كان القديس بوتامون أو بوتاميون St. Potamon (Potamion) أسقفًا على هيراقليا بمصر. قال عنه البابا أثناسيوس الرسولي إنه شهيد مزدوج، إذ شهد للحق أمام اضطهاد الوثنيين كما أمام اضطهاد الأريوسيين. عندما ثار مكسيميانوس دايا ضد المسيحيين عام 310م تعرض القديس لعذابات كثيرة، خلالها فقد أحد عينيه. وحسب ذلك شرفًا له خاصة عند حضوره مجمع نيقية سنة 325م حيث كان له دوره الحيوي ضد الأريوسيين منكري لاهوت السيد المسيح. وفي سنة 335م حضر مجمع صور حيث دافع عن البابا أثناسيوس كبطل الإيمان، وقد وجه اللوم للأسقف يوسابيوس القيصري الذي كان زميله في السجن، كيف يقبل أن يحاكم بطل الإيمان، موبخًا إياه لأنه سبق فجبن وقدم ذبيحة للأوثان، لذا يسقط حقه في اعتلاء كرسي رئاسة المجمع. في أيام قسطنطيوس الأريوسي، جال والي مصر فيلوجريوس ومعه البطريرك الأريوسي الدخيل غريغوريوس في أنحاء مصر يعذبون الأرثوذكس وينفون الأساقفة. وكان أحد ضحاياهما القديس بوتامون الذي أُلقي القبض عليه، وكان يُضرب بالعصي حتى فقد وعيه تمامًا وحسبوه قد مات. عالجه بعض المؤمنين وشفي، لكنه لم يمضِ وقت طويل حتى تنيح على أثر العذابات التي لحقت به كأحد المعترفين. يعيد له الغرب في 18 من شهر مايو.
تُعتبر الرسالة التي سجلت آلام شهداء ليون وفينا بفرنسا في أيام الإمبراطور مرقس أوريليوس عام 177م، التي أُرسلت إلى كنائس آسيا وفريجية "لؤلؤة الأدب المسيحي في القرن الثاني" كما وصفها أحد الأدباء الفرنسيين، سجلها لنا المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري (تاريخ الكنيسة 1:5). قدمت لنا صورة عن استشهاد وعذابات الكثيرين، من بينهم الشهيد الأسقف بوثينوس، نقتطف منها الآتي: (قام بترجمتها القمص مرقس داود في كتاب يوسابيوس القيصري): "خدام المسيح المقيمون في فينا وليون ببلاد الغال إلى الإخوة في آسيا وفريجية الذين يعتنقون نفس الإيمان ورجاء الفداء، سلام ونعمة ومجد من الله الآب ويسوع المسيح ربنا... إن شدة الضيق في هذه البلاد، وهياج الوثنيين على القديسين، وآلام الشهود المباركين، هذه لا نستطيع وصفها بدقة، كما لا يمكن تدوينها. فالخصم هجم علينا بكل قوته، مقدمًا إلينا عينة من نشاطه الذي لا يُحد الذي سيظهره عند هجومه علينا مستقبلاً، وقد بذل كل ما في وسعه لاستخدام أعوانه ضد خدام الله، ولم يكتفِ بإبعادنا عن البيوت والحمامات والأسواق، بل حرم علينا الظهور في أي مكان. لكن نعمة الله حوّلت الصراع ضده، وخلصت الضعفاء، وجعلتهم كأعمدة ثابتة، قادرين بالصبر على تحمل كل غضب الشرير، واشتبكوا في الحرب معه، محتملين كل صنوف العار والأذى. وإذ استعانوا بآلامهم أسرعوا إلى المسيح، مظهرين حقًا أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا (رو8: 18). وأول كل شيء تحملوا ببسالة كل الأضرار التي كدسها الغوغاء فوق رؤوسهم كالضجيج واللطم والسحب على الأرض والنهب والرجم والسجن وكل ما يسر الغوغاء الثائرون أن يوقعوه على الأعداء والخصوم. وبعد ذلك أخذهم قائد الألف ورؤساء المدينة إلى الساحة الخارجية، وحُقق معهم بحضور كل الجمهور، ولما اعترفوا سُجنوا إلى حين وصول الوالي ..." تروي الرسالة أن شابًا حكيمًا يدعى فيتيوس اباغاثوس Vettuis Epagathus إذ رأى العنف الحال بإخوته عندما مثلوا أمام الوالي وقف يدافع عنهم بكونه من الشخصيات البارزة. لم يقبل الوالي دفاعه بل سأله عن إيمانه وإذ عرف أنه مسيحي دُفع بين المسيحيين كمتهم، فقبل ذلك بملء المحبة والفرح، مشتاقًا أن يضع حياته من أجل الإخوة وأن يتبع مسيحه. أُلقيّ القبض أيضًا على الخدم الوثنيين العاملين لدى هؤلاء الشهداء، وإذ رأى الخدم أدوات العذابات لم يبرروا أنفسهم أنهم ليسوا مسيحيين وإنما كالوا اتهامات لسادتهم بأمور كاذبة لا يليق الحديث عنها ولا حتى التفكير فيها. وإذ سمعت الجماهير هذه الاتهامات ثارت بعنف على المسيحيين كوحوش مفترسة، حتى الأحباء والأصدقاء من الوثنيين انقلبوا إلى العداوة العنيفة ضد أصدقائهم المسيحيين، فتم قول الرب إنه "تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله" (يو16: 2). كان من بين الذين انصب غضب الوالي والجند مع الغوغاء عليهم سانكتوس Sanctus شماس من فينا، وماتروس Maturus مسيحي حديث العماد لكنه مجاهد نبيل، وأتالوس Attalus من برغامس، وبلاندينا Blandina الأمة الضعيفة الجسم وقد أعلن الله فيها قوته ومجده وسط آلامها، وببلياس Biblias ، وغيرهم، هؤلاء جميعًا مع القديس بوثينوس Pothinus أسقف ليون الذي كان قد بلغ أكثر من تسعين عامًا. جاء في الرسالة: "أما المغبوط بوثينوس، الذي عُهدت إليه أسقفية ليون، فقد سحبوه إلى كرسي القضاء، وكان عمره يزيد على تسعين سنة، وقد وهنت كل قواه، يكاد بالجهد أن يتنفس بسبب ضعف جسده، ولكنه تقوى بالغيرة الروحية بسبب رغبته الحارة في الاستشهاد. ومع أن جسده قد خار أمام الشيخوخة والأمراض، فقد حُفظت حياته لكي ينتصر المسيح فيها. وعندما أتى به الجند إلى المحكمة، يرافقه الولاة المدنيين وجمهور من الشعب يهتفون ضده بكل أنواع الهتاف، كأنه هو المسيح نفسه، شهد شهادة نبيلة. ولما سأله الوالي: "من هو إله المسيحيين؟" أجاب: "إن كنت مستحقًا فستعرف". عندئذ سحبوه بفظاظة، ولطموه بكل أنواع اللطم. القريبون منه لكموه بأيديهم، وركلوه بأرجلهم، دون اعتبار لشيخوخته، أما البعيدون عنه فقذفوه بكل ما وصلت إليه أيديهم. ظن الكل أنهم يُحسبون مجرمين إن قصروا في إهانته بكل إهانة ممكنة، إذ توهموا أنهم بهذا ينتقمون لآلهتهم، ثم زُج به في أعماق السجن وهو يكاد لا يقوى على التنفس وتنيح بعد يومين".
