«لأنهم رأوه قد مات»: الرب مات سريعاً! هذا كان موضع تعجب بيلاطس، الذي أراد أن يستوثق من هذه الحقيقة، فاستدعى قائد المائة، وسأله وتحقق فعلاً أنه مات: «فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعاً، فدعا قائد المائة، وسأله: هل له زمان قد مات؟» (مر44:15)
إن كان القديس بولس اشتهى أن ينطلق وهو صحيح وسليم يدب على الأرض، فكم تكون نفس الرب بعد هذا العذاب المرير، لقد كان الموت بيده كما كانت الحياة، فلما استوفى متطلبات الموت وعلاماته، وأكمل نزيف الذبيحة بالقدر الذي يكفي لخلاص العالم، اكتفى الرب بهذا الحد وانطلق: «إنه خير لكم أن أنطلق» (يو7:16)، فلماذا التأخير في إتيان الخير؟
النفس بقدر تعلقها بالعالم، والأهل والأحبة، ومسرات الدنيا، تتعوق في الجسد كثيرا، لا تشاء أن تفارقه, والرب أنهى معركته مع العالم، وسلم الأم للحبيب، وكانت أمامه في الأعالي مسرات عظمى تنتظره، فلماذا التعوق على الأرض؟ وبقدر ما كانت أعمال الأرض الكثيرة، التي أعطاه الآب ليكملها، تشده كما يشد الجوع والعطش الإنسان للجرى وراء الأكل، بقدر ما أسرع في فك الربط عنها, لما أكملها حتى النهاية، كالشبعان الذي يزهد الأكل في النهاية: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4)، «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو4:17)، «قال قد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح.» (يو39:19)
وكل إنسان يسلم الروح، تتنكس رأسه عن غير إرادة. أما يسوع فنكس رأسه أولاً، ثم أسلم الروح، هذه بإرادته وتلك بإرادته، ليبقى سيدا على الموت لما يستقبله. فقد استدعى المسيح الموت، ومات، كما يستدعي الإنسان النوم وينام: «لى سلطان أن أضعها»، «ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي» (يو18:10). فالموت، فى اعتبار الرب، ليس أكثر من نوم تعقبه اليقظة: «لعازرحبيبنا قد نام, لكني أذهب لاوقظه... وكان يسوع يقول عن موته، وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع حينئذ علانية: لعازر مات» (يو11:11-14). وذهب، وبالفعل أيقظه!... وداود في المزمور لم ير في موت الرب وقيامته معاً إلا كنائم ثمل من الخمر استيقظ فجأة: «فاستيقظ الرب كنائم كجبار معيط (ملتهب) من الخمره فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عاراً أبدياً» (مز65:78-66)، «لماذا تطلبن الحي بين الأموات، ليس هو ههنا، لكنه قام.» (لو5:24-6)
وبعدما سلم المسيح أمه لتلميذ سبق فأحبته، وسلم الجسد لفريسى سبق وولده مع غنى له قبر، سبق فأعدوه، حينئذ انسل من الجسد الميت، لمهمة أخرى كانت تنتظره, إذ «ذهب فكرز للأرواح التي في السجن.» (1بط19:3)
«فينظرون إلي الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له.» (زك10:12)
«ويكون في ذلك اليوم أن لا يكون نور... ويكون في ذلك اليوم أن مياهاً حية تخرج من أورشليم, نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي... ويكون الرب ملكاً على كل الأرض» (زك6:14-9)
لقد كان ذلك ليستوثق الحراس من صحة موت المسيح. وكان الطعن بالحربة إحدى الوسائل القانونية للاجهاز على المحكوم عليهم بالموت للتعجيل بالموت. ولكن يد النبوة كانت هي التي حركت هذا الشك في قلب ذلك العسكري ليتتم ما كان مقضياً به على الأرض.
«الحربة»: وهي الحربة التي نراها الآن في أيدي الجنود الخيالة. وطعنة الحربة تخترق الجسم بسرعة شديدة، فهي مدببة الطرف، حادة إلى أتصى حد. ويقول العلماء أنه لكي تصل إلى القلب وتمزقه، وهذا هو الفرض الأساسي من الطعن، يلزم أن تأتي الضربة من اليمين إلى اليسار. وهذا هو ما تسلمناه بالتقليد تماماً، فالمتوارث عند الآباء أنه طُعن في جنبه الأيمن.
«وللوقت خرج دم وماء»: «الذى أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه.» (رؤ5:1)؛ «وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف.» (رؤ14:7)
اهتمام القديس يوحنا لهذه الحقيقة بشهادة موثقة من الحق، جعل الآباء ينظرون إليها نظرة روحية ولاهوتية خاصة. لأن اشتغال القديس يوحنا الأساسي هو الشهادة للاهوت المسيح, وأول وأهم معنى لخروج الدم والماء من جسد المسيح الميت هو الأمر الذي يخالف طبيعة الإنسان، هذا يعنى أن الجسد مات، ولكن لم ير فساداً وبالتالي فهو جسد ابن الله حقاً.
+ فخروج الدم والماء معاً شىء، وخروج الدم له معناه، ثم خروج الماء له معناه أيضاً.
+ فخروج الدم والماء معاء يذكرنا بكأس العشاء، وهو كأس الإفخارستيا الممزوج. فنحن هنا أمام صورة حية لذبيحة ميتة، على مستوى التحقيق البشري، بالرؤيا العينية، والمعاينة الفاحصة، وشهادة شهود جنود متمرسين في القتل. وفي نفس الوقت، ذبيحة حية عل المستوى الفائق على الطبيعة، فينبوع الدم والماء، ولو أن له الشكل والقوام والمادة الطبيعية، ولكنه في مناسبة وفي وضع يخالف كليا وبصورة قاطعة كل دلائل الموت الطبيعي وعلاماته التي تمت وكملت. فالحياة هنا التي يتحرك بها الدم والماء، هي حياة فائقة عن علامات الحياة الطبيعية للدم. إذن، فهي جسد ميت بحسب الإنسان، وهي، وبآن واحد، ذبيحة حية ناطقة على المذبح الناطق السمائي، بحسب الإيمان، تعلن أنه قد تم الفداء، وأن العقوبة اُستكملت، فتم الغفران أيضاً. فالموت بآلامه قبل بكل شروطه من الحي الذي لا يموت، وبه استطاع البار أن يبرر كثيرين.
كذلك، نحن هنا أيضاً أمام صورة حية طبق الأصل من ليلة العشاء: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت28:26). فخروج الدم والماء من جسد المسيح الميت, هو بمثابة ينبوع الحياة الأبدية الذي انفتح على الكنيسة على يد القديس يوحنا وبشهادته. فالكأس الذي قدمه المسيح ليلة العشاء, بعد أن قسم ومزق الجسد، والدم فيه على مستوى السر, استعلنه اليوم والجسد ممزق (مكسور) بالفعل، والدم مسفوك بالحق. فهناك إفخارستيا علنية، وهنا إفخارستيا علنية مشروحة.
+ أما خروج الدم بحد ذاته, سائلاً يسيل ويجري، ويخضب الجسد، فهذا علامة الحياة ولا شك، ولكن أي حياة؟ فدم المسيح هو «بروح أزلى», «فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله, بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة، لتخدموا الله الحي.» (عب14:9)
وعلى خروج «الدم» من جنب المسيح المطعون، ورثنا صلاة القسمة السريانية التي يقولها الكاهن وهو «يقسم الجسد»:
هكذا بالحقيقة تألم كلمة الله بالجسد, وذُبح وأحنى رأسه على الصليب, وانفصلت نفسه من جسده, أما لاهوته فلم ينفصل قط لا من نفسه ولا من جسده, وطُعن بالحربة وجرى منه دم وماء غفرانا لكل العالم, وتخضب بهما جسده وأتت نفسه واتحدت بجسده, وعوض الخطية المحيطة بالعالم مات الابن بالصليب وردنا من التدبير الشمالي إلى اليمينى, وأمن بدم صليبه وألف السمائيين مع الأرضيين، والشعب مح الشعوب والنفس مع الجسد, وفي ثالث يوم قام من القبر, واحد هو عمانوئيل وغير مفترق إلى طبيعتين من بعد الأتحاد, وغير منقسم إلى طبيعتين, هكذا نؤمن وهكذا نعترف وهكذا نصدق, أن هذا الجسد لهذا الدم، وهذا الدم لهذا الجسد, أنت هو المسيح إلهنا الذى طُعن فى جنبه فوق الجلجثة بأورشليم لأجلنا, أنت هو حمل الله الحامل خطية العالم, اغفر ذنوبنا واترك خطايانا وأقمنا عن جانبك اليمين. (القسمة السريانية)
بهذا المعنى يقدم لنا العالم وستكوت, بكل جرأة، وهو أسقف كرسي درهام بإنجلترا، وكان أحد لوردات مجلس العموم في زمانه، يقدم لنا هذا التفسير بهذا المعنى:
(نحن نؤمن أنه من اللحظة التي مات فيها المسيح بدأ جسد الرب يأخذ استعداده بالتغييرات التي انتهت باستعلان القيامة. وأن خروج الدم والماء من جنبه، يلزم أن يعتبر كعلامة حياة من موت. وهي تكشف عن حقيقة بشريته, وبمعنى سري, دوام الحياة البشرية فيه. فهو، ولو أنه ميت، فهو ميت بالنسبة لحياتنا المائتة، إلا أن الرب كان حيا، وبينما كان معلقاً على الصليب أعلن علنا أنه ينبوع لقوة التطهير والحياة التي كانت تتبعه حياً وميتاً.)
+ وأما خروج الماء بحد ذاته, فهو يذكرنا في الحال بقول الرب: «من آمن بي، كما قال الكتاب، تخرج من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه» (يو38:7-39). إذا, أصبح خروج الماء من جنب المسيح, هو بالحري أعظم تعبير عن الروح الذي اُستعلن منسكباً من جسد المسيح الميت! وهل مات المسيح إلا لكي يعطينا حياته؟ إذن، فالماء الذي خرج من جنب المسيح كان يحمل الحياة. ونحن لو تأملنا في سر المعمودية, باعتباره سر الموت مع المسيح, لانتبهنا في الحال أننا في المعمودية ننال الاغتسال الروحي بالماء، الذي خرج من جنب المسيح الميت الحامل للحياة. أي أننا، إذ نموت معه، ننال الحياة من سر الماء لنحيا كما هو حي. فى المعمودية هو سر موت مع المسيح، لحياة مع المسيح. وبمعنى آخر هو ولادة جديدة؛ لأن الولادة الجديدة, الثانية, تحتم موتأ مسبقاً للولادة الاولى. وموت هذه الولادة اللحمية ماته المسيح من أجلنا، حتى نجوز مباشرة بموته إلى الولادة الثانية الروحية، أي نحيا معه. هكذا نفهم أن الماء الخارج من جنب المسيح، هو حقاً خارج من جسد ميت، ولكنه حقاً بالحقيقة مُحيي وحامل الحياة الجديدة لميلاد الإنسان الجديد. فهو أعظم تعبير لاهوتي عن سر المعمودية.
ونقدم هنا بعض تفسيرات للأباه القديسين والعلماء الأولين:
أولاً: الشرقيون:
1- كلوديوس أبوليناريوس: هو قديس تعيد له الكنيسة الغربية إلى الآن في 8 يونيو، عاش في القرن الثاني سنة 0170> وله كتابات وصلت إلينا أسماؤها وبعض محتوياتها، ولكن معظمها ضاع. كان مدافعأ قوياً عن الإيمان، له دفاع قوي ضد ماوكوس أوريليوس، ويعتبر أول من شرح معنى خروج الدم والماء، وقد نسبهما إلى الكلمة, كلمة الإنجيل, والروح التقديسي، بمعنى أنهما شهادة تاريخية وسرية.
2- أويجانوس: مصري سكندري (185-254). وهو عالم لاهوتي وشارح للانجيل (وله أخطاء مأخوذة عليه). وقد أخذ عنه القديس جيروم رأيه في الدم والماء أنهما علامتا حياة في الجسد الميت: (في كل الأجساد الميتة يتجمد الدم ولا يخرج منها ماء نقي. ولكن نجد في المسيح العجيبة في جسده، أنه وحتى بعد الموت كان في الجسد دم وماء، خرجا من جئبه).
3- كيرلس الأورشليمي: نسب الدم والماء إلى نوعي المعمودية، معمودية الماء ومعمودية الدم: (إن المخلص إذ قد فدى العالم بالصليب، لما طُعن في جنبه، أعطى الدم والماء حتى إن البعض في أيام السلام يعتمدون بالماء، والأخرين في أيام الاضطهاد يعتمدون بصبغة دمائهم، أي بدم موتهم).
4- يوحنا ذهبي الفم (عظة 85): (ليس كأنه بدون سبب أو كأنها صدفة أن يخرج هذان من جنب المسيح. ولكن لأن الكنيسة تأسست بهذين معاً. والذين انفتحوا على الإيمان يعلمون هذا، إذ أنهم وُلدوا ثانية من الماء، واُطعموا من الدم والجسد. إذا، فهذان السران ابتدأ من هنا، حتى حينكا تتقرب إلى الكأس المقدس الرهيب، تعلم أنك تشرب في الحقيقة من ذات الجنب المطعون).
