر وتعجب!!
من هنا كان رد المسيح عليهم، لأنه إذ كان يعلم مدى جنونهم في إخضاع الله للوصية قال لهم: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل»، فالله ليس تحت حكم الزمان والمكان والحركة فهذه كلها نواميس زائلة.
بمعنى أن انه لم يتوقف عن عمله قط, فهو لا يزال يعمل وإلا تتوقف الحياة. فالله لم يخلق الخليقة بواسطة اللوغس الابن ثم تركها تعمل من تلقاء ذاتها كما يقول الذين لا يؤمنون بالله والخلق! وإلا تختل موازين الانضباط والتناسق والاستمرارية, فالله يحكم ويدين الخليقة بقوانين دائمة لا تخضع لفكر الانسان.
والمسيح يضع نفسه مع الله الآب كمسئول عن الخليقة, وخاصة فيما يخصه من جهة قيامها ودوامها، وبالأكثر من جهة فدائها وخلاصها وتجديدها وتكميلها: «الله... كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين. الذى, وهو بهاء مجده ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته, بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي.» (عب1:1-3)
كذلك يقول بولس الرسول في سفر العبرانيين صراحة كيف أسس الابن الأرض والسموات, وكيف أنها تتغير وفي النهاية يتلاشى شكلها المادي المنظور، أما المسيح الابن فلن يتغير ولا يتبدل: «وأما عن الابن (فيقول كرسيك يا الله (الابن) إلى دهر الدهور قضيب الاستقاهة هو قضيب ملكك، أحببت البر وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الآبتهاج أكثر من شركائك. وأنت يا رب في البدء أسست الأرض, والسموات هي عمل يديك, هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير, ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى» (عب8:1-12)
ثم يعود القديس بولس في رسالة أفسس ليوضح مركز المسيح من جهة الخليقة كلها في السماء وعلى الأرض، كيف أن تدبير الله منذ الأزل جعلها تتمحور في المسيح, وتنجمع، وتتحد بواسطته في انسجام يفوق تصور الانسان: «إذ عرفنا بسر مشيئته، حسب مسرته التي قصدها في نفسه، لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك (المسيح).» (أف9:1-10)
بهذا يتضح لنا قول المسيح: «أبى يعمل حتى الأن وأنا أعمل». فالخليقة كلها في السماء والأرض لا تزال فى دور الخلق والتجديد والترقي، وفق مشيئة الله وتدبيره مع المسيح الابن، لغاية ستظهر في النهاية حينما يُخضع الله كل شيء لسطان المسيح الابن: «لأنه يجب أن يملك، حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه. آخر عدو يبطل هو الموت.» (1كو25:15-16)
وربوبية المسيح فوق الخليقة وكل نواميسها واضحة من قول المسيح: «ثم قال لهم: السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت، إذا ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً.» (مر27:2-28)
فالمسيح، بعمله الأشفية وصنع الرحمة في يوم السبت، كان يقوم في الحقيقة بعملية تكميلية للخلق مساوية في مضمونها الإلهي للخلق ذاته. فالذي يجعل الأعمى المولود هكذا يصبح له عينان والميت المدفون وله أربعة أيام يقوم, إنما يعمل عملاً من صميم جوهر الخلق والخالق، مما يثبت أن أعمال الخلق لم تنته في نظر الله في اليوم السابع!
أما سبت المسيح الحقيقي فكان بعد أن أكمل أعمال الفداء وخلاص الإنسان على الصليب «قد أُكمل» (يو30:19)؛ أما بحسب الجسد فقد استراح في القبر: «لأن يوم ذلك السبت كان عظيماً» (يو31:19), وأما بحسب الروح فبعد أن أكمل المسيح آلامه دخل إلى راحته العليا أي مجده: «أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟» (لو26:24)
ودخول المسيح إلى مجده هو بحد ذاته الراحة العظمى التي يحكي عنها سفر العبرانيين هكذا: «لأن الذي دخل راحته استراح هو أيضاً من أعماله, كما الله, من أعماله, فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة.» (عب10:4-11)
وهنا يُلاحظ التوازي بين قول المسيح «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» و يين «استراح هو أيضاً من أعماله كما الله من أعماله». فالعمل على التوازي، والراحة على التوازي بين الآب والابن كل في مجاله، ومجال الاثنين هو تكميل مجال واحد!. لذلك يستطرد سفر العبرانيين ويقول إن راحتنا، أى سبتنا، هو «راحة» المسيح وسبته وقد أكملت مرة واحدة وإلى الايد، «إذاً بقيت راحة لشعب الله» (عب9:4), ويقصد هنا راحة جديدة غير راحة السبت، وهي الشركة في سبت المسيح أي موته لبلوغ القيامة التي هي غاية ونهاية كل الأعمال؛ والراحة التي تمت فيها ذبيحة المسيح وقبولها لدى الآب فتمت المصالحة بين الإنسان والله.
من هذا نفهم الآن لماذا كانت وصية السبت هامة وصارمة وخطيرة بهذا المقدار في الناموس القديم وكان ثمن التعدي هو الموت حتماً!! ليس لأنها كانت ذات مدلول أو نفع خلاصى بأي وجه من الوجوه، بل لأنها كانت تثير بالرمز إلى سبت العهد الجديد، سبت الله الآبدي، الذي كان ثمنه موت ابن الله أيضاً في القبر كنهاية لكل أعمال الناموس، الذي أُبطل بموت المسيح الفدائي. اسمع ما يقوله سفر العبرانيين كيف انتهى هذا الناموس بكل وصاياه من سبت وخلافه: «فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال، إذ الشعب أخذ الناموس عليه (على أساس الكهنوت اللاوي), ماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم كاهن أخر(الرب يسوع) على رتبة ملكي صادق ولا يقال على رتبة هارون؟ لأنه إن تغير الكهنوت, فبالضرورة يصير تغيير للناموس أيضاً» (عب11:7-12)، «فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئاً.» (عب18:7-19)
ثم يعود سفر العبرانيين ويتكلم بعد ذلك عن راحة الله في سبت الله الآبدي الذى أكمله المسيح بموته. والذى به فتح الباب لدخول الإنسان في هذه الراحة عينها أي الحياة الآبدية.
يبدأ بولس الرسول الحوار في رسالته للعبرانيين بوصف بني إسرائيل وهم في التيه وقد أغضبوا الله بقلة إيمانهم بقوله هكذا: «... حتى أقسمت في غضبي لن يدخلوا راحتي, انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي... ولمن أقسم لن يدخلوا راحته إلا للذين لم يطيعوا؟ فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الايمان. فلنخف أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يرى أحد منكم أنه قد خاب منه... لأننا نحن المؤمنين ندخل الراحة... مع كون الأعمال قد أُكملت منذ تأسيس العالم. لأنه قال في موضع عن السابع هكذا: واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله. وفي هذا (هنا) أيضاً (يقول) لن يدخلوا راحتي؟... إذاً بقيت راحة لشعب الله! لأن الذي (المسيح) دخل راحته (السبت الآبدي) استراح هو أيضأ من أعماله كما الله من أعماله. فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها.» (عب11:3-19) , (1:4-11).
واضح إذاً أن سبتنا الآبدي الدي يقوم على إيماننا بالمسيح بموته وقيامته، قد أُلغى وإلى الآبد سبت الناموس الرمزى الذى كان شبهاً للسماويات وظلها.
ولكن يلاحظ أن المسيح في قوله: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل»، لا يجعل عمله منفصلاً عن عمل الله بل متآزراً معه، كما يُفهم تماماً أن المسيح ينفي نفياً باتاً أن يكون خاضعأ تحت «أعمال الله» وبالتال تحت فكرة استراحة الله، بل أعلى منها وقواماً عليها، وهذا هو الذي أثار حفيظة اليهود أيما إثارة.
لقد فهم اليهود كل ما ضمنه المسيح في قوله المختصر جداً: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» . فهو أولاً وقبل كل شيء قد ألغى سلطة الناموس وأبطل الاعتراف بوصية السبت علنا وبإصرار! معتمداً على ادعائه بالصلة المطلقة بالله!
«أن الله أبوه»: الكلمة الخطيرة في هذه الآية هي ( ), التي تفيد الملكية الشخصية أي أن الله أبوه الشخصي الذاتى وهنا يصبح المسيح ابن الله ومعادلاً له, ولقد وقعت على أسماع اليهود كالصاعقة، فهذا عين التجديف إن نظروه كإنسان. وهنا تكون مصيبتهم هم وتجديفهم هم وليس المسيح. وبالتالي اعتبروا أنه يدعي أن عمله (وهو إنسان) يساوي عمل الله، وبذلك يكون قد كسر وصية السبت بمعنى أنه حلها أي فك رباطها وناموسها، وبالتالي أبطل الخضوع لناموسها.
وفي الحقيقة هذه كانت بالفعل نظرة المسيح, ونحن لا ننسى قوله: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه» (يو19:2), «أما هو فكان يقول عن هيكل جسده» (يو21-2). أي أنه ليس السبت فقط بل والعبادة الهيكلية بكل مشتملاتها وطقوسها وناموسها وكهنوتها وأعيادها وسبوتها بالتالي، وقد جعل «هيكل جسده» بمفهوم ذبيحته أي موته وقيامته، بكل أعضائه الجدد أي الكنيسة، هي الهيكل الجديد.
ولو أحسئا الرؤية من جهة سر العداوة المرة التي تراكمت في قلوب هؤلاء اليهود غير المؤمنين به والمعاندين له نجدها في عدم فهمهم وعدم قبولهم من قريب أو بعيد كونه يقول عن نفسه إنه ابن الله الذاتي, ولقد ضجوا من هذا التعبير, وأخيراً صارحوه عن سبب محاولتهم قتله قائلين: «وأنت إنسان, تجعل نفسك إلهاً» (يو33:10). ولكن لو أحسنوا الرؤية لرأوه العكس: «وهو إله, جعل نفسه إنساناً»!!