اختلف الدارسون في تحديد تاريخ استشهاده فتأرجحوا بين القرنين الثاني والرابع، وقد بُنيت كنائس كثيرة لتكريمه في فرنسا وأسبانيا، وكان لقبره كرامة عظيمة في بروفنس Provence بفرنسا. كان رجلاً غريبًا، نزح إلى جنوب فرنسا بقصد الكرازة بالإنجيل، وإذ نجح في رسالته اغتاظ الوثنيون. في عيد الإله جوبتر تجمهر الوثنيون فذهب بنفسه إليهم وصار يحدثهم عن الحق الإنجيلي، فقبضوا عليه وقطعوا رأسه بفأس
ولد بوفيروس Porphyry في مدينة تسالونيك بمقدونيه حوالي عام 353م، وسط أسرة شريفة غنية وتقية، فنشأ من صغره محبًا لله، زاهدًا العالم، مشتاقًا إلى تكريس كل حياته لحساب ملكوت الله. إذ بلغ الخامسة والعشرين من عمره انطلق إلى شيهيت مصر، وأقام في البرية خمس سنوات يتتلمذ على آبائها، فأحب حياة السكون والهدوء. استأذن الآباء وذهب إلى فلسطين ليتبارك من الأماكن المقدسة، وهناك استقر في مغارة بالقرب من نهر الأردن يمارس عبادته بروح تقوي نسكي، غير أنه بعد خمس سنوات أخرى أُصيب بمرض شديد بسبب الرطوبة،حتى صار منهك القوى جدًا. في أثناء مرضه طلب من تلميذه مرقس، وهو شاب أسيوي جاء إلى أورشليم للسياحة وقد أحب القديس بورفيروس وتتلمذ على يديه، أن يذهب إلى تسالونيك ويبيع كل ما ورثه عن والديه ويأتي به إليه. عاد مرقس بعد حوالي ثلاثة شهور يحمل مبلغًا ضخمًا هو قيمة ما ورثه الناسك بورفيروس، وكانت المفاجأة انه وجد معلمه قد شُفي تمامًا. سأله عن سرّ شفائه، فأجابه: "لا تتعجب يا مرقس أن تراني بصحة جيدة وإنما بالحري لتدهش فقط من صلاح المسيح غير المنطوق به الذي يقدر أن يشفي بسهولة ما ييأس منه البشر". وإذ أصرّ مرقس أن يعرف كيفية شفائه أجابه انه منذ حوالي أربعة أيام إذ كان متألمًا جدًا حاول بلوغ جبل الجلجثة فانهار في الطريق تمامًا، وإذ به ينظر رؤيا كأن السيد المسيح معلقًا على الصليب وعن يمينه اللص الصالح، صرخ بورفيروس: "أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك"، عندئذ أمر المخلص اللص اليمين أن يقيمه، فمدّ يده وأنهضه، وسأله أن يسرع إلى المسيح، وبالفعل أسرع إليه، وإذا بالسيد يقول له: "خذ هذه الخشبة (الصليب) واجعلها في عهدتك". في طاعة حمل بورفيروس خشبة الصليب على كتفيه وانطلق بها. بهذا انتهت الرؤيا ليستيقظ الرجل ويجد نفسه في الطريق نحو الجلجثة معافى تمامًا. دُهش مرقس هذه الكلمات وتأثر جدًا، وقرر ألا يبارح معلمه. قام الرجل بتوزيع كل ما جاء به مرقس على الفقراء والمحتاجين، ليمارس عملاً يدويًا يعيش به وهو عمل الأحذية والمصنوعات الجلدية، بينما مارس مرقس عمل النساخة إذ كان خطه جميلاً. أسقفيته بقيّ بورفيروس يمارس عمله، وكان يردد كلمات الرسول بولس بأن من لا يعمل لا يأكل. وإذ بلغ حوالي الأربعين من عمره (سنة 393م) سامه أسقف أورشليم كاهنًا، وجعل في عهدته خشبة الصليب المقدس، ففرح بها جدًا، إذ تحققت رؤياه. بقيّ الكاهن يمارس حياته النسكية لا يأكل إلا عند الغروب خبزًا وبعض البقول. وقد اجتذب بسيرته وتقواه مع كلمات وعظه الكثير من الوثنيين للإيمان بالسيد المسيح. في سنة 396 تنيح إيناسي أسقف غزة فأُختير بورفيروس أسقفًا دون معرفته. كتب يوحنا أسقف قيصرية إلى أسقف أورشليم يسأله أن يبعث إليه الكاهن بورفيروس ليسأله في بعض أمور خاصة بالكتاب المقدس، طلب منه أسقف أورشليم أن يذهب إلى قيصرية ويعود خلال سبعة أيام. نادى بورفيروس تلميذه مرقس وقال له: "أيها الأخ مرقس، هلمَ نذهب إلى الأماكن المقدسة والصليب المقدس نكرمه فإننا سنبقى زمنًا طويلاً لا نمارس ذلك". دهش مرقس لذلك وسأله عن السبب، فأجاب أن مخلصنا ظهر له الليلة السابقة وقال له: "سلّم الصليب الكنز الذي في عهدتك، فإنني سأزوجك زوجة فقيرة بحق ومتضعة لكنها عظيمة التقوى والفضيلة. اهتم أن تزينها حسنًا مهما بدت لك، فإنها أختي". أضاف: "هذا ما أشار به عليّ السيد المسيح الليلة الماضية وإنني أخشى لئلا أهتم بخطايا الآخرين وأنسى خطاياي لكن إرادة الله يجب أن تُطاع". ذهب إلى قيصرية وهناك وجد وفدًا من غزة يطالب أسقف قيصرية بسيامته أسقفًا