تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
6- كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هَذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ

‏لا يزال التسلسل الإعلاني عن الكلمة يسير في مجراه، من الأزلية عند الله ثم إلى الخلق، ثم إلى الحياة في الناس، وإلى النور. وهنا يبدأ القديس يوحنا ليدخل «بالكلمة«» إل مجال التاريخ ‏الانجيلي.
‏والملاحظ أن الأناجيل بعد أن استوفت قصة ميلاد المسيح، بدأت على الفور تاريخ الإنجيل بذكر يوحنا المعمدان كبدء للخدمة العملية والكرازة. هذا ما سار عليه القديس يوحنا، إذ بعد أن استوفى استعلان وجود المسيح السابق على ميلاده أي تجسده، بدأ يؤرخ. ولكن أسلوب القديس يوحنا يرتفع دائمأ بالتاريخ إلى ما هو فوق التاريخ. فإن كل كلمة ذكرها عن المعمدان وضعها في القابل لما ذكره عن المسيح، ليجعل المقارنة تنطق بألوهية المسيح.
فـ كان "إنسان" يقابلها "وكان الكلمة الله"
ثم «مرسل من الله» يأتي الفعل مبنياً للمجهول بصوم ة تجعل التركيز يقع على الإرسالية في حد ذاتها وعلى هدفها، فهي إرسالية إلهية ولكن المرسل "إنسان اسمه يوحنا". والقديس يوحنا يركز على الإرسالية أنها من الله باعتبار أن هذه الارسالية، وليس شخصه، هي التي تعطي المعمدان أهميته.
‏«اسمه يوحنا» هنا لو رجعا إلى إنجيل لوقا (59:1-66‏) وقرأنا قصة تسمية يوحنا، نفهم لماذا ركز القديس يوحنا الإنجيلى على هذا الاسم من حيث القصد من التسمية, ثم معنى الاسم. فالقصد في قصة إنجيل لوقا مربوط بعلاقته بمجيء المسيح، والمعنى «الله يتحنن» يشير إلى تحنن الله بإرسال المخلص. فالتسمية والاسم بالنسبة للمعمدان يخدمان الإعلان عن المسيح الكلمة المتجسد. كذلك لا ننسى أن اسم كاتب الإنجيل هو يوحنا. فبالرغم من أن الأناجيل الثلاثة ذكرت المعمد بأسمه "يوحنا" مضافأً إليه لقبه الشهير جداً "المعمدان"، حتى يميزوه عن يوحنا الإنجيلي، إلا أذ يوحنا نفسه لم يذكر لقب المعمدان مكتفياً بيوحنا، لأنه ليس ما يدعو للتمييز فهو كاتب الإنجيل. وهذا ما أخذه كثير من الشراح لإثبات أن كاتب الإنجيل الرابع هو يوحنا.
‏هذا جاء للشهادة ليشهد للئور:
‏"هذا" كحرف إشارة يفيد في أسلوب القديس يوحنا العودة إلى الشخص بكل صفاته المذكورة، حيث يجعل مجيئه لقصد محدد وهو«الشهادة للنور». وهذا هو محور كل ما سيجيء عن المعمدان في إنجيل يوحنا. ويلاحظ كيف يحصر القديس يوحنا عمل المعمدان في "الشهادة"، ثم كيف يعود ويؤكد حدود هذه الشهادة أيضاً، فهو جاء للشهادة فقط، وشهادته هى للنور فقط. فهو يركز على الشهادة وليس الشاهد نفسه.
‏وهنا يتبادر إل ذهن القارىء سؤال: ولماذا هذا التحديد والحصر والقصر؟؟
‏للرد نقول: إن عاملين أحدها إيجابي والأخر سلبي كانا يتحكمان في الحديث عن المعمدان بالنسبة لإنجيل يوحنا وخاصة في زمن كتابته:
‏العامل الاول الإيجابي: هو أهية شهادة المعمدان القصوى بالنسبة للانجيل كونه ممثلاً للعهد القديم بأنبيائه والمعاصر للمسيح, علماً بأن الشهادة تحتل في إنجيل يوحنا مركزاً هاماً.
(وترد فيه 14 مرة، في حين ترد في إنجيل مرقس 3 ‏مرات، وفي إنجيل لوقا مرة واحدة، وتغيب من إنجيل متى تاماً. كما يرد الفعل "يشهد" 33 ‏مرة في إنجيل يوحنا، ولا يرد نهائياً في إنجيل مرقس ويرد مرة واحدة في كل من إنجيلي متى ولوقا). وهكذا يستخدم إنجيل يوحنا الشهادة أكثر من أي سفر آخر في العهد الجديد.
‏وتوجد في إنجيل يوحنا سبعة أنواع من الشهادات للميسح، منها ثلاثة مختصة بالآقانيم الثلاثة:
‏شهادة الآب: 31:5 و 34 و37 و 18:8.
‏شهادة المسيح لنفسه: 14:8 و 18 و 11:3 و 32 و 37:18.
شهادة الروح القدس: 39:5 و 46.
‏ثم شهادة الآعمال التي يعملها المسيح: 36:5 و 25:10 و11:14 24:15.
ثم شهادة الأسفار المقدسة: 39:5 و 46 ‏.
والشاهد السادس هو يوحنا المعمدان.
أما الشهادة السابعة فهي لمجموعة عديدة من الآشخاص منهم التلاميذ 27:15 و 35:19 و 24:21، ثم السامرية في بكور الرسالة، وكذلك نثنائيل، وبطرس في الختام. كما لا ننسى شهادة توما الفائقة القدر، وشهاد‏ة الآعمى الذي صار بصيراً.
‏على أن الشهادة كما يقدمها القديس يوحنا فى شخص المعمدان هي بمثابة وضع الرقبة تحت سيف القاتل. فالذي يشهد للمسيح أنه ابن الله كان عليه أولاً أن يفرط في نفسه وفي الحياة, ولذلك تأتي شهادته توكيداً "للحق" الذي كان عنده أعلى قيمة من الحياة. ويسلمنا القديس يوحنا إنجيله محمولاً على رقاب كثيرة أولهم المعمدان.
العامل الثاني وهو السلبي: لأنه قامت شيعة يهودية نصف مسيحية تتعصب للمعمدان كونه هو المسيح, نسمع عن بدايتها في إنجيل لوقا: "وإذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح...»» (لو 15:3‏). ثم في سفر الأعمال: "ثم أقبل إلى أفسس يهودي اسمه أبلوس إسكندري الجنس رجل فصيح مقتدر في الكتب. كان هذا خبيرأ في طريق الرب (التنبؤات عن المسيا)، وكان وهو حار بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق ما يختص بالرب عاوفاً معمودية يوحنا فقط" (أع 24:18-25)، كذلك: "بولس بعد ما اجتاز في النواحي العالية جاء إلى أفسس، فإذ وجد تلاميذ قال لهم هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم. قالوا له ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس. فقال لهم فبماذا اعتمدتم, فقالوا بمعمودية يوحنا. فقال بولس إن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلآ للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع. فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع. ولما وضع بولس يديه عليهم حل الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأرن. وكان جميع الرجال نحو اثني عشر" (أع 1:19-7)
‏وفي ختام القرن الأول بلغت هذه الشيعة شأواً كبيراً بلبل الكرازة، هذا مما جعل القديس يوحنا يركز على كون المعمدان جاء للشهادة فقط ليشهد للنور ولم يكن هو النور, واستطرد في توضيح ذلك كلما جاء ذكر المعمدان.

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
"جاء للشهادة ليشهد للنور":
‏على ضو ما قيل عن المعمدان نفهم لماذا يقصر القديس يوحنا مجيء المعمدان للشهادة فقط ، حتى إنه لا يذكر معمودية المسيح تحت يد المعمدان، وذلك عن قصد, لأنه يبدو أن هذه أخذت خطأ لتضيف من قدر عظمة المعمدان لا لتضيف من قدر تواضع الرب. كما أن القديس يوحنا يوضح في النهاية ومن فم المعمدان أنه حتى وان كان قد أرسله الله ليعمد, فهذا لكي يظهر المسيح لإسرائيل.
ولا يتبادر إلى الذهن أن القديس يوحنا كان ينتقص من شخصية المعمدان في شيء، بل أعطاه صفات مكرمة "مُرسل من الله" و "صديق العريس"، وسجل له أعظم شهادة للمسيح جاءت عل لسان إنسان: «وأنا قد رأيت وشهدت أذ هذا هو ابن الله» (يو34:1)؛ « هوذا حمل الله» (يو 36:1)
"ليشهد للنور":
‏شهادة المعمدان للنور في عُرف القديس يوحنا لا تزال محصورة في مفهوم "نور الكلمة", إذ لم يذكر التجسد بعد. فالمعمدان يحمل رسالتين:
الرسالة الاولى: تختص بالأنبياء، إذ لا ينبغي أن ننسى أنه حامل لروح إيليا عظيم الأنبياء الذي أغلق السموات وفتحها بكلمة، والوحيد من بين كافة الأنبياء الذي ارتفع حياً إلى السماء عياناً في مركبة نارية وخيول نارية. والمسيح يشهد للمعمدان أنه فعلاً كان إيليا، مرة تلميحاً ومرة تصريحاً: «بل ماذا خرجتم لتنظروا، أنبياً؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي. هذا هو الذي كُتب عنه "ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيى، طريقك قدامك. لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه» (لو26:7-28)
‏وهذا الملاك الذى يقول عنه المسيح هنا هو وارد فى سفر ملا‏خى النبى آخر أسفار العهد القديم، ووارد على صورتين، إحداهما فى هذه الصورة في (ملاخي 1:3)، والصورة الأخرى "‏هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب, اليوم العظيم والمخوف.» (ملاخى 5:4)
أما المرة الاخرى التي صرح فيها المسيح أن المعمدان هو هو إيليا فجاءت هكذا: «ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه. لأن جيع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا, وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي, من له أذنان للسمع فليسمع» (مت 12:11-15).
‏ومرة أخرى أكثر وضوحاً: "وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً. فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء. ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم. حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" (مت 10:17-13).
‏إذن، فالمعمدان يتكلم ويشهد للنور بروح إيليا كمن يمثل العهد القديم بكل أنواره وأمجاده وشجاعته. فلما انتقل القديس يوحنا الإنجيلي من إضاءة النور العامة للانسان عامة "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس"، و«النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه» في مفهومها العام أيضأ، أراد أن يخطو أول خطوة في وصف إضاءة النور الخاصة والأكثر إستعلاناً لشعب خاص, وذلك بواسطة الأنبياء، فقدم القديس يوحنا شخص المعمدان كمن يمثل النبوة في مجملها وفي أشد لمعانها «نبي وأعظم من نبي» , «وليس من بين المولودين من النساء من هو أعظم منه».
الرسالة الثانية للمعمدان تختص بأنه هو السابق الصابغ الذي جاء ليعد طريق الرب، أي يمهد للنور، وليس الشاهد فقط بل والمشاهد أيضاً. وهذا أعطاه أن يكون «أعظم من نبي»، فهو صديق العريس أو «اشبينه», له الكرامة الاولى في حفلة ظهور العريس. ولكن الخطأ المريع أن يٌظن أنه العريس، وهو مجرد مصباح أضاء في آخر الليل في مطلع الفجر حتى خرجت الشمس من حجابها، وحينئذ جيد أن يُطفأ المصباح: «فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.»(يو 29:3-30)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
"جاء للشهادة ليشهد للنور":
‏على ضو ما قيل عن المعمدان نفهم لماذا يقصر القديس يوحنا مجيء المعمدان للشهادة فقط ، حتى إنه لا يذكر معمودية المسيح تحت يد المعمدان، وذلك عن قصد, لأنه يبدو أن هذه أخذت خطأ لتضيف من قدر عظمة المعمدان لا لتضيف من قدر تواضع الرب. كما أن القديس يوحنا يوضح في النهاية ومن فم المعمدان أنه حتى وان كان قد أرسله الله ليعمد, فهذا لكي يظهر المسيح لإسرائيل.
ولا يتبادر إلى الذهن أن القديس يوحنا كان ينتقص من شخصية المعمدان في شيء، بل أعطاه صفات مكرمة "مُرسل من الله" و "صديق العريس"، وسجل له أعظم شهادة للمسيح جاءت عل لسان إنسان: «وأنا قد رأيت وشهدت أذ هذا هو ابن الله» (يو34:1)؛ « هوذا حمل الله» (يو 36:1)
"ليشهد للنور":
‏شهادة المعمدان للنور في عُرف القديس يوحنا لا تزال محصورة في مفهوم "نور الكلمة", إذ لم يذكر التجسد بعد. فالمعمدان يحمل رسالتين:
الرسالة الاولى: تختص بالأنبياء، إذ لا ينبغي أن ننسى أنه حامل لروح إيليا عظيم الأنبياء الذي أغلق السموات وفتحها بكلمة، والوحيد من بين كافة الأنبياء الذي ارتفع حياً إلى السماء عياناً في مركبة نارية وخيول نارية. والمسيح يشهد للمعمدان أنه فعلاً كان إيليا، مرة تلميحاً ومرة تصريحاً: «بل ماذا خرجتم لتنظروا، أنبياً؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي. هذا هو الذي كُتب عنه "ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيى، طريقك قدامك. لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه» (لو26:7-28)
‏وهذا الملاك الذى يقول عنه المسيح هنا هو وارد فى سفر ملا‏خى النبى آخر أسفار العهد القديم، ووارد على صورتين، إحداهما فى هذه الصورة في (ملاخي 1:3)، والصورة الأخرى "‏هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب, اليوم العظيم والمخوف.» (ملاخى 5:4)
أما المرة الاخرى التي صرح فيها المسيح أن المعمدان هو هو إيليا فجاءت هكذا: «ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه. لأن جيع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا, وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي, من له أذنان للسمع فليسمع» (مت 12:11-15).
‏ومرة أخرى أكثر وضوحاً: "وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً. فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء. ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم. حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" (مت 10:17-13).
‏إذن، فالمعمدان يتكلم ويشهد للنور بروح إيليا كمن يمثل العهد القديم بكل أنواره وأمجاده وشجاعته. فلما انتقل القديس يوحنا الإنجيلي من إضاءة النور العامة للانسان عامة "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس"، و«النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه» في مفهومها العام أيضأ، أراد أن يخطو أول خطوة في وصف إضاءة النور الخاصة والأكثر إستعلاناً لشعب خاص, وذلك بواسطة الأنبياء، فقدم القديس يوحنا شخص المعمدان كمن يمثل النبوة في مجملها وفي أشد لمعانها «نبي وأعظم من نبي» , «وليس من بين المولودين من النساء من هو أعظم منه».
الرسالة الثانية للمعمدان تختص بأنه هو السابق الصابغ الذي جاء ليعد طريق الرب، أي يمهد للنور، وليس الشاهد فقط بل والمشاهد أيضاً. وهذا أعطاه أن يكون «أعظم من نبي»، فهو صديق العريس أو «اشبينه», له الكرامة الاولى في حفلة ظهور العريس. ولكن الخطأ المريع أن يٌظن أنه العريس، وهو مجرد مصباح أضاء في آخر الليل في مطلع الفجر حتى خرجت الشمس من حجابها، وحينئذ جيد أن يُطفأ المصباح: «فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.»(يو 29:3-30)

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
«لكي يؤمن الكل بواسطته»
هذه الجملة مرتبطة بسابقتها ومتوقفة عليها، فهو جاء "ليشهد للنور"، "ليؤمن الكل" وهنا تكون الشهادة هى السبب المفروض لإيمان "الكل", حيث الشهادة ستتضح بعد ذلك أنها شهادة من رأى وسمع: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله" (يو 34:1).
و«الكل» هنا تمتد لتشمل الشعب المرسل إليه وكل من تبلغه الشهادة هذه على مدى الدهور، لأن هذه كانت دائماً هي روح الأنبياء في رؤيتهم وشهادتهم للمسيا النور القادم: "نوراُ للامم ومجدا لشعب إسرائيل". ولذلك يكون في كلمة «الكل» انفتاح الدعوة الجديدة على العالم أجمع بكل وضوح. ولكن للقديس يوحنا تلميح لا يُخطىء في قوله «الكل» فهو يستثني "البعض" الذين آمنوا بالمعمدان كونه المسيا الآتى وكانوا قلة ضالة.
«لم يكن هو النور, بل ليشهد للنور»:
‏لو لم يكن قد أخطأ الناس في تقييم المعمدان ما اضطر القديس يوحنا الإنجيلي أذ يبرز» في هذه المقارنة الأليمة. ولكن أليس القديس يوحنا نفسه هو التلميذ السابق للمعمدان؟ ومن شهادة المعمدان للنور الحقيقي نقل يوحنا تلمذته من المعمدان للمسيح؟ (يو 35:1-39). فالأن هو أقدر من يقيم نور المعمدان عل نور المسيح.
وفي الحقيقة فإن النور لا يحتاج إلى شهادة بل رؤيا، ولكن لأن الناس أصبحت لا ترى، لزمت الشهادة. فشهادة المعمدان شهادة راء بالدرجة الاولى. المعمدان رأى النور فانعكس النور عليه فاستضاءه فأخطأ الناس الرؤيا وحسبوه هو النور، ولكنه انعكاس النور ليس إلا: كمصباح استمد نوره من يد النور. والمصباح لا يضيء إلا في «موضع» مظلم في غياب النور، شأنه شأن كل نبوة: «وعندنا الكلمة النبوية, وهي أثبت, التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم» (2بط 19:1)، "أنا يسوع أرسلت ملاكي لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس. أنا أصل وذرية داود كوكب الصبح المنير" (رؤ16:22)
‏ولما فتح القديس زكريا الكاهن فمه ليتنبأ ساعة ميلاد المعمدان وصف هذا المنظر عينه: «وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبآ قائلآ: ... وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه. لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم. بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المُشرق من العلاء ليضىء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام.» (لو 67:1-79)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
9- كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ.

‏عودة مرة أخرى إلى حركة النور الدائمة والمستمرة نحو التجسد: أولاً البدء والآزلية حيث "الكلمة"، ثم إلى الخلق، ثم إلى الحياة واستعلانه "نور الناس"، ثم إلى العمل الدائب ضد الظمة في كل مجالاتها، ثم توقف للشهادة للنور والتعرف به باعتباره النور الوحيد الكامل والدائم والمستمر. ثم استعلان صفته هنا لأول مرة بأنه هو "النور الحقيقي".

والحقيقي هنا لا تفيد أكثر من أنه هو وحده الذي يكشف الحق الكلي، وأنه هو الحقيقي وغيره غير كامل وغير دائم وغير مستمر. وهذا الاصطلاح يُستخدم في إنجيل يوحنا كثيراً, مثل الخبز «الحقيقي» النازل من السماء، والكرمة «الحقيقية» حيث الآب هو الكرام!! والساجدون «الحقيقيون» الذين يسجدون بالروح والحق. و«أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 3:17). والحقيقي هو ما يمت إلى «الحق».

فإن كان المعمدان "نوراً" فهو ليس "النور الحقيقي", ولكنه نور عل مستوى المصباح المنار غير الكامل وغير الدائم وغير المستمر.