ولقد صر هؤلاء اليهود عداوتهم في قلوبهم من نحو قوله أنه «ابن الله», حتى أفصحوا عنها بمرارة كعلة طلبهم لصلبه أمام بيلاطس: «فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا قائلين اصلبه اصلبه. قال لهم بيلاطس خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة. أجابه اليهود: لنا ناموس، وحسب ناموسنا يجب أن يموت، لأنه جعل نفسه ابن الله.» (يو6:19-7)
ثم يا لحذق هذا القديس يوحنا الرسول كيف يصور لنا عثرة اليهود بقوة وعنف وجلاء لتكون لنا هي نفسها أساسا للايمان الواثق الوثيق!! «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد.» (يو18:3)
والذي دخل في روع اليهود وطمس معالم رؤية الحق وسماعه، تصورهم أن المسيح وهو إنسان يجعل نفسه إلهاً، ثم بادعائه أن الله أبوه يجعل نفسه «إلهاً مقابل إله» وهو الله، وبذلك يكون في نظرهم إلهاً ثانياً. ومن هذه النقطة بالذات بدأ المسيح شرحه وتوضيحه لمعنى الابن بالنسبة للآب في الله الواحد!. وذلك في كل الحوار القادم (من آية 19 إلى 23).
القسم الثانى من الأصحاح الخامس
شرح تفصيلى لمركز الابن من الله الآب
(19:5-30)
يتميز الجزء الأول من الإجابة الشاملة التي أجاب بها الرب على اعتراضات اليهود أنها تتخصص في توضيح طبيعة الابن وامتيازته وتنقسم إل قسمين:
قسم يختص بالعلاقات مع الآب ويستمر من الآية 19 إلى الآية 23.
والقسم الآخر يختص بالعلاقات مع الناس من الآية 24 إلى الآية 29.
أما في العلاقات مع الآب، فيوضح أنه سواء كان في العمل أو في الكرامة، فالابن مطابق للآب تماماً، وذلك لكي ينظر الناس في عمل الابن عمل الآب، فأعمال الابن تستعلن عمل الآب غير المنظور عن قرب ورؤية . وحتى يكون بتكريمهم الابن المنظور لهم يكرمون الآب غير المنظور. ويوضح المسيح ذلك بأربعة أدلة على أساس أنه يستحيل على الابن أن يعمل من ذاته شيئاً بدون الآب، وكل دليل يقدمه يبدأ بحرف «لأن».
( أ ) «لأن» مهما عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك(19).
( ب ) «لأن» الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله وسيريه أعمالاً أعظم من هذه (إقامة المقعد) لتتعجبوا أنتم (20).
( ج ) «لأنه» كما أن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء (21)
( د ) «لأن» الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الديونة للابن
وبناء على ذلك:«لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله» (22 و23)
يلاحظ هنا أن كلمة «الابن» تأتي بمفردها، وقد وردت ها في الآيات من 19-26 ثماني مرات، في حين أنها أتت في كل الإنجيل قبل ذلك وبعد ذلك عشر مرات فقط، هذا يجعلنا نفهم أن الإنجيل يركز جداً في هذه الآيات على القاعدة الإيمانية التي سيسهب بعد ذلك في شرحها.
وفي البداية ينبغي أن نلاحظ أن هذا الحوار جرى مع أشخاص قلائل مدربين في المعرفة، فريسيين محنكين. وهذا يظهر من الإختصار الذي نهجه المسيح في تقريره للحقائق وارتفاعه إلى مستواها المطلق، الأمر الذي يحتاج إلى فهم وعمق.
ثم نلاحظ ثانياً أن المسيح تحاشى أن يتكلم بضمير المتكلم «أنا»، كما لم يذكر الصفات التي اعتاد أن يلقب بها نفسه «كابن الإنسان»، أو حتى «ابن الله». ولكه يقتصر هنا على التوصيف المطلق «للابن» بالنسبة إلى «الآب» على مستوى المفهوم البشري للآب والابن، وذلك لكي لا يصدم تفكيرهم في البداية، بل يأخذهم أولاً على المستوى المطلق للأمور ثم يتدرج بهم للتطبيق، فيُظير شخصه بوضوح في الآية 24: «الذي يسمع كلامي» ثم في الآية 30 «أنا». فابتدأ هكذا: «الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً»! وهذه حقيقة مسلم بها؛ ثم الابن ينظر إلى ما يعمله الآب ويعمل مثله تماماً إذا كان الابن مطيعاً ومخلصاً ومحباً للآب! هذه حقيقة أيضاً مسلم بها تماماً. إذن فالمسيح يتكلم عن «ابوة» صادقة عاملة «وبنوة» صادقة عاملة. وهذا يتضمن بالضرورة أن إرادة الابن تكون مبثقة من إرادة الآب طالما أن العمل متطابق. ويقول ذهبي الفم أن [«لا يعمل من نفسه شيئاً», ليس قول من يلغي سلطانه بل إعلاناً عن التساوي المطلق غير المتغير عن الآب في القوة والمشيئة.]
«ما ينظر الآب يعمل»: يلاحظ أن المسيح يستخدم هنا في هذه الآية فعل «ينظر» في صيغة المضارع وهو باليونانية ( ) وهذا يفيد صلة الآب بالابن حال تجسده. كما سيجيء الفعل أيضاً في المضارع في الأية 30 أنه يُدين «كما أسمع أدين». أما حينما يستخدم المسيح الفعل الماضي فهو يشير إلى ما رآه وسمعه عند الآب قبل تجسده كقوله: «أنا أتكلم بما رأيت عند أبي» (يو38:8)، وكذلك: «وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم» (يو26:8). وهذا تأكيد ضمني لإثبات سبق وجود المسيح قبل تجسده.
كذلك قول المسيح: «الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها ... الآب قد أرسلني» (يو36:5)، ففعل «أعطاني» وفعل «أرسلني» تفيد وجوده السابق على تجسده. كذلك أيضاً قوله: «لأني خرجت من قبل الله وأتيت. لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني.» (يو42:8)
والملاحظ أن فعل «أرسلني» الذي يفيد ما قبل التجسد يأتي معه فعل «ما سمعت»، أو «ما رأيت»، أو «ما أتكلم»، كما في الآيات يو11:3-13, 31:3-32, 26:8و38, 49:12, 15:15, 36:5, 16:7, 24:14.
ولكن من كل الإفادات التي أفاد بها المسيح من سبق وجوده مع الآب أو «عند الله» لم يستخدمها المسيح ليستعلن شخصه، أو يزيد من هيبته، ولكن استخدمها ليفيد صدق كلامه وصدق رؤيتة واهمية إرساليته للعالم. وهذا يتضح جداً في قوله: «الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم؛ ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا. إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات. وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو11:3-13)
فكلمة المسيح هي من واقع رؤيا وسماع الآب، هي شهادة مهداة للانسان للتصديق الفوري والايمان بلا فحص، هي الآب منظوراً ومُتكلماً ومُشاهداً في روح الابن. الذي يصدق كلمة المسيح تدخله الكلمة كروح للحياة، وهو يدخل الكلمة كمن يدخل الملكوت أو الحياة الآبدية. الذي يسمع صوت المسيح ويستودعه أمانة قلبه ويحيطه بالتجلة والكرامة والمجد يسمع صوت الآب, بل يقبل الآب، كابن عثر على أبيه. كلمة المسيح لا تحتاج إلى شرح ولكن تحتاج إلى إيمان فهي تشرح نفسها لمن تدخل قلبه, يكفي أن يقول عنها المسيح إنها «روح وحياة.» (يو63:6)
هنا المسيح يقصد بغاية الوضوح أن يقول لليهود أن الأعمال التي يعملها يستحيل اعتبارها منفصلة عن أعمال الآب, فهو لا يكسر السبت على مسئوليته دون الله؛ كذلك الإرادة، فإن وحدة العمل تحتم وحدة الإرادة. وهنا يبرز جوهر القضية وأساس العثرة عندهم, كون المسيح أصبح يُنظر عندهم إلهاً ثانياً. فهو هنا يبرهن أن كلا من العمل والإرادة ليس منفصلاً عن الله ولا يعمل عملاً بدون الله، فالابن يعمل عمل الآب, والآب يعمل بالابن, والعمل واحد!! فالوحدة الإلهية مصونة مائة بالمائة. ولقد تسحب هذا الحق الإلهي بنوع ما على الذين يؤمنون بالمسيح أيضاً, فالمسيحي الحقيقي الذي آمن بالمسيح، والمسيح حل بالإيمان في قلبه، يعمل حسب المسيح ويفكر حسب المسيح ويشاء حسب المسيح. إنها نعمة الابن حلت على الذين يحبون الله: «لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا» (في13:2)!! لذلك يستطيع أن يقول كما قال بولس الرسول: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىّ.» (غل20:2)
وقد زاد المسيح هذا التأكيد بقوة لا تُجارى بقوله في الآية 30 القادمة: «أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً, كما أسمع (من الآب) أدين ودينونتي عادلة, لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني», «لا يقدر الابن أن يعمل... إلا ما ينظره» (يو19:5)
هنا التحديد قاطع مانع من جهة العمل وعدم القدرة على العمل، وهذا بحد ذاته ينبغي أن يسترعي انتباهنا جداً. فعدم قدرة الابن أن يعمل إلا ما ينظر الآب يعمله يظهر هنا أن التطابق كلي, ومن هنا يأتي جوهر الوحدة المطلق. والتأمين هنا ضد الثنائية بالغ الحذر. والقضية واضحة وسهلة، فالابن جاء ليستعلن عمل الآب وإرادة الآب ومحبة الآب، فالعمل الذي يعمله هو عمل الآب: «الآب الحال في هو يعمل الأعمال» (يو10:14)، وكذلك الإرادة: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.» (يو34:4)
ومرة أخرى يقول المسيح: «الابن لا يقدر أن يعمل»... هذا ليس تحديداً لسلطان الابن ولا لقدرة الابن ولا لطبيعة الابن ولا انتقاصاً من قدرة الابن عن قدرة الآب، ولكن هو حسم لقضية الثنائية التي شغلت بال الفريسيين والناس. فالمسيح يستطيح كل شيء إلا شيئاً واحداً لا يستطيعه، وهو أن يكون شيئاً غير الله إرادة وعملاً!! لأنه أصلاً جاء ليستعلن لنا الله الآب بطبيعة الله الذي فيه، فيستحيل أن يعمل عملاً خارجاً عن إرادة الله وعمله!! هذا يكون ضد رسالته وضد طبيعته وهذا محال عليه أن يأتيه.