5- القديس كيرلس الإسكندرى: (إن الرب قد عين هذه الحقيقة لتكون هي الصورة الأولى لسر الأولوجيا (الإفخارستيا) وسر المعمودية المقدسة. لان المعمودية المقدسة هي بالحقيقة من المسيح ابتدأت، وبالمسيح تُكمل، وقوة الأولوجية المقدسة تنبع لنا من جسده المقدس).
6- القديس غريغوريوس النزينزي: (ومزجت لنا كأساً من كرمة حقيقية التي هي جنبك الإلهي غير الفاسد, هذا الذي من بعد أن أسلمت الروح فاض لنا منه ماء ودم، هذان الصائران طهراً لكل العالم)
7- أبوليناريوس من لاودكا: (الرب قدم لنا جنباً عوضاً عن جنب, فالمرأة, حواء, التي أتت من الجنب، الشر الذي أتى منها حله الرب بآلامه، لأن من جنب أتت المشورة التي أفسدت الإنسان، ولكن من الجنب المقدس نبع لنا ماء ودم, وبهما اغتسل العالم من خطاياه. والمادتان اللتان كانتا تعملان بانفراد في الناموس، جاءتا معاً فيه، كان في الناموس رش الدم للتطهير, والماء للتقديس. لأن كل شيء قد رُتب مسبقاً، ليكون بجسد المسيح، الدم والماء الأقدسان، حتى وان كان الجسد قد مات بالفعل على الوضع البشري، إلا أنه يملك في نفسه قوة الحياة العظمى).
ثانياُ: العلماء والآباء اللاتين (الغرب):
1- ترتليان: (الاستشهاد هو معمودية أخرى. والدم والماء، عنصرا التطهير والتقديس, نبعا من الجنب المجروح للرب ... فلنا تطهير ثان قائم بذاته، هو تطهير بالدم, الذي قال عنه الرب: «لي صبغة أصطبغ بها» (لو50:12). وها هوذا قد اصطبغ وجاء لنا بالماء والدم. وإذ نعتمد بالماء، نتمجد بالدم. نُدعى بالماء, ونُختار بالدم. لهذا أرسل لنا هاتين المعموديتين من جنبه المجروح، حتى إن كل من يؤمن، يغتسل بدمه، والذي يغتسل بالماء يستعد لشرب الدم). (لقد مات، لكي من الجرح الذي أصاب جنبه, تتشكل الكنيسة الأم للأحياء بالحقيقة).
2- القديس أمبروسيوس: يأخذ نفس أفكار أوريجانوس ثم يشرحها؛ (بعد الموت يتجمد الماء في أجسادنا, ولكن من الجسد الذي لا يفسد, مع أنه ميت, نبعت منه حياة للكل, الماء والدم اللذان خرجا منه, الماء للاغتسال، والدم للفداء).
3- القديس أغسطينوس: (إن رقاد أدم, لكي يصنع الله من ضلعه حواء، كان موتاً للمسيح؛ لأنه لما علق على الصليب بلا حياة، وطُعن جنبه بالحربة, خرج منه دم وماء، ونحن نعلم أنهما السران اللذان بهما بُنيت الكنيسة، التي هي رمز حواء).
هكذا يرى القارىء أن موضوع خروج الدم والماء من جنب المسيح, احتل ركناً هاما من تفسيرات الآباه في الشرق والغرب, الذين ردوه إلى العناية الإلهية، كتدبير سابق تأسيسه منذ خروج حواء من جنب أدم، ومنذ أن ضربت الخطية جذورها السامة في طبيعة الإنسان وقتلته. وقد استعلن الآباه عموماً في هاتين العلامتين, الدم والماء, العنصرين المؤسسين لسري الكنيسة, الإفخارستيا والمعمودية, أو بالمعنى الذي يحويه «الدم والماء» سر استبدال الموت بالحياة في الاغتسال بالماء الحي الخارج من جنب المسيح، الميت؛ وذلك بعد الانفكاك من أسر العبودية للخطية, بالفداء بسر الدم الذي نبع من الجنب المطعون, أي من الذبيحة الحية!
هذا الحادث يسجله القديس يوحنا في رسالته الأولى. ولكن عند تدوين القديس يوحنا لإنجيله، كانت قد ترسخت في ذهنه هذه الرؤية الواقعية التي رأها وهو واقف تحت الصليب، والكنيسة (الأم) مستندة على ذراعيه. وقد سجلها في رسالته قبل كتابة إنجيله بزمن ليس ببعيد, ووثقها أيضاً بالشهادة، ثم رفع شهادته إلى مستوى شهادة الحق, أي الله: «هذا هو الذي أتى بماء ودم, يسوع المسيح. لا بالماء فقط, بل بالماء والدم, والروح هو الذي يشهد, لأن الروح هو الحق.» ( ايو6:5)
المعنى المختبىء هنا هام للغاية، فكلمة «أتى» فيها إفادة تاريخية قائمة على انتظار سابق، بلا شك حدده الله بواسطة الأنبياء. وتشديد القديس يوحنا على تلقيب المسيح بأنه «يسوع المسيح» يفيد أن «الماء والدم» يتعلقان به شخصياً من واقع رسالته وشخصه الإلهي (المسيا= يسوع) المستعلن. أي أن عنصري الماء والدم يتعلقان تعلقاً أساسياً بوظيفة المسيح الخلاصية وطبيعته الإلهية، ويعلنان هذا، لأن القديس يوحنا سيتمادى بعد ذلك ويجعل هذين العنصرين يشهدان للمسيح ولنا.
الدم: بلا شك يتعلق «الدم» هنا بما تم عل الصليب؛ فالمسيح «جاء بالدم» من واقع ذبيحته. والدم على الصليب هو عمل الفداء، الذي هو موضوع مجيئه الأساسي. فيينبوع الدم الذي انفتح بالحربة، بعد كمال الموت, أي بعد تكميل ذبيحة الفداء, هو بعينه ينبوع الفداء والخلاص. فالمسيح جاء بهذا الدم، وإن كان بشكله وقوامه الطبيعي، ولكن أيضاً بمستواه «الإلهى», «بروح أزلى», «وبقوته الفدائية» بسبب «ذبيحته الكفارية», «وقوة الحياة» التي فيه, التي «لا تزول», وذلك عوض رش دم الحيوانات المذبوحة في العهد القديم، والتي كان مفعولها قاصراً عل تخليص الجسد من العقوبة الجسدية. وفي هذا المعنى، وبهذا الدم، أصبحت كلمة «الفداء بالدم»، وعمل الدم الإلهي، بكل معانيها الروحية العالية التي وردت في الأسفار المقدسة، منبثقة من هذا الدم المنسكب حياً من الجنب الميت المطعون، لذبيحة المسيح الفدائية.
+ فبهذا الدم صرنا نحن غير اليهود قريبين من الله والمسيح: «ولكن الآن في المسيح يسوع، أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين، صرتم قريبين بدم المسيح.» (أف13:2)
+ وبهذا الدم تم الصلح بين مطالب الله العالية وعجزنا الفاضح: «عاملاً الصلح بدم صليبه.» (كو10:1)
+ وبهذا الدم يتم تقديس الإنسان ودخوله في العهد الجديد لله: «... دم العهد الذي قدس به.» (عب29:10)
+ وبهذا الدم يعبر عنا ملاك الهلاك لننجو: «وهم غلبوه بدم الخروف, وبكلمة شهادتهم.» (رؤ11:12)
+ وبهذا الدم نحصل على الكفارة فلا نُطالب بدين الموت: «... بالإيمان بدمه, لإظهار بره، من أجل الصفح عن الخطايا السالفة.» (رو25:3)
+ وبهذا الدم نحصل على التبرير المجاني باعتبار الدم ثمناً مدفوعاً عن كل الخطايا: «متبررون الآن بدمه» (رو9:5)
+ وبهذا الدم نكون قد اغتسلنا من كل دنس وتعد، وصرنا أطهاراً أمام الله: «غسلنا من خطايانا بدمه.» (رؤ5:1)
+ وبهذا الدم يكون المسيح قه اشترانا من العالم لحساب الله أبيه، لنحيا معه: «...واشتريتنا لله بدمك.» (رؤ9:5)
+ وبهذا الدم نتطهر من جميع خطايانا: «ودم يسووع المسيح ابنه، يطهرنا من كل خطية.» (1يو7:1)
واضح أيضاً هنا أن اللاهوت المسيحي المتركز في عملية الفداء والكفارة والخلاص يدور كله حول «الدم» ولكن أية حالة من حالات الدم؟ لا بد أن يكون الدم الذي له هذه الفعاليات والصلاحيات العظمى، دماً مسفوكاً, دم ذبيحة اُكملت حتى الموت التام, دماً حياً فيه قوة حياة أبدية من ذبيحة إلهية ميتة موتاً اختيارباً ولكن بلا أي عيب ولا لوم. وهذه الشروط جيعا تنجمع في الدم الخارج من جنب المسيح المطعون, بعد أن قال: «قد أكمل»، وقد شهد شهود محايدون بصحة وكمال موته, بعد أن تأكدوا, بطعنة قاتلة, التي لم تزد الموت موتاً، ولكنها فجرت من الموت حياة!!
الماء: كان الماء الخارج من جنب المسيح الميت يشبه الماء الذي صبه إيليا على الذبيحة ولحستها النار الإلهية وقت إصعاد الذبيحة, والقصة شيقة وهي كالأ تي: كان إيليا يتحدى أنبياء البعل الذين قدموا ذبيحتهم فلم يقبلها الله، فقدم هو ذبيحته ووضع الماء عليها للتعجيز، أو لإظهارمعجزة قبول الله لذبيحته كالأتي: «ثم رتب الحطب، وقطع الثور، ووضعه على الحطب، وقال: أملأوا أربع جرات ماء، وصبوا على المحرقة وعل الحطب، ثم قال: ثنوا، فثنوا. وقال: ثلثوا، فثلثوا. فجرى الماء حول المذبح، وامتلأت القناة أيضاً ماء. وكان عند إصعاد التقدمة، أن إيليا النبي تقدم وقال: أيها الرب، إله إبراهيم واسحق واسرائيل، ليُعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل، وأني أنا عبدك، وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور. استجبني يا رب، استجبني. ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حولت قلوبهم رجوعاً. فسقطت نار الرب، وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست المياه التي في القناة.» (امل33:18-38)؛ كانت «المياه» في ذبيحة إيليا هي المعجزة الأوولى، لأن عنصر الماء عنصر يقاوم النار، ويمكن أن يطفئها إذا لم تكن ناراً إلهية، لها شكل النار المادية، ولكها فائقة ومتفوقة عن عل عجزها، ولها القدرة أن تُشعل الماء كالحطب سواء بسواء.
هكذا كان خروج الماء من ذبيحة المسيح يخالف ويقاوم معنى الموت الذي ماته، لو لم يكن موت المسيح الذي ماته موتاً له شكل الموت الجسدي ولكنه موت فائق عن عجز الجسد، وله قدرة أن يطفىء الموت ذاته ويحيي الجسد!
حينما تقدم المسيح ليعتمد من يد يوحنا المعمدان, امتنع هذا وقال: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي؟ فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح له» (مت14:13-15) إذاً, فالمعمودية في نظر المسيح هي تكميل للبر.
الماء الخارج من ذبيحة المسيح هو لتكميل البر. لذلك ذكره القديس يوحنا في إنجيله بعد الدم، وليس قبل الدم. المسيح لما صعد من ماء المعمودية، انفتحت السموات، ونزل روح الله وحل على المسيح، واستقر، وصوت الآب من السماء قال: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». هذا كله يستعلن لنا معنى المعمودية وقوتها عند المسيح, وفيه، بل ومنه أيضاً . فهي أولاً مرتبطة بالسماء من فوق, وعلاقتها أساسية بروح الله, فهي من من أسرار السموات، وسر يقوم فيه روح الله بالعمل الأساسي. أما قوتها فواضحة في استعلان البنوة لله الحائزة على مسرة الله. وماء الأردن تحت يد يوحنا, استعلن لنا سر المعمودية الأعظم في المسيح. إلى هنا تنتهي مهمة معمودية يوحنا، أي تنتهي باستعلان وقيام المعمودية القائمة في المسيح بالروح. هنا تسليم وتسلم، ماء المعمدان يسلم ماء الروح في المسيح, فينتهي عمله.
معمودية يوحا انتهت، أي توقفت، بخروج ماء الحياة من جنب ذبيحة المسيح المطعون؛ التي هي المعمودية الجديدة من جنب المسيح، حيث بدأت الحياة الجديدة للانسان بروح الله وبدأ فعل بر العهد الجديد يملأ العالم: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت19:28)
والآن، لننظر مرة أخرى لينبوع الماء والدم الفائض من جنب ذبيحة المسيح المطعون وهو ميت، كيف امتد هذا الينبوع, ينبوع الدم والماء, امتداداً تاريخياُ وسرياً بآن واحد، من ناموس موسى كعنصر للتطهير المادي والتقديس الشكلي في العهد القديم؟
«الماء والدم»: الماء, كان في العهد القديم لغسل الأدوات أو لغسل الجد للتطهير المادي من الدنس الشكلي؛ كمجرد غسيل.