وقوله «ينير كل إنسان» لها إفادة كبيرة مترامية الأطراف تعني أنه وهو النور الحقيقي الذي يكشف الله ويعلنه، وليس نوراً أخر ولا واسطة أخرى مهما كانت توصل إلى الل, فهو الواسطة والطريق الوحيد إلى الله. كل من يأتي إلى هذا النور أو كل من أتى إلى هذا النور الحقيقي تنفتح بصيرته ويستعلن الله فيه، أي يرى نفسه أمام الله, أي أمام خالقه ونافخ روحه في أنفه، أي يتعرف على مصدر وجوده وحياته. وليس ذلك فقط بل كل من يدخل في هذا النور الحقيقي، أو يدخل هذا النور الحقيقي إليه, فإنه يرى العالم نفسه رؤية أخرى غير مظهر العالم، يراه في الله ويرى الله فيه ويدرك لاهوته بالمصنوعات التي فيه كما يقول بولس الرسول، أي يرى أصل العالم كما يرى أصل وجوده كإنسان.

وهكذا بالمقابل، يكون الإنسان الذي لا يأتي إل النور لأن أعماله شريرة، فإنه لا يرى نفسه ‏أمام الله ولا يرى الله في العالم، أي لا يرى الله جملة وتفصيلاً، فيحيا فاقداً رؤية حقيقة نفسه، أي يرى نفسه في الظلام.

ومن هنا نفهم, تجاوزاً، أن للنور عملاً سلبياً. فهو إذا رفضه إنسان انعمت عيناه. وهذا معنى القول: «أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم» (يو 40:12). وهنا يظهر بوضوح قول المسيح للفريسيين: "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون" (يو 39:9)

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
"الذى ينير كل إنسان":

‏لقد سبق القديس يوحنا وأوضح أن «الحياة كانت نور الناس». فالحياة الآبدية التي النور جوهرها، هذا النور الذي يعتبر عمله الآول والآعظم هو الإنفتاح على وعي الإنسان لقبول الحقائق الإلهية، هذه الحياة الأبدية التي كانت في "الكلمة عند الل" والتي صارت عاملة في الخليقة, كان عملها في الإنسان هو سكب النور لتدريب وعي الإنسان. ولكن عاد القديس يوحنا وقال إن الظلمة قد طغت على الإنسان فمنعته من إدراك كنه هذا النور وحقيقته؛ الآمر الذي دعا الله أن يجعل «الكلمة» و«النور» وسيطاً مساعداً هم الأنبياء. ولكنه ينبه أيضأ أن الأنبياء، الذين جاء المعمدان ليمثلهم بروح إيليا وقوته, لم يكونوا هم النور بل مجرد شهود له, مجرد مصابيح مضاءة. ونحن نعلم أيضاً أن شهادتهم لم تُقبل! مما دعا الله أن يجعل « النور» يأخذ طريقه الأخير نحو الإنسان على مستوى التجسد. فالنور الذي ينير كل إنسان بلغ قوته العظمى في المسيح "أنا هو نور العالم" (يو 12:8).

وقول القديس يوحنا أن «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان» هنا يصف النور الحقيقي من واقح عمله الأساسي وليس من واقع النتائج, فالنتيجة دائمأ جاءت لا تساوي عمل النور وقوته. فالإنسان دائمأ وعلى جميع الآحوال لا يعوزه هذا النور في الإحساس به في القلب والضمير وفي الخليقة من حوله وفي الحياة التي تعج بآيات الله الناطقة بنوره ووجوده؛ ولكن أيضأ فالإنسان دائمأ وعلى جميع الأحوال لم يرتفع لمستوى حب الله وعنايته وفاعلية النور الإلهي العامل فيه ومن حوله. وهذا بالذات كان السبب الذي جعل الله يزيد من استعلان ذاته ويقترب أكثر فأكثر من الإنسان على مدى التاريخ.

ونلاحظ أن حالة الإستمرار التي أتت بها صيغة الفعل «الذي ينير» تكروت كثيراً في مواضع أخرى مما يكشف عن ديمومة في مقاصد الله منذ البدء، للا ستمرار في الإ تصال بالإنسان بكافة ‏الطرق، فنحن نسمع المسيح يقول: «هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل مه الإنسان ولا يموت» (يو 5:6). وهذا نفسه وان كان يشير الى التجسد, وكأنه نزول دانم ليمد الإنسان بالحياة الدائمة حتى لا يموت الإنسان، فكم بالحري النور النازل باستمرار: «أنا هو نور العالم» (يو 12:8)، والحياة النازلة: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14). والحب الئازل: «هكذا أحب الله العالم» (يو 16:3). هكذا يكشف عن تنازل الله المستمر نحو الإنسان حتى "صار جسداً"

ثم عودة مرة أخرى هنا لتركيز القديس يوحنا على «كل انسان», فإن كان يبدو أمراً صعباً فهم كيفية استنارة «كل إنسان» بـ «الكلمة» عملياً؛ ولكن لينتبه القارىء كيف سيتم هذا رغماً عن كل إنسان، عندما يتجسد الكلمة أخذاً طبيعة كل إنسان أو كل البشرية لنفسه، لا ليضيئها وحسب, بل لتتحد بالنور إتحاداً أزلياُ!! جاعلاً النور بذلك حقاً مشروعاً لكل إنسان بلا تمييز، كل من يؤمن! لأن الإنسان هو من خلقة النور ولأن النور هو أصل خلقة الإنسان!! لذلك حق للمسيح أن يقول: "أنا هو نور العالم" لأنه هو خالقه. كما يحق أن يقال بكل تأكيد أن ««العالم به وله قد خُليق» (كو 16:1). فالكلمة خلق العالم ليتجلى فيه، ولينتهي العالم إليه!!

"كان أتياً الى العالم":
‏تقرأها بعض المصادر على أساس أنها صفة «لكل إنسان»، أي "كل إنسان أت إل العالم"؛ ولكن الأصح عند معظم الثقاة أنها خبر للنور الحقيقي: "كان النور الحقيقي أتياً إلى العالم". ومما يرجح هذه القراءة أنه بعد ذلك أتى فعلاً إلى العالم بالتجسد!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
10- كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ.

يلزم أن ننتبه إل الرؤيه المتسعه لمفهوم القديس يوحنا عن الكلمة وعلاقته بالعالم, وذلك بالتفريق بين «كل شيء به كان» ويعني العالم بكل ما فيه، وبين "النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه" وهنا الظلمة هي ظلمة العالم والإضاءة هي استعلان الله لكل من له إدراك في العالم أي الإنسان، فالعالم هنا هو عالم الإنسان. أما قوله: "كان النور الحقيقي آتيأ إل العالم"، فهنا انتقال أساسي من عمل الكلمة على مستوى الخلق والإضاءة إل عمل الكلمة بالحضور الشخصى للاعلان عن الله.
ومن ها نفهم قوله "كان في العالم" بمعى أنه كان عاملاً بالإضاءة أي بالاستعلان ‏الإدراكي لكل من له إدراك, كما نفهم "وكون العالم به" بمعنى الخلقة ودوام الخلقة متصلة بخالقها، أما النتيجة الدائمة أو رد فعل العالم، وباستمرار فهو «لم يعرفه العالم». وهنا «لم يعرفه العالم» لا يعني عدم المعرفة بالإستضاءة العامة، ولكن عدم التعرف الشخصي عليه وعدم الاستجابة له أخلاقياً، وبالتالي الوقوف في الظلمة ومع الظلمة ضد الله، لأن عدم الإذعان للنور هو التحرر من سلطانه، وكأن لا خالق له,بل وكأنه هو خالق ذاته أو موجواً من تلقاء ذاته، وهذه هي نظرة الملحدين تماماً ونظرة اللاأدريين ومؤلهي العالم.
‏وهنا يتضح أيضاً عمق التغير الروحي لثنائية وجود النور والظلمة في لاهوت القديس يوحنا. فالظلمة في العالم أو في الإنسان ليس الله صانعها، بل الإنسان وحده مسئول عن صنعها بنفسه بالسير في الخطية والشر. فالظمة ليست كالنور، فهي ليس لها أصل وجودي كالنور، بل هي من إفرازات التاريخ والسلوك الإنساني. وبكل اختصار تكون الظلمة هي غياب النور، ويكون عمل النور في الإنسان هو العودة إلى الله ، أي الخلاص، وعمل الظمة بالمقابل هو الدينونة، أي الحرمان من الله. وهكذا أيضأ ينقسم العالم في لاهوت القديس يوحنا إلى عالم قابل للنور والخلاص، وهو العالم الذي أحبه الله، وعالم رافض للنور وواقع تحت الرفض والدينونة. وهذا هو الذي حدا بالكلمة أو جعله يتخذ الخطوة الأكثر استعلاناً وهي: المجيء الشخصي .
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
11- إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ.

التدرج السابق في الاستعلان كان يبشر بهذه النتيجة الحتمية, فالعالم من أدم حتى إبراهيم ثم موسى لم يُعدم النور الإلهي، ولم يمتنع عنه صوت الله، ولم يمتنع على الإنسان أن يدعو باسم الرب. فنحن نسمع مبكراً جداً في أيام شيث بن أدم أن في أيامه ابتدأ الإنسان أن يدعو باسم الرب: «ولشيث أيضاً ؤلد ابن فدعا اسمه أنوش, حينئذ ابتدىء أن يدعى باسم الرب» (تك26:4). معنى هذا أن الإنسان كان في هذا الزمان السحيق يعرف الله معرفة شخصية وبالاسم!!
‏ثم بعد ذلك الزمان بعدة مئات من السنين نسمع بشخصية قديسة على المستوى العملي ارتفع بمعرفة الله والمناداة باسمه إلى مستوى السيرة السماوية والمسيرة العاشقة مع الله, بنوع يفوق تصورنا وكأنها زمالة أو أخوية: «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (24:5)
‏كذلك وبعد ذلك بأزمنة جاء نوح الذي أظلمت الدنيا في أيامه وانحصر النور الالهي عن وعي الإنسان وضميره، وبحسب تعبير الوحي المقدس: "وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلماً... إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه عل الأرض" (تك11:6-12). ولكن من بين هؤلاء وُجد نوح البار: «وكان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله وسار نوح مع الله» (تك9:6). وهكذا وفي وسط الظلام الدامس لم يعدم «الكلمة» إنساناً يشهد للنور ويعيشه فيصبح شفيعاً لمزيد من استمرار ولمزيد من استعلانه وأخيراً «جاء إلى خاصته».

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
«إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله».

من نشيد موسى النبي الذي قاله للوداع قبل موته نفهم أن الله قسم شعوب الأرض, وجعلها تحت حراسات ربما بعض الملائكة , أما شعب إسرائيل فكان من نصيب الرب يرعاه بنفسه، أو بحسب تعبيره للأنبياء: "إقتناه لنفسه خاصة": «حينما قسم العلّي للأمم، حين فرق بني أدم، نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل (أي كثيرة). إن قسم الرب هو شعبه, يعقوب حبل نصيبه. وجده في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب. أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه. كما يحترك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه، هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي.» (تث 8:32-12)
ويلزم التفريق بين كلمة «خاصته» الاولى لأنها جاءت بصيغة المحايد (neuer)، أي ليس مذكر ولا مؤنث, أي لا تفيد معنى الإنسان، وهنا ينصب المعنى على الأرض والوطن وعلى البيت, أي بيته وبلده. والمعنى ينحصر في نهاية الأيام وليس منذ إبراهيم أو موسى، بل في ملء الزمان, أي مجيء المسيح. أما كلمة "خاصته" الثانية فجاءت بالمذكر الجمع للعاقل, وهنا ينصب المعنى على الشعب ككل, أي شعبه. وكذلك فإن المعنى ينصب هنا على مجيء المسيا.
‏وهكذا تفيد هذه الأية أن مجيء الكلمة انحصر انحصاراً هذه المرة في رقعة أرض خاصة وفي شعب مختار خاص دون بقية الأراضي والشعوب, وكأنهما "بيت الله وأهله".
‏وإليك أيها القارىء من الأيات البينات ما يوضح ذلك:
تَرَنَّمِي وَافْرَحِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ لأَنِّي هَئَنَذَا آتِي وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَتَّصِلُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ بِالرَّبِّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ فَتَعْلَمِينَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ. وَالرَّبُّ يَرِثُ يَهُوذَا نَصِيبَهُ فِي الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَيَخْتَارُ أُورُشَلِيمَ بَعْدُ. (زك10:2-12)
‏ولكن ليس معنى ذلك أن الشعب المرفوض سابقاً سيمتلك الأرض التي اختارها الرب ليسكن فيها _ في نهاية الأيام_ بل تنص النبوة على أنه بالرغم من أن الرب سيأتي إلى الآرض، خاصته, ويسكن فيها, إلا أن الشعب سيطوح به بعيدا في الامم بسبب رفضه:
لاَ تَفْرَحْ يَا إِسْرَائِيلُ طَرَباً كَالشُّعُوبِ لأَنَّكَ قَدْ زَنَيْتَ عَنْ إِلَهِكَ. أَحْبَبْتَ الأُجْرَةَ عَلَى جَمِيعِ بَيَادِرِ الْحِنْطَةِ. لاَ يُطْعِمُهُمُ الْبَيْدَرُ وَالْمِعْصَرَةُ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِمِ الْمِسْطَارُ. لاَ يَسْكُنُونَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ بَلْ يَرْجِعُ أَفْرَايِمُ إِلَى مِصْرَ وَيَأْكُلُونَ النَّجِسَ فِي أَشُّورَ (هو1:9-3)
والسبب يذكره بوضوح إرميا النبي: "وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها, فأتيتم ونجستم أرضي وجعلتم ميراثي رجساً" (إر 7:2). والأساس الذي بمقتضاه سكن شعب إسرائيل فلسطين هو أن هذه الأرض ملك للرب وهم غرباء ونزلاء فيها، ليس فيها حق بيع أو شراء!!
«وَالأَرْضُ لاَ تُبَاعُ بَتَّةً لأَنَّ لِيَ الأَرْضَ وَأَنْتُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عِنْدِي.(لا 23:25)
‏أما شعب إسرائيل فاعتبرهم الرب خاصته، أي أهله وشعبه وعبيده الخصوصيين، وكأنه اشتراهم لنفسه، فهم ليسوا أحراراً في أنفسهم:
لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِي عَبِيدٌ. هُمْ عَبِيدِي الَّذِينَ أَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ (لا55:25)
فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. 6- وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ». (خر5:19-6)
لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ. ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ (تث 6:7-7)
«أَنْتُمْ أَوْلادٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ. لا تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ وَلا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيِّتٍ. لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً خَاصّاً فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ. (تث1:14-2)
وَوَاعَدَكَ الرَّبُّ اليَوْمَ أَنْ تَكُونَ لهُ شَعْباً خَاصّاً كَمَا قَال لكَ وَتَحْفَظَ جَمِيعَ وَصَايَاهُ. وَأَنْ يَجْعَلكَ مُسْتَعْلِياً عَلى جَمِيعِ القَبَائِلِ التِي عَمِلهَا فِي الثَّنَاءِ وَالاِسْمِ وَالبَهَاءِ وَأَنْ تَكُونَ شَعْباً مُقَدَّساً لِلرَّبِّ إِلهِكَ كَمَا قَال» (تث18:26-19)
ولكن للأسف لم يحتفظ إسرائيل بلقبه ولا باسمه ولا بحب الله له، ولا كرم اختياره له ولا حافظ على عهده، بل ارتد عن إلهه: « وأعطوا القفا لا الوجه» (إر 24:7). والقول في ذلك كثير جداً يملأ كل أسفار العهد القديم. ولكن أبشع أوصاف الأرتداد جاءت من فم موس نفسه، أي ‏من بكور مسيرة الشعب خلف الل ، ويا للفضيحة:
«اُنْصُتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ فَأَتَكَلمَ وَلتَسْمَعِ الأَرْضُ أَقْوَال فَمِي. يَهْطِلُ كَالمَطَرِ تَعْلِيمِي وَيَقْطُرُ كَالنَّدَى كَلامِي. كَالطَّلِّ عَلى الكَلإِ وَكَالوَابِلِ عَلى العُشْبِ. إِنِّي بِاسْمِ الرَّبِّ أُنَادِي. أَعْطُوا عَظَمَةً لِإِلهِنَا. هُوَ الصَّخْرُ الكَامِلُ صَنِيعُهُ. إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدْلٌ. إِلهُ أَمَانَةٍ لا جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ. «فَسَدُوا تِجَاهَهُ الذِينَ هُمْ عَارٌ وَليْسُوا أَوْلادَهُ جِيلٌ أَعْوَجُ مُلتَوٍ. هَل تُكَافِئُونَ الرَّبَّ بِهَذَا يَا شَعْباً غَبِيّاً غَيْرَ حَكِيمٍ؟ أَليْسَ هُوَ أَبَاكَ وَمُقْتَنِيَكَ هُوَ عَمِلكَ وَأَنْشَأَكَ؟ اُذْكُرْ أَيَّامَ القِدَمِ وَتَأَمَّلُوا سِنِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ. اسْأَل أَبَاكَ فَيُخْبِرَكَ وَشُيُوخَكَ فَيَقُولُوا لكَ. «حِينَ قَسَمَ العَلِيُّ لِلأُمَمِ حِينَ فَرَّقَ بَنِي آدَمَ نَصَبَ تُخُوماً لِشُعُوبٍ حَسَبَ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيل. إِنَّ قِسْمَ الرَّبِّ هُوَ شَعْبُهُ. يَعْقُوبُ حَبْلُ نَصِيبِهِ. وَجَدَهُ فِي أَرْضِ قَفْرٍ وَفِي خَلاءٍ مُسْتَوْحِشٍ خَرِبٍ. أَحَاطَ بِهِ وَلاحَظَهُ وَصَانَهُ كَحَدَقَةِ عَيْنِهِ. كَمَا يُحَرِّكُ النَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلى فِرَاخِهِ يَرِفُّ وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلى مَنَاكِبِهِ. هَكَذَا الرَّبُّ وَحْدَهُ اقْتَادَهُ وَليْسَ مَعَهُ إِلهٌ أَجْنَبِيٌّ. أَرْكَبَهُ عَلى مُرْتَفَعَاتِ الأَرْضِ فَأَكَل ثِمَارَ الصَّحْرَاءِ وَأَرْضَعَهُ عَسَلاً مِنْ حَجَرٍ وَزَيْتاً مِنْ صَوَّانِ الصَّخْرِ. وَزُبْدَةَ بَقَرٍ وَلبَنَ غَنَمٍ مَعَ شَحْمِ خِرَافٍ وَكِبَاشٍ أَوْلادِ بَاشَانَ وَتُيُوسٍ مَعَ دَسَمِ لُبِّ الحِنْطَةِ وَدَمَ العِنَبِ شَرِبْتَهُ خَمْراً. «فَسَمِنَ يَشُورُونَ وَرَفَسَ. سَمِنْتَ وَغَلُظْتَ وَاكْتَسَيْتَ شَحْماً! فَرَفَضَ الإِلهَ الذِي عَمِلهُ وَغَبِيَ عَنْ صَخْرَةِ خَلاصِهِ. أَغَارُوهُ بِالأَجَانِبِ وَأَغَاظُوهُ بِالأَرْجَاسِ. ذَبَحُوا لأَوْثَانٍ ليْسَتِ اللهَ. لآِلِهَةٍ لمْ يَعْرِفُوهَا أَحْدَاثٍ قَدْ جَاءَتْ مِنْ قَرِيبٍ لمْ يَرْهَبْهَا آبَاؤُكُمْ. الصَّخْرُ الذِي وَلدَكَ تَرَكْتَهُ وَنَسِيتَ اللهَ الذِي أَبْدَأَكَ. «فَرَأَى الرَّبُّ وَرَذَل مِنَ الغَيْظِ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ. وَقَال أَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُمْ وَأَنْظُرُ مَاذَا تَكُونُ آخِرَتُهُمْ. إِنَّهُمْ جِيلٌ مُتَقَلِّبٌ أَوْلادٌ لا أَمَانَةَ فِيهِمْ. هُمْ أَغَارُونِي بِمَا ليْسَ إِلهاً أَغَاظُونِي بِأَبَاطِيلِهِمْ. فَأَنَا أُغِيرُهُمْ بِمَا ليْسَ شَعْباً بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُهُمْ. إِنَّهُ قَدِ اشْتَعَلتْ نَارٌ بِغَضَبِي فَتَتَّقِدُ إِلى الهَاوِيَةِ السُّفْلى وَتَأْكُلُ الأَرْضَ وَغَلتَهَا وَتُحْرِقُ أُسُسَ الجِبَالِ. أَجْمَعُ عَليْهِمْ شُرُوراً وَأُنْفِدُ سِهَامِي فِيهِمْ. إِذْ هُمْ خَاوُونَ مِنْ جُوعٍ وَمَنْهُوكُونَ مِنْ حُمَّى وَدَاءٍ سَامٍّ. أُرْسِلُ فِيهِمْ أَنْيَابَ الوُحُوشِ مَعَ حُمَةِ زَوَاحِفِ الأَرْضِ. مِنْ خَارِجٍ السَّيْفُ يُثْكِلُ وَمِنْ دَاخِلِ الخُدُورِ الرُّعْبَةُ. الفَتَى مَعَ الفَتَاةِ وَالرَّضِيعُ مَعَ الأَشْيَبِ. قُلتُ أُبَدِّدُهُمْ إِلى الزَّوَايَا وَأُبَطِّلُ مِنَ النَّاسِ ذِكْرَهُمْ. لوْ لمْ أَخَفْ مِنْ إِغَاظَةِ العَدُوِّ مِنْ أَنْ يُنْكِرَ أَضْدَادُهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: يَدُنَا ارْتَفَعَتْ وَليْسَ الرَّبُّ فَعَل كُل هَذِهِ. «إِنَّهُمْ أُمَّةٌ عَدِيمَةُ الرَّأْيِ وَلا بَصِيرَةَ فِيهِمْ (غياب نور الكلمة). لوْ عَقَلُوا لفَطِنُوا بِهَذِهِ وَتَأَمَّلُوا آخِرَتَهُمْ. كَيْفَ يَطْرُدُ وَاحِدٌ أَلفاً وَيَهْزِمُ اثْنَانِ رَبْوَةً لوْلا أَنَّ صَخْرَهُمْ بَاعَهُمْ وَالرَّبَّ سَلمَهُمْ؟ لأَنَّهُ ليْسَ كَصَخْرِنَا صَخْرُهُمْ وَلوْ كَانَ أَعْدَاؤُنَا حَاكِمِينَ. لأَنَّ مِنْ جَفْنَةِ سَدُومَ جَفْنَتَهُمْ وَمِنْ كُرُومِ عَمُورَةَ. عِنَبُهُمْ عِنَبُ سُمٍّ وَلهُمْ عَنَاقِيدُ مَرَارَةٍ. خَمْرُهُمْ حُمَةُ الثَّعَابِينِ وَسِمُّ الأَصْلالِ القَاتِلُ. «أَليْسَ ذَلِكَ مَكْنُوزاً عِنْدِي مَخْتُوماً عَليْهِ فِي خَزَائِنِي؟ لِيَ النَّقْمَةُ وَالجَزَاءُ. فِي وَقْتٍ تَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ. إِنَّ يَوْمَ هَلاكِهِمْ قَرِيبٌ وَالمُهَيَّئَاتُ لهُمْ مُسْرِعَةٌ. لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ وَعَلى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ. حِينَ يَرَى أَنَّ اليَدَ قَدْ مَضَتْ وَلمْ يَبْقَ مَحْجُوزٌ وَلا مُطْلقٌ. يَقُولُ: أَيْنَ آلِهَتُهُمُ الصَّخْرَةُ التِي التَجَأُوا إِليْهَا. التِي كَانَتْ تَأْكُلُ شَحْمَ ذَبَائِحِهِمْ وَتَشْرَبُ خَمْرَ سَكَائِبِهِمْ؟ لِتَقُمْ وَتُسَاعِدْكُمْ وَتَكُنْ عَليْكُمْ حِمَايَةً. اُنْظُرُوا الآنَ! أَنَا أَنَا هُوَ وَليْسَ إِلهٌ مَعِي. أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي. سَحَقْتُ وَإِنِّي أَشْفِي وَليْسَ مِنْ يَدِي مُخَلِّصٌ. إِنِّي أَرْفَعُ إِلى السَّمَاءِ يَدِي وَأَقُولُ: حَيٌّ أَنَا إِلى الأَبَدِ. إِذَا سَنَنْتُ سَيْفِي البَارِقَ وَأَمْسَكَتْ بِالقَضَاءِ يَدِي أَرُدُّ نَقْمَةً عَلى أَضْدَادِي وَأُجَازِي مُبْغِضِيَّ. أُسْكِرُ سِهَامِي بِدَمٍ وَيَأْكُلُ سَيْفِي لحْماً. بِدَمِ القَتْلى وَالسَّبَايَا وَمِنْ رُؤُوسِ قُوَّادِ العَدُوِّ. «تَهَللُوا أَيُّهَا الأُمَمُ شَعْبُهُ لأَنَّهُ يَنْتَقِمُ بِدَمِ عَبِيدِهِ وَيَرُدُّ نَقْمَةً عَلى أَضْدَادِهِ وَيَصْفَحُ عَنْ أَرْضِهِ عَنْ شَعْبِهِ». فَأَتَى مُوسَى وَنَطَقَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذَا النَّشِيدِ فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ هُوَ وَيَشُوعُ بْنُ نُونَ. وَلمَّا فَرَغَ مُوسَى مِنْ مُخَاطَبَةِ جَمِيعِ إِسْرَائِيل بِكُلِّ هَذِهِ الكَلِمَاتِ. قَال لهُمْ: «وَجِّهُوا قُلُوبَكُمْ إِلى جَمِيعِ الكَلِمَاتِ التِي أَنَا أَشْهَدُ عَليْكُمْ بِهَا اليَوْمَ لِكَيْ تُوصُوا بِهَا أَوْلادَكُمْ لِيَحْرِصُوا أَنْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ. لأَنَّهَا ليْسَتْ أَمْراً بَاطِلاً عَليْكُمْ بَل هِيَ حَيَاتُكُمْ. وَبِهَذَا الأَمْرِ تُطِيلُونَ الأَيَّامَ عَلى الأَرْضِ التِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِليْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا». وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى فِي نَفْسِ ذَلِكَ اليَوْمِ: «اِصْعَدْ إِلى جَبَلِ عَبَارِيمَ هَذَا جَبَلِ نَبُو الذِي فِي أَرْضِ مُوآبَ الذِي قُبَالةَ أَرِيحَا وَانْظُرْ أَرْضَ كَنْعَانَ التِي أَنَا أُعْطِيهَا لِبَنِي إِسْرَائِيل مُلكاً. وَمُتْ فِي الجَبَلِ الذِي تَصْعَدُ إِليْهِ وَانْضَمَّ إِلى قَوْمِكَ كَمَا مَاتَ هَارُونُ أَخُوكَ فِي جَبَلِ هُورٍ وَضُمَّ إِلى قَوْمِهِ. لأَنَّكُمَا خُنْتُمَانِي فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيل عِنْدَ مَاءِ مَرِيبَةِ قَادِشَ فِي بَرِّيَّةِ صِينٍ إِذْ لمْ تُقَدِّسَانِي فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيل. فَإِنَّكَ تَنْظُرُ الأَرْضَ مِنْ قُبَالتِهَا وَلكِنَّكَ لا تَدْخُلُ إِلى هُنَاكَ إِلى الأَرْضِ التِي أَنَا أُعْطِيهَا لِبَنِي إِسْرَائِيل» (تث1:32-52)

