رهبنته وُلد القديس بسنتاؤس (بسندة) بقرية شمير من أعمال أرمنت، حوالي سنة 568م، من أبوين مسيحيين تقيين، ربياه بفكر إنجيلي. حفظ الكثير من الكتب الإلهية وتعرف على العلوم الكنسية منذ صباه. التهب قلبه بالحياة الرهبانية فانطلق إلى القديس الأنبا إيليا الكبير رئيس دير أبي فام بجبل شامة، وأمضى الشطر الكبير من حياته في الجبل. حضر الأب الكبير الأنبا تاؤدوسيوس الذي من برية شيهيت بوادي هبيب لقاء هذا الشاب بالقديس إيليا، إذ كان قد اتجه إلى الصعيد الأقصى وبلغ إلى نواحي جبل شامة، إذ يقول: [ بينما كنت في بعض الأيام جالسًا عند أبي إيليا أقبل إليه هذا القديس أنبا بسنده، وكان شابًا، فسجد أمامه وطلب أن يترهب عنده. سأله قائلاً: "عرفني يا ولدي ما هو سبب خروجك من منزل والديك". فابتدأ يقول له: "يا أبي القديس الروح القدس الساكن فيك يعلمك سبب ذلك، فإني بينما كنت أرعى غنم أبي ألقى عدو الخير في نفسي فكرًا نجسًا، فسألت الإله جل اسمه أن يلهمني المعونة لأغلبه، ثم قمت ومضيت إلى الكنيسة، وسألت الرب بتضرع وبكاء كثير إن كانت إرادته أن أترك العالم وأترهب يسمعني فصولاً تُقرأ في الكنيسة تؤيد ما أنا عازم عليه. وهكذا كان، فإن الرب الإله جل اسمه الذي لا يُخيّب رجاء طالبيه ومن يقصده بقلبٍ نقي، أكمل طلبتي، فقُريء البولس هكذا: إن الذين يحبون الله يعينهم في كل الأعمال الصالحة... فلما سمعت هذه القراءات في الكنيسة ابتهجت كثيرًا، وخرجت بعد تناول الأسرار المقدسة، ولم يعلم بي أحد، وهوذا قد أتيت إلى قدسك يا أبي راجيًا أن تكمل طلبتي". للوقت ألبسه القديس أنبا إيليا ثياب الإسكيم وصلى عليه. أما أنا فتعجبت لكونه قبله هكذا من غير فحص، لاسيما وأنه حديث السن، وقلت له: "يا أبي عندما كنت في برية شيهيت كنت أنظر الآباء الذين هناك يمتحنون الإنسان قبل قبوله عندهم". أجابني قائلاً: "الأمر هو كما قلت غير أن الله سبق فكشف لي فضائل هذا الغلام المختار وسيرته الفاضلة قبل إتيانه إلىّ بست سنوات، وسوف يرعى قطيع المسيح، ويُعطي مفتاح كنيسة الله، وينال درجة الأسقفية على مدينة قفط، ويفصّل كلمة الحق باستقامة، ويحفظ نواميس الرب ووصاياه وأوامره وقوانين آبائنا الرسل الأطهار، ويُشاع ذكره في جميع أقطار الأرض".] هذا ما سجله الأب ثيؤدوسيوس الذي كتب سيرة هذا القديس، وقد شاركه في كتابتها الأبوان أنبا موساس وأنبا يوحنا تلميذا أنبا بسنتاؤس اللذان لم يفارقاه إلى يوم نياحته. جهاده إذ سلك الحياة الرهبانية كان جادًا في جهاده الروحي، يهتم بالصلاة الدائمة وحفظ الكتاب المقدس مع أصوام، فكان يأكل مرة كل يومين، وأحيانًا كل ثلاثة أيام، بل وكان أحيانًا يصوم الأسبوع كله. رآه أحد الإخوة واقفًا حافي القدمين على الجبل في الحرّ الشديد يتلو مزاميره والعرق يتصبب منه، وإذ مدحه على هذا الجهاد أجابه إن هذا العمل يُحسب كلا شيء. ثم تحدث معه عن الجهاد ضد ثلاثة شياطين: الأول شيطان الزنا الذي يلهب القلب بالشهوة، والثاني يطمس العينين فلا يدرك الإنسان ما سقط فيه فيستهين بالخطية، والثالث ينسيه ذكر الله ووجوده وعظمته. لذا يليق بالمؤمن أن يسأل الله الخلاص منهم بقوة صليبه المقدس. كان يحب القراءة في العهدين؛ قيل إن أخًا تطلع إليه من الكوة فرآه يقرأ في الأنبياء، وكان متى قرأ سفرًا يحضر النبي، وفي نهاية السفر يأتي إليه النبي ليقّبله ثم يرتفع إلى العلو. هذا وقد رآه وهو منتصب ليصلي إذ بأصابعه تتقد كمصابيح مضيئة. جاء أحد الإخوة ليفتقده إذ كان مريضًا جدًا، فوجد باب قلايته مفتوحًا، فقال كعادة الرهبان: "بارك عليّ يا أبي"، وإذ لم يجبه الأنبا بسنتاؤس ظنه غير قادرٍ على القيام فدخل القلاية فوجده يتحدث مع آخر. في محبة حازمة عاتبه قائلاً: "يا أخي أهذا قانون الرهبان أن تدخل علينا بدون إذن؟!" قال له الأخ: "إغفر لي يا أبي فقد أخطأت، لأني فكرت في نفسي لعلك تكون متعبًا ولا تستطيع القيام، فتجاسرت على الدخول لأفتقدك." عندئذ قال له القديس الجالس عند الأنبا بسنتاؤس: "دعه لأن الرب جعله مستحقًا لسلامنا لأجل أعماله الصالحة." وللوقت أخذ الأخ يد القديس وقبّلها، وإذ انصرف القديس، قال الأخ للأنبا بسنتاؤس: "أسألك يا أبي أن تعرفني اسم هذا القديس، فإني عندما أمسكت يده وقبلتها ووضعتها على وجهي أحسست بقوة عظيمة حلّت في نفسي وجسدي، وبهجة وفرح دخلا قلبي، وصرت كالثمل من الخمر." أجابه الأنبا بسنتاؤس: "الرب نظر إلى ضعفي وتعبي ووحدتي، إذ كان جسدي ضعيفًا جدًا، واشتد عليّ المرض، ولم أرَ أحدًا من الناس منذ فارقتكم، فأرسل إليّ أحد أصفيائه القديس إيليا التثبيتى صاحب جبل الكرمل، عزاني بكلامه الإلهي، وأنني أسألك بالمحبة الروحية ألا تظهر هذا لأحد إلى يوم وفاتي." معجزاته تذكر لنا سيرته بعض المعجزات التي أجراها الرب على يديه، منها أنه إذ فرغت الأوعية من المياه وهو في الجبل كاد الإخوة أن يموتوا من العطش، فصلى القديس ثم طلب منهم أن يفتقدوا الأوعية فوجدوها مملوءة ماء، ومجدوا الله. مرة أخرى دخل في سرداب داخل الجبل فوجد ميتًا وثنيًا قام ليتحدث معه عن الجحيم ورقد ثانية. جاءت إليه امرأتان مصابتان بمرض تطلبان الشفاء، وإذ رآهما ترك جرته وغطى رأسه بقلنسوته ومضى مسرعًا، وإذ لم تلحقاه أخذتا من التراب الذي تحت وطأة قدميه وطلبتا من الرب فشفاهما الرب. قيل إنه إذ دخل البرية ووجد صعوبة في إيجاد ماء بقي أربعة أيام يصلى وإذا به يجد بئرًا أمامه تحوى ماءً عذبًا لا تزال بحاجر نقادة، تسمى باسمه. سيامته أسقفًا على قفط سيم أسقفًا على مدينة قفط وتخومها بيد البابا دميانوس، حوالي عام 598م، وكان معاصرًا للأنبا قسطنطين أسقف أسيوط، كما عاصر الغزو الفارسي لمصر. لم يقبل الأسقفية إلا بناء على دعوة إلهية، فإنه إذ كان يصلي في إحدى الليالي ظهر له ثلاثة ملائكة نورانيين على شكل رهبان، أعطوه السلام وأعلنوا له أنه يُسام أسقفًا على مدينة قفط، وطلبوا منه ألا يرفض هذه الدعوة، ثم اختفوا، فبقي مصليًا حتى الصباح حيث جاء الكهنة ليمسكوه لإقامته أسقفًا. أما هو فقال لهم: "لو لم أخشَ أن أكون غير طائعٍ للذي أمرني لما كنت اسمع منكم في هذا الأمر، ولو نزعتم عني رأسي". كان راعيًا ساهرًا على قطيع المسيح، مهتمًا بخلاص كل نفسٍ، كما كان كثير العطاء لم يترك في أسقفيته درهماً واحدًا سوى دينار من عمل يديه سلمه للشعب وهو يودعهم ليكفنوه به، قائلاً لهم انه جمعه من عمل يديه واحتفظ به منذ رهبنته لتكفينه. عُرف بمهابته، فلم يستطع أحد أن يتطلع إلى وجهه بالرغم من بشاشته وعذوبة الحديث معه. كان إذا صعد إلى المذبح ليقدس يتلألأ وجهه كالنار، وتنكشف أمامه خطايا شعبه وينظر الروح القدس حالاً على القرابين المقدسة. وُهب عطية النبوة، لينذر الكثيرين بما يحدث لهم، كما كان باب قلايته مفتوحًا للجميع. نياحته استدعى القديس بسنتاؤس تلميذه يوحنا وأخبره بأن يوم انتقاله قد قرب، معلنًا له أنه وهو يصلى بالليل ظهر له أناس كثيرون نورانيون داخل الكنيسة، من بينهم اثنان مضيئان جدًا هما القديسان بطرس وبولس وحولهما جماعة من الأساقفة يدعونه إلى أورشليم السمائية، ويباركوه قبل خروجه من الجسد ثم يصعدون أمامه. بعد هذا اللقاء اجتمع بالشعب ووعظهم، وأخيرًا سألهم ألا يكفنوه بثياب فاخرة بل بثيابه التي يرتديها، وأن يدفنوه في مكان حدده لهم. صعد إلى المذبح وخدم سرّ الأفخارستيا وناول الشعب وباركهم، ثم مرض قليلاً ورقد في الرب في 13 من شهر أبيب. مخطوطة 97، 470 بتاريخ (18)، بمكتبة المتحف القبطي من القرن الرابع عشر، قام بنشرها الأستاذ نبيل سليم في سلسلة كتبه "من ديارات الآباء".