عليهم، فسيم أسقفًا. عاد الأسقف الجديد إلى غزة ليجد الوثنيين قد صمموا أن يقتلوه، لأن إلههم مارناس Marnas سبق فأخبرهم أن كوارث تحل بغزة بسبب بورفيروس. أما هو فقابلهم ببشاشة ووداعة فكسب الكثيرين منهم. بعد شهرين من وصوله غزة حدث جفاف في المنطقة فانطلق الوثنيون إلى معبدهم يصلون لكي يرفع مارناس غضبه عن المدينة ولم يجدِ ذلك شيئًا، عندئذ صام المسيحيون يومًا كاملاً وقضوا ليلة في الصلاة والتسبيح، وانطلقوا بموكب إلى كنيسة القديس تيموثاوس خارج أسوار المدينة. أغلق الوثنيون أبواب السور عليهم ليتركوهم خارجًا، وإذ صرخ المسيحيون لإلههم هطلت الأمطار ففرح الوثنيون وفتحوا الأبواب ليستقبلوهم ببهجة قلب وآمن كثيرون منهم بالسيد المسيح. ثار الوثنيون على المسيحيين إذ وجدوا أن أعدادًا كبيرة منهم يتركون المعبد حتى صار شبه مهجور، وصمموا على قتل المسيحيين. انطلق بروفيروس مع يوحنا أسقف قيصرية يسألا الملك فيما سبق أن سأله إياه ذهبي الفم ألا وهو هدم المعابد الوثنية التي صارت شبه مهجورة، وكان الملك قد أصدر أمرًا ولم يتحقق. وافق الملك على طلبهم لكنه عاد فتراجع. التجأ الأسقفان إلى أفدوكسيا الملكة، ولم تكن قد أنجبت بعد فتنبأ لها بروفيروس أن تنجب ابنًا يجلس على كرسي أبيه، وإذ تم ذلك حقق الملك طلب الأسقفين. وهب الله هذا القديس صنع عجائب كثيرة دفعت الكثير من الوثنيين بغزة إلى قبول الإيمان بالسيد المسيح، وبقي هذا الأب يرعى شعبه بأمانة وتقوى حتى تنيح في 26 فبراير.
في أنقرة بغلاطية التقى القديس بالاديوس برجلٍ مستنير يدعى هيرونيون Heronion وزوجته بوسفاريا Bosphoria أو دوسفوريا، حسبهما بالاديوس مثلين له يتمثّل بهما في حبهما للحياة العتيدة في رجاء الخيرات الأبدية. كان لهذين الزوجين ثروة ضخمة، دفعا القليل منها في زواج ابنتيهما وقالا لأولادهم الأربعة وبنتيهما إنهما سيتركان لهم كل شيء، لكن في حياتهما لا يعطيا لهم شيئًا، بل يقدما كل الإيراد للفقراء والمحتاجين والكنائس والأديرة وفنادق الغرباء. إذ اجتاحت البلاد مجاعة كانا في بساطة يقدمان بركة للمحتاجين، فصارا موضع حب الجميع. وخلال محبتهما الصادقة للفقراء وبساطتهما كسبا الكثير من الهراطقة للإيمان. عاشا في حياة نسكية جادة، فكان ملبسهما بسيطًا للغاية ومتواضعًا، وكانا دائمي الصوم، يسلكان في حياة عفيفة. كانا يقضيان أغلب أيامهما في الحقول في حياة هادئة تأملية، بعيدًا عن ضوضاء المدينة ومتطلباتها المربكة للنفس. يقول القديس بالاديوس: "لقد مارسا هذه الأعمال السامية كلها، لأن أعين فهمهما كانت تتطلع نحو الخيرات الأبدية المعدة لهما".
دعاه القديس بالاديوس "العظيم بوسيدونيوس". كما قال: "الأمور التي تُروى عن القديس بوسيدونيوس Possidonius الطيبي كثيرة جدًا، يصعب وصفها كلها، فقد كان وديعًا، لطيفًا، صبورًا، محتملاً للآلام، نفسه صالحة، لا أعرف إن كنت قد التقيت بإنسانٍ مثله قط". عاش معه في بيت لحم لمدة عام، خارج دير "الرعاة" على ضفة Pophyrites بالقرب من المدينة، وقد قال له: "لم أتكلم قط مع إنسانٍ لمدة عام كامل ولا سمعت صوت إنسان. لم آكل خبزًا بل كنت أبلل ما بداخل سعف النخل، مع عسل برّي متى وجدته". كما روى له أنه إذ دخل في تجربة قاسية وترك مغارته لكي يسكن مع الناس وقد سار يومًا كاملاً، وبسبب إنهاك قوته لم يسر في ذلك اليوم كله سوى حوالي ميلين، تطلع إلى الوراء فوجد فارسًا يبدو من مظهره أنه نبيل أو شريف يحمل على رأسه خوذة. حسبه رجلاً رومانيًا، فرجع ثانية إلى مغارته ليجد خارجها سلة بها عنب وتين طازج، فحمل السلة إلى داخل المغارة فرحًا وامتلأ تعزية، وكان يأكل من السلة لمدة شهرين. روى لنا أيضًا قصة سيدة حامل كان بها روح نجس، وإذ جاء وقت الولادة تعذبت جدًا، فجاء رجلها إلى القديس وسأله أن يأتي إلى بيته ليصلي من أجلها، وقد ذهب معه القديس بالاديوس، وهناك صليا، وأخرج القديس الروح الشرير من المرأة وولدت. يختم حديثه عنه بما قاله له القديس. انه لمدة أربعين سنة لم يأكل خبزًا، ولا سكن فيه غضب من جهة إنسانٍ لمدة نصف عام.