والدم, وهو دم حيوانات, كان يستخدم بالرش أيضاً للتطهير الشكلي: «لأن موسى بعد ما كلم جميع الشعب بكل وصية بحسب الناموس، أخذ دم العجول والتيوس, مع ماء وصوفاً قرمزياً وزوفا , ورش الكتاب نفسه وجميع الشعب قائلاً: هذا هو دم العهه الذي أوصاكم الله به. والمسكن (الهيكل) أيضاً وجميع آنية الخدمة, رشها كذلك بالدم, وكل شيء تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم, وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب19:9-22)؛ حيث المغفرة، هي رفع عقوبة جسدية عن خطية اقترفت بدون عمد ضد وصايا شكلية للناموس.
بهذا يتجلى أمامنا مسار التاريخ وسر الله، من ناموس موسى إلى ناموس المسيح، فينبوع الماء والدم الخارج من جنب المسيح يحمل نفس العنصرين إنما للتطهير والتقديس الروحي للعهد الجديد: «دم المسيح الذي، بروح أزلي, قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي» (عب14:9)، «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.» (مت28:26)
كذلك الماء الذي كان «لغسل كؤوس وأباريق وآنية نحاس وأسرة» (مر4:7)» أصبح ماء المعمودية الجديدة بالروح, ماء لغسل الخطايا: «قم، واعتمد واغسل خطاياك» (أع16:22)، ماء يغتسل به للخلاص: «لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى, وتجديد الروح القدس» (تى5:3)، وماء لميلاد جديد للانسان بالروح، لميراث ملكوت الله: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.» (يو5:3)
هكذا نرى أن شهادة القديس يوحنا لهذا السر الذي استعلن في آخر لحظة بطعنة الحربة, والذبيحة معلقة على الصليب، ربطت ربطاً محكماً بين تسلسل الدور التاريجي بالنسبة لعمل الماء والدم في العهد القديم الذي لم يكن له أي قيمة من جهة الروح، وعمل الماء والدم بجوهرما الروحي، بل الإلهي، في العهد الجديد، كونهما نبعا من ذبيحة المسيح الفدائية بعد تقديمها على الجلجثة وقت المساء: «هذا هو الذي أتى بماء ودم، يسوع المسيح، لا بالماء فقط, بل بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد، لأن الروح هو الحق.» (ايو6:5)
القديس يوحنا في رسالته الأولى، يحذر من الانتحاء ناحية الفصل بين عمل الماء وعمل الدم، فالفداء حتمي، وله الأولوية في قبول المسيح وفي شهادة الإيمان. لذلك وضع القديس يوحنا الشهادة لخروج الدم قبل الماء (يو34:19). فقبل العماد، يلزم الاعتراف والشهادة بالدم المسفوك بموت المسيح على الصليب كفارة للخطايا. هنا يجوز العماد، ويكون العماد بمثابة ختم الروح على الخليقة الجديدة المفدية لله. القديس يوحنا لا يقبل فصل السرين، ويؤمن بعملهما معاً.
ولقد انتحى الآباء في إقامة سر الأولوجيا (الإفخارستيا) منذ بكور ممارسته في الكنيسة سواء في تعاطيه أو في شرحه, إلى مزج الخمر بالماء لهذا الغرض بالذات، أي لجمع فعل الدم والماء الخارجين من جنب المسيح معاً في كأس واحدة.
وإليك طعن في صحة تقديم كأس الإفخارستيا بدون مزجه بالماء:
[ليت الآرمن يخزون، الذين لا يمزجون الماء بالخمر في الأسرار, لأنه يبدو أنهم لا يؤمنون بخروج الماء, بل الدم فقط, من جنب المسيح التي هي المعجزة الأعظم] ..... ثيئوفيلا كت
وثيئوفيلا كت هذا كان بطريركاً لبلغاريا في القرن الحادي عشر. وهو يتبع القديس ذهبي الفم في آرائه، وقد شرح كل العهد الجديد بلغة سهلة وتأمل عميق.
«والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم, والثلاثة هم في الواحد» (1يو8:5 )
واضح أن جمع «الماء» و «الدم» و «الروح» معاً كثلاثة على التساوي، هو محاولة لجعها شهادة قانونية من ثلاثة: «على فم شاهدين أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر.» (تث15:19)
ويلاحظ أن مفردات هذه الآية جاءت لغوياً هكذا: كلمة «الروح» (محايدة), و«الماء» (محايد)، و «الدم» (محايد) ثم في الحال يرفع الكاتب المحايد إلى حالة المذكر العاقل في لفظ «ثلاثة»، سواء في البداية بقوله: «هم يشهدون»، أو في النهاية بقوله: «والثلاثة هم ...».
والقديس يوحنا جعل شهادة الدم والماء والروح، كل من الثلاثة له شهادة في الإنساذ كقوة. ولكن القديس يوحنا لما أضاف «الروح» و«الدم» و«الماء» معا، صار الثلاثة ولهم ضمير مذكر سالم. أي أن «الثلاثة» يعبرون بفم شخصي واحد، بمعنى أن كل من الماء والدم ينطق بالروح في الإنسان نطقاً، بفعل الله الذى تم. ففي المعمودية، الروح يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، والدم في الإفخارستيا: «إلى وسيط العهد الجديد يسوع، والى دم رش، يتكلم أفضل من هابيل.» (عب24:12)
وفي الحقيقة إن الذى يشهد للمسيح في العالم من داخل الكنيسة، هو الماء في المعمودية، والدم في الإفخارستيا، والروح في التكريس والتقديس من داخل هذه الأسرار: «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (اكو26:11)، «ونحن شهود له بهذه الأمور، والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين يطيعونه.» (أع32:5)
والإهتمام البالغ الذي ركز به القديس يوحنا على ينبوع الدم والماء الخارج من جنب ذبيحة المسيح المطعون، والذي استجبنا نحن أيضاً له وركزنا على تركيزه، إنما كان لسبب لاهوتي واضح، وهو أن القديس يوحنا يرى في الجسد المصلوب على الصليب قمة إنجيل الخلاص، ومنتهى عمل الله للفداء، وأنه هو هو «حمل الله الذي يرفع خطية العالم»، كما سمع ذلك من فم معلمه الأول المعمدان (يو29:1)، وهو ينبه ذهن القارىء إلى أن الدم والماء الخارجين من جنب المسيح، يحملان له الغسل الحقيقي من خطاياه، والتقديس الداخلي لحياة جديدة، والدخول في عهد المسيح بدمه. وهو يعدد في رسالته، ويكشف، عمل الروح القدس من خلال سري الدم والماء، والشهادة الحية الشخصية التي يشهد بها الروح والماء والدم بفم واحد للمسيح في داخلنا أنه ابن الله، وأنه أعطانا الحياة الأبدية. فإذا قبلنا شهادة الروح للمسيح، صارت لنا حياة أبدية؛ وكل ذلك في تسلسل بديع:
«والذين يشهدون, للمسيح, في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد»، «هذه هي شهادة الله، التي قد شهد بها عن ابنه»، «من يؤمن بابن الله، فعنده الشهادة في نفسه»، «وهذه هي الشهادة, أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه»، «من له الابن، فله الحياة؛ ومن ليس له ابن الله، فليست له الحياة.» (1يو8:5-12)
القديس يوحنا يعلن صراحة أنه كان شاهد عيان, وليس بالمشاهدة العابرة. بل إنه «عاين» أي تحقق من الرؤيا, وكلمة «شهد» تفيد هنا أنه سجلها في إنجيله، وهو نفسه يختم على هذا التسجيل أنه حق, لسيب هام وخطير، لا يستطيع أن يبوح به علنا، وهو لا يخرج عن أن الروح القدس كان يوضح له الحقائق التي يرى بالإلهام والفهم، ويؤكد له بالروح صحة ما يمليه عليه ويكتبه.
ثم يعود القديس يوحنا يختم على صدق روايته ومعاينته لهذه المعجزة فيقول، إنه يعلم أنه يقول «الحق» بمعنى أنها ليست رواية شخصية من رؤيا شخصية, إنه في كمال إدراكه ووعيه المسيحي وليس عن دهش أو منظر معقول أو غيبة. بمعنى أن الإملاء الروحي من الروح القدس لم يأته وهو في غيبوبة, بل وهو في صحو الذهن وكمال ملكة الإدراك والتمييز. أما لماذا هذا الإثبات لصحة ما كتب، فهو ليؤمن القارىء. ليس مجرد الإيمان بخروج الدم والماء فقط بل بكل ما كتبه. فغاية القديس يوحنا من إنجيله هي الإيمان الكلي بالمسيح!
القديس يوحنا بقوله: «هذا كان ليتم الكتاب» يجمع بين حادثة عدم كسر عظام الساقين مع حادثة طعن جنبه بالحربة, لأن الأولى تسببت في الثانية. وهنا موضع التدبير العجيب، فلأنهم وجدوه قد مات, فلم يجدوا ضرورة لكسر الساقين, وهكذا تحاشى التدبير الإلهي أن تمس عظام المسيح بأذى، وذلك بحسب الطقس والنبوة معاً. ولكن لكي يتأكدوا من موته بالأكثر لجأوا إلى طعن جنبه بالحربة، فكان هذا بدوره تدبيراً آخر لتتم النبوة، وفي نفس الوقت لتستعلن قوة الحياة النابعة من ذبيحة الموت.
«عظم منه لا يُكسر منه»: الإشارة المباشرة هنا لطقس خروف الفصح الذي كان هو الرسم التحضيري لذبيحة الفصح الحقيقية، كما سبق الشرح في الآية31:19 وما بعدها. أما الإشارة الثانية، فهي تخص تتميم النبوة «كثيرة هي بلايا الصديق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه, واحد منها لا ينكسر.» (مز19:34-20)
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: وهل كان المسيح يجوز هذه الحوادث المحددة ليتم المكتوب عنه في النبوات؟ والجواب على هذا هو العكس تماماً، فأنه سبق وأنبأ بالروح على فم الأنبياء على مدى عصور مختلفة ومتباعدة ما سيلاقيه المسيح عند مجيئه. والسبب في ذلك هو غاية في الأهمية والخطورة، وهو لكي حينما يتمم المسيح المكتوب عنه, يتعرف عليه حفظة الناموس والأنبياء، ولا يكون عذر البتة لمن ينكره أن يتنكر له: «لو لم أكن قد جئت وكلمتهم, لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم» (يو22:15)، «لو كنتم تصدقون موسى، لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني. فأن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك, فكيف تصدقون كلامي» (يو46:5-47)، «فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية, وهي التي تشهد لى.» (يو39:5)
فالإيمان بالمسيح، في بداية الكرازة, كان يقع بين النبوة وتتميمها؛ لأن ما سبق وكتبه الله بالروح على قلوب الأنبياء ونطقه على ألسنتهم، كان يلزم حتما أن يتم! ولهذا السبب كان التشديد على إجراء طقس تقديم الفصح واكله بكل حذر وتدقيق، حتى يتسلط نور النبوة الطقسي على ذبيحة المسيح في حينها، للتعرف عليه والحفاظ على هيكل جسده سالما: «لا يبقوا منه إلى الصبأح، ولا يكسروا عظماً منه، حسب كل فرائض الفصح يعملونه.» (عد12:9)
ولعل الأمر المشدد عليه بأن «لا يبقى منه إلى الصباح»، هو الذي كان وراء سرعة إنزاله من على خشبة الصليب لتكتمل فيه ملامح الفصح، خلواً من كرامة السبت التي ظهرت في الطريق.
وإن كان الأمر في الطقس يختص بخروف الفصح بحد ذاته، فماذا كان يضيره لو تكسرت كل عظامه؟ أو لو بقي ممه شيء إلى الصباح، إن كانت هي مسألة أكل وذكرى وتاريخ؟ ولكن كان الطقس يحمل ملامح إلهية دقيقة وحساسة, ليبرز في الميعاد الصورة المجيدة للفصح الحقيقي الذي عظمه هو هيكل الله, الذي لا يستطيع أحد أن يفسده, بل هو الإنسان الجديد الكامل في كل شيء حسب صورة خالقه، بل هو الكنيسة التي لا عيب فيها! فنحن، وعلى ضوء حقيقة ذبيحة المسيح الإلهية، لو عدنا إلى تدقيقات الطقس، نجد كيف أحاط الناموس ذبيحة الفصح القديم بهيبة وجلال وتقديس تفوق في اهتمامها البالغ ما تستحقه ذبيحة حيوانية! وذلك كان، في الحقيقة، هو سبق تصوير بارع لحقيقة ومضمون الفصح الإلهي! ومجد القيامة بذات الهيكل الجسدي الذي مات مقاما في المجد والكرامة.
الإشارة هنا إلى سفر زكريا: «وأفيض عل بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إلي (أنا) الذي طعنوه، وينوحون عليه، كنائح عل وحيد له، ويكونون في مرارة عليه، كمن هو في مرارة عل بكره» (زك10:12). ولكن القديس يوحنا، هو نفسه، سبق في سفر الرؤيا وسجل هذا المشهد الحزين لعودة المسيح وجنبه كما هو مفتوح، فيتعرف عليه الذين طعنوه سواء بالحربة، أو بالتجديف، أو الإنكار، أو بالخطية: «هوذا يأتي مع السحاب، وتنظره كل عين، والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض، نعم آمين» (رؤ7:1). ولكن من حيث تكميل النبوة، يكون المقصود هو سفر زكريا فقط. وقد عدل القديس يوحنا ما جاء في السبعينية في قول النبي من : «فينظرون إلى» بصيغة المتكلم، إلى «ينظرون إلى الذي طعنوه» بصورة الغائب ويقال أن هذا هو الأصح.