يتبع
 
التعديل الأخير:

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
واضح أن أعمال الشعب الشريرة وأخصها الزنا وعبادة الأصنام التي أغرم بها الشعب, وأحياناً كثيرة كان ذلك بقيادة ملوكهم، هذه الأعمال الشريرة حجبت وجه الله. وهذا معناه المباشر توقف عمل «‏نور الكلمة» وحجز المعرفة والرأي الصواب والفهم والمشورة الحسنة عنهم، وذلك حتى لا يلوثوا اسم الله وكرامته ويخلطوا بين عمل الشر وعمل الله. وهذا بدوره مما حدا بالله، أو جعله يتقدم خطوة أكثر في الاستعلان عن نفسه بمجيء «الكلمة» مجيئاً منظوراً, حتى يتسنى لله أن يتكلم مع خاصته مباشرة دون وسيط أو نبي: "الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع ‏وطرق كثيرة ، كلمنا في هذه الايام الأخيرة في ابنه... " (عب1:1-2)
ولكن كان لا يزال غضب الله على الشعب، الذي فسد بقيادة رؤسائه، قائما. بمعنى أنه كان قد حجب وجهه عنهم وانقطع عنهم عمل «نور الكلمة» كما سبق، فكان من الصعب على الشعب المنغمس في الشر مع رؤسائه ومعلميه أن يتعرف على المسيا الذي أتى, أي «الكلمة» الذي جاء بنفسه. وهذا يصفه القديس يوحنا في إنجيله في الأصحاح الثانى عشر ولكن بصورة جمع فيها انقطاع النور الالهي منذ القدم عن الشعب المرتد عن الله مع عدم إيمانهم بالمسيا, أي «الكلمة» عندما ظهر، ‏أي المسيح الذي جاء إليهم, هكذا: وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟» لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ. (يو37:12-41).
والأن إلى إشعياء لندرس هذا الوضع الخطير:
فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلَأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ». فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ وَامْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَاناً. فَقُلْتُ: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ». فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ». ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ: «مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» فَأَجَبْتُ: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي». فَقَالَ: «اذْهَبْ وَقُلْ لِهَذَا الشَّعْبِ: اسْمَعُوا سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُوا وَأَبْصِرُوا إِبْصَاراً وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمْ بِقَلْبِهِ وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى» (إش 1:6-10)
يلاحظ القارىء أن رسالة إشعياء النبي بدأت برؤية «يهوة»، كما يُعبر عنه بالملك رب الجنود، وهو هو "الكلمة" أي المسيا بحسب المظهر، ولكن في ملء مجده الذي اعتبره إشعياء أنه هو يهوه "الله". لذلك قال ويل لى لأني رأيت الله، فسوف أموت، ولكن حدثت عملية تطهير لتجعل لإشعياء النبي قوة أو قدرة على رؤية «مجد الله» دون أن يموت. واستلم إشعياء الرسالة من "يهو" الذي هو "الكلمة المترائي في مجده". وهذه الرسالة هى بعيها نص النبوة عما سيحدث عند ظهور المسيا، أي الكلمة، بشخصه، أي المسيح. فإنهم لن يصدقوه ولن يتعرفوا عليه. ثم شرح "يهو", أي "الكلمة" الجالس عل عرش مجده، شرح لإشعياء سر عدم إيمان هذا الشعب، ومضمون هذا السر وهو أنه بسبب سيرة هذا الشعب الفاسدة بقيادة رؤسائه الفاسدين، وبسبب عدم إيمانهم بالله، وارتدادهم كل الأجيال السالفة عن عبادة الله، وإمعانهم في عمل الشر وأقبحها الزنا وعبادة الأصنام، فإن الله قد حجب وجهه عنهم، بمعنى أنه قطع عنهم «نور الكلمة»، فامتنعت عنهم المعرفة وانطمست البصيرة وانحجبت رؤية الحق، وهذا قد صنعه الله منذ القدم واستمرفي عقوبته عن قصد؛ حتى إذا ظهر المسيا "الكلمة" لا يتعرفون عليه فلا يرجعوا إليه، فلا يُشفوا، وذلك حتى لا يستمرون في الجمع بين الإفتخار بالله والإمعان في الشر فيلوثون رسالة المسيح.
ويلاحظ أن الذي رآه إشعياء أنه ديهوه»» الملك رب الجنود قال عنه القديس يوحنا أنه هو هو المسيح: «قال هذا إشعياء عدما رأى مجده (مجد المسيح) وتكلم عنه.» (يو41:12)
الأن فهمنا معنى "جاء إلى خاصته"، أي جاء إلى وطنه وبيته، وإلى "خاصته" أي إلى شعبه الأخصاء جداً دون جميع شعوب العالم, فلم يقبلوه. والأمر المذهل والمفزع أن الرفض كان عنيفاً إجماعياً، رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين ورؤساء شعب وكل الشعب المضلل وحتى بعض التلاميذ، بلا أي تعقل بل بلا أي سبب: « لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ. (يو 24:15-25)
أما المكتوب في الناموس الذي يشير إليه المسيح فهو مز 19:35 ومز4:69
لاَ يَشْمَتْ بِي الَّذِينَ هُمْ أَعْدَائِي بَاطِلاً وَلاَ يَتَغَامَزْ بِالْعَيْنِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. (مز 19:35)
أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْماً. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ. (مز 4:69)
لقد احتار بيلاطس فيهم حينما أخذ يتلفت يمينا ويساراً يستجدي من يساعده في إطلاق سراحه، سواء من الرؤساء أو حتى من الشعب الذي التجأ إليه متوسلاً أن يختاره عوض باراباس، ولكن بح صوته بلا نتيجة فحكم على أساس كلمتهم: «دمه علينا وعلى أولادنا»!! (مت25:27‏) وكأنما قد حوصر النور إذ «لم يعرفه العالم». وهوذا الآن حتى خاصته أبغضوه ولم يقبلوه، الذين أعدهم خصيصاً بنفسه لنفسه منذ الدهر إعداداً متعدد النواحي، وأغدق عليهم إغداقأ ليس له من مزيد، في الأرض والمطر والزرع والضرع والبركات، مع العلم والمعرفة والمشورة، وكلمهم بالأنبياء مبكراً ومؤخراً، وجهزهم أحسن تجهيز إذ قدسهم وقدس أرضهم وأقام مقدسه في وسطهم، وبعد كل ذلك ليس فقط لم يقبلوه بل وأبغضوه, وبلا سبب، أو ربما بسبب أنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور.
"جاء": ‏هنا نجد أن «الكلمة» يتخطى كل حدود العمل من على بعد, ويأتي بنفسه مجيئاً محدداً واضح المعالم مرئيا ومسموعأ مشاهداً وملموساً، مجيئاً توج به كل طرق استعلانالله الاولى جميعا سواء في العالم ككل أو حتى إسرائيل بكل تاريخها القديم. ولكنه مجيء كان في مرحلته الاولى إلى خاصته: «لم أرسل إلا إل خراف بيت إسرائيل الضالة» (مت 24:15)
ولكن هذا المجيء لما بلغ أقصاه في الاستعلان لخاصته، كما بلغ أقصاه في الرفض, وانتهى الاستعلان وانتهى الرفض على أيدي خاصته بالصلب، استعلن هو هو بذالله, أي هذا المجيء المقدس والمبارك, على مستوى العالم كله والبشرية جمعاء وذلك لما "الكلمة صار جسداً".
وبذلك يتضح تماماً من تدرج القديس يوحنا في الكشف عن تدرج الاستعلان الذي مارسه «الكلمة» في ذالله بالتجسد أنه تم بالفعل على مرحلتين أو على وجهين:
المرحلة الاولى أو الوجه الاول: باعتباره «المسيا» قمة الاستعلان أو الاستعلانات التي أتمها مع شعبه المقدس إسرائيل لكشف خطة الفداء لشعبه والخلاص حسب وعده.
والمرحلة الثانية أو الوجه الثاني: باعتباره «الكلمة صار جسداً» , «كنور للأمم» وفداء وخلاصاً إلى أقصى الأرض.
‏في المرحلة الاول واجه من خاصته نكوصاً شعبياً منقطع النظير كسيد مرفوض، مع الصليب، وسقوط الأمة!
وفي المرحلة الثانية قوبل قبولاً فرديا كرب لمجد الآب, امتد، ولا يزال يمتد، إلى أقص الآرض وأقصى الزمن.
لأنه لو يلاحظ القارىء، يكتشف أن الكنيسة المسيحية لم ترث الكنيس اليهودي بناموسه وبقوانينه وتراثه, ولا قامت الكنيسة المسيحية على أنقاض الهيكل المهدوم، لأن الكنيسة المسيحية هي «الهيكل الجديد», «المسيح نفسه», مشتهى كل الدهور: «فنحن من لحمه ومن عظامه» (أف30:5‏)، «وبيته نحن» (عب6:3‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
12- وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.
لقد جاء إل خاصته كوطن فلم يجد له مكاناً، وجاء إل خاصته كأمة فلم تقبله، ولكن كان لا بد من شهود، فالله لا يترك نفسه بلا شاهد. فإزاء رفض الأمة تقدم أفراد، وبصفتهم الشخصية آمنوا به وقبلوه، لا كيهود بل كمسيحيين!! طُردوا من المجمع والهيكل كوثنيين، ليفتحوا الطريق أمام كل الأمم! فقدوا البنوية لموسى وإبراهيم، فصاروا محسوبين على مستوى شعوب الدنيا، فأعطاهم الله وأعطى معهم كل شعوب الدنيا حق البنوية منه وله رأساً، ليكونوا رؤوسا لشعب جديد: «انت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي» (مت18:16)، «شعب اقتناء» (انتساب لله) (1بط9:2 ‏)، «شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط4:1)، بامتياز حق التبني لله مباشر يولدون له، من رحم نعمته، مقدسين، ومختومين بختم روح الله كأعضاء أحياء في جسد ابنه كما «من لحمه ومن عظامه» (أف30:5)، عوض ختان اللحم وتسجيل الاسم في سجلات المولودين من دم إبراهيم.
‏إن الإمتياز الكبير المجاني الذي أعطاه الله في البدء لإسرائيل في حدود الخصوصية المنحصرة في جنس وشعب محدد: "فتقول لفرعون هكذا يقول الرب إسرائيل ابني البكر" (خر 22:4)، «لما كان إسرائيل غلاماً أحببته ومن مصر دعوت ابني» (هو1:11)، هذا الإمتياز الكبير الفريد والمجاني الذي افتتح الله به عهد علاقة حبه مع الإنسان ممثلاً في إسرائيل، أطلقه الآن بلا قيود جنسية أو شعوبية للمؤمنين أفراداً، لأن عهد الله ووعوده كلها بلا ندامة (رو 29:11). وهكذا صار الرسل الآولون النموذج الجديد والكامل للابن الجديد البكر، عوض إسرائيل الأمة التي لم تصن عهد البنوة ولا عهد البكورية. اسمع القديس يعقوب يقول: «شاء فولدنا بـ "كلمة الحق" لكي نكون باكورة من خلائقه» (يع18:1)

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
«أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله»