عُرف القديس بوسيديوس St. Possidius بكونه واضع سيرة صديقه الحميم القديس أغسطينوس أسقف هيبو باختصار لكنها ذات قيمة كبيرة. نشأ في شمال غرب أفريقيا، من والدين وثنيين، لكنه قبل الإيمان بالسيد المسيح وتتلمذ على يدّي القديس أغسطينوس في دير بهيبو. سيم أسقفًا على مدينة كالاما بنوميديا عام 397، التي كانت تعاني الأمرين من الدوناتست (جماعة منشقة على الكنيسة تكفر ما سواها) وأيضا من الوثنيين. التصق بالقديس أغسطينوس في مقاومة الدوناتست والبيلاجيين (الذين تجاهلوا نعمة الله وركزوا على الجهاد البشري وحده)، وبسبب هذا تعرض لمقاومة عنيفة من المتطرفين الدوناتست. لعب دورًا حيويًا في مجمع Mileve عام 416 ضد البيلاجيين. في عام 429 إذ عبرت قبائل الوندال من أسبانيا إلى أفريقيا، خربوا منطقة كالاما Calama ، فالتجأ القديس بوسيديوس إلى صديق عمره القديس أغسطينوس، حيث أسلم الأخير روحه بين ذراعيه بينما كانت القبائل البربرية تحاصر مدينة هيبو. قيل أن الأسقف بوسيديوس ومعه أسقفان آخران نُفوا عن كراسيهم خلال تحركات أريوسية مقاومة لهم. تنيح القديس في منفاه حوالي عام 440م في 17مايو. يرى البعض إنه تنيح في ميرندولا Mirandola بإيطاليا.
تعيّد له الكنيسة في يوم 7 بابة، وتطلب صلواته في مجمع القداس الإلهي مع تلميذه حزقيال بعد القديس أنبا بيشوي مباشرة. بعد خراب برية شيهيت حوالي سنة 408م هرب القديس أنبا بيشوي إلى جبل أنصنا (أنتينويه) بصعيد مصر حيث التقى بالقديس أنبا بولا المتوحد هناك، وقد ارتبطا بصداقة روحية عجيبة حتى أن ملاكًا ظهر له يقول: "إن جسدك سيكون مع جسد الأنبا بيشوي". ولا يزال الجسدان معًا في أنبوبة واحدة بدير القديس أنبا بيشوي حتى يومنا هذا. قيل أن أسقف أنصنا أراد نقل جسد القديس أنبا بيشوي فلم تتحرك السفينة، عندئذ أخبرهم متوحد يدعى إرميا بوعد الرب للقديس أنبا بولا، فجاءوا بجسد أنبا بولا معه ونُقل الاثنان معًا إلى دير أنبا شنودة. وفي أيام البطريرك يوسف في القرن التاسع نُقل الجسدان إلى دير الأنبا بيشوي. بقاء الجسدين معًا في أنبوبة واحدة شهادة حية للصداقة الروحية المملوءة حبًا التي تربطنا معًا. فلا يقوى الموت على مفارقتنا، لا على صعيد الجسد في هذا العالم الزائل، وإنما على صعيد المجد الأبدي للنفس والجسد معًا. عُرف القديس أنبا بولا بحبه الشديد للعبادة خاصة الصلاة الدائمة، ونسكه الشديد حتى قال تلميذه حزقيال إنه تعرض للموت ست مرات بسبب شدة نسكه. عاش كمتوحدٍ لا يكف عن الجهاد حتى ظهر له السيد المسيح، وقال له: "كفاك تعبًا يا حبيبي بولا". فأجابه القديس: "دعني يا سيدي اُتعب جسدي من أجل اسمك، كما تعبت أنت من أجل جنس البشر؛ وأنت الإله قدمت ذاتك عنا نحن غير المستحقين".
عينة رائعة للإنسان البسيط، الذي استطاع بنعمة الله أن يجاهد ليبلغ درجة نسكية عالية، مع أنه بدأ حياته الرهبانية في الستين من عمره. كان بولس فلاحًا بسيطًا وتقيًا، تزوج فتاة جميلة جدًا، وإذ سمع عنها إشاعات كثيرة كان يسألها في لطف فتظهر بصورة الإنسانة الطاهرة. وفي أحد الأيام إذ رآها في ذات الفعل ترك لها المنزل وانطلق إلى القديس أنبا أنطونيوس ليتتلمذ على يديه. التقى القديس أنبا أنطونيوس بهذا الشيخ الفلاح البسيط، وإذ عرف إنه قد بلغ الستين من عمره نصحه أن يعود إلى حقله ومحراثه، إذ يصعب عليه أن يبدأ في هذا العمر الحياة الرهبانية، ولما ألحّ عليه بإصرار طلب منه أن يذهب إلى أحد الأديرة في الوادي ليسلك مع الإخوة بما يناسب شيخوخته، لكن الشيخ أصرّ ألا يترك الجبل. اختبره القديس أنبا أنطونيوس بتجارب قاسية، وكان يتعجب لاحتماله وصبره وطاعته بالرغم من شيخوخته. نذكر منها أنه تركه عند مجيئه أربعة أيام دون طعام وهو يرقبه لئلا يخور، كما سأله أن يبقى عند باب المغارة، فبقي أسبوعًا كاملاً يحتمل حرارة الظهيرة وبرد الليل دون مفارقته للباب. وأيضًا طلب منه أن يضفر حبلاً، وبعد أن ضفر حوالي ثمانية أمتار طلب منه أن يفك الحبل ويضفره من جديد. في هذا كله كان مملوء طاعة، يعمل مجاهدًا في بساطة وببشاشة. إذ رأى القديس أنبا أنطونيوس مثابرته بروح التقوى قبله متوحدًا، وطلب منه أن يبني قلاية في الطريق ما بين سفح الجبل ومغارته. موهبة إخراج الشياطين ومعرفة الأسرار من أجل بساطته الداخلية المملوءة حكمة والملازمة لجهاده النسكي غير المنقطع وهبه الله عطية إخراج الشياطين. ومن أجل حبه الشديد لخلاص كل نفس وُهب معرفة أفكار الرهبان، ففي إحدى المرات إذ نزل إلى أحد الأديرة على ضفاف النيل رأى الرهبان يدخلون الكنيسة، ووجوههم منيرة وتصحبهم ملائكتهم الحارسون لهم، لكنه شاهد بينهم راهبًا قد حمل صورة بشعة على وجهه، وكان ملاكه الحارس يتبعه من بعيد في حزنٍ شديد بينما كانت مجموعة من الشياطين تسحبه كما بسلسلة. إذ رأى القديس بولس هذا المنظر صار يبكي بمرارة، وكان يجلس عند باب الكنيسة يقرع صدره، فخشي كل راهب أن يكون هذا القديس يبكي على خطيته إذ كان الكل يعلم أنه يرى أفكارهم. وعند انتهاء القداس الإلهي رأى القديس الراهب قد تغير تمامًا، فقد صار وجهه منيرًا وملاكه يصحبه متهللاً بينما الشياطين تبتعد عنه، فتهلل القديس جدًا وأخبر الرهبان بما رآه. تقدم الراهب واعترف علانية انه عاش في الزنا زمانًا طويلاً، وفي القداس الإلهي سمع كلمات الله على لسان إشعياء عن الحياة المقدسة (إش1: 16 – 19) فقدم توبة صادقة، وحسب ما سمعه موجهًا إليه شخصيًا، فمجد الكل الله على غنى محبته ورحمته بالخطاة! وفي قصة تاييس التي تابت على يديْ القديس بيساريون كشف الله للقديس بولس البسيط رتبة هذه الخاطئة التي بلغت درجة روحية عالية.