ويلاحظ القارىء هنا كيف يربط المسيح ربطاً, لا ينقذ إليه الباطل قط, بين الابن المنظور والمتجسد على الأرض وبين الآب غير المنظور في السماء، فهذا جوهر الإعلان الإلهي. فعمل المسيح الأساسي كمستعلن لأبيه، مٌحكم غاية الإحكام حتى لا ينفذ إليه الفكر ناحية الفصل، وإلا يكون السقوط في الثنائية المحرمة والمحرومة.
«لأن "مهما" عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك» = «مهما عمل الآب يعمله الابن كذلك»: في «مهما» تكمن قوة الابن المطلقة, هنا التطابق لا يكتفي بالحدود المعقولة أو المنظورة بين الآب والابن، ولكن تتسع وتتسع لتبلغ اللانهائية: «مهما» غير المدركة للانسان. أي أن الوحدة القائمة بين الآب والابن مؤمنة ضد تفكير عقل الإنسان وقياساته، فوحدانية الله لله، فهى فائقة، وليس للانسان إلا أن يصدقها ويهتف بعظمة قوتها وجلال مجدها.
والمسيح في هذه الآية يرتفع فوق كبرياء الفريسيين بشموخ يفوق مستوى ما اعتادوا أن يسمعوه, أو يتعلموه، فقد وقف أمامهم يتكلم بصوت الله وهم يتأملون ويتصورون ما يقول؛ وأما شخصه الإلهي على حقيقتة, فهم قط ما رأوه ولا صموروه. تباً للعيون التي تنظر ولا تنظر والأذان التي تسمع ولا تسمع!
«الحق الحق أقول لكم»: ولا يفوتا مطلع كلام المسيح: «الحق الحق أقول لكم»، والتي يقولها ثلاث مرات في هذا الحوار الممتد، وهي بمثابة القسم الإلهي في العهد القديم: «بذاتي أقسمت يقول الرب» (تك16:22)، وهي تفيد دائماً الكشف عن حقيقة جديدة مقدسة مؤكدة تأكيداً، وهامة للغاية كانت مخفية من الإنسان ويعلنها المسيح كجزء من عمله الاستعلاني لله الآب، ويلزم أن تُسجل في قلب الإنسان لتكون موضع تصديق مطلق؛ وبذلك تكون ركناً ركنياً في الإيمان المسيحي. وهذه الآية التي جاءت بعدها هي العنصر الأول فيها.
هنا يأتي الفعل في المضارع المستمر، فالآب يحب الابن حباً دائماً لم ولن ينقطع، أي هو حب الاتحاد أو على الأصح الوحدة الكلية.
كما يلاحظ أن فعل «يريه» يأتي أيضاً على مستوى فعل المحبة أي في المضارع الدائم. والمعروف أن جوهر المحبة عطاء، وهنا عطاء المحبة هو العمل الذي يريه الآب للابن، وعمل الحبة عند الآب والابن هو آية, هو معجزة, هو حياة أبدية، في صورة أقوال وأعمال!
المسيح يكشف أساس التطابق في العمل بين الابن والآب: وكلمة «المحبة» المستخدمة هنا لا تفيد التوقير والمشاعر المنعكسة من التعارف المعبر عنها في مواضع أخرى بالأغابي, فهذه تنبع من حكم الفكر والخبرة الشخصية، بعكس الـ «فيلين» فهي محبة الكيان والطبيعة. وهذه توضح العلاقة الذاتية بين شخص الآب والابن. وهكذا بالابن ومن خلال الابن تُستعلن محبة الله الآب التي للابن, التي صارت لناء في صورة الأعمال التي يعملها الابن، فهي كلها أعمال المحبة الخالصة. والابن حينما يعمل أعمال الآب فهو يرد على حب الآب: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). فالأعمال التي يعملها المسيح هي بحد ذاتها استعلان دائم لمحبة الله. لذلك تأتي كل أعمال المسيح وهي تتضوع برائحة حب الآب، سواء مع هذا المقعد أو الأعمى المولود هكذا أو كل الآيات التي أجراها يوسع، فالحب الإلهي هو غايتها وعلتها معاً، لذلك صح قول المسيح في صلاته للآب: «أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.» (يو4:17)
هنا يستعلن المسيح سر المحبة في الله كعنصر قائم في الذات الإلهية بين الآب والابن, وسر حب الآب للابن, فقد أُعطي المسيح الامتياز الأعظم لاستعلان الآب أقصى ما يكون الاستعلان. فالتطابق في العمل والإرادة بين الآب والابن نابع من التحام الحب، وليس التعالي أو الامتياز. فالحب الإلهي القائم في الذات الإلهية هو سر وحدة العمل والفكر والإرادة. ولكن لأن الابن الآن قد تجسد آخذاً صورة الإنسان، أصبح من واقع الحال البشري أن يتكلم المسيح قائلاً إن الآب «يريه» كل ما هو يعمله، وأصبح أيضاً من واقع التقدم البشري الخاضع للزمان أن يتكلم المسيح ويقول «وسيريه» أعمالاً أعظم، لأن التدرج في الاستعلان خاصة من مستوى الماديات إلى الروحيات يناسب الإنسان. أما الأعمال التي هي أعظم من معجزة شفاء المقعد، مثل إعطاء الحياة بالخلاص أي الحياة الآبدية بالقيامة من الأموات, وبالتال الدينونة, فهي الأعظم. لأن الأمور الأقل هي للجسد والأعظم هي للروح: «فقال له سيده: نعماً أيها العبد الصالح والأمين. كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير. ادخل إلى فرح سيدك. (مت21:25)
«لكي تتعجبوا أنتم»: مع أن المسيح لا يميل إلى إتيان العجائب ليتعجب الناس، لأن الإيمان الذي يسعى أن يعطيه المسيح يعطيه كعطية: «لأنكم بالنعمة مخلصون "بالإيمان" وذلك ليس منكم هو عطية الله» (أف8:2)، ويعطيه نتيجة الثقة واليقين الذي يستقر في قلب من يسمع الكلمة طائعاً ببساطة قلب وليس بتعجب الذهن؛ ولكنه هنا يتكلم إلى الفريسيين بنوع خاص، كنوع من غير المؤمنين المعاندين، لذلك يؤكد ويشدد على نوعيتهم الخاصة بقوله: «أنتم», إضافة إلى صيغة المخاطب. ولماذا؟ لأنهم لا يخضعون لمنطق الإيمان الروحي ولا يتقبلون عمل الابن في شفاء المقعد، فأصبح لابد أن يريهم أعمالاً أعظم لكي يخضع أذهانهم العاتية، حتى إذا ما أنكروها أيضاً يكونون كمن عُميت أبصارهم وانسدت أذانهم ودخلوا تحت الدينونة بإرادتهم. لأنهم إذا لم يقبلوا الابن وقد عمل أمامهم أعمال الآب يكونون قد رفضوا الآب: «هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لى أن الآب قد أرسلني.» (يو36:5).
لقد شفى أمامهم المقعد، وكان هذا واضحاً جداً أنه إنما يعطي نموذجاً مبسطاً لسلطانه الفائق على المرض الميئوس منه، الذي يعتبر الشفاء منه نوعاً من تجديد الحياة. فلأنهم لم يؤمنوا، لزم أن يكشف عن مدى قوة هذا السلطان الذي له بالإقامة من الموت واعطاء الحياة؛ العمل الذي هو من اختصاص الله وحده.
وبقوله: «كذلك الابن»، ينقل إلى أذهانهم صورة الآب الذي فيه، المساوية للآب في كل شيء, ليس على المستوى المحدود في آية أو معجزة ولكن على المستوى الكلي لكل الناس وفي كل الظروف والأحوال: «يُحيي من يشاء». فسلطان الابن على الأموات والأحياء سلطان مطلق، فهو الذي «يُحيي» والأموات عنده تحت سلطانه كالأحياء يأمرهم فيأتمرون ويدعوهم للحياة فيلبون. نعم، فليس أمام غير المؤمنين إلا أن يتعجبوا، وتعجبهم سيدينهم في اليوم الأخير: «لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج ... الذين عملوا السيئات (أبغضوا النور ولم يؤمنوا بالنور) إلى قيامة الدينونة.» (يو28:5-29)
والمسيح يكلم هنا الفريسيين الحافظين لمواد دستور إيمانهم، وهو ينقل لهم صورة طبق الأصل من إحدى صلواتهم المسماة بالبراكوت وهي البركة الثانية من البركات الثماني عشرة: (شيمون عسر)
[أنت أيها الرب المقتدر إلى الأبد. أنت الذي تٌحي الموتى. وأنت القوي للخلاص، أنت الذي تسند الأحياء برحمتك، وأنت الذي بحنانك العظيم تقيم الموتى وتحييهم, أنت الذي تصنع الصلاح من نحو الراقدين في التراب. أنت صادق في وعدك بقيامة الأموات. مبارك أنت أيها الرب يا من تقيم الأموات.]
الذي يعطي الحياة لا بد أن يحكم فيها وعليها، والذي يقيم الموتى له أن يحاسبهم، هذه حتمية الامتياز الذي أُعطي للابن. والمسيح يكلم الفريسيين العارفين بالناموس: «فالذي يخطىء يموت» (قارن حز20:18). إذن, فالذي يقيم من الموت هو الذي يغفر الخطايا، والذي يغفر يدين، لأن الذي يحيي يميت أيضاً!!