كان شعب إسرائيل يفتخرعلى السلطان الذي له كشعب مختار من الله على أساس محبة الله لآبائهم الآوائل إبراهيم واسحق ويعقوب. وكان هذا السلطان يكتسبه الفرد بالولادة من أب يهودي وأم يهودية، فيرث نصيبه في محبة الله لآبائه. ولكن السلطان الذي أعطاه الله لكل من يقبل المسيح هو سلطان شخصي لا يورث ولا يورّث بحسب الجسد، بل هو إعطاء حق إقامة علاقة بنوية مباشرة مع الله على مستوى علاقة الله مع إسرائيل نفسه وأكثر. لأن إسرائيل أخذ صفة «الابن» كلقب، أما من يقبل يسوع المسيح باعتباره المسيا الموعود فإنه يأخذ حق البنوية من الله رأساً لأنه آمن بالوعد وحكم بصدق الله وأمانته: «الذي يأتي من السماء (المسيح) هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها، ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق.» (يو 31:3-33)
‏وليلاحظ القارىء أن الآية لا تقول: «أما الذين قبلوه يصيرون أولاد الله» مباشرة، بل يقول «أعطاهم سلطاناً أن يصيروا... »، بمعشى أن قبولهم للنور أي للمسيا حسب الإيمان بالوعد، يضعهم أولاً موضع البنين, أبناء النور, ليصيروا بعد ذلك أولاداً بالحق بمزيد من إيمانهم بالمسيا, وعندنا آية أخرى مطابقة جاءت بالروح على لسان بطرس الرسول توضح أن معرفة المسيح الكاملة تعطي سلطاناً, حسب قدرة الله، ليصير بها من يقبلها شريكاً في الطبيعة الإلهية. " كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ (يسوع المسيح) الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ." (2بط 3:1-4)
‏نفهم من هذا أن عدم قبول خاصته له (للنور) حرمهم في الحال من ( النور)، أي من سلطان البنوية الممنوح لهم كهبة ولقب "إسرائيل البكر"، مما أنشأ حتماً وبالضرورة للذين عرفوه وقبلوه حقاً فى المواعيد العظمى والثمينة أن يصيروا «أولاد الله».
‏ولكن لا يزال أمام الذين قبلوا, النور, المسيح كأفراد من خاصته أن يتعرفوا أكثر على المسيا الذي قبلوه, فأمامهم مرتفع من الإيمان يتحتم أن يتلقوه: إيمان الصليب وما بعد الصليب، لذلك نحن هنا لا نزال في درجة استعلان ما قبل «الكلمة صار جسداً» مباشرة.
"أولاد الله" = "آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور" (يو36:12):
القديس يوحنا لا يستخدم كلمة "ابن" إلا للمسيح فقط، كما يلاحظ أيضاً في أسلوب القديس يوحنا أنه لم يستخدم المفرد من «الأولاد» قط، وكأن في تفكير القديس يوحنا أن التبني هو «شركة طبيعة» تتضح أكثر في قوله: «الذين ؤلدوا» بالجمع، وكأنما يمعن في التفريق بين بنوية شعب إسرائيل وبنوية شعب المسيح، فالاول بالميراث الجسدي والثانية بالميلاد الروحي.

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
«المؤمنون باسمه».

القديس يوحنا يتقدم في فعل التقدم في الاستعلان من النور إلى المسيا إلى ابن الله ثم إلى رد الفعل الإيجابي من «القبول» إلى «الإيمان«.
‏وكلمة «المؤمنون» هنا جاءت بحالة قائمة دائمة كرد فعل دائم لاستعلان المسيا أنه ابن الله برسوخ وتأكيد على أساس فريد من المعرفة والوعي للاستعلان الجديد، يقابلها تماماً قول القديس يوحنا في رسالته: «كتبت هذا إليكم أنتم المؤمين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم ابن الله(1بو13:5 ‏)، وكأنما يود أن يقول لنا: آه لو عرفتم قيمة الإيماذ بابن الله فإنكم سوف تمسكون بالإيمان باسم ابن الله حتى الموت لأنكم ستحيون.
هذه الحالة نسمعها في بكور ظهور المسيا بوضوح من فم نثنائيل، أول الخاصة الذين قبلوه ثم آمنوا به: «يا معلم أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل.» (يو 49:1‏)
«باسمه»: « الاسم» في لاهوت القديس يوحنا, وبالتالي في لاهوت الكنيسة الاولى وكبار لاهوتييها، هو المُعبر عن الشخص في حالة وجود وتجلي. فالذي يؤمن «باسم» ابن الله لا يعني ذلك أن نبحث عن ما هو اسمه, بل يعني أن هذا الإيمان؛ إيمان ثابت مع تعلق شخصي فيه ثقة وأمانة واتكال, بل فيه بهجة وفرح, لأنه يعبر عن حالة تجلي وحضرر إلهي. فاسم الله من الوجهة الفعلية التصوفية هو الحضرة الذاتية الإلهية عندما ينادي فيها المؤمن الله، كحاضر، ويتكلم معه وهو أمامه. وهذا نجده واضحاً وثابتاً في قول الرب للتلاميذ قبل الصعود: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس.» (مت19:28)
فالاسم هنا يعني الدعاء للحضور والتجلي والمشاركة, بمعنى أن التعميد باسم الثالوث هو مباشرة الثالوث بالتعميد بناء على الدعاء بالاسم. وكذلك في الإفخارستيا وفي كل سر من أسرار الكنيسة, فإنه يجرى بالدعاء بالاسم لحضور الله وتتميم السر.
ومعروف أن النطق باسم الله أو باسم ابن الله له قوة وسلطان الحضور الإلهي تماماً. وهذا نسمعه من التلاميذ: «فرجع السبعون بفرح قائلين يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك.» (لو 17:10 ‏)
‏كذلك فالدعاء بالاسم انتقل إلى مناداة القديسين بأسمائهم، لا لكي يسمعوا بل لكي يحضروا, فالدعاء باسم القديس هو تكليف حُبي متواضع للحضور للمعونة. "ادع الأن. فهل لك من مجيب. وإلى أي القديسين تلتفت" ( أي1:5). فالدعاء بالاسم هو استدعاء.
‏وفي قول القديس يوحنا «المؤمنون باسمه» معنى التعرف على يسوع أنه هو المسيح، وهذه هي الدرجة الحرجة في إيمان الإنسان اليهودي. فالذي قبل يسوع على أنه هو المسيح يكون قد انتقل من العهد القديم إلى العهد الجديد، وهذا بحد ذاته هو الذي يعبر عنه بالميلاد الجديد أو الخليقة الجديدة في المسيح، لأن التعرف على المسيح أنه ابن الله هو تحصيل حاصل. لأن المعروف في الفكرا ليهودي المتقدم والذي ينتظر الخلاص بالروح أن المسيا هو ابن الله. وهذا الأمر واضح من أول نطق إيماني لنثائيل، كما سبق وذكرنا. وهذا يعبر عنه القديس يوحنا بغاية الوضوح في رسالته الاولى بقوله: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلد من الله" (ايو 1:5)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
13- الَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ.

القديس يوحنا بدأ يرافق الاستعلان بالرد العملي من جهة الإنسان اليهودي, وليس الامة اليهودية, ليوضح القيمة العظمى لاستعلان كلمة الله عندما جاء إلى خاصته, على مستوى المسيا, فقبله بعض الشخصيات اليهودية. فالاستعلان واكبه إيمان, والإيمان رافقه ميلاد جديد للانسان، جديد على عقل الإنسان غاية الجدة . وكان إيمان هؤلاء الأشخاص الأفراد اليهود هو باكورة الخليقة الجديدة الذين خمروا عجين الأمم كله. هذا ما صرح به القديس يعقوب الرسول معبراً عن نفسه وزملائه الرسل: "شاء فولدنا بـ "كلمة الحق" لكي نكون باكورة من خلائقه" (يع18:1)
ولينتبه القارىء, لأن مفهوم الميلاد من الله، أو قول يعقوب الرسول: «ولدنا بكلمة الحق»، أو قوله: "باكورة من خلائقه الجديدة»، هذه كلها تعبير عن «الحياة الآبدية» مع الله، وهذا هو ملخص اللاهوت بل خلاصة إنجيل يوحنا الذي بلوره في ختام الأصحاح العشرين بهذه الكلمات عينها: «وأما هذه ‏فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم حياة إذا آمنتم باسمه.» (يو31:20 ‏)

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ "دَمٍ" وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ "جَسَد"ٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ "رَجُلٍ" .....

لآول مرة بالنسبة للانسان العادي يسمع عن ميلاد لا تتدخل فيه أي من العناصر الطبيعية (الدماء). نعم, لأن النتيجة ليست لحساب حياة طبيعية، والمولود ليس لحساب هذا العالم الطبيعي.
‏كما نجد في هذا الميلاد غياباً كاملآ للغرائز الطبيعية (مشيئة جسد), لذلك فالمولود هنا ليس خاضعأ جبرياً لسطوتها. كما يغيب عن هذا الميلاد (مشيئة الإنسان)، وبالتالي فتوجيه الحياة الجديدة بأفعالها لا تنبع من مشيئة بشرية.
‏هذا هو مجمل الثلاث معايير السلبية: "ليس. ولا. ولا". ولو نلاحظ، نجد أن القديس يوحنا لم يضع هذه المعايير المنفية جزافاً، بل هو يتدرج بها من الأسفل إلى الأعلى. فالمعيار المنفي الأول هو المسار الطبيعي للحياة الطبيعية «الدم»، والثاني هو المحرك الطبيعي للحياة المخلوقة "مشيئة الجسد"، والثالث هو جماع الشخصية الإنسانية التي تُصرف أمور الحياة الطبيعية "مشيئة رجل".
ومن السهل فهم العناصر الثلا ثة الأخلاقية التي تتلخص منها الحياة الجديدة بهذا الميلاد الجديد:
‏العنصر الاول: عدم اعتماد الحياة الجديدة على توريث الحياة من السلف، والثاني: تحررها من الغرائز والشهوة، والثالث: استقلالها عن قدرة الإنسان. فما أعجبها من حياة !!
"ليس من دم"
‏الترجمة الحرفية الصحيحة: « ليس من دماء»، لأن « دم» جاءت بالجمع في اللغتين اليونانية ‏واللاتينية. فهنا خرجت الترجة العربية عن النص فأساءت إل المعنى كما يقصده القديس يوحنا.
و«الدم» بالجمع يقصد بها دم الآب ودم الأم، كما يرى القديس أغسطينوس. وجمعها يفيد معنى كافة العناصر الطبيعية التي يتكون منها الجسد من ذكر وأنثى.
‏كما أننا نعرف لغة القديس يوحنا السرية لماذا يتحاشى قول "الدم" بالمفرد، فهذا هو افتخار اليهود، إنه كبرياء الجنس، فاليهوي مولود من «دم» يهودي, تعبيرا عن الجنس المختار, موروث من إبراهيم واسحق ويعقوب، كما يتحاشى القديس يوحنا المفرد في قوله: «مولودين ليس من دم (كما جاء في الترجة العربية)» لأننا مولودون بالحقيقة من «دم» هو دم يسوع المسيح. الميلاد الذي لم يستعلن بعد، لأن هذا مخصص لدرجة الاستعلان القادمة للكلمة حينما صار جسداً, وتخضب جسده على الصليب بهذا الدم غفراناً لكل العالم, أما الأن فنحن محصورون في "الكلمة" المستعلن بالمسيا، وفي المسيا، أي يسووع المسيح، لليهود فيما قبل الصليب, أي ليس بعد مكان للدم.
"وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ "جَسَد"ٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ "رَجُلٍ"
‏هنا يحصر القديس يوحنا معنى الميلاد الروحي للانسان, أو الخليقة الجديدة، أومعنى أولاد الله أو الميلاد من الله، في أنه ينأى كلية عن ما يتعلق بالخليقة الحيوانية عامة والخليقة البشرية خاصة. فهو ميلاد خليقة أخرى للانسان من فوق، فيها يصير الله أباً جديداً عظيمأ للانسان الذي به تُلغى عملياً القيمة المتبقية للانسان اليهودي من "الابوة" "لنا إبراهيم أباً» (مت9:3‏) التي يسعى الإنسان أن ينضوي تحتها: «لا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات". ‏(مت9:23‏)

"بل من الله"
«الولادة من الله» عقيدة متكاملة راسخة عند القديس يوحنا، يلذ لنا أن نستعرضها أمام القارىء:
1- وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ (إنجيل يوحنا بأكمله) لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ (يو 31:20)
2- كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ. وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ الْوَالِدَ يُحِبُّ الْمَوْلُودَ مِنْهُ أَيْضاً. (1يو 1:5)
3- أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ ... أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ ....(1يو1:3-2)
4- أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. (1يو 7:4)
5- إِنْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ بَارٌّ (المسيح) هُوَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْنَعُ الْبِرَّ مَوْلُودٌ مِنْهُ (1يو29:2)
6- نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ لاَ يُخْطِئُ، بَلِ الْمَوْلُودُ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَالشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ. (1يو18:5)
7- كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ. (1يو 9:3)

من بين هذه الآيات السبع نجد الآية رقم (2) هي الآية المتحكمة فيها جيعاً، وهي رأس مبدأ الميلاد من الله. لأن يسووع المسيح، كما في الآية رقم (1) هو ابن الله، والرسالة التي جاء ليكملها هي أن يرفعنا معه وفيه إلى حالة التبني لله.
‏فالذي يؤمن بأن يسوع هو المسيح فهو يكون قد قبل بالتالي الرسالة أي أن يكون أحد أولاد الله.
كذلك فإن العلة الأساسة التي على أساسها نصير أولادأ له, لا تعتمد على شيء حسن فينا، ولكن إلحاح محبته لنا، وهومضمون الآية رقم (3‏) . وكذلك الآية يو 16:3 "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية".
‏كذلك فإن الوصية الاولى والعظمى هي المحبة لله والقريب لأنها الرد الوحيد اللائق لمحبته لنا.
‏فإذا نجح الإنسان في تكميل هذه الوصية، فإنه حتمأ يكون قد ؤلد من الله، لأن الله «محبة»، ويستحيل لأحد أن يستمد المحبة الإلهية إلا من مصدرها، وهذا هو مضمون الآية رقم (4‏).
‏كذلك فإن ناموس المسيح الذي جاء ليؤسسه هو ناموس البر الإلهي، أي السلوك بمقتضى الرحمة والحق معاً، والعدل والسلام معاً، وهذا مستحيل أن يأتيه إنسان ما إلا إذا أخذ قوة هذا البر من المسيح لأنه «بار» و«يبرر كثيرين»، وهذا مضمون الآية رقم (5‏).
‏كذلك إن كان المسيح قد حل بالإيمان في القلب، وثبت الإنسان في الروح القدس، فقد تسلح ضد الشيطان والخطية من جهة الغواية والفعل معاً، وأصبح متحصناً ضده، وهذا مضمون الأية رقم (6)
‏وهذه الآية يقابلها من جهة العقيدة عند القديس بولس مطابقة, إنما على الوجه الإيجابي البديع: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله, إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني, الذي به نصرخ (عند الضيقة) يا أبا الأب، الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله" (رو14:8-16)
‏كذلك نعلم أن ليس إنسان لا يخطىء، وأن المسيح وحده بلا خطية، وجاء ليكسر شوكة الخطية المميتة، وقد رفعها بالفعل، وخلص الإنسان من ناموسها القاتل. لذلك إن كان إنسان ما قد قبل المسيح وامن به وحل المسيح بالإيمان في قلبه وقبل الروح القدس، فلا يمكن أن هذا الإنسان يخطىء خطية للموت وهذا مضمون الآية رقم (7).
‏وقول القديس يوحنا هنا: "لأن زع الله ثابت فيه» قول خطير في الواقع، نفهم منه أن الذين يستقبلون روح الابوة داخلهم فإنها تخصبهم وتصيرهم أولاداً لله، وأن الله يصير أباهم، ليس بالاسم ولا بالمجاز، بل بالقوة الوالدة للروح، الأمر الذي هو أقوى ألف مرة من الولادة التي أخذوها بالجسد وانحدروا منها بواسطلة زرع البشر الفاني. لأن الإنسان حينها تسكنه بذرة الروح لابوة الله، تصير فيه قوة خالقة تخلقه جديداً، وتنميه لينمو حسب صورة خالقه في البر والقداسة والحق. وبحق وقوة أبوة الله التي تسكن الإنسان، لا يُعد الله بالنسبة للانسان حاملاً عصا التأديب بعد، بل فاتحاً أذرع الحب ليضم خليقته التي تاهت عنه ثم عادت تحمل جمال صورته.
ولا يعد الانسان بالنسبة لله خليقة عاصية متمردة بل أبناء حضنه، يضمهم إليه ويقبلهم قبلة الأب الذي عثر على ابنه الضال فوقع على عنقه وقبله تقبيلاً. لأن الإنسان لم يعد متغرباً عن الله، بل بواسطلة ابنه الوحيد المحبوب الذي أخذ جسدنا لنفسه صار الإنسان على مستوى معزة الابن الوحيد ووريثا معه لكل حب الأب.
‏وفي ختام الآية التي نحن بصددها من الإنجيل، أي الآية 13:1 يلزمنا أن ننبه أنه إزاء الرفض الشعبي للأمة اليهودية لاستعلان الكلمة في شخص يسوع باعتباره المسيا الآتي، واجهنا هذه المرة أفراداً من خاصته، تلاميذ ورسلاً وكهنة ورؤساء من الشعب، قبلوه وامنوا باسمه أنه هو ابن الله الآتي إلى العالم، والتصقوا به فصاروا أولاد الله عوض بني إسرائيل، وأهل بيت الله عوض أعضاء في السنهدريم، واستناروا بنوره وصاروا رسلاً له للعالم، فكانوا منفذاً للنور للجالسين في الظلمة وظلال الموت، المقيدين بالذل والحديد. أما العالم, أي الأمم, فلم يكونوا على موعد مع الله بانتظار المسيا كاليهود، فلهؤلاء استعلن «المسيح الكلمة» نفسه استعلانه الأخير والأعظم للعالم كله، لا كابن داود بل «ابن الإنسان» «الله ظهرفي الجسد.» (1تى 6:3)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
14- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.

‏تقسيم هذه الأية:
ا- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً
ب- وَحَلَّ بَيْنَنَا
ج- وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ
د- مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.