أسقف بابيلون يعتبر من أبرز المفكرين الأقباط في القرن الثالث عشر. ولد ببوش التابعة لبني سويف، وترهب في دير بالفيوم مع داود بن لقلق الذي صار فيما بعد البابا كيرلس بن لقلق (75). يقول عنه الأب يعقوب مويزر الهولندي: "رجل نزيه، محب لشعبه، بعيد عن الأهواء الحزبية، لا يعرف غير الكنيسة ورفع شأنها، عالم جليل طويل البال في المعارف الدينية... كاهن تتقد في قلبه غيرة الرسول بولس، مفسر قدير على شرح الأقوال الإلهية والتعليق عليها، كاشفًا غوامضها، ومفصلاً لمشكلاتها، خطيب ديني مصقع، يرفع القلوب النافرة إلى المعالي ويلهبها، مجادل ماهر ذو ذهن وقاد، قوي الحجج، ردوده أشبه بالخمسة حجارة الملساء في جراب داود الغلام عند مبارزته جليات الجبار". رُشح للبابوية وكان معه منافسان عنيدان هما الأرشيدياكون أبو شاكر بطرس بكنيسة المعلقة، وداود بن لقلق... وكانت المعركة حامية، انقسمت الكنيسة إلى تحزبات، أما الأنبا بولس فكان يزهد كل شئ لم يتهافت على الكرسي المرقسي، بل نجده وسط هذه العاصفة ينشغل مع صديقه الحميم داود بن لقلق في تأليف كتابه في أصول الدين وفي الرد على المرتدين عن الإيمان. أما داود فكان على العكس متهافتًا على هذا المركز، أشعل نيران الحركة الانتخابية، ومن شدة الخلاف بقيّ الكرسي شاغرًا تسعة عشرة عامًا ونصف عام، حتى تنيح أغلب أساقفة الكرازة ولم يبقَ سوى ثلاثة أساقفة فقط، أخيرًا انتهت المعركة بانتخاب داود في يونيو 1235م، وكان عهده مشوبًا بالأخطاء، جرّ على الكنيسة متاعب كثيرة، بالرغم مما اتسم به من علم ومعرفة، يشهد بذلك قوانين الكنيسة التي وضعها، وأيضًا مؤلفه كتاب الاعتراف، المعروف بكتاب المعلم والتلميذ، وإن كان الأنبا بولس قد ساعده في هذه الأعمال. من أهم أعمال البابا كيرلس بن لقلق سيامته لأساقفة تعتز بهم الكنيسة، منهم الأنبا بولس البوشي، والأنبا خريستوذولس أسقف دمياط، والأنبا يؤانس أسقف سمنود، والأنبا يوساب أسقف فوة واضع تاريخ البطاركة. بقيّ الأنبا بولس الصديق الحميم للبابا، يسنده وسط متاعبه إذ كان يهدئ خواطر الثائرين من الشعب عليه كما كان يسدي بالنصح للبابا. وكان يهتم بتعليم الشعب، لكن بروح الاتضاع الحق، فيكسب الكثيرين لحساب مملكة الله. لما ساءت تصرفات البابا كيرلس بن لقلق انعقد مجمع وقرر الأساقفة أن يلازمه أسقفان أحدهما الأنبا بولس البوشي ليعاوناه في شئون البطريركية. كتاباته لازالت موجودة لكنها للأسف لم تطبع بعد سوى الميامر الخاصة بالأعياد السيدية، وهي: 1. "الأدلة العقلية التي توصل إلى معرفة الإله المتأنس"، يبحث في سرّ التجسد، موضحًا انه وإن كان سرًا فائقًا للعقل لكنه يستطيع العقل أن يلمح قبسًا منه من خلال التأمل والتفكير العميق والمنطق المسلسل. يوجد هذا المخطوط في مكتبة يودليان باكسفورد تحت رقم 38/5. 2. "العلوم الروحية"، توجد منه نسخة بدير السريان، نُسخت عام 1860م. 3. كتب تفسيرًا لسفر الرؤيا، توجد منه نسخة في المتحف القبطي تحت رقم 36 طقس. 4. كتب جدلية بين المسيحيين والمسلمين، كانت تُثار بروح المودة في حضرة الملك الكامل العادل بن أيوب (1218-1238م). 5. الميامر الخاصة بالأعياد السيدية، قام بنشرها القس منقريوس عوض الله.
ولد هذا الأب بقرية دنفيق، من والدين فلاحين أما هو فتعلم النجارة. أحب حياة الهدوء والسكون، فانطلق إلى جبل بنهدب ليتتلمذ على أيدي الآباء الرهبان هناك، وعاش بينهم متسمًا بحياة البساطة الشديدة مع الطهارة والجهاد الروحي. إذ كان ينمو في الفضيلة سُيم كاهنًا، وعاش في مغارة القديس بطرس الكبير يقود الكثير من الرهبان ويرشدهم. أُصيب بمرض في قدمه، اشتد به المرض حتى صار كسيحًا، فكان الرهبان يأتون إليه لنوال بركته، وكان محبوبًا جدًا ومُكرمًا بينهم. قيل إنه اُختطف إلى السماء دفعة، ونظر أسرارًا فائقة، فقد شهد بركات الفردوس كما سمع الملائكة تسبح الله، كل حسب طغمته، وكانت أصواتهم عذبة جدًا. قبيل نياحته جمع الآباء الرهبان وأوصاهم بحفظ قوانين الرهبنة في الرب. وإذ أسلم الروح في يدي الله جاء الأب الأسقف مع الآباء الرهبان وحملوا جسده إلى كنيسة القديس بطرس الكبير في نفس الجبل "بنهدب". سنكسار رينيه باسيه: 17 هاتور.
