وُشى لدى الأميرين لوكيوس Lucius وديفنانيوس Difnanyous بأن تادرس مسيحي ورئيس (أسقف) فاستدعياه وسألاه عن معتقده، فأقر أنه مسيحي. عندئذ تعرض القديس للضرب بعنف والإهانات وسحبه على الأرض، ثم اُستدعى ليقدم بخورًا للأوثان، فرفس المائدة التي وُضعت عليها الأصنام بقدمه. اغتاظ الأميران وأمرا بجرحه بالسيوف، ووضع خرق مشبعة خلاً وملحًا في جراحاته، أما هو فكان يشهد لمسيحه بفرح. أمر الأميران بقطع لسانه حتى لا ينطق بكلمة، وإذ أُلقي لسانه على الأرض حملته سيدة واقفة بجواره وذهبت إليه في السجن وسلمته إياه، فوضعه في مكانه، وعاد سليمًا بقوة الله. اُستدِعى الأسقف، فصار ينطق ويشهد للسيد المسيح، وإذ بحمامة بيضاء وطاؤوس يظهران أمام الأميرين وكل الجمهور فآمن لوكيوس بكلمات الأسقف. عندئذ اغتاظ ديفنانيوس، وأمر بقتل القديس وثلاث نسوة كن يتبعنه. وإذ نُفذ الأمر طارت الحمامة وأيضا الطاؤوس. اقنع لوكيوس زميله ديفنانيوس بالإيمان واشتهى الاثنان أن يتمتعا بالشهادة، فأبحرا إلى قبرص واعترف الاثنان أمام واليها بالسيد المسيح، وتمتعا بالشركة مع القديس تادرس في إكليل الشهادة.
أحد رهبان دير القديس أبي مقار، رسم أسقفًا على مصر غالبًا في حبرية البابا الكسندروس الثاني (42)، لأن الأسقف تادرس كان كبير الأساقفة ومتقدمًا في السن عندما اُختير البابا خائيل الأول ليكون البابا السادس والأربعين. ومن المعروف ان البابا قزما الأول (44) والبابا ثيؤدورس (45) ساسا الكنيسة لمدة 12 سنة فقط، وأما البابا الكسندروس فقد جلس على كرسى القديس مرقس 24 سنة و9 شهور. وقد تحمل القديس تادرس الكثير من الاضطهادات والآلام من الحكام، كما وقف بجانب البابا ميخائيل الأول (خائيل) أثناء اضطهاد الكنيسة في عهده. ماجد القس تادرس: سيرة ومعجزات الأمير تادرس الشطبي، 1982.
إن كان في القرن الثالث قد سيم على إيبارشية الميصة (ما بين النهرين) الأسقف تادرس الذي اشتهر بمقاومته لبولس السموساطي، فإنه في النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس كان أسقفها أيضًا يُدعى بذات الاسم (تادرس) أو ثيؤدور الذي نال شهرة أعظم بسبب بلاغته وكتاباته. نشأته ولد في إنطاكية حوالي سنة 350م، ونشأ في أسرة غنية جدًا، وكان والده الذي لا نعرف اسمه له مركزه المرموق، أما ابن عمهPaeanius الذي كتب له القديس يوحنا ذهبي الفم عدة رسائل (95، 193، 204، 220) فكان يحتل مركزًا حكوميًا هامًا. وقد صار أخوه Polchronius أسقفًا على إيبارشيةApamea . درس الخطابة والأدب في إنطاكية على يديْ الفيلسوف المشهور ليبانوس حيث التقى بالقديس يوحنا الذهبي الفم وصارا صديقين. وفي سنة 369 التحق الاثنان بمدرسة ديؤدور في دير بأنطاكيا حيث عاشا في حياة نسكية وتكريس لدراسة الكتاب المقدس بالمنهج الأنطاكي الرافض للتفسير الرمزي لمدرسة إسكندرية، المنهج الذي تبناه معلمهما ديؤدور. بعد فترة بردت روح ثيؤدور، وترك الحياة الرهبانية، فصار محاميًا، وتعرف علي سيدة يهودية جميلة تدعى Hermoine تزوجها فتحطمت نفسه تمامًا باليأس. أسرع صديقه القديس يوحنا الذهبي الفم فأرسل رسالتين يحثه فيهما على الرجوع إلي حياته الأولى بالتوبة الصادقة، مظهرًا له أن يأسه في مراحم الله هي لطمة على وجه السيد المسيح أكثر مرارة من سقوطه في حبه لهذه السيدة وكسره لنذر الرهبنة، محدثًا إياه عن التوبة وفاعليتها، فاتحًا أبواب الرجاء أمامه، وقد سبق لي ترجمتهما تحت عنوان "ستعود بقوة أعظم". وقد جاءت الرسالتان بالنتيجة المرجوة، فعاد تادرس إلى الحياة الرهبانية، وفي سنة 383م سيم كاهنًا بواسطة الأسقف فلافيان الأنطاكى. سيامته أسقفًا في سنة 392م سيم أسقفًا على الميصة، وقد بقي حتى نياحته (سنة 428م) في كرسيه تلاحقه شهرة عظيمة بسبب بلاغته وكتاباته. لكنه دين بعد وفاته بـ 125 سنة كهرطوقي، بكونه انحرف إلى نوع من البيلاجية (في مجمع القسطنطنية سنة 553م لا تعترف به كنيستنا). كتاباته خير من يمثل مدرسة إنطاكية التفسيرية، الرافضة للفكر الإسكندري الرمزي، يعتبره النساطرة أعظم مفسَر للكتاب المقدس. فسر تقريبًا جميع الأسفار بطريقة تاريخية نقدية. يُعتبر أول من استخدم النقد الحرفي لحل مشاكل نصوص الكتاب، كما ضم تفسيره عددًا كبيرًا من المقالات العقيدية والجدلية، مما يظهر انه قد انشغل بالأسئلة اللاهوتية التي سادت في عصره. إذ دين كهرطوقي بادت أغلب كتاباته حتى اُكتشفت بواسطة بعض الدارسين المحدثين. ملاحظة كان نسطور الهرطوقي تلميذًا له، بدأ الشك في أمره بعد مجمع أفسس (431م)، وحُسب أنه هو العلة الأصلية لظهور النسطورية.
كان اسم ثيؤدورس أو تادرس من أكثر الأسماء الشائعة خاصة بين الرهبان والشهداء والأساقفة، وقد ورد في "قاموس السير المسيحية" A Dict. of Christian Biography لسميث وولس، 122 اسمًا تحت "ثيؤدورس". كلمة "ثيؤدورس" تعنى هبة أو عطية الله. أما سيرة البابا تادرس فسنذكرها بمشيئة الله تحت اسم " ثيؤدورس". تادرس (أسقف) لا نعرف عنه سوى أنه كتب للقديس أغسطينوس يسأله ماذا يفعل مع الكهنة الذين عادوا من البدعة "الدوناتستية Donastism" التى كانت تمثل انشقاقًا في الكنيسة وهرطقة، إذ كانوا يعتقدون أن قوة المعمودية تعتمد على قدسية خادم السرّ، كما كانوا يائسين من جهة توبة الخطاة. طالب القديس أغسطينوس بقبول الكهنة الراجعين من هذه الهرطقة بشيء من اللطف. لقد أعلن بوضوح أنه لا يقبل انشقاقهم السابق، محتقرا هرطقتهم أما اسم الله الذي يحملوه فلا يستهين به، معترفا بمعموديتهم وكهنوتهم ونذرهم للبتولية. قال إنه يقبلهم، ولكنه لا يقبل خطأهم. لقد طالب الأسقف ثيؤدورس أن يظهر هذه الرسالة (61) للآخرين ليعرفوا رأيه.
--------------------------
تادرس الأسقف
عاش في القرن الحادي عشر، وقد حضر هذا الأسقف المجمع الذي دُعي إليه البابا كيرلس الثاني البطريرك (67) بناء على طلب بدر الدين الجمالي وزير المستنصر، وحضره 47 أسقفًا منهم 22 أسقفًا من الوجه القبلي، واعتذر خمسة أساقفة لتقدم بعضهم في السن أو بسبب المرض. وقد سوى المجمع الخلافات الشخصية، وعّم السلام في الكنيسة المقدسة.