نتذكر الاستعلان السالف الذي أكمله «الكلمة» أنه كان على مستوى تكميل وعد سابق بفم كل الأنبياء، أكمله بالمجيء الفعلي في ملء الزمن: "‏إلى خاصته جاء". وكان مجيئه استعلاناً محصوراً في شعب هو خاصته وفي أرض هي من خاصته. ولكن الأن يستعلن "الكلمة" ذاته على غير موعد وعلى مستوى البشرية كلها والعالم أجمع.
‏وهكذا نكاد نصفق بأيدينا لهذا الانجيلي البديع زي البصيرة الحادة والرؤيا المترامية الأطراف، الذي واكب الكلمة في درجات استعلانه من الآزلية قبل الزمن، عبوراً بالخليقة والحياة والنور الذي لم ينحصر عن الإنسان قط منذ أن خٌلق، إلى الآباء والأنبياء والشعب المختار والحياة الآبدية المكنوزة في الكتب لمن يفتش عنها, إلى المعمدان يشهد للنور، إلى الرفض والمصادرة حتى منتهاها, إلى الاستعلان الأخير الذي نعيشه في ملء نوره وبهائه, كل ذلك أيها القارىء العزيز في أربع عشرة أية لم تأخذ من إنجيله أكثرمن نصف صفحة!!
أ- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً
"الواو" هنا تتبع المسلسل الذي جاء في أول الآصحاح، فهو عودة على ذي بدء. ومن ذلك نلمح وبسهولة في قوله: « وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» تكملة مفاجئة للآية الاولى بكل إحكام، ونقراها معاً هكذا: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله والكلمة ‏صار جسداً".
وهنا اخر مرة نسمع فيها القديس يوحنا يذكر«االكلمة» إذ يدخل بها إنجيل الخلاص لنرى ‏الكلمة في شخص المسيا.
‏هنا يتفضل الله وينزل بنفسه إل عالمه الذي خلق، لا كزائر روحي بشبه ملاك أو رئيس ملائكة، ولا كضيف غريب يباغت الإنسان في عقر داره، بل نزل كإنسان ليعيش مع الإنسان كإنسان، وليتكلم مع الإنسان بعد أن أخفقت كل الوسائل في توصيل كلمته إليه. جاء في «الجسد» ليتحدث مع كل ذي جسد: «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.» (ي 2:17).
نعم قد جاء الله بنفسه في الكلمة المتجسد ومعه الحياة الآبدية والنور الحقيقي في الجسد مخفيين في الجسد ولكن منظوران بالرؤيا الإيمانية النفاذة التي تنفذ خلال الظواهر والحجب والظلال والأقنعة لتقع على الحقيقة مباشرة, رؤية منفتحة على الإيمان. لذلك كل من كان له عين ترى وأذن تسمع، رأى مجده وسمع صوت الله فيه فعاش: "أما رأيت يسوع المسيح ربنا." (1كو1:9)
‏لذلك بقدر ما كان الله الكلمة المتجسد نوراً وحياة أبدية لمن وقعت عينه على اللاهوت الذي فيه, بقدر ما كان الكلمة المتجسد عثرة للعين التي توقفت عند حجاب الجسد، فاختفى عنها الله والحياة والنور معاً: «طوبى لمن لا يعثر فًي.» (مت 6:11).
‏وكأنما سر التجسد هو الظل المرافق «للكلمة« منذ البدء! فـ «سر» التجسد الإلهي فوق أنه يحتضن كل ما عداه من أسرار الاستعلانات السابقة, للكلمة, ويكملها، فهو, أي "سر" التجسد" يحمله معه في وجوده المطلق منذ البدء وفي كيانه الإلهي «وكان الكلمة الله»، منطوياً تحت حب الله للعالم!!
وهكذا وبسهولة أيضأ نلمح في «الكلمة» احتضان الأزلية للزمن وانعطاف الله عل الإنسان! فسر المصالحة العظمى التي جاء ليصنعها الكلمة بين العالم والله: «أي إن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه» (اكو 19:5)، هذه المصالحة كانت دوافعها وأدواتها كائنة فيه منذ الآزل!
‏انظر معي أيها القارىء العزيز وتمعن كيف أن «الكلمة» يحتضن الآزلية والزمان معاً "في البدء كان الكلمة"، «والكلمة صار...»
وكيف ينعطف اللاهوت على الإنسان: «والكلمة كان عند الله»، و"حل بيننا":
فالزمن خرج من رحم الآزلية، وحب الله للانسان كان كامنا في حضه الآزلى.
‏ثم انظر كيف يجمع «الكلمة‏» في نفسه الله والإنسان: "وكان الكلمة الله" و "الكلمة صار جسداً".
‏ثم انظر كيف نجح الكلمة أخيرا نجاحا منقطع النظير في استعلان ذاته واستعلان الله فيه: «ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً».
«والكلمة صار جسداً»»: هنا، وهنا أخيراً، استقر القديس يوحنا بعد تحليقه طائراً وراء الكلمة في الآزلية محلقا في الله ليراه عنده قائماً، وفي الخليقة هناك خالقاً، وفي الحياة نورا مرفوضاً ومقبولاً، وكنا نحن نلهث وراء يوحنا ما عسى أن يكون «الكلمة» هذا، وما هيئته أو صورته، حتى انقطعت أنفاسنا؛ وأخيراً حط هذا النسر الجسور المتمرس في التحديق في نور الله، حط بـ «الكلمة» على «جسد» إنسان فعرفنا في الحال أنه «يسوع المسيح».

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
«مناجاة»​

‏أيها الكلمة والفعل الآزلي، الكائن الذاتي, الله منطوقاً لنا بالكلمة والله مستعلنأ لنا بالفعل، الفاعل بكل قدرات الله ومشيئته في الخلق والتدبير، القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى, الملتحم جوهريا وذاتيا بـ "اأنا" الله بالحب المطلق، وصاحب الاسم الإلهي معه «أنا هو»، المنطلق من كيان الله لاستعلان الله بلا انقطاع، الحامل للكلية الإلهية بغير تجزؤ، والعامل بسلطان الله بلا نقصان مع الله كإرادة وفعل معاً كلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الوجود, غير المنحصر في ذاته وغير المحدود وغير المبتدىء.
‏فأنت البداية التي بلا بداية, والنهاية التي بلا نهاية, التي ينتهي عندها كل زي نهاية، غير المتغير، والمتغيرات كلها فعل من أفعالك.
‏الزمان منك أخذ حركته ودورانه ليحكي عن عظمة سكونك الفعال وتعاليك عن كل ظل دوران، وإليك ينتهي وعندك يهدأ من كل حركاته، فأنت السكون الضابط لكل حركة.
‏أما المكان الذي تمثله روائع الأكوان كخيمة أقمت أعمدتها في وسط الوجود المطلق, فهي تحكي بوجودها المحدود عن جبرؤوت الله ووجودك غير المحدود ولا منظور. فكل الأكوان بما تحوي من بدائع المخلوقات المعروفة وغير المعروفة، هي صفعة منبسطة تعكس طرفاً من بهاء مجد الله فيك غير المدرك. فأنت الكلمة الله الذي هو وحده بالفعل والكلمة استعلن عظمة الله غير المدرك ولا معروف والذي لن يُدرك ولن يُعرف إلا فيك.
‏فهذا البدء الزماني والمكاني السحيق في القدم، هو بكلياته وجزئياته فعل حدث من أفعال أزليتك, خرج إلى الوجود كما صورته قدرة الله ومشيئته فيك.
‏أيها الكلمة الله الذاتي الذي كنت محتجباً في الله، مح أنك أنت الحامل لاستعلان الله، لقد استعلنت نور الله الذي كان سيظل محتجباً لولا هذا العالم الذي خلقت، الذي حمل إلينا رسالة ناطقة من خلف آياته الجبارة, تحكي عن الإرادة العظمى التي أرادته، وحكمة الفعل الإلهي الذي به خُلق.
‏فالمصنوعات فيه تحكي عن لاهوت الصانع، فكل الأفلاك والمجرات والعوالم التي يضج بها الفضاء بقوانين تحركها وتقلبها، وانضباطها الخاضع لسلطان الدقة الهندسية الفائقة، تحكي لنا عن ما هي الإرادة الإلهية التي أرادت والفعل الإلهي الذي خلق، تحكي عنك أيها الكلمة ذو الحكمة والقوة والسلطان والمجد والجلال العامل لحساب استعلان الله،
‏تحكي عن حب الله القائم في العالم لحساب العالم، فانبث فيه قانون المحبة والتآلف الذي يحكم حركتها جيعاً من جماد ونبات وحيوان وانسان. فكل ذرة, بحركتها الباطنية المنسجمة والمنضبطة في تآلف فائق القدر والوصف، تحكي عن التألف بين الإرادة والفعل في ذات الله الذي خلق. أما القوة الذرية المرعبة التي ظهرت عند انشطارها فهي تحكي عن القوة الإلهية التي جُمعت وضُبطت.
‏وهذا الإنسان الذي خلقت، حسب قصد محبة الله التي تعمل كل شيء حسب رأي مشيئته في المحبة، خلقته بامتياز الإدراك والنطق والحب، ليدركك ويدرك فيك الله المُدرك الكامل الذي يٌدرك ولا يٌدرك كماله، ويحبك ويقيس حب الله فيك؛ وصورته ليكون في النهاية على صورة خالقه ليستمتع بالحياة الأبدية ويحيا الخلود وينأى عن العجز والفساد.
هناك قبل كون العالم وأنت قائم في مجدك مع الله، عندما نويت أنت في أزليتك أن تحمل صورته البائسة التي انحط إليها, لترفعه أنت إلى صورتك في ملء الزمان وعند انتهاء أزمنة شقاء الإنسان، خلعث ثوب مجدك الظاهري لتقوى على حمل اتضاعنا وخساسة طبيعتنا، وأتيت إلينا على الأرض وصرت جسداً، وأنت الكلمة الذي لا تسعك السموات.
وهكذا لما أخذت هيئة بنوتنا, تعرفنا عليك حالاً أنك أنت أنت ابن الله الذي منك انبثقت كل بنوة، فأنت الحامل للبنوة الإلهية جوهراً وذاتاً، التي كل بنوة في العالم المخلوق هي صورة منك.
وهكذا وأنت أصل كل بنوة، لما حملت صورة بنوتا اكتشفنا فيك الآصل: وتعرفنا عليك أنت الابن الوحيد لأبيه. وأدركنا بالروح مقصدك الحميد، أنك لبست صورة بنوتنا لترفعها إلى مستوى جوهر بنوتك. وتجعل الصورة التي ماتت تحيا من جديد» وتنطق باسم الله "يا أبا الآب".
‏أيها الرب يسوع المسيح الكلمة ابن الله الذاتي, كلي الكرامة والمجد مع الله أبيك" الأن عرفناك أنك أنت أنت الكلمة الذي كان، والكائن في البدء ومنذ الآزل عند الله.
‏فبعد ما كملت استعلان الله بالخلق الناطق بلاهوت الله في كل المصنوعات التي خلقت، التي تحكي عن جبرؤوت خالقها، تجسدت بشبه خليقتك التي خلقت، مع أنك أنت لا تزال قوام الخلائق طرا، فكلها تتخذ وجودها ودوامها بتدبير حكمتك، فأنت حياة ونور كل أحد.
أنت «الكلمة» الذي كان، والمستعلن لنا «ابن الله» الآن.
‏هكذا نؤمن وهكذا نعترف، انك بعد أن أكملت استعلان الله بالكلمة, جئت إلينا لتكمل استعلان الله بالجسد. ولكننا من خلال اتضاع بشريتك أدركنا وتيقنا من مجد ألوهيتك ومجد الآب الذي أعلنته ببنوتك. فإن كانت الخليقة هي لغتك، فقد أعطانا الروح فك شفرتها، فأدركنا أن نور بصائرنا الذي به نراك هو رجع لشعاع نورك، وحياتنا وميض من حياتك, وحتى الحب الذي يقوم حياتنا وأجناسنا وأسرنا وأفرادنا كقانون يتغلغل كل ذي جسد، هو هو حب الآب فيك الذي منه سكبت هذا الحب في خليقتك لما خلقت. فإن كان قانون الحب عندنا هو علة حياتنا الذي يجمع كل جنس ويضم كل أمرة ويوحد الذكر بالأنثى والابن مع أبيه وأمه, فما ذلك إلا أنك أنت أحببتنا قبل أن تخلقنا وأحببتنا قبل أن تفدينا, فصار الحب هو علة وجودنا وخلاصنا, الذي يحكي بقوة عن الحب الذي فيك من نحونا ونحو أبيك، الذي هو من طبيعتك.
‏ولم تكتف أن يبقى حبك حبيس الخليقة التي خلقت، بل أفضت من روحك القدوس, سر الحب الأقدس، على أرواحنا فتخطينا حدود الخلائق، وارتقينا بالحب فوق طبيعتنا، والتصقنا بالله فيك، لنبقى معه فيك روحاً في روح، لأن "من التصق بالرب فهو روح واحد"(1كو17:6)، فبلغنا غاية الحب وبلغنا الرؤية العظمى, لأن "الذى يجبني يحبه أبي وأنا أحبه واظهر له ذاتي" (يو21:17)، وصرنا من «أهل بيت الله» (أف19:2‏).
وهكذا بعد أن كنا عاراً في خليقتك، صرنا بالحب شركاء مجدك، نأخذ منه ونعطيك. وهكذا أكملت اسعقلان الله فينا لما سكب فينا أبوة الله المنسكبة فيك، فاستعلنا الله أباَ لنا وورثتنا ما هو ليس لنا...
‏لما أراد الله أن يكمل حديثه معنا ليعرفنا بمحبته ويكشف لنا عن أحشاء رحمته بعد أن كلم الآباء بالأنبياء، كلمنا فيك، فتكلمت معنا بفم أبيك, أنت الكلمة والابن والله الناطق بسر الوجود. فتجسدت لتكون أقرب إلينا من أنفسنا، فنسمعك سمع الاذن ونراك رؤيا العين، وكابن الإنسان وأنت ابن الله تكلمت مع الإنسان، فكان الصوت صوت ‏إنسان والمتكلم هو الله!!
‏ولما لبست صورة الترابي بعد أن أخليت ذاتك, لم تستطع أن تخفي ذاتك لأن حضرتك الإلهية كشفت سر اتضاعك، وكان صوت أبيك سباقاً لتعريفنا بك: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا.» (مت5:17‏)
والروح القدس لم يطق قعوداً في السماء بل أخذ جناحي حمامة وطار وحط عليك, فرآه المعمدان لما استقر عليك, فعرفك ونادى وشهد هذا هو ابن الله. بل وإن روح البنوة التي فيك استعلنت مجد بنوتك للعيون المفتوحة، فرأوا فيك مجد الابن الوحيد وشهدوا له, ومن ملء لاهوتك أخذ تلاميذك وامتلأوا نعمة وحقاً.
سجلت بأعمالك شهادة لاهوتك، وأعلنت بالكلمة سر بنوتك الفريدة لآبيك، ففيك استعلن الآب حالما استعلنت البنوة، وكلاهما كان الصفة الجوهرية التي كانت محتجبة، والقائمة في ذات الله: البنوة مع الابوة, وهكذا استكملت استعلان الابوة التي لك خاصة، في الله أبيك والتي نقلت عطفها إلينا وحبها فينا كما هو فيك.
‏الله لم يره أحد قط, هكذا قلت، ولهذا جئت لتخبرنا أنت وحدك بالخبر اليقين وبما رأيت وعاينت وسمعت، فعليك أنت الكلمة ؤضع كل حمل استقلان الله منذ البدء.
‏أنت الابن المحبوب الذي استودعك الله أبوك ملء سر حبه الأبوي، لهذا لم يستأمن أن يرسل سواك إلينا في ختام عهد تأديبنا، لتبلغنا حبك كعريس، وتنقل لنا حب أبيك كما هو فيك، وتنقلنا إلى حال العروس في بيت أبيك، وتمنحنا رتبة البنين لله كامتياز, في قوة ونعمة بنوتك الذاتية لآبيك, بعد أن فديتنا بحياتك ودم صليبك، لنرث معك وفيك ميراث البنين، بعد أن كنا عبيدً وكان مقامنا خارج السياجات.
‏أيها الكلمة الآزلي ذا القوة والجلال، يا مسيح الصليب والقبر والقيامة, يا ابن الله المحبوب لآبيه، الجالس عن يمين العظمة في الآعالي، والمكلل بالمجد والكرامة، ما الخليقة كلها في السماء وعلى الآرض بكل أفرادها ومكوناتها، والإنسان على رأسها، إلا انعكاس فعال لحب الآب لك ولحبك لآبيك القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى، هذا الحب الماسك بأطراق العالم الذي لولاه لانفرط عقده، بل إن العالم كله والإنسان على رأسه إن هو إلاستعلان في صميم الزمان لسر الحب الذي كان عند الله في الآزل من نحو العالم والانسان، الذي كان يكمن فيه سر خلاص الإنسان، وباستعلان حب الله في الإنسان واستعلان الابوة والبنوة للانسان صار الإنسان هو الصورة المجسدة الضئيلة التي تحكي عن سر اكتفاء الله في ذاته.
‏أنت "من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئاً على الآرض." (مز25:73‏)
‏لك نقدم الشكر مع التسبيح والسجود والمجد الدائم لك مع أبيك الصالح والروح القدس الإله الواحد أبينا وسيد كل أحد.