وُلد القديس بسنتاؤس أو بسنتيوس أو بسنتي أو بسندة أو باشنتي (منها جاءت الأسماء: بشاي، أبشاي، بيشوي)، في أرمنت من أبوين وثنيين. عُرفت أرمنت بتمسكها بالعبادة الوثنية زمانًا طويًلا، فكان بها نحو 360 بربا (بيت للوثن) مملوءة أصنامًا من حجارة وخشب. وعندما قدم إليها أريانا والي أنصنا في عهد الإمبراطور دقلديانوس متجهًا نحو مدينة إسنا كانت تفتخر بأنه لا يوجد بها مسيحي واحد، بينما لم يوجد في مدينة إسنا في ذلك الوقت وثني واحد، إذ دخل الوالي ليجدها فارغة تمامًا ماعدا سيدة عجوز قبلي المدينة أخبرته عن موضع المسيحيين، كما رأينا في سيرة القديس أمونيوس أسقف إسنا. لكن الحال قد تغير وصار شعب أرمنت مسيحيًا بعد ذلك بفترة وجيزة. إذ وُلد بسنتاؤس حمله والداه إلى البرابي كعادة الوثنيين، وكانت المفاجأة أن كهنة الأوثان قد أسرعوا إلى الوالدين وهما من بعيد وطلبوا منهما ألا يقتربا بطفلهما إلى البربا لأنه عدو الآلهة. وهكذا شعر عدو الخير إبليس أن هذا الطفل قد أعده الله لنشر الإيمان وتحطيم العبادة الوثنية، فأثار كهنته ضده، وطردوه مع والديه. تعلم بسنتاؤس مهنة النجارة، إذ كان من عادة أهل أرمنت أن يُكرس كل سنة نجّار وطبيب وبنّاء للعمل في قصر الوالي لمدة عام كامل بالتناوب، جاء دوره فانطلق مع طبيبٍ وبناء إلى القصر. وإذ كان واقفًا هناك ينظر إلى السماء جاء نسر ومعه إكليل ملوكي وضعه على رأسه إلى لحظات ثم أخذ الإكليل وانطلق ناحية المشرق، الأمر الذي أدهش كل الحاضرين، وحسبوا ذلك إعلانًا إلهيًا أنه يكون ملكًا. أحب الإيمان المسيحي، وقبل المعمودية وهو شاب صغير. أثناء عماده رأى شبحًا مخيفًا يخرج منه، فقال: "انظروا كيف ابتعدت قوات الظلمة عني بالمعمودية المقدسة". رهبنته شعر القديس بسنتاؤس، خاصة منذ قبوله العماد، انه مفرز لعمل إلهي، فكان ينهمك في دراسة الكتاب المقدس بشغفٍ شديدٍ، فحفظ أغلب أسفاره، كما كان يتدرب على الحياة النسكية التقوية متكلاً على نعمة الله الفائقة. ترك القديس بسنتاؤس المدينة وانطلق إلى الجبل المجاور لها حيث سكن عند أخ قديس يُسمى سورس، يُعتبر أول راهب في هذا الجبل، وقد صار أول أسقف للمنطقة حيث لم يكن هناك سوى كنيسة صغيرة. دعوته للخدمة كان قلب القديس بسنتاؤس يلتهب شوقًا نحو الوحدة وتكريس القلب للعبادة، وفي نفس الوقت كانت نفسه متمررة من أجل الوثنيين المحرومين من خلاص السيد المسيح. وإذ أراد الانطلاق إلى داخل الجبل رأى كأن ملاكًا على شكل إنسان يقف بجوار كمية من الملح، فسأله القديس: "يا سيدي، من الذي يشتري منك هذا الملح في هذا القفر؟" أجابه الملاك: "يا بسنتاؤس، وأنت من الذي ينتفع منك إن صعدت ههنا؟! أما تعلم أن الرب قد اختارك لترد هذا الشعب الضال إليه حتى يخلصوا؟! قم الآن وانزل إلى المدينة كقول الرب، واسكن خارجها، واجتذب الناس إليك قليلاً قليلاً، لأن جموعًا كثيرة تأتى إليك وتُقبل إلى معرفة الله من قبلك أيها الإناء المختار". ثم أعطاه الملاك السلام وصعد إلى السماء. نزل القديس من الجبل، وبنى لنفسه مسكنًا بجوار المدينة يمارس فيه نسكياته بجهاد عظيم، سائلاً الله بدموع من أجل خلاص الناس. ازداد القديس بهاءً بنعمة الله العاملة فيه، وقد وهبه الله روح النبوة، فجاء كثيرون يستشيرونه. بأمر إلهي بنى كنيسة تبعد عن مسكنه حوالي ميلاً، ثم بنى مجمعًا بجوارها، فاجتمع عنده ثلاثة وخمسون أخًا يمارسون الحياة الرهبانية تحت إرشاده. وتحول هذا الدير إلى مركز إشعاع روحي وكان كثير من الوثنيين يأتون إليه ويسمعون للقديس فيقبلوا الإيمان وينالوا العماد، حتى كادت مدينة أرمنت كلها أن تصير مسيحية. لقاءاته مع آخرين جاء إليه أنبا ببنودة أسقف مدينة قوص، فخرج إليه القديس يستقبله بفرح ويعانقه، وكانا يتحدثان بعظائم الله. قال القديس للأسقف: "إنني كنت ذات يوم أمشي في الجبل، وللوقت نظرت سيدي ومخلصي يسوع المسيح ابن الله الحيّ، فخررت له ساجدًا، وقبّلته، ومشيت معه كالإنسان مع خليله، فلما أتيت إلى حائط وعليه سياج باركني وأعطاني السلام، وصعد إلى السماء بمجد عظيم". مرة أخرى إذ جاء إليه الأنبا هارساسيوس استقبله بفرحٍ عظيمٍ، ودخل به إلى الدير وسط التسابيح، وكان يوحنا (أخ القديس بسنتاؤس) قد خرج من الدير يجمع حطبًا، وهناك قاتله الشيطان بفكر الزنا وظهرت له الشياطين على شكل نساء لتثير فيه الخطية أما هو فترك الموضع وهرب إلى مكان به شوك وحسك، ثم أسرع إلى الدير. علم الأنبا بسنتاؤس بالروح وخرج إليه واستقبله، قائلاً: "مرحبًا بك أيها الرجل الصالح المتحد بالإله الواحد وحده القدوس الأبدي، الذي غلب أفكار العدو وكل خيالاته، الآن أنا أقول لك يا أخي الحبيب إن إلهنا القوي قد أنعم عليك بأسقفية مدينة أرمنت..." بعد ذلك تنيح القديس الأنبا مقارة أسقف المدينة فاجتمع أهل المدينة، وأخذوا الأب أنبا يوحنا، وأتوا به إلى الأب البطريرك أنبا ثاؤفيلس، وطلبوا منه أن يرسمه لهم أسقفًا على مدينة أرمنت وكل تخومها، وبهذا تحققت نبوة أخيه. اهتمامه بالمرضى إذ وهبه الله عطية شفاء المرضى فتوافدت الجماهير عليه بنى مسكنًا خارج الدير يستضيف فيه الكثيرين، وكان يهتم بخلاص نفوسهم وبنيانهم الروحي بجانب صلواته عنهم لشفاء أجسادهم. في شيخوخته المملوءة ثمرًا روحيًا مرض، ثم تنيح في السابع من شهر مسرى. مخطوط 101 - 275بتاريخ 7 بمكتبة المتحف القبطى نبيل سليم: القديسان أنبا بشاي وأنبا بسنتاؤس، 1976.