وهكذا، كما جاءت الطعنة لتكميل نبوة سابقة، هكذا أيضاً جاءت الطعنة كعلامة مرافقة لجنب المسيح، حيث ستكون علامة تبكيت مر للذين طعنوه, كالذي ذاقه بطرس عند صياح الديك بعد أن أنكر من أحبه.
ولنا مقابلة أخرى وشيكة مع جنب الرب المفتوح، الذي وضع توما يده فيه فصرخ: «ربي وإلهي». وهكذا أصبح الجنب المفتوح في إنجيل القديس يوحنا علامة تكميل نبوة سابقة منذ الدهر السالف، وعلامة استعلان قادمة من الدهر الاتي، كما انه علامة تعرف وايمان، والجرح طري ينطق بالقيامة من الأموات. منه خرج سران، وتشكلت كنيسة، وانفتح لنا باب السماء عبر الحجاب الذي شقته الحربة المباركة.
الثاني: طلب جسد يسوع
«مبادرات محبة نشطة من تلاميذه جريئة, ولكن في الخفاء»!
الإشارة هنا إلى سفر زكريا: «وأفيض عل بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إلي (أنا) الذي طعنوه، وينوحون عليه، كنائح عل وحيد له، ويكونون في مرارة عليه، كمن هو في مرارة عل بكره» (زك10:12). ولكن القديس يوحنا، هو نفسه، سبق في سفر الرؤيا وسجل هذا المشهد الحزين لعودة المسيح وجنبه كما هو مفتوح، فيتعرف عليه الذين طعنوه سواء بالحربة، أو بالتجديف، أو الإنكار، أو بالخطية: «هوذا يأتي مع السحاب، وتنظره كل عين، والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض، نعم آمين» (رؤ7:1). ولكن من حيث تكميل النبوة، يكون المقصود هو سفر زكريا فقط. وقد عدل القديس يوحنا ما جاء في السبعينية في قول النبي من : «فينظرون إلى» بصيغة المتكلم، إلى «ينظرون إلى الذي طعنوه» بصورة الغائب ويقال أن هذا هو الأصح.
وهكذا، كما جاءت الطعنة لتكميل نبوة سابقة، هكذا أيضاً جاءت الطعنة كعلامة مرافقة لجنب المسيح، حيث ستكون علامة تبكيت مر للذين طعنوه, كالذي ذاقه بطرس عند صياح الديك بعد أن أنكر من أحبه.
ولنا مقابلة أخرى وشيكة مع جنب الرب المفتوح، الذي وضع توما يده فيه فصرخ: «ربي وإلهي». وهكذا أصبح الجنب المفتوح في إنجيل القديس يوحنا علامة تكميل نبوة سابقة منذ الدهر السالف، وعلامة استعلان قادمة من الدهر الاتي، كما انه علامة تعرف وايمان، والجرح طري ينطق بالقيامة من الأموات. منه خرج سران، وتشكلت كنيسة، وانفتح لنا باب السماء عبر الحجاب الذي شقته الحربة المباركة.
الثاني: طلب جسد يسوع
«مبادرات محبة نشطة من تلاميذه جريئة, ولكن في الخفاء»!
هنا، وفي الآية القادمة، نشعر بحركة صحوة بين تلاميذ خاملين كانوا في الظل، أو بحسب تعبير القديس يوحنا: «خفية لسبب الخوف»، هذا من جهة هذا الرجل المقدام يوسف الرامي. أما من جهة نيقوديموس، فيسرع القديس يوحنا ويعرفنا بزيارة الليل والظلام، هناك في البداية!
الموت الذي شتت صف تلاميذ النهار، ورحلات الحب ودروس الجبل، جذب الصف الثاني من تلاميذ الخفاء والخوف وزيارات الليل؛ لأن جلال الموت لمعلم محبوب، يشعل نار الجرأة في بعض القلوب النبيلة. والعرفان بالفضل والجميل، له عشاقه ورواده في وقت المحنة وزمن الملمات. والمحبة الصادقة لا تهاب المخاطر، وان كان يُحسب لها الحساب.
«يوسف الذي من الرامة»: «الرامة»: يختلف على موقعها العلماء ، فمنهم من يقول إنها المدينة المعروفة باسم «رام الله»، واخرون «الرملة»، واخرون «رامتايم صوفيم» بلد صموئيل النبي. وكون يوسف هذا من الرامة أصلاً، يعني أنه كان مستوطناً في أورشليم بداعي وظيفته التي عُين فيها كـ «مشيرا» في السنهدريم، مما اضطره للاقامة في أورشليم. وأن يذكر أن له «قبراً جديداً» بجوار سور المدينة في بستان، يعني أنه مستوطن حديثاً مما كلفه أن يكون له ملك أرض، وأن يحفر له فيها قبرا: «فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي، ووضعه في «قبره الجديد» الذي كان قد نحته في الصخرة.» (مت59:27-60)
هذه الأمور، لوتأملناها معاً، لشعرنا بالعناية الإلهية التي هيأت هذا الإنسان بهذه الظروف معاً. وقد تجتعت له صفات ذُكرت في الأربعة الأناجيل هي غاية في الكرامة.
فالقديس متى يقول عنه: «رجل غني». وهنا الإشارة واضحة لسفر إشعياء: «وجعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته.» (إش9:53)
والقديس مرقس يقول: «مشير شريف, وكان هو أيضاً منتظرأ ملكوت الله, فتجاسر ودخل إلى بيلاطس، وطلب جسد يسوع.» (مر43:15)
والقديس لوقا يقول: «وكان مشيراً ورجلاً صالحاً بارا. هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم» (لو51:23-52). ثلاث صفات عالية القدر، واخرها هي التي أهلته لهذا الموقف الأخير، والصلاح والبر هما اللذان أعلاه لشرف التلمذة ولرفض رأي اليهود وعملهم الدنيء.
أما القديس يوحنا فاكتفى باللقب الأكثر شرفاً: «وهو تلميذ يسوع», وان كان قد سبق وألمح إلى موقفه في الآية (42:12): «ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضاً، غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع، لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله» (يو42:12-43)
ويلاحظ أن الصفة التي يذكرها القديس لوقا كونه «مشير»، تعني، بحسب العلامة إدرزهايم، أنه عضو فى مجلس السنهدريم، خاصة ما أضافه بقوله إنه «لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم», «فالرأي» هنا هو رأي مجلس السنهدريم الأخير، «وعملهم» هو الإجراءات التي اتخذت في سبيل القبض عليه أو صلبه.
والقديس مرقس يستعلن لنا الصفة البارزة في هذا العضو الصالح والبار، أنه كان «متجاسرا» في ذهابه إلى بيلاطس شخصياً وطلبه جسد يسوع, مما يكشف ضمناً عن موقف لا بد أن يكون قد وقفه إزاء زملاء السوء في المجلس المشنوم، إذ لا بد أنه حجب صوته ولم يعطهم الموافقة على ما قالوه وعملوه. كما أن أقوال الأناجيل الثلاثة عن هذا الرجل توضح كيف كان يجتمع مع التلاميذ ومع المسيح، ويكشف نيات وأعمال مجلس السنهدريم والرؤساء. من هنا نعتقد أن بواسطته صارت المعرفة للتلاميذ بكل التفاصيل الدقيقة لمجريات الحوادث في الجانب الأخر, سواه قبل الصليب أو بعده.
«سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع»: لقد سبق أن وافق بيلاطس لرؤساء اليهود على هذا الطلب ضمناً مع طلب تكسير سيقان المصلوبين الثلاثة: «سأل اليهود بيلاطس أن تسكر سيقانهم, ويرفعوا.» (يو31:19)
ولكن يوسف هذا ذهب بمفرده ليمنحه بيلاطس حق استلام الجسد وانزاله, فأذن له بيلاطس بنوع من الإمتياز, لأن هذا الإجراء لم يكن سهلاً، إذ كان الولاة عادة يتعاطون رشاوي لمنح مثل هذه التصاريح. ولكن بيلاطس أعطى تصريحه بإيجابية سهلة, وكان هذا العمل النبيل أخر ذكر لاسمه في الإنجيل.
وليس من السهل أن نعبر على الاسم المبارك «يوسف» دون أن نشير إلى العناية الإلهية التي احتفظت بهذا «الغني», المشير, الصالح, البار, المتجاسر» كتلميذ ولكن في السر، إلى الميعاد الذي جُهز له، بل وربما وُلد من أجله، ليتسلم الجسد المقدس الذي للابن الوحيد من فوق خشبة الصليب، الأمر الذي لم يتجاسر عليه لا تلميذ من التلاميذ ولا حتى قريب من المقربين. ولا شك أن هذه الصفات الخمس أهلته لهذه المهمة الجليلة والخطيرة والحرجة جداً بآن واحد!
ثم هل لنا أن نتأمل في ما عمله «يوسف مصر» في أبيه «إسرائيل» المتغرب في مصر، كيف «وقع يوسف على وجه أبيه وبكى عليه وقبله, وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه، فحطط الأطباء إسرائيل ... فقال فرعون اصعد وادفن أباك كما استحلفك ... ودفنوه في مغارة حقل المكفيلة التي اشتراها إبراهيم مع الحقل ملك قبر من عفرون الحثي أمام ممرا.» (تك1:50-13)
ووجه المقارنة يتعدى الأسماء والمواقف، ويدخل في صميم اللغة، فقد استخدم القديس يوحنا لفظة: «فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفأن مع الأطياب، كما لليهود عادة أن يكفنوا»، وهي نفس كلمة «يحنطوا» كما جاءت في سفر التكوين في تكفين إسرائيل ملى أيدي أطباء يوسف : «وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه».
وهذا هو يوسف الجديد، يحنط ويدفن جسد إسرائيل الجديد، في قبره الذي نحته جديداً، الذي اشتراه ملك قبر أمام سور أورشليم الغربي .
«وجاء أيضاً نيقوديموس»: «نيقوديموس» هو المعروف في التلمود باسم نيقوديموس بن جوريون، وأنه كان غنياً جداً، ويقال أنه في حفل زواج ابنته قدم لها عريسها صداقاً قيمته مليون دينار ذهبي. وفي التقليد القديم يذكر أنه تنصر وصار مسيحياً. وفي روايات التاريخ يُقال أنه مات في حصار أورشليم.
بداية الآية تشير إلى موقف موحد حدث بالضرورة بين يوسف ونيقوديموس، فهما عضوان في مجلس السنهدريم, وكانا ولا شك على رأي مخالف لرأي المجمع والرؤساء، بل وعلى مستوى المعارضة للاجراءات والأعمال التي اتخذها رؤساء الكهنة، والتي كانت في نظرهما غير قانونية، فوق أنها شائنة وفظيعة، بالنسبة لمعلم يعلمون أنه قد أتى من الله معلماً؛ بل ويؤمنون به؛ بل وينتظرون على يديه ملكوت الله (راجع يو2:3؛ 41:12؛ 43:15).
ونيقوديموس سبق له أن حاول الدفاع عن قضية المسيح، ولكنه ارتدع تحت رادع إرهاب الفريسيين: «قال لهم نيقوديموس الذي جاء إليه ليلاً وهو واحد منهم، ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يُسمع منه أولاً ويعرف ماذا فعل؟ أجابوا وقالوا له: ألعلك أنت أيضاً من الجليل؟ فتش وانظر إنه لم يقم نبي من الجليل، فمضى كل واحد إلى بيته» (يو50:7-53). لذلك كان يجمعهما للأسف «الخوف من الفريسيين» بصفتهما عضوين في مجلس السنهدريم، وكانا يعلمان المصير المرعب إذا ما جاهرا بتلمذتهما للمسيح: القطع من السنهدريم، وربما من شعب إسرائيل، وهذا كان هو السيف المسلط.
وواضح أنهما تعاهدا، بعد أن رأيا المسيح قد رُفع على خشبة الصليب بالفعل، أن يوزعا الأدوار على نفسيهما بغاية السرعة لأن غروب الشمس كان وشيكاً. فاضطلع يوسف بشراء الكتان النقي للف الجسد، ونيقوديموس قام بشراء مزيج المر والعود. كما عهد إلى يوسف بعملية طلب جسد يسوع من بيلاطس لصفته البارزة وهي الجسارة. ثم تقابلا عند الصليب، وقد فارقهما الخوف والرعب من الفريسيين وابتدءا عملهما بجسارة وعلانية بانزال الجسد المقدس، بكل كرامة, لأن روح الله كان ثالثهما.
«وهو حامل مزيج مر وعود نحو مئة مناً»: «كل ثيابك مر وعود وسلخة» (مز8:45)؛ «بسلام تموت، وبإحراق (أطياب الدفن) آبائك الملوك الأولين الذين كانوا قبلك، هكذا يحرقون لك ويندبونك قائلين: آه يا سيد.» ( إر5:3)
«مر وعود»: أما المر فهو المادة الراتنجية المستخرجة من سيقان شجرة معروفة باسم «كوميفورا مولمول»، وتنمو في شبه الجزيرة العربية. واسم المادة بالعبرانية كالعربية «مر». وقد أخذ الأوربيون الاسم كما هوMyrrh وقد ذُكر كثيراً في مواضع عديدة من العهد القديم.