والآب إذ أعطى الدينونة للابن، فليس معنى ذلك أنه لا يدين بل أنه يدين بالابن. فكما خلق العالم به، كذلك به أيضأ يدين العالم. فالآب لا يدين أحداً بدون الابن، لأنه أعطاه أن يحيي من يشاء وهذا يستلزم أن يدين.
أما قول المسيح أنه قد أعطى «كل» الدينونة، فمعناه أنه قد تول الحكم هنا وهناك, على الأرض وفي السماء. أما هنا فعلى قياس ما أظهر النور واستعلن الآب: «لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي» (يو15:15)، «أنا هو نور العالم» (يو12:8) فالذي يتبع ويسمع وينفتح بالروح ويقبل الاستعلان، فقد جاز الدينونة، ويكون قد انتقل من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، فيدخل في الحقيقة العظمى وينهمر عليه فرح الله الآب. والذي يحجب النور عن عينيه بيديه يدخل الظمة برجليه، والذي يسد الصوت إلى أذنيه، فقد دين وحرم نفسه من رؤية الله والحياة.
أما دينونة السماء فتكون: إما بأكاليل المجد: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وُضع لى إكليل البر الذي يهبه لى في ذلك اليوم الرب الديان العادل, وليس لى فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (تي7:4-8). وإما: «أقول لكم لا أعرفكم من أين أنتم؟ تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.» (لو27:13-28)
المسيح هنا يعلن صراحة ولأول مرة عن لاهوته المساوي للآب بلا مواربة, مع أنه شخصيأ لا يطلب الكرامة لنفسه: «مجداً من الناس لست أقبل» (يو41:5). ولكنه يطلب مجد الآب: «من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو عادل وليس فيه ظلم» (يو18:7)، ولكن كيف يمجد الناس الآب وهم يرفضون بل ويهينون الابن «لكني أكرم أبي وأنتم تهينوني. أنا لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين (يو49:8-50). فالواقع الإلهي هو أن الآب أرسل ابنه لكي يستعلن حقيقة الله الآب والحياة الآبدية التي عنده! التي فيها وبها الخلاص، لذلك أصبح الابن حاملاً بالضرورة كرامة الآب ومجده: «أنا مجدتك على الأرض» (يو4:17). لذلك يتحتم لكي يمجد الناس الآب أن يمجدوا الابن, هذا من جهة شخص الابن في ذاته، وإضافة إلى ذلك فإن الابن يمثل شخص الآب الذي أرسله، فالذي لا يمجد الابن, المسيح, لا يكرم الآب الذي أرسله. والمسألة في عمق معناها ليست مسألة مرسل ومرسل، بل مسألة الوحدة القائمة بينهما!!
هذا يعني أن المسيح يطالب بمجد الآب سواء في شخصه كابن الآب أو بصفته كمرسل من الآب ويمثله بذاته! لذلك فعدم تكريم الابن هو كذلك بالنسبة للآب. والذي يزدري بالمسيح يزدري بالله الآب وعقابه أشر: «من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلا ثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقاباً أشد تظنون أنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدس به دنساً وازدرى بروح النعمة ... مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي.» (عب28:10-31).
وتحقيقاً لبنوة المسيح للآب قام المسيح بشفاء الناس واعطاهم الحياة على أساس غفران الخطاياى الأمر الذي هو من صميم اختصاص الله الآب: «ولكن لكي تعلموا أن لأبن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا, حينئذ قال للمفلوج قم احمل فراشك واذهب إل بيتك.» (مت6:9)
وتحقيقاً لكون المسيح مرسلاً من الآب, فقد باشر أعمال الآب: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). ولكن إذ أعطى الله الابن سلطاناً لكي يشفي ويحيي ويقيم من الموت، تحتم أن يعطيه أيضاً سلطاناً لكي يدين، لأن غفران الخطايا هو الجزء الأعظم من سلطان القاضي أو الديان. وحينما تقول الآية التي نحن بصددها وفي مستهلها: «لكي» فهي تعني «وبناء على ذلك»، أي بناء على كل ما سلف، بمعنى بناء على أن الابن يعمل عمل الآب، وبناء على أن الآب يحب الابن ويريه كل ما يعمل, وبناء على أن الابن يقيم الأموات ويعطي حياة, وبناء على أن الآب أعطى كل الدينونة للابن؛ بناء على ذلك كله، تحتم أن يكرم الناس الابن كما يكرمون الآب، وإلا فالمهانة وعدم الإكرام تصبح موجهة للآب الذي أعطاه كل هذا والذي أرسله أيضاً.
ولكن واضح تصميم الآب أنه لكي يكون للابن الكرامة والمجد المساويين للآب في كل شيء, أعطاه كل الدينونة لتخضع له كل خليقة ما في السموات وما على الأرض. هنا حق للمسيح أن يقول: «أنا والآب واحد» (يو30:10)، وأن يخاطب الآب: «كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي وأنا ممجداً فيهم» (يو10:17)؛ وكذلك, وعن حق وعن يقين واستحقاق، أن يدعى المسيح ابن الله، وأن يدعو المسيح الله الآب «أبي».
ولكن يخطىء الناس وإلى يومنا هذا في أنهم يفهمون أن المجد قد صار كله للابن، لذلك لم تعد الغالبية من المؤمنين يقدمون المجد والكرامة إلا للمسيح ولا يُذكر مجد الآب إلا في الجمل الرسمية من الصلوات المحفوظة. لذلك وجب هنا أن ننبه أن المسيح جاء ليستعلن الآب, حتى تكون صلتنا بالآب أكثر وضوحاً وتغلغلاً في الفكر والقلب بالعبادة الشخصية. والحقيقة التي يتحتم أن يفهمها كل مؤمن أنه كلما ازدادت صلتنا بالمسيح ازداد حضور الآب في القلب بصورة عملية: فإذا ضعفت صورة الله الآب في الوعي, فهذا معناه أن الوعي المسيحي ناقص جداً والإيمان يحتاج إلى مراجعة شديدة. «في ذلك اليوم تطلبون باسمي، ولست أقول لكم أني أسأل الآب من أجلكم لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني.» (يو26:16-27)
ومن صميم الإيمان الحي الموصل للحياة بالفعل أن يكون إيماننا بالآب هو الموصل لإيماننا بالمسيح, لأن المسيح هو عطية الله الآب لنا: «لو كت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب» (يو10:4)، ثم أن المسيح سبق وأعلن أنه: «لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلنى» (يو44:6)، وأن كافة التلاميذ المخلصين للمسيح هم عطية الله الآب للمسيح: « كانوا لك وأعطيتهم لى» (يو6:17). فحتى الشكر الذي نقدمه يتحتم أن نقدمه دواماً للآب في اسم المسيح (أف20:5, كو17:3)، علماً بأن جوهر الإيمان والعبادة ينص أن المجد والكرامة متساوية تماماً بين الآب والابن والروح القدس، لذلك تحتم أن تكون العلاقة الشخصية الحية والعملية مع الحب المتبادل للثالوث الأقدس متساوية.
مرة أخرى يستعلن المسيح الوحدة الترابطية بين الآب والابن إنما بصورة غير ملحوظة، إذ يعتبر أن الخلاص لا يتم للانسان إلا بالآب والابن. فالإيمان الذي يربط بينهما يؤدي إلى الحياة الأبدية ويعتق من الموت الحقيقي وليس موت الجسد.
ونعود سريعاً إلى قول المسيح: «الحق الحق أقول لكم» التي هي الإعلان الرسمي الإلهي على مستوى القسم، والذي يتصدر حقيقة جديدة كانت مخفية وقد صار إعلانها علنا لتكون ركناً أساسياً في الإيمان المسيحي.
وهنا يلزم أيها القارىء العزيز أن ننتبه غاية الإنتباه، إنما في خشروع وخضوع كلي لسلطان الكلمة، لأن وراءها أعظم عطية يمكن أن ينالها الإنسان على الأرض. وأقدم لك هذه الخطوات لكي تصل إلى سر هذه الآية:
1- مطلوب بساطة قلب وفكر يشبه فكر الأطفال لقراءة وفهم أقوال المسيح وهذا القول بالذات!
2- مطلوب تصديق قلبي وفكري بهدوء وتركيز في المعنى الذي تحويه الكلمات في أقوال المسيح.
3- مطلوب معرفة أن هذه الآية تحمل وصية ضمنية أي ما يشبه الأمر الإلهي، وكل وصية أو أمر إلهي يُقبل فوراً بدون أسئلة جانبية أو طلب زيادة وضوح أو شرح. فالأمر يحمل قوته في قبوله كما هو بدون فحص. وحالما يقبل الإنسان الأمر، يبدأ الأمر يفسر نفسه ويلقن الإنسان كيف يمكن تكميله والحصول على كل ضماناته. هذا ينطبق على كل وصايا المسيح. والأمر, أي الوصية, في هذه الآية: «إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني», يمكن وضعه كالآتي: «اسمع صوتي وآمن بالذي أرسلني».
4- كل وصية للمسيح تحمل معها «وعداً», بمعنى أن كل وصية تحمل معها عطية سخية تفوق العقل, لأن كل وعود المسيح هي فائقة جدأ على الطبيعة. لا يمكن أن يعطي المسيح أمراً أي وصية دون أن يصرح ضمناً بالوعد والعطية السخية التي تتبعها حتماً. وكل وعود المسيح مطلوب تصديقها بالقلب بشدة كما هي.
والوعد الذي في هذه الوصية هو: «له حياة أبدية»، وأنه «لا يأتي إلى دينونة»، أي ينعتق من الدينونة بمغفرة خطاياه، سواء في الحاضر في الضمير أو في المستقبل في الدينونة العامة، بل قد انتقل من الموت الحقيقي (غير الجسدي أي موت الخطية) إلى الحياة (الحقيقية). هذا يتم بالتصديق الإيماني.
والأن مطلوب أن تقرأ الأية مرة أخرى بكل هدوء وعلى مهل وتطبق الشروط السالفة. والنتيجة ستكون في حالة النجاح في التطبيق أن يحصل الإنسان على الإحساس بأن سر الآية قد انفتح على النفس, وأن الإنسان دخل في الكلمات والكلمات دخلت في الإنسان وصار الإنسان في مواجهة المسيح والآب والحياة الآبدية!
أما بعد ذلك فيلزم تكميل الإيمان بدراسة الكلمة ومعرفة دقائق الإيمان وممارسة العبادة كما تفرضها الكنيسة بتدقيق.
«من يسمع كلامي »: السمع هنا ليس سمع الأذن الموصل إلى العقل للفهم المنطقي فحسب، بل يتضمن دخول الكلام, وهو روح, من الأذن إلى القلب ليحركه, لأن الكلمة فيها حياة. إذا تحرك القلب تحت وطأة سماع الكلمة يكون سماعاً صادقأ حقيقيا قال عنه المسيح في سفر الرؤيا: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح» (رؤ7:2). هنا يطلب المسيح أذناً روحية تسمع بالروح! وفي إنجيل القديس متى يقول: «وان أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا (يوحنا المعمدان) المزمع أن يأتي. من له أذنان للسمع فليسمع» (مت14:11-15). هنا يطلب الأذن التي تقبل الحقيقة وما وراءها، لأنه إن كان المعمدان هو إيليا إذن فيسوع هو المسيا الآتي!! والمسيح يطلب الأذن التي تسمع الروح وتفهم القصد وتؤمن بالوعد!!
«يسمع كلمتى »: هنا جدير بنا أن نفرق بين «يسمع صوتي» التي ستأتي في الآية القادمة (25)، و«يسمع كلمتي» في الآية (24). والفرق بينهما كبير، فصوت المسيح قوة روحية حينما يتقبله القلب المشتاق، ترن فيه رنة الحياة وتهتز أوتاره بل جدرانه، كمن يستقبل رب الحياة. أما الكلمة فهي إنجيل الخلاص، والصوت كائن في الكلمة وفي كل آية. الكلمة تمنح حقيقة ومعنى روحياً ووعداً وتأكيداً، وهي قادرة أن تغير وتجدد وتلد من جديد، أما الصوت فهو صوت شخص ابن الله الذي يعلن عن وجوده وسر الحب والحياة والعطف والحنان، وكأن الإنسان بلغ الملكوت: «خرافي تسمع صوتي.» (يو27:10)
ثم يلزما هنا أن نصحح الترجمة العربية، فهي ليست «يسمع كلامي» بل «يسمع كلمتي» (اللوغس) ومعناها الكلي: «يقبلني باعتباري «الكلمة» المتجسد، الابن الوحيد المحبوب ناطقاً بصوت الآب واسمه».
ومعروف أن المسيح بمجرد أن قال كلمته، فقد انقسم العالم إلى من يسمع والى من لا يسمع, إلى مؤمن وإلى رافض، الذي يسمع يؤمن والذي يؤمن «لا يأتي الى دينونة». وهذا اصطلاح يهودي معناه البسيط أنه لا يُطلب حضوره أمام القاضي أو الديان، بمعنى المعافاة المطلقة أو البراءة بدون محاكمة.
«ويؤمن بالذي أرسلني»: المسيح هنا يعتمد على كل ما استعلنه عن الآب. فهو يطالب كل من يعرف الآب كما استعلنه المسيح، أن يؤمن به, بمعنى أن يؤمن بما نقل الابن عنه من قول أو وعد. فمثلاً نقل المسيح عن الآب هكذا: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الآبدية» (يو16:3). المطلوب هنا تصديق كلام الآب تصديقاً ينفذ في العقل ويخترق القلب ويملأه، فيؤمن بصدق الآب وصدق وعده: أنه أحبنا بالفعل وأنه أرسل ابنه بالفعل فدية لكى من يؤمن، فلا يهلك بل ينال الحياة الأبدية.
وكوننا نؤمن أن الآب كان صادقاً وأرسل ابنه ليفدينا، هذا بحد ذاته هو الإيمان بالآب، ويجعل الآب له علاقة مباشرة بنا: «الآب نفسه يحبكم لأنكم أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت» (يو27:16)، «وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني.» (يو8:17)
انظر أيها القارىء كيف أن الإيمان بوعد الآب وصدق كلمته هو النصف المكمل للايمان بالمسيح المؤدي للحياة الأبدية والانعتاق من الدينونة.
«له حياة أبدية»: المسيح لا يسوف، فالمعنى ينصب على الحاضر = له الآن وكل أوان، لأن الحياة الأبدية غير مرتبطة بالزمن. الحياة الأبدية مثل كل عطايا الله الروحية هي فائقة على الطبيعة، هي فوق الزمان، هي لنا إذا أخذناها الآن، فتبقى معنا إلى الأبد.
«انتقل من الموت إلى الحياة»: لينتبه القارىء ولا يرفع الأفعال هنا إلى المستقبل، فهي قد تمت!! «يكون قد انتقل» هنا المسيح يصور حالة مقضياً بها، حكماً نافد المفعول، وكأنه قد صار بمعنى أن المؤمن الذي انتهى في نفسه من قضية سماع كلمة المسيح واخترقت أذنه الروحية واستقرت في القلب وأصبحت حقيقة إيمانية، وصدق كلام الآب وأمن به، فإنه يشعر في قلبه شعور الإيمان اليقيني أنه قد غُفرت خطاياه, وأنه قد سقطت عنه كل الدينونة, وكف عنه صراخ الضمير المشتكي واللائم الدائم، ويحس أنه انتقل من حالة ظلمة قلبية محيطة إلى نور الله، وفرح يدوم مع شكر لا يهدأ «كل حين على كل شيء.» (أف20:5)
وانجيل يوحنا قدير في أن يستحضر الفعل الاخروي الذي كنا نتظره وكأنه سيحدث بعد الموت، يحضره في الآنية الزمنية: الآن وفي هذه الساعة: «تأتي ساعة "وهي الآن" حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يو25:5). ولكن مطلوب الأذن الروحية الآن!
المسيح في إنجيل يوحنا يُلهمنا استعلاناً جديداً عن الموت والحياة!! فالموت الجسدي القديم والرعبة المحيطة به قد انتهيا إلى الأبد وحل محلها الموت الأخطر: وهو موت الخطية الذي كان منسياً أو مخفياً. و«الحياة» القديمة التي كنا ننتظرها خطأ بعد الموت فلا نكاد نذكرها أو نفهمها أو نحسها، استعلنها المسيح في الحاضر إذ أسقط عنها الزمن الكاذب فظهرت بقوة أكثر من قوة الحياة بالجسد: «فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب واُظهرت لنا... ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً.» (ا يو 2:1و4)
بهذا المعنى الاستعلاني الجديد الذي يقدمه المسيح في هذه الآية، نفهم كيف يؤكد المسيح أن من يسمع كلامه ويؤمن بالذي أرسله يكون قد انتقل من الموت إل الحياة، إنه اختبار الحاضر: «تأتي ساعة وهي الأن»!! والانتقال من الموت إلى الحياة, بمعنى سقوط الدينونة وشروق فجر الحياة الأبدية، من شأنه أن يجعل الإنسان يشعر بكيانه في المسيح والآب ولا يعود يعيش لنفسه!! فالذي آمن به الإنسان وصدقه يُحسه ويراه ويحبه ويعيشه!!!
ولكن كون الإنسان قبل الآب والابن في كيانه وعاش الحياة الأبدية بنوع ما الآن, لا يعني أنه لا يوجد موت للجسد أو أن هذه هي كل الحياة الأبدية. فالذي نختبره ونأخذه بالإيمان الآن نأخذه, كما يقول بولس الرسول, كعربون، والعربون دائمأ يكون نسبة ضئيلة إذا قارئاه بالحصيلة الكلية: «نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح، الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم, الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس, الذي هو عربون ميراثنا, لفداء المُقتنى لمدح مجده.» (أف12:1-14)
وعلى العموم فالمسيح في هذه الآيات لا يقدم تعليماً بقدر ما يطرح عملاً؛ فهو يحفز السامع والقارىء ليأخذ قراره, إنه نفس موقفه تجاه اليهود، يطرحه على الإنسان على مدى الدهور. إنه لا يعلمهم بل يتحداهم، يطرح الحياة والموت أمامهم ، فإما يقبلون الحياة فيه، واما يقتلونه فيبقوا في الموت إلى الأبد.
«تأتي ساعة، وهي الآن»: على القارىء أن ينتبه إلى الفارق الكبير بين قول الرب في هذه الآية «تأتي ساعة وهي الآن», وبين قوله في الآية القادمة «تأتي ساعة» بدون «الأن». فالاولى تشير إلى الواقع الحاضر وهو الواقع الروحي، فهي ساعة الخلاص والوقت المقبول الذي تكلم عنه إشعياء النبي: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: "فِي وَقْتِ الْقُبُولِ اسْتَجَبْتُكَ وَفِي يَوْمِ الْخَلاَصِ أَعَنْتُكَ. فَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ لإِقَامَةِ الأَرْضِ لِتَمْلِيكِ أَمْلاَكِ الْبَرَارِيِّ» (إش 8:49), «لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ.» (إش2:61) أما الثانية التي أتت بدون «الآن» فهي تشير إلى المستقبل في نهاية الزمان وهي ساعة الدينونة.
القيامة بالروح قادمة كما تنتظرها الأجيال والآن هي حاضرة. المسيح يؤكد ما يؤمن به الجميع أن استعلان القيامة القادمة في نهاية الزمان هي أمر حتمي بحسب رجاء اليهود، ولكن الجديد الذى لم يكن يتوقعه أحد هو استعلان المسيح لبدء عمل هذه القوة القادرة على الإقامة من الموت الآن، وهي بعينها قوة الحياة الآبدية! هذه القوة التي تُحيي الموتى قائمة وكائنة في الكلمة التي ينطقها المسيح. والكلمة التي ينطقها المسيح هي استعلان الآب والحياة الأبدية التي كانت عنده، وها هو المسيح يستعلنها بالكلمة المنطوقة والأية المعمولة: «والسامعون يحيون»!
هنا ينقل المسيح كل التراث اليهودي عن المستقبل الذهبي البعيد والمجهول والذي فيه تسود إسرائيل على العالمين والذي عبرت عنه الأنبياء «بذلك اليوم»، وعن الأمال العريضة المدخرة فيه، ينقله فجأة إلى هذه الساعة الأن: «فقال لى ؤتنبأ عن هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعى كلمة الرب», «هكذا قال السيد الرب لهذه العظام، هأنذا أدخل فيك روحأ فتحيون ... وتعلموا أني أنا الرب»، «ثم قال ل يا ابن آدم (ابن الانسان) هذه العظام هي كل بيت إسرائيل, ها هم يقولول يبست عظامنا, وهلك رجاؤنا, قد انقطعنا (بسبب الخطية وغياب الله)؛ لذلك تنبأ وقل لهم: هكذا قال السيد الرب هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي... وأجعل روحي فيكم فتحيون... ويكون لجميعهم راع واحد.» (حزقيال 37)
واضح هنا أن الأنين ويبس العظام وانقطاع الرجاء على لسان النبي بالروح يعبر أقوى تعبير عن حالة إسرائيل الروحية أيام المسيح.
أما قول الله على لسان حزقيال: «أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب», فهي هي قول الرب بعينه: «تأتي ساعة حين يسمع الأموات صوت ابن الله».
وكلمة «الأموات» هنا يلزم أن نفهمها على أنها موتى الخطية أو عدم الإيمان بالمسيح، لأن «موتى الجسد سيذكرهم المسيح بالتحقيق مع صفة مضاعفة ليفرقهم عن موتى الخطية بقوله: «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج ...»، والفرق في الذين يسمعون بين الآيتين، هو أن سامعي صوت المسيح في الآية التي نحن بصددها هم موتى الخطية ولا يذكر هنا «جميع», لأن فيهم من يسمع ويستجيب وفيهم من لا يسمع ولا يستجيب, حيث تأتي كلمة «السمع» في اللغة اليونانية بمعنى السمع والقبول؛ أما موتى الآية القادمة فيذكر فيها «الجميع» لأن جميع الموتى سوف يقومون للدينونة بلا تفريق.
لقد سبق وأعلن المسيح في الأصحاح الرابع عن مجيء هذه الساعة المنتظرة منذ الدهور، ساعة ما بعد الزمن، ساعة الأخرويات، أي أزمنة الحياة الأبدية التي ليست أزمنة الجسديات، حينما قال: «تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين» (يو23:4). هنا يصف المسيح جوهر العبادة اللائقة بالله، لأن الله روح والساجدون يتحتم أن يسجدوا له بالروح. الآن نفهم سر هذه الآية التي مرت علينا، فمعناها ينحصر في أنه لا عبادة مقبولة أو منظورة أو مسموعة من الله إلأ عبادة القائمين من الأموات الذين انتقلوا من الموت إلى الحياة، أي الذين سمعوا صوت ابن الله، بمعنى قبوله ليجلس الابن على عرش القلب ويدبر ويسود، والذين آمنوا بالذي أرسله أي آمنوا بالآب كونه أرسل ابنه مبذولاً على الصليب حتى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. فالإيمان بالآب مٌستعلن عمله وقوته في إرسالية الابن. والذين أقامهم المسيح من الموت «الآن»» هم الذين غُفرت خطاياهم، فسقطت عنهم الديونة وانتقلوا من الموت إلى الحياة، فدخلوا في بر المسيح ليتبرروا أمام الله كأبناء بلا لوم. والقديس بولس يتكلم عن موتى الخطية بوضوح: «وأنتم إذ كنتم أمواتا بالذنوب والخطايا.... ونحن أموات بالخطايا, أحيانا مع المسيح.» (أف1:2و5)
هؤلاء هم الساجدون بالروح الذين يطلبهم الله ودفع ثمن حياتهم الجديدة ببذل ابنه الوحيد. أما كيف يسجدون «بالروح» فهذا عرفته الكنيسة جيدا في يوم الخمين ومارسته بقوة، حتى إن صلاة التلاميذ كانت تزعزع المكان: «ولما صلوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه وامتلأ الجميع من الروح القدس.» (أع31:4)
لقد تحقق قول الرب ولا يزال من جهة الساجدين بالروح ومن جهة الذين يسمعون بالروح! «فتأتي ساعة وهي الأن»، ولا زالت إلى «الآن» حاضرة في عمق الزمن وهي ليست من الزمن في شيء!
ثم عودة إلى «الحق الحق أقول لكم» التي استهل بها المسيح هذه الآية. فالحقيقة الإيمانية الجديدة التي يعلنها المسيح والمحسوبة أنها ركن ركين في الإيمان المسيحي، هي أن الإنسان الذي مات بالخطية وانطفأت جذوة روحه تحت سلطانها المهلك، مدعو للحياة من جديد. كلمة المسيح فيها حياته وهذه هي «القيامة الاولى» التي عبر عنها الروح في سفر الرؤيا: «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الاولى، هؤلاء ليس للموت الثاني (الدينونة) سلطان عليهم.» (رؤ6:20)
«يسمع صوت ابن الله»: أنظر المقارنة بين «يسمع كلامي» و «يسمع صوتي» في شرح الآية السابقة.
«ابن الله»: هذه واحدة من ثلاث مرات في إنجيل يوحنا يذكر المسيح فيها أنه «ابن الله» بوضوح وعلانية، أما المرتان الأخريان فهما: «فالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ابْنُ اللَّهِ؟» (يو36:10)، «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ: «هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللَّهِ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ». (يو4:11). وهذه الصفة الجوهرية يتمسك بها القديس يوحنا سواء من فم المسيح أو من البراهين العملية والاستعلانية التي تيقن منها، وجعل من هذه الصفة ركيزة الإيمان الاولى لإنجيله: «لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله.» (يو31:21)
الكلام هنا هو في صميم الطبيعة الإلهية. والمسيح يحدد موقعه من هذه الطبيعة بالنسبة للآب. ولكن لا يمكن الكلام عن الطبيعة الإلهية دون التعبير عن الذات الإلهية.
الطبيعة الإلهية يشترك فيها الآب والابن على السواء، فالطبيعة الإلهية للآب هي نفسها الطبيعة الإلهية للابن. «والحياة» هي من صميم خواص الطبيعة الإلهية.
ولكن الحياة في الله ليست ممنوحة ولكن هي خاصية الذات الإلهية، فكيان الله حي بذاته. «أنا الكائن بذاتي». والذات الإلهية واحدة، هي أب وابن كل منهما قائم في الذات الإلهية الواحدة. فالآب له بالضرورة الحتمية حياة في ذاته الإلهية، والابن بنفس الضرورة الحتمية له حياة في ذاته الإلهية.
الآية هنا لا تفيد على الإطلاق أن الآب «أعطى» حياة للابن في ذاته، هذا محال؟ ولكن الآب أعطى الابن «أن يكون» له حياة في ذاته كما الآب له حياة في ذاته، أي أن هذا هو حال كيان الابوة والبنوة!
فإذا كانت طبيعة الحياة الذاتية هي في الابن كما في الآب، فلماذا أضاف المسيح القول أن الآب أعطى الابن أن يكون له هذا؟ واضح أن السبب هو التمييز بين الآب والابن في الذات الإلهية.
وإليك قول ذهبي الفم في هذا الموضوع: [أترى كيف أن المسيح يعلن التعادل الكامل بيهما إلا في نقطة واحدة وهي أنه: واحد هو الآب، وواحد هو الابن, لأن بقوله «قد أعطى» يوضح هذا التمايز، ولكنه يعلن أن كل شيء ما عدا هذا متساو تماما. وعليه فمن الواضح أن الابن يعمل كل شيء بسلطان وقوة مثل الآب تماماً. وأن الابن لا يأخذ قوة من أي مصدر كان لأنه له حياة كما الآب له حياة]
في كل الامتيازات المذكورة في التسع خطوات التي أعلن المسيح فيها لاهوته، يقفز هذا الامتياز وحده ليختص ببشرية المسيح. فهنا امتياز الديونة أخذه المسيح باعتباره «ابن إنسان» حسب القراءة اليوناية الصحيحة بدون التعريف بـ «الـ», وذلك يعني أن المسيح يتبوأ مركز الدينونة العالى ليس بصفته ممثلاً للبشرية، والا لزم أن يكون «ابن الإنسان»، ولكن المذكور هنا هو «ابن إنسان»، فرفع «الـ» التعريف توضح أن اصطلاح «ابن الإنسان» لا يفيد شخص المسيح بل الجنس أي أنه يدين كإنسان! وهذا المعنى يحمل منتهى العدالة الإلهية إذ جعل الديان الذي يقضي لبنى الإنسان هو «ابن الإنسان» أي من جنس من يقضي لهم: هذا ما يقرره بولس الرسول في سفر العبرانيين بوضوح: «من ثم كان يبغي أن يشبه إخوته في كل شيء لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً فيما لله حتى يٌكفر عن خطايا الشعب. لأنه فيما هو قد تألم مُجرباً يقدر أن يعين المجربين... لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مُجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه (نجد نعمة للمعونة في وقت الحاجة)» (عب17:2-18, 15:4-16). لذلك أصبح من خصائص المسيح العجيبة التي تميزه كقاض للبشرية أنه يشفع في المذنبين! «وأما هذا فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول (بصفته مقدم أقدس وأعظم ذبيحة حية على عرش الله)، فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين يشفع فيهم» (عب24:7-25), أي أن ديان الناس هو بعينه محامي البشرية الأول, وقد جمع بولس الرسول هاتين الصفتين معاً هكذا: «من هو الذي يدين؟ المسيح، الذي مات بل بالحري قام أيضاً الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا» (رو34:8- ترجمة مصححة من اليونانية).
إذن، خطير حقاً أن نفقد لأنفسنا وظيفة الشفاعة هذه برفضنا المسيح الشفيع فلا يبقى لنا منه إلا الدينونة!!
واستخدام المسيح للفظ «ابن إنسان» هنا ينبهنا مباشرة إلى نبوة دانيال: «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إل القديم الايام (الآب) فقربوه قدامه فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأممم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض» (دا 13:7-14). وبولس الرسول أدخل في اللاهوت صفة المسيح «الإنسان» بقوله: «فإنه إذ الموت بإنسان بإنسان أيضأ قيامة الأموات» (اكو21:15)؛ موضحاً بذلك الجنس البشري الذي يتجنس به المسيح ليكمل به عمل الفداء!
وهكذا يتضح لنا أن في قول المسيح: «وأعطاه أن يدين أيضاً لأنه ابن إنسان»، تلميحاً واضحأ لنبوة دانيال التي يحاول المسيح فيها أن ينبه ذهن اليهود إليها لينتبهوا إلى شخصه، ولكن شكراً لله، فالذي عثر فيه اليهود صار لنا دليل حياة ومرساة إيمان.
لقد طرح المسيح أمامهم في الأية (25) درجة أولى من درجات السمع والحياة: «تأتي ساعة وهي الأن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون». هنا سماع صوت المسيح، والإنسان لا يزال يعيش، ولو أنه ميت بالخطية في الحقيقة! وهنا السماع هو في درجته الاختيارية، كذلك الحياة التي ينالها من جراء غفران الخطية هي حياة جديدة في صميم الحياة القديمة، حياة حقيقية بالروح في صميم حياة الجسد الزائلة.
ففي هذه القوة التي للرب في إقامة موتى الخطية لقبول حياة أبدية، يقول الرب: »لا تتعجبوا، لأنه تأتي الساعة الأخيرة, ليست الآن, تأتي في وقتها المحدد، فيسمع جميع الموتى (موتى القبور). هنا قيامتان، لأنه في الحقيقة لو تمشينا مع لاهوت القديس يوحنا وفهمه للموت والحياة والقيامة، يكون موتى القبور هم إما الذين فاتتهم القيامة الاولى, التوبة والغفران والمعمودية, ولم يسمعوا لصوت المسيح ولا اقتنعوا بندائه للتوبة ولا رجعوا عن سيرة الخطية، بل استمروا في غيهم في طريق الموت الروحي وضاع عليهم زمن الخلاص، واحتوت أجسادهم القبور؛ هؤلاء يسمعون صوت المسيح, ليس المخلص بعد, بل الديان، وهو الصوت الذي يدعوهم لتقديم حساب الحياة ويطالبهم بثمن دمه الذي سفكه من أجلهم فازدروا به، ويطالبهم بثمر الإنجيل الذي طرحه أمامهم بين أيديهم، فطرحوه تحت أرجلهم وداسوا على الكلمة وأهانوا الروح. هؤلاء لهم قيامة واحدة أو صحوة يصحونها على الضمير المعذب حيث يواجهون الدينونة بل ويقيمون فيها؛ أما القيامة الأخرى، فهي للذين أحبوا النور وكانت أعمالهم بالله معمولة، فهؤلاء لهم القيامة الثانية في ملكوت ابن الله حيث ميراث المجد. والمسيح يخاطب اليهود أن هنا لهم أن يتعجبوا كما يشاءون، لأن ما سبق وقاله بخصوص القيامة الروحية الاول لموتى الخطية، لهم أن يقبلوا به أولا يقبلوا, أما إقامته الجبرية لكل ذي جسد فهو أمر حتمي موف يخضعون له صاغرين.
ولو يلاحظ القارىء أن الرب سبق وطرح أمام نيقوديموس دعوته نفسها: «لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق» (يو7:3). فلهذا قال له: «لا تتعجب أنه ينبغي أن تولد من جديد»، ولهؤلاء قال: لا تتعجبوا أنكم سوف تقومون لدينونة عتيدة. فسماع الأذن اليهودية المنغمسة في الماديات والدنيويات صعب عليها أن تقبل التجديد لتحيا للروح. وأصعب من ذلك أن تصدق أنها ستدان: والكلام لنا أيضاً...
«فعلوا الصالحا وعملوا السيئات»: هو التعبير العملي عن الإيمان وعدم الإيمان, قبول النور ورفض النور, محبة الحق وبغضة الحق، فالذي أمن بالمسيح قد صار له عمل صالح بالدرجة الاولى: «فقالوا له: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله. أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يو28:6-29). لأن الذي آمن بالمسيح يعني على المستوى الإيماني الحقيقي أنه قد صار يعيش للمسيح والمسيح يحيا فيه، وصار الروح القدس يعمل معه أعمال الله الصالحة. ويستحيل لأحد أن يؤمن بالمسيح ولا يكون له عمل صالح.
أما الذي لا يؤمن، فلا يملك الصالح, الله, الذي يعمله, أو يعمل لحسابه, ولا يعرف ما هو الصلاح الذي يطلبه. والشجرة تٌعرف من ثمارها (مت19:7-20). ولو تلاحظ تجد أن المسيح في الآية 25 والآية 28 أوضح أنه صاحب دينونتين: الاولى, دينونة خلاص, للضمير ليحييه ويقيمه من موت الخطية, والدينونة الثانية للحكم على من قبل ومن رفض. فالذي قبل دينونة الضمير الاولى ينجو من الدينونة الدائمة اللائمة لأنه يكون قد قبل الحياة الأبدية ويعيشها. والذي رفض دينونة الضمير يكون قد ضاعت عليه فرصة التوبة وفرصة الحياة أيضاً، ولا تبقى له إلا دينونة الندم.
الإيمان والأعمال: كما تقدمه الكنيسة سواء بتعليم القديس يوحنا الرسول، أو بتعاليم الرسل الآخرين.
+ توجد دينونة «للايمان» قاطعة: «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن به قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد.» (يو18:3)
ويشرحها القديس يوحنا في رسالته هكذا: «إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم، لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه. من يؤمن بابن الله، فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله، فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه. وهذه هى الشهادة (قوة الشهادة وصدقها) أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه, من له الابن، فله الحياة؛ ومن ليس له ابن الله، فليس له الحياة.»(ايو9:5-12)
وهذا يعني به القديس يوحنا أن الإيمان بالمسيح له شهادة حاضرة، وهي الحياة الأبدية التي تكون قد انسكبت في قلب من آمن بالمسيح، وصار يحيا في ملء نعمة الروح. فمن له هذه الحياة تكون له الشهادة في نفسه ومن الآخرين، أنه مؤمن حقاً بالمسيح، ويكون هذا بحد ذاته برهان رفع الدينونة عنه إلى الأبد. وذلك بعكس من ليس له إيمان ولا شهادة. فإن الدينونة تظل تلاحقه الأن بسبب عدم الإيمان, وفي النهاية بسبب سوء الأعمال!!
2- وتوجد دينونة «للأعمال» قاطعة: «ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلون مثل هذه. أتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله. أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تدخر لنفسك غضبأ في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة, الذي سيجازي كل واحد حسب «أعماله». أما الذين بصبر في «العمل الصالح» يطلبون المجد والكرامة والبقاء، «فبالحياة الأبدية». وأما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم, فسخط وغضب, شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر... ومجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح.» (رو2:2-10)
ويعود القديس بولس الرسول يؤكد حتمية وقوفنا أمام الديان: «لأنه لا بد أننا جيعاً نُظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً.» (2كو10:5)
بطرس الرسول أيضاً يشترك في هذا التأكيد عينه: «الذين سوف يعطون حساباً للذي هو على استعداد أن يدين الأحياء والأموات.»(1بط5:4 )
وبولس الرسول يحدد الدينونة بيوم معين يصفه للوثنيين ببساطة هكذا: «فالله الآن يأمر جيع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل. لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل (إنسان) قد عينه مُقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات» (أع30:17-31)
ويحدد بولس الرسول هذا اليوم الذي للدينونة يوم ظهور المسيح هكذا: «أنا أناشدك إذأ أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته...» (2تى1:4)
علماً بأن عقيدة الإيمان بدينونة الأعمال مع القيامة هي راسخة في إيمان الكنيسة منذ أيام الرسل: «قيامة الأموات والدينونة الأبدية.» (عب2:6)
كما استقر الإيمان الأول في الكنيسة بأن المسيح كــ «رب» هو الذي سيضطلع بالدينونة وذلك من فم المسيح نفسه: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث؟ وأعطى أن يصير ظاهراً ليس لجميع الشعب بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات. وأوصانا أن نكرز للشعب ونشهد بأن هذا هو المعين من الله ديانا للأحياء والأموات.» (أع40:10-42)
والقديس يوحنا يقدم نفس التعاليم موضحاً دينونة الأحياء بأنها فرصة التوبة وإعطاء الحياة الأبدية المعتبرة القيامة الاولى في الآية (25:5), وموضحاً دينونة الأموات معبراً عنها «بالذين في القبور». إنها الدينونة التي بلا خلاص ولا توبة حيث الحكم الأخير، فهي قيامة يتميز فيها الذين قبلوا الحياة الأبدية بالإيمان عن الذين ضاعت عليهم فرصة الحياة برفضهم للايمان .
وقد مهد القديس يوحنا لسلطان المسيح على الأحياء والأموات في الآية (21) بقوله: «لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء». هنا سلطان المسيح واضح في قوة القيامة من الأموات التي تلازمها الدينونة، وفي قوة إعطاء الحياة لمن يشاء التي تختص بدعوة أموات الخطية للقيامة الاولى لنوال الحياة الأبدية من الآن.
على أن القديس يوحنا يزيد رسالة المسيح الأساسية وضوحا بالنسبة للمختارين سواء في حياتهم الآن أو في قيامتهم من الموت هكذا: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن (رؤية إيمان بالروح) ويؤمن به تكون له حياة أبدية (من الآن) وأنا أقيمه في اليوم الأخير. (يو39:6-40)
ويزيد المسيح نفسه تأكيدا لقوة الحياة والقيامة التي ينالها من يؤمن به، وذلك بفاعلية سر التناول من جسده ودمه الذي يرسخ فيه قوة الحياة والقيامة من الأموات, وهو المسمى عند الآباء «ترياق عدم الموت», هكذا: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير.» (يو54:6)
لهذا ربطت الكنيسة بحسم بين سر الإفخارستيا (المؤسس على الموت والقيامة) وسر غفران الخطايا، باعتبار أن غفران الخطايا هو التمهيد الحتمي للانعتاق من الدينونة وبالتالي لنوال الحياة الأبدية في القيامة.
وإذ كان القديس يوحنا لم يحدد «قيامة الأجساد» بالنص إلا أنه لمح لها بقوله: «الذين في القبور» حيث القبور تعني «غرفة حفظ الاجساد» في المنطق اللغوي للكلمة، وقد اختارها القديس يوحنا عن الكلمة الأخرى ( ) التي تعني «مكان سكنى الموتى»، وهو تعبير غير واقعي وغير روحي. ولكن الأجساد سواء في مفهوم القديس بولس أو القديس يوحنا ليست مادية وإن كانت عل صورتها: «هكذا أيضاً قيامة الأموات يزرع في فساد، ويُقام في عدم فساد؛ يُزرع في هوان، ويُقام في مجد؛ يُزرع في ضعف، ويُقام في قوة؛ يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسما روحانياً. يوجد جسم حيواني، ويوجد جسم روحاني.» (اكو42:15-44)
ولكن واضح وبالنهاية أن القديس يوحنا صب كل اهتمامه في كل هذه الآيات على قدرة المسيح الحالية في إعطاء حياة أبدية لموتى الخطية؛ ولهؤلاء أسس عن قصد واهتمام بالغ سر الجسد والدم ليسند فعل إيمانهم بهذا العمل السري الفائق عن التعبير. لذلك، وفي ختام هذه الآيات، نود لو نلفت النظر لخطورة التأكد من رسوخ فعل الإيمان بالمسيح الذي يكون له شهادة في الإنسان حسب تعبير القديس يوحنا، وهذه الشهادة هي في الإحساس بالحياة الأبدية وفعلها الفائق لجعل الحياة تسمو فوق الطبيعة البشرية ولها برهانها الصادق: نصرة وفرح دائم مع شهادة.
ولا ينخدع الإنسان المسيحي بأن له إيماناً بالمسيح وهو لا يعيش هذه الحياة، لأنه سينخدع حتماً وبالتالي بأن له أعمالاً صالحة تظهر في عينه أنها صالحة وهي ليست كذلك في عين الله. ويكفي ليقظة الضمير أن نضع هذه الآية أمام كل قارىء ليلتفت إلى نفسه: «أنا عارف أعمالك, أن لك اسماً أنك حي وأنت ميت. كن ساهراً وشددد ما بقي الذي هو عتيد أن يموت لأني لم أجد أعمالك كاملة أمام الله. فاذكر كيف أخذت، وسمعت، واحفظ وتب فإني إن لم تسهر أقدم عليك كلص ولا تعلم أية ساعة أقدم عليك» (رؤ1:3-3). وهذا نموذج من دينونة المسيح للضمير في الحياة الحاضرة. وطوبى لمن يقع تحت هذا الصوت...
«أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً»: المسيح ينتقل هنا من التكلم بصيغة «الابن»» في الآيات السالفة إلى التكلم بصفته الأنا( ). نرجو الرجوع لشرح الآية (19) لأن فيها الإفادة كاملة عن عمق هذا المعنى ومغزاه اللاهوتي.
«كما أسمع أدين»: إذا لم نحسن فهم معنى هذا القول سينحرف بنا المعنى إلى مفهوم خاطىء سقط فيه كثيرون ممن تعرضوا لشرح هذه الآية, قدامى ومحدثين, إذ قالوا باعتماد الابن اعتماداً كاملأ على الآب. ولكن واقع التساوي المطلق بين الابن والآب لا يجيز قول الاعتماد, فالحقيقة أن الآب يدين والابن ينفذ الدينونة، والعلاقة بين الفعل غير المنظور لنا عند الآب, يُدين, والفعل المُنفذ المنظور لنا عند الابن كمنفذ للدينونة هما فعل واحد ليس بينها أعلى وأدنى أو واحد منهما أصلي والثاني مقلد, أو الأول أمر والثاني طاعة عمياء. ولكن الفارة الوحيد هو أن الأول غير منظور, عند الآب؛ والثاني أصبح منظوراً بالابن. ويلزمنا أن نزيد الأمر هنا وضوحاً، فكل فعل وفكر ومشيئة وتدبير عند الآب يقوم الابن أولاً باستعلانه للمنظور، ثانياً بتنفيذه عملياً في واقع الإنسان. وبين الفعل وتنفيذه والفكر واستعلانه والمشيئة وتكميلها والتدبير وإخراجه لحيز الوجود المنظور تساو كامل ومطلق في القوة والحكمة والمعرفة. لذلك لا يصح ولا يجوز أن نقول إن الابن يعتمد في عمله أو كلامه أو تعليمه على الآب، وإلا لزم أن نقول بالتال أن الآب يعتمد على الابن بنفس المقدار، لأنه إن كان الابن يعتمد على الآب في معرفته لكيفية العمل والقول, فالآب يعتمد على الابن في كيفية التنفيذ الدقيق الكامل. ولكن الأصح أن لا نقول بالإعتماد أحدها على الآخر, بل نقول بالإتفاق المطلق والتساوي المطلق بين عمل الآب وعمل الابن، فالمشيئة واحدة والعمل واحد والفكر واحد والكلمة واحدة عند الآب والابن، ولكنها غير منظورة لنا عند الآب ومنظورة لنا بالابن. فالابن يرى ما عند الآب وينفذ أمامنا ما يراه. والابن يسمع ما عند الآب ويقول لنا ما يسمعه. والابن يعرف مشيئة الآب ويكمل المشيئة كما هي. وهنا يتحتم أن نفهم أن «القدرة» على تنفيذ كل ما عند الآب تنفيذاً كاملآ تماما يستلزم نفس «القدرة» التي عند الآب، وإلا ما استطاع المسيح أن يُخرج إل حيز الوجود والعمل كل ما يريده الآب ويشاءه!! وهذه هي رسالة الابن, بحسب قدرته المساوية للآب, أن يعرفنا بالآب ويستعلن لنا كل ما عند الآب, لأنه لا توجد خليقة كائنة ما كانت, سواء رؤساء ملائكة أو ملائكة أو أنبياء، يستطيعون أن يعرفوا أو يروا الله كما هو, أو يدركوا مشيئته كما هي, أو يسمعوا صوته, أو يفهموا حكمته, سوى الابن الوحيد. لذلك يقول المسيح نفسه: «الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر.» (يو18:1)
«دينونتي عادلة»: قالوا إن العدالة هنا يستمدها المسيح من الله. ولكن لو صح هذا لفقدنا وظيفة المسيح في حد ذاتها. لأنه إن كان الله هو الذي سيدين بدون المسيح فمن سيخلص؟ المسيح هنا له دور فقال في الدينونة، ليس معنا بل مع الله أبيه أولاً. فقد تبوأ مركزاً جديداً أمام الله الدان من واقع تجسده وموته الكفاري، وهو دور الشفيع! وشفاعة المسيح ليست كلامية بل كدافع ديون! فقد استطاع المسيح بتقديم ذبيحة نفسه من أجل الخطاة أن يطالب باستحقاق براءة موكليه بمقتضى الدم المسفوك المتكلم والمُطالب بأقصى حدود الرحمة أمام قضاء الله على العصاة. والآب ارتضى بالمسيح مصالحاً, وقد وكله رسمياً أن يصالح له العالم بدم صليبه. فبعد المداولة، يسمع المسيح من الآب الحكم وينطقه. ولكن ما أعدلها دينونة، تلك التي تعتمد في نطقها على شفاعة الدم المسفوك.
«لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني»: مشيئة المسيح هي، كلياً وجزئياً، أن يصنع مشيئة الآب: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). وأما ما هي مشيئة الآب فهي هكذا: «هذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا يُفقد منه شيئاً، بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو39:6-40). فإن كانت مشيئة الآب هكذا تنسجم انسجاماً بديعا مح إرادة الابن الذي أخذ على عاتقه تنفيذها بكل قدرته وقوته، ثم إن كانت مشيئة الآب هكذا حفظ أولاده من الشرير وهذا كان هو هو عمل الابن الوحيد، فقد تطابقت مشيئة الآب على عمل الابن، والنتيجة هي ارتفاع عدالة الدينونة بعمل الابن.
ولكن هذه العدالة المعتمدة أساساً على شفاعة دم المسيح، هي بدورها شديدة الوطأة على الرافضين. صحيح أن اليهود الذين يخاطبهم المسيح هنا كان فكرهم خاليأ من موضوع الدم والشفاعة، ولكن لم يكن فكر المسيح يخلو منه ولا فكر كاتب الإنجيل. فدينونة المسيح العتيدة تستمد قوتها بل رحمتها من قضية الصليب وهكذا الموت التعسفي الذي جازه وحيثيات الحكم الذي اتحذه المسيح أساساً لتبرئة الخطاة: «من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر، من هو الذي يدين؟ المسيح الذي مات بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله (تعادل القصاة) الذي أيضاً يشفع فينا.» (رو33:8-34)