هو أسقف بتولومايس – إحدى المدن الخمس الواقعة في شمال أفريقيا – نحو أواخر القرن الثالث الميلادي. لا يروي لنا التاريخ شيئًا عن طفولة هذا الأسقف العظيم ولا عن شبابه، ولكن الذي يرويه التاريخ هو جهاده الروحي العنيف في سبيل أبنائه من أهالي بتولومايس. ذلك أنه وجه كل عنايته إلى تعليم شعبه وتثبيته في الإيمان، وكان حين يعلم شعبه يصور لهم أمجاد السماء في صورة جذابة خلابة تفتنهم وتجعلهم يدركون أن آلام الحاضر لا توازي المجد المعد لجميع الذين يرضون الله. ولما سمع أريانوس والي المنطقة بتعليم بسوثي أقسم بأن يضع حدًا له، فأرسل على الفور رسالة أقسم بأن يضع حدًا له، فأرسل على الفور رسالة إلى الإمبراطور دقلديانوس الذي بعث برده مع الرسول عينه يقول فيه: "من دقلديانوس الإمبراطور إلى بسوثي: سلام. إن رضيت أن يخضع للأوامر الصادرة مني إليك بأن تبخر لآلهتي فإني أعطيك سلطانًا أوسع، وآمر جنودي بحراستك حيثما سرت، أما إن رفضت الإذعان فليس أمامك سوى الموت". وحين وصل رسول الإمبراطور إلى بتولومايس كان الأنبا بسوثي يصلي القداس الإلهي فعلم بالروح مضمون الرسالة، وحالما انتهى من الصلاة استدعى إليه الرسول وقال له: "هل في وسعك أن تصنع معي معروفًا؟" أجابه الرسول: "إن كان في حدود سلطتي أصنعه معك بكل سرور". قال له الأسقف: "أمهلني يومًا واحدًا"، فقَبِل الرسول هذا الطلب. فجمع الأسقف كهنته وشعبه وأخذ يوضح لهم عظم المسئولية الملقاة عليهم وشرف الثبات على الإيمان المسيحي حتى النهاية. بدأوا يبكون ويرجون منه أن يجد مخرجًا لنفسه من الموت المحقق الذي ينتظره، فقال لهم: "يا أولادي كل منا سيموت حتما إن عاجلاً أو آجلاً، لذلك كان من دواعي مجدي أن أموت الآن على اسم السيد المسيح مخلصي، فذلك خير لي من أن أعش مدة قد لا تتجاوز يومًا وقد تطول أعوامًا، وهذه المدة أعيشها وأنا خَجِل منخفض الجبين لأنني خنت عهد سيدي الفادي الذي بذل نفسه لأجلي. فتعالوا إذًا لنصلي جميعًا القداس الإلهي ولنشترك معًا في التناول من السر المقدس كي تتحصن به نفوسنا فنستطيع أن نطير إلى العلى بأكثر سرعة". وقد تعزت قلوب الشعب بهذه الكلمات، ولما انتهى القداس رأى الشعب وجه الأنبا بسوثي يضيء بلمعان ساطع فامتلأت قلوبهم سكينة وعزاء، وساروا معه إلى حيث ينتظره الجند مهللين ومسبحين كأنهم سائرون في موكب عرس بهيج. وما أن أوصلوه إليهم حتى ودعوه من غير آهة واحدة، واقتاده الجند إلى الإسكندرية وسلموه إلى واليها الذي حاول بشتى الوسائل أن يقنع الأنبا بسوثي بالتبخير للآلهة، ولكنه أصر على الرفض. ثم زعم الوالي أنه قد يستطيع إرهاب الأسقف فرمى به في السجن وختم بابه بالختم الإمبراطوري وتركه خمسة عشر يومًا، ثم عاد إليه بعد هذه المدة وقاده إلى قاعة المحكمة. ذهل الوالي حين رأى الأنبا بسوثي مضيء الوجه تشيع منه النضارة والبشاشة فقال له: "لابد أنك ساحر لأنني ختمت الباب وفضضته بنفسي الآن، وهذا يعني أنك بقيت في السجن الضيق القذر خمسة عشر يومًا محرومًا من كل طعام وشراب، وكنت أتوقع أن أراك نحيلاً شاحب الوجه لا تقوى على الوقوف، أما وقد وجدتك على غير ما توقعت فأظن أن لديك قوى سحرية تهر بها الجوع والعطش". ابتسم القديس في هدوء وقال له: "إني أشفق عليك يا صديقي العزيز لأنك لم تعرف بعد أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". كانت الجماهير إذ ذاك قد تجمعت في دار المحاكمة وسمعت الحديث الذي دار بين الأسقف والوالي، فهتفوا: "يا أبانا القديس بسوثي إن إله المسيحيين هو الإله الحق". فهمس الوالي في أذن القاضي قائلاً: "أسرع بإصدار الحكم قبل أن تتزايد الجماهير ويفلت الزمام من أيدينا"، فصرخ القاضي بأعلى صوته: "خذوا هذا الرجل خارج المدينة واقطعوا رأسه". ساقه الجند إلى الخارج وتبعته الجماهير، وفي الطريق اقترب شاب شماس من الأنبا بسوثي يسأله: "يا أبي لماذا ارتديت الثياب البيضاء التي ترتديها حين تقدم القرابين؟" فالتفت إليه الأسقف وهو مشرق الوجه وقال: "يا بني أنا ذاهب إلى حفل العرس فكيف لا ألبس الملابس البيضاء؟ وسأقابل ربي وإلهي في مجده، ولقد عشت السنين الطوال مشتاقًا إلى هذه المقابلة. أما أنت يا ابني فانضم إلى الجموع قبل أن يلحظ الجند أنك تحدثني، وغلى اللقاء في النور الأعظم". ولما وصلوا إلى مكان الإعدام رفع الأنبا بسوثي عينه نحو السماء ورفع يديه إلى فوق وصلى بصوت عال قائلاً: "يا ربي وإلهي أحرس هذا الشعب واحفظه في الإيمان القويم وأرسل ملائكتك ليحيطوا به، وتقبل روحي بين يديك". ولم يكد ينتهي من صلاته هذه حتى رأت الجموع السيف يلمع في أشعة الشمس ثم يهوي على رجل الله، فسقط جسمه بينما طارت روحه مع جمهور الملائكة إلى مساكن النور. قصة الكنيسة القبطية، الكتاب الأول صفحة 159.
قصة هذا القديس تكشف عن خطة الله العجيبة لخلاص كل نفسٍ، فإنه يستخدم كل وسيلة ليجتذبها إليه، ويقيمها على أعلى مستوى، إن قبلت دعوته وتجاوبت معه. وُلد هذا القديس في قرية أبصونة من تخوم أخميم، في شبابه صار يسلك بالشر. لم يتركه الرب في شره بل سمح له بمرضٍ، وأعلن له في الليل رؤيا إذ رأى موضع العذابات الأبدي فصار يبكي بمرارة. رفع بشاي المدعو أيضًا بطرس نظره إلى السماء، وصرخ: "يا سيدي وإلهي إن شفيتني من هذا المرض أتوب وارجع إليك وأعبدك من كل قلبي". شُفي بشاي (بطرس)، ولم ينسَ وعده للرب بل التهب في قلبه حنين شديد نحو الحياة الرهبانية. ترك الغنم التي كان يرعاها وانطلق إلى الدير ليلتقي بالقديس بيجول خال القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين في جبل أدريبة. حياته الرهبانية إن كان الله قد استخدم المرض وسيلة لخروج هذا الشاب من شهوات الجسد المحطمة للنفس، لكنه إذ ذاق الحياة الروحية الحقة امتلأ قلبه فرحًا لينطلق بقوة في أتعاب كثيرة، محتملاً آلام ميتات يومية ببهجة قلب. عاش مع القديس بيجول في صداقة عجيبة، يشتركان معًا في النسكيات والعبادة بلا ملل، يسهران الليالي معًا يقاومان تجارب عدو الخير. وهبه الله إمكانية فائقة ليرتفع فوق حدود احتياجات الجسم، فكان يصوم بطريقة تفوق الإمكانيات الطبيعية كأن يبقى شهرًا كاملاً لا يذوق شيئًا بسماح إلهي عجيب، كما كان يقضي أحيانًا الليل كله واقفًا يصلي. وهبه اللَّه في محبته أن تكون أعمال الناس مكشوفة أمامه، فيسندهم على حياة التوبة الصادقة، إذ جاء كثيرون من كل أرض مصر يطلبون بركته بسبب نعمة الله العاملة فيه. كان يسند القادمين إليه بمواعظ روحية نافعة كما كتب مقالات نافعة للرهبان وللذين في العالم. خلال صداقته مع الأنبا بيجول جاء ابن أخت الأخير، الأنبا شنودة، وهو ابن سبع سنين، فألبسه خاله الإسكيم وهو بعد صبي بناء على إعلان ملائكي، وقد تمّ ذلك في حضور الأنبا بشاي، وصار الثلاثة يعملون بروحٍ واحدٍ في صداقة عجيبة بالرغم من تفاوت السن؛ وفيهم تحقق قول سليمان الحكيم: "الخيط المثلوث لا ينقطع." بني كل واحد منهم لنفسه مسكنًا في الجبل وآخر بجوار الكنيسة. وإذ كان الثلاثة منطلقين لزيارة أنبا يحنس بجبل أسيوط سمعوا صوتًا من السماء يقول: "لقد انتخبتك اليوم يا شنودة رئيسًا ومدبرًا للمتوحدين". تنيح القديس أنبا بشاي في الخامس من أمشير، فكفنه القديس أنبا شنودة، وظهر من جسمه آيات وعجائب، وكتب القديس أنبا شنودة سيرته ونسكياته. مخطوط 438/250 نسكيات أنبا بشاي المدعو بطرس وتعاليمه، مكتبة دار البطريركية. نبيل نسيم:القديسان أنبا بشاي وأنبا بسنتاؤس بالطود، 1967.
