تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
5:20 وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ.

‏كان المكان الذي يوضع فيه الجسد في غرفة منخفضة نوعاً ما عن الغرفة الخارجية للقبر حيث كانت تجتمع النسوة للتحنيط والبكاء؛ فكان على الواقف خارج غرفة الجسد أن ينحني على فتحة الباب لينظر ما بداخل غرفة الدفن حيث الجسد يكون مسجى على مصطبة.
‏أما كون يوحنا لم يدخل، فهذا قطعاً ليس لعامل الخوف أو الرهبة أوالنجاسة من لمس القبر, كما يقول بعض الشراح؛ ولكن لأن بطرس كان قد وصل، فأعطاه الفرصة ليكتشف الأمر أولاً. والذي يوضح ذلك، أن فعل «نظر» ‏الذي استخدمه القديس يوحنا في تعبيره عن استطلاعه لما في داخل القبر جاء باليونانية ( )‏، ويفيد النظرة العابرة البسيطة من بعد. أما الفعل الذي استخدمه لاستطلاع بطرس لما دخل القبر فهو ( )‏، ويفيد التطلع مع التأمل الفاحص عن قرب. وما نشأ عن اختلاف النظرتين: البسيطة والمتعمقة، أن بطرس استطاع أن يرى منديل الرأس الذي كان داخلا على بعد, أما يوحنا فلميتره.
‏وكل هذه الدقة في وصف القديس يوحنا لحاد‏ث د‏خولهما القبر، كانت بسبب انطباع هذه ‏الحوادث بشدة في ذهن القديس يوحنا وهو يصفها من واقع حضورها في ذهنه، الذي لم يفارقه أكثر من ستين سنة!!
‏وليلاحظ القارىء أن الفكر الذي كان طاغياً على كل من بطرس ويوحنا، والذي دعاهما إلى الجري ودخول القبر والفحص, كان بسبب رواية المجدلية أن: «السيد أخذوه». فكان السؤال الذي يفتشون عن جواب له هو: هل الجسد قد أُخذ من القبر فعلاً؟ وكيف؟ ومن هم الذين تجرأوا على ذلك؟
‏ولعل رواية القديس. يوحنا هذه، وكيف ابتدأ بخبر: «أخذوا السيد، ولسنا نعلم أين وضعوه»، بالرغم من أنها جاءت معطلة للتفكير في القيامة، فقصد الروح القدس والوحي منها كان هو فحص القيامة فحصاً متأنياً؛ لا يبدأ من الصفر فقط بل ومن تحت الصفر. فهذا الخبر السلبي: «أخذوا السيد، ولسنا نعلم أين وضعوه»، هو فرض تكذيب القيامة، من هذا المستوى بدأ القديسان بطرس ويوحنا معاً يفحصان موضوع القيامة حتى انتهى بهما الأمر إلى يقين الظهور الإلهي.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
6:20 ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً.

‏كان دخول بطرس سريعاً جريئاً تحمله اللهفة لمعرفة كيف «سُرق» الجسد، ولكن بدخوله داخل غرفة الدفن, وهي مظلمة بطبيعة الحال, استلزم منه نظرة فاحصة متأملة؛ فأخذ يجول ببصره وبكل انتباه واعمال التفكير والذكاء والملاحظة، فللحال اصطدم بالحقيقة شبه العظمى أن اللفائف التي كُفن بها الجسد هي هى، وموضوعة في مكانها. إذاً فالجسد لم يُسرق؛ هذه هي الحقيقة الأولى التي كانت تهم الراوي في روايته، لتفتح مجرى القيامة قبل استعلانها بظهور المسيح قائماً من الموت. وهنا نفى كل تفكير في أي شيء غير القيامة.
‏وكلمة «اللفائف موضوعة»، وبعد ذلك في الآية القادمة: «والمنديل ... ملفوفاً في موضع وحده»، هو وصف يختص بنفي إمكانية السرقة نفياً قاطعاً، لأن اللفائف كانت بحسب كلمة «موضوعة»، والمنديل بحسب كلمة «ملفوفاً في موضع وحده»، وليس مع اللفائف بل «ملفوفاً وحده»، هذا الوضع في جملته يصور الجسد كيف كان راقداً مسجى، ثم انسحب من داخل اللفائف دون أن يفقدها نظامها التي كانت ملفوفة به حول الجسد. هذا المنظر، بحد ذاته، يذهل العقل الذي عبر عنه في إنجيل القديس لوقا: «فمضى متعجبا في نفسه مما كان».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
7:20 وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ.

‏كان وضع المنديل مكملاً لشكل الجسد كما كان مسجى سابقاً؛ فهو لم يفك من حول الرأس ليُرفع مع اللفائف, ولا اللفائف فُكت من مكانها ومن لفتها حول الجسد. كان المنظر ينطق نطقا بأن الجسد غادر الكفن ... لقد طرح أردية الموت لبني الموت، ليلبس النور كالثوب (مز2:104)، وخلع أثواب الجسد ليلبس الجلال (مز1:93). لم تفكه يد بشر, ولا يد سارق، بل انفك هو من الكفن، كما دخل العلية والأبواب مغلقة!! ألم يقل سابقاً: «أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق» (يو23:8)!!
‏لقد وقف تفكير بطرس عند حد استحالة سرقة الجسد, بدليل الأكفان الموضوعة في مكانها, ولكن لم يتقدم إلى فكر القيامة الذي يحتم الإعتقاد بالحياة التي لا تخضع لقوانين هذه الحياة. وبهذا انحصر في لغز يصعب حلة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
8:20 فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ وَرَأَى فَآمَنَ.

‏رأى يوحنا ما رأى بطرس، اللفائف الموضوعة والمنديل بعيدا عنها موضوعاً بحرص وحده، وكل شيء في ترتيب ونسق طبيعي، ولا علامة لأي يد تدخلت في خروج الجسد من الكفن. ولكن الصمت عند بطرس والتعجب مما كان، ارتفع عند يوحنا إلى حد «الإيمان» ولكن ليس بالقيامة، وإلا لكان الأنجيل قد ذكر ذلك بوضوح، ولكن «الإيمان» كان بأن شيئاً قد تم!! وإن نور فجر هذا الايمان العريض بالمسيح كان يحوى فيه بصيص تكميل وعد المسيح. ولكن إلى هنا توقف الإيمان عند يوحنا بانتظار استعلان أكثر. على كل حال, لم يكن غبيا كتلميذي عمواس، أو بطيء الايمان بالقلب، فقد تسحبت عليه أنوار القيامة، ولكن من بعد. القديس يوحنا يقدم اختباره للايمان دون أن يرى؛ هو إيمان، ولكن لا يجزم القديس يوحنا أنه إيمان مباشر بالقيامة، بل كان ممهدا لها بكل تأكيد. القديس يوحنا نعرفه بعد ذلك في حادثة صيد السمك بعد القيامة، كيف عرف الرب تلقائياً دون الأخرين، «إنه الرب». هو حدس إلهامي أكثر منه تحقيق رؤيا أو إدراك نظر.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
9:20 لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ.

‏ها يقدم القديس يوحنا حقيقة جوهرية، وهي أن الأسفار المقدسة بالرغم من النبوات المرشدة والهادية إلى حقيقة المسيح لم تكن هي القائد للتلاميذ للتعرف على القيامة، بل الحوادث المتتابعة هي التي ألمعت في ذهنهم، وأعطت للأسفار المقدسة فرصة لفرض ذاتها: الحجر المرفوع من على القبر، القبر الفارغ، بشارة المجدلية والنسوة، الأكفان الموضوعة بمفردها وبنظام؛ هذا كله في الحقيقة يوضح لنا بأجلى بيان أن التلاميذ لم يكونوا قط مستعدين لتقبل القيامة، ولم يكن في ذهنهم أي تمهيد من واقع الأسفار المقدسة، مما يفيد أن القيامة كحدث فائق اقتحمت مجالهم الفكري اقتحاماً، وفرضت ذاتها عليهم كموضوع إيمان.
‏والقديس يوحنا كان دقيقأ وواضحاً وصريحاً في ذكر ضعف إيمان التلاميذ وتباطؤ ذهنهم في قبول هذه الحقيقة: «لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات». وهذا بدوره يوضح لنا منتهى صدق القيامة بحد ذاتها، فهي حدث إلهي دخل إلى عالم التلاميذ عنوة، وبدون تمهيد، ولا باستعداد سابق. كما كشف لنا هذا التباطؤ الشديد أن كل الشهود، شهود العيان بدون إيمان، صمتوا جميعا. ولكن، للأسف الشديد، فإن صراحة الأنجيل في سرد نقط ضعف إيمان التلاميذ وبطء قبولهم لحقيقة الإيمان، اتحذه بعض النقاد والهراطقة والمقاومين للايمان المسيحي كمحاولة لمهاجة القيامة ونفي حدوثها. وهكذا يتبين للقارىء، كيف أن نقط القوة في استعلان الحق الإلهي تتحول عند المحرومين من نور النعمة إلى نقط ضعف، وأن أسباب الإيمان الشديدة الصدق تصير عند الفاقدين للبصيرة الروحية، أسباب هزء وتجديف ومقاومة.
«يعرفون الكتاب»: القديس يوحنا هنا لا يشير إلى مجمل الأسفار، بل إلى كتاب واحد بالذات، وغالباً يقصد المزمور السادس عشر، وهو الذي استشهد به القديس بطرس الرسول بعد الخمسين: «لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي. جسدي أيضاً يسكن مطمئناً. لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع قدوسك يرى فساداً.» (مز9:16-10)
‏ويعلق بطرس الرسول في سفر الأعمال على هذا النص، موضحاً بشدة أنه نص نبوة القيامة بالدرجة الاول هكذا: «أيها الرجال الإخوة يسوغ أن يُقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود, إنه مات، ودُفن, وقبره عندنا حتى هذا اليوم، فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد، ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح, أنه لم تترك نفسه في الهاوية, ولا رأى جسده فساداً. فيسوع هذا، أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك (29:2-32)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
10:20 فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا.

‏واضح أن لكل منهما موضعه، أو خاصته, كما جاءت فى اليوناية. يوحنا إلى بيته الخاص مع القديسة العذراء مريم، والقديس بطرس في العلية مع التلاميذ في بيت يوحنا مرقس. و يعطينا القديس مرقس صورة حزينة يخيم عليها اليأس لهؤلاء التلاميذ المجتعين في العلية مع كل الذين من خاصتهم هكذا: «‏فذهبت هذه، وأخبرت الذين كانوا معه (مع يسوع)، وهم ينوحون ويبكون.» (مر10:16)
‏هذا هو منظر التلاميذ قبل القيامة. وحتى بعد أن رأوا الحجر مدحرجا والقبر فارغاً واللفائف موضوعة في مكانها، ذهبوا إلى مواضعهم صامتين, وحتى المحبوبة بقيت عند القبر الفارغ تبكي

 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- المسيح يظهر للمجدلية: (11:20-18).
‏( أ ) المجدلية تنظر داخل القبر فتجد الملائكة: (11:20-13).
11:20 أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ.

‏الإنسانجيل الثلاثة تتفق في ذكر زيارة واحدة لمريم المجدلية إلى القبر، والقديس يوحنا هو الذى ينفرد بذكر الزيارة الاولى التي تمت باكراً جداً، ثم يذكر الزيارة الثانية ببيانات أوفى؛ والقصد هو توضيح تدرج استعلان القيامة خطوة خطوة، بكل دقة.
‏وهذا التدرج نلاحظه أيضاً في سياق الرواية هكذا:
1- المجدلية ترى الحجر مرفوعأ والقبر فارغاُ، فتقول: «أخذوا السيد».
2- يوحنا يرى أولاً الأكفان موضوعة ولم يدخل.
3- بطرس يرى اللفائف وحدها ومنديل الرأس وحده, فيتقدم خطوة أن الجسد لم يُؤخذ.
4- يوحنا يرى أيضاُ كل هذا، فيؤمن.
‏كذلك نرى التدرج الذي يعتني القديس يوحنا بتسجيله للقيامة في استخدامه ثلا ثة أفعال مختلفة لفعل «يرى»، بالنسبة ليوحنا أولاً, ثم بطرس ثانياً, ثم يوحنا ثالثاً:
1- فيوحنا أولاً نظر الأكفان موضوعة, نظرة بسيطة عابرة.
2- بطرس ثانياُ نظر الأكفان والمنديل، نظرة تأملية فاحصة.
3- ويوحنا ثالثاً رأى فآمن، وهي نظرة تصديق وإيمان.
واضح أن المجدلية بعد أن أخبرت بطرس ويوحنا, تبعتهم هي أيضاً إلى القبر، وربما تركض أيضاً، إذ لما خرج التلميذان من القبر كانت المجدلية خارجاً. أما التلميذان فخرجا من القبر، وذهبا، كل في طريقه، وكأن القبر لم يعد فيه ما يحل لغز المسيح طالما ليس فيه الجسد. أما المجدلية فتشبثت بالقبر ولم تغادره، وكأنها تطالب القبر أن يحل لغز نفسه, وتستعطفه ببكائها أن رجاءها كان لا يزال منعقدا عليه. ويعبر القديس أغسطينوس عن وقفتها هذه هكذا: (إن ضعف طبيعتها والمشاعر الجياشة في قلبها سمرتها في المرضعا).
‏لم تحاول الدخول إلى غرفة الدفن ولكنها تشجعت وانحنت أيضاً لتنظر هي الأخرى. إنه وحي الروح فيها، وقد اجتذبها نور السماء من داخل القبر.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
12:20 فَنَظَرَتْ ملاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً.