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
«مناجاة»​

‏أيها الكلمة والفعل الآزلي، الكائن الذاتي, الله منطوقاً لنا بالكلمة والله مستعلنأ لنا بالفعل، الفاعل بكل قدرات الله ومشيئته في الخلق والتدبير، القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى, الملتحم جوهريا وذاتيا بـ "اأنا" الله بالحب المطلق، وصاحب الاسم الإلهي معه «أنا هو»، المنطلق من كيان الله لاستعلان الله بلا انقطاع، الحامل للكلية الإلهية بغير تجزؤ، والعامل بسلطان الله بلا نقصان مع الله كإرادة وفعل معاً كلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الوجود, غير المنحصر في ذاته وغير المحدود وغير المبتدىء.
‏فأنت البداية التي بلا بداية, والنهاية التي بلا نهاية, التي ينتهي عندها كل زي نهاية، غير المتغير، والمتغيرات كلها فعل من أفعالك.
‏الزمان منك أخذ حركته ودورانه ليحكي عن عظمة سكونك الفعال وتعاليك عن كل ظل دوران، وإليك ينتهي وعندك يهدأ من كل حركاته، فأنت السكون الضابط لكل حركة.
‏أما المكان الذي تمثله روائع الأكوان كخيمة أقمت أعمدتها في وسط الوجود المطلق, فهي تحكي بوجودها المحدود عن جبرؤوت الله ووجودك غير المحدود ولا منظور. فكل الأكوان بما تحوي من بدائع المخلوقات المعروفة وغير المعروفة، هي صفعة منبسطة تعكس طرفاً من بهاء مجد الله فيك غير المدرك. فأنت الكلمة الله الذي هو وحده بالفعل والكلمة استعلن عظمة الله غير المدرك ولا معروف والذي لن يُدرك ولن يُعرف إلا فيك.
‏فهذا البدء الزماني والمكاني السحيق في القدم، هو بكلياته وجزئياته فعل حدث من أفعال أزليتك, خرج إلى الوجود كما صورته قدرة الله ومشيئته فيك.
‏أيها الكلمة الله الذاتي الذي كنت محتجباً في الله، مح أنك أنت الحامل لاستعلان الله، لقد استعلنت نور الله الذي كان سيظل محتجباً لولا هذا العالم الذي خلقت، الذي حمل إلينا رسالة ناطقة من خلف آياته الجبارة, تحكي عن الإرادة العظمى التي أرادته، وحكمة الفعل الإلهي الذي به خُلق.
‏فالمصنوعات فيه تحكي عن لاهوت الصانع، فكل الأفلاك والمجرات والعوالم التي يضج بها الفضاء بقوانين تحركها وتقلبها، وانضباطها الخاضع لسلطان الدقة الهندسية الفائقة، تحكي لنا عن ما هي الإرادة الإلهية التي أرادت والفعل الإلهي الذي خلق، تحكي عنك أيها الكلمة ذو الحكمة والقوة والسلطان والمجد والجلال العامل لحساب استعلان الله،
‏تحكي عن حب الله القائم في العالم لحساب العالم، فانبث فيه قانون المحبة والتآلف الذي يحكم حركتها جيعاً من جماد ونبات وحيوان وانسان. فكل ذرة, بحركتها الباطنية المنسجمة والمنضبطة في تآلف فائق القدر والوصف، تحكي عن التألف بين الإرادة والفعل في ذات الله الذي خلق. أما القوة الذرية المرعبة التي ظهرت عند انشطارها فهي تحكي عن القوة الإلهية التي جُمعت وضُبطت.
‏وهذا الإنسان الذي خلقت، حسب قصد محبة الله التي تعمل كل شيء حسب رأي مشيئته في المحبة، خلقته بامتياز الإدراك والنطق والحب، ليدركك ويدرك فيك الله المُدرك الكامل الذي يٌدرك ولا يٌدرك كماله، ويحبك ويقيس حب الله فيك؛ وصورته ليكون في النهاية على صورة خالقه ليستمتع بالحياة الأبدية ويحيا الخلود وينأى عن العجز والفساد.
هناك قبل كون العالم وأنت قائم في مجدك مع الله، عندما نويت أنت في أزليتك أن تحمل صورته البائسة التي انحط إليها, لترفعه أنت إلى صورتك في ملء الزمان وعند انتهاء أزمنة شقاء الإنسان، خلعث ثوب مجدك الظاهري لتقوى على حمل اتضاعنا وخساسة طبيعتنا، وأتيت إلينا على الأرض وصرت جسداً، وأنت الكلمة الذي لا تسعك السموات.
وهكذا لما أخذت هيئة بنوتنا, تعرفنا عليك حالاً أنك أنت أنت ابن الله الذي منك انبثقت كل بنوة، فأنت الحامل للبنوة الإلهية جوهراً وذاتاً، التي كل بنوة في العالم المخلوق هي صورة منك.
وهكذا وأنت أصل كل بنوة، لما حملت صورة بنوتا اكتشفنا فيك الآصل: وتعرفنا عليك أنت الابن الوحيد لأبيه. وأدركنا بالروح مقصدك الحميد، أنك لبست صورة بنوتنا لترفعها إلى مستوى جوهر بنوتك. وتجعل الصورة التي ماتت تحيا من جديد» وتنطق باسم الله "يا أبا الآب".
‏أيها الرب يسوع المسيح الكلمة ابن الله الذاتي, كلي الكرامة والمجد مع الله أبيك" الأن عرفناك أنك أنت أنت الكلمة الذي كان، والكائن في البدء ومنذ الآزل عند الله.
‏فبعد ما كملت استعلان الله بالخلق الناطق بلاهوت الله في كل المصنوعات التي خلقت، التي تحكي عن جبرؤوت خالقها، تجسدت بشبه خليقتك التي خلقت، مع أنك أنت لا تزال قوام الخلائق طرا، فكلها تتخذ وجودها ودوامها بتدبير حكمتك، فأنت حياة ونور كل أحد.
أنت «الكلمة» الذي كان، والمستعلن لنا «ابن الله» الآن.
‏هكذا نؤمن وهكذا نعترف، انك بعد أن أكملت استعلان الله بالكلمة, جئت إلينا لتكمل استعلان الله بالجسد. ولكننا من خلال اتضاع بشريتك أدركنا وتيقنا من مجد ألوهيتك ومجد الآب الذي أعلنته ببنوتك. فإن كانت الخليقة هي لغتك، فقد أعطانا الروح فك شفرتها، فأدركنا أن نور بصائرنا الذي به نراك هو رجع لشعاع نورك، وحياتنا وميض من حياتك, وحتى الحب الذي يقوم حياتنا وأجناسنا وأسرنا وأفرادنا كقانون يتغلغل كل ذي جسد، هو هو حب الآب فيك الذي منه سكبت هذا الحب في خليقتك لما خلقت. فإن كان قانون الحب عندنا هو علة حياتنا الذي يجمع كل جنس ويضم كل أمرة ويوحد الذكر بالأنثى والابن مع أبيه وأمه, فما ذلك إلا أنك أنت أحببتنا قبل أن تخلقنا وأحببتنا قبل أن تفدينا, فصار الحب هو علة وجودنا وخلاصنا, الذي يحكي بقوة عن الحب الذي فيك من نحونا ونحو أبيك، الذي هو من طبيعتك.
‏ولم تكتف أن يبقى حبك حبيس الخليقة التي خلقت، بل أفضت من روحك القدوس, سر الحب الأقدس، على أرواحنا فتخطينا حدود الخلائق، وارتقينا بالحب فوق طبيعتنا، والتصقنا بالله فيك، لنبقى معه فيك روحاً في روح، لأن "من التصق بالرب فهو روح واحد"(1كو17:6)، فبلغنا غاية الحب وبلغنا الرؤية العظمى, لأن "الذى يجبني يحبه أبي وأنا أحبه واظهر له ذاتي" (يو21:17)، وصرنا من «أهل بيت الله» (أف19:2‏).
وهكذا بعد أن كنا عاراً في خليقتك، صرنا بالحب شركاء مجدك، نأخذ منه ونعطيك. وهكذا أكملت اسعقلان الله فينا لما سكب فينا أبوة الله المنسكبة فيك، فاستعلنا الله أباَ لنا وورثتنا ما هو ليس لنا...
‏لما أراد الله أن يكمل حديثه معنا ليعرفنا بمحبته ويكشف لنا عن أحشاء رحمته بعد أن كلم الآباء بالأنبياء، كلمنا فيك، فتكلمت معنا بفم أبيك, أنت الكلمة والابن والله الناطق بسر الوجود. فتجسدت لتكون أقرب إلينا من أنفسنا، فنسمعك سمع الاذن ونراك رؤيا العين، وكابن الإنسان وأنت ابن الله تكلمت مع الإنسان، فكان الصوت صوت ‏إنسان والمتكلم هو الله!!
‏ولما لبست صورة الترابي بعد أن أخليت ذاتك, لم تستطع أن تخفي ذاتك لأن حضرتك الإلهية كشفت سر اتضاعك، وكان صوت أبيك سباقاً لتعريفنا بك: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا.» (مت5:17‏)
والروح القدس لم يطق قعوداً في السماء بل أخذ جناحي حمامة وطار وحط عليك, فرآه المعمدان لما استقر عليك, فعرفك ونادى وشهد هذا هو ابن الله. بل وإن روح البنوة التي فيك استعلنت مجد بنوتك للعيون المفتوحة، فرأوا فيك مجد الابن الوحيد وشهدوا له, ومن ملء لاهوتك أخذ تلاميذك وامتلأوا نعمة وحقاً.
سجلت بأعمالك شهادة لاهوتك، وأعلنت بالكلمة سر بنوتك الفريدة لآبيك، ففيك استعلن الآب حالما استعلنت البنوة، وكلاهما كان الصفة الجوهرية التي كانت محتجبة، والقائمة في ذات الله: البنوة مع الابوة, وهكذا استكملت استعلان الابوة التي لك خاصة، في الله أبيك والتي نقلت عطفها إلينا وحبها فينا كما هو فيك.
‏الله لم يره أحد قط, هكذا قلت، ولهذا جئت لتخبرنا أنت وحدك بالخبر اليقين وبما رأيت وعاينت وسمعت، فعليك أنت الكلمة ؤضع كل حمل استقلان الله منذ البدء.
‏أنت الابن المحبوب الذي استودعك الله أبوك ملء سر حبه الأبوي، لهذا لم يستأمن أن يرسل سواك إلينا في ختام عهد تأديبنا، لتبلغنا حبك كعريس، وتنقل لنا حب أبيك كما هو فيك، وتنقلنا إلى حال العروس في بيت أبيك، وتمنحنا رتبة البنين لله كامتياز, في قوة ونعمة بنوتك الذاتية لآبيك, بعد أن فديتنا بحياتك ودم صليبك، لنرث معك وفيك ميراث البنين، بعد أن كنا عبيدً وكان مقامنا خارج السياجات.
‏أيها الكلمة الآزلي ذا القوة والجلال، يا مسيح الصليب والقبر والقيامة, يا ابن الله المحبوب لآبيه، الجالس عن يمين العظمة في الآعالي، والمكلل بالمجد والكرامة، ما الخليقة كلها في السماء وعلى الآرض بكل أفرادها ومكوناتها، والإنسان على رأسها، إلا انعكاس فعال لحب الآب لك ولحبك لآبيك القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى، هذا الحب الماسك بأطراق العالم الذي لولاه لانفرط عقده، بل إن العالم كله والإنسان على رأسه إن هو إلاستعلان في صميم الزمان لسر الحب الذي كان عند الله في الآزل من نحو العالم والانسان، الذي كان يكمن فيه سر خلاص الإنسان، وباستعلان حب الله في الإنسان واستعلان الابوة والبنوة للانسان صار الإنسان هو الصورة المجسدة الضئيلة التي تحكي عن سر اكتفاء الله في ذاته.
‏أنت "من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئاً على الآرض." (مز25:73‏)
‏لك نقدم الشكر مع التسبيح والسجود والمجد الدائم لك مع أبيك الصالح والروح القدس الإله الواحد أبينا وسيد كل أحد.

يتبع
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
"والكلمة صار جسداً"