استشهد حوالي سنة 306م، وهو أحد الأساقفة الأربعة الذين بدأوا بالاعتراض على سلوك ميليتوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) الذي سبب انشقاقًا في كنيسة مصر، خاصة في عهد البابا بطرس خاتم الشهداء.
--------------------------------
تادرس الأسقف الشهيد2
استشهد مع القديس بسورة أسقف ميصيل (فوه). تعيد له الكنيسة في 9 توت.
-------------------
تادرس الأنطاكي الكاهن
كاهن بإنطاكية في القرن الخامس، كتب مقالاً في 15 كتاب ضد الأبولينارية وأتباع انوميوس، وقد فُقد عمله هذا. كثيرًا ما يحدث لبس بينه بين تادرس (ثيؤدور) الراهب والكاهن في Rathu، في القرن السابع. تتركز بدعة أبوليناريوس في إنكار وجود روح إنسانية للمسيح، إذ ظنوا أنه حمل جسدًا دون الروح لأن اللاهوت حلّ محل الروح، وكان هدفهم في ذلك تأكيد الوحدة بين اللاهوت والناسوت. أما اونوميوس فكان أريوسيًا أنكر بنوة الابن، حاسبًا انه صدر عن الآب مباشرة يحمل قوة للخلق لكنه ليس واحدًا معه في اللاهوت، وأن الابن خلق الروح القدس أولاً.
ولد هذا الأخ من أبوين وثنيين. آمن منذ صبوته بالسيد المسيح، وامتاز بميله الشديد نحو النسك والعبادة، فشاعت سيرته، وقربه البابا أثناسيوس إليه. ويبدو من سيرته أنه كان يونانيًا لا يعرف القبطية، لأنه كان يتحدث مع القديس باخوم بواسطة مترجم. كما جاء في السيرة أنه لما ذهب إلى الدير الباخومي تعلم القبطية. أحب تادرس ربنا يسوع واشتاق إلى الرهبنة، فترهب إثني عشر عامًا بالإسكندرية، وقد رسمه البابا أثناسيوس أغنسطسًا. وفي ذات يوم ذهب مع بعض الإخوة إلى القديس باخوميوس، فسأله الأب (بواسطة المترجم) عن الإخوة المنعزلين بالإسكندرية والكهنة، وانتهى الحديث بأن كشف له باخوم بأن الإنسان الذي ينَّعم جسده بالأكل والشرب لا يقدر أن ينعم بالطهارة. إذ كان مع باخوم عصا صغيرة ضرب بها الأرض مرتين وقال:" هل تسقي هذه الأرض وتضع فيها زبلاً ولا تنبت زوانًا؟ هكذا الجسد إن هو تنعم بالأطعمة والأشربة والراحة، فانه لا يستطيع أن يكون في طهارة، لأن الكتاب يقول بأن الذين للرب يسوع المسيح قد صلبوا الجسد وشهواته". تاق تادرس أن يعيش في الأديرة الباخومية، فسلمه الأب إلى أحد الشيوخ حيث قام بتهذيبه، وتعلم تادرس القبطية، فانتدبه الأب لخدمة الضيافة يقرأ الكتب المقدسة ويفسرها للشبان من الرهبان. أقام الأب أبًا على اليونانيين مع الإسكندرانيين. وكان إذا جاء أحد يوناني يحدثه الأب عن طريق هذا الأب. جاء عنه أنه ذهب يومًا إلى الأب باخوم ويقول له: "إنني سمعت عن كرنيليوس أن عقله لا يطيش أثناء الصلاة، وإنني جُربت اليوم بعدم ضبط الفكر ثلاث مرات فماذا أفعل؟" أجابه القديس باخوم بأن كرنيليوس لم يأخذ هذا إلا بمداومة الجهاد. ومكث تادرس 13 سنة راهبًا في الدير وتنيح بسلام.
ذهب القديس تادرس إلى دير الاناتون Enaton الذي يبعد حوالي تسعة أميال جنوب غرب الإسكندرية، وغالبًا هو غير تادرس تلميذ القديس آمون الكبير ورفيق الأنبا أور، وإنما كان معاصرًا له. يسمى أيضا "تادرس الإسكندري" وقد جاء عنه انه قال: "لما كنت شابًا وكنت أُقيم في البرية ذهبت إلى المخبز لأحضر خبزتين، فرأيت هناك أخًا يهيئ خبزه ولم يكن له من يساعده، فتركت خبزي ومددت يدي للعون. ولما انتهيت جاء آخر ففعلت معه الأمر نفسه. ثم جاء ثالث، ففعلت معه كذلك. وهكذا كان حالي مع جميع القادمين إلى المخبز. وبعد أن انصرف الجميع أعددت خبزتي وانصرفت. كان مع الأب لوقيوس يدربان نفسيهما على حياة الغربة، فقد عاشا خمسين عامًا، متى جاء الشتاء يقولان بعد هذا الشتاء سنرحل من هنا، وهكذا متى حلّ الصيف، وبقيا هكذا يشعران أنهما راحلان. من كلماته: "إن حاسبنا الله على كسلنا في الصلاة وفتورنا في التسييح، لا يمكننا أن نخلص". غالبًا رأته القديسة ميلانيا الصغيرة سنة 412م، وتحدثت معه وقالت عنه إنه نبي.
دُعي البرامي لأنه من ريف منف (مصر) بجوار جبل بي هرما (الأهرامات بالجيزة) وقد جاء هذا الاسم مختلفًا في حروفه في المخطوطات حتى دعاه البعض خطأ بالفرمي، غير أن الفرما في شمال شرق مصر بجوار بورسعيد أما البرما هنا فغالبًا ما يُقصد بها الجبل المتاخم للأهرام والتي تدعى بالإنجليزية Pyramids. عاش في منطقة القلالي، وكانت تدعى أيضًا شيهيت تجاوزًا، حيث زاره القديس يوحنا كاسيان وأُعجب بحكمته وقداسته، فسجل لنا حوارًا معه بخصوص "موت القديسين" (مناظرة 6)، عالج فيه السؤال: لماذا يسمح الله بالضيقات للقديسين؟ موضحًا أن ما يصيب الأبرار هنا من شر هو في حقيقته ليس شرًا، إذ تعمل كل الأمور لخير الأبرار ومجدهم. إنه يود تنقيتهم وتزكيتهم لينالوا الإكليل الأبدي. تتلمذ على يديه القديس إسحق قس القلالي وعلمه كيف يعمل ويخدم في صمت. في سنة 407م هرب إلى جبل البرما ليعيش وسط الرهبان هناك بعد أن تعرضت البرية لغارات البربر. حبه للوحدة والسكون عاصر القديس مقاريوس الكبير، وغالبًا ما تتلمذ على يديه. أحب الوحدة فعاشها أكثر من 70 عامًا في سكونٍ وتأملٍ، لهذا عندما سيم شماسًا رفض الخدمة بإصرار، وإذ ألحّ عليه الشيوخ أن يمارس الخدمة صار يصلي بلجاجة فرأى عمود نار ممتدًا من السماء إلى الأرض، وسمع صوتًا يقول له: إن استطعت أن تصير مثل هذا العمود فانطلق إلى خدمتك. عندئذ إذ حاول الشيوخ معه قال لهم: "أسألكم أن تتركوني وإلا تركت هذا الموضع"، فتركوه بحريته. جاءه أخ يمارس الوحدة في منطقة القلالي يشكو إليه أنه مضطرب، فأجابه القديس: "اذهب واتضع بفكرك وأطع الإخوة وأمكث معهم". مضى الأخ ثم عاد بعد حين يشكو له: "لا أجد سلامًا مع الإخوة". فأجابه أبا تادرس: "إن كنت لا تجد راحة في الوحدة ولا في الحياة مع الآخرين فلماذا طلبت الرهبنة؟ أليس من أجل احتمال المشقات؟! قل لي: كم سنة لك تلبس هذه الثياب؟" فأجابه الأخ: "ثمانية أعوام". قال له الأب: "لقد ارتديت هذه الثياب سبعين عامًا ولم أجد راحة يومًا واحدًا، فكيف تطلب الراحة في ثمانية سنين؟!" وإذ سمع هذا الكلام تشدّد. زاره أحد الإخوة وأقام عنده ثلاثة أيام يتوسل أن يسمع منه كلمة، أما الأب فلم يجبه. خرج الأخ حزينًا، ولما سأله تلميذه لماذا تركه يمضي حزينًا، أجابه: "لم أتحدث معه لأنه تاجر يبغي أن يتمجد بكلمات الآخرين". قيل إنه كان يهتم بثلاثة أمور رئيسية: الفقر الاختياري، النسك، الهرب من الناس. قيل عن أنبا أرسانيوس وتادرس البرامي إنهما كانا مبغضين للسبح الباطل جدًا أكثر من غيرهم من الناس. أما أنبا أرسانيوس فلم يكن يلتقي بالناس كيفما اتفق. وأما تادرس فإنه وإن كان يلتقي بهم لكنه كان يجوز بسرعة كالرمح. دراسته للكتاب المقدس أحب الكتاب المقدس، فكان يداوم على دراسته خلال نقاوة القلب لتكون له البصيرة الداخلية كعطية إلهية. قال عنه القديس يوحنا كاسيان إنه متى قابلته صعوبة في فهم الأسفار كان يقضي سبعة أيام مصليًا ومتأملاً حتى تشرق عليه المعرفة بإعلان سماوي. كان لا يميل إلى المعرفة المجردة إنما يطلب المعرفة العملية المختبرة، لهذا إذ جاءه أخ يستقصي عن أمور لم يصل إليها بعد ولا مارسها قط، قال له: "إنك لم تجد السفينة بعد، ولم تركبها، فكيف تدّعي وصولك إلى المدينة المنشودة قبل أن تبحر إليها؟! أولى بك ألا تتحدث في أمر ما إلا بعد ممارسته أولاً". حبه للعطاء قال تلميذه انه ذات يوم جاء إليه تاجر يبيع بصلاً (ربما بعد ذهابه إلى جبل البرما) فملأ سلة التلميذ بصلاً. قال له أبا تادرس ان يملأ السلة قمحًا ويعطيه للتاجر، فذهب التلميذ وملأها من القمح غير المُنقى. تطلع إليه الأب بحزنٍ شديد، فاضطرب التلميذ وسقط الوعاء من يديه وانكسر، عندئذ قال له الأب: "انهض، لست أنت المسئول إنما أنا المخطئ لأني سألتك"، ثم دخل وملأ حضنه قمحًا نقيًا وأعطاه للتاجر مع البصل. قيل أيضًا انه إذ شاخ وضعف وهو في جبل البرما كانوا يأتون إليه بالطعام، فيقبله ليقدمه لكل من يطرق بابه. جاء عنه أيضًا أن ثلاثة لصوص هجموا عليه فأمسكه اثنان وقام الثالث بنقل أمتعته، وبعد أن أخرجوا الكتب أرادوا أن يأخذوا العباءة، فقال لهم: "هذه أتركوها"، أما هم فلم يعبأوا به، فلما حرك يديه سقط اللذان كانا يمسكانه ففزعوا جدًا، لكنه في هدوء وبشاشة قال لهم: "لا تخافوا، اقسموا الغنائم إلى أربعة حصص، ثم خذوا الثلاثة واتركوا الربع الأخير لي". ففعلوا هكذا وكانت العباءة هي نصيبه، إذ كان يرتديها عند حضوره الاجتماعات. تجرده ذهب يومًا إلى القديس مقاريوس الكبير يستشيره إذ كان لديه ثلاثة كتب جيدة ينتفع بها الإخوة كما ينتفع هو بها، هل يحتفظ بها أم يبيعها لكي يعطي الفقراء. أجابه القديس: "التعلم حسن لكن عدم القنية أثمن من كل شيء". فلما سمع ذلك قام وباع الكتب ووزع ثمنها على الفقراء. سأل أخ أبا تادرس: "أريد أن أتمم الوصايا "، فأجابه بان أبا ثأوناس قال له انه أراد أن يملأ روحه (فكره) بالله، فأخذ طحينًا من الطاحون وصنع منه خبزًا، فلما طلب منه الفقراء صدقة أعطاهم خبزًا. ثم جاء آخرون وطلبوا، فأعطاهم السلال والثياب التي كانت عليه، ودخل القلاية واضعًا غطاء رأسه على حقويه، وبالرغم من كل هذا كان يلوم نفسه، قائلاً: "لم أتمم وصية الله بعد". غلبته على الشيطان قيل إنه لما كان في الإسقيط أراد شيطان أن يقتحم قلايته، فإذا به يصلي فصار الشيطان مربوطًا في الخارج، وجاء آخر فحصل له مثل الأول، وإذ جاء ثالث ووجد رفيقيه مربوطين بالخارج سألهم عن سبب ذلك. أجاباه: "بداخل القلاية من هو واقف ليمنعنا من الدخول". غضب الشيطان الثالث وأراد اقتحام القلاية بالعنف لكن القديس ربطه بصلاته. أخيرًا صاروا يطلبون أن يطلق سراحهم، فقال لهم: "امضوا واخزوا". من كلماته ليست فضيلة مثل عدم الازدراء (بالآخرين). من عرف حلاوة القلاية يهرب من القريب دون أن يستخف به. لو لم أقطع نفسي من مشاعر الناس والتعاطف لما تركتني أصير راهبًا. كثيرون في هذه الأيام اختاروا الراحة قبل أن يهبهم الله إياها.
ولد بمدينة الإسكندرية، ونشأ في وسط جو عائلي مسيحي نقي. أحب حياة السكون فترك العالم وعاش راهبًا في أحد أديرة الإسكندرية، يمارس أصوامه وصلواته ودراسته في الكتاب المقدس وكتب الآباء. إذ نُفيّ القديس أثناسيوس الرسولي وأُقيم بدلاً منه بطريرك دخيل يُدعى جورجيوس لم يقف الأمر عند مقاطعة الشعب للدخيل بالرغم مما تكلفه من ثمن لهذه المقاطعة، وإنما قام الآباء الرهبان بدورهم الإيجابي في تلك الآونة الحرجة، فقد ترك الراهب تادرس ديره ونزل إلى الإسكندرية يسند الشعب ويثبهم في الإيمان، وكان يجادل الأريوسيين ويفحمهم. وإذ رأى البطريرك الأريوسي منكر لاهوت السيد المسيح خطورة هذا العمل ألقي القبض عليه وصار يهدده، وأخيرًا أمر بربطه في ذيل حصانٍ جموحٍ حيث أطلقوه فتهرأت أعضاء جسمه وارتوت شوارع الإسكندرية من دمه، وأسلم الروح، ونال إكليل الشهادة في السادس من شهر بؤونة. تمثل حياة هذا الشهيد النفس المشتاقة لحياة الخلوة والشركة مع الله، لكن بقلبٍ ملتهبٍ بخلاص الآخرين. لا يستطيع أن يستريح في ديره، والنفوس تهلك بسبب خداعات الأريوسيين وغياب البابا والأساقفة، لذا قام بالعمل بفرح ليشهد لمسيحه.