والمر له مفعول مطهر، ويستخدم في الطب على هذا الأساس, وهو معروف منذ القدم، من أكثر من ألفي سنة، وقد استخدمه قدماء المصريين في التحنيط (هيرودوت68:2) كما استخدمه بنو إسرائيل في عمل المسحة المقدسة (خر22:30). ويضرب به الأمثال في التعطير. وكان أحد مكونات الهدايا التي قدمها المجوس للمسيح في بيت لحم (مت11:2)، كما قُدم للمسيح على الصليب ممزوجاً بخل (مر23:15).
«العود»: هو غالباً المادة المستجرجة من شجرة تسمى بشجرة الفردوس، وخشبها يسمى خشب السنر، واسمها العلمي ( )، وتنمو نواحي آسيا الإستوائية. وهو أيضاً ثمين للغاية يوزن بوزن الذهب، ورائحته نفاذة تبقى لسنين عديدة. وهو أيضاً مذكور في الكتاب المقدس. يُضرب به المثل «كشجرات عود غرسها الرب» (عد6:24)، «كل ثيابك مر وعود وسلخة (قرفة).» (مز8:45)
أتى نيقوديموس وهو حامل هذه الهدية التذكارية الثمينة جداً سواء في قيمتها المالية العالية التي يقدرها العلامة إدرزهايم بمقدار ما يساوي الان مئتين وخسين جنيها إنجليزيا، آنئذ، او فى قيمتها بالنسبة للجسد المقدس, بحد ذاته, أو قيمتها بالنسبة للبشرية ككل وهي تستودع جسد ابن الله سر مجدها وخلاصها، جسد إكليلها وفخرها كابن الإنسان, أو قيمتها في المقابل بالنسبة لما صنعه اليهود عامة والرؤساء الذين أهانوا اسمهم، واسم اليهود، واسم إسرائيل، واسم شعب الله المختار، بل واسم الإنسانية جميعاً بما فعلوه بهذا الجسد الطاهر.
والمزيج منهما هو أبسط ما يمكن أن يسمى بمواد للتحنيط، أي لحفظ الجسد من الفساد، حسب العادة التي اكتسبوها من فراعنة مصر بتحنيط أجساد عظمائهم؛ لأن المزيج الكامل للتحنيط يتعدى العشرات من الأصناف.
والكمية التي ذكرها القديس يوحنا ليست في الحقيقة مبالغاً فيها، لأن لف الجسد كله يحتاج إلى مثل هذه الكمية التي يساوي وزنها بالموازين الحالية ما يقرب من 36 كجم.
ونحن نقرأ في تحنيط جسد «آسا» الملك: »اثم اضطجع آسا مع ابائه ... فدفنوه في قبوره التي حفرها لنفسه في مدينة داود, وأضجعزه في سرير كان مملوا أطيأباً وأصنافاُ عطرة حسب صناعة العطارة، وأحرقوا له حريقة عظيمة جداً.» (2أى13:16-14)
ويحكى في التلمود اليهودي: (إنه عند دفن غمالائيل الأكبر، عملوا له حريقاً من الأطياب والعطور بلغ80 رطلاً (الرطل 360 جراماً تقريباً) فلما سألوا أونكيلوس (أحد الربيين) عن سبب هذه الكثرة رد قائلاً: أليس غمالائيل أفضل من مائة ملك مثل آسا؟)
واضح، إذاً، أن الكثرة التي حملها نيقوديموس من الأطياب هي في الحقيقة تعبير رائع وصامت عن التوقير الملكي الذي كان يكنه هذا الفريسي المتمرس في تاريخ ملوك أبائه.
ولكن لا يفوتنا أن هذه الأطياب الحلوة، ذات الرائحة اللذيذة والمسرة، هي أيضأ تعبير آخر عن صنف الذبيحة المقدمة، كما رتب لها, ليس الأنبياء وحسب، بل والمسيح نفسه كان يرى أن ذبيحة حبه لا بد أن تكون عطرة الرائحة عند أحبائه كما هي عند أبيه: «فأخذت مريم مناً (واحداً بـ 300 دينار) من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع، ومسحت قدميه بشعرها. فامتلأ البيت من رائحة الطيب ... فقال يسوع: اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته.» (يو3:12 و7)
ولقد اختزنت الكنية المرتشدة بالروح أطيأب الرب وعطوره التي تركها مح أكفانه في القبر الفارغ واعتبرتها ذخيرة حياة أو مسحة موت لقيامة، عجنتها بالزيت الطيب وصنعت منها دهن ميرونها واوقفته على مسح المعمدين الخارجين من من جرن المعمودية، الذين دفنوا مع الرب لشركة موته، فتمسحهم بهذا الميرون عينه، كمسحة قيامة من الأموات لشركة الرب فى قيامته. وظلت هذه الذخيرة تتناقلها أيدى الأساقفة الأمناء على مر الأجيال، وحتى زماننا هذا. وصدر في ذلك قول بولس الرسول: «لأننا رائحة المسيح الذكية لله» (2كو15:2)، وكأن بولس الرسول يرى مفدى الرب ذبائح سرور تفوح منها رائحة ذبيحة المسيح: «اسلكوا فى المحبة، كما أحبنا المسيح أيضاً، وأسلم نفسه لأجلنا، قرباناً وذبيحة لله، رائحة طيبة.» (أف2:5)
وتحقق قول الرب فى الحال والتو، إذ لما ارتفع، جذب إليه أكثر التلاميذ بعدا وأشدهم خوفا، وأقلهم إيمانا، عربون «للجميع»!! «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو32:12)
وإن كان الملائكة قد خلقوا لأعمال وخدمات تعينوا لها وتعينت لهم، فيوسف ونيقوديموس وُلدا, معينين في المقاصد الإلهية، لخدمة الجسد المصلوب وتكريم جروح الرب.
لقد تبدد خوف يوسف وتحول إلى جسارة ما بعدها جسارة، وليل نيقوديموس الذي كانت تحلو له فيه الزيارة، والظلام حالك، تحول له إلى نهار ومجاهرة. لقد أفاض عليهما الجسد تباشير من أنوار العهد الجديد. وكأن الروح الذى أسلمه يسوع على الصليب اتخذ طريقه فى الحال، وتوزع على قلوب الزين كانوا ينتظرون ملكوت الله!
«فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب»: حملوا الذي يحمل المسكونة كلها على كفه؛ وأنزلوا الذى علقوه على خشبة، وهو الذي «يعلق الأرض على لا شيء» (أي7:26). كنز الحياة حملوه ميتاً على الأذرع، وأسندوا الرأس التي تسند الأكوان، وتقيم الجبال الرواسي، فلا تميد!
طيبوا الجسد، وهو منبع الطيب، وعطروه، وهو الذى «يجعل البحر كقدر عطارة.» (أى31:41)
لفوه بالكتان، وهو اللابس النور كالثوب، وكفنوا بالدموع ، من هو مصدر الفرح والابتهاج.
في صمت مهيب، تبادلا إحكام الرباط، «والكلمة» بين أيديهما بلا حراك، وهو يعد لجسده القيامة!
«ولفاه بأكفان»: القديس يوحنا يستخدم كلمة «لفاه» في إعداد الجسد للدفن، وتأتي بمعنى «ربط». كذلك يستخدم كلمة «الأكفان» بالجمع، بمعنى أن القماش مقسم لكل عضو بمفرده.
أما كل من القديس متى والقديس مرقس والقديى لوقا، فيستخدمون كلمة مشابهة ( ) تُرجمت بالعربية «لفة» أيضاً، وتأتي بمعنى «لفة» صحيحا. كما تأتي كلمة «الكفن» بالمفرد بدون اصطلاح الدفن، كمجرد قماش «لفه بكتان نقي» (مت59:27).
والفارق في المعنى يبدو وكأن في إنجيل يوحنا أن يوسف ونيقوديموس أجريا عملية التكفين الأصولية, وهي ربط كل ذراع وكل ساق بأشرطة من الكفن، كذلك لفا الجسد كله والرأس بمفرده.
أما في الأناجيل الأخرى، فتبدو العملية وكأنها مجرد لف الجسد بثوب واحد من الكتان على سبيل التكفين المبدئي، ليتم تكفينه حسب الأصول، بعد انقضاء السبت.
وهكذا يأتي تقليد القديس يوحنا في التكفين مخيبا لآمال الذين يأخذون بقصة اكتشاف كفن تورين المنطبع عليه صورة جسد المسيح ووجهه. وهذا الكفن قطعة واحدة من القماش بطول 14 قدم, وأقل من أربعة أقدام عرضاً. وأول ذكر لاكتشاف كفن تورين حدث سنة 1353 م في كنيسة ليراى بمدينة تروي بفرنسا. ولو أنه حدث ذكر لهذا الكفن قبل ذلك بمائة سنة في نواحي تركيا. وقد قامت بعض الهيئات العلمية الأمريكية حديثأ بتحليل الألوان المنطبعة على الكفن وأثبتوا أنها لا تحمل أي أثر عضوي، بل أصباغاً من أكاسيد ومعادن.
«مع الأطباب»: يبدو أن المر والعود كانا على هيئة مسحوق، وقد أضيف إليهما بعض الزيوت العطرة، فتكرن مزيج سائل يمكن دهن الجسد به قبل ربطه.
«كما لليهود عادة أن يكفنوا»: عادة اليهود هذه سبق أن وصفها القديس يوحنا في دفن لعازر: «فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل، فقال لهم يسوع حلوه ودعوه يذهب.» (يو44:11)
الساقان اللتان سارتا على الماء ولم تميدا، ربطوها بقماط! والذراع التي فكت أسر شعب إسرائيل (مز15:77)، قمطوها برباط! والرأس مع الوجه بمنديل لفوه، وحجبوه، وأنت الذي «تحجب وجهك، فترتاع (كل خليقة).» (مز29:104)
لقد تعلم اليهود من المصريين كيف يحنطون الجسد. ولكن احتفظ اليهود بتمسكهم أن لا يفضل من الجسد شيء. في حين أن المصريين كانوا ينزعون الأعضاء الأكثر تحللاً مثل المخ والأحشاء، فكانت توضع فى قوارير خاصة بجوار التابوت، بعد أن يجروا عليها أصولاً أخرى للتحنيط.
والمصريون كانوا يحنطون برجاء عودة الروح من العالم الآخر, وأما اليهود فكانوا يحنطون لمجرد تكريم الجسد.
وأما يوسف ونيقوديموس، فبينما كانا منهمكين في خدمة الجسد الممزق، كانت النفس تعمل عملها العظيم لكرازة العالم الآخر: «مماتاً في الجسد، ولكن محيى في الروح، الذي فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن.» (1بط18:3-19)
وهكذا كسر المسيح السبت حتى في موته، إذ ذهب وكرز للأرواح المحجوزة في سجن سبى خطاياها، بانتظار الفادي الذي ألقى عليهم ظل صليبه، فانفكت قيودهم، وقادهم صاعداً في موكب نصرته: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا.» (أف8:4)
حملوا الجسد بين أيديهم، وساروا به، وهو الذي تسير الأفلاك والنجوم على هداه! من فوق رابية الجلجثة، انحدروا قليلآ حيث أعد يوسف بستانا ونحت فيه قبراً بوحي من الروح و بإلزام. ولم يدر آنئذ أنه وضع الأساس لأقدس بقعة على الأرض، لتبنى عليها أعظم كاتدرائيات العالم عبر كل العصرم والأزمان، ليؤمها شعوب الأرض طراً، وحيث يطرح على أعتابها الملوك تيجانهم، ويحنون الرؤوس والركب. لقد أراد يوسف قبراً لدفن موتاه! فصار قبرا لإعلان القيامة والحياة! وسواء في بستان جثيماني، حيث تألم متوجعاً، أو في بستان الجلجثة, حيث حمل لعنة الخطية في الجسد حتى القبر، فالمسيح يعيد في أذهاننا صورة أدم كيف خالف وهو في بستان الفردوس، وكيف حل عليه العقاب وحلت عليه وعلى أولاده لعنة الموت، وذلك تمهيداً للقيامة من البستان أيضاً التى بها أعاد آدم وبنيه إلى الفردوس مرة أخرى.
«قبر جديد لم يوضع فيه أحد»: مضادة كبرى، أن يستودع جسد الابن الوحيد في قبر, ليس لدى الإنسان وحسب، بل ولدى الملائكة، إذ حسبوها أيضاً مضادة أعظم من أن تحل: «لماذا تطلبن الحى بين الأموات.» (لو6:24)
فإن كان ولا بد أذ يٌسند الجسد القدوس في قبر، فلا بد أذ يُخلى القبر من معناه، فلا يكون قبرا قط فيما كان وفيما سيكون، لأن الذي توسده هو قاهر الموت ومقيم الحياة!
والذي لا تسعه السموات العلا، إن وسعه قبر فهو السماء الجديدة بعينها.