ارتبطت سيرة القديس أنبا بشاي الناسك، والمعروف باسم أنبا بشاي ساكن القبرين في مدخل طود (جبل الطود شرقي النيل مقابل أرمنت) بالقديس بسنتاؤس وسورس، ويُقال ان الثلاثة يحسبون من أوائل الذين تتلمذوا على يديْ القديس باخوميوس أب الشركة. كان ناسكًا متعبدًا لله منذ صغره، يجتهد في صلواته ليلاً ونهارًا. امتاز بحبه لسِفر إرميا، حتى قيل أنه في كل مرة يقرأه ويفرغ منه يجد القديس إرميا النبي أمامه فيقبّل رأسه ثم يصعد النبي نحو السماء. كثيرًا ما يتحقق معه هذا في الأسفار الأخرى أيضًا. لم يعطِ لنفسه راحة جسدية، فكان محبًا لضرب المطانيات والسهر الكثير، وإذ أكمل جهاده تنيح في 25من كيهك. وضعوا جسده في كنيسته، وقد أظهر الله منه عجائب.
كان جنديًا أيام ولاية كبريانوس على أتريب (حاليًا بنها). لما أثار الإمبراطور دقلديانوس الاضطهاد على المسيحيين تقدم هذا الجندي واعترف بالسيد المسيح، فقبض عليه الوالي وأوقع عليه عذابات كثيرة، وإذ لم يترك إيمانه ولا جحد مسيحه قُطعت رأسه في المطرية الواقعة بجهة عين شمس ضواحي القاهرة، وكان ذلك في 19 بؤونة.
-----------------
بشاي من إنطاكية القديس
بشاي أو أبشاي Abshai هو أخ القديس هور أو أباهور من إنطاكية، سيم قسًا لتقواه. مضى أخوه مع والدته إلى الإسكندرية حيث استشهدا هناك، فجاء هذا الكاهن ليهتم بجسديهما، لكنه إذ نظرهما اشتهى مشاركتهما اكليلهما، فسلم نفسه للوالي وأعلن إيمانه محتملاً العذابات حتى أسلم الروح. حاول الوالي عبثًا أن يحرق الأجساد. تعيد له الكنيسة في أول أيام النسي.
وُلد هذا القديس في مدينة أرمنت بمحافظة قنا، من أسرة تقية، والده يُسمى مينا. "بضابا" مشتقة عن الهيروغليفية "باتبي" وتعني "الرئيسي" أو "الجوهري"، وفي القبطية "باتابي" تعني "المنتسب إلى الرأس". تكونت صداقة قوية بينه وبين ابن خالته "أندراوس" منذ طفولتهما، فقد كان الأخير يكبر بضابا بعامين. وكانا يحملان فكرًا واحدًا هو التمتع بالملكوت السماوي. كان الاثنان منذ نعومة أظافرهما يلتقيان معًا على صعيد الروح، زاهدين في الحياة، عاكفين على دراسة الكتاب المقدس والكتب الدينية، يصومان يومين يومين بلا طعام ولا شراب مع المداومة على الصلاة ليلاً ونهارًا. حياتهما الرهبانية انطلقا معًا إلى الجبل الشرقي بقصر الصياد (مركز نجع حمادي)، وتتلمذا على يديْ القديس أنبا إيساك. سكنا صومعة يمارسان فيها تداريبهما الروحية، وكانا يمارسان نساخة الكتب الروحية لنفعهما الشخصي روحيًا ولبيعها مقابل دراهم قليلة للإنفاق على نفسيهما وتوزيع ما يتبقى على الفقراء. فاحت رائحة المسيح الذكية فيهما، وصارت صومعتهما مركز إشعاع روحي، فجاء إليهما أسقف المنطقة الأنبا تادرس وسام القديس بضابا قسًا وأندراوس شماسًا، وكانا يمارسان الخدمة الكهنوتية مرة كل أربعين يومًا في كنيسة بإحدى القرى المجاورة. دخل الأنبا تادرس الكنيسة يومًا، وإذ تطلع إلى القديس بضابا شاهد وجهه مشرقًا ببهاءٍ عجيب كما نظر إكليلاً كما من ذهب مرصع متلألئ موضوعًا على رأسه، فاشتاق أن يبقى بضابا وأندراوس معه في الأسقفية، فرفض الأول ورجع إلى قلايته بينما وافق الآخر أن يبقى معه. عاد القديس بضابا إلى قلايته، وإذ أدرك أن الكل يلاحقه هرب. أرسل الأسقف وراءه رسلاً فوجدوه قد ترك الموضع، فقام الأسقف بتدشين القلاية ككنيسة. تنقلاته المستمرة إذ هرب القديس كانت فضائله تسحب قلوب الكثيرين نحوه الأمر الذي كان يرعبه، فكان يزداد نسكًا كتأديبٍ لنفسه. أينما حلّ تجمهر المؤمنون حوله، لذا كان يتنقل بين "هو" و"قوص" و"نقادة" و"بهجورة"، هربًا من الناس، وكان الرب يعمل به عجائب كثيرة. أسقف قفط إذ تنيح أسقف قفط اجتمع الكهنة مع الشعب ورأوا أن القديس بضابا هو خير من يصلح للأسقفية، فبعثوا وفدًا كبيرًا إلى القديس البابا بطرس خاتم الشهداء (17) الذي رأى ملاك الرب في رؤيا يعلنه بسيامة هذا الأب أسقفًا. التقى البابا بالوفد واستجاب لطلبهم، وأرسل أربعة من الكهنة إلى الصعيد، حيث جاءوا به إلى البابا بالرغم من تردده لقبول هذه الرتبة وخوفه لئلا تهلك نفسه! إذ جاء القديس أمام البابا أعلنت الوفود التي جاءت متزاحمة قبولها بل وفرحها بالأسقف الجديد. رافقته الآيات والعجائب منذ لحظة سيامته وأثناء رجوعه بالسفينة حتى بلوغه كرسيه. عاش هذا الأسقف ناسكًا في ملابسه وطعامه، زاهدًا كل شيء. أرسل إلى ابن خالته "أندراوس" ليكون معه في خدمة ربنا يسوع المسيح فجاء وأقام عنده. استشهاده في عهد دقلديانوس إذ كان أريانا والي أنصنا يجول صعيد مصر ليمارس كل أنواع العذابات على المسيحيين، علم الأسقف بأن الوالي قد بلغ مدينة إسنا وأنه يقوم بقتل سكانها. جمع الأسقف شعب المسيح وصار يحثهم على الثبات في الإيمان وقبول الآلام بفرح، ثم باركهم وودعهم. ذهب إلى مدينة إسنا وبصحبته القس أندراوس (ابن خالته) والقديس خريستوظلوا. هناك اعترفوا باسم السيد المسيح، ونالوا عذابات كثيرة، وقد ظهر السيد المسيح حيث أكد له: "تعزى يا حبيبي بضابا، أنا معك" ثم صعد إلى السماء وكان حوله كثير من الملائكة. تمتع الثلاثة بإكليل الاستشهاد في 19 من شهر أبيب، وكان القديس بضابا ابن ثمانية وستين عامًا، قضى منها 15 عامًا في بيت أبيه، 49 عامًا في الحياة الرهبانية النسكية، وثلاث سنوات ونصف على كرسي قفط أسقفًا. وضع الأب المكرم الأنبا ثاؤفيلس أسقف قفط ميمرًا في سيرة هذا الأسقف الشهيد، قام الاكليريكي رشدى واصف بهمان بنشره (مطبعة الأنبا رويس 1984).
قيل أن القديس بطرس أسقف براغ St. Peter of Braga في البرتغال هو أحد أساقفتها الأولين، عاش في القرن الرابع، متسلمًا الأسقفية عن معلمه وسلفه القديس يعقوب الكبير أول أسقف لبراغ. يقال إنه نال إكليل الاستشهاد بعد أن قام بتعميد ابنة ملكة هذه المنطقة وإبرائها من مرض البرص. يعيد له الغرب في 26 إبريل.
-------------------------
بطرس أسقف سبسطية القديس
سبق لنا الحديث عن عائلة هذا القديس المطوّبة، فقد كان الأخ الأصغر بين عشرة إخوة، تكبرهم القديسة العظيمة ماكرينا التي كان لها دورها الفعّال في حياة اخوتها بل وفي تدبير الكنيسة. ومن بين إخوته القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية، والقديس غريغوريوس أسقف نيصص. أما والديهم فهما باسيليوس وإميليا اللذان نُفيا بسبب الإيمان. تنيح والده وهو بعد رضيع فتلقفته أخته القديسة ماكرينا التي ألهبت قلبه بالحياة النسكية والعزوف عن المراكز الزمنية والكرامات الباطلة. التحق القديس بطرس بالجماعة الرهبانية التي أقامها أخوه القديس باسيليوس على ضفاف نهر الإيريس، فقد احتاج إليه أخوه ليعاونه في تدبير هذه الجماعة، وليكون خلفه، إذ اتسم بالحكمة والرزانة مع الحياة الفاضلة في الرب. حلّت مجاعة عنيفة اجتاحت بنطس وكبادوكيا فظهرت محبة هذا القديس الفائقة. بحسب الحكمة البشرية كان يليق به أن يكون مقتصدًا في العطاء للآخرين حتى يطمئن أن جماعته تجتاز هذه المحنة بسلام، لكن محبته المسيحية الباذلة أبت عليه إلا أن يفتح مخازن هذه الجماعة ليعطى بفيض للجميع، واثقًا في الله مشبع الجميع. سيامته إذ سيم القديس باسيليوس أسقفًا على قيصرية كبادوكيا في سنة 370م، شجع أخاه على نوال نعمة الكهنوت. تنيح باسيليوس في أول يناير 379م، وتنيحت ماكرينا في نوفمبر من نفس العام، ثم تنيح بعدهما بقليل أوستاثيوس الأريوسي أسقف سبسطية بأرمينيا المقاوم للقديس باسيليوس، فسيم القديس بطرس أسقفًا على سبسطية عام 380م لاقتلاع كل جذور الأريوسية عن الإيبارشية. في عام381 اشترك في المجمع المسكوني الثاني بالقسطنطينية حيث أظهر غيرة على الإيمان المستقيم مع حكمة وتقوى. تنيح في صيف عام 391 على ما يظن.