يروي لنا بستان الرهبان عن لقاء القديس تادرس الأسقف مع حبيس شيخ سأله أن يعَرفه بسيرته من أجل الرب. فتنفس الحبيس الصعداء، وتنهد من صميم قلبه، وذرفت دموعه، وقال: "أما سيرتي فإني أخبرك بها إنما لا تشهرها إلا بعد انتقالي". عندئذ بدأ الحبيس يروي للأسقف انه ذهب إلى دير وكان معه أخوه الأكبر منه، وقد بقيا بالدير ثلاث سنوات ثم جاء إلى البرية في بابل القديمة، وسكنا مقابر بالقرب من بعضها البعض. وكانا يقضيان حياتهما في العبادة بقلب نقي، وإن جاعا يخرجان يجمعان بعض الحشائش يأكلانها، ولم يكن أحدهما يكلم الآخر، بل كانا مشغولين في العبادة والتأمل، وكان يظهر مع كل أحد ملاك يحفظه. في أحد الأيام شهد هذا الحبيس أخاه يقفز من موضع كمن نجا من فخٍ فاندهش وصمم أن يذهب ليرى ما هو سرّ قفزه. ذهب فوجد ذهبًا كثيرًا، أخذه وذهب به إلى المدينة، هناك بنى بيتًا للغرباء، وأقام رجلاً يديره بعد أن أعطاه مبلغًا من المال، وقدم كل ما تبقى للفقراء، وعاد إلى موضعه لا يملك دينارًا واحدًا، وكان يفكر في نفسه أنه نجح في تدبير المال الأمر الذي فشل فيه أخوه. ذهب إلى موضعه القديم ليجد الملاك الذي كان يراه قبلاً يتطلع إليه في حزن شديد ويقول له: "لماذا تتعجرف باطلاً، إن جميع تعبك الذي انشغلت به كل هذه الأيام لا يساوي تلك القفزة التي وثبها أخوك، لأنه ما جاز عن حفرة الذهب فحسب وإنما عبر أيضًا تلك الهوة الفاصلة بين الغني ولعاذر، واستحق بذلك السكنى في حضن إبراهيم، من أجل ذلك أصبح حالك لا يساوى شيئًا بالنسبة لحاله بما لا يُقاس، وها هو قد فاتك الكثير جدًا. لهذا قد صرت غير أهل لأن ترى وجهه كما لا تحظى برؤياي معك بعد". إذ قال له الملاك ذلك غاب عن عينيه. ذهب إلى مغارة أخيه فلم يجد أخاه عندئذ رفع صوته باكيًا حتى لم يعد له قوة على البكاء. لم يقلل الملاك من شأن الصدقة والعطاء، ولكن ما تؤكده هذه القصة أمرين: الأول أن العطاء مع قلب متعجرف يدين الآخرين يُحسب كلا شئ. والأمر الثاني أن الله يطلب نقاوة القلب الداخلية قبل الأعمال الظاهرة، فقد سبق الأخ الأكبر أخاه بقفزة قلبه عن كل أمور العالم. أخيرًا قام الحبيس سبعة أيام يطوف في البرية يبحث عن أخيه، وقد ترك البرية وجاء إلى مغارة يمارس العبادة بدموع 49 عامًا مشتاقًا أن يرى الملاك الذي لم يعد يراه، وفي السنة الخمسين ظهر له وامتلأت نفسه تعزيات سماوية.
كان من أهل اسطير في زمان الملكين مكسيميانوس ودقلديانوس، اللذين لما بلغهما أن هذا القديس لا يعبد الأوثان استحضراه وعرضا عليه عبادة الأوثان فلم يقبل. وعداه بهبات كثيرة فلم يذعن لقولهما، فعذباه بالهنبازين وتقطيع أعضائه وحرق جسمه بالنار، وضربه بالسياط، وكان صابرًا على هذا جميعه حبًا في السيد المسيح الذي كان يرسل ملائكته فيعزونه ويقوونه. وأخيرًا قطعت رأسه ونال إكليل الشهادة. تعيد له الكنيسة في يوم 28 أمشير.
في أيام الملك نوماريوس جاء الأمير أنسطاسيوس إلى مصر ليختار رجال أشداء يصلحون للحرب في الجيش الروماني لمحاربة الفرس. وإذ بلغ الأمير صعيد مصر أُعجب بشاب يدُعى يوحنا بقرية تابورالتابعة لمدينة شُطب، فقدم له هدايا كثيرة ليذهب معه إلى إنطاكية فرفض مغادرة وطنه. عبثًا حاول زوج أخته كيريوس والي قرية تابور إقناع الأمير بترك يوحنا، إنما قبض الأمير على يوحنا وحبسه في معصرة حتى لا يهرب، وبناء على رؤيا إلهية وافق يوحنا على ترك مصر، خاصة وأنه خشي لئلا بسببه يقوم الأمير بأعمال عنف في قريته. إذ بلغ يوحنا إنطاكية أحبه الملك نوماريوس وأُعجب به، فقربة إليه، بل وزوّجه بأوسانية ابنة الأمير أنسطاسيوس وكانت وثنية، فأنجب منها ابنا جميلاً دُعي تادرس. اكتشفت الأميرة أن يوحنا مسيحي، فكانت تضغط عليه بكل طريقة لإنكار مسيحه، وكانت تهينه محتملاً بصبر من أجل ابنه حتى لا ينشأ وثنيًا. وبناء على رؤيا إلهية اطمأن أن ابنه سيكون بركة لكثيرين فترك إنطاكية وعاد إلى بلده بصعيد مصر، وكان لا يكف عن الصلاة من أجل إيمان ابنه وخلاص نفسه بدموع كثيرة. كانت الأميرة أوسانيا تبث في روح ابنها العبادة الوثنية، مؤكدة له أن أباه مات في الحرب. وقد نشأ تادرس الأمير يعمل في الجيش، له مكانته الخاصة في البلاط الملكي، خاصة وانه حمل روح الحكمة والتقوى. عرف خلال اتصالاته أن والده كان مصريًا مسيحيًا طردته أمه بسبب إيمانه، وأنه لا يزال حيًا. فاتح الأمير والدته في أمر والده، وأعلن لها انه قد عرف الحقيقة، وأنه قد قبل الإيمان بالسيد المسيح، فحزنت جدًا وصارت تنتهره. قدمت له وثنًا لكي يستغفر خطأه ويقدم له العبادة، فضرب الوثن بقدمه وتحطم، وإذا بشبح يظهر كما من الوثن يصرخ قائلاً: "مادمت قد طردتني من مسكني فسأنتقم منك، وأنزل الويلات عليك"، ثم تلاشى كالدخان. خرج الأمير من حضرة والدته إلى كاهن يدعى أولجيانوس لينال سرّ العماد، وهو في الخامسة عشرة من عمره. إذ تولى دقلديانوس الحكم أُعجب به وأحبه لبسالته فأعطاه لقب إسفهسلار (معناه قائد حربي تعادل وزير الدفاع حاليًا). في أحد الأيام تعرض مع رجاله الحربيين للظمأ بعد جهاد طويل ضد الأعداء فيه تغلب عليهم، صلى الإسفهسلار لله فأرسل مطرًا في الحال وشرب الجميع، وتعجبوا لإيمانه. في صعيد مصر شعر الأمير تادرس بشوقٍ لرؤية والده وكان لا يكف في صلاته عن الطلب من أجل تحقيق الله له هذه الرغبة. ظهر له ملاك الرب وأعلن له أن يذهب إلى مصر ليلتقي بوالده، وبالفعل أخذ اثنين من كبار رجال جيشه هما أبيفام وديسقورس وذهب إلى الإسكندرية ومنها إلى الصعيد. وقد أجرى الله على يديه عجائب في السفينة حتى آمن من بها بالسيد المسيح. في شُطب خاف أهلها لئلا يكون قد جاء هذا الأمير ليأخذ شبابها ورجالها للجيش، أما هو فدخل مع صديقيه إلى الكنيسة يشكرون الله. التقى الأمير بخادم الكنيسة الشيخ وسأله عن رجل يُدعى "يوحنا"، فعرف انه لا زال حيًا، وأنه قد شاخ وهو مريض. ذهب إليه وتعّرف عليه حيث ارتمى في أحضانه، وبشره بأنه آمن بالسيد المسيح. بعد خمسة أيام انتقل يوحنا إلى الفردوس بعد أن بارك ابنه تادرس، وخرج الكل يشيع جثمانه ليدفن بجوار أبيه ابيشخار وأخته أنفيليا. عودة الأمير تادرس للحرب قام الفرس على مملكة الروم فأرسل دقلديانوس يستدعيه. انطلق إلى إنطاكية، ورافق الأمير تادرس المشرقي في ميدان الحرب، وكانا يعملان معًا، وإذ غلبا نال الأمير تادرس الشطبي حظوة عظيمة لدى دقلديانوس، فجعله واليًا على مدينة أوخيطس. قتل التنين كان بالمدينة تنين ضخم يرتعب منه كل أهل مدينة أوخيطس، فكانوا من فترة إلى أخرى يقدمون له طفلاً أو اثنين يبتلعهما فيهدأ. رأى القديس تادرس والي المدينة رئيس الملائكة يدعوه لإنقاذ امرأة تقف من بعيد تحتاج إلى معونته. وبالفعل تطلع إليها القديس وسألها عن سبب حزنها، فخافت أن تتكلم لكنه إذ ذكر اسم المسيح هدأت وأخبرته أنها إنسانة مسيحية، كان رجلها جنديًا وثنيًا، مات وترك لها ابنين قامت بعمادهما سرًا، وإذ ثار أهل زوجها عليها جاءت إلى هذه المدينة هاربة ومعها الولدان، فأراد أهل المدينة تقديمهما للآلهة. رفض كهنة الأوثان ذلك وطلبوا من مقدمي الطفلين أن يربطوهما في شجرة بجوار الموضع الذي يظهر فيه التنين حتى متى رآهما يأكلهما فيهدأ. إذ رأى القديس مرارة نفسها ركب جواده وانطلق نحو الموضع الذي يظهر فيه التنين، وعبثًا حاول رجال المدينة العظماء ثنيه عن عزمه، إذ كانوا يخافون عليه من هذا الوحش الضخم العنيف. أما هو فصلى إلى ربنا يسوع المسيح علانية، وانطلق يقتل الوحش وأنقذ الولدين بل والمدينة كلها. استشهاده بالرغم من اتفاق ليسينيوس (ليكينيوس) Licinius مع الإمبراطور قسطنطين على ترك الحرية الدينية في البلاد بمقتضى مرسوم ميلان سنة 313م، لكن بقي الأول يضطهد المسيحيين بعنف حتى هزمه قسطنطين عام 325م. في هذه الفترة استشهد الأمير تادرس، الذى اشتكاه كهنة الأوثان لدى الملك ليكينيوس. أعلن الأمير إيمانه أمام الملك فجنّ جنونه، وأمر بضربه بالسياط حتى تهرأ جسمه، كما وُضع على الهنبازين لتمزيقه وكان الرب يسنده ويقويه، وأرسل له رئيس ملائكته ليسنده ويشجعه. حاول ليكينيوس ملاطفته عارضًا عليه الكثير فرفض، فأمر بإلقائه على سرير حديدي وإيقاد نار تحته. وكان الرب يتمجد على يديه فآمن كثير من الجند والجمهور بالسيد المسيح، حتى استشهدت أعداد غفيرة بسببه. عُلق برجليه منكس الرأس بعد ربط حجارة بعنقه. كان كلكيانوس والي الإسكندرية في زيارة للملك فقام بدوره بملاطفة الأمير تادرس ليجتذبه إلى عبادة الأوثان. وبعد عذابات كثيرة ظهر له السيد المسيح يدعوه للتمتع بالفردوس. وأخيرًا قُطعت رأسه في 20 من شهر أبيب. ماجد القس تادرس: سيرة ومعجزات الأمير تادرس الشُطبي، 1982.