وصخر الدهور، لا يسكن الصخور؛ وإن هو سكنها فهي قُدت من خلود.
والجسد، بالرؤيا العتيقة، هو قسط المن، وهو هو لوحا العهد! فجسد «الكلمة» لا يعتريه لحد؛ وإن احتواه، فهو تابوت عهد الله الذي مقره السماء: «وانفتح هيكل الله في السماء، وظهر تابوت عهده فى هيكله.» (رؤ19:11)
السلام للقبر, مخزن الحنطة، وأهراء الحياة، الذي اختزن فيه «يوسف» مؤونة الدنيا، ليسد عوز عجاف السنين لكل العالمين!
السلام للقبر، الذي انهزمت فيه ظلمة الموت، وخرج النور ليضىء طريق الخلود.
السلام للقبر، الذي احتجز الأطيات والحنوط, التي سقطت عن الجسد، فصنعت منها الكنيسة مسحة الروح والحياة، ليعبر بها أولادها نهر الموت، كعباءة إيليا التي سقطت عنه، ففلق بها أليشع الأردن، وعبر.
الآية اعتذارية عن عدم تقديم كل واجبات التكفين أو التجنيز. فعامل السرعة هو الذي حتم اختصار الإجراءات في تكريم الجسد، من جهة؛ وعامل السرعة بسبب اقتراب السبت، من جهة أخرى، هو الذي حتم اختيار هذا القبر الخاص بيوسف، كونه قريباً من الجلجثة، حيث الصليب.
«هناك وضعا يسوع»: في سفر الأعمال يبرز «فعل الوضع في القبر» كمرادف حتمي لفعل القتل! فالموت لا يصبح موتاً إلا إذا أصبح الجسد موضوعاً في قبر: «... إذ حكموا عليه، ومع أنهم لم يجدوا علة واحدة للموت، طلبوا من بيلاطس أن يُقتل, ولما تتموا كل ما كُتب عنه, أنزلوه عن الخشبة, ووضعوه فى قبر» (أع27:13-29)
يلاحظ القارىء في هذا الوصف المؤثر الحزين اللائم أن وضع الجسد في القبر، بالرغم من أنه تم على يدين حانيتين لصديقين مؤمنين: يوسف ونيقوديموس؛ إلا أن فعل الوضع في القبر كان في نظر القديس لوقا كاتب سف الأعمال، عملاً جحودياً وعدائياً من أمة اليهود التي خانت عريسها وقتلته، ثم دفنته بيديها! وكأن دفنه هو التكميل لشماتة موته. ولكن الدفن، في الوجه اللاهوتي، أعطى توكيداً لموته، وبالتال لاكتمال موجبات الفدية.
لقد شدد المسيح على أن تكون هذه آيته التي يعطيها لجيل فاسق وشرير: «جيل شرير وفاسق، يطلب آية، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام, وثلاث ليال, هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (مت39:12-40). ليى جزافا أن يقول المسيح «قلب الأرض»، لم يقل «تحت التراب» ولا «في باطن قبر» بل في «قلب الأرض» مشيراً إلى المركز الأعمق الذي يحتجز الأرواح، والذي انطلق هو إليه ليقوم برسالته التبشيرية في عالم الأرواح المحبوسة، على مستوى يونان الذي اتخذه المسيح مثلاً, عن قصد, بسب إرساليته بالمناداة لخلاص أهل نينوى.
وهذا ما يراه القديس بولس في نزول المسيح إلى القبر بالجسد, مشيراً إلى نزول آخر على مستوى الكرازة: «إذ صعد إلى العلآء، سبى سبياً، وأعطى الناس عطايا، وأما أنه صعد، فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل, هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف8:4-10). وبهذا يحكم القديس بولس الربط اللاهوتي بين «نزول المسيح» إلى القبر بالجسد ومنه لنزول النفس إلى أقسام الأرض السفلى، وبين صعوده إلى أعلى السموات. فكما أنه، بنزوله، أفرغ من البشرية كل أوزار خزيها وعقوبتها حتى التراب؛ هكذا، بصعوده، ملأ الكل حتى إلى أعلى السمرات. ويلاحظ توكيد بولس الرسول على النزول أولاً، كسبب وعلة وقوة صعوده: «وأما أنه صعد,» فما هو إلا إنه نزل أيضاً أولاً».
فسلام للقبر، محط «قلب» كل الأرض, محط «الأقسام السفلى». والجسد فيه مسجى، بانتظار تكميل الرسالة, بخروج المقيدين في الهاوية, المقيدين بالذل والحديد، المسبيين في ظلمة الخطية، والمأسورين منذ الدهر في الجحيم بقيود من له سلطان الموت.
هوذا أشرق عليهم نور, فك أسرى الرجاء, وسبى سبي الجحيم، وصعد بهم كجبار، وهم في موكب نصرته، وعلى رؤوسهم فرح وابتهاج أبدي.
مكان البشارة: بعد القيامة في أورشليم
رابعاً: القيامة أى «الحياة الجديدة»
القيامة حدث يفوق التاريخ:
1- القيامة من بين الأموات «بذات الجسد» الذي صُلب، وبجروحه، وبطعنة الحربة النافذة إلى القلب؛ هذا الفعل الذي أجراه المسيح في نفسه، هو فعل غريب على البشرية. وكلمة «القيامة » التي دخلت قاموس المسيحية، ليست أصلاً من كلمات بني آدم؛ إنها تختص بعمل لا يختص بالأرض ولا بأية خليقة، إن في السماء أو على الأرض.
القيامة حدث هبط إلينا من السماء: «إن يؤلم المسيح يكن هو أول قيامة الأموات» (أع23:26)، ومفهومه يفوق العقل والحواس والمشاعر والتفكير وأعماق الضمير، لأنه يفوق اللحم والدم. إنه فعل خلقة جديدة في صميم الخلقة العتيقة، أضافت إلى الإنسان سواء في فكره أو كيانه بندا جديداً سماوياً.
لذلك ينبغي أن يستعد الفكر الآن قبل أن نخوض في كيف ظهرت القيامة واستعلنت ورُتبت وسُمعت وجُست ولُمست، يلزمنا في هذا ذهن مستعد لقبول حقائق جديدة لا تقاس بأي حقائق أو قياسات سابقة في تاريخ الإنسان ومفهوهه, وإن كانت هي, في ذات الوقت, حقائق ليست وهمية أو تصورية أو رؤيوية بل حقائق واقعية يمكن أن تمسكها العين مسك اليد، وتلمسها اليد لمس اليد لليد, وتتحسسها كما تحس العظم واللحم. ولكن بالرغم من واقعيتها الصلبة فهي لا تمت إلى واقع الإنسان!
لأنه يلزم أن نعرف من بولس الرسول أن هذا الذي يقوم من الموت هو جسد روحاني: «هكذا أيضأ قيامة الأموات، يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد، يُزرع في هوان ويُقام في مجد، يُزرع في ضعف ويُقام في قوة, يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً, يوجد جسم حيواني (أو نفساني) ويوجد جسم روحاني» (1كو42:15-44). والجسم الروحاني لا يقاس بعد بقياسات الجسم الحيواني؛ إنه يحتاج لعيون روحانية لكي تراه, أوعلى وجه الأصح, يحتاج إلى البعد الروحي في قياسات العين الترابية لكي ترى العين ما لم يكن في حيز طبيعتها.
هذا من جانب الإنسان، أما من جانب المسيح المُقام، فقد أوضح القديس بطرس الرسول, بوصفه قد اختبر شخصياً, أن المسيح أُعطي من الله ألا يصير ظاهراً, بمعنى أنه كان يُظهر ذاته بإرادته للذين انتخبهم ليكونوا شهود قيامته وليس للجميع: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث وأُعطى أن يصير ظاهراً ليس لجميع الشعب بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات.» (أع40:10-41)
والصعوبة كل الصعوبة هي بسبب سلطان الموت الذي استبد بوعي الإنسان أشد استبداد، حتى إنه ألقى ستاراً من الظلمة كثيفة العتامة على كل ما هو بعد الموت! فالموت تصور في شعور الإنسان ولاشعوره أنه العدم، عين العدم! هكذا تجبر الموت على وعي الإنسان وتسيطر ظلماً وعسفاً وكذبأ وبهتاناً. والسبب فى ذلك لا يُخفى على الإنسان الروحي. فالموت بحد ذاته عقوبة، وعقوبة الموت رسخت في كيان الإنسان كعقدة لا تُحل، وعقدة الموت لا يتخللها رجاء بالحياة، أي رجاء, وهكذا قتل الموت فكرة الحياة بعد الموت قتلاُ، وبدد مجد الروح وما للروح! لذلك أصبحت القيامة، وهي الحياة بعد الموت بكل ملء الحياة، داخلة في نطاق المستحيل لمن صدق الموت وعاش عقدته واستسلم لعقوبته: «ويحي أنا الإنسان الشقي, من ينقذني من جسد هذا الموت.» (رو24:7)
لذلك نعود ونقول، إنه بالرغم من أن القيامة ظهرت علنا كحقيقة تُرى وتٌسمع وتُجس بملء الحواس وملء المشاعر، إلا أن عقدة الموت هزت الواقع المنظور والمحسوس هزا عنيفاً وحاولت بكل جهد أن تلغي المنظور إلغاءً، وأن تُدخل الواقع الحي المتكلم أمامها في دائرة الخيال عنوة وتجبرا:
+ «فقال لهما يسوع لا تخافا...» (مت10:28)، مع أن المسيح نفسه كان قائما بشخصه تماماً كما كان!
+ «ولكن بعضهم شكوا...» (مت17:28)، مع أن المسيح أراهم كل العلامات أنه هو هو!
+ «فخرجن سريعاً وهربن من القبر، لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن, ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات.» (مر8:16)
+ «فلما سمع أولئك أنه حي، وقد نظرته (المجدلية)، لم يصدقوا» (مر13:16)، مع أنه سبق وأخبرهم بكل ما سيحدث!
+«وذهب هذان وأخبرا الباقين فلم يصدقوا ولا هذين» (مر13:16)، بالرغم من تكرار الشهادة!
+ «أخيراَ ظهر للأحد عشر، وهم متكئون، ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم, لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام.» (مر14:16)
+ «وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض, قال لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات.» (لو5:24)
+ «فقام بطرس وركض إلى القبر، فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجباً في نفسه مما كان» (لو12:24)
+ «فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده» (لو25:24-26), حتى العقل وحتى القلب تقهقرا أمام حقيقة القيامة!!
+ «وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم: سلام لكم، فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً، فقال لهم: ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم, انظروا يدي ورجلي إني أنا هو, جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه, وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم: أعندكم ههنا طعام... فأخذ وأكل قدامهم.» (لو36:24-43)
+ «ثم قال لتوما هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي, وهات يدك وضعها في جنبي, ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً.» (يو27:20)
بهذا الجزع، والخوف، والرعدة, والحيرة وعدم الإيمان، والتعجب وعدم التصديق، بل والغباء وقساوة القلب، استقبل التلاميذ «القيامة»، ولهم في ذلك الحق، كل الحق، فهم أموات بالخطية وأولاد المائتين الذين ماتوا جيعاً، وعلى بكرة أبيهم, لا يعرفون إلا لغة الموت، أما ما هو بعد الموت فليس له لغة، وإن وُجدت فليس لها وعي يدركها.
كل هذا يجعلنا، حينها نتنرض لرواية القيامة التي حدثت على مستوى التاريخ، أن نتيقن أنها لا تمت إلى التاريخ بصلة. فالموت هو ختم نهاية التاريخ لكل إنسان, وليس من بعد الموت تاريخ لإنسان قط. فأن يقوم المسيح من الموت حياً بجسده، وبجروحه القاتلة وطعنة جنبه النافذة، يتكلم ويُحيي، ويكشف جروحه في يديه ورجليه وجنبه، ويأخذ يد توما ويضعها في مكان الحربة, فهنا حديث ما فوق التاريخ، وأحاسيس خاصة بجسد القيامة، ولغة الحياة الجديدة التي دخلت عالم الإنسان.
إذأ، يتحتم على الإنسان الذي يريد أن يؤمن بالقيامة أن يبدأ يتعلم علم ما بعد الموت, وكلام ما فوق التاريخ، وحديث ما يخص الحياة الجديدة للانسان. وليس معقولاً قط أن يُفسح المجال هنا لناقد يقيس بقياساته العتيقة ما يخص الحياة الجديدة.
كذلك على قارىء القيامة في الإنسانجيل الأربعة أن يستعد ليسمع متفرقات موقعة بغاية الصعوبة على التاريخ من الذين عاينوا وسمعوا وشهدوا، كل على قدر ما اتسع وعيه لإدراك هذا الحدث الجلل الفائق الإدراك الذي لا يمت للطبيعة البشرية بأية صلة. والقارىء إن وعى ذلك تماماً، وعى القيامة وهتف مع الكنيسة الأولى: السيح قام، بالحقيقة قام!