«صار» هنا لا تفيد التغيير كما لا تفيد أن الكلمة توقف عن أن يكون الكلمة. لأن "الكلمة" بدء كل ذي بدء، له جوهر الله وطبيعته، لذلك فهو غير قابل للغيير وغير قابل للتحول, ولكن القول "صار" يفيد اتخاذه درجة في الاستعلان تتناسب مع ضعف إدراكنا، لأن عجز الأنبياء في توصيل « الكلمة» للناس وفشل الناس في إدراك «الكلمة» جعلا الكلمة يأخذ حالة أكثر اقتراباً لإدراكنا، حتى يتمم فيها استعلاناً أكثر لله.
‏كذلك نجد أذ قوله: «صار» هنا تتصل بمفهوم عميق مع «صار» التي جاءت في الأية 2:1 "كل شيء به صار"، إذ نلمح أن القديس يوحنا يكاد يقول أن الكلمة هو أصل ومركز الخليقة القديمة والخليقة الجديدة، فالاولى «به صارت» والثانية "فيه صارت", و«صار هو رأساً لها»، وكأن القديس يوحنا يود أن يقول "أنه صار إلى الذي به صار. ومن هنا جاء القول «بكر كل خليقة» (كو 15:1)، لأنه هو أيضاً أول قيامة الأموات!!
كذلك فإن "الجسد" الذي صار إليه وفيه؛ لا يعبر عن جزء من الإنسان، ولكنه تعبير لاهوتي عن طبيعة الإنسان ككل، جسداً ونفساً وروحاً.
وكلمة «الجسد» هي تعبير سائد في العهد القديم يعبر عن البشرية ككل، ونسمع ذلك في قول يؤئيل النبي (في الترجمة السبعينية): « ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل جسد... «، التي جاءت في الترجمة العربية «على كل بشر.» ( يؤئيل 28:2)
والمعنى أن «الكلمة» الذي «كان في البدء، وكان عند الله، وكان هو الله»، صار إنساناً كاملاً له كل ما للطبيعة البشرية من صفات, ما عدا الخطية وحدها, وهو هو الكلمة، كما كان قبل التجسد هكذا بقي كما هو بعد التجسد.
والقديس يوحنا, عن حكمة روحية وبصيرة لاهوتية, اختار كلمة «صار«، ولم يقل «أخذ جسداً»، كما يخطىء بعض اللاهوتيين، فهو لم «يأخذ» وإلا كان من المحتمل أن «يترك»؛ كذلك لم يقل «حل في الجسد» مجرد حلول وإلا احتمل الإخلاء والترك؛ بل قال «صار»» بحيث يستحيل أذ يتراجع فيما صار اليه لأن الصيرورة هنا شملت كيانه كله!
‏وحيما قال صار"جسداً، فهو بحكمة اختار كلمة «جسد»، فهو لا يقصد أنه صار إنساناً ‏ما مجرد واحد من الناس. ولكه يقصد أنه صار«بشراً» له «ملء الطبيعة البشرية كلها«. لذلك نسمع المسيح يعطي نفسه اسم »ابن الإنسان» ليعبر عن البشرية كلها القائمة فيه. وفعلاً قد عبر بحياته على الآرض تعبيراً كاملاً عن الطيعة البشرية بكل ضعفها وأعوازها دون خطأ أو خطية، دون أن يتنازل لحظة واحدة ولا طرفة عين عن كونه «الكلمة» الله أو «الله الكلمة». وبهذا استطاع أن يرفع الطبيعة البشرية التي صار فيها إلى منتهى الكمال: "لأجلهم أقدس أنا ذاتي" (يو 19:17). لأن القصد من التجسد هو استعلان أن «يسوع» هو المسيا "الكلمة" الأزلى: «كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله(ايو2:4)، حيث كلمة «جاء في الجسد» تضيف إلى مفهوم «صار جسداً» الاولى مفهوم الديمومة في التجسد الكامل دون أي تغيير. لأن «صار جسداً» وحدها تفيد الحقيقة أنه صار بطبيعة الإنسان كاملة، أما قوله: "جاء في الجسد" فتفيد التواجد في هذه الحقيقة، والإستمرار فيها.
أما تأكيد التجسد أو أن الجسد الذي صار به هو جسد بشري داخل في مسلسل البشرية, فهذا يقرره بولس الرسول في رسالته إلى رومية: "بولس عبد ليسوع المسيح... الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد." (رو 1:1-3)
واختصار هذه الأية هو كالأتي: "يسوع, المسيا, ابن الله, تجسد !!"
‏ثم إذ التأكيد على أن البشرية التي صار بها هي بشرية حقيقية متألمة وقابلة للموت, فهذا يصفه أيضأ بولس الرسول: "فالله, إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية, دان الخطية في الجسد"(رو3:8)
‏أما قوله: «شبه جسد الخطية» فهو ليفرقه من "جسد الخطية"، فجسد المسيح يحمل كل مكونات جسد الخطية ما عدا الخطية، لأن بشرية المسيح وُجدت, لحظة ما وُجدت, متحدة بلاهوته!! فلم يكن ممكناً أن تداهم, الجسد, عناصر الخطية، بل ولأن جسد المسيح كان خالياً خلواً تاماً من عنصر الخطية، استطاع بلاهوته أن يدين, أي يحكم ويعاقب ويفرز الخطية بالجسد عندما حل عقوبتها عليه وهو بريء منها. فالصليب والموت كانا أقصى فضيحة للخطية وأعظ تتويج لجسد الإنسان بالنصرة عليها: "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس"(عب14:2)
‏ولكن السؤال الكبير المحير: كيف أمكن «للكلمة الله» أو "الله الكلمة" وهو في ملء لاهوته ومجده أن «يصير جسداً»، ويوجد في الهيئة كإنسان؟ بمعنى أن مجد اللاهوت حينما يحل حلولاً ذاتيأ ودائمأ في جسد إنسان, علمأ بأنه كان أكثر من حلول إذ هو اتحاد وصيرورة, فإنه يمنع الجسد من أن يظهر بصورته الطبيعية, فبهاء مجد الله يصعق العين الترابية، وهوذا المثل أمامنا عملياً وواضحاً، فالمسيح نفسه لما استعلن لبولس الرسول بعد القيامة وهو في مجده لم يحتمله لا بولس ولا الذين معه: «رأيت في نصف النهار في الطريق أيها الملك نورا من السماء أفضل من لمعان الشمس قد أبرق حولى وحول الذاهبين معي, فلما سقطنا جميعا على الارض سمعت صوتاً يكلمني ويقول باللغة العبرانية شاول شاول لماذا تضطهدني... فقلت أنا "من أنت يا سيد" فقال "أنا يسوع الذي أنت تضطهده"» (أع13:26-15)
ولكن الذي نعرفه تماما أن يسوع المسيح حينها كان يعيش على الآرض، لم يكن له هذا النور الذي هو أشد لمعاناً من نور الشمس وقت الظهيرة!
‏هنا يقول بولس الرسول أنه لكي يحل ملء اللاهوت في الجسد ويتحد به، يلزمه أولاً أن يتخلى عن مجده الإلهي المنظور: "الذي كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة (هيئة) عبد صائرأ في شبه الناس" (فى6:2-7). وهذا هو الذي عبر عنه اللاهوتيون باسم "الإخلاء" باعتباره عملاً يتبع قدرة الله على كل شيء التي بها يقدر أن يخلي ذاته, في الظاهر, من مجده.
‏ولكن هذا الإخلاء ل يُنقص من كل خصائص اللاهوت التي حل بها الكلمة فى «الجسد» واتحد به, إذ يقول بولس الرسول: "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا, وأنتم مملوؤن فيه!!"(كو9:2)
‏من هذا نستطيع أذ ندرك مدى عمق وفخامة المعنى في قول القديس يوحنا، وبمنتهى الإختصار «والكلمة صار جسدا»، فهنا قد بلغ استعلان الكلمة أوج قوته وعمقه وفعله لأن «جسد الكلمة» ‏هذا، الذي هو جسد يسوع المسيح، أصبح أعلى قوة إلهية حصل عليها الإنسان ليدرك الله بها وفيها ويقترب إليه.
‏فجسد الكلمة, أي جسد يسوع المسيح, صار هو الطريق المفتوح أمام الإنسان إلى الأقداس العليا في السماء: «فإن لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إل الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً حيا بالحجاب أي جسده...» (عب19:19-20). لأننا سبق أن قلنا أن يسوع المسيح "دان الخطية بالجسد"، فبالصليب أي بموت الجسد عن الخطية صار«الجسد» معبراً سرياً إلى الأمجاد العليا.
‏ثم إن هذا «الجسد», جسد الكلمة يسوع المسيح ابن الله, الذي قدمه الله نفسه ذبيحة خطية على مذبح خطية العالم كـ «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» [فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة] فأصبح لحمه يؤكل بالسر, أي بالروح للتقديس, وهذا نسمعه من فم الرب قديماً متتماً بالفعل كنبوة ونموذج لذبيحة المسيح على الصليب يوم الفصح:
"تكون لكم شاة (حملاً) صحيحة ذكرا ابن سنة... ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر(نيسان), ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية، ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها. ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويأ بالنار مع فطير، على أعشاب مرة يأكلونه... هو فصح للرب." (خ 5:12-11)
‏هذا هو المسيح فصحنا، فقد قبضوا عليه وتحفظوا عليه حتى اليوم الرابع عشر, بحسب إنجيل يوحنا, واشترك كل جهور جماعة شعب إسرائيل في ذبحه على الصليب "حسب الطقس"، وأهرقوا دمه على الصليب وعلى الأرض، على خلفية من نار الآلام ومرارة التعذيب، فكان هو "الفصح الحقيقي" الذي تم على اسمه أول فصح في مصر: "وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظمى التي تدعى روحيا سدوم ومصر حيث صُلب ربنا أيضاً" (رؤ8:11). هذا هو فصحنا الحقيتي المذبوح لنا: "لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا" (اكو 7:5)
وكما أن الذين أكلوا الفصح الآول عبر عليهم الملاك ولم يقتحمهم حسب وعد الله لكل من أطاع وأكل لحم الفصح واختبأ خلف ‏الدم، والذين لم يأكلوا ولم يتحصنوا بالدم أهلكهم المهلك؛ هكذا صار الأكل والشرب من فصحنا الجديد حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
الفصح القديم كان بالرمز لنموذج جسدي، أما فصحنا الجديد فبالحق على مستوى الروح: "جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق... فمن يأكلني فهو يحيا بي" (يو55:6-57)
‏والإنذار الآول بالهلاك لمن لم يشترك في القصح بقي هو كما هو:
‏"من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو54:6‏)
"إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم." (يو53:6‏)
‏ثم هذا هو بعينه "الجسد" الذي «صار للكلمة».
وهو الجسد الذي بذله من حياة العالم على الصليب.
‏وهو الجسد الذي هو بالحقيقة »خبزالسماء», «حبة الحنطة» التي سقطت من السماء على أرض الشقاء فماتت، ثم قامت واستقامت، وأتت بغلة وفيرة ملأت أهراء الحياة.
‏وهكذا يكون بـ «الكلمة صار جسداً», قد صار تأسيس طريق الخلاص للدخول إلى الأقداس العليا، وتأسيس سر الاتحاد الجديد بالإفخارستيا. فجسد الكلمة، أي «يسوع« المسيح ابن الله، صار خبز الحياة الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. فهنا اتحاد ذو شقين:
الأول: اتحاد عل مستوى الطبيعة الإلهية: «كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى... اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط3:1-4)؛ "لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3)
والثاني على مستوى الذات، أي شخصي: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:3)؛ «مع المسيح صُلبت فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الأن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)؛ "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً. (يو23:14)
‏فكل هذه النعم والمواعيد العظمى والثمينة, وهذا الخلاص العجيب، وهذا الحب الإلهي الذي جعل هياكل أجسادنا وأرواحنا منزلاً مريحأ لسكنى الآب والمسيح والروح القدس لتغيير طبيعتنا وتقديسها، وهذه الشركة والزمالة والمؤازرة في الحياة الحاضرة مع شخص الكلمة يسوع المسيح ابن الل؛ كل هذا تم لما انتهى «الكلمة» إلى قراره الآخير: "أن يصير جسداً".
‏والآن يلزمنا أن نعود لندقق في المعاني اللاهوتية التي يتضمنها «التجسد» حتى نتجنب الإنزلاقات التي وقع فيها أئمة الهراطقة الذين خرجوا عن حدود الإيمان الصحيح بالتجسد:
1- البشرية التي «صار» إليها وبها الكلمة, أي التجسد, هي بشرية كاملة وصحيحة للانسان الكامل. وهذا ما وقع فيه أبوليناريوس الذي قال بأن البشرية التي أخذها المسيح لنفسه لم تكن كاملة. فهو أخذ جسداً ولكن هذا الجسد لم يكن جسداً كاملاً كما لإنسان عادي.
2- البشرية التي صار بها المسيح كانت بشرية حقيقية ودائمة. وهذا ما وقع فيه جماعة الغنوسيين (العارفين) الذين قالوا أن الكلمة أخذ جسداً حسب الظاهر فقط ولمدة قصيرة وبقي غريباً عن نفسه. فالكلمة عندهم صار جسداً ولكنه لم يلبس هذا الجسد. كما ضل الدوسيتيون الذين قالوا إن الجسد كان خيالاً أو شبهاً فقط. ولم يكن حقيقيا.
إن الطبيعة الالهية والطبيعة البشرية اتحدتا بالتجسد اتحادا كليا وكاملاً وصارتا واحداً. ولكن هذا الاتحاد لم يغير شيئاً من كلتا الطبيعتين، كل في مجاله، فهو "إله متأنس" وليس إلهاً وإنساناً وكأنه ازدواج للشخصية. فلم يأت عملاً إلهياً دون أن يكون الجسد شريكأ فيه، ولم يعمل عملاً جسدياً دون أن يكون اللاهوت شريكاً فيه. فلما أقام لعازر من الموت، أقامه بقوة لاهوته وبصوت فمه معاً. ‏ولما مات، مات بالجسد، واللاهوت فيه لم يفارقه حياً وميتاً، لذلك لم يفسد الجسد ولذلك قام!! ولذلك أيضاً كان موته نصرة للجسد والروح معاً وكان فداء وخلاصاً! فإذا لم يكن اللاهوت ملازماً وشريكا في الآلام والموت لاستحالت الآلام أن تكون آلاما خلاصية والموت موتاً فدائياً. فالله فدانا بالجسد، والدم كان دماً إلهياً. "فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله (عب14:9), ‏ولما قال: «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11‏)، قاما عل أساس لاهوت القيامة الكائن في الجسد المتحد به؛ فلما قام، قام بقوة لاهوته وبالجسد. ولما بكى، كان ذلك أعظم تعبير عن شركة اللاهوت (الله) في أحزان الإنسان موضحاً بالجسد: «في كل ضيقهم تضايق...(إش9:63). وهكذا لم يأت المسيح عملاً إلا واللاهوت له فيه كما للناسوت. لأن بعد الاتحاد لا يمكن أن تعمل أي طبيعة منهما بانفراد عن الأخرى ، لأن شخص المسيح، أي أقنومه، واحد هو الذي جمع الطبيعتين ووحدهما في واحدية ذاتية، فيستحيل عليه أن يكون له مشيئتان ولا إرادتان ولا قولان ولا نظرتان قبالة موضوع واحد. فجاءت أعماله كلها تنطق بوحدة بشرية كاملة ناضجة نفسا وجسدا وروحاً مع لاهوت كامل فعال على مستوى الله قوة وسلطانا ومجدا. ‏وهذا كله واضح لا محتاج إل مجادلة في قول القديس يوحنا «والكلمة صار جسداً»». و«صار» هنا تنص وتؤكد عل عملية توحيد سري فائق للغاية أتاها الكلمة مع الجسد في ذاته ليعيش فيه إلى الأ بد ويعمل به كل أعمال الخلاص، بل ويمجد به الله والآب ، بل ويعيش به في مجده الذي كان له قبل إنشاء العالم، فكلمة «صار» أصبحت هي مركز الوحي اللاهوتي الصحيح. لأنه وإن كانت كلمة "صار" في قوله »والكلمة صار جسداً» تحمل في طياتها عمليات إلهية سرية خطيرة في معزل عن قدرة فكر الإنسان، وهيهات للانسان أن يبلغ مداها؛ إلا أن شيئاً واحداً يتحتم علينا أن لا نفوته، وهو أنه إن لم يكن قد صالح الله «الكلمة بالجسد» لما «صار الكلمة جسداً»، لما أمكن أن يصالح الكلمة المتجسد الله بالإنسان! أو كيف يصالح الآب الكلي القداسة بالإنسان الذي بلغ الحضيض في الخطية والنجاسة؟
وإن كان المسيح الكلمة المتجسد قد وقف يتشفع ويحامي ويطلب لدى الله الأب عن الإنسان الخاطىء, مطالبأ الله أن يجعله واحدأ في الآب والابن: «ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الأب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا, ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو21:17‏), لأن رسالة المسيح »الكلمة المتجد» تتركز وتتلخص في هذا المطلب الواحد الآخير أن الإنسان يصير واحدأ مع الآب والابن؛ فكيف يتصور أن يكون الكلمة قد أخفق في أن يوحد اللاهوت بالناسوت إلى واحد في نفسه؟
‏وعندما قال المسيح: "أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد" (يو23:17)، فهل لم يكن يحب حساب الناسوت الذى له؟ وكيف يعقل أن نصير نحن واحد في المسيح, ‏وواحداً في الآب مع المسيح, ونبلغ إلى «الشركة في الطيعة الإلهية»ء إذا تصورنا أن المسيح نفسه قد أخفق أن يُصير اللاهوت والناسوت واحداً ؟!
‏إذن فإيمان الكنيسة القبطية الأ رثوذكسية هو إيمان إنجيلي بالدرجة الأ ول ولاهوتها هو من عمق أعماق لاهوت إنجيل يوحنا؛ عندما تقول أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية صارتا واحداً بالاتحاد في أقنوم الكلمة المتجسد وليس اثنين بعد الاتحاده وأن المسيح كانت له بالتالي حتماً وبالضرورة مشيئة واحدة وإرادة واحدة.
‏هذا الأمر اختلط على أوطاخي إذ اعتبر أن اتحاد الطبيعتين أنشأ طبيعة ثالثة، واحدة، كانت فيها الطبيعة البشرية منسحبة وكأن لا وجود لها. فسماه اللاهوتيون(Monophysite) وألصقوا هذا الإصطلاح بالكنيسة القبطية، وهي من الأوطاحية ومن هذا الإفتراء براء !!
‏فعندنا «الكلمة صار جسداً» تعني أن كل من الكلمة والجسد صارا واحداً، يعملان معاً بانسجام فائق، نتيجة اتحاد كامل، إذ وحد بينهما المسيح في ذاته ليعملا عملاً واحداً بمشيئة واحدة وإرادة واحدة ورأي واحد هي مشيئته وارادته الذاتية الواحدة التي يستمدها من الأب. وفي وحدة الطبيعة والذات التي عاش بها المسيح ويعيش بها حتى الأن وإلى الأ بد مع الله، سيظهر بها كما كان يعيش فيها على الأرض: «ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله, لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)
4- إن بشرية المسيح كانت عامة وليست بشرية فردية. فهو كان، ونادى بأنه "ابن الإنسان" أكثر مما عُرف أنه من الناصرة أو الجليل أو ابن داود. كما كانت بشريته كاملة تسمو فوق اعتبارات الجنس ذكراً أو أنثى. وهذا واضح ومُضمن في قول القديس يوحنا «صار جسداً» ولم يقل صار إنساناً, وهذه لفتة بديعة, حتى يشمل كل ما للإنسان دون أن يستثني شيئاً منه.
5- قولنا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اجتمعتا واتحدتا إلى واحد في شخص «الكلمة»، أي يسوع المسيح, ثم قولنا أن المسيح وحدهما إلى واحد في ذاته، وبناء على ذلك كانت له مشيئة واحدة وارادة واحدة, هذا يقطع خط الرجعة على كل أشكال «النسطورية» التي قالت أنه كان له شخصية إلهية بجوار شخصية بشرية كل منهما تعمل عملها الخاص بها. وذلك نشأ بضرورة الحال لما اعتبروا أن الطبيعتين اللاهوتية والبشرية لم تأتيا فيه إلى إتحاد ووحدة!! فعندهم كل طبيعة برزت بشخصية تحمل خواصها. وهذا تقسيم شنيع في شخص المسيح الواحد. علماً بأن "الكلمة الذي كان في البدء، وكان عند الله وكان الله، والكلمة صار جسداً»؛ نقول أن شخص الكلمة أو أقنومه لما صار جسداً لم يأخذ شخصية جديدة عما كان له، ولم يغير شخصيته الإلهية، بل نسمع المسيح, أي الكلمة المتجسد, يقول بقوة وجلال «أنا هو»: « أنا هو الحق والحياة والنور» !!! »وقبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»، و«إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8)، «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
6- إن الطبيعة البشرية التي صا رفيها الكلمة تأثرت تأثرا مباشراً باللاهوت, فبعد أن كانت تحت لعنة الموت رفع عنها الكلمة هذه اللعنة بلاهوته لحظة أن صار فيها، وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير: [لأنه كان من الضروري عندما صار الجسد جداً له أن يشترك في عدم الموت الذي له, أي الذي للكلمة].
7- كذلك فالطبيعة البشرية التي صارت للكلمة وصار الكلمة لها لما أخذت قوة عدم الموت أخذت فيها قوة القيامة من الأموات. لذلك قام الجسد من الموت دون أن يمسك فيه.
وهكذا فإن قول القديس يوحنا "والكلمة صار جسداً" فتح أمام اللاهوتيين كل كنوز اللاهوت التي كانت مخبأة لحساب «الجسد» الكلي أي البشرية عامة. لأن التجسد كان في حقيقته تنازلاً ‏إلهياً سخياً إلينا، حاملآ على ذراعيه كل ما يمكن أن يعطيه الله للانسان مما كان هو محتاجاً إليه أو مما كانت محسوبة له أصلاً في الخليقة الاولى وفقدها بالخطية وبالبعد عنه.
هذه العطايا الإلهية السخية، حمل الله أصولها ونموذجها الكامل لجسده أي بشريته, التي صيرها له وصير نفسه لها كعينة لما هو مزمع أن يصنعه في جسد البشرية. ولو أدركنا هذه الحقيقة لآدركنا سر لاهحوت بولس الرسول كله، بل وسر إنجيل يوحنا وبقية الأناجيل وكل أقوال المسيح:
أ- فبولس الرسول فهم «الكلمة صار جسداً» بأن ملء اللاهوت حلق في جسد الكلمة "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً" (كو9:2‏). فيتمسك بذلك بولس الرسول بالحرف الواحد, كما أصبح حقاً لنا أن نمتلىء منه أو فيه: «لكي تمتلئوا الى كل ملء الله» (أف19:3)، «وأنتم مملوؤون فيه» (كو10:2). أو حسب تعبير القديس يوحنا «ومن ملئه نحن جيعا أخذنا نعمة فوق نعمة» (يو16:1‏)
ب- ولأن لعنة الموت رُفعت عن «جسد الكلمة» وحل محلها قوة القيامة وملء الحياة الأبدية نتيجة الاتحاد الإلهي، كذلك أصبح لنا هذا الحق عينه: «من آمن بي ولو فسيحيا, وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى إلى الابد.» (يو25:11-26)
»من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إل دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
«من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا اقيمه في اليوم الأخير.» (يو24:5‏)
وهنها قوة ومركز الإفخارستيا المنقطع النظير، المترتب أصلآ عن أن "الكلمة صار جسداً"، إذ أن «الجسد» بفهوم «اللحم» و »الدم »» في الكلمة أي فى "جسد الكلمة" صار فيه وصار له كل ما للكلمة من قوة إلهية مدخرة فيه وعاملة به للشفاء من الموت، لذلك ستاه الآباء "ترياق عدم الموت"؛ بل ولإعطاء الحياة الآبدية، بل ولأخذ قوة القيامة ونور الخلود، لأنه «جسد الكلمة» أو إذ جاز القول "جسد الله" أو "جسد الحياة الابدية" أو «جسد النور»!! فانظر أيها القارىء وتمعن كيف يأكل ويشرب الإنسان بالسر "جسداً" مُدخراً فيه كل كنوز الله هذه مجاناً.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
"والكلمة صار جسداً"