«يا جالساً على الكروبيم أشرق... أيقظ جبروتك وهلم لخلاصنا.» (مز1:80-2)
‏هذه أول مرة يذكر فيها القديس يوحنا شيئاً عن ظهور فعلي للملائكة.
‏وضع الملاكين هنا في غاية الأهمية اللاهوتية، لأنه يمثل مطابقة لما نصت عليه التوراة في مكان الحضرة الإلهية من الشاروبيم فوق غطاء التابوت المسمى: «كرسي الرحمة» أو «الغفران»: «فاصنع كروبا واحداً على الطرف من هنا، وكروباً آخر على الطرف من هناك... وأنا أجتمع بك هناك, وأتكلم معك من على الغطاء, من بين الكروبين اللذين على تابوت الشهادة بكل ما أوصيك به.» (خر19:25-22)
‏وهنا وضع الملاكين على طرفي مصطبة القبر حيث كان الجسد موضوعاً، يشير إشارات بليغة إلى مركز الجسد الإلهي المسجى بمفهوم الحضرة الإلهية، وإلى قداسة المكان على المستوى العالي كموضع الحضرة الإلهية؛ كما يشير إلى أن القبر صار بمفهوم تابوت العهد الجديد بلا نزاع, ليى في مكانه ومظهره، لأنه فارغ، ولكن في معناه. فمن القبر استعلنت القيامة التي هي الركن والسند للايمان المسيحي، واستعلن المسيح ابن الله. أما جلوس الملاكين وليس وقوفهما فهو يشير إلى انتهاء نوبتهما في الحراسة، بعد أن قام المسيح وغادر القبر. فمجرد وجودها جالسين عند طرفي القبر هو بمثابة إشارة، أول إشارة, بالقيامة. وبالفعل كان الملاكان, أو الرجلان الإلهيان بحسب إنجيل القديس لوقا, أول من أعلن القيامة: «لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ ليى هو ههنا لكنه قام» (لو5:24-6)
ولكن في إنجيل القديس يوحنا كان عمل الملاكين هو تحديد مكان وضع الجسد، «واحداً عند الرأس والأخر عند الرجلين». وهذا التحديد الملائكي هو بحد ذاته شهادة فائقة ليقين موت الرب ويقين الدفن. إنه ختم تصديق لكل رواية ما بعد الصليب، وبالتالي إشارة صامتة ولكن دامغة أنه قام. لقد كان عمل الملاكين هو استعلان سر القبر وسر القيامة، الأمور التي فاقت قدرة بطرس والآخرين، ثم تحويل البكاء والعويل إلى بشارة وتهليل.
‏وكان ظهور الملاكين في قبر المسيح، كحراس سمائيين، ردا حاسماً دامغاً على القول أنهم أخذوه ولسنا نعلم أين وضعوه، بل تبكيتا وتقريعا مرا على اليهود الذين حاولوا أن يشيعوا هذا الإدعاء.
‏لقد اعتنى القديس يوحنا أن يوضح، بالبرهان السمائي، إلى أي مدى كان الجسد والقبر في حوزة السماء وحراسة جبابرة الأرواح العليا.
وإن وجود الملاكين في قبر المسيح هو مصداق وفاق لقول المسيح ليبلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو36:18‏). فهوذا الجنود يحرسون جسد رب الجنود. لقد رافقوه في ميلاده (لو13:2)، وفي تجربته (مت11:4)، وفي جثسيماني (لو43:22‏) )، وفي قبره وفي قيامته وفي صعوده (أع10:1)!!.
‏السلام للقبر مهبط الملائكة وبيت النور، الموضع الذي انطلقت منه بشرى الحياة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48

13:20 فَقَالاَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟» قَالَتْ لَهُمَا: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ».
‏(لماذا الطيب والنحيب....إن زمن البكاء قد انقضى، لا تبكين، بل بشرن بالقيامة للرسل - الأبصلمودية المقدسة السنوية)​
‏«يا امرأة لماذا تبكين؟»: ليس هذا سؤالا بل مراجعة وعتاب. لقد هال الملائكة في يوم ارتفاع الرب بالمجد إلى أعلى السموات, أن يقف البشر في القبر يبكون وينوحون, وعلى أيديهم حنوط للجسد, والجسد قام وصار أعلى العليين!
«أخذوا سيدي»: لا تزال الفكرة الي تسلطت عليها، أنهم «أخذوا الجسد». ولا تزال هي تبحث وتفكر: «أين وضعوه؟». فالحنوط عل كفها وهي تود أن تحنط الجسد مهما كان وبأي ثمن، والبكاء يقطع نياط قلبها، وقد كفت عيناها عن أن ترى قيمة لأية قيمة، حتى للملاكين اللذين يحدثانها! أنا أريد «سيدي» وحسب.
‏عجيب في عينيها وفي مسامعها أن يسألها الملاكان: «لماذا تبكين؟» إنه «سيدي»، أخذوه، كيف لا أبكي؟ إن غيبة المسيح عنها ألغت حضرة الملائكة أمامها؛ بل ألغت الخوف والجزع من كل رهبة، فلم تعد للملائكة مكانة بعد غياب «سيدي»، ولسان حالها بالنسبة للملاكين هو: إن كنتما تعرفان أين وضعوه قولا لي وإلا فلماذا الكلام؟
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
(ب) المسيح يظهر للمجدلية, فتخطىء معرفته ويلفت نظرها بأن يدعرها باسمها، والمجدلية تبشر التلاميذ أنها رأت الرب. (14:20-18).
14:20 وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ.

‏لما احتار الملاكان من بجاحة هذه المرأة وعنادها، استغاثا بالرب فأغاثهما، وظهر خلفها. فلما ظهر، جفل الملاكان وتغيرت جلستهم؛ لمحت المجدلية هذا منهم ورأت أعينهما مسلطة على أمر خطير خلفها, فأدارت وجهها لترى، فكان يسوع، ولكنها لم تعرفه. كانت عيناها مملوءتين بالدموع، بل بالحزن والهموم, ولكن الرب يتراءى بالفرح. فالفرح نور القيامة، وضوئها الذي به نرى الرب والسماء والآب والحياة الأبدية.
«بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، وأما أنتم فتروني» (يو19:14)، المجدلية كانت لم تخرج بعد من نطاق العالم، إنها كانت تعيش ماضيها، والماضي غريب دائماً عن الجديد، و«هوذا الكل قد صار جديداً» ‏(2كو17:5)
‏المعمدان كان يعيش قبل أزمنة الجديد «وأنا لم أكن أعرفه» (يو33:1)، فلما جاء زمن الاستعلان, رآه, وعرفه، وسمع صوت, وفرح, وأعلن شهادته؛ والمجدلية لما دخلت زمن الاستعلان عندما ناداها الراعي باسمها, عرفته. فانطلقت للبشارة بأنها «رأت الرب».
‏تماماً كما حدث للتلاميذ بعد انقضاء «ليل» الصيد الفاشل، الذي يمثل النكسة نحو عالم الشقاء, وصيد الطعام البائد، فلما ظهر الرب على الشاطىء لم يعرفوه لأن عم الفشل ونكد السهر الخاسر أفقدهم القدرة على رؤية «الطريق والحق والحياة»؛ إلا يوحنا الذي كان جالساً وسط المركب، يهدس بأفكار الحب، وسط أنين الخسارة واللعنات على ليل ناء عليهم بكلكه، وانجلى دون سكة واحدة يتقاسمونها, فلما وقعت عيناه على الإنسان الواقف على الشاطىء نسي همه وقلبه دله على الحبيب فصرخ: «إنه الرب». فيا لبؤس وشقاء العمل بدون لمسات الحب!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
15:20 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟» فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ فَقَالَتْ لَهُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ وَأَنَا آخُذُهُ».

«في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته، إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق، وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته. وجدني الحرس الطا ئف في المدينة، فقلت: أرأيتم من تحبه نفسي، فما جاوزتهم إلا قليلاُ حتى وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه!!! (نش1:3-3)
«يا أمرأة»: كانت هذه أول كلمة نطق بها المسيح بعد القيامة. أعاد المسيح استنكار الملاكين لبكائها في يوم فرح السمائيين, لماذا تبكين؟ المسيح القائم من الموت يتساءل أكثر مما يسأل، من تطلب هذه المرأة؟ أو كيف تطلب الجسد الميت وهو حي؟ هو نفس استنكار الملاكين للنسوة والمجدلية في إنجيل القديس لوقا: «لماذا تطلبن الحي بين الأموات» (لو5:24)، «...اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل، قائلاً: إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة، ويُصلب، وفي اليوم الثالث يقوم.» (لو6:24-7)
‏يُلاحظ أن المسيح يسأل المجدلية عن «من» تطلب، مع أنها تطلب شيئا (ماذا) وليس «من», هنا محاولة لردها إلى موضوع طبها الذي ينبغي أن يكون شخص المسيح وليس جسده.
‏المسيح، هنا، يتوسم في المجدلية جلاء البصر!! إنه واقف أمامها، «إنه حي», فينبغي أن تحيا بحياته، فلا تبكي موته ومواتها.
«إنه يراها» فكان عليها أن تفرح، لا أن تبكي، وأن يدوم فرحها!! «ساراكم أيضاً فتفرح قلوبكم.» (يو22:16)
‏إنه يتكلم معها، وقد «سمعت صوته» فيتحتم أن تقوم هي من موتها، لا أن تبكي موته!!
‏إنه قام من القبر، فكان ينبغي أن تكون قد قامت معه، لا أن تعيش في قبره!!
‏ولكن المجدلية تعود تجتر جهالتها، وفي عتمة الرؤيا تظنه البستاني، فتستعطفه أن يدلها على الجسد!! لقد تجاهلت سؤاله، لقد فقدت كل رؤيا لكل ما بعد القبر. إنها فقط تريد أن تحيا باكية على جسد تأخذه لنفسها، لتشبع بؤس حبها بالبكاء والنواح عليه!
‏هكذا الإنسان الذي يفقد رؤيا القيامة والقائم من بين الأموات, إنه يعيش ذكرى أمواته، يرتاح بالنواح عليهم، ويجوس بين مقابرهم, إن لم يكن برجله فبفكره, يندب أيامهم إلى أن تفنى أيامه!
«وأنا آخذه»: في تفجر عواطف حبها رأت في قوتها الكفاءة التي يمكن أن تجعلها تحمله بنفسها لنفسها. وهكذا إن كان الإيمان يقدر أن ينقل الجبال، فالحب قادر أن يحمل الأهوال!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
16:20 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا مَرْيَمُ!» فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي» الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ.

ناداها بالاسم كما نادى لعازر، نبه روحها فاستيقظت من موت حالها, دخل صوت ابن الله (يو25:5‏), إلى أعماق نسفها التائهة في مجاهل القبر، ففك عنها أكفانها، فانفتحت عيناها وأبصرت نور القيامة «ربوني»!!
ناداها باسمها، كراع ينادي خرافة بأسمائها لتعرفه حالاً, وتتبعه. حينما كانت تطلبه في القبر، كانت قد نأت بعيداً عن درب الحظيرة، فناداها من فوق، من عالم النور والقيامة، فعرفته بعض المعرفة، تذكرت فيه صوت نداء المعلم لها، فحسبته أنه لا يزال هو المعلم، في يوم من أيام ‏ابن الإنسان، ولكن هيهات، هذا لا يعود، إنه لم يعد «ربونى» بل رب القيامة، التي باسمها افتتح سجلات الخلود.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
17:20 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ».