هو أقرب تلاميذ القديس باخوميوس أب الشركة إلى نفسه، لقبه اليونانيون في السنكسار "بالمقدسLa Sanctifie ". في ذات يوم تنبأ الأب باخوميوس أن شابا صغيرًا سيأتي إلى الدير سيكون يومًا ما خليفته في إدارة الأديرة، إذ قال لهم: "إننا أرسلنا إلى مدينة لاتوبوليس (إسنا) أخانا باكيسيوس للعناية بالمرضى، وقد أخطرني ملاك الرب للحال أنه سيرجع هذه الليلة ومعه إناء مختار وهو صبي يافع عمره حوالي 13 سنة ويدعى اسمه تادرس". وقد حدث فعلاً أن رجع الأخ ومعه هذا الصبي المبارك. نشأته ولد نحو سنة 323م في عائلة شريفة غنية، وكان أبوه أرخنًا، كان مهتمًا بتعليمه الكتب، وأمه كانت مؤمنة و كانت تحب تادرس أكثر من جميع اخوته من أجل ميوله الدينية. وفي عيد الظهور الإلهي اعتادت بعض العائلات أن تقيم الحفلات وتتبارى في أنواع المأكولات والمشروبات، وإذ كان تادرس (ثيؤدورس) في ذلك الوقت في الثانية عشرة من عمره بدأ يفكر في ذلك القصر الفخم الذي يعيش فيه مع عائلته وتلك النفائس التي يمتلكها والده، تطلع إلى الوليمة التي أمامه، ثم أخذ له ركنًا في القصر ليختفي ويركع مصليًا بدموع غزيرة طالبًا إرشاد الله له. وإذ بحثت عنه والدته ووجدته سألته عن سبب بكائه فلم يجبها، وإنما احتج بأنه مريض، وانفرد ليصلي حتى المساء. رهبنته استأذن والديه ليعتزل مع بعض المتوحدين القديسين في إيبارشية لاتوبوليس، وهناك انفرد في عبادته، وكان الإخوة يحبونه متعجبين لعمل نعمة الله فيه. إذ كان يومًا مجتمعًا مع المتوحدين في المساء كالعادة يشاركهم الصلاة ويتمتع بكلمة الله سمع عن أحد الإخوة يتحدث عن القديس باخوميوس وعن تعاليمه. إذ فرغ تادرس من صلاته لم يستطع أن ينام، ولا غمضت عيناه، بل بين حين وآخر كان يقف مصليًا ببكاء، راجيًا الرب أن يسمح له برؤية القديس باخوم. وفي الصباح أسرع تادرس إلى الأخ الذي تكلم بالليل عن باخوم وأخذ يسأله عن سيرته، فأجابه الأخ: "أما عن تعب هذا الرجل، لعلي ما سمعت عنه كثير جدًا، بل رأس أعماله هو هذا أن كل صبي يمضي إليه يترهب ويسلك عنده يبذل كل ما في طاقته أن يحفظه بنعمة الله بغير خطية طاهرًا". طلب تادرس من الأخ أن يخبره عن نظم الأديرة وقوانينها فأخبره. وإذ سمع بذلك كان يداوم الصلاة لكي يهيئ الله أمر لقائه بباخوم قائلاً: "أيها الرحوم، يا من تستجيب لكل طالب، اجعلني أهلاً أن التقي بعبدك، وأن استحق أن أعرفك على يديه". وفي ذات يوم مرض تادرس فأتى إليه والديه بأطعمة إلى الدير، أما هو فلم يقبل خشية مخالفة القوانين التي سمعها من الأخ الخاصة بالنظام الباخومي. وإذ أشتد به المرض أخذه أبواه إلى المنزل دون أن يشعر بسبب ثقل المرض. فلما عاد إلى وعيه قدموا له الطعام، فأصر ألا يأكل ولو إلى الموت ما لم يردوه إلى الدير، فاضطروا إلى إرجاعه، وصار الإخوة يخدمونه حتى سمح الله له بالشفاء. لقاؤه بأبينا باخوم وبعد أربعة شهور جاء إلى الدير أخ ناسك من شركة القديس باخوم اسمه باكيسيوس، وكان عجيبًا في سيرته وصلواته، فلما رآه تادرس شعر أن الرب أرسله إليه لكي يقوم بتوصيله إلى باخوميوس. فاتح تادرس الأب في الأمر، فلما سمع منه أمره خاف أولاً بسبب والديه. وإذ أراد الأخ أن يعود إلى ديره ركب سفينة بالنيل، فكان الصبي تادرس يتبع السفينة على الشاطئ. وإذ رأى الذين في السفينة هذا المنظر أخبروا باكيسيوس الناسك، فاضطر أن يأخذه معه. وصل الاثنان إلى الدير، فدخل باكيسيوس إلى باخوم يخبره بالأمر، فأذن لتادرس بمقابلته إذ كان يتوقع مجيئه كما رأينا. رأى تادرس الأب باخوم، فسقط على الأرض باكيًا وهو يقبّل قدمي باخوم. فقال له الأب: "لا تبكي يا ابني فإن ذاك الذي لأجله هربت وإليه التجأت، أي الرب يسوع المسيح، هو يكلل جميع ما رسمته في قلبك بالنجاح". وكان تادرس في ذلك الوقت في حوالي الثالثة عشرة من عمره. جهاده منذ اللحظة التي التقى فيها تادرس بباخوم لم يكف عن طاعة أبيه طاعة كاملة، متدربًا على حياة الإيمان العامل الحي. فلم يتأخر قط عن صلوات نصف الليل منذ حداثته، وأن يجاهد جهاد الشيوخ المختبرين، حتى صار قدوة حية في وسط الدير. 1. طاعته لأبيه: تعلقت نفس تادرس بأبيه وأحبه جدًا، فكان يلازمه كثيرًا ويطيعه في كل أمرٍ. 2. محبته الروحية لعائلته: مرت سنوات على رهبنة تادرس ولم ترَ أمه وجهه ولا جاءها منه خطاب، فقصدت أسقف بلدها والأساقفة القريبين منها وأخذت منهم خطابات توصية لترى ابنها. حملت الأم الخطابات وذهبت إلى دير الراهبات الذي ترأسه مريم أخت باخوم، ومن هناك أرسلت إلى الأب تستعطفه أن يرسل إليها ابنها لتراه، وأرسلت إليه خطابات التوصية. فاستدعى الأب تلميذه وأخبره بالأمر وطالبه أن يذهب لرؤية أمه من أجل خطابات الآباء الأساقفة. أما هو ففي جدية قال لأبيه: "يا أبي العزيز إن أمر مخلصنا واضح إذ قال: ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت السماوات". وإذ سمعت الأم ذلك تأثرت جدًا والتهب قلبها بمحبة الله، فوزعت كل ممتلكاتها لتعيش كراهبة. جاء أيضًا أخوه بفنوتي و طلب مقابلته لكي يترهب، وتحت ضغط القديس باخوم