نعرف عن القديس أبا أور أو هور أن له تلميذ يسمى "بولس"، اهتم هذا الراهب بحياة الصلاة لكنه أخطأ في فهمها حين حسبها مجرد سباق في تلاوة أكبر كمية ممكنة منها، وقد صحح له القديس مقاريوس هذا الفهم، إذ جاء عنه: "لم يكن يقترب إلى العمل الشاق الذي لشغل اليدين، ولا إلى أمور البيع والشراء إلا بما يكفي لكمية الغذاء الضئيلة التي يتناولها في يوم، لكنه برع في عملٍ واحدٍ، وهو إنه كان يصلي باستمرار دون توقف. وكان قد وضع لنفسه قانونًا أن يصلي ثلاثمائة صلاة يوميًا. ووضع في حضنه كمية من الرمل (الحصى الصغير)، ومع كل صلاة يصليها كان يضع حبة منها في يده. سأل هذا الراهب القديس مقاريوس، قائلاً: "يا أبى إني مغموم جدًا". فسأله الشيخ أن يخبره عن سبب ضيقه. فأجابه، قائلاً: "لقد سمعت عن عذراء قضت في الحياة النسكية ثلاثين سنة، وقد أخبرنا الأب بي أور بخصوصها أنها كانت تتقدم أسبوعيًا، وأنها تتلو خمسمائة صلاة في اليوم، فلما سمعت هذا احتقرت نفسي جدًا، لأني لا أستطيع أن أتلو أكثر من ثلاثمائة صلاة". حينئذ أجابه القديس مقاريوس، وقال: إننى عشت في الحياة النسكية ستين سنة، وأتلو في اليوم خمسين صلاة، وأعمل بما فيه الكفاية لتزويد نفسي بالطعام. واستقبل الإخوة الذين يأتون إليّ، فهل أنت تصلى ثلاثمائة صلاة تُدان من أفكارك؟! ربما لا تقدم هذه الصلوات بنقاوة، أو أنك قادر على أن تعمل أكثر من هذا ولا تعمل". مطرانية بنى سويف: بستان الرهبان،
-----------------------------
بولس الراهب3
حدثنا أحد الآباء عن أبا بولس الذي كان من نواحي مصر السفلى، وكان يقيم في طيبة، وكان يمسك بيديه الأفعى ويشطرها إلى شطرين. فصنع له الإخوة مطانية، وقالوا: "قل لنا، أي عمل فعلت حتى نلت هذه النعمة؟" قال لهم: "سامحوني يا آبائي، إذا ما اقتنى الإنسان الطهارة، فإن كل شئ يخضع له ويطيعه، كحال آدم عندما كان في الفردوس قبل أن يعصى الوصية".
وُلد بمدينة الإسكندرية من أبوين تاجرين سرياني الجنس؛ رحلت العائلة إلى الأشمونين واغتنوا جدًا، فورث بولس الكثير بعد نياحة والده. سمع القديس عن عذابات المسيحيين فاشتاق أن ينعم بإكليل الشهادة. قام بتوزيع ميراثه على الفقراء وطلب مشورة الله، فأرسل إليه رئيس الملائكة سوريال الذي عرّفه بما سيحّل من عذابات، مؤكدًا له أن الرب معه يقويه. للحال قام القديس وأتى إلى والي أنصنا حيث اعترف أمامه بالسيد المسيح. بأمر الوالي عُري من ثيابه وضُرب بالسياط ثم وُضعت مشاعل عند جنبيه، فلم يرتعب القديس. حاول الوالي أن يغريه بوعودٍ كثيرة، فأجابه بأن والديه قد تركا له الكثير. صار يعذبه بوضع آلات حديدية في أذنيه وفمه، فأرسل الله ملاكه سوريال يشفيه ويعزيه ويسنده. أمر الوالي بإطلاق حيات قاتلة فلم تؤذه، ثم قطع لسانه والرب أيضًا شفاه. أُرسل إلى الإسكندرية حيث أُلقي في السجن فالتقى بصديقه إيسي (بائيسى) وأخته تكلة حيث ابتهجت أرواح الثلاثة. هناك ظهر له السيد المسيح وأعلن له أن الثلاثة سيستشهدون على اسمه وتكون أجسادهم كما نفوسهم معًا. وبالفعل قُطعت رأس القديس بولس على شاطئ البحر، حيث جاء بعض المؤمنين وكفنوه وحفظوه لديهم. تعيد له الكنيسة في 9 أمشير.
سجل لنا يوسابيوس المؤرخ سنة 324م ما شاهده من أعمال عنف في قيصرية فلسطين بواسطة حاكم فلسطين فرميليان Firmilian خلف الحاكم أوربان Urban في عهد مكسيموس الثاني. فقد قُدم له دفعة 97 معترفًا من رجال ونساء وأطفال، فأمر الجلادين أن يحرقوا أقدامهم اليسرى بحديد ملتهب نارًا، وأن يفقأوا أعينهم اليمنى ويضعون نارًا مكان الأعين، ثم أرسلهم إلى المناجم في لبنان. اُقتيد أيضا جماعة من غزة أُلقي القبض عليهم بينما كانوا مجتمعين يسمعون كلمة الله، من بينهم فتاة تدعى تيا أو ثيا Thea التي وبخته عندما هددها بهتك عرضها علانية، فأمر بجلدها وتعذيبها. رأت فتاة من قيصرية فلسطين تدعى فالنتينا هذا المنظر فاخترقت الصفوف لتقف أمام الوالي، قائلة: "إلى متى تعذب أختي؟" قبض عليها وسُحبت إلى هيكل وثن فرفست المذبح بقدميها. هاج الملك وأمر بربط الفتاتين معًا وحرقهما بالنار. في نفس الوقت قُطعت رأس رجلٍ مسيحي يدعى بولس من أجل تمسكه بالإيمان. هذا الإنسان أظهر محبة عجيبة في لحظات الاستشهاد، إذ وقف بانسحاق يصلي بصوتٍ عالٍ من أجل رفقائه لكي يسندهم الرب وسط عذاباتهم، ومن أجل نشر الإيمان، كما من أجل كل الحاضرين والإمبراطور والحاكم وكل المسئولين، وكأن آلامه لم تسحبه للتفكير في ذاته بل في الآخرين حتى المقاومين والمضطهدين ليهبهم الرب خلاصًا!
قال أبا بولس الكبير الذي من غلاطية: "الراهب الذي له حاجات قليلة في قلايته، متى خرج للاهتمام بها، فإن الشياطين كلها تهزأ به وأنا نفسي تألمت من هذا".