2- ولكي نمهد للوعي المسيحي أن يدرك «القيامة»، يلزم بالأساس أن نضع في الاعتبار اننا في تعاملنا مع المسيح فنحن نواجه «الله ظهر في الجسد» (1تى16:3). فمعجزة المسيح العظمى هي الموت وليست القيامة، لأن السيح هو القيامة والحياة، وهو ابن الله المتعالي جداً عن مفهوم الموت، وحتى بعد تجسده لم يكن فيه خطية واحدة. ومعروف أن الموت هو عقوبة الخطية، فكيف يموت من هو القيامة والحياة، ومن هو المتعالي عن الموت، ومن هو بلا خطية قط؟ فكون المسيح يقبل أن يدخله الموت، فهذه هي معجزة الفداء, وقد استلزم منه أن يقبل الخطية، بمعنى أن يُحسب متعدياً حقيقياً ليتسنى للموت أن يدخله كعقوبة! دفع ثمنها بالفعل ومات وقُبر. ولكنه دفع ثمنها ليس عن نفسه بل من أجل الإنسان ليعفي الإنسان من الموت كعقوبة التعدي أو الخطية.
الموت دخل إلى المسيح، فمات المسيح حقاً، وقُبر، وبقي ميتاً من الثالثة بعد ظهر الجمعة إلى فجر الأحد ما يقرب من 36 ساعة. ولكن لم يستطع الموت أن يتعامل مع جسد المسيح أكثر من انفصال النفس عن الجسد، بمعنى أنه لم يقرب الفساد خلية واحدة من الجسد: «لا تدع قدوسك يرى فساداً» (أع27:2), لأن الجسد كان في حراسة روح الحياة باستعداد القيامة. لذلك, فالمسيح مات ليقوم, ويقوم بذات الجسد في ملء كماله وجروحه عليه, وعلامات الموت صارت برهان وصدق القيامة. والقيامة صارت برهان وصدق التجسد «عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد، وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو3:1-4)
صفحة المجد فى تاريخ الإنسان
انفتاح سفر الحياة الأبدية بقيامة المسيح من الأموات وجراحه عليه
القديس يوحنا يكتب عن قصة القيامة التي عاصرها في أيامه، لكنيسة تعيش القيامة بالفعل على مدى ستين سنة سالفة، وعلى دراية بتاريخ حوادثها من واقع ثلاثة أناجيل.
لذلك, لا نتوقع من القديس يوحنا تدقيقات في السرد التاريخي. ولكنه يطرق المواقف البارزة التي رسخت في قلبه وذهنه، والتي فرضت عليه الإيمان بالقيامة فرضا، عن اقتناع جارف بدد الحزن المريع الذي خلفته حوادث الصلب، وأطاح بشعور الشك والخوف. لذلك جاءت تقاريره عن القيامة كرد حاسم للموت على الصليب بعذاباته.
وكما هبطت حوادث الآلام والموت في تصويراته لحوادث الصلب إلى مستوى العدم واليأس والتشتت والبؤس معاً للتلاميذ، ارتفعت تصويراته للقيامة في المقابل إلى مستوى الإيمان الكامل واليقين والتجمع والفرح لنفس التلاميذ. وهذا الانقلاب الجذري السريع في حياة التلاميذ، هو بحد ذاته برهان حاسم لصدق القيامة وقوة فاعليتها.
محتويات الأصحاح العشرين
المنظر الأول عند القبر (18:1)
1- رؤبة القبر مفتوحاً
( أ ) المجدلية في فجر الأحد تذهب إلى القبر، وتجده مفتوحاً، فتخبر التلاميذ. (1:20-2)
( ب ) بطرس والتلميذ الأخر يركضان نحو القبر، ويجدان الأكفان واللفائف موضوعة بحرص. فيتعجب الأول ويؤمن الثاني (3:20-10) .
2 _ المسيح يظهر للمجدلية:
( أ ) المجدلية تنظر داخل القبر، فتجد الملائكة. (11:20-13)
( ب ) المسيح يظهر للمجدلية بجوار القبر، فتخطىء معرفته، ويلفت نظرها بأن يدعوها باسمها. والمجدلية تبشر التلاميذ أنها رأت الرب. (14:20-18)
المنظر الثاني: في العلية والتلاميذ مجتمعون.
1- فى مساء الأحد المسيح يظهر للتلاميذى ويحييهم، والتلاييذ يفرحون برؤية الرب. ثم يفتتح سفر الارساليات فى العالم. ويؤازرهم بنفخة الروح القدس وسلطان مفغرة الخطايا. (19:20-23)
2 _ المسيح يظهر خصيصا للأحد عشر من أجل توما في العلية.
( أ ) توما كان غائباً عن الاجتماع الاول، ويرفض تصديق القيامة، ويرفض شهادة إخوته التلاميذ (24:20-25)
(ب) في الأحد الثاني الثانى (اليوم الثامن من القيامة)، المسيح يظهر للتلاميذ المجتمعين ومعهم توما، والمسيح يدعو توما أن يرى ويتحسس جروحه. توما يعلن المسيح رباً وإلهاً. والمسيح يطوب الذين آمنوا ولو يروا. (26:20-29)
«أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكرون إلي يجدونني» ( أم17:8)
«وفي أول الأسبوع»: وترجمتها الحرفية: وفي «الأول للسبت»، لأن السبت محسوب أنه تاج الأيام في التعبيرات العبرية، لذلك فكل أيام الأسبوع تُحسب من بعده، أي الأول للسبت يعني (الأحد)، الثاني للسبت يعني (الاثنين). وهكذا. فالسبت يحمل في طياته كل الأسبوع، حتى إن كلمة »السبت» قد تأتي بمعنى الأسبوع كله, ففي قول الفريسي المتفاخر بتقواه: «أصوم مرتين في الأسبوع» (لو18:12) تأتي كلمة «السبت» بمعنى الأسبوع كله، لأنه يحتويه بكرامته.
وقد صار هذا الاصطلاح «أول الأسبوع» أي «الأحد» هو اليوم الذي كرمته القيامة فوق السبت وكل أيام الأسبوع. ويسميه الآباء القديسون اليوم «الثامن» أي يوم ما بعد الأسبوع, أي يوم ما فوق الزمان بالحساب الإنساني. لأنه يوم الرب.
وهذا التعبير يأتي موازياُ لليوم الأول في الخليقة, الذي سُمى «الأسبوع» أي السبعة ايام للخليقة كلها من خلفه, أي بعده وقياساً عليه. ففي اليوم الاول قبل أن توجد الايام الأخرى بدأ الله الخلقة الاولى مبتدئاً: «ليكن نور» (تك3:1). هكذا في «أول» الأسبوع «الأحد» قام المسيح من الموت ليبدأ الخليقة الجديدة: «أنا هو نور العالم (الجديد)».
«باكر والظلام باقي»: لم يهدأ لها بال ولم يغمض لها جفن. لقد أعدت الحنوط مع الزميلات المريمات بعد أن انقضى السبت, ثم باتت تنتظر الفجر، أسرعت أكثر من الباقيات, وكانت أول من ولج باب أورشليم الذي يطل على الجلجثة ... كان أملها الوحيد أن تطيب جسد من أسدى إليها الشفاء والمحبة, وما كانت تظن أنها ستسمع اسمها من فمه مرة أخرى، وتراه حياً بل وأكثر حياة. والذي يذوق محبة المسيح يستعذب سهر الليالى, والإسراع إليه والظلام باق. ولكن فوق كل شيء, يا لشجاعة تلك المرأة العجيبة!
أين التلاميذ؟ أين بطرس والزمرة كلها؟ ألا يتراءى أحد عند القبر باكرأ إلا هذه المرأة؟ وهل للنساء السير في الظلام, واقتحام المخاطر، والتواجد عند القبر خارج أسوار المدينة؟ منذ أن صُلب الرب، والتلاميذ يلوذون بالصمت، وهم مشلولو الحركة, والخوف يعصف بهم من كل جانب. ولكن هذه النكسة التي تكشف عن فداحة عثرة الصليب، هي هي عينها التي تضاف إلى مجد القيامة «وقوتها»، التي استطاعت أن تغير مثل هذه الرعدة والجبانة إلى قمة الشجاعة والمجاهرة وفصاحة البشارة ، التي هدت أركان أعتى إمبراطورية ظهرت في التاريخ، ومعها سرطان الوثنية التي كانت تنخر في جسم البشرية كلها.
إذا جمعنا ما يقوله القديس مرقس على ما يقوله القديس يوحنا فيما يخص ذهاب النسوة إلى القبر، تبرز الحقيقة؛ يقول القديس مرقس: «وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر، إذ طلعت الشمس.» (مر2:16)
واضح من رواية القديس مرقس، أن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة (أم القديس يوحنا) قمن من بيوتهن «باكراً جداً, والظلام باق» كقول القديس يوحنا. ولكن مريم المجدلية سبقتهن مسرعة إلى القبر، فوصلته سريعا قبل أن ينقشع الظلام تماماً، فتسجلت شهادتها أولاً وبمفردها في إنجيل القديس يوحنا، أما أم يعقوب وسالومة فوصلتا ببطء وكانت الشمس قد طلعت. وهكذا تبدو المجدلية الاولى دائماً بين التقيات.
«فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر»:
القديس يوحنا يتميز با ستخدامه الاصطلاح «مرفوعاً» بالنسبة للحجر الموضوع على فوهة القبر، تماما كما وصف فتحة القبر والحجر عليها في قصة لعازر: «وجاء إلى القبر، وكان مغارة، وقد وُضع عليه حجر، قال يسوع ارفعوا الحجر» (يو38:11-39). وهذا يوحي أن الحجر الموضوع على فوهة القبر يكون مستديراً، ساقطاً في مجرى محفور له، يلزم إما رفعه، أو دحرجته، حسب الإنسانجيل الأخرى.
والحجر عادة يكون ثقيلاً ويلزم أكثر من رجل لدحرجته أو رفعه من مكانه، «من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر ... لأنه كان عظيماً جداً.» (مر3:16-4)
«أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكرون إلي يجدونني» ( أم17:8)
«وفي أول الأسبوع»: وترجمتها الحرفية: وفي «الأول للسبت»، لأن السبت محسوب أنه تاج الأيام في التعبيرات العبرية، لذلك فكل أيام الأسبوع تُحسب من بعده، أي الأول للسبت يعني (الأحد)، الثاني للسبت يعني (الاثنين). وهكذا. فالسبت يحمل في طياته كل الأسبوع، حتى إن كلمة »السبت» قد تأتي بمعنى الأسبوع كله, ففي قول الفريسي المتفاخر بتقواه: «أصوم مرتين في الأسبوع» (لو18:12) تأتي كلمة «السبت» بمعنى الأسبوع كله، لأنه يحتويه بكرامته.
وقد صار هذا الاصطلاح «أول الأسبوع» أي «الأحد» هو اليوم الذي كرمته القيامة فوق السبت وكل أيام الأسبوع. ويسميه الآباء القديسون اليوم «الثامن» أي يوم ما بعد الأسبوع, أي يوم ما فوق الزمان بالحساب الإنساني. لأنه يوم الرب.
وهذا التعبير يأتي موازياُ لليوم الأول في الخليقة, الذي سُمى «الأسبوع» أي السبعة ايام للخليقة كلها من خلفه, أي بعده وقياساً عليه. ففي اليوم الاول قبل أن توجد الايام الأخرى بدأ الله الخلقة الاولى مبتدئاً: «ليكن نور» (تك3:1). هكذا في «أول» الأسبوع «الأحد» قام المسيح من الموت ليبدأ الخليقة الجديدة: «أنا هو نور العالم (الجديد)».
«باكر والظلام باقي»: لم يهدأ لها بال ولم يغمض لها جفن. لقد أعدت الحنوط مع الزميلات المريمات بعد أن انقضى السبت, ثم باتت تنتظر الفجر، أسرعت أكثر من الباقيات, وكانت أول من ولج باب أورشليم الذي يطل على الجلجثة ... كان أملها الوحيد أن تطيب جسد من أسدى إليها الشفاء والمحبة, وما كانت تظن أنها ستسمع اسمها من فمه مرة أخرى، وتراه حياً بل وأكثر حياة. والذي يذوق محبة المسيح يستعذب سهر الليالى, والإسراع إليه والظلام باق. ولكن فوق كل شيء, يا لشجاعة تلك المرأة العجيبة!
أين التلاميذ؟ أين بطرس والزمرة كلها؟ ألا يتراءى أحد عند القبر باكرأ إلا هذه المرأة؟ وهل للنساء السير في الظلام, واقتحام المخاطر، والتواجد عند القبر خارج أسوار المدينة؟ منذ أن صُلب الرب، والتلاميذ يلوذون بالصمت، وهم مشلولو الحركة, والخوف يعصف بهم من كل جانب. ولكن هذه النكسة التي تكشف عن فداحة عثرة الصليب، هي هي عينها التي تضاف إلى مجد القيامة «وقوتها»، التي استطاعت أن تغير مثل هذه الرعدة والجبانة إلى قمة الشجاعة والمجاهرة وفصاحة البشارة ، التي هدت أركان أعتى إمبراطورية ظهرت في التاريخ، ومعها سرطان الوثنية التي كانت تنخر في جسم البشرية كلها.