قابله بسرعة، قائلاً له: "إن كنت من أجلي أتيت لتترهب، فإنني إن تخليت أنا عن الرهبنة تتخلى أنت أيضًا. وإن كنت قد أتيت من أجل مخافة الله، فإنني أن صبرت أنا أو لم أصبر، أنت تبقى راسخًا على الدوام". وإذ أراد بفنوتي أن يسكن مع تادرس رفض قائلاً له لئلا يكونا مثل الجسدانيين، إنما جميع الذين في الدير هم أخوة وبنون لأبيهم بلا تميز. 3. نقاوة قلبه: حدث أنه إذ كان يصنع حبالاً في قلايته وهو يتلو مما حفظ من الكتاب المقدس إذا بفكر نجس يهاجمه، فقام للحال وأخذ يصلي. للحال رأى القلاية اضاءت، وظهر له ملاكان مضيئان في شبه رجُلين. خاف إذ لم يكن رأى رؤى من قبل، فهمّ بالخروج لكنه من خوفه سقط، فأقاماه ونزعا الخوف عنه ثم دعاه أحدهما وسلمه مفاتيح كثيرة. 4. جهاده في النسك: جاء إلى أبيه باخوم في أيام البصخة، قائلاً: "يا أبي حين كنت علمانيًا كنت أصوم يومين يومين، والآن ماذا ينبغي أن أفعل وقد أدخلني الرب إلى هذا الكمال؟ هل أصوم إلى رابع يوم ثم أعمل في اليومين الآخرين؟" أجابه أبوه بأنه يلزمه ألا يزيد عن اليومين لئلا يعجز عن العمل و الصلاة. "فالصوم يجب ألا يكون عائقًا عن تنفيذ الوصايا بل مساعدًا له. وإذ رأى إنسان في نفسه أنه قادر على الصوم أربعة أيام وجسده قوي يقدر على العمل والصلاة ونفسه في يد الرب فلا ينتفخ أو يسقط في الكبرياء، فإن هذا أيضًا متى صام أربعة أيام متوالية يُعثر الضعفاء الذين في الدير فانهم يتشبهون به فيتعبون. هذا بالنسبة للراهب في الشركة، أما النساك الكاملين فهؤلاء لهم أن يصوموا هكذا لا في أيام البصخة فحسب بل كل أيام حياتهم تكون بالنسبة لهم كأنها بصخة إلى يوم افتقادهم..." 5. حبه لخلاص كل نفس: أراد أحد الإخوة أن يترك الدير لأن أبانا باخوم كان قد أّنبه، فلما سمع تادرس بأمره تظاهر هو أيضا بأنه يرغب في ترك الدير، واتفق مع الأخ إما أن يبقيا معًا أو يتركا الدير معًا. بهذا كسب الأخ بعد أن لاطفه الأب باخوميوس. رئاسته دير طبانسين أقامه القديس باخوميوس أقنومًا أو رئيسًا لدير طبانسين وهو لم يبلغ الرابعة والعشرين من عمره. امتاز باستشارته للإخوة في كل شئون الدير، وكان يرجع إلى القديس باخوميوس يطلب إرشاده، وكان الأب باخوميوس يحبه جدًا لطاعته ونموه المستمر. نائب القديس الأنبا باخوميوس لما نما تادرس في عمل الرب بطبانسين أخذه الأنبا باخوم عنده في دير بافو، وأقام آخر عوضًا عنه. وكان تادرس مساعدًا لباخوم، أقنومًا أولاً ومشرفًا عامًا على سائر الأديرة يفتقد الإخوة ويشفي أمراض نفوسهم، ويقبل الراغبين في الرهبنة. وكان يمتاز ببشاشته ولطفه مع الجميع، لذلك كان محبوبًا ومهوبًا من الكل. وفي ذات يوم بينما كان في الكنيسة مع الإخوة، وكانوا يرتلون بالمزامير، إذ به يرى السيد المسيح جالسًا على كرسي ويحيط به الإثني عشر رسولاً. في ذات يوم مضى الأنبا باخوم إلى الدير، فأمر تادرس أن يهتم بالإخوة. وفي الليل قام تادرس وكان يجول في المجمع لينظر الإخوة، وإذ وقف يصلي رأى الإخوة نيامًا مثل الخراف وملاك الرب قائمًا في الوسط. فلما نظره تادرس أسرع إليه، وقبلما يقترب منه سأله ملاك الرب: "من الذي يحرس الإخوة أنت أم أنا؟" فرجع تادرس إلى الوراء ثم قال إن ملائكة الله هي التي تحرسنا، وكان الملاك الذي ظهر له شبه جندي عليه درع كبير عظيم، وهو جميل جدًا ومنطقته عريضة وهي بهية جدًا تبرق. وكثيرًا ما كان الله يكشف له مع أبيه باخوم أن يرى الملائكة تحمل نفوس المنتقلين من الإخوة الرهبان وهم في فرح وتهليل. تادرس بعد نياحة أبيه عند نياحة الأب باخوم أمسك تادرس بلحية أبيه، وقد طالبه الأب ثلاث مرات أن يحفظ عظامه. وبعد نياحته صار بطرونيوس الأب العام للأديرة وذلك لمدة أيام قليلة وتنيح. ثم تلاه أورسيوس الذي كان قلبه متعلقًا جدًا بتادرس، وكان تادرس يحبه ويطيعه ويصغي إلى عظاته كصبي متعطش للمعرفة. وعندما حدث شقاق رأينا أن أورسيوس بإرشاد إلهي طلب أن يكون تادرس هو الأب العام، وبعد إلحاح شديد وتذكيره بقول أبيه له أن يحفظ عظامه ثلاث مرات إشارة إلى حفظ مجمع الشركة من الانقسام، قبل الرئاسة على أنه ما كان يصنع شيئًا إلا بعد استشارة الأب أورسيوس. فعاد كثيرون إلى الشركة وبقي القليل معاندًا، مما أحزن نفس تادرس فكان قلبه متألمًا جدًا. وفي عشية السبت الكبير مرض الطوباوي تادرس وعرف بانتقاله، فاهتم بالفصح المقدس، وجمع رؤساء الأديرة يطلب منهم الصفح. فحزن الأب أورسيوس، وصار الإخوة يبكون ثلاثة أيام. أما هو فطلب صلواتهم ثم انتقل إلى الفردوس في 2 بشنس سنة 375م. كان لموته أثره الكبير في نفوس المنشقين عن الدير الرئيسي الذين جاءوا نادمين وعادوا خاضعين للدير الرئيسي تحت رئاسة الأب أورسيوس. شهادة البابا أثناسيوس عنه في أثناء رئاسته للأديرة وفد البابا أثناسيوس إلى مدينتي أنتينوه وأورموبوليس ثم ذهب إلى دير بافو ولم يكن هناك أورسيوس فكتب رسالة يمدح فيها هذا العمل الجميل واقتداء تادرس وأورسيوس بأبيهما. وكان تادرس مرافقًا للبابا مقدمًا له سفينة الدير تساعده إذ كانت السفينة التي للبابا مثقلة.