هو ثمرة صلوات أمه صوفيا زوجة الكاهن الإسكندري ثيؤدوسيوس، إذ طلبت من الله في عيد الرسل أن يهبها ثمرًا، وفي الليل ظهر لها شخصان يلبسان ثيابًا بيضاء يعلنان قبول الله طلبتها، وبالفعل وُلد بطرس في عيد الرسل التالي. بعد ثلاث سنوات قدماه الوالدان للبابا ثاؤنا لكي يباركه، وفي الخامسة أُرسل ليتعلم الدين، وقد أقيم في السابعة أغنسطسًا، وفي الثانية عشرة شماسًا يخدم الله بروح تقويّ نسكي، وكان ملازمًا الكنيسة ليلاً نهارًا، منكبًا على الدراسة، سالكًا في اتضاع، فأحبه الجميع، وسيم قسًا في السادسة عشرة من عمره. قيل أنه كثيرًا ما كان يرى السيد المسيح نفسه يناول المؤمنين بيد البابا ثاؤنا. عرف القس بطرس كيف ينسحب من وقت إلى آخر للدراسة في الكتاب المقدس حتى تأهل أن يكون عميدًا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية ويُلقب "المعلم البارع في المسيحية". وعندما جاء سابليوس القائل بأن الله أقنوم واحد يظهر تارة في شكل الآب وأخرى في شكل الإبن وأيضًا في شكل الروح القدس، أرسل له البابا ثاؤنا القس بطرس فاستصغره لكن سرعان ما أفحمه بل وقيل إنه أُصيب بمرض خطير ومات في الحال وتشتت أتباعه. هذا وقد وهب الله هذا الكاهن عطية إخراج الشياطين وشفاء المرضى. على كرسي مارمرقس إذ كان البابا ثأونا في مرض الموت رأى السيد المسيح يطمئنه على الخدمة، قائلاً له: "أيها البستاني للحديقة الروحية، لا تخف على البستان ولا تقلق، سلمه إلى بطرس الكاهن يرويه، وتعالْ أنت لتستريح مع آبائك". فأخبر البابا تلميذه الذي بكي لشعوره بعظم المسئولية. وفي أول أمشير سنة 18ش (25 يناير302م) سيم القس بطرس بابا الإسكندرية (17). الانقسام الميلاتي بدأ البابا بطرس خدمته كبطريرك وسط عاصفة الاضطهاد العنيفة التي أثارها الإمبراطور دقلديانوس وشريكه مكسيميانوس. لكن ما أرهق البابا بحق هو الانقسام الداخلي الذي خلقه مليتوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط). يبدو أن هذا الأسقف بخر للأوثان، ولما أراد البابا تأديبه رفض، فعقد البابا مجمعًا بالإسكندرية وجرده، أما مليتوس فأخذ موقف العنف إذ صنع انشقاقًا وضم إليه بعض الأساقفة، بل وعند سجن البابا ذهب إلى الإسكندرية وصار يرسم كهنة بالإسكندرية. هذا ما ذكره القديس أثناسيوس، أما القديس أبيفانيوس فيقول أن مليتوس أخذ موقف العنف من المرتدين بسبب الاضطهاد الراجعين، رافضًا توبتهم خاصة الكهنة، أما البابا فأراد أن يبقى الباب مفتوحًا لكل نفسٍ راجعة، مكتفيًا بتقديم التأديب. وقد سُجن البابا بطرس ومليتوس، وبسبب الخلاف وضعا ستارة بينهما داخل السجن حتى لا ينظر بعضهما البعض، فقد فضل البابا أن يخسر الأسقف ومن معه عن أن يفقد الراجعين إلى الله بالتوبة رجاءهم. عُرضت قضية هذا الانشقاق الميلاتي في المجمع المسكوني بنيقية عام 325م، إذ بلغ عدد التابعين لمليتوس 28 أسقفًا، وقد تساهل المجمع معه، إذ قبله كأسقفٍ شرعيٍ في حدود إيبارشيته على ألا يسيم أساقفة أو كهنة فيما بعد، أما الذين سبق فسامهم من الكهنة فيُعاد تثبيتهم من جديد ويعملوا تحت سلطان أسقف الإسكندرية. وفي حالة احتياج أسقفية ما إلى أسقف تعاد سيامة أحد الأساقفة الذين سامهم مليتوس، كما أمر المجمع ألا يُسام أسقف في المستقبل دون حضور ثلاثة أساقفة على الأقل واشتراكهم في السيامة. مع آريوس خطورة الانشقاق المليتي أن آريوس منكر لاهوت السيد المسيح (سبق الحديث عنه في عرضنا لسيرة البابا أثناسيوس) قد وجد في هذا الانشقاق فرصته، إذ انضم إليه ليس من جهة الفكر اللاهوتي وإنما من جهة معاندته ضد الكنيسة. عقد البابا بطرس مجمعًا في الإسكندرية وحرم أريوس، وقد استمر الأخير في نشر تعاليمه. في داخل السجن أُلقيّ القبض عليه وأودع في السجن إما لظهور أول مؤلفاته ضد الوثنية، التي اعتبرها الإمبراطور تحديًا شخصيًا له، وإما بسبب شكوى قدمها سقراطيس، أحد أشراف إنطاكية إلى الإمبراطور. سقراط هذا كان صديقًا للشهيد أبادير، أنكر الأول الإيمان إرضاءً لدقلديانوس، فسألته زوجته التقية أن يسافر معها إلى الإسكندرية لتعميد ابنيهما هناك فرفض خشية غضب الإمبراطور عليه. سافرت الزوجة ومعها الابنان وغلامان، وفي الطريق إذ هبّت عاصفة شديدة خشيت أن يموت الولدان بلا عماد، فبسطت السيدة يديها وحوّلت وجهها نحو الشرق وصلت، ثم جرحت ثديها اليمني ورشمت جبهتيهما بدمها وغطستهما في الماء، وهى تقول: "أعمدك باسم الآب والإبن والروح القدس". وإذ هدأت الريح وبلغت الإسكندرية قدمت الابنين للبابا بطرس، فكان كلما أراد أن يغطسهما تتجمد مياه المعمودية. وإذ روت السيدة له ما حدث اكتفي البابا بالصلاة على الولدين ورشمهما بالميرون. اشتكى سقراط امرأته أمام الإمبراطور فاستدعاها وأمر أن تُربط من خلفها ويوضع الولدان على بطنها ويُحرق الثلاثة بالنار. بعد ذلك أمر الإمبراطور بالقبض على البابا الذي عمّد الولدان. وقد سجن عام 311م. مساعي آريوس أدرك آريوس أن البابا بطرس في طريقه للاستشهاد، لذا في مكرٍ أسرع لينال منه الحل طامعًا أن يعتلي الكرسي من بعده، فأرسل جماعة من الأراخنة يشفعون فيه، أما البابا فأكد حرمان آريوس. استدعى البابا تلميذيه الكاهنين أرشلاوس والكسندروس وأخبرهما أن الأول سيعتلي الكرسي من بعده، يخلفه الثاني، محذرًا إياهما من قبول آريوس في شركة الكنيسة، قائلاً لهما إنه رأى السيد المسيح بثوبٍ ممزق في المنتصف، ولما سأله عن سبب التمزيق، أجابه أن آريوس هو الذي مزقه. حب مشترك إذ علم شعب الإسكندرية بسجن باباهم المحبوب تجمهر الكل حول السجن يريدون إنقاذه دون استخدام أية وسيلة عنيفة بشرية، مشتاقين أن يوقفوا قتله ولو تعرض الكل للموت. اضطر القائد أن يؤجل تنفيذ الحكم يومًا خشية حدوث ثورة. وإذ حلّ الليل لم ينصرف الجمهور فارتبك القائد. أدرك البابا أن احتكاكًا لا بد أن يحدث في الصباح بسببه، وإذ لم يرد أن يُصب أحد من شعبه بسوءٍ، استدعى أحد الأراخنة الموثوق فيهم ليبلغ الوالي أن يدبر إرسال البعض إلى السجن من جهة الجنوب عند أسفل الحائط وسوف يقرع البابا لهم من الداخل فينقبوا الحائط ويخرج إليهم لينفذوا فيه الأوامر الصادرة إليهم. وبالفعل تم ذلك، وخرج البابا سرًا، وهو يقول: "خير لي أن أسلم نفسي فدية عن شعبي ولا يُمس أحد بسوء". سُمح له بزيارة مقبرة القديس مارمرقس الرسول لينال بركته، حيث صلى لله مستودعًا إياه الشعب، سائلاً أن يكون هو آخر شهيد في جيله. وكان بالقرب من القبر عذراء ساهرة تصلي سمعت صوتا ًيقول: "بطرس آخر شهداء هذا الاضطهاد". تقدم البابا للجند فكان وجهه كملاكٍ، ولم يجسر أحد من الخمسة جنود أن يقتله، عندئذ قدم كل واحدٍ منهم قطعة ذهبية ليأخذ من يضرب رقبته الخمس قطع، فتجاسر أحدهم وضربه، وكان ذلك في 29 هاتور سنة 28ش (سنة 311م). في الصباح أدرك الشعب ما قد حدث، فوضع جسده على كرسي مارمرقس إذ لم يجلس عليه قط كل أيام بطريركيته، وكما قال لكهنته انه كلما أراد الجلوس شاهد قوة شبيهة بالنور حالة في العرش فكان يكتفي بالجلوس أسفله. دُفن مع القديس مارمرقس، لكنه إذ كان قد بني لنفسه مقبرة في موضع يقال له: "لوكابتس" نُقل إلى هناك ورافقته معجزات كثيرة. وكان السكندريون يحتفلون بعيده سنويًا، يقضون الليل في التسبيح لينتهي بقداس إلهي يقيمه بابا الإسكندرية، يعقبه وجبة أغابي "وليمة محبة" على شاطئ البحر. كتاباته 1. أهمها "الرسالة الفصحية"، تُسمى "الرسالة الخاصة بالقوانين"، أصدرها بعد الاضطهاد الذي أثيرعام 302م، تحوى 14 قانونًا خاصة بتأديب الإخوة الجاحدين، الراجعين بالتوبة، وهي تحذر من إثارة الوالي للاضطهاد بقصد نوال إكليل الاستشهاد. وُضعت عام306م، سبق لنا ترجمتها ونشرها. له أيضًا "رسالة فصحية ثانية". 2. الرسالة إلى الإسكندرانيين، يحذرهم فيها من مليتوس. 3. مقالات: "عن مجيء مخلصنا"، "عن القيامة من الأموات"، "عن اللاهوت"، "عن النفس".