إذا جمعنا ما يقوله القديس مرقس على ما يقوله القديس يوحنا فيما يخص ذهاب النسوة إلى القبر، تبرز الحقيقة؛ يقول القديس مرقس: «وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر، إذ طلعت الشمس.» (مر2:16)
واضح من رواية القديس مرقس، أن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة (أم القديس يوحنا) قمن من بيوتهن «باكراً جداً, والظلام باق» كقول القديس يوحنا. ولكن مريم المجدلية سبقتهن مسرعة إلى القبر، فوصلته سريعا قبل أن ينقشع الظلام تماماً، فتسجلت شهادتها أولاً وبمفردها في إنجيل القديس يوحنا، أما أم يعقوب وسالومة فوصلتا ببطء وكانت الشمس قد طلعت. وهكذا تبدو المجدلية الاولى دائماً بين التقيات.
«فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر»:
القديس يوحنا يتميز با ستخدامه الاصطلاح «مرفوعاً» بالنسبة للحجر الموضوع على فوهة القبر، تماما كما وصف فتحة القبر والحجر عليها في قصة لعازر: «وجاء إلى القبر، وكان مغارة، وقد وُضع عليه حجر، قال يسوع ارفعوا الحجر» (يو38:11-39). وهذا يوحي أن الحجر الموضوع على فوهة القبر يكون مستديراً، ساقطاً في مجرى محفور له، يلزم إما رفعه، أو دحرجته، حسب الإنسانجيل الأخرى.
والحجر عادة يكون ثقيلاً ويلزم أكثر من رجل لدحرجته أو رفعه من مكانه، «من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر ... لأنه كان عظيماً جداً.» (مر3:16-4)
جاءت إلى القبر مسرعة كأول زائر، وخرجت مسرعة كأول بشير، كانت السرعة إلى مستوى الركض تكشف عن مقدار اللهفة وشدة التأثر. ذهبت أولاً لبطرس، ومن هذا نستدل على أن مركز القديس بطرس لم يهتز بالرغم من السقطة التي وقع فيها قبل صياح الديك منذ 40 ساعة لا غير. وتكرار القول عن ذهاب المجدلية «إلى» سمعان بطرس، و«إلى» التلميذ الآخر يكشف عن أنهما كانا يقطنان كل واحد في بيت بعيداً عن الآخر. وكونها تختار هذين الاثنين من بين التلاميذ، يكشف عن التساوي في المركز الأول بين القديسين بطرس ويوحنا, ولكن من شهادة القديس مرقس الأنجيلي، يبدو أن تعيين اسم «بطرس» كان بواسطة ملاك (مر7:16).
«أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه»: هذا التقرير يكشف عن أن المجدلية، إما اكتفت برؤيتها الحجر مرفوعاً عن فم القبر كدلالة على أن الجسد رُفع أيضاً من القبر، سواء بيد اليهود، أو بيد آخرين ليضعوه في المكان الأليق؛ وإما أنها تحققت وهي عند القبر أن الجسد فعلاً كان مرفوعاً وغير موجود. والاحتمال الأول هو الأكثر توقعاً.
وقولها «لسنا نعلم» بالجمع، يفيد أن آخرين يشاركونها هذا التقرير، فربما أن النسوة كن قد حضرن أيضاً وشاركنها فى اكتشاف الحجر مرفوعاً.
و يا له من تعبير غاية في الوقار: «أخذوا السيد»، أي الرب, وهو ينم عن احساس عميق بأن المسيح لا يزال, بعد مأساة الصلب والإهانة والموت والدفن, هو السيد الأكرم والمتعالى, انها المحبة الصادقة, هي التي تصور للعين والقلب كل ما هو عظيم ومجيد لمن تحبه النفس؛ والقول الشائع هنا صحيح: «وعين الحب (الرضى)، عن كل عيب كليلة».
ولكن إذا عدنا إلى شهادة بقية النسوة وبقية شهادة المجدلية، ننتهي إلى حقيقة راسخة مرئية رؤى العين، لخصها القديس لوقا عن لسان تلميذى عمواس في إنجيله في آية واحدة: «بل بعض النساء منا حيرننا، إذ كن باكراً عند القبر. ولما لم يجدن جسده، أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي» (لو22:24-23)؛ ... ثم يكمل شهادة النسوة بشهادة بعض التلاميذ قائلاً: «ومضى قوم من الذين معنا (يقصد بطرس ويوحنا)، إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء، وأما هو فلم يروه.» (لو24:24)
ويلاحظ القارىء في آخر الآية القول: «وأما هو فلم يروه» الذي يفيد أن النسوة رأينه كما قرر القديس متى: «وفيما هما منطلقتان (مريم المجدلية ومريم الأخرى) لتخبرا تلاميذه، إذا يسوع لاقاهما وقال سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له.» (مت9:28 )
لذلك ينبغي لنا أن نفحص جيداً، وبتمعن، في تقرير المجدلية الذي قدمه إنجيل يوحنا باختصار زائد: «أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه»، إذ نلاحظ أنها لم تكن تبكي، بل قدمت تقريرها بعد أن قطعت المسافة كلها ركضا. إذن, فهي كانت مفعمة بمشاعر صاحية يحدوها نوع من الأمل، فلما فقدته عادت إلى القبر الفارغ تبكي.
ثم لينتبه القارىء لحركتين تحملان معهما إحساسأ قوياً بأن شيئاً هاما وخطيرا قد حدث، ركض المجدلية لتخبر بطرس ويوحنا، ثم ركض بطرس ويوحنا بالتالي لاستطلاع الأمر، ثم ركض يوحنا بالذات ركضا فائقا ليسبق. هذا الركض اللاهث المتلهف لمعرفة ما حدث، يحمل معنى الأمل الذي كان شبه نائم في أعماق وجدانهم جميعا: هل قام الرب؟ وأين هو؟ القبر الفارغ وحده, أي عدم وجود الجسد لم يقنع المجدلية، ولم يقنع بطرس كدليل على قيامة الرب، إنهم كانوا يبحثون عن دليل آخر للقيامة. فالمجدلية تعلق على ما بعد القبر الفارغ: «أين وضعوه»، إنها تبحث عما سيب الفراغ للقبر. أما بطرس، فبعد أن نظر القبر الفارغ, وحتى الأكفان نفسها موضوعة وحدها, لم يفهم شيئاً، فالقيامة عنده كانت تحتاج إلى دليل أخر: «فقام بطرس وركض إلى القبر، فانحنى، ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجبا في نفسه مما كان.» (لو12:24)
إذاً، نفهم من هذا جيداً، أن القبر الفارغ وحده وحتى الأكفان التي وُجدت كما هي ملفوفة بلفتها، والجسد منسحب منها، ومنديل الرأس في موضع الرأس وليس بداخله الرأس، لم تكن كافية لتكون العامل الأساسي للايمان بالقيامة, إذا استثنينا إيمان القديس يوحنا، وهو الوحيد الذي رأى القبر فارغاً والأكفان وحدها «فأمن».
أي أن القيامة استعلنت من خلال ظهور الرب نفسه. ولمن ظهر أولاً وكان أكثر ظهوراً؟ إلا لمن كانت المحبة تتأجج في قلبها تأججاً: «الذي يحبني ... أحبه وأظهر له ذاتي.» (21:14)
أما «إيمان» القديس يوحنا بالقيامة مباشرة قبل أن يظهر له المسيح شخصياً، كالمجدلية، فهو نموذج الإيمان الأعلى غير القائم على العيان (النقيض الشديد لإيمان توما). وايمان القديس يوحنا هو الذي استلمته الكنيسة كلها كميراث رسول فائق القدر، وعليه نحن نعيش الآن: «الذي وان لم تروه تحبونه, ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون, فتبتهجون بفرح لا يُنطق به، ومجيد» (1بط8:1)؛ «طوبى للذين آمنوا ولم يروا.» (يو29:2)
(ب) بطرس والتلميذ الآخر يركضان نحو القبر, ويجدان الأكفان واللفائف موضوعة بحرص, فيتعجب الأول, ويؤمن الثاني. (3:20-10) 20:3 فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ
التعبير يوحي بأن كل منهما خرج من بيته في طريقه إلى القبر، فتلاقيا في الطريق، وتابعا الركض معاً نحو القبر. هنا في هذا الموضع، يكشف لنا القديس لوقا في إنجيله عن كيف استقبل التلاميذ عمومأ رسالة المجدلية بفتور ممزوج بعدم التصديق، والتقليل من انفعال المجدلية ومن معها إلى درجة الإتهام بالهذيان: «... اللواتي قلن هذا للرسل، فتراءى كلامهن لهم كالهذيان، ولم يصدقوهن.» (لو10:24-11)
ولكن يخص إنجيل القديس لوقا بطرس من دون التلاميذ بمراجعة موقفه بسرعة، وقيامه وذهابه للقبر راكضاً، كما جاء في إنجيل القديس يوحنا: «فقام بطرس وركض إلى القبر» (لو12:24). ولكن في موضع آخر من رواية القديس لوقا وحينما يروي بشارة النسوة على لسان تلميذي عمواس، نستشف أن بطرس لم يذهب وحده إلى القبر هكذا: «بل بعض النساء منا حيرتنا، إذ كن باكراً عند القبر ولما لم يجدن جسده، أتين قائلات: إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا، كما قالت أيضاً النساء، وأما هو فلم يروه.» (لو22:24-24)
عن قصد واصرار وللفت نظر القارىء، يسجل القديس يوحنا لنفسه هذا السيق، ومخطىء من يقول بعامل السن، أن هذا شاب وذاك متقدم في السن، فالآيات القادمة تخطىء مثل هذا الزعم, لأن السرعة في الجري لو كانت من رعونة الشباب، ما تأخر يوحنا عامداً ولم يدخل القبر، إذ ترك هذا السبق لبطرس توقيرا واحتراماً للسن.
إذاً فالسبب واحد ووحيد هو أن يوحنا هو: «التلميذ الذي يحبه يسوع». وهذا قصد القديس يوحنا أن يوحي به للقارىء ليفهمه. فمحبة المسيح له جعلت له أجنحة يطير بها أكثر من أن يجري, هذا لم ينسه القديس يوحنا قط، فقد كان يومأ فريداً وساعة فريدة في حياته. وليفهم القارىء أن القديس يوحنا أخفى اسمه واستبدله بـ «التلميذ الذي يحبه يسوع»، وعلى مستوى إنجيله كله يبرهن على صدق دعواه. وهنا, فأن يسبق يوحنا بطرس فهذه مسألة تعبر عما تفعله المحبة. فالذي يريد أن يجري إلى المسيح ويسبق، تلزمه قوة المحبة. أما لماذا يصر القديس يوحنا أن يسجل لنفسه هذا التفوق على بطرس, فهو لكي يوحي للقارىء أيضاً تلميحا لماذا اختاره المسيح ليسلمه أمه، وليس بطرس.
كان المكان الذي يوضع فيه الجسد في غرفة منخفضة نوعاً ما عن الغرفة الخارجية للقبر حيث كانت تجتمع النسوة للتحنيط والبكاء؛ فكان على الواقف خارج غرفة الجسد أن ينحني على فتحة الباب لينظر ما بداخل غرفة الدفن حيث الجسد يكون مسجى على مصطبة.
أما كون يوحنا لم يدخل، فهذا قطعاً ليس لعامل الخوف أو الرهبة أوالنجاسة من لمس القبر, كما يقول بعض الشراح؛ ولكن لأن بطرس كان قد وصل، فأعطاه الفرصة ليكتشف الأمر أولاً. والذي يوضح ذلك، أن فعل «نظر» الذي استخدمه القديس يوحنا في تعبيره عن استطلاعه لما في داخل القبر جاء باليونانية ( )، ويفيد النظرة العابرة البسيطة من بعد. أما الفعل الذي استخدمه لاستطلاع بطرس لما دخل القبر فهو ( )، ويفيد التطلع مع التأمل الفاحص عن قرب. وما نشأ عن اختلاف النظرتين: البسيطة والمتعمقة، أن بطرس استطاع أن يرى منديل الرأس الذي كان داخلا على بعد, أما يوحنا فلميتره.
وكل هذه الدقة في وصف القديس يوحنا لحادث دخولهما القبر، كانت بسبب انطباع هذه الحوادث بشدة في ذهن القديس يوحنا وهو يصفها من واقع حضورها في ذهنه، الذي لم يفارقه أكثر من ستين سنة!!
وليلاحظ القارىء أن الفكر الذي كان طاغياً على كل من بطرس ويوحنا، والذي دعاهما إلى الجري ودخول القبر والفحص, كان بسبب رواية المجدلية أن: «السيد أخذوه». فكان السؤال الذي يفتشون عن جواب له هو: هل الجسد قد أُخذ من القبر فعلاً؟ وكيف؟ ومن هم الذين تجرأوا على ذلك؟
ولعل رواية القديس. يوحنا هذه، وكيف ابتدأ بخبر: «أخذوا السيد، ولسنا نعلم أين وضعوه»، بالرغم من أنها جاءت معطلة للتفكير في القيامة، فقصد الروح القدس والوحي منها كان هو فحص القيامة فحصاً متأنياً؛ لا يبدأ من الصفر فقط بل ومن تحت الصفر. فهذا الخبر السلبي: «أخذوا السيد، ولسنا نعلم أين وضعوه»، هو فرض تكذيب القيامة، من هذا المستوى بدأ القديسان بطرس ويوحنا معاً يفحصان موضوع القيامة حتى انتهى بهما الأمر إلى يقين الظهور الإلهي.