‏كان المسيح هو هو بلحمه وعظامه، فحق لها أن يطير صوابها. أرادت أن تُخضع الوهم للحقيقة، لم تطق أن تبقى ناظرة إليه تسمعه, لقد اندفعت نحوه تتشبث به بكل قواها، أرادت أن تطوقه بذراعيها فتقبض عليه قبضأ حتى لا يفلت منها. إنها اكتشفته وحدها، فهو لها وحدها: «أين وضعته وأنا أخذه»، نسيت التلاميذ والناس: «حبيبي لي (وحدي)، وأنا له.» (نش16:2)!!
‏أرادتها مصارعة كمصارعة يعقوب مع الملاك وحتى الفج: «لا أطلقك إن لم تباركي» (تك26:32)، ولما ضجر الملاك من تشبث يعقوب به وهو ماسك بتلابيبه ضربه على حق فخذه حتى يفلت من يديه؛ هذا لم يرده المسيح، لم يشأ أن يلمسها بسوء فاكتفى أن حذرها: «لا تلمسينى.».
‏إن كان «لا إنسان يراني ويعيش» (خر20:33)، فكيف لهذه أن تعانقه؟
‏توما لما لمس حقيقته صرخ «دربي وإلهي»! لقد رجه اللاهوت رجاً، وسرى فيه سريان النار في الحطب، فكيف لهذه أن تضم النار في حضنها ولا تحترق.
‏فرق أن يقول هو: «جسوني والمسوني» (راجح لو39:24)؛ وأن نحاول نحن أن نجسه ونلمسه، فهو وحده الذي يخضع طبيعة جسده الإلهي للجس أو اللمس في حدود إحساسنا ، لأنه أصلاً لا يُحس. أما نحن، فيستحيل أن نبلغ من أنفسنا مستوى مجسته وملامسته بطبيعتنا؛ أو هل يمكن أن تُجس النار؟ أو يُلمس النور؟ أو يُعانق الهواء؟
‏النسوة تمسكن بقدميه كإله، وخررن ساجدات عابدات، فارتضى. ولكن أن تلمسه «امرأة» لمسة الصداقة كمعلم سبق وشفاها، فهذا غير وارد. لقد تغيرت هيئته, وتغيرت وظيفته. إنه في لحظة العبور وليس الإقامة, ولسان حاله: «إني صاعد إلى أعلى السموات، لتجثو لي كل ركبة ممن في السموات ومن على الأرض. إني صاعد لأفتتح لكم الطريق إلى الحياة الجديدة، إلى الآب وإلي، لتكونوا حيث أكون, لا لتعيشوا معي وحسب بل وتعيشوا في. لا تلمسوني أو تجسوني بعد, لتتأكدوا مني، أو لتستمتعوا بي، بل لتتحدوا بي, بل لتأكلوني، فأصير فيكم وتصيرون فيّ».
‏لقد كان النور معهم زمانا قليلاً، وها الآن لم يعد زمان. فالنور يومض في ابن الإنسان ومضته الختامية على الأرض، ليصعد النور لأبي الأنوار، ويكفينا منه الغسق مدى الأيام. لقد حسبت النور لها وحدها، فقال لها: اذهبي خبري «إخوتي»، إني صاعد إلى أبي ليكون أباكم كلكم, صاعد بأخوتي التي لكم ومنكم التي قدمتها ذبيحة لكم، ومن أجلكم، أمام إلهي وإلهكم، لتشتركوا معي في بنوتي لآبي، فيكون أباكم.
‏القيامة أعطت المسيح طبيعته المهيأة للاقامة في الأعالي وعن يمين العلي. الجسد المُقام من الموت، لم تناسبه الإقامة على أرض الإنسان تحت طبيعة عالم الناس. «أنتم من أسفل, أما أنا فمن فوق.» (يو23:8)
‏أن يقوم المسيح من بين الأموات، فلا بد أن يصعد أيضاً، فالقيامة تمهيد للصعود، والصعود تكميل القيامة.
‏والصعود الذي تكلم عننه القديس لوقا في سفر الأعمال شيء، والصعود الذي يتكلم عنه المسيح هنا في إنجيل القديس يوحنا شيء آخر. الأول يتبع مراحل الفداء الأربع: التجسد (الميلاد)، والموت (الصلب)، والقيامة, ثم الصعود, في تدرجها المحسوس والمنظور لنا. أما الصعود في إنجيل القديس يوحنا ‏فهو العمل السري غير المنظور، والخاص بالمسيح في علائقه السرية بالآب؟ لأنه من جهة علاقة المسيح بالآب, لا يمكن التفريق «الزمني» بين القيامة والصعود، فهما عمل واحد لدى الآب، عبر عنه المسيح: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلي الجميع»» (يو32:12)، حيث يشير هنا إلى ارتقاع الجسد على الصليب، والارتفاع من الموت بالقيامة، والارتفاع بالصعود. هذا كله عند المسيح والآب عمل فدائي واحد متكامل. لذلك لا يصح هنا في قوله: «إني صاعد، وأصعد» اللجوء إلى التمييز الزمني في الأفعال.
‏ولأن المسيح هو ابن الإنسان، لذلك صح أن يقول إن الله إلهه؛ ولأنه هو ابن الله أيضاً حق له أن يدعو الله «أبى». وأذ يجمعهما لنفسه معاً «أبي والهي» فهو يوضح بنوته الإلهية المتجسدة كطبيعة.
‏وقد اعتنى القديس بولس الرسول جداً في إظهار نسب الله للمسيح، كإله، مؤكداً على بشرية المسيح تماماً، بحسب تسجيل القديس يوحنا، وذلك في مواضع كثيرة: «كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته» (أف17:1). ويُلاحظ أن الترجة العربية في الآيات التالية خرجت من النص الدقيق كالآتي: «مبارك (الله) إله وأبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية.» (2كو3:1‏)
«لكي تمجدوا (الله) إله وأبا ربنا يسوع المسيح بنفس واحدة وفم واحد» (رو6:15)
«مبارك (الله) إله وأبو ربنا يسوع الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح.» (أف3:1‏)
‏وقد حذفت الترجمة العربية حرف الـ «و» الواقع بين «الله وآب»، فضاع مفهوم نسب الله للمسيح «كإله»» توكيدا لبشريته, من ناحية، ونسبته الطبيعية اللاهوتية لله كآب من الناحية الأخرى. «فالله» في الآيتين السابقتين يجمع الصفتين معاً بالنسبة للمسيح «إله وآب» تماما كما قال المسيح للمجدلية.
‏وأن يطلقهما معاً بالنسبة لنا «أبوكم وإلهكم», يوضح ماذا صار لنا بموته وقيامته وصعوده من مشاركتنا في مخصصاته كنعمة وُهبت لنا .
‏وهذا ينطق به نطقا قوله: «قول لإخوتي». هذا الاصطلاح الأول من نوعه، وبعد القيامة، يفيد الوضع الجديد الذى صار للإنسان والكنيسة المؤمنة بقيامة المسيح؛ فبالتعليم عن كل ما عند الآب، صار التلاميذ «أحباء» (يو15:15)، أما بالقيامة من الأموات فقد اكتسب المسيح لهم علاقة إلهية به، وبالتالى بالآب: «إخوتي» وبالتالى «أبوكم».
‏المسيح، بالنسبة للتلاميذ بعد القيامة، لم يعد هو المسيح ابن الإنسان النازل من السماء، وكلام الحياة الأبدية عنده، بل المسيح الذي صعد إلى الآب وعاد بالحياة الأبدية ليسكبها علينا بغنى. لقد حقق وعده «إنه خير لكم أن أنطلق» (يو7:16). لقد عاد من عند الآب بعد أن أسس المكان والمنازل، ومعه عطية الآب: «الروح القدس» الذي أعطاهم في نفس المساء.
‏ويلزم أن ننتبه إلى التفريق المتعمد الذي أوضحه المسيح بقوله: «أبي وأبيكم», فنهو لم يقل «أبونا»، بل «أبي» خاصة «وأبوكم» عامة، «أبي» بالطبيعة »وأبوكم» بالنعمة والتبني الذي وهبه لنا المسيح كشركة في بنوته.
كذلك «إلهى» خاصة، لما تنازل وأخلى ذاته وأخذ شكل العبد, وصار إنساناً بإرادته, غير مخلوق, من تحت لاهوته، «وإلهكم» عامة، كعبيد اقتناهم الله لنفسه من خليقته.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
18:20 فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا.

‏في اليونانية «جاءت»، و«أخبرت» تفيد الحال والتو، بمعنى أنها تركت الرب راضية في الحال، لتقوم ببشارتها الأولى لعالم الإنسان الجديد، للكنيسة التي قبلت هذه الكلمة: «قد رأيت الرب», كإنجيل الحياة الجديدة، وبشارة الملكوت الذي دب منذ تلك اللحظة في روح التلاميذ، وإلى الآن يتفرخ ألفي سنة، ولا يزال، ثم إل الأبد.
‏لقد خرج النص في الترجمة العربية عن الأصل، وحول البشارة إلى الغائب «أنها رأت الرب»، ولكن النص اليوناني واضح وأكيد: «مبشرة التلاميذ. قد رأيت الرب», وهكذا تبوأت المجدلية الصدارة في سجل البشارة كأول إنسان رأى المسيح قائما من بين الأموات، وكأول بشير نادى بالقيامة.
‏السلام لمريم بنت ذات البرج ، التي حرست حراسات الليل حتى تقبلت أول شعاع النور...
‏السلام للتي بكرت جدا والظلام باق, تسعى، يقودها الحب، تطلب تكريم من تحبه، فوجدها ووجدته.
‏التلاميذ رأوا القبر قبراً فارغاً؛ وهذه رأته سماء مزينة بالملائكة. هؤلاء لما دخلوا القبر ما طلبوا شيئاً؛ وهذه تشبثت ببكاء تطلب جسد من تحبه, حتى استُعلن لها صاحبه في ملء الحياة وقوتها.
‏‏هؤلاء عادوا صامتين من القبر إلى حيث أتوا؛ وهذه تسمر قلبها ورجلاها في الحجر كالحجر، تتأوه، والدموع ملء عينيها، فاستحقت أن ترى مجد الله!
السلام لمبشرة صهيون، أول من قطفت من ثمرة شجرة الحياة، وأعطت التلاميذ، فأكلوا وانفتحت أعينهم, وعاينوا النور، وادثروا بثوب الخلاص.
‏السلام لمن استؤمنت، أول من استؤمن على رؤية الرب المُقام, وعلى سماع أول كلمة من فيه.
‏السلام لمن تسجل اسمها، أول ما تسجل في سفر الخلود وسجلات ملكوت السموات. بوركت يا مجدلية الإنسانجيل الأربعة، وبوركت دموعك وجرأتك ولجاجتك وأمانتك للجسد.
‏شهوة اشتهيت تكريم الحبيب الميت، وتطييب الجسد، فاستحققت حب الحي ونوال رائحة المسيح الزكية ببشارة الحياة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
المنظر الثاني: في العلية والتلاميذ مجتمعون​
في مساء الأحد المسيح يظهر للتلاميذ الخائفين وهم مجتمعون ويعطيهم السلام, والتلاميذ يفرحون برؤية الرب. المسيح يفتتح سفر الإرساليات للعالم، ويؤازرهم بنفخة الروح القدس وسلطان مغفرة الخطايا. (19:20-23)

19:20 وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ لَهُمْ: «سلاَمٌ لَكُمْ».

‏ينفرد القديس يوحنا بذكر حوادث ومناظر لم يأت عليها الإنجيليون الثلا ثة: الأبواب المغلقة، الخوف من اليهود، غياب توما، السلطان بالروح القدس.
‏من ملابسات ظهور المسيح للمجدلية، واضح أنه كان لا بد سيظهر للتلاميذ، كما كانت بشارة المجدلية الحافز السريع لاجتماع التلاميذ مع الترقب والأنتظار. وهذه تمهيدات لازمة بالفعل لجو الاستعلان.
‏والمعتقد أن عددا كبيرا من الأخصاه كانوا مجتمعين غالباً في العلية حيث صنع الرب عشاءه الأخير، هذا يتأكد لنا من رواية القديس لوقا بخصوص عودة تلميذي عمواس إلى التلاميذ المجتمعين: «فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم واللذين معهم» (لو33:24)، كما يتأكد لنا من الصورة الموازية لاجتماعهم يوم الخمسين: «ولما دخلوا، صعدوا إلى العلية التي كانوا يقيمون فيها... هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته.» (أع13:1-14)
«عشية ذلك اليوم»: كان هو اليوم المشهود والخالد في تاريخ الكنيسة، بل على وجه الصدق في تاريخ الإنسان. فقد اُستعلن المسيح غالب الموت الذي هو عدو الإنسان الأول والأخير. ووهب للانسان الحياة الجديدة التي لا سلطان للموت عليها. ونفخ في الإنسان من روح الله القدوس ليتقبل قوة الحياة التي لا تموت، عوض نفخة الله في نفس آدم التي أطفأتها لعنة العقوبة، فساد عليها الموت كتأديب.
ويلاحظ أن المسيح اختار يوم الأحد بالذات ليقدسه للكنيسة بحضوره في وسط التلاميذ. ونقول يوم الأحد بالذات وهو اليوم الذي قام فيه, لأنه عاد وظهر مرة أخرى للتلاميذ ولتوما في يوم الأحد التال، وليس يوم السبت أو أي يوم من أيام الأسبوع الأخرى!
‏من هنا يتأكد لنا بكل قوة وبيان أن المسيح قصد قصدا تقديس يوم الأحد ليكون «يوم الرب» على مدى الدهور، وهو يوم القيامة، فصار كل يوم أحد للكنيسة يوم القيامة. وهذا هو تقليد الكنيسة الثابت.
‏وبحسب التقليد الإفخارستي الذي عاشته الكنيسة ألفي سنة, فيوم الأحد هو يوم الإفخارستيا بالأساس. والمعروف والثابت من تقليد الإفخارستيا أن الرب يظهر فيه وقت «كسر الخبز», أي أثناء التقسيم, أي القسمة, تماما كما ظهر في العلية وسط التلاميذ المجتمعين. فنحن على ميعاد مع الرب في إفخارستية كل أحد.
‏كذلك, ومن التقليد الرسولى الذي يقدمه لنا القديس يوحنا في سفر الرؤيا، نعلم أن القديس يوحنا أُخذ بالروح في يوم الأحد وتسلم أسرار السبع الكنائس والأمور الخاصة بالأزمنة الصعبة التي ستأتي على العالم. وهكذا نفهم أن يوم الأحد تعين ليكون يوم الاستعلان والكشف لأسرار الله والمسيح.
«وكانت الأبواب مغلقة, حيث كان التلاميذ مجتمعين بسبب الخوف من اليهود»: كانوا عشرة تلاميذ من الاثني عثر، فيهوذا سقط من حساب الاثني عشر، وتوما تغيب، وعلى أغلب الظن أنه غادر أورشليم إلى وطنه كما صنع تلميذا عمواس في ذلك اليوم أيضاً، اللذان عادا قبل المساء مسرعين إلى العلية بعد أن ظهر لهما الرب.
‏أما الأبواب المغلقة والخوف من اليهود، فهذا إعلان صريح عن غياب الإيمان بالرب، وغياب مفهوم القيامة وقوتها جملة وتفصيلاً, بل وغياب عنصر الرجاء، الأمر الذي نلمسه بشدة في حديث تلميذي عمواس، الذي يعطينا صورة لما كان يدور الحديث حوله في العلية قبل ظهور الرب: «فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟ فأجاب أحدها الذي اسمه كليوباس وقال له: هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ فقال (يسوع) لهما: وما هي؟ فقالا: المختصة بيسوع الناصري، الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله, اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك, بل بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكراً عند القبر. ولما لم يجدن جسده، أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي» (لو17:24-23)
‏وذكر «الأبواب» المغلقة بالجمح، يفيد مدى الخوف والرعبة، فباب البيت الخارجي، والباب الموصل إلى العلية, وباب العلية، كلها أحكم غلقها بمتاريس وأقفال. وتعبير القديس يوحنا لا يخلو من الرمز، فغياب «أنا هو الباب» المفتوح على السماء، ينشىء حتماً إغلاقا على النفس بكل الأبواب الممكنة.
‏ولكن, والخوف يحيط بالتلاميذ من كل جانب، حضر تلميذا عمواس على عجل يلهثان من الركض ليخبرا المجتمعين أنهما رأيا الرب وكسر الخبز بيديه، وشرح لهما «من موسى وجميع الأنبياء والمزامير مفسراً لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب» (لو27:24). وهنا تطابقت شهادة المجدلية, والنسوة، مع القبر الفارغ والأكفان وحدها، وغياب الجسد! فكادت القيامة تحاصرهم وتملأ عليهم تفكيرهم. ولكن وحتى بعد ظهور الرب لهم في عشية ذلك اليوم، نسمع أيضاً وبعد أسبوع وفي عشية الأحد التال عن خوفهم واجتماعهم والأبواب المغلقة عليهم. لقد كانت القيامة يتنازعها عتمة فكرية من صنع الواقع المرير، وخبرة أهوال الصليب، وجبروت السنهدريم ورؤساء الكهنة، عتمة لم تنقشع قط إلا بعد أن لبس التلاميذ قوة من الأعالى يوم الخمسين، ونطق فيهم الروح القدس بقوة تفوق كل سلطان العالم.
«فجاء يسوع وقف في الوسط»: دخل الرب إلى حيث كان التلاميذ مجتمعين والأبواب مغلقة عليهم. هذا أول مفهوم لطبيعة القيامة، فالقيامة من الموت لم تعد تخضع بعد لكل ما هو خاضع للموت, أي الطبيعة البشرية بكل القوانين التي تحكمها وتتحكم فيها المادة والمكان والزمان والجاذبية والحركة والحرارة والضغوط والأشكال والألوان التي كلها تختص بالمادة, فالجسد القائم من الموت هو جسد روحاني له عالمه الروحي، وله قوانينه الروحية. وكل أعمال الروح هي معجزة لدى المادي.
‏ظهور الرب «وسط» التلاميذ ألغى الأولويات والترتيب والكرامات في حضرة الرب، فالكل في الحضرة الإلهية واحد! ومن ذا يتجرأ في حضور الله ليرى نفسه أعلى من أخيه.
«سلام لكم»: ليست هي تحية بل عطية: «سلامي أعطيكم», وليس كما يعطي أهل العالم السلام بعضهم لبعض، أو كما تعد الملوك والرؤساء شعوبهم بالسلام وهم أحوج الناس إليه. سلام المسيح هنا أنشأ فيهم الفرح في الحال والتو، «ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب» (يو20:20). وهكذا ابتدأ يداخلهم الفرح وسط الخوف الشديد الذي كان يعتريهم من اليهود. هذه أول مفاعيل القيامة وأشدها وأكثرها دواماً : «ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو22:16). إنها بهجة القيامة، أمضى أسلحة الإيمان التي نغلب بها أهوال العالم ومخاوف الشيطان ومقاومة الأشرار. فالمسيحي الذي قام مع المسيح لا يعود يرهب الموت وكل تهديدات الموت، لأن حياته ممتدة فوق الموت وأهواله، لأن سيرته مكتوبة في السماويات.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
20:20 وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ.