نشأة الأنبا إبشاي البوهي ولد من أبوين مسيحيين تقيين بفاو هما ثيؤبسطس وزوجته خاريس، لم ينجبا لمدة سبع عشر سنة فكانا مُرَّي النفس. وإذ كان ثيؤبسطس مداومًا على الصلاة، رأى إنسانًا نورانيًا يبشره بميلاد طفل يُدعى إبشاي، يكون إناءً مختارًا لله ويتأهل لنوال إكليل الاستشهاد، ففرح الوالدان جدًا. في ذلك الوقت أنعم الله على مريم أخت خاريس بولد دُعي بطرس (والده يُدعى سدراك)، توفت والدته وقامت خاريس بتربيته مع ابنها إبشاي الذي كان يصغر بطرس. عماده قيل إنه إذ دخل الوالدان بابنهما إبشاي لينال سرّ المعمودية كان كاهن الكنيسة بفاو رجلاً شيخًا فقد بصيرته وكان مصابًا بمرض شديد؛ حمل الكاهن الطفل، وصلى عليه طويلاً وباركه، ثم أخذ يد الطفل ووضعه على وجهه وعينيه وصدره، فانفتحت عينيْ الكاهن وقام من سرير مرضه في الحال، وبدأ يصلي على جرن المعمودية، ثم تنبأ أن هذا الطفل وقريبه بطرس ينالا إكليل الشهادة، ويحقق الله أعمالاً عجيبة خلالهما. سلم الكاهن ميخائيل الطفل لوالديه بعد أن قبّله، ثم رقد ليسلم روحه في يديْ الله. إذ بلغ ابشاي سبع سنوات أحضر له والداه معلمًا شيخًا فاضلاً من أخميم لتعليمه مع ابن خالته بطرس، فكان يدربهما على قراءة الكتاب المقدس وممارسة العبادة الكنسية. وإذ أظهر الصبيان شوقًا شديدًا للكنيسة سامهما الأسقف شماسين. وهب الله الشماس إبشاي عمل المعجزات وهو بعد صبي صغير. ارتبط الشابان إبشاي وبطرس بصداقة روحية، فكانا يداومان معًا على الصلوات والأصوام، وكانت يد الرب معهما، فصارا موضوع حديث المدينة كلها. إذ بلع إبشاي الثلاثين من عمره تنيح والداه، فحزن عليهما الشابان، وكانا يعزيان نفسيهما بما جاء في الكتب الإلهية عن الميراث الأبدي. اضطهادهما بعد ثلاث سنوات من نياحة الوالدين، أصدر دقلديانوس أمره باضطهاد المسيحيين، وكان أريانا أشر الولاة وأقساهم يعذب المسيحيين من أنصنا حتى أسوان. استدعى أريانا الشماسين إبشاي وبطرس وصار يهددهما ثم أمر باعتقالهما في السجن إذ كان منطلقًا إلى قفط ليعيد بناء هيكلٍ سقط على كهنة وثنيين وقتلهم. تحول السجن إلى كنيسة مقدسة تُرفع فيها الصلوات ويأتي الشعب بالمرضى ليبرأوا كما ظهر لهما رئيس الملائكة جبرائيل يشجعهما على احتمال العذابات. وبعد خمسة شهور في السجن جاء أريانا إلى فاو واستدعاهما، ثم أمر بقتل بطرس بحد السيف وتعليقه على خشبة في موضعٍ عالٍ لتأكله طيور السماء، وبالفعل قُطعت رأسه، لكن إبشاي قدم مالاً لرجل غني ليُنزل الجسد ويحمله إلى المدينة. بقى إبشاي في السجن يمارس عبادته ويشفي المرضى القادمين إليه حتى استدعاه أريانا ثانية، وأمر بربطه بالقيود وحمله إلى السفينة معه بلا طعام ولا شراب متجهًا نحو مصر، هناك عذبه أريانا وألقاه في السجن. وكان في السجن متهللاً فرحًا يخدم المسجونين ويشفي المرضى، أخيرًا أطلقه الوالي. ذهب إبشاي إلى الإسكندرية، وصار يبشر باسم السيد المسيح، ويصنع باسمه عجائب، حتى ألقى والي الإسكندرية القبض عليه وصار يعذبه متهمًا إياه بالسحر. وكان إذ سأله الوالي عن صناعته يجيبه: "أنا رجل تاجر جئت لأبيع دمي وأشتري ملكوت السماوات هذه التي حرمت نفسك من خيراتها أنت وملكك المنافق". احتمل آلامًا كثيرة وكان الرب يرسل ملاكه ليشفيه. قيل إن الوالي نفسه أصيب بمرض واضطر أن يستدعيه من السجن ليشفيه، وبمحبة دون مقابل صلى لأجله وأعطى الرسول زيتًا ليدهن به الوالي فيبرأ ممتنعًا عن ترك اخوته في السجن ليذهب إلى بيت الوالي، مفضلاً البقاء مع المتألمين يشاركهم تسبيحهم لله، هذا وقد شفي أيضًا ابنة تيموثاوس نائب الوالي وأمها. حضر الأمير مكسيميانوس إلى الإسكندرية، وروى له الوالي كل ما حدث مع إبشاي، ومع كراهيتهما الشديدة للمسيحيين لكنهما كانا يدهشان لعمل الله مع الشهداء، وما اتسموا به من حياة مفرحة، وما كان لهم من قوة بالرب لعمل الأشفية. تظاهر مكسيميانوس بالغضب وطلب أن يأخذ إبشاي ومن معه إلى الملك بإنطاكية لقتلهم هناك، وكان في قلبه يود أن يأخذه إلى بيته ليشفي ابنه المريض. حُمل إبشاي ومن معه في السجن إلى إنطاكية، وهناك أخرج الشيطان من ابنه. وقيل أن الخبر انتشر في كل إنطاكية فاغتاظ الملك وهدد الأمير بالقتل كما قُتل الأمراء تادرس المشرقي وأقلوديوس وبقطر وأبالي وتادرس بن واسيليدس ... الخ. هناك استشهد إبشاي بأمر دقلديانوس، بقطع رأسه في 4 بؤونة.