يبدو انه كان راعيًا قبل سيامته أسقفًا على كبادوكية. مع أنه كان مُسامًا حديثًا وقد تعرف على القديس غريغوريوس النزينزي، وُضع على عاتقه أن يحث القديس غريغوريوس ليرعى الأرثوذكس بالقسطنطينية. أجاب عليه القديس (رسالة 222) ليخبره بما فعله، وقد حدثه عن الإهانات التي لحقت به من أساقفة تلك المنطقة، معتذرًا له عما حدث على أساس أن تادرس حديث في الأسقفية.
-------------------------
تادرس المشرقي الأمير
وُلد في صور بسوريا سنة 275م، وقد دعاه الأقباط "تادرس المشرقي St. Theodore the Oriental " لتميزه عن القديس تادرس الشطبي، إذ كانا كلاهما أميرين وقائدين في الجيش الروماني، تعتز بهما الكنيسة القبطية. كان والده صدريخوس Sadrikhos وزيرًا في أيام نوماريوس، ووالدته بَطريقَة Patricia أخت الوزير باسيليدس. إذ مات نوماريوس في حرب الفرس وكان ابنه يسطس مشغولاً مع الجند قام صدريخوس ونسيبه باسيليدس بتدبير أمور المملكة حتى ملك دقلديانوس الذي تزوج بابنة نوماريوس أخت يسطس. عُرف تادرس بشجاعته وقدرته العسكرية كقائدٍ ماهرٍ ونبيلٍ، كان منهمكًا في الحرب عند نهر أنطوش أثناء وفاة نوماريوس وتولى دقلديانوس الحكم. وقد شاهد هذا القائد الرؤيا التالية: رأى كأن سلمًا يرتفع من الأرض إلى السماء، وعند قمة السلم كأن الرب نفسه جالس على منبر عظيم وحوله ألوف ألوف وربوات ربوات يحيطون به وهم قيام يسبحونه. نظر أيضًا كأن تنينًا عظيمًا رابضًا تحت السلم. عندئذ قال له الجالس على العرش: "أتريد أن تكون ابنا لي؟" فقال له: "من أنت يا سيدي؟ " أجابه: "أنا يسوع كلمة الله، وسوف يُسفك دمك على اسمي". ثم رأى أحد الوقوف حوله قد أخذه وعمده في معمودية نار، وغطسه ثلاث مرات فصار كله نارًا مثله مثل كل الواقفين حول الرب. في محبة عجيبة قال تادرس: "يا سيدي اشتهي أن لا أفارق صديقي لاونديوس (العربي)"، فأجابه ليس فقط لا يفارق لاونديوس بل وأيضًا بانيقورس الفارسي. ثم رأى كأن هذين الرجلين لاونديوس وبانيقورس قد اُختطفا وعُمدا مثله وسُلما له. عندئذ قام الأمير تادرس من نومه فرحًا وروى ما رآه لصديقه لاونديوس الذي شاركه فرحته. التقى الاثنان ببانيقورس الفارسي، والعجيب أنه أخبرهما بأنه قد شاهد نفس الرؤيا، وكان دقلديانوس قد أقام صلحًا مع فارس. استدعى دقلديانوس الأمير ليخبره بأمر المصالحة مع فارس، وإذ علم الأمير بارتداد دقلديانوس طلب من جنده أن من أراد الاستشهاد على اسم السيد المسيح فليأت معه، وقد انضم إليه كثيرون. انطلق الأمير مع صديقه لاونديوس إلى إنطاكية، وكان والده صدريخوس قد تنيح، فاستقبله الملك بحفاوة، وإذ طلب مشاركته في العبادة الوثنية رفض معلنًا إيمانه بالسيد المسيح. سلمه الملك للوالي لكي يحاكمه ويعذبه. أصدر الوالي أمره بنفيه إلى Ctsiphon حيث عذب هناك، لكن الرب أرسل إليه رئيس الملائكة ميخائيل ليسنده ويقويه. أخيرًا نال إكليل الشهادة في 12 طوبه سنة 306م. بعد استشهاده تأثر به كثير من كهنة ابوللون، وأعلنوا أيمانهم بالسيد المسيح، وقدموا حياتهم ذبيحة حب لله، فانطلقوا يشاركون القديس إكليله.
هو ابن الشهيد العظيم كاتب سير الشهداء يوليوس الأقفهصي، وقد استشهد مع والده وأخيه يونياس وعبيدهم ووالي سمنود واتريب وجماعة عظيمة يبلغ عددهم ألفًا وخمسمائة استشهدوا معه. وحملوا جسده وجسد والده وأيضًا أخيه إلى الإسكندرية. السنسكسار 22 توت.
--------------------
تادرس تلميذ آمون القديس
كثيرًا ما امتدحه البابا أثناسيوس الرسولي؛ قال عنه: "رجل طاهر قديس أحب أن يكون مجهولاً بين قديسي الله". كان موضع إعجاب كثير من القديسين. غالبًا متى ذُكر القديس آمون الكبير ذكر معه تادرس (ثيؤدورس) بكونه تلميذه البكر، وقد دعاه القديس باخوميوس رفيق حياة الأنبا أمون. رآه القديس أمونيوس - رفيق آمون الكبير وأحد تلاميذه الأوائل - الذي صار أسقفًا، هذا الذي من طبانسين أصلاً؛ وقد طلب منه البابا ثاوفيلس أن يكتب سيرة القديس تادرس. كان يعيش مع القديس أنبا أور في حياة مشتركة، قيل إنهما كانا يطليان القلاية بالملاط، قال أحدهما للآخر: "لو افتقدنا الرب في هذه الساعة، فماذا نصنع؟" فبكيا وتركا الملاط وانصرف كل منهما إلى قلايته.
تعيد الكنيسة البيزنطية لثلاثة قديسين من قادة الجيش المحاربين هم تادرس أو ثيؤدور ولقب عائلته تيرو St. Theodore Tiro وجورجيوس وديمتريوس. يوجد ميمر عن القديس تادرس منسوب للقديس غريغوريوس أسقف نيصص. كان شابًا تقيًا، دخل الجيش الروماني، وقد أُرسلت فرقته إلى بنطس في الشتاء، فذهب إلى أماسيا Amasea حيث رفض مشاركة زملائه في ممارسة العبادة الوثنية. استدعاه الوالي ورئيس فرقته وسألاه عن سرّ امتناعه فأعلن عن إيمانه بالسيد المسيح. هُدِد بالقتل فأجاب بشجاعة: "يسوع المسيح هو إلهي. إن كانت كلماتي تضايقكما فاقطعا لساني، بل ابترا كل عضو في جسدي لعل الله يقبله ذبيحة!" كان متمسكًا بإيمانه بقوة فاُستبعد إلى حين لعله - في نظرهما - يرجع إلى رشده ويجحد مسيحه، ولما اُستدعى ثانية قدما له إغراءات كثيرة وجزيلة أما هو فضرب بوعدهما عرض الحائط، فتعرض للسياط العنيفة احتملهما كشركة آلام مع مسيحه المتألم، لذا لم يفقد هدوءه وسلامه. وإذ أُلقي في السجن أرسل الله إليه ملائكة تعزيه. اُستدعي للمرة الثالثة، وأُحرق حيًا فقامت أوسيبا بدفن رفاته في Euchaita (استشهد في 9 نوفمبر سنة 306م). قال عنه القديس غريغوريوس النيصي وهو يصف شفاعته لمحافظته على بونتس من هجوم السكيثيين الذين حطموا كل الولايات المحيطة: "كجندي يدافع عنا، كشهيد يشفع فينا ويطلب لنا السلام".
كان تادرس عريان من كبار رجال الدولة المعدودين في القرن السابق، قد كان رئيسًا لديوان المالية، من أعيان بلدة أم خنان. كان من معضدي انتخاب البابا كيرلس الرابع (أب الإصلاح)، قدم خدمات كثيرة للأقباط بالرغم من كثرة مسئولياته في دواوين الحكومة المصرية. اهتم أيضًا بالفقراء، فوقف جانبًا من أطيانه وممتلكاته لسد أعوازهم. رزقه الله أربعة أولاد هم: عريان بك تادرس الذي حسب من أعظم رجال الدولة ؛ كان رئيس كتاب وزارة المالية المصرية ومن رجال الأمة المشهود لهم بالأعمال الصالحة، كما كان محبًا للفقراء؛ انتقل سنة 1888م. والابن الثاني باسيلي باشا تادرس كان رئيسًا فخريًا للمحاكم المختلطة، بعد أن شغل وظيفة مستشار في محكمة الاستئناف الأهلية لمدة طويلة، وكان له دوره الفعال في إصلاح حال الأقباط. والابن الثالث سيدهم من رجال الأعمال المالية، والرابع كركور اهتم بأطيان والده وكان معدودًا من أثرياء المصريين. هكذا اتسم تادرس عريان وأولاده بالاهتمام بالثقافة العلمية مع حياة التقوى والاهتمام بشئون الكنيسة بروح إصلاحي تقوي. كانوا أغنياء في الإيمان والحب والغيرة المتقدة قبل الغنى في الأمور الزمنية.