------------------------------------
بولس الواضح بن الرجاء
كان يدعى الواضح وقد اختار لنفسه اسم "بولس"، لأنه صار شبيهًا ببولس الرسول من جهة اختياره للإيمان بعد مقاومته له. فقد اشترك في قتل مسيحي، وإذ ذهب ليحج ضل الطريق في عودته وصار في قلق شديد وحيرة، وإذ به يرى فارسًا يظهر له فطمأنه وأخذه على جواده خلفه ووجد نفسه بعد دقائق في فناءٍ فسيحٍ. هناك نام الواضح بعد أن اطمأن أنه داخل كنيسة، إذ رأى "القناديل" موقدة أمام أيقونات القديسين. وفي الصباح المبكر إذ دخل بواب الكنيسة كعادته لينظفها رأى الواضح فظنه لصًا، وأراد أن يستغيث غير أن الواضح روى له قصته. وإذ رأى أيقونة الشهيد أبي سيفين عرف أنه هو الذي ظهر له، وانه جاء به إلى كنيسته ببابليون. التقي بكاهنٍ شيخ وأصرّ أن ينال المعمودية ويسمى بولس. وقد تعرض لمتاعب كثيرة لكن الرب أنقذه. ثم ذهب إلى برية شيهيت وترهب بدير القديس مقاريوس الكبير. وإذ نما في النعمة جدًا سامه البطريرك قسًا، فتعرض لمتاعب من العربان. ذهب إلى كنيسة الأمير تادرس ببلدة صندفا، وصار يخدم هناك لمدة عامين بكل أمانة حتى تنيح حيث دفن في مقبرة وجدت داخل الكنيسة.
رجل غيور على الإيمان الأرثوذكسي، وقف ضد الأريوسية التي تنكر لاهوت السيد المسيح، وكان على علاقة وثيقة بالقديسين أثناسيوس الإسكندري ويوليوس الروماني. ذاق الأمرين وتعرض للنفي خمس مرات أثناء فترة أسقفيته (336-351م)، وذلك بتدبيرات أوسابيوس النيقوميدي ومقدونيوس منكر لاهوت الروح القدس. وُلد في مدينة تسالونيكى في أواخر القرن الثالث، ونشأ محبًا لله، متمسكًا بالإيمان المستقيم. جاء إلى القسطنطينية، وإذ رأى فيه البطريرك الكسندروس حياة تقوية صادقة مع علم ومعرفة وتمسك بالإيمان سامه كاهنًا، فأحبه شعب القسطنطينية حتى إذ شعر البطريرك بقرب انتقاله أشار إليه ليكون خليفة له. أسقفيته سيم أسقفًا عام 336م وكان ذلك بداية حمل صليبه من الهراطقة الذين بذلوا كل جهدهم لمقاومته حتى لحظات انتقاله. استطاع أوسابيوس النيقوميدي خلال اعتزاز أخت الإمبراطور به أن يحث قسطنطين على نفي القديس بولس بعد أن قدم هو وأعوانه وشايات وافتراءات أثارت الإمبراطور ضده. وقد حاولوا بعد النفي أن ينتخبوا بطريركًا عوضًا عنه لكن قسطنطين رفض. بقى القديس في منفاه حتى مات قسطنطين سنة 338م، فعاد إلى كرسيه، كما عاد أثناسيوس الرسولي وأوستاثيوس الأنطاكي ومركلس أسقف أنقرة وغيرهم إلى كراسيهم. نفيه للمرة الثانية قسم قسطنطين مملكته قبل وفاته على أولاده الثلاثة، فكان الشرق والقسطنطينية من نصيب قسطنديوس، وإيطاليا وأفريقيا من نصيب قنسطان، والغرب من نصيب قسطنطين الثاني. وكان قسطنديوس يميل إلى الأريوسيين فقام بنفي البطريرك ليقيم أوسابيوس النيقوميدي خلفًا له على كرسي القسطنطينية، لكن الأخير مات عام 341 فاستراحت الكنيسة من مؤامراته الشريرة. أقام الأريوسيون الشماس مقدونيوس خلفًا له بينما استعاد الأرثوذكس بولس البطريرك الشرعي، وحدث احتكاك بين الفريقين، حتى سقط قتلى وجرحى، فأرسل الإمبراطور رئيس جيوشه أرموجانس لاستتباب الأمر، لكنه قُتل، فجاء الملك وصفح عن الكل، وبسبب ميله للأريوسيين استبعد البطريرك بولس للمرة الثالثة. وجد الأريوسيون فرصتهم لنشر بدعتهم، كما قام مقدونيوس بنشر بدعة جديدة وهى إنكاره لاهوت الروح القدس. سمع البطريرك بما حدث وشعر بالمسئولية تجاه شعبه فاضطر أن يرجع إلى القسطنطينية يثبت شعبه على الإيمان المستقيم ويفند الأضاليل. سمع الملك فأرسل من يمسك به سرًا وينزله بالحبال من نافذة ليقوده إلى سنغاري في بلاد ما بين النهرين كمنفى، ثم أُعيد إلى حمص وتُرك هناك، فاحتمل الآلام بشكر في منفاه الرابع. سمع يوليوس أسقف (بابا) روما بما حلّ ببولس، فاستعان بقنسطان إمبراطور إيطاليا المحب للكنيسة، الذي توسط لدى أخيه قسطنديوس لإعادة الأساقفة المنفيين، وذلك بعد أن عُقد مجمع في سرديكا عام 347 حرم مقدونيوس والأريوسيين. استقبلت القسطنطينية بطريركها بفرح عظيم، وكان القديس بولس يبذل كل جهده في رعايته لشعب الله. إذ أُغتيل الملك قنسطان وجد الأريوسيون فرصتهم للافتراء على البطريرك بولس واتهامه بالهرطقة والرذيلة لينفيه الملك للمرة الخامسة في جبال أرمينيا الصغرى حيث تنيح هناك عام 351 من شدة ما لاقاه من أتعاب وجوع وعطش، محتملاً الآلام بفرح. تعيد له الكنيسة اللاتينية في 7 نوفمبر، وتعيد له الكنيسة القبطية في 5 بابة.