سيامته بطريركًا كان الأب بطرس كاهنًا بمدينة الإسكندرية، تلميذًا للقديس ديسقورس وصديقًا لخلفه الأنبا تيموثاوس الثاني، وإذ تنيح الأخير اُنتخب الأب بطرس بابا للإسكندرية (27) عام 477م، وقد حمل غيرة معلمه البابا ديسقورس على استقامة الإيمان. موقف زينون منه اغتصب زينون عرش القسطنطينية من الإمبراطور باسيلكوس، وإذ كان مناصرًا للخلقيدونيين لم يحتمل سيامة البابا بطرس الثالث بكونها تمت دون تصريحٍ منه، خاصة وأن البابا بدأ عمله البابوي بعقد مجمع بالإسكندرية فيه جدّد حرمان لاون وطومسه، فحسب زينون ذلك تحديًا شخصيًا له، وللحال أصدر أمره بنفيه، وإقامة بطريرك دخيل يحتل الكرسي. اختفي البابا لمدة خمس سنوات، كان خلالها يسند شعبه بالرسائل بينما قاطع الشعب البطريرك الدخيل تمامًا. بين البابا ويوحنا التلاوي فكر بعض المصريين في المناوشات التي كثيرًا ما تحدث بين الأباطرة والكنيسة المصرية بسبب تدخل الأباطرة في أمور الكنيسة الدينية الداخلية، وفي جرأة تقدم وفد منهم تحت رئاسة رجل يدعى يوحنا التلاوي ( نسبة إلى تلا بالمنوفية ) وسار إلى الإمبراطور يرجوه ترك الحرية للأقباط في اختيار بطريركهم. التقى الوفد بالإمبراطور، فحسب الأخير أن يوحنا التلاوي فعل ذلك ليختاروه بطريركًا، فأقسم يوحنا أنه لا يقصد ذلك، وأنه لا يقبل ذلك حتى إن طلب الكل منه ذلك، عندئذ استجاب لطلبة الوفد. غير أن الوفد عاد وبعد قليل مات الدخيل فرشح يوحنا نفسه للبطريركية وبعث رسائل للأساقفة والإمبراطور يعلمهم بذلك، وبتدبير إلهي وصلت الرسالة إلى أسقف روما قبل وصولها إلى أكاكيوس أسقف القسطنطينية وإلي الإمبراطور، فغضب الإمبراطور ومعه أكاكيوس كيف أخطر يوحنا أسقف روما قبلهما، واتفق الاثنان على إعادة البابا بطرس إلى كرسيه. أرسل أسقف روما خطابًا للإمبراطور يعلن فيه سروره باعتلاء يوحنا الكرسي، فأجابه الإمبراطور، قائلاً: "ان هذا الإنسان لا يستحق هذه الكرامة السامية لأنه حنث بيمينه"، وأصدر الإمبراطور أمره بإعادة البابا الشرعي واستبعاد يوحنا عن الإسكندرية. بين البابا وأكاكيوس اتصل البطريرك أكاكيوس بأصدقاء البابا بطرس الذين في القسطنطينية يعلن رغبته في عودة الشركة بين كنيستي الإسكندرية والقسطنطينية، ففرح البابا بطرس جدًا، وتبادل مع أكاكيوس 14 رسالة قبل أن تتم المصالحة، وكان البابا بطرس حريصًا على التمسك بوديعة الإيمان، موبخًا إياه على انحيازه للخلقيدونية. جاء في رسالة لأكاكيوس: [أشرق علينا يا سراج الأرثوذكسية، وأنر السبيل لنا نحن الذين ضللنا عن الإيمان المستقيم. كن لنا مثل استفانوس أول الشهداء (أع 7 : 60)، واهتف نحو مضطهديك، قائلاً : "لا تحسب لهم يا رب هذه الخطية"]. وجاء في إحدى رسائل البابا بطرس : [صلِ وصمّ بكل اجتهاد، وأنا أصوم وأصلي معك ومن أجلك، فنرفع كلانا طلبتنا إلى الله باسم الكنيسة الجامعة.]، وقد جاء رد أكاكيوس: [الآن يتهلل قلبي لأنك قبلت أن تشاطرني ما أحمله من أعباء ثقيلة، وإنني أشكر الله الذي هيأ لي فرصة التوبة بصلاتك ومنحني القوة بأصوامك معي وعني. وأنا فرحٌ لأنني سأحظى بالدخول معك إلى الحضرة الإلهية، فأرجو منك الآن أن ترسل إلينا بعض آباء الصحراء وبعض العلمانيين الموثوق بأرثوذكسيتهم لكي يرافقونا في زيارة نزمع أن نقوم بها للإمبراطور لنتحدث إليه بشأن إبرام الصلح بين جميع الكنائس، فنسعد بتثبيت السلام في كنيسة ملك السلام]. وقد تحقق ذلك بإرسال بعض آباء البرية والأراخنة الأتقياء ليحضروا مجمعًا انعقد في القسطنطينية أصدر منشورًا يسمى " منشور زينون " أو " هيوتيكون " أي " كتاب الاتحاد"، يعلن العقيدة الأرثوذكسية. في هذا المنشور أُعلن جحد تعاليم أريوس ونسطور وأوطيخا، وقبول تعاليم مجامع نيقية والقسطنطينية وأفسس، وتعاليم القديس كيرلس الكبير. تم تبادل الرسائل بين البابا بطرس ومار أكاكيوس وكاد مشروع " كتاب الاتحاد" ينجح ويرد للكنيسة في العالم وحدتها، لولا تصرف البعض، ففي مصر تزعم يعقوب أسقف صا ومينا أسقف مدينة طاما حملة ضد البابا بطرس حاسبين في هذا التصالح تراجعًا عن الإيمان وتساهلاً مع الخلقيدونيين، لكن البابا عقد مجمعًا بالإسكندرية وأقنع الغالبية العظمى من الأساقفة بقبول هذا المنشور، ولم يشذ إلا قلة يدعون الأسيفايين أي "الذين بلا رأس" لأنهم انفصلوا عن قائدهم الروحي. أما الذي حطم هذا المنشور فهو فيليكس أسقف روما الذي لام أكاكيوس على اشتراكه مع البابا بطرس، وقد أثار زوبعة ضد أكاكيوس، وعقد مجمعًا حرم فيه البابا بطرس ومارأكاكيوس. إذ تنيح أكاكيوس جاء خلفه أوفيميوس الذي قطع علاقته مع الإسكندرية. لكنها عادت من جديد علانية في أيام بطاركة القسطنطينية: أفراويطاوس سنة 491م، وتيموثاوس الأول سنة 511م، وأنتيموس سنة 535م، وسرجيوس سنة 608م، وبيروس سنة 639م، وبولس سنة 643م، وبطرس سنة 652م، وتوما سنة 656م، وثيودورس سنة 666م، ويوحنا سنة 712م. نياحته قضى بقية أيامه يهتم بالعمل الرعوي في هدوء واستقرار حتى تنيح في 2 هاتور سنة 490م، وبعد أن قضى على الكرسي المرقسي ثمان سنوات وثلاثة شهور. القس منسي يوحنا، ص294 - 298 ، إيريس حبيب المصرى، ج2، ص 99- 11.
سيامته بابا الإسكندرية (21) نشأ بالإسكندرية وتتلمذ على يدي البابا أثناسيوس الرسولي (20)، فتشرب منه الحياة الإيمانية المقدسة والغيرة المتقدة على وديعة الإيمان المستقيم، فأحبه البابا وسامه كاهنًا بالإسكندرية. وعندما طلب القديس باسيليوس من يسنده في مقاومة الأريوسية التي تنكر لاهوت المسيح، أرسله البابا أثناسيوس ومعه من يعاونه، فقاموا برسالتهم بروح الغيرة الحقة وعادوا إلى الإسكندرية. أسند إليه البابا السكرتارية، وكأنه كان يعده كخلفٍ له. وبالفعل إذ اشتد المرض بالبابا وشعر بقرب رحيله أشار لشعبه وكهنته عليه كخلفٍ له. تنيح البابا أثناسيوس، وكان الأريوسيون يطمعون في الكرسي، لكن الشعب مع الكهنة أسرعوا بتحقيق أمنية باباهم الراحل، فسيم بطريركًا سنة 373م في عهد فالنس الأريوسي، الذي امتلأ غضبًا وحنقًا على الأقباط بسبب هذه السيامة. مقاومة فالنس له وجد الأريوسيون أن فرصتهم قد ضاعت بسيامة البابا بطرس الثاني بطريركًا، لكن وجود فالنس الإمبراطور الأريوسي شجعهم على الشكوى ضد البابا بأنه لا يستحق هذا المركز، فوجد فالنس فرصة للانتقام، وبعث إلى والي الإسكندرية "بلاديوس" يأمره بنفي البابا بطرس وإقامة لوسيوس الأسقف الأريوسي بدلاً منه. كان لوسيوس هذا مصريًا نال الأسقفية بطريقة غير شرعية خارج البلاد، طمع في الكرسي المرقسي، وإذ دخل الإسكندرية ذهب إلى بيت والدته، وقد ثار المؤمنون ضده، وخشي الوالي من قيام ثورة فقام بطرده خارج مصر لينجو بحياته. الآن، بأمر الإمبراطور فالنس انطلق لوسيوس إلى مصر ومعه كتيبة ضخمة تحت قيادة ماجينوس أمين خزينة الملك وأوزوسيوس البطريرك الدخيل. هجم القائد بجنده على الكنيسة، وقد حال المؤمنون دون بلوغ الجند إلى باباهم، وتحت ضغط المؤمنين ولسلامهم اضطر إلى الهروب والاختفاء في قصر مهجور على شاطئ البحر، حيث كتب من هناك رسالة رعوية لشعبه يثبتهم على الإيمان المستقيم، بينما فتك الجند ببعض المؤمنين منتهكين المقدسات الإلهية. أبلغ الوالي الإمبراطور بهروب البابا فكان رده هو إلزام الأساقفة بالخضوع للوسيوس والتعاون معه، ومن يخالف الأمر يُنفي. قيل للوالي إن الأسقف ميلاس يقاوم لوسيوس والأريوسية، فانطلق