سأل أبا إبراهيم من أبيريا أبا تادرس من اليثيروبوليس: "ما هو الأفضل يا أبتِ، اقتناء المجد أم الهوان؟" أجابه الشيخ: "من جهتي، أنا أريد مجدًا لا هوانًا، لأني إذا قمت بعملٍ حسنٍ وتمجدت أستطيع أن أدين أفكاري بأني لست أهلاً لهذا المجد. أما الهوان فيأتي من الأعمال الشريرة. كيف إذًا أستطيع أن أعزي قلبي عندما يعثر أناس كثيرون بسببي؟! خير لك عندئذ أن تعمل الخير وتتمجد". قال الأب إبراهيم: "بالصواب نطقت يا أبتِ". قال الأب تادرس : "الامتناع عن الطعام يميت جسد الراهب" ؛ وقال شيخ آخر: "لكن السهر يميته بالأكثر". إن كنت غضوبًا فلا تدن زانيًا، فإنك تكسر الناموس مثله، لأن الذي قال: "لا تزنِ" قال: "لا تدينوا".
-------------------------
تارسيكوس الشهيد
قيل إن الشهيد تارسيكوس أو ثارسيكوس Tharsicius من روما، من رجال القرن الثالث، كان يحمل الأسرار المقدسة (جسد الرب ودمه) للمسجونين أثناء اضطهاد فاليريان وغالينيوس. وإذ ظنوه انه يحمل جواهر زمنية سألوه أن يسلم ما لديه فتناول الأسرار المقدسة. انهالت الجماهير عليه تضربه بالعصي والحجارة حتى انكسر ذراعه وتمزقت ثيابه وأخيرًا أسلم الروح. يرى بعض الدارسين أنه كان شماسًا، لذا يعتقدون انه كان يُسمح في روما للشماس أن يحمل الأسرار المقدسة تحت ظروف الضيق الشديد لتقديمها للمسجونين، ربما لأن الكهنة كانوا معروفين ويصعب دخلوهم السجن.
يروى لنا القديس بالاديوس أن منطقة طيبة في أيامه كانت تضم 12 ديرًا للنساء، بها جماعات نسائية تسلك في حياة روحية تقوية رائعة. التقى القديس بالأم تالدا Talida أم أحد هذه الأديرة، حيث تتلمذ على يديها ستون راهبة تغيرت حياتهن بسببها، كن يعشن معًا بروح المحبة والطاعة، يسعين نحو حياة الكمال. وقد لفت نظره أن بوابة الدير لم تكن تُغلق ليلاً ولا نهارًا كبقية أديرة الراهبات، ومع هذا لم تجسر إحدى الراهبات أن تخرج دون أذن الأم، كما لم يجسر لص أو قاطع طريق أن يدخل الدير. جلس القديس بجوار هذه الأم الطوباوية العجوز التي عاشت في الدير قرابة 80 عامًا، وقد بسطت يديها ووضعتهما على كتفيه في جرأة وحرية في المسيح يسوع، وقد شعر بقوة هذه الطوباوية الروحية.
نشأت تاييس بالإسكندرية يتيمة الأب، وكانت والدتها غير حكيمة استغلت جمال ابنتها البارع فألحقتها بعمل في السوق العام لتكسب الكثير، خاصة وأن الفتاة كانت ذلقة اللسان لبقة الحديث. تعرفت على أغنياء المدينة الذين قدموا لها الكثير عند قدميها من أجل شهواتهم الدنسة، وهكذا اشتهرت تاييس كإحدى الساقطات، تفتح بيتها للأغنياء الأشرار. مع القديس بيصاريون إذ سمع عنها القديس بيصاريون أحد شيوخ برية شيهيت الكبار، وكيف صارت تاييس علة سقوط الكثيرين اشتاقت نفسه إلى خلاصها، فقدم صلوات كثيرة بدموعٍ ومطانياتٍ مع أصوامٍ من أجلها لكي ينتشلها الله من هذه الهوة. تخفى القديس بيصاريون وطلب مقابلتها، وإذ دخل حجرتها دار بينهما الحديث التالي: ألا يوجد مكان أكثر عزلة أستطيع أن أحدثك فيه بحرية؟ يوجد، لكن لا جدوى من الذهاب إليه، لأنك إن كنت تستحي من الناس فإنه في هذه الغرفة لا يرانا أحد، أما إذا كنت تخشى عين الله فليس عندي غرفة لا يراك فيها. هل تعرفين أن الله موجود، وأنه توجد مكافأة للفضيلة ومجازاة عن الخطية؟ فإن كنتِ تعرفين انه يوجد حكم ودينونة، كيف تتسببين في هلاك كل هذه النفوس؟ لأنه من أجل هذه النفوس الكثيرة سيكون عقابك أكثر. إذ شعرت تاييس بجدية الحديث، وتلامست مع نعمة الله الغنية، امتلأت خجلاً، ثم سقطت على الأرض لتنفجر في البكاء بلا توقف، وهي تقول: "يا أبي، السماء هي التي أرسلتك. إني أعلم أنه توجد توبة للذين يخطئون. أريد أن أترك الحياة النجسة التي سلكت فيها منذ زمنٍ بعيد. أرجوك أن تساعدني على خلاص نفسي، وسأطيع أوامرك بكل دقة، ومهما قلت من أمرٍ سأفعله." علمت تاييس أن هذا الأب كان أحد خدام الله الذين عرفتهم في طفولتها المبكرة. صدق توبتها تهللت نفس القديس بيصاريون جدًا إذ رآها صادقة في توبتها، واتفق معها على موضع يلتقيان فيه. انصرف الأنبا بيصاريون ومسحت تاييس دموعها، وأخذت تجمع ملابسها وكل أمتعتها، وجاءت بها إلى السوق في وسط المدينة وأشعلت فيها النيران، وهي تقول: "تعالوا يا جميع رفاق السوء وانظروا، إني أحرق أمام أعينكم كل هداياكم وتذكاراتكم وكل ما جمعته في حياتي الشريرة...". انطلقت إلى القديس بيصاريون ليرشدها، فأتى بها إلى بيت للعذارى حيث أخذت قلاية صغيرة كانت تتعبد فيها ليلاً ونهارًا بنسكٍ شديدٍ. مع الأنبا أنطونيوس بعد ثلاث سنوات التقى القديس بيصاريون بالقديس أنبا أنطونيوس الكبير، وروى له قصة تاييس التائبة، وسأله إن كان الله قبل توبتها أم لا. طلب القديس أنبا أنطونيوس من بعض تلاميذه أن يصلوا لكي يكشف لهم الرب أمرها. وبالفعل رأى القديس بولس البسيط كأن كرسيًا مجيدًا لم يجلس عليه أحد بين كراسي القديسين، أمامه ثلاثة ملائكة يمسك كل منهما سراجًا وإكليلاً بهيًا ينزل عليه. إذ رأى القديس بولس ذلك قال: "هذا العرش لتاييس". في الصباح انطلق القديس بولس يروى للقديس أنبا أنطونيوس رؤياه، وإذ سمعها الأنبا بيصاريون فرح جدًا واستأذن منصرفًا، ومضى إلى بيت العذارى ليخرج تاييس من قلايتها الصغيرة الحبيسة فيها، أما هي فبانسحاق ترجته أن يتركها فيها حتى يوم انتقالها. لم تبقَ في القلاية سوى حوالي أسبوعين، حيث مرضت وأسلمت روحها في يديْ الله، وقد تركت لنا مثلاً حيًا لعمل الله الفائق في حياة الإنسان مهما كانت شروره ونجاساته!