تحتفل الكنيسة بعيد استشهاد القديسين بولس (بولا) Paul وسلفانا Salfana في 25 كيهك (سنكسار رينيه باسيه). إذ حدث ضيق شديد على الكنيسة، قام الوالي يوليوس باضطهاد المسيحيين في مدينة أورش، فتقدم أمامه رجلان عاشا منذ صباهما في حياة تقوية، يعلنان تمسكهما بمسيحهما. غضب الوالي جدًا وأمر بإلقائهما على خشبٍ متقدٍ، لكن الله تمجد فيهما محولاً النار إلى شبه ماء بارد، فخرجا يسبحان الله ويمجدانه أمام الجميع. اغتاظ الوالي فأمر بربطهما في زوج بقر قوي لكي يُسحبا في الشوارع ويتهرأ جلدهما، لكن الرب سندهما وحفظهما. عُلق الاثنان منكسي الرأس بالقرب من "البربا"، أي المعبد الوثني، وأُشعلت النيران تحتهما، فلم يُصابا بشيء بل كادت النار تلتهم المعبد، فتدخل كهنة الأصنام لدى الوالي للتخلص منهما، فأمر بقطع رأسيهما. وقد أجرى الله عجائب كثيرة وأشفية من جسديهما.
مع ابنة قسطنطين قيل أن قسطنسيا Constantia ابنة الملك قسطنطين الكبير إذ برئت من مرضها بشفاعة القديسة أجْنِس طلبت من والدها أن تكرس كل وقتها للعبادة بجوار قبر القديسة أجْنِس، فأقام لها قصرًا، وخصص لها جماعة لخدمتها على رأسهم القديسين التقيين يوحنا وبولس SS. Giovannia and Paolo، وهما أخان كانا قائدين في الجيش اتسما بالوداعة والتقوى. وثقت الأميرة فيهما وسلمتهما تدبير القصر ورعايته. مع القائد غالليكانوس قيل أن البرابرة دخلوا مدينة سيتيا، فأراد الإمبراطور قسطنطين الخلاص منهم، لذا طلب من قائد جيشه غالليكانوس Gallicanus الذي غلب الفرس أن يعود فيطردهم، وكان القائد وثنيًا وقد ماتت زوجته، فطلب قسطنسيا زوجة له. احتار الملك ماذا يفعل إذ كانت ابنته قد نذرت البتولية، لكن وصلت إليه رسالة من ابنته تسأله ألا يضطرب للأمر، وأن يعد القائد بتحقيق رغبته على أن يرسل ابنتيه أتيكا وأرتميا إليها تعيشان معها إلى حين عودته، وأن يُسمح له بأخذ القائدين يوحنا وبولس لمساندته. فرح غالليكانوس بالخبر وانطلق بجيشه ومعه القديسين يوحنا وبولس، لكن ظروف الحرب لم تكن في صالحه إذ وقع في مأزق وضاقت به الحيل، عندئذ سأله القديسان أن يعد الله أن يقبل الإيمان المسيحي إن أنقذه الرب، وبالفعل وعد بذلك فقدم له الرب عونًا وغلب! عاد القائد يعلن للإمبراطور نصرته وشوقه للعماد أيضًا، فأعطاه كرامة عظيمة. استشهاد غالليكانوس كانت نعمة الله تعمل بقوة في حياة هذا الرجل خلال علاقته بالقديسين يوحنا وبولس، حتى أنه إذ نال المعمودية لم يفكر في الزواج بل ترك ابنتيه مع قسطنسيا ووزع أغلب أمواله على الفقراء وانفرد في أوستيا بجوار روما تحت إرشاد إيلارينزس أحد الأتقياء. بنى فندقًا للغرباء الفقراء، وإذ كان محبًا للخدمة ذاع صيته جدًا. وفي أيام يوليانوس الجاحد أرسله الملك إلى الإسكندرية حيث استشهد هناك. استشهادهما عاد القديسان إلى خدمة الأميرة، وأقاما هناك حتى رقدت في الرب ليعودا إلى البلاط، وكانا محبوبين جدًا من الجميع. ولما ملك يوليانوس الجاحد تركا البلاط ليعيشا في سكون. إذ كان يوليانوس في الشرق أرسل إليهما والي روما، يدعى أيضًا يوليانوس وهو قريب الملك القائد ترنسيانوس أو ترنتيان Terentian يطلب منهما العودة إلى البلاط فرفضا معلنين انهما لا يخدمان من يقاوم الإيمان. أعطاهما القائد عشرة أيام مهلة، وفي اليوم العاشر جاء إليهما بصنم ليسجدا له خفية وإذ رفضا قطع عنقيهما ودفنهما في بيتهما، وأخفى أمر موتهما كطلب الملك. قيل أن الإمبراطور جوفنيان قام ببناء كنيسة في موضع البيت في Coelian Hill تكريمًا لهما. تحتفل الكنيسة الغربية بعيد استشهادهما في 26 يونيو.
استشهد في أيام الإمبراطور داكيوس أو فالريان (حوالي سنة 259م)، في مدينة ماليتينا Melitene بأرمينيا. كانت هذه المدينة محطة لبعض الفرق الرومانية، اشتهرت بتقديم عدد كبير من الشهداء، من بينهم القديس بوليكتيوس St. Polyeuctus الذي كان قائد مائة في فرقة فولميناتا Fulminata ، من أصل يوناني. كان هذا القائد وثنيًا، مرتبطًا بصداقة حميمة مع مسيحي غيور يدعى نيرخوس Nearchus الذي سمع عن الاضطهاد انه التهب في أرمينيا، فأعد نفسه لنوال الإكليل. لكنه كان حزينًا على صديقه الوثني بوليكتيوس. قبل انطلاقه للاستشهاد تحدث بدالة الحب المملوء غيرة مع صديقه عن خلاص نفسه، وإذا به يجد في قلب هذا القائد استعدادًا لا لقبول الإيمان فحسب وإنما لاشتهاء نوال إكليل الاستشهاد. أعلن القائد إيمانه علانية، وتعرض لعذابات شديدة، وقد حاول الجلادون إلزامه بجحد مسيحه أما هو فكان متهللاً بالروح. جاءت زوجته بولينا وأطفالها ووالدها يبكون بدموع لعله يتراجع، أما هو فكان يصرخ طالبًا العون الإلهي، فوهبه الرب ثباتًا حتى تقبل حكم الموت بفرح. وفي طريقه للاستشهاد كان قلبه ملتهبًا بالحب نحو كل من يلتقي به، فكان يحدث الجماهير التي خرجت تتطلع إليه عن الإيمان. وبالفعل آمن كثيرون على يديه في اللحظات الأخيرة. بنيت كنيسة باسمه قبل سنة 377.