الجند إلى إيبارشيته، وكانت على حدود مصر مع لبنان (من جهة الشام)، فذهبوا إلى رينوكرورا عاصمة أسقفيته، وإذ دخلوا الكنيسة وجدوا شخصًا بسيطًا يُعد السرج فسألوه عن الأسقف، فقادهم إلى دار الأسقفية وقدم لهم طعام العشاء وخدمهم بنفسه، وأخيرًا قال لهم انه هو الأسقف، فدُهش الكل من محبته وكرمه واتضاعه. سألوه أن يهرب حتى لا يُنفي، أما هو فبابتسامة أجابهم: "إني أفضل النفي في سبيل الإيمان عن الحرية في ظل الأريوسية". في روما انطلق البابا الإسكندري إلى روما حيث قوبل بحفاوة بالغة، إذ كانوا يذكرون البابا أثناسيوس سلفه ودفاعه المجيد عن الإيمان. التقى بأسقف روما داماسوس، وشجعه على عقد مجمع لحرم الأريوسيين وأرسل القرارات إلى الأسقف الشرعي لإنطاكية ميليتوس، ولم يرسل إلى أسقف إنطاكية الأريوسي الدخيل. وقام ميليتوس بعقد مجمع بدوره حضره 146 أسقفًا وافقوا بالإجماع على قرارات المجمع الروماني. وبهذا أعاد البابا الإسكندري علاقات الود بين روما وإنطاكية. انهيار لوسيوس اقتحم لوسيوس الكرسي المرقسي بالسلطة الزمنية، لكنه لم يستطع أن يقتحم القلوب، فهجره جميع المؤمنين، وإذ مُنعوا بالقوة الإجبارية من الصلاة بدونه لزموا بيوتهم، رافضين مشاركة هذا المبتدع الدخيل. قام لوسيوس بعملية تخريب وبطش في الكنيسة، لا في داخل المدينة فحسب، وإنما أرسل الجند إلى البراري يفتكوا بالنساك، حتى الشيوخ منهم. سام هذا البطريرك الدخيل أساقفة أريوسيين ليحتلوا مراكز الأساقفة المنفيين، فكانوا أساقفة بلا شعب! لم يترك الله كنيسته وسط هذا الضيق الأريوسي الشديد، فقد عمل بطرق كثيرة منها أن بعض القبائل العربية التي على حدود مصر والشواطئ الأسيوية تكتلت معًا وأقامت دولة تحت قيادة ملكة اسمها موفيا، لم تكن مسيحية، لكنها أرادت إرضاء شعبها الذي ضم مسيحيين كانوا على علاقة طيبة بمصر، وكان من بينهم راهب متوحد قبطي يدعى موسى، أرادوا سيامته أسقفًا عليهم. وإذ انهار فالنس أمام هذه القبائل طلب عقد معاهدة صلح فاشترطت سيامة موسى هذا على يدي الأساقفة في الإسكندرية، فوافق. ذهب الراهب المتوحد موسى إلى الإسكندرية ومعه نواب الإمبراطور، وإذ عرف أن لوسيوس الأريوسي اقتحم الكرسي رفض السيامة على يديه، وعبثًا حاول نواب الإمبراطور إقناعه. طلب الراهب أن يعود إلى بريته ولا يُسام على يد هرطوقي، الأمر الذي يسبب مخاطر بين فالنس والقبائل هناك. أخيرًا اضطر النواب أن يأتوا بأساقفة أرثوذكس من المنفى لسيامته وسط فرح الإسكندريين وتهليلهم. وقد استطاع الأسقف موسى أن يكسب الملكة موفيا من الوثنية إلى المسيحية، كما قام بدورٍ هام بالنسبة لكنيسة الإسكندرية بكونها الكنيسة الأم بالنسبة له. أيضًا وسط هذا الضيق بعث الله بالقديسة ميلانيا ابنة قنصل أسبانيا في البلاط الإمبراطوري التي زارت مصر، ونالت بركات النساك فيها، وكانت تسند الأساقفة المنفيين وتهتم باحتياجاتهم. نذكر أيضًا بفخر دور الناسك جلاسيوس الملقب بالمحارب، الذي رعى جماعة من النساك في برية شيهيت قاموا بدور كبير في خدمة الكنيسة وسط الاضطهاد الأريوسي، خلال شعورهم بالالتزام بالعمل في كنيسة اللَّه المتألمة. أخيرًا إذ انشغل فالنس بالحرب مع الفرس رجع البابا بطرس من رومية بعد أن قضى بها حوالي خمس سنوات، فاستقبله الشعب بكل حفاوة وطردوا لوسيوس الدخيل الذي انطلق إلى فالنس يشتكي شعب الإسكندرية، وفي نفس العام قُتل فالنس وخابت آمال لوسيوس. دوره في القسطنطينية إذ كانت القسطنطينية قد تمزقت بسبب الهرطقات أرسل الإمبراطور ثيؤدوسيوس إلى البابا الإسكندري بطرس الثاني ليهتم بها. وبالفعل بذل كل جهدٍ لإصلاح شأنها حتى تسلم القديس غريغوريوس النزينزي هذه الإيبارشية كطلب شعب القسطنطينية يعاونه في ذلك البابا بطرس، وقد قبل غريغوريوس اللاهوتي الأمر بعد ضغط شديد. طمع مكسيموس الكلبي في كرسي القسطنطينية فذهب إليها وتظاهر بمصادقته للقديس غريغوريوس، وكان هدفه بث دسائس ضده. بعد ذلك ذهب إلى الإسكندرية واستطاع بمكره أن يخدع البابا لترشيحه للبطريركية عوض القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس (النزينزى). وإذ سمع القديس بذلك وكان مريضًا على الفراش قام ليحضر سيامة مكسيموس، إذ كان هو زاهدًا في كل شيء، وكان يحسب مكسيموس صديقًا له. ثار الشعب القسطنطيني على ذلك ورفضوا سيامته بل وطردوه طالبين القديس غريغوريوس بطريركًا. تظلم مكسيموس لدى الإمبراطور ثيؤدوسيوس الذي رفض إقامة أسقف دون رغبة الشعب. وعندما فشل ذهب إلى البابا بطرس ليسنده، وإذ اكتشف حيلته رفض مساندته ضد الشعب، وطلب من الوالي أن ينفيه لتصرفاته الخاطئة. أراد البابا إزالة ما حدث من لبس في الأمر وتوضيح موقفه أمام شعب القسطنطينية لكنه رحل سريعًا في 20 أمشير (سنة 380م).
الأنبا بطرس الملقب بالجميل، أسقف مليجٍ في بابوية الأنبا بطرس الخامس (القرن الـ14)، لا نعرف عن حياته شيئًا، إنما وضع ثلاثة كتب عقيدية: 1. كتاب "البيان" في خمسة فصول للرد على جمال الدين بن محمد المصري. 2. "في بدع الطوائف"، ليدلل على صحة العقيدة الأرثوذكسية. 3. "الإشراق"، ردّ به على الأرمن. قيل أنه أكمل سير الشهداء والقديسين التي كان يجب إضافتها إلى السنكسار.
-----------------------
بطرس الخامس البابا الثالث والثمانون
بعد نياحة البابا بنيامين الثاني (82) ظل الكرسي خاليًا قرابة عام، وأخيرًا اُختير الأب بطرس داود الذي ترهب بدير الأنبا مقاريوس ثم صار كاهنًا لدير شهران، وأخيرًا البابا 83، وذلك في أواخر حكم الملك الناصر بن قلاوون، عام 1340م. امتاز بوداعته وتقواه مع علمه. في أيامه عانى شعبه من ضيق شديد حلّ بالأقباط بسبب قاضي في أحد المدن كان قد سجن قبطيًا بدعوى أن جده غير مسيحي وأراد أن يلزمه بإنكار الإيمان، وإذ رفض أخرجه الأقباط من السجن فتحولت المدينة إلى العنف ضد الأقباط، حيث تعرض الكثيرون للعذابات، بل ونُبشت القبور لإحراق جثث الأموات. وإذ ساد الارتباك الشديد المدينة قدم الحاكم شكوى لسلطان مصر، الذي قام بعزل القاضي. قام بطبخ الميرون بدير أبي مقار ومعه اثني عشر أسقفًا، ثم عاد وعانى من المرارة التي عاشها الشعب الذين اضطروا إلى ملازمة منازلهم مدة، حتى بدوا وكأنهم قد انقرضوا. لم يكف البابا عن الصلاة من أجل شعبه حتى رفع الله هذه الضيقات وتمتعت الكنيسة بجوٍ من الهدوء والراحة ما كاد يتمتع به البابا حتى طُلبت نفسه في 8 يوليو 1348 (14 أبيب 1064ش).
ظروف سيامته نفي الإمبراطور يوستنيان البابا الإسكندري ثيؤدوسيوس الأول (33)، وأقام بطريركًا دخيلاً لم يجد من الشعب القبطي إلا كل مقاومة. عاد فأمر بسيامة أبوليناريوس في مدينة القسطنطينية ليعتلي الكرسي الاسكندري، وقد انطلق إلى الإسكندرية ليدخل الكنيسة في زي قائد حربي. هناك خلع ثيابه ليعلن المرسوم الإمبراطوري بتنصيبه بطريركًا وقبول الإيمان الخلقيدوني، فبدأ السخط على الوجوه وحدثت احتجاجات، فصدر أمره للجند بالمقاومة والقتل داخل الكنيسة، واستشهد الكثيرون، ودُعي ذلك اليوم "المذبحة". وجد أبوليناريوس كل مقاطعة من الأقباط بينما كان البابا الشرعي في أحد سجون القسطنطينية حيث قضى فيه 28 عامًا حتى تنيح. مات يوستنيان ليتولى يوستين الثاني العرش، ويسلك على منوال سلفه حارمًا الأقباط من أبيهم الروحي الشرعي، محاولاً أن يسند أبوليناريوس رغم إصرار الأقباط على مقاطعته. تنيح