مسيح القيامة هو مسيح الصليب: «لا تخف. أنا هو الأول والأخر، الحي وكنت ميتاً, وها أنا حي إلى أبد الأبدين.» (رؤ17:1-18). لا يمكن أن تُفهم القيامة إلا على توقيعات الصليب وجروحه وموته، ولا يمكن أن يُفهم عذاب الصليب ومعنى الموت، إلا على نور القيامة. المسيح الذي مات مصلوباً أمام أعينهم, وكأنه قُضى «وقطع من أرض الأحياء»، ها هو هو بجروحه المميتة، واقف أمامهم حياً في ملء قوة الحياة. الموت الذي تراءى لأعينهم أنه ساد عليه وأنزله القبر، طرحه المسيح عنه وداسه، وقام بذات الجسد وذات الروح شامخاً فوق الموت ومن له سلطان الموت.
‏جروح اليدين والرجلين لم تُشف، ولا الجنب المفتوح التأم، وكأن الجسد اقتبل روح الشفاء، بل احتفظ المسيح بجروحه الغائرة وجنبه المفتوح كعلامة الموت الذي جازه، احتفظ بها كلها كما هي؛ لأن الجسد الذي قام لم يعد يستمد حياته من عناصر الحياة على الأرض، بل من فوق، من الحياة التي له خاصة: «كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن يكون له حياة في ذاته» (يو26:5). فصارت علامات الموت وسماته، شهادة للموت الذي جازه ‏والقيامة التي قام. «ورأيت ... وسط الشيوخ، خروف قائم كأنه مذبوح ...» (رؤ6:5)، «مستحق أنت أن تأخذ السفر، وتفتح ختومه، لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك.» (رؤ9:5)
سمات الموت التي تقبلها الرب في الجسد، صارت هي سمات القيامة والمجد، ومن جروحه وجنبه المفتوح يخرج لنا الآن الشفاء والعزاء والحياة والمجد.
‏(اقتل أوجاعنا بآلامك الشافية المحيية. وبالمسامير التي سُمرث بها، أنقذ عقولنا من طياشة الأعمال الهيولية (الأعمال الماد‏ية) والشهوات الجسدية - الأجبية صلاة الساعة السادسمة).
«ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب»: هنا فعل « يرى» ملؤه الإيمان. لقد حقق الرب وعده لهم: «أنتم كذلك عندكم ‏الآن حزن، ولكي سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم.» (يو22:16)
‏إنها تجربة واختبار فريد من نوعه حظى به التلاميذ، وقصده الرب قصدا، ليكون خبرة لكل من آمن بالمسيح بالإيمان الرسولي المسلم بالروح.
‏يلاحظ القارىء أن المسيح دخل إلى حيث كانوا مجتمعين والأبواب مغلقة، هذا شأن جسد القيامة, الجسد الجديد للخليقة الجديدة الروحانية. ولكن المسيح، وبالجسد القائم من الموت، وبمواصفاته الجديدة غير المنظورة ولا الملموسة، أخضع جسده للرؤيا واللمس لتصير لدى التلاميذ، وبالتاؤ لدى الكنيسة, الخبرة الحقيقية والصادقة بحقيقة القيامة بالجسد وصدقها: «وأعطى أن يكون ظاهراً ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم؛ لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه. بعد قيامته من الأموات.» (أع40:10-41‏)
«ففرح التلاميذ»: هنا الفرح من نوع خاص جدا، لا يمت بصلة إلى أي من أنواع الفرح التي نعرفها واختبرناها على الأرض. هذا الفرح هو فرح الروح بالروح، وهو ينسكب على النفس نتيجة استعلان فائق, وهو هنا المسيح نفسه.
‏وهذا ألفرح يشمل ثلاثة مفاعيل:
‏الأول: توقف الحواس الجسدية, دفعة واحدة، ومعها كل المؤشرات العصبية التي تؤثر على المخ بمراكزه الأربعة والعشرين, وهكذا يتوقف الخوف والاضطراب والحزن والقلق بكل صنوفه.
‏الثاني: انفتاح النفس على المجال الروحي أمامها بلا عائق، فتتسلل النفس وتمتد لتستجلي الحقيقة المستعلنة أمامها, المسيح الواقف في الوسط.
‏الثالث: تتقبل النفس, بقدر استعدادها، فترى الروح المنبعثة من المسيح من سلام ونور وسكينة.
هذا الاختبار الروحي نفسه يمكن أن نحصل عليه أثناء تأملنا في الحقائق الأنجيلية إذا بلغ الإيمان التصديق الكلي لكل ما يقول الرب.
‏لذلك، فالفرح المنسكب علينا من الله في هيئة استعلان، هو مصدر قوة لا يُستهان بها لدى الإنسان، وقد عبر عن ذلك العهد القديم بمنتهى الوضوح: «لأن فرح الرب هو قوتكم.» (نح10:8)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
21:20-22 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «سلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا». وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: «أقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ».