«صار» هنا لا تفيد التغيير كما لا تفيد أن الكلمة توقف عن أن يكون الكلمة. لأن "الكلمة" بدء كل ذي بدء، له جوهر الله وطبيعته، لذلك فهو غير قابل للغيير وغير قابل للتحول, ولكن القول "صار" يفيد اتخاذه درجة في الاستعلان تتناسب مع ضعف إدراكنا، لأن عجز الأنبياء في توصيل « الكلمة» للناس وفشل الناس في إدراك «الكلمة» جعلا الكلمة يأخذ حالة أكثر اقتراباً لإدراكنا، حتى يتمم فيها استعلاناً أكثر لله.
‏كذلك نجد أذ قوله: «صار» هنا تتصل بمفهوم عميق مع «صار» التي جاءت في الأية 2:1 "كل شيء به صار"، إذ نلمح أن القديس يوحنا يكاد يقول أن الكلمة هو أصل ومركز الخليقة القديمة والخليقة الجديدة، فالاولى «به صارت» والثانية "فيه صارت", و«صار هو رأساً لها»، وكأن القديس يوحنا يود أن يقول "أنه صار إلى الذي به صار. ومن هنا جاء القول «بكر كل خليقة» (كو 15:1)، لأنه هو أيضاً أول قيامة الأموات!!
كذلك فإن "الجسد" الذي صار إليه وفيه؛ لا يعبر عن جزء من الإنسان، ولكنه تعبير لاهوتي عن طبيعة الإنسان ككل، جسداً ونفساً وروحاً.
وكلمة «الجسد» هي تعبير سائد في العهد القديم يعبر عن البشرية ككل، ونسمع ذلك في قول يؤئيل النبي (في الترجمة السبعينية): « ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل جسد... «، التي جاءت في الترجمة العربية «على كل بشر.» ( يؤئيل 28:2)
والمعنى أن «الكلمة» الذي «كان في البدء، وكان عند الله، وكان هو الله»، صار إنساناً كاملاً له كل ما للطبيعة البشرية من صفات, ما عدا الخطية وحدها, وهو هو الكلمة، كما كان قبل التجسد هكذا بقي كما هو بعد التجسد.
والقديس يوحنا, عن حكمة روحية وبصيرة لاهوتية, اختار كلمة «صار«، ولم يقل «أخذ جسداً»، كما يخطىء بعض اللاهوتيين، فهو لم «يأخذ» وإلا كان من المحتمل أن «يترك»؛ كذلك لم يقل «حل في الجسد» مجرد حلول وإلا احتمل الإخلاء والترك؛ بل قال «صار»» بحيث يستحيل أذ يتراجع فيما صار اليه لأن الصيرورة هنا شملت كيانه كله!
‏وحيما قال صار"جسداً، فهو بحكمة اختار كلمة «جسد»، فهو لا يقصد أنه صار إنساناً ‏ما مجرد واحد من الناس. ولكه يقصد أنه صار«بشراً» له «ملء الطبيعة البشرية كلها«. لذلك نسمع المسيح يعطي نفسه اسم »ابن الإنسان» ليعبر عن البشرية كلها القائمة فيه. وفعلاً قد عبر بحياته على الآرض تعبيراً كاملاً عن الطيعة البشرية بكل ضعفها وأعوازها دون خطأ أو خطية، دون أن يتنازل لحظة واحدة ولا طرفة عين عن كونه «الكلمة» الله أو «الله الكلمة». وبهذا استطاع أن يرفع الطبيعة البشرية التي صار فيها إلى منتهى الكمال: "لأجلهم أقدس أنا ذاتي" (يو 19:17). لأن القصد من التجسد هو استعلان أن «يسوع» هو المسيا "الكلمة" الأزلى: «كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله(ايو2:4)، حيث كلمة «جاء في الجسد» تضيف إلى مفهوم «صار جسداً» الاولى مفهوم الديمومة في التجسد الكامل دون أي تغيير. لأن «صار جسداً» وحدها تفيد الحقيقة أنه صار بطبيعة الإنسان كاملة، أما قوله: "جاء في الجسد" فتفيد التواجد في هذه الحقيقة، والإستمرار فيها.
أما تأكيد التجسد أو أن الجسد الذي صار به هو جسد بشري داخل في مسلسل البشرية, فهذا يقرره بولس الرسول في رسالته إلى رومية: "بولس عبد ليسوع المسيح... الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد." (رو 1:1-3)
واختصار هذه الأية هو كالأتي: "يسوع, المسيا, ابن الله, تجسد !!"
‏ثم إذ التأكيد على أن البشرية التي صار بها هي بشرية حقيقية متألمة وقابلة للموت, فهذا يصفه أيضأ بولس الرسول: "فالله, إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية, دان الخطية في الجسد"(رو3:8)
‏أما قوله: «شبه جسد الخطية» فهو ليفرقه من "جسد الخطية"، فجسد المسيح يحمل كل مكونات جسد الخطية ما عدا الخطية، لأن بشرية المسيح وُجدت, لحظة ما وُجدت, متحدة بلاهوته!! فلم يكن ممكناً أن تداهم, الجسد, عناصر الخطية، بل ولأن جسد المسيح كان خالياً خلواً تاماً من عنصر الخطية، استطاع بلاهوته أن يدين, أي يحكم ويعاقب ويفرز الخطية بالجسد عندما حل عقوبتها عليه وهو بريء منها. فالصليب والموت كانا أقصى فضيحة للخطية وأعظ تتويج لجسد الإنسان بالنصرة عليها: "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس"(عب14:2)
‏ولكن السؤال الكبير المحير: كيف أمكن «للكلمة الله» أو "الله الكلمة" وهو في ملء لاهوته ومجده أن «يصير جسداً»، ويوجد في الهيئة كإنسان؟ بمعنى أن مجد اللاهوت حينما يحل حلولاً ذاتيأ ودائمأ في جسد إنسان, علمأ بأنه كان أكثر من حلول إذ هو اتحاد وصيرورة, فإنه يمنع الجسد من أن يظهر بصورته الطبيعية, فبهاء مجد الله يصعق العين الترابية، وهوذا المثل أمامنا عملياً وواضحاً، فالمسيح نفسه لما استعلن لبولس الرسول بعد القيامة وهو في مجده لم يحتمله لا بولس ولا الذين معه: «رأيت في نصف النهار في الطريق أيها الملك نورا من السماء أفضل من لمعان الشمس قد أبرق حولى وحول الذاهبين معي, فلما سقطنا جميعا على الارض سمعت صوتاً يكلمني ويقول باللغة العبرانية شاول شاول لماذا تضطهدني... فقلت أنا "من أنت يا سيد" فقال "أنا يسوع الذي أنت تضطهده"» (أع13:26-15)
ولكن الذي نعرفه تماما أن يسوع المسيح حينها كان يعيش على الآرض، لم يكن له هذا النور الذي هو أشد لمعاناً من نور الشمس وقت الظهيرة!
‏هنا يقول بولس الرسول أنه لكي يحل ملء اللاهوت في الجسد ويتحد به، يلزمه أولاً أن يتخلى عن مجده الإلهي المنظور: "الذي كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة (هيئة) عبد صائرأ في شبه الناس" (فى6:2-7). وهذا هو الذي عبر عنه اللاهوتيون باسم "الإخلاء" باعتباره عملاً يتبع قدرة الله على كل شيء التي بها يقدر أن يخلي ذاته, في الظاهر, من مجده.
‏ولكن هذا الإخلاء ل يُنقص من كل خصائص اللاهوت التي حل بها الكلمة فى «الجسد» واتحد به, إذ يقول بولس الرسول: "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا, وأنتم مملوؤن فيه!!"(كو9:2)
‏من هذا نستطيع أذ ندرك مدى عمق وفخامة المعنى في قول القديس يوحنا، وبمنتهى الإختصار «والكلمة صار جسدا»، فهنا قد بلغ استعلان الكلمة أوج قوته وعمقه وفعله لأن «جسد الكلمة» ‏هذا، الذي هو جسد يسوع المسيح، أصبح أعلى قوة إلهية حصل عليها الإنسان ليدرك الله بها وفيها ويقترب إليه.
‏فجسد الكلمة, أي جسد يسوع المسيح, صار هو الطريق المفتوح أمام الإنسان إلى الأقداس العليا في السماء: «فإن لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إل الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً حيا بالحجاب أي جسده...» (عب19:19-20). لأننا سبق أن قلنا أن يسوع المسيح "دان الخطية بالجسد"، فبالصليب أي بموت الجسد عن الخطية صار«الجسد» معبراً سرياً إلى الأمجاد العليا.
‏ثم إن هذا «الجسد», جسد الكلمة يسوع المسيح ابن الله, الذي قدمه الله نفسه ذبيحة خطية على مذبح خطية العالم كـ «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» [فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة] فأصبح لحمه يؤكل بالسر, أي بالروح للتقديس, وهذا نسمعه من فم الرب قديماً متتماً بالفعل كنبوة ونموذج لذبيحة المسيح على الصليب يوم الفصح:
"تكون لكم شاة (حملاً) صحيحة ذكرا ابن سنة... ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر(نيسان), ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية، ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها. ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويأ بالنار مع فطير، على أعشاب مرة يأكلونه... هو فصح للرب." (خ 5:12-11)
‏هذا هو المسيح فصحنا، فقد قبضوا عليه وتحفظوا عليه حتى اليوم الرابع عشر, بحسب إنجيل يوحنا, واشترك كل جهور جماعة شعب إسرائيل في ذبحه على الصليب "حسب الطقس"، وأهرقوا دمه على الصليب وعلى الأرض، على خلفية من نار الآلام ومرارة التعذيب، فكان هو "الفصح الحقيقي" الذي تم على اسمه أول فصح في مصر: "وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظمى التي تدعى روحيا سدوم ومصر حيث صُلب ربنا أيضاً" (رؤ8:11). هذا هو فصحنا الحقيتي المذبوح لنا: "لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا" (اكو 7:5)
وكما أن الذين أكلوا الفصح الآول عبر عليهم الملاك ولم يقتحمهم حسب وعد الله لكل من أطاع وأكل لحم الفصح واختبأ خلف ‏الدم، والذين لم يأكلوا ولم يتحصنوا بالدم أهلكهم المهلك؛ هكذا صار الأكل والشرب من فصحنا الجديد حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
الفصح القديم كان بالرمز لنموذج جسدي، أما فصحنا الجديد فبالحق على مستوى الروح: "جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق... فمن يأكلني فهو يحيا بي" (يو55:6-57)
‏والإنذار الآول بالهلاك لمن لم يشترك في القصح بقي هو كما هو:
‏"من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو54:6‏)
"إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم." (يو53:6‏)
‏ثم هذا هو بعينه "الجسد" الذي «صار للكلمة».
وهو الجسد الذي بذله من حياة العالم على الصليب.
‏وهو الجسد الذي هو بالحقيقة »خبزالسماء», «حبة الحنطة» التي سقطت من السماء على أرض الشقاء فماتت، ثم قامت واستقامت، وأتت بغلة وفيرة ملأت أهراء الحياة.
‏وهكذا يكون بـ «الكلمة صار جسداً», قد صار تأسيس طريق الخلاص للدخول إلى الأقداس العليا، وتأسيس سر الاتحاد الجديد بالإفخارستيا. فجسد الكلمة، أي «يسوع« المسيح ابن الله، صار خبز الحياة الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. فهنا اتحاد ذو شقين:
الأول: اتحاد عل مستوى الطبيعة الإلهية: «كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى... اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط3:1-4)؛ "لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3)
والثاني على مستوى الذات، أي شخصي: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:3)؛ «مع المسيح صُلبت فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الأن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)؛ "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً. (يو23:14)
‏فكل هذه النعم والمواعيد العظمى والثمينة, وهذا الخلاص العجيب، وهذا الحب الإلهي الذي جعل هياكل أجسادنا وأرواحنا منزلاً مريحأ لسكنى الآب والمسيح والروح القدس لتغيير طبيعتنا وتقديسها، وهذه الشركة والزمالة والمؤازرة في الحياة الحاضرة مع شخص الكلمة يسوع المسيح ابن الل؛ كل هذا تم لما انتهى «الكلمة» إلى قراره الآخير: "أن يصير جسداً".
‏والآن يلزمنا أن نعود لندقق في المعاني اللاهوتية التي يتضمنها «التجسد» حتى نتجنب الإنزلاقات التي وقع فيها أئمة الهراطقة الذين خرجوا عن حدود الإيمان الصحيح بالتجسد:
1- البشرية التي «صار» إليها وبها الكلمة, أي التجسد, هي بشرية كاملة وصحيحة للانسان الكامل. وهذا ما وقع فيه أبوليناريوس الذي قال بأن البشرية التي أخذها المسيح لنفسه لم تكن كاملة. فهو أخذ جسداً ولكن هذا الجسد لم يكن جسداً كاملاً كما لإنسان عادي.
2- البشرية التي صار بها المسيح كانت بشرية حقيقية ودائمة. وهذا ما وقع فيه جماعة الغنوسيين (العارفين) الذين قالوا أن الكلمة أخذ جسداً حسب الظاهر فقط ولمدة قصيرة وبقي غريباً عن نفسه. فالكلمة عندهم صار جسداً ولكنه لم يلبس هذا الجسد. كما ضل الدوسيتيون الذين قالوا إن الجسد كان خيالاً أو شبهاً فقط. ولم يكن حقيقيا.
إن الطبيعة الالهية والطبيعة البشرية اتحدتا بالتجسد اتحادا كليا وكاملاً وصارتا واحداً. ولكن هذا الاتحاد لم يغير شيئاً من كلتا الطبيعتين، كل في مجاله، فهو "إله متأنس" وليس إلهاً وإنساناً وكأنه ازدواج للشخصية. فلم يأت عملاً إلهياً دون أن يكون الجسد شريكأ فيه، ولم يعمل عملاً جسدياً دون أن يكون اللاهوت شريكاً فيه. فلما أقام لعازر من الموت، أقامه بقوة لاهوته وبصوت فمه معاً. ‏ولما مات، مات بالجسد، واللاهوت فيه لم يفارقه حياً وميتاً، لذلك لم يفسد الجسد ولذلك قام!! ولذلك أيضاً كان موته نصرة للجسد والروح معاً وكان فداء وخلاصاً! فإذا لم يكن اللاهوت ملازماً وشريكا في الآلام والموت لاستحالت الآلام أن تكون آلاما خلاصية والموت موتاً فدائياً. فالله فدانا بالجسد، والدم كان دماً إلهياً. "فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله (عب14:9), ‏ولما قال: «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11‏)، قاما عل أساس لاهوت القيامة الكائن في الجسد المتحد به؛ فلما قام، قام بقوة لاهوته وبالجسد. ولما بكى، كان ذلك أعظم تعبير عن شركة اللاهوت (الله) في أحزان الإنسان موضحاً بالجسد: «في كل ضيقهم تضايق...(إش9:63). وهكذا لم يأت المسيح عملاً إلا واللاهوت له فيه كما للناسوت. لأن بعد الاتحاد لا يمكن أن تعمل أي طبيعة منهما بانفراد عن الأخرى ، لأن شخص المسيح، أي أقنومه، واحد هو الذي جمع الطبيعتين ووحدهما في واحدية ذاتية، فيستحيل عليه أن يكون له مشيئتان ولا إرادتان ولا قولان ولا نظرتان قبالة موضوع واحد. فجاءت أعماله كلها تنطق بوحدة بشرية كاملة ناضجة نفسا وجسدا وروحاً مع لاهوت كامل فعال على مستوى الله قوة وسلطانا ومجدا. ‏وهذا كله واضح لا محتاج إل مجادلة في قول القديس يوحنا «والكلمة صار جسداً»». و«صار» هنا تنص وتؤكد عل عملية توحيد سري فائق للغاية أتاها الكلمة مع الجسد في ذاته ليعيش فيه إلى الأ بد ويعمل به كل أعمال الخلاص، بل ويمجد به الله والآب ، بل ويعيش به في مجده الذي كان له قبل إنشاء العالم، فكلمة «صار» أصبحت هي مركز الوحي اللاهوتي الصحيح. لأنه وإن كانت كلمة "صار" في قوله »والكلمة صار جسداً» تحمل في طياتها عمليات إلهية سرية خطيرة في معزل عن قدرة فكر الإنسان، وهيهات للانسان أن يبلغ مداها؛ إلا أن شيئاً واحداً يتحتم علينا أن لا نفوته، وهو أنه إن لم يكن قد صالح الله «الكلمة بالجسد» لما «صار الكلمة جسداً»، لما أمكن أن يصالح الكلمة المتجسد الله بالإنسان! أو كيف يصالح الآب الكلي القداسة بالإنسان الذي بلغ الحضيض في الخطية والنجاسة؟
وإن كان المسيح الكلمة المتجسد قد وقف يتشفع ويحامي ويطلب لدى الله الأب عن الإنسان الخاطىء, مطالبأ الله أن يجعله واحدأ في الآب والابن: «ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الأب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا, ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو21:17‏), لأن رسالة المسيح »الكلمة المتجد» تتركز وتتلخص في هذا المطلب الواحد الآخير أن الإنسان يصير واحدأ مع الآب والابن؛ فكيف يتصور أن يكون الكلمة قد أخفق في أن يوحد اللاهوت بالناسوت إلى واحد في نفسه؟
‏وعندما قال المسيح: "أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد" (يو23:17)، فهل لم يكن يحب حساب الناسوت الذى له؟ وكيف يعقل أن نصير نحن واحد في المسيح, ‏وواحداً في الآب مع المسيح, ونبلغ إلى «الشركة في الطيعة الإلهية»ء إذا تصورنا أن المسيح نفسه قد أخفق أن يُصير اللاهوت والناسوت واحداً ؟!
‏إذن فإيمان الكنيسة القبطية الأ رثوذكسية هو إيمان إنجيلي بالدرجة الأ ول ولاهوتها هو من عمق أعماق لاهوت إنجيل يوحنا؛ عندما تقول أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية صارتا واحداً بالاتحاد في أقنوم الكلمة المتجسد وليس اثنين بعد الاتحاده وأن المسيح كانت له بالتالي حتماً وبالضرورة مشيئة واحدة وإرادة واحدة.
‏هذا الأمر اختلط على أوطاخي إذ اعتبر أن اتحاد الطبيعتين أنشأ طبيعة ثالثة، واحدة، كانت فيها الطبيعة البشرية منسحبة وكأن لا وجود لها. فسماه اللاهوتيون(Monophysite) وألصقوا هذا الإصطلاح بالكنيسة القبطية، وهي من الأوطاحية ومن هذا الإفتراء براء !!
‏فعندنا «الكلمة صار جسداً» تعني أن كل من الكلمة والجسد صارا واحداً، يعملان معاً بانسجام فائق، نتيجة اتحاد كامل، إذ وحد بينهما المسيح في ذاته ليعملا عملاً واحداً بمشيئة واحدة وإرادة واحدة ورأي واحد هي مشيئته وارادته الذاتية الواحدة التي يستمدها من الأب. وفي وحدة الطبيعة والذات التي عاش بها المسيح ويعيش بها حتى الأن وإلى الأ بد مع الله، سيظهر بها كما كان يعيش فيها على الأرض: «ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله, لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)
4- إن بشرية المسيح كانت عامة وليست بشرية فردية. فهو كان، ونادى بأنه "ابن الإنسان" أكثر مما عُرف أنه من الناصرة أو الجليل أو ابن داود. كما كانت بشريته كاملة تسمو فوق اعتبارات الجنس ذكراً أو أنثى. وهذا واضح ومُضمن في قول القديس يوحنا «صار جسداً» ولم يقل صار إنساناً, وهذه لفتة بديعة, حتى يشمل كل ما للإنسان دون أن يستثني شيئاً منه.
5- قولنا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اجتمعتا واتحدتا إلى واحد في شخص «الكلمة»، أي يسوع المسيح, ثم قولنا أن المسيح وحدهما إلى واحد في ذاته، وبناء على ذلك كانت له مشيئة واحدة وارادة واحدة, هذا يقطع خط الرجعة على كل أشكال «النسطورية» التي قالت أنه كان له شخصية إلهية بجوار شخصية بشرية كل منهما تعمل عملها الخاص بها. وذلك نشأ بضرورة الحال لما اعتبروا أن الطبيعتين اللاهوتية والبشرية لم تأتيا فيه إلى إتحاد ووحدة!! فعندهم كل طبيعة برزت بشخصية تحمل خواصها. وهذا تقسيم شنيع في شخص المسيح الواحد. علماً بأن "الكلمة الذي كان في البدء، وكان عند الله وكان الله، والكلمة صار جسداً»؛ نقول أن شخص الكلمة أو أقنومه لما صار جسداً لم يأخذ شخصية جديدة عما كان له، ولم يغير شخصيته الإلهية، بل نسمع المسيح, أي الكلمة المتجسد, يقول بقوة وجلال «أنا هو»: « أنا هو الحق والحياة والنور» !!! »وقبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»، و«إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8)، «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
6- إن الطبيعة البشرية التي صا رفيها الكلمة تأثرت تأثرا مباشراً باللاهوت, فبعد أن كانت تحت لعنة الموت رفع عنها الكلمة هذه اللعنة بلاهوته لحظة أن صار فيها، وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير: [لأنه كان من الضروري عندما صار الجسد جداً له أن يشترك في عدم الموت الذي له, أي الذي للكلمة].
7- كذلك فالطبيعة البشرية التي صارت للكلمة وصار الكلمة لها لما أخذت قوة عدم الموت أخذت فيها قوة القيامة من الأموات. لذلك قام الجسد من الموت دون أن يمسك فيه.
وهكذا فإن قول القديس يوحنا "والكلمة صار جسداً" فتح أمام اللاهوتيين كل كنوز اللاهوت التي كانت مخبأة لحساب «الجسد» الكلي أي البشرية عامة. لأن التجسد كان في حقيقته تنازلاً ‏إلهياً سخياً إلينا، حاملآ على ذراعيه كل ما يمكن أن يعطيه الله للانسان مما كان هو محتاجاً إليه أو مما كانت محسوبة له أصلاً في الخليقة الاولى وفقدها بالخطية وبالبعد عنه.
هذه العطايا الإلهية السخية، حمل الله أصولها ونموذجها الكامل لجسده أي بشريته, التي صيرها له وصير نفسه لها كعينة لما هو مزمع أن يصنعه في جسد البشرية. ولو أدركنا هذه الحقيقة لآدركنا سر لاهحوت بولس الرسول كله، بل وسر إنجيل يوحنا وبقية الأناجيل وكل أقوال المسيح:
أ- فبولس الرسول فهم «الكلمة صار جسداً» بأن ملء اللاهوت حلق في جسد الكلمة "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً" (كو9:2‏). فيتمسك بذلك بولس الرسول بالحرف الواحد, كما أصبح حقاً لنا أن نمتلىء منه أو فيه: «لكي تمتلئوا الى كل ملء الله» (أف19:3)، «وأنتم مملوؤون فيه» (كو10:2). أو حسب تعبير القديس يوحنا «ومن ملئه نحن جيعا أخذنا نعمة فوق نعمة» (يو16:1‏)
ب- ولأن لعنة الموت رُفعت عن «جسد الكلمة» وحل محلها قوة القيامة وملء الحياة الأبدية نتيجة الاتحاد الإلهي، كذلك أصبح لنا هذا الحق عينه: «من آمن بي ولو فسيحيا, وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى إلى الابد.» (يو25:11-26)
»من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إل دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
«من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا اقيمه في اليوم الأخير.» (يو24:5‏)
وهنها قوة ومركز الإفخارستيا المنقطع النظير، المترتب أصلآ عن أن "الكلمة صار جسداً"، إذ أن «الجسد» بفهوم «اللحم» و »الدم »» في الكلمة أي فى "جسد الكلمة" صار فيه وصار له كل ما للكلمة من قوة إلهية مدخرة فيه وعاملة به للشفاء من الموت، لذلك ستاه الآباء "ترياق عدم الموت"؛ بل ولإعطاء الحياة الآبدية، بل ولأخذ قوة القيامة ونور الخلود، لأنه «جسد الكلمة» أو إذ جاز القول "جسد الله" أو "جسد الحياة الابدية" أو «جسد النور»!! فانظر أيها القارىء وتمعن كيف يأكل ويشرب الإنسان بالسر "جسداً" مُدخراً فيه كل كنوز الله هذه مجاناً.
 
أعلى