‏في هاتين الآيتين يُرسي االمسيح قواعد التقديس والإرسالية للتلاميذ، والتي سبق أن طلبها من الآب في صلاة الوداع (يو17:17-18).
+ في البداية يعيد المسيح إعطائهم السلام, فالسلام الذي أعطاهم في البداية في حديث الوداع (يو27:14) هو لحساب أنفسهم الخائفة الجزعة، ليصيروا مهيئين لتحمل الرسالة بأعبائها الخطيرة. أما عطية السلام الثانية هذه، فهي لحساب الإرسالية, هي ذخيرة وأمانة, لكي كما قبلوا السلام لحساب الآخرين. يعطونه للأخرين من عند الله والمسيح: «وحين تدخلون البيت سلموا عليه. فإن كان البيت مستحقاً, فليأت سلامكم عليه. ولكن إن لم يكن مستحقاً، فليرجع سلامكم إليكم.» (مت12:10-13)
+ ثم يعطيهم المسيح مهمة الإرسالية, لا كأنها عمل منفصل عنه يقومون به بأنفسهم، بل كعمل ممتد منه، ومتصل به, ومكمل له. فإرسالية المسيح للرسل تقوم على أساس ونمط وقوة إرسالية الآب (التي هي أساس الأنجيل كله). هذا سبق المسيح وأكده في صلاته الختامية: «كما أرسلتني إلى العالم، أرسلتهم أنا إلى العالم.» (يو18:17‏)
‏المسيح, في صلاته, كان قد أكمل الإطار الكلي للمهمة العظمى التي أرسله الآب لتكميلها، ولم يبق منها آنئذ إلا صبغها بالدم، لتصير كلها أعمال فداء. ولأنه كان قد أكمل العمل، حق له أن يرسلهم, أو على وجه التحديد، أن يصور لهم إرساليتهم على أساس ختم الرسالة المزمع أن يضعه على الجسد: «وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان» (مت23:20‏)؛ أما الآن، وقد اصطبغت إرساليته بالدم وخُتمت، فقد صارت جاهزة للاستعلان والكرازة. وكما لم يكن، وحده، يعمل أعمال إرساليته: «لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني ... والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه» (يو16:8و29)، كذلك وهو في طريقه إلى السماء أعطاهم المعزي, الآخر, ليكون «معهم ويمكث فيهم». فالإرسالية الرسولية كريمة ومجيدة للغاية, فهي نابعة من إرسالية الآب للمسيح, وتابعة لإرسالية المسيح، وممسوكة ومقودة بالروح القدس.
‏لذلك، يكرر المسيح هنا هذه الحقيقة، كأساس: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا». وهنا ليست المساواة في الإرسالية هي المقصودة, بل الامتداد، والمؤازرة، والديمومة, والاحتفاظ بالمصدر الذي تقوم عليه ومنه الارسالية. القديس يوحنا هو أول من يشير إلى ذلك، ولكن في اقتضاب شديد, إذ غير الفعل فقط, فجعل إرسالية الآب له على فعل ( )، وإرسالية المسيح للتلاميذ ( ). والفرق بين الفعلين دقيق للغاية, لأن ورودهما كثيراً ما كان متبادلا بلا فرق، ولكن في إنجيل القديس يوحنا يلاحظ العلماء أن فعل ( ) ‏جاء على لسان المسيح فيما يخص إرساليته من الآب باعتبارها إرسالية فائقة, أي ذات سلطان على اليهود والتلاميذ، إذ أن وراء إرساليته، الله الآب نفسه, حيث الإرسالية يتبعها تكليف عال.
‏أما فعل ( )، فيرد في إنجيل القديس يوحنا بمعنى الإرسالية وحسب، دون تكليف محدد. لذلك، فهذه الآية تحمل التقليد اللاهوتي للارسالية الذي فهمته الكنيسة ووعته وقدسته للغاية. إن الرسولية مقصورة على الاثني عشر (متياس حل محل يهوذا)، كامتياز رسمي دخل فيه بولس الرسول باختيار فوق العادة: «فقال له الرب اذهب، لأن هذا لى اناء مختار ليحمل اسمي أمام امم وملوك وبني إسرائيل ... قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك ... لكي تبصر وتمتلىء من الروح القدس ...» (أع15:9-17)
وان المُرسل يحمل كرامة الذي أرسله: «الذي يقبل من أرسله يقبلني، والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني.» (يو20:13)
‏ويلاحظ هنا أنه بعد أن أعطاهم التكليف بالإرسالية، قدسهم بنفخة الروح القدس للعمل، باعتبار أن الإرسالية عمل مقدس، أي خاص بإعلان الله: «لأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين فى الحق» (يو19:17). وهنا يعطيهم الروح القدس، وهو روح التقديس والشهادة معاً، لأنه هو الناطق فيهم والذى يعرفهم بالحق!
‏ومنذ هذه اللحظة التي أرسى فيها المسيح قاعدة الارسالية على الرسل, مقدساً إياهم بالروح القدس. والكنيسة تحمل هذه الإرسالية بجدارة بالتتابع الرسولى, من الرسل إلى الآباء الرسوليين، إلى الآباء القديسين خلفاء الرسل، إلى الآباء الأساقفة, رؤساء الكراسي القانونية, في كل المسكونة المعتبرين خلفاء الرسل. وبذلك صار إيمان الكنيسة مدموغأ بالرسولية، فهو يُسمى منذ مجمع نيقية «الايمان الرسولى». ووضع في قانون الإيمان هكذا: «نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية».
‏ومن جهة الإيمان الحى الذي نعيشه اليوم كأفراد وجماعة، فهو يقوم على ما تم للرسل في عشية ذلك اليوم، مضافاً إليه «شهادة الرسل» بعد ذلك، التي تملأ الأسفار المقدسة. فنحن نستمتع بإيمان مسيحي متأسس على نطق إلهي، واثني عشر رسولاً، شهود عيان، وإلهام الروح القدس, بالإضافة إلى ما تسجل في الأسفار المقدسة من الوحي المقدس، سواء بالنبوة في العهد القديم، أو بالاستعلان المشاهد في العهد الجديد.
‏ولكن الإمتياز الأعظم الذي صار لهذا «الإيمان الرسولى» أنه كان وظل ولا يزال يستمد قوته وسلطانه وكرامته من المسيح بالدرجة الاولى: «الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله، يقبلنى, والذى يقبلنى، يقبل الذى أرسلنى.» (يو20:13)
‏ويلاحظ أنه كما أن الإرسالية، التي عُقد لواؤها على المسيح أولاً من عند الآب, تآزرت وتقدست فى مضمونها الظاهر للعالم بالروح القدس، وظهر هذا واضحاً للغاية سواء في تقديس العذراء بالروح القدس لقبول الحمل الإلهي: «مولود من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم» ( قانون الإيمان)، أو بحلول الروح القدس على المسيح وقت العماد بصورة ظاهرة لاستعلان المسحة الإلهية ودفع الإرسالية بالروح القدس؛ كذلك الإرسالية التكميلية التي عقد لواءها المسيح على الكنيسة الممثلة بالرسل القديسين، تآزرت وتقدست في مضمونها الداخلي والخارجي بالروح القدس.
‏ونلاحظ من كلا الإنسانجيل وسفر الأعمال أن الروح القدس أُعطي أولاً للتلاميذ، ثم حل عليهم ثانياً في يوم الخمسين:
أولاً: بعد القيامة مباشرة بنفخة الروح القدس من فم المسيح، تاماًكما نفخ الله الخالق في جبلة الإنسان لما خلقه فصار آدم نفساً حية. ففي نفخة القيامة هذه صار الإنسان خليقة جديدة حية تتفس بالروح القدس لحياة أبدية.
«نفخ»: وهذه هي المرة الاول والوحيدة التي فيها ترد هذه الكلمة في العهد الجديد. وهي تفيد «ينفخ في» بالمعنى الشائع في العهد القديم أنه «نفخ الحياة»، وهي خاصة بالله وحده: «وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ ‏في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية.» (تك7:2)
«هكذا قال السيد الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا.» (حز9:37)
‏هكذا أعطى المسيح القائم من الأموات للتلاميذ شركة في روح حياة القيامة التي فيه، وهذه الروح ليست فقط روح قيامة بل وأيضا روح غسيل وتطهير وإحراق، لأنه لم ينفخ فيهم روحاً وحسب، بل الروح القدس. و«القدس» هنا يفيد التقديس والتطهير والغسل والإحراق للتأهيل للحياة الجديدة: «لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو11:6). وهذا هو ما يتضمنه قول المسيح للتلاميذ: «أما أنتم فستتعمدون بالروح القدس» (أع5:1). بل وهذا هو تحقيق قول المسيح للتلاميذ: «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو19:14), وهي حياة قائمة من موت لا يسود عليها الموت ثانياً قط.
‏وقد أخذت الكنيسة الشرقية عامة والقبطية خاصة عن إنجيل يوحنا عملية نفخ الروح القدس في طقس العماد، فصار «النفخ» عملية طقسية يتكمل بها سر الخليقة الجديدة، بالماء والروح، كوعد المسيح. وقد امتد عمل «النفخ» كإعطاء روح من الله في بعض الأعمال الطقسية الأخرى عند بعض الكنائس، وفي الكنية القبطية قديماً، كما في إعطاء الحل من الخطايا في سر التوبة والاعتراف. ولكن هذا التقليد ضعف في أيامنا وبطل. كذلك كان هذا يجري في طقس رسامة «أبونا» الرأس الحبشي على الكنيسة الحبشية، وذلك بأن ينفخ البطريرك القبطي أسقف الإسكندرية في قربة حتى يملأها من نفسه ويرسلها بيد مخصوص لتفتخ في وجه المختار فتتم رسامته بالتتابع الرسولي بتقديس الروح.
وكما خلق الله الإنسان في البداية على صورته، هكذا خلقه المسيح بعد القيامة بالروح القدس على صورة خالقه في البر وقداسة الحق (أف24:4)، وواضع غاية الوضوح أنها «إعادة خلقة» على مستوى الروح القدس لإعطاء الحياة الأبدية.
+ «لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع.» (أف10:2)
+ «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم االجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه.» (اكو9:3-10‏)
+ «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة...» (2‏كو17:5)
+«... تلبسوا الإنسان الجديد, المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.» (أف24:4)
+ «يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم.» (غل19:4)
‏وهكذا في هذه الليلة الخالدة في تاريخ الكنيسة السمائي, إذ بعدما أكمل المسيح الأنجيل, خلق المسيح من الرسل، بنفخة فمه, باكورة خلائقه بالروح القدس لميراث جديد في السماء لحياة أبدية: «شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه.» (يع18:1)
‏ثانياً: حلول الروح القدس على التلاميذ المجتمعين يوم الخمسين، فواضح أنه كان لحظة الأنطلاق لبدء الخدمة والكرازة بقوة الروح القدس: «لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لى شهوداً...» (أع8:1). لذلك نسمع أنه بمجرد أن حل الروح القدس «ابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا» ‏(أع4:2‏). لذلك فحلول الروح القدس يوم الخمسين على باكورة الخليقة الجديدة المقدسة، يٌحسب أنه كان قوة الدفع للارسالية والكرازة والشهادة بالروح القدس، التي صورها الله جهارا بالنار المتحولة إلى ألسنة ناطقة بكل لغات الأمم!! والتي مبق أن ألمح إليها المسيح بقوله: «جئت لألقى ناراً على الأرض..» (لو49:12). وهذه هي النار التي تضرم روح الحب والبذل والتضحية والشجاعة والشهادة في قلوب الأتقياء حتى اليوم والى الأبد.
‏وللقديس كيرلس الكبير شرح للتفريق بين عمل عطية الروح القدس للتلاميذ بالنفخ من فم المسيح وبين حلول الروح القدس يوم الخمسين عليهم وهم مجتمعون, ورأيه هنا يعتبر الأوفق والأكمل: [إن مخلصنا أعطى الروح بواسطة العلامة الظاهرة وهي «نفخته» للتلاميذ القديسين, باعتبارهم باكورة للخليقة المُجددة. لأن موسى يكتب فيما يخص خلقتنا في القديم أن الله «نفخ» في أنف الإنسان نفخة الحياة. فكما تشكل في البدء وجاء إلى الوجود، هكذا بالمثل يتجدد. وكما أنه تشكل آنذاك في صورة خالقه هكذا الآن بالمثل, فبالشركة في الروح يتغير على شكل خالقه. لأن الروح يطبع صورة المخلص على قلوب الذين يقبلونه, وهذا بكل تأكيد لا يسمح لأي تساؤل. لأن بولس يستحث بوضوح الذين سقطوا في الضعف تحت إلزام العودة للتمسك بالناموس بهذه الكلمات: «يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضأ إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غل19:4). لأنه يقول إن المسيح لا يتصور فيهم إلا بالاشتراك في الروح القدس والحياة بمقتضى ناموس الأنجيل... لأنه يلزم لنا نحن أيضاً أن ندرك هذه الحقيقة, أي أنه أحدر لنا الروح ليمنحه لنا أيضاً. ولكن في أيام عيد الخمسين المقدس, عندما أذاع الله نعمته بوضوح أكثر معلناً عن الروح القدس الذي في قلوبهم, ظهرت لهم ألسنة من نار، لا كأنها تعني بداية لعطية الروح القدس في قلوبهم, بل بالحري لتشير إلى بدء الزمن الذي فيه وُهبت لهم عطية اللغات (الألسن). ومكتوب هذا حقاً إنهم «بدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا» (أع4:2‏). ولاحظ أنهم «بدأوا يتكلمون» وليس «بدأوا يقبلون التقديس» ‏... وهذا كان من عمل الروح الذي فيهم.]
‏وأيضا للقديس يوحنا ذهبي الفم رأي في الفرق بين عطية الروح القدس بعد القيامة وحلول البارا كليت يوم الخمسين، ولكنه رأي غير مأخوذ به: [إلا أنه لا يكون الإنسان مخطئاً إذا أكد أنهم أيضاً قبلوا قوة روحية ما ونعمة, ليس لكي يقيموا موتى أو يصنعوا معجزات, ولكن لكي يغفروا الخطايا... ولكنهم من جهة الحالة الأخرى، أي بعد الأربعين يوماً فإنهم تقبلوا قوة صنع المعجزات... وصاروا شهوداً بواسطة صنع المعجزات.]
‏وهذا الرأي الذي يقول به القديس ذهبي الفم يقوم هلى أساس ورود كلمة «الروح القدس» (في يو22:20) بدلا أداة التعريف «ألـ» ، فاعتبر ذلك نوعا من القوة وليس هو الروح.
‏ولكن هذا القياس مرفوض من علماء اللغة المقتدرين الذين قالوا بأن ورود كلمة «الروح» بدون أداة التعريف هو مثل وروده بأداة التعريف، لا فرق, وذلك بناء على استقراءات متعددة من مخطوطات مختلفة. وأيضا يذكر الروح بدون التعريف في مواضع لا يمكن إلا أن تكون للتعبير عن الروح القدس نفسه وبشخصه، مثل ما جاء في سفر الأعمال 4:2. لذلك لا نستغرب بأن لاهوتيى الأرثوذكس الروس يرفضون رأي ذهبي الفم في هذا الموضوع, وكثير من الشراح المقتدرين يجدون في عطية الروح القدس بعد القيامة للتلاميذ القمة النهائية للعلاقات الشخصية التي تأسست بين المسيح والتلاميذ.
‏ولقد كان موضوع عطية الروح القدس بعد القيامة للتلاميذ موضوع جدل لاهوتي عنيف عند الكنائس الخلقيدونية. فالمجمع المسكوني الخامس (553 م) وهو غير معترف به عند الارثوذكس غير الخلقيدونيين شجب عقيدة ثيئودور الموبسويستي لقوله إن المسيح بعد القيامة لم يعط الروح القدس في الحقيقة, ولكن الأمر كان مسألة شكلية كأنه مجرد وعد. وهكذا نستطيع أن نقول أن شرح القديس كيرلس الكبير لهذا الموضوع هو الأصح والأكمل.
‏ويلاحظ القارىء أن المسيح لم ينفخ الروح القدس على التلاميذ واحداً واحداً, لأن الروح القدس لا يُعطى بكيل أو بالتقسيم، بل أعطي للتلاميذ عطاء كلياً وقبلوه ككل، كجسد واحد ككنيسة مجتمعة متحدة، فحتى القدي توما رسول الشك, الذي كان غائباً في هذه الليلة, وإن لم يكن أهلاً لتقبله في البداية، الأمر الذى تسبب في تغيبه قصدا، لكن عندما آمن, لما رأى, قبله في الحال قبول التلاميذ قدرا بقدر. وليس توما وحده بل الكنيسة أفراداً وجماعات في كل أنحاء الأرض قبلت الروح القدس لما قبله التلاميذ، لأنه لم يعط الروح لأسماء وأشكال وأعداد ولكن للانسان, كل من يؤمن, كخليقة جديدة. فالكنيسة الكارزة في العالم وُلدت وتقدست فى المسيح والروح. ثم اُرسلت يوم الخمسين وكان التلاميذ باكورة مقدسة لهذه الخليقة المولودة بالكلمة والروح.
‏ولكي يثق القارىء في عمومية وشمولية فعل الروح القدس في الكنيسة خلوا من زمان ومكان، لنا مثال في قصة حلول الروح على السبعين شيخاً في جماعة إسرائيل، عندما أخذ الله من الروح الذى على موسى وأعطى هؤلاء الشيوخ فتنبأوا، ولكن كان اثنان منهم غائبين بعيدا في المحلة ولم يحضرا هذا المشهد الرهيب. ولكن الروح باغتهما وحل عليهما بالمثل وهم بعيداً داخل المحلة. فلما غار يشوع تلميذ موسى، إذ كيف يتنبأ هذان الشيخان وهما لم يحضرا طقس الرسامة والتنصيب؛ وفي غيرته احتج لموسى: «يا سيدي موسى اردعهما. فقال له موسى: هل تغار أنت لى؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذ جعل الرب روحه عليهم!!» (عد24:11-29). وقد تم ما نطق به موسى كليم الله وصار بالفعل يوم الخمسين وما بعده سكيباً متصلاً للروح القدس على كل من آمن واعتمد للرب.
‏وعلينا أن نلاحظ الصلة بين الإرسالية وعطية الروح القدس للتلاميذ، أنها صلة متبادلة وجذرية. فلا إرسالية بدون عطية الروح القدس، ولا عطية للروح القدس دون كرازة أو شهادة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
23:20 «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ».

«وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يُغلق، ويُغلق وليس من يفتح.» (إش22:22)
‏هذه الآية ملتحمة بالآية السابقة، أي بعطية الروح القدس، في نفخة الحياة الجديدة في المسيح المُقامة من الموت, ثم بالإرسالية الممتدة من الآب أيضاً. وهكذا يكون غفران الخطايا وحجزها عن الغفران داخلاً في عمل الروح القدس المباشر، وفي نطاق خدمة الارسالية، أي خدمة الخلاص.
‏هذه الآية، من واقع منطوقها، سلاح خطير ذو حدين: حد يقطع الخطية ويفرزها عن الداخل في الحياة الجديدة، وحد يقطع الخاطىء نفسه عن جسد الكنيسة الحي حتى لا يفسدها.
‏وقد ذهب المفسرون لهذه الأية كل مذهب, ولكن لا يعنينا في شرحها إلا ما جاء في منهج الفكر الارثوذكسي الكنسي.
رأي القديس كيرلس الكبير: [بأية طريقة، وبأي معنى وهب المخلص تلاميذه الكرامة التي تليق فقط بطبيعة الله وحده؟ لقد فكر(الرب) أنه من الموافق أن الذين وُهبوا مرة روحه، وهو الرب الإله، ينبغي أن يحوزوا قوة مغفرة أو مسك الخطايا، فكيفما صنعوا يكون الروح القدس الساكن فيهم هو الذي يغفر أو يمسك هذه الخطايا حسب مشيئته، على أن العمل الذي يعمل يكون بواسطة الإنسان.]
وحسب ما أرى، يكون أن الذين نالوا روح الله، يغفرون أو يمسكون الخطايا على مستويين:
‏الأول: فهم يدعون إلى المعمودية الذين هم أهل لهذا السر، من واقع نقاوة حياتهم واختبار مدى تمسكهم بالإيمان، كذلك فإنهم يؤخرون ويستثنون الذين لم يبلغوا بعد إلى استحقاق هذه النعمة الإلهية.
‏الثاني: وفي معنى أخر، هم يفغرون ويمسكون الخطايا بأن يزجروا ويعزلوا أبناء الكنيسة (أي المعمدين)، كما يمنحون العفو للذين تابوا. تماماً كما قطع بولس ذلك الذي اقترف الزنا في كورنثوس: «لهلاك الجسد حتى تخلص النفس» (1كو5:5)، ثم عاد وقبله في الشركة «حتى لا يُبتلع من فرط الحزن.» (2كو7:2)
‏ولقد كان لهذه الآية الخطيرة تاريخ حافل باختلاف الأراء خاصة في الكنية الكاثوليكية، ولا يزال هذا الخلاف قائمأ بين المتحررين في الكنيسة الرومانية وبين التقليديين، إلى هذا اليوم. ولكن الرأي الذي يكاد أن يكون سائداً هو الرأي الذي قال به القديس كيرلس الكبير بأن الحل والمسك للخطايا يخص سري العماد والتوبة، أي ما قبل العماد وما بعد التوبة.
‏المعروف أن أباء الكنيسة على مدى الثلاثة القرون الأولى، ركزوا على مغفرة الخطايا ومسكها فيما يخص المعمودية فقط. ونرى هذا واضحاً في قانون الإيمان: «ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا». وانجيل القديس يوحنا يشير إلى هذه الحقيقة إشارة قوية في قصة تفتيح عيني الأعمى بالاغتسال, الذي هو رمز العماد، باعتبار أنه عاد بصيراً، لأن خطاياه غُفرت, في مقابل عدم إيمان الفريسيين الذين وضعهم الرب في مستوى العميان, أي غير المعمدين, على أساس عدم غفران خطاياهم. «فخطيتكم باقية» (يو41:9‏). وفي هذه القرون الثلاثة الأولى، كان الاتجاه عنيفاً ضد مغفرة الخطايا بعد المعمودية. ولكن يأتي إنجيل القديس لوقا ليشير إلى الغفران والمسك للخطاياه في معنى التوبة، بصورة واضحة في قول المسيح نفسه: «وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم.» (لو46:24-47)
‏وانجيل يوحنا يعطي أيضاً الأنطباع بأن مغفرة الخطايا موصولة با لكرازة، لأن كلام المسيح يعطي فكراً واحداً متصلاً بين الإرسالية ونفخة الروح القدس ومغفرة الخطايا. ولكن سواء في إنجيل القديس لوقا، أو القديس يوحنا فمفغرة الخطايا متركزة نوعا ها وبصفة مبدئية في الدعوة للمعمودية, التي هي غاية الكرازة، وهي الخاصة «بالأمم». ولكن واضح من رسالة القديس يوحنا الاولى ربط مغفرة الخطايا بالاعتراف أي التوبة (راجح ايو9:1‏).
‏والملاحظ من روح إنجيل القديس يوحنا أن موضوع مغفرة الخطايا وعدم مغفرة الخطايا يأتي بصورة رئيسية كمنهج اختطه المسيح نفسه؛ بمجيئه إلى العالم، كنور وقداسة وبر: «فقال يسوع: لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم, حتى يبصر الذين لا يبصرون ( المعمودية لمغفرة الخطايا ) ويعمى الذين يبصرون (حرمان المدعين المعرفة والمتجاهلين لخطاياهم من مغفرة الخطايا)» (يو39:9) وعلى هذا المنوال تماما، يكون التلاميذ المرسلون من قبل الرب ليقوموا بنفس رسالة المسيح: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا.» (يو21:20)
‏ولكن لا يزال لاهوت القديس يوحنا يُسيج حول موضوع مغفرة الخطايا، حتى لا يتسرب إلى الذهن أن مغفرة الخطايا من عدمه هي تحت سلطان رسول أو تلميذ أو أي بشر، خلواً من تدخل ومتابعة إلهية وتصديق، وذلك بما قدمه في رسالته الاولى: «إن اعترفنا بخطايانا، فهو آمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يو9:1). المسيح هنا هو قابل الاعتراف بالدرجة الاول بل هو المعرف الإلهي الحقيقي في سر الاعتراف، ويزيد أنه يطهر الضمير والنفس. أما الرسول أو التلميذ أو الأسقف أو الكاهن فما هو إلا خادم السر، يأخذ الاعتراف، ليس لنفسه, بل ليقدمه إلى المسيح: [ثم يصعد الكاهن إلى الهيكل ويعطي البخور فوق المذبح عن اعتراف الشعب جميعه في عشية وباكر والبولس, وهو يقول: «يا الله الذي قبل إليه اعتراف اللص على الصليب المكرم, اقبل إليك اعترافات شعبك واغفر لهم جميع خطاياهم هن أجل اسمك القدوس الذي دُعي علينا» - رفع البخور سر اعتراف الشعب - الخولاجي المقدس].
‏ويعود القديس يوحنا ليوضح في رسالته الاولى وظيفة المسيح الدائمة أمام الله، متشفعاً عن خطايانا كدين علينا، دفع ثمنه كاملاً: «‏واذ أخطأ أحد, فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار, وهو كفارة لخطايانا, ليس لخطايانا فقط (المعمدين) بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو1:2-2)، كل المدعوين للايمان به.
‏ويتحتم في هذا المضمار الخاص بإعطاء الكنيسة سطان مغفرة الخطايا، أن يكون إيماننا بالغفران الكامل لكل خطايانا التي نعترف بها، قائما ومتأسساً في الفكر والقلب والشعور على سفك دم المسيح على الصليب، ثمناً كاملاً ليس للغفران فقط بل ولتطهير الفكروالقلب والضمير. (صلاة التحليل التي يقرأها الكاهن على المعترف في سر الاعتراف, وهي المعروفة باسم «تحليل الابن« وتُقال أيضاً في نهاية رفع البخور, توضح كيف أن سلطاذ مغفرة الخطايا الذي سلمه المسيح للرسل في هذا المساء بنفخة الروح القدس، هو مؤسس أصلاً على عمل الميسح الكفاري على الصليب: [أيها السيد الرب يسوع المسيح, الابن الوحيد، وكلمة الله الآب، الذي قطع كل رباطات خطايانا من قبل آلامه المخلصة المحيية, الذي نفخ في وجه تلاميذه القديسين ورسل الأطهارء وقال لهم: اقبلوا الروح القدس, من غفرتم خطاياهم غُفرت لهم, ومن أمسكتموها عليهم اُمسكت. أنت الآن أيضاً يا سيدنا, من قبل رسلك الأطهار أنعمت للذين يعملون في الكهنوت كل زمان في كنيستك المقدسة, أن يغفروا الخطايا على الأرض... - الخولاجي المقدس]
ويضبط هذا الإيماذ آيتان:
‏الاولى في العهد القديم:د«بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب22:9؛ راجع لا11:17)، حيث كان دم تيوس وعجول مذبوحة تكفر عن خطية المعترف، ولكن إلى طهارة الجسد فقط لأنه دم حيواني.
‏أما في العهد الجديد، فدم يسوع المسيح «كما من حمل بلا عيب» (ابط19:1)، قيل عنه: «أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1). وأيضاً: «لأنه إن كاذ دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش عل المنجسين، يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح, الذي بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي.» (عب13:9-14)
‏وهكذا ترى يا عزيزي القارىء أن الإيمان الأنجيلي الكامل بمغفرة الخطايا ينبغي أن يتغلغل إلى أعماف «الضمير» ليطهره تطهيراً كاملآ بل والى التقديس. وهكذا يكون سر الاعتراف والتوبة لمغفرة الخطايا، له التأثير النفساني الفعال القادر أن يصحح ويشفي، ليعيد للانسان نفساً سوية، بعد أن تكون قد أفسدتها الخطية وأمرضتها.
‏وأما قوة فعالية دم المسيح، فتوضح الآية أنه قائم على أساس «الروح الازلى», أي روح الله القدوس، فدم المسيح الذي سُفك على الصليب، دم حي وحياته أزلية، أي دائمة فيه، منذ أن سُفك والى اليوم وإلى الأبد، فقدرته الذبائحية على الغسل والتطهير والتقديس قائمة وقادرة قدرة ‏لانهائية إزاء خطية العالم كله.
‏على أن كل من الكنيسة الارثوذكية والكاثوليكية تحصر السلطة الرسولية لمغفرة الخطايا وإماكسها في الرتبة الكهنوتية وفي داخل سر التوبة بأصول وواجبات وشروط، وقد انحصرت تقريبا في معاملة الشعب بعد المعمودية. وقد عالج هذا الأمر مجمع ترنت (1545-1563م) الخاص بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية, وهو المجمع الثامن عشر، وكان مخصصاً ضد البروتستانت الإصلاحيين, وأدان كل من يقول بأن سلطان مغفرة الخطايا هو لكافة المؤمنين في الكنيسة. كما زاد بأن هذا السلطان لا يتبع رسالة بشارة الأنجيل بل هو سر قائم بذاته(؟)، ولو أن كثيراً من اللاهوتيين الكاثوليك المحدثين لا يرون أن هذا القرار يتناسب مع قصد الآية الواردة في إنجيل القديس يوحنا، فالآية واضحة أنها تخص قوة الكرازة ذاتها من جهة الله نفسه لمغفرة الخطايا في المسيح أو مسكها.
‏والخطأ الحادث والمستمر هو التمادي في استخدام هذا السلطان بمفهوم يخرج عن تحديدات الروح في الأنجيل حسب هوى الشارح.
‏ولو أن إنجيل القديس يوحنا لم يتعرض للخطايا وغفرانها بالنسبة للمعاملات الشحمية مح الآخرين, إلا أننا نفهم من إنجيل القديس متى أنه علينا أن نفرق بين خطايا تُقترف وتمس الايمان أو العقيدة أو العبادة أو الله أو الكنيسة أو جسد الإنسان ذاته (كالزنا,» باعتبار أن الجسد تقدس بالمعمودية والروح القدس في الأسرار وخاصة الاشتراك في جسد ودم المسيح, فصار جسد الإنسان هيكلاً لله وعضوا في جسد المسيح كالغصن في الكرمة؛ وبين خطايا تُقترف في المعاملات الشخصية مح الناس والاخوة لتمسهم بالسوء.
‏فالخطايا التي تُقترف ضد الله وكل ما يخصه، يدخل غفرانها بالدرجة الاول في سلطان الكنيسة. أما الخطايا في التعامل الشخصي مع الناس والتي تمسهم بالسوء، فيتحتم طلب الغفران أولا ممن أسأنا إليه مع الاستعداد للتغريم: «وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فخذ معك أيضا واحدا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة. وإن ‏لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» (مت15:18-17)؛ «حينئذ تقدم إليه بطرس وقال: يا رب كم مرة يخطىء إلى أخي وأنا أغغر له، هل إل سبع مرات؟ قال له يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات.» (مت21:18-22)
‏وواضح جداً من هذا العرض أن على الفرد المؤمن واجب الغفران أو قانون الغفران. إذ يتحتم أن يكون جاهزاً وبلا استثناء، حتى ولو أخطأ الإنسان نحوه سبعين مرة سبع مرات؛ بمعنى أنه ليس في يد المؤمن سلطان حر لمغفرة الخطايا للأخرين بل هو واجب وقانون حتمي مفروض عليه. وقول المسيح أن عليك، كمؤمن، أن تغفر لمن أخطأ إليك سبعين مرة سبع مرات، يحمل ضمنا أن ليس المؤمن أي حق لعدمم الغفران» «فمسك الخطايا» ليس من سلطان المؤمن قط, بل رفعه المسيح من يد المؤمن ووضعه في نصابه القانوني: «وإن لم يسمع فخذ معك أيضاً واحدا أو اثنين ...، ون لم يسمع منهم فقل للكنيسة» هنا يأتي دور الكنيسة القانوني في مسك الخطية على الخاطىء المكابر والمعاند، وفرزه من الكنيسة: «وان لم يسمع من الكنيسة، فليكن عندك كالوثني والعشار»، بمعنى أن الكنيسة تقطعه من عضويتها، إذ لم يعد أخاً في الإيمان بل وثنياً يعبد البغضة والعداوة ويبخر للذات.
‏الاعتراف «بالزلات»: يعطينا القديس يعقوب صورة محدودة لتصريح الكنيسة وتحت سلطانها بمكاشفة المؤمنين بعضهم بعضا بالخطايا، بمعنى الاعتذار عن كل إساءة في وقتها حتى لا تثقل ضمائرهم من نحو بعضهم البعض: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات، وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا.» (يع16:5)
‏واضح هنا أن نوع الخطايا ليس موجها للايمان أو الله أو الكنيسة، بل هي أخطاء شخصية وقد ربط القديس يعقوب هنا بين الخطايا والأمراض، وبين الاعتراف الفردي والصلاة. وهذا التصريح من رئيس كنيسة أورشليم أم كنائس العالم آنئذ يأتي بعد أن أوضح دور قسوس الكنيسة الأساسي في دهن مسحة الزيت والصلاة ومغفرة الخطايا المتسببة في المرض.
‏لذلك لا نجد هنا في القول: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات»، أي انتقال أو تنازل لسلطان الكنيسة الرسولي لمغفرة الخطايا أو إمساكها إلى عامة المؤمنين، بل هي على مستوى الأمر أو التوصية، كعمل مبدئي في غاية الأهمية والضرورة، تستكمله الكنيسة بقوتها وسلطانها الرسولي الفائق المستجاب لدى الله في السماء
‏القيمة السرية والثمينة لسلطان مغفرة الخطايا في الكنيسة: يقدم لنا القديس يعقوب الصلة السرية والخطيرة بين الخطية والمرض، وبالتالى بين غفران الخطية وقوة الشفاء عند الكنيسة المفتقدة لأولادها: «أمريض أحد بينكم، فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. وصلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه، وان كان قد فعل خطية تُغفر له.» (يع14:5-15)
‏هنا يسجل لنا القديس يعقوب نوعا هاما من قيمة سلطان مغفرة الخطايا الذي استودعه الرب في قلب الكنيسة، فهو هنا ليس منطوقا بالحل أو الغفران بل يُقدم على مستوى صلاة يقودها قسوس الكنيسة المجتمعون مع أهل المريض من أجل الشفاء باستخدام زيت المسحة المفروض أنه يحمل قوة وحضور الروح القدس. هنا يكشف لنا القديس يعقوب أن غفران الخطية الذي في سلطان الكنيسة والعامل بالروح القدس في سر المسحة هو أساس الشفاء، باعتبار أن هذا المريض علته الخطية. بهذا يكون سلطان مغفرة الخطايا في الكنيسة بمثابة قوة وذخيرة لشفاء أجساد ونفوس وأرواح المؤمنين.
‏التوبة والغفران: «ولكن الآن يقول الرب ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب، وكثير الرأفة.» (يؤ12:2-13)؛ «قد محوت كغيم ذنوبك، وكسحابة خطاياك. ارجع إلي لأني فديتك.» (إش22:44)
‏أوضح تعبير عن علاقة التوبة بمغفرة الخطايا هو ما قاله القديس بطرس الرسول بعد حلول الروح القدس مباشرة لشعب إسرائيل النادم والباكي: «توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب» (أع19:3). ولكنها أولاً وقبل كل شيء وصية الرب المخلص فيما يخص عمل مغفرة الخطايا, كما قالها بعد القيامة بحسب إنجيل القديس لوقا: «وقال لهم ... أن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم.» (لو46:24)
‏وقد سبق الرب في تعاليمه أيضاً أن ربط المغفرة بالتوبة ربطاً لا محيص عنه: «وان أخطأ إليك أخوك فوبخه، فإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ... قائلاً أنا تائب, فاغفر له» (7:15)
‏أما ربط التوبة نفسها بالخلاص، فقد جعلها المسيح كالأساس: «إن لم تتوبوا، فجميمكم كذلك تهلكون» (لو3:13). أما مركز التوبة والتائب في السماء، فوصفه المسيح كذلك: «أقول لكم، إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب...» (لو7:15)
‏إذن, لا توجد مغفرة للخطايا إلا بالتوبة، فمغفرة الخطايا تكون فقط للتائب كحالة حاضرة ومستمرة. لذلك لا يمكن أن نعبر على هبة المسيح في إنجيل يوحنا للرسل بأن كل ما يغفرونه يُغفر وكل ما يمسكونه يُمسك، حيث يأتي فعل الغفران والمسك في حالة الفعل التام المستمر اي يكون مغفوراً ويكون ممسوكاً, إلا ويكون نتيجة مباشرة للتوبة الدائمة، والمسك يصير نتيجة مباشرة لمن رفض حياة التوبة.
‏وما هي التوبة؟: التوبة في اللغة اليونانية هي بحسب الحرف «تغيير الفكر» ولكن المعنى في اللغة الأرامية التي كان يتكلم بها المسيح تعني أكثر وأعمق من هذا: فهي بحسب الفحص الدقيق تحمل معنى:
1- حالة الإنسان فيما يخص كل كفاءاته،
2- مبادرة عبادية تحمل تحولا نحو الله بتصميم وعناد،
3- ليس الكف عن سيرة سابقة أو التكفير عنها بتحمل تضحيات وعقوبات وحسب، بل لا بد وأن تشمل نزوعاً جديداً نحو المستقبل،
4- تغيير جذري في العقيدة والإيمان, أو بمعنى أبسط معرفة أعمق وأصح بالله ودراية واعية بإرادته المقدسة،
5- استجابة واضحة لنداء نعمة الله، وانتهاز فرصة الخلاص التي يعرضها الله.
‏والتوبة ولو أنها حالة قلبية داخلية للانسان، ولكن يتحتم أن يكون لها أفعال وردود أفعال ظاهرة وعلنية, كأعمال رحمة ومحبة وتواضع: «فاعملوا أعمالا تليق بالتوبة.» (لو8:3)
‏فالصوم مثلا له أعمال:
1- «أليس هذا صوما أختاره ( أنا الله): حل قيود الشر, فك عقد النير (أي إطلاق سراح الذين نعاقبهم ونعبدهم)، واطلاق المسحوقين أحراراً, وقطع كل نير (القيود التي وضعناها على من كانوا تحت سلطاننا).» (إش7:58‏)
2- «أليس أن تكسر للجائع خبزك, وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك». «إذا رأيت عرياناً أن تكسوه, وأن لا تتغاضى عن لحمك.» (إش7:58)
النتيجة: «حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك, وتنبت صحتك سريعاً, ويسير برك أمامك, ومجد الرب يجمع ساقتك, حينئذ تدعو فيجيب الرب, تستغيث فيقول هأنذا» (إش8:58-9)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
23:20 «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ».

«وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يُغلق، ويُغلق وليس من يفتح.» (إش22:22)
‏هذه الآية ملتحمة بالآية السابقة، أي بعطية الروح القدس، في نفخة الحياة الجديدة في المسيح المُقامة من الموت, ثم بالإرسالية الممتدة من الآب أيضاً. وهكذا يكون غفران الخطايا وحجزها عن الغفران داخلاً في عمل الروح القدس المباشر، وفي نطاق خدمة الارسالية، أي خدمة الخلاص.
‏هذه الآية، من واقع منطوقها، سلاح خطير ذو حدين: حد يقطع الخطية ويفرزها عن الداخل في الحياة الجديدة، وحد يقطع الخاطىء نفسه عن جسد الكنيسة الحي حتى لا يفسدها.
‏وقد ذهب المفسرون لهذه الأية كل مذهب, ولكن لا يعنينا في شرحها إلا ما جاء في منهج الفكر الارثوذكسي الكنسي.
رأي القديس كيرلس الكبير: [بأية طريقة، وبأي معنى وهب المخلص تلاميذه الكرامة التي تليق فقط بطبيعة الله وحده؟ لقد فكر(الرب) أنه من الموافق أن الذين وُهبوا مرة روحه، وهو الرب الإله، ينبغي أن يحوزوا قوة مغفرة أو مسك الخطايا، فكيفما صنعوا يكون الروح القدس الساكن فيهم هو الذي يغفر أو يمسك هذه الخطايا حسب مشيئته، على أن العمل الذي يعمل يكون بواسطة الإنسان.]
وحسب ما أرى، يكون أن الذين نالوا روح الله، يغفرون أو يمسكون الخطايا على مستويين:
‏الأول: فهم يدعون إلى المعمودية الذين هم أهل لهذا السر، من واقع نقاوة حياتهم واختبار مدى تمسكهم بالإيمان، كذلك فإنهم يؤخرون ويستثنون الذين لم يبلغوا بعد إلى استحقاق هذه النعمة الإلهية.
‏الثاني: وفي معنى أخر، هم يفغرون ويمسكون الخطايا بأن يزجروا ويعزلوا أبناء الكنيسة (أي المعمدين)، كما يمنحون العفو للذين تابوا. تماماً كما قطع بولس ذلك الذي اقترف الزنا في كورنثوس: «لهلاك الجسد حتى تخلص النفس» (1كو5:5)، ثم عاد وقبله في الشركة «حتى لا يُبتلع من فرط الحزن.» (2كو7:2)
‏ولقد كان لهذه الآية الخطيرة تاريخ حافل باختلاف الأراء خاصة في الكنية الكاثوليكية، ولا يزال هذا الخلاف قائمأ بين المتحررين في الكنيسة الرومانية وبين التقليديين، إلى هذا اليوم. ولكن الرأي الذي يكاد أن يكون سائداً هو الرأي الذي قال به القديس كيرلس الكبير بأن الحل والمسك للخطايا يخص سري العماد والتوبة، أي ما قبل العماد وما بعد التوبة.
‏المعروف أن أباء الكنيسة على مدى الثلاثة القرون الأولى، ركزوا على مغفرة الخطايا ومسكها فيما يخص المعمودية فقط. ونرى هذا واضحاً في قانون الإيمان: «ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا». وانجيل القديس يوحنا يشير إلى هذه الحقيقة إشارة قوية في قصة تفتيح عيني الأعمى بالاغتسال, الذي هو رمز العماد، باعتبار أنه عاد بصيراً، لأن خطاياه غُفرت, في مقابل عدم إيمان الفريسيين الذين وضعهم الرب في مستوى العميان, أي غير المعمدين, على أساس عدم غفران خطاياهم. «فخطيتكم باقية» (يو41:9‏). وفي هذه القرون الثلاثة الأولى، كان الاتجاه عنيفاً ضد مغفرة الخطايا بعد المعمودية. ولكن يأتي إنجيل القديس لوقا ليشير إلى الغفران والمسك للخطاياه في معنى التوبة، بصورة واضحة في قول المسيح نفسه: «وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم.» (لو46:24-47)
‏وانجيل يوحنا يعطي أيضاً الأنطباع بأن مغفرة الخطايا موصولة با لكرازة، لأن كلام المسيح يعطي فكراً واحداً متصلاً بين الإرسالية ونفخة الروح القدس ومغفرة الخطايا. ولكن سواء في إنجيل القديس لوقا، أو القديس يوحنا فمفغرة الخطايا متركزة نوعا ها وبصفة مبدئية في الدعوة للمعمودية, التي هي غاية الكرازة، وهي الخاصة «بالأمم». ولكن واضح من رسالة القديس يوحنا الاولى ربط مغفرة الخطايا بالاعتراف أي التوبة (راجح ايو9:1‏).
‏والملاحظ من روح إنجيل القديس يوحنا أن موضوع مغفرة الخطايا وعدم مغفرة الخطايا يأتي بصورة رئيسية كمنهج اختطه المسيح نفسه؛ بمجيئه إلى العالم، كنور وقداسة وبر: «فقال يسوع: لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم, حتى يبصر الذين لا يبصرون ( المعمودية لمغفرة الخطايا ) ويعمى الذين يبصرون (حرمان المدعين المعرفة والمتجاهلين لخطاياهم من مغفرة الخطايا)» (يو39:9) وعلى هذا المنوال تماما، يكون التلاميذ المرسلون من قبل الرب ليقوموا بنفس رسالة المسيح: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا.» (يو21:20)
‏ولكن لا يزال لاهوت القديس يوحنا يُسيج حول موضوع مغفرة الخطايا، حتى لا يتسرب إلى الذهن أن مغفرة الخطايا من عدمه هي تحت سلطان رسول أو تلميذ أو أي بشر، خلواً من تدخل ومتابعة إلهية وتصديق، وذلك بما قدمه في رسالته الاولى: «إن اعترفنا بخطايانا، فهو آمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يو9:1). المسيح هنا هو قابل الاعتراف بالدرجة الاول بل هو المعرف الإلهي الحقيقي في سر الاعتراف، ويزيد أنه يطهر الضمير والنفس. أما الرسول أو التلميذ أو الأسقف أو الكاهن فما هو إلا خادم السر، يأخذ الاعتراف، ليس لنفسه, بل ليقدمه إلى المسيح: [ثم يصعد الكاهن إلى الهيكل ويعطي البخور فوق المذبح عن اعتراف الشعب جميعه في عشية وباكر والبولس, وهو يقول: «يا الله الذي قبل إليه اعتراف اللص على الصليب المكرم, اقبل إليك اعترافات شعبك واغفر لهم جميع خطاياهم هن أجل اسمك القدوس الذي دُعي علينا» - رفع البخور سر اعتراف الشعب - الخولاجي المقدس].
‏ويعود القديس يوحنا ليوضح في رسالته الاولى وظيفة المسيح الدائمة أمام الله، متشفعاً عن خطايانا كدين علينا، دفع ثمنه كاملاً: «‏واذ أخطأ أحد, فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار, وهو كفارة لخطايانا, ليس لخطايانا فقط (المعمدين) بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو1:2-2)، كل المدعوين للايمان به.
‏ويتحتم في هذا المضمار الخاص بإعطاء الكنيسة سطان مغفرة الخطايا، أن يكون إيماننا بالغفران الكامل لكل خطايانا التي نعترف بها، قائما ومتأسساً في الفكر والقلب والشعور على سفك دم المسيح على الصليب، ثمناً كاملاً ليس للغفران فقط بل ولتطهير الفكروالقلب والضمير. (صلاة التحليل التي يقرأها الكاهن على المعترف في سر الاعتراف, وهي المعروفة باسم «تحليل الابن« وتُقال أيضاً في نهاية رفع البخور, توضح كيف أن سلطاذ مغفرة الخطايا الذي سلمه المسيح للرسل في هذا المساء بنفخة الروح القدس، هو مؤسس أصلاً على عمل الميسح الكفاري على الصليب: [أيها السيد الرب يسوع المسيح, الابن الوحيد، وكلمة الله الآب، الذي قطع كل رباطات خطايانا من قبل آلامه المخلصة المحيية, الذي نفخ في وجه تلاميذه القديسين ورسل الأطهارء وقال لهم: اقبلوا الروح القدس, من غفرتم خطاياهم غُفرت لهم, ومن أمسكتموها عليهم اُمسكت. أنت الآن أيضاً يا سيدنا, من قبل رسلك الأطهار أنعمت للذين يعملون في الكهنوت كل زمان في كنيستك المقدسة, أن يغفروا الخطايا على الأرض... - الخولاجي المقدس]
ويضبط هذا الإيماذ آيتان:
‏الاولى في العهد القديم:د«بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب22:9؛ راجع لا11:17)، حيث كان دم تيوس وعجول مذبوحة تكفر عن خطية المعترف، ولكن إلى طهارة الجسد فقط لأنه دم حيواني.
‏أما في العهد الجديد، فدم يسوع المسيح «كما من حمل بلا عيب» (ابط19:1)، قيل عنه: «أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1). وأيضاً: «لأنه إن كاذ دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش عل المنجسين، يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح, الذي بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي.» (عب13:9-14)
‏وهكذا ترى يا عزيزي القارىء أن الإيمان الأنجيلي الكامل بمغفرة الخطايا ينبغي أن يتغلغل إلى أعماف «الضمير» ليطهره تطهيراً كاملآ بل والى التقديس. وهكذا يكون سر الاعتراف والتوبة لمغفرة الخطايا، له التأثير النفساني الفعال القادر أن يصحح ويشفي، ليعيد للانسان نفساً سوية، بعد أن تكون قد أفسدتها الخطية وأمرضتها.
‏وأما قوة فعالية دم المسيح، فتوضح الآية أنه قائم على أساس «الروح الازلى», أي روح الله القدوس، فدم المسيح الذي سُفك على الصليب، دم حي وحياته أزلية، أي دائمة فيه، منذ أن سُفك والى اليوم وإلى الأبد، فقدرته الذبائحية على الغسل والتطهير والتقديس قائمة وقادرة قدرة ‏لانهائية إزاء خطية العالم كله.
‏على أن كل من الكنيسة الارثوذكية والكاثوليكية تحصر السلطة الرسولية لمغفرة الخطايا وإماكسها في الرتبة الكهنوتية وفي داخل سر التوبة بأصول وواجبات وشروط، وقد انحصرت تقريبا في معاملة الشعب بعد المعمودية. وقد عالج هذا الأمر مجمع ترنت (1545-1563م) الخاص بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية, وهو المجمع الثامن عشر، وكان مخصصاً ضد البروتستانت الإصلاحيين, وأدان كل من يقول بأن سلطان مغفرة الخطايا هو لكافة المؤمنين في الكنيسة. كما زاد بأن هذا السلطان لا يتبع رسالة بشارة الأنجيل بل هو سر قائم بذاته(؟)، ولو أن كثيراً من اللاهوتيين الكاثوليك المحدثين لا يرون أن هذا القرار يتناسب مع قصد الآية الواردة في إنجيل القديس يوحنا، فالآية واضحة أنها تخص قوة الكرازة ذاتها من جهة الله نفسه لمغفرة الخطايا في المسيح أو مسكها.
‏والخطأ الحادث والمستمر هو التمادي في استخدام هذا السلطان بمفهوم يخرج عن تحديدات الروح في الأنجيل حسب هوى الشارح.
‏ولو أن إنجيل القديس يوحنا لم يتعرض للخطايا وغفرانها بالنسبة للمعاملات الشحمية مح الآخرين, إلا أننا نفهم من إنجيل القديس متى أنه علينا أن نفرق بين خطايا تُقترف وتمس الايمان أو العقيدة أو العبادة أو الله أو الكنيسة أو جسد الإنسان ذاته (كالزنا,» باعتبار أن الجسد تقدس بالمعمودية والروح القدس في الأسرار وخاصة الاشتراك في جسد ودم المسيح, فصار جسد الإنسان هيكلاً لله وعضوا في جسد المسيح كالغصن في الكرمة؛ وبين خطايا تُقترف في المعاملات الشخصية مح الناس والاخوة لتمسهم بالسوء.
‏فالخطايا التي تُقترف ضد الله وكل ما يخصه، يدخل غفرانها بالدرجة الاول في سلطان الكنيسة. أما الخطايا في التعامل الشخصي مع الناس والتي تمسهم بالسوء، فيتحتم طلب الغفران أولا ممن أسأنا إليه مع الاستعداد للتغريم: «وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فخذ معك أيضا واحدا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة. وإن ‏لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» (مت15:18-17)؛ «حينئذ تقدم إليه بطرس وقال: يا رب كم مرة يخطىء إلى أخي وأنا أغغر له، هل إل سبع مرات؟ قال له يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات.» (مت21:18-22)
‏وواضح جداً من هذا العرض أن على الفرد المؤمن واجب الغفران أو قانون الغفران. إذ يتحتم أن يكون جاهزاً وبلا استثناء، حتى ولو أخطأ الإنسان نحوه سبعين مرة سبع مرات؛ بمعنى أنه ليس في يد المؤمن سلطان حر لمغفرة الخطايا للأخرين بل هو واجب وقانون حتمي مفروض عليه. وقول المسيح أن عليك، كمؤمن، أن تغفر لمن أخطأ إليك سبعين مرة سبع مرات، يحمل ضمنا أن ليس المؤمن أي حق لعدمم الغفران» «فمسك الخطايا» ليس من سلطان المؤمن قط, بل رفعه المسيح من يد المؤمن ووضعه في نصابه القانوني: «وإن لم يسمع فخذ معك أيضاً واحدا أو اثنين ...، ون لم يسمع منهم فقل للكنيسة» هنا يأتي دور الكنيسة القانوني في مسك الخطية على الخاطىء المكابر والمعاند، وفرزه من الكنيسة: «وان لم يسمع من الكنيسة، فليكن عندك كالوثني والعشار»، بمعنى أن الكنيسة تقطعه من عضويتها، إذ لم يعد أخاً في الإيمان بل وثنياً يعبد البغضة والعداوة ويبخر للذات.
‏الاعتراف «بالزلات»: يعطينا القديس يعقوب صورة محدودة لتصريح الكنيسة وتحت سلطانها بمكاشفة المؤمنين بعضهم بعضا بالخطايا، بمعنى الاعتذار عن كل إساءة في وقتها حتى لا تثقل ضمائرهم من نحو بعضهم البعض: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات، وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا.» (يع16:5)
‏واضح هنا أن نوع الخطايا ليس موجها للايمان أو الله أو الكنيسة، بل هي أخطاء شخصية وقد ربط القديس يعقوب هنا بين الخطايا والأمراض، وبين الاعتراف الفردي والصلاة. وهذا التصريح من رئيس كنيسة أورشليم أم كنائس العالم آنئذ يأتي بعد أن أوضح دور قسوس الكنيسة الأساسي في دهن مسحة الزيت والصلاة ومغفرة الخطايا المتسببة في المرض.
‏لذلك لا نجد هنا في القول: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات»، أي انتقال أو تنازل لسلطان الكنيسة الرسولي لمغفرة الخطايا أو إمساكها إلى عامة المؤمنين، بل هي على مستوى الأمر أو التوصية، كعمل مبدئي في غاية الأهمية والضرورة، تستكمله الكنيسة بقوتها وسلطانها الرسولي الفائق المستجاب لدى الله في السماء
‏القيمة السرية والثمينة لسلطان مغفرة الخطايا في الكنيسة: يقدم لنا القديس يعقوب الصلة السرية والخطيرة بين الخطية والمرض، وبالتالى بين غفران الخطية وقوة الشفاء عند الكنيسة المفتقدة لأولادها: «أمريض أحد بينكم، فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. وصلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه، وان كان قد فعل خطية تُغفر له.» (يع14:5-15)
‏هنا يسجل لنا القديس يعقوب نوعا هاما من قيمة سلطان مغفرة الخطايا الذي استودعه الرب في قلب الكنيسة، فهو هنا ليس منطوقا بالحل أو الغفران بل يُقدم على مستوى صلاة يقودها قسوس الكنيسة المجتمعون مع أهل المريض من أجل الشفاء باستخدام زيت المسحة المفروض أنه يحمل قوة وحضور الروح القدس. هنا يكشف لنا القديس يعقوب أن غفران الخطية الذي في سلطان الكنيسة والعامل بالروح القدس في سر المسحة هو أساس الشفاء، باعتبار أن هذا المريض علته الخطية. بهذا يكون سلطان مغفرة الخطايا في الكنيسة بمثابة قوة وذخيرة لشفاء أجساد ونفوس وأرواح المؤمنين.
‏التوبة والغفران: «ولكن الآن يقول الرب ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب، وكثير الرأفة.» (يؤ12:2-13)؛ «قد محوت كغيم ذنوبك، وكسحابة خطاياك. ارجع إلي لأني فديتك.» (إش22:44)
‏أوضح تعبير عن علاقة التوبة بمغفرة الخطايا هو ما قاله القديس بطرس الرسول بعد حلول الروح القدس مباشرة لشعب إسرائيل النادم والباكي: «توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب» (أع19:3). ولكنها أولاً وقبل كل شيء وصية الرب المخلص فيما يخص عمل مغفرة الخطايا, كما قالها بعد القيامة بحسب إنجيل القديس لوقا: «وقال لهم ... أن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم.» (لو46:24)
‏وقد سبق الرب في تعاليمه أيضاً أن ربط المغفرة بالتوبة ربطاً لا محيص عنه: «وان أخطأ إليك أخوك فوبخه، فإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ... قائلاً أنا تائب, فاغفر له» (7:15)
‏أما ربط التوبة نفسها بالخلاص، فقد جعلها المسيح كالأساس: «إن لم تتوبوا، فجميمكم كذلك تهلكون» (لو3:13). أما مركز التوبة والتائب في السماء، فوصفه المسيح كذلك: «أقول لكم، إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب...» (لو7:15)
‏إذن, لا توجد مغفرة للخطايا إلا بالتوبة، فمغفرة الخطايا تكون فقط للتائب كحالة حاضرة ومستمرة. لذلك لا يمكن أن نعبر على هبة المسيح في إنجيل يوحنا للرسل بأن كل ما يغفرونه يُغفر وكل ما يمسكونه يُمسك، حيث يأتي فعل الغفران والمسك في حالة الفعل التام المستمر اي يكون مغفوراً ويكون ممسوكاً, إلا ويكون نتيجة مباشرة للتوبة الدائمة، والمسك يصير نتيجة مباشرة لمن رفض حياة التوبة.
‏وما هي التوبة؟: التوبة في اللغة اليونانية هي بحسب الحرف «تغيير الفكر» ولكن المعنى في اللغة الأرامية التي كان يتكلم بها المسيح تعني أكثر وأعمق من هذا: فهي بحسب الفحص الدقيق تحمل معنى:
1- حالة الإنسان فيما يخص كل كفاءاته،
2- مبادرة عبادية تحمل تحولا نحو الله بتصميم وعناد،
3- ليس الكف عن سيرة سابقة أو التكفير عنها بتحمل تضحيات وعقوبات وحسب، بل لا بد وأن تشمل نزوعاً جديداً نحو المستقبل،
4- تغيير جذري في العقيدة والإيمان, أو بمعنى أبسط معرفة أعمق وأصح بالله ودراية واعية بإرادته المقدسة،
5- استجابة واضحة لنداء نعمة الله، وانتهاز فرصة الخلاص التي يعرضها الله.
‏والتوبة ولو أنها حالة قلبية داخلية للانسان، ولكن يتحتم أن يكون لها أفعال وردود أفعال ظاهرة وعلنية, كأعمال رحمة ومحبة وتواضع: «فاعملوا أعمالا تليق بالتوبة.» (لو8:3)
‏فالصوم مثلا له أعمال:
1- «أليس هذا صوما أختاره ( أنا الله): حل قيود الشر, فك عقد النير (أي إطلاق سراح الذين نعاقبهم ونعبدهم)، واطلاق المسحوقين أحراراً, وقطع كل نير (القيود التي وضعناها على من كانوا تحت سلطاننا).» (إش7:58‏)
2- «أليس أن تكسر للجائع خبزك, وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك». «إذا رأيت عرياناً أن تكسوه, وأن لا تتغاضى عن لحمك.» (إش7:58)
النتيجة: «حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك, وتنبت صحتك سريعاً, ويسير برك أمامك, ومجد الرب يجمع ساقتك, حينئذ تدعو فيجيب الرب, تستغيث فيقول هأنذا» (إش8:58-9)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- المسيح يظهر للأحد عشر خصيصاً من أجل توما في العلية
توما كان غائباً عن الاجتماع الأول, وويرفض تصديق القيامة, ويرفض شهادة إخوته التلاميذ (24:20-25)
24:20 أَمَّا تُومَا أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ.

‏«كانى روح الله على عزريا بن عوديا، فخرج للقاء آسا وقال له: اسمعوا لي يا آسا وجميع يهوذا وبنيامين: الرب معكم ما كنتم معه. وإن طلبتموه، يوجد لكم. وان تركتموه, يترككم.» (2أى1:15-2)
‏توما: «ديديموس» باليونانية المترجم بالتوأم، تعني ضمن ما تعني في لغة القديس يوحنا المستيكية, أي السرية, معنى أنه واحد باثنين، وهي ما توضحه ولادة التوائم). فكون توما واحدا باثنين, ثم تقول الآية إنه واحد من الاثني عشر، فهو هنا يعني أنه يكمل بالسر مكان التلميذ الذي كان معدوداً من الاثني عشر وسقط؛ لأن «الاثني عشر» هو الاصطلاح الذي تحمله الكنيسة عوض الاثني عشر سبطاً، خلوا من أعداد وأسماء وحظوظ فردية. هذا كان يدركه بطرس الرسول تماما حينما دعا الأحد عشر إلى اجتماع عاجل والى صوم وصلاة، ليعين آخر عوض يهوذا الذي صار من نصيب الشيطان، حتى يكمل نصاب الكنيسة، لا عددا بل اسما دهريا:
‏«وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عال, وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله لها مجد الله ولمعانها، شبه حجر كحجر يشب بلوري، وكان لها سور عظيم وعال (سور الخلاص)، وكان لها اثنا عشر بابا (مداخل التعليم الرسولية) وعلى الأبواب اثنا عشر ملاكاً (حراس التعليم الصحيح), وأسماء مكتوبة هي أسماء أسباط بني إسرائيل (الجديد) الاثني عشر (رسولا) ... وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً, وعليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر.» (رؤ10:21-14)
‏لقد أنهت أخبار المحاكمة الشنيعة والصلب والموت للمعلم المحبوب، على كل أمل في بقاء توما في أورشليم مع الرفقة على ما يظن. وربما يكون قد قفل راجعاً إلى بلدته، وهي في غالب الأمر ليست في الجليل بل اليهودية، فهو كان, على ما يُعتقد, من الخمسة التلاميذ الأوائل الذين تبعوا الرب في بداية خدمته في اليهودية قبل الجليل ولكن لما ترامت إليه أخبار القيامة رجع إلى أورشليم. وهذا ما تم بالحرف الواحد لتلميذي عمواس اللذين قفلا راجعين إلى مدينتهما, يلفهما اليأس والحسرة.
‏أما لماذا تسرع توما في الأنسحاب من دائرة الأحداث هكذا دون بقية التلاميذ، فواضح من الحديث القادم أن اليأس كان قد استبد به أكثر من جميعهم, فكان رد فعل النعمة أنها انسحبت من دائرة حياته, مؤقتاً, وهكذا ينكشف سلوك توما، التراجعي، كما تتبين معاملة الله للمتراجعين: «الرب معكم ما كنتم معه، وان طلبتموه يوجد لكم وان تركتموه يترككم.» (2اى15:2)
‏فغياب توما عن ذلك الحدث العظيم، سببه توما نفسه، ولكن تقف وعود الله بلا ندامة: «وهل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك.» (إش15:49‏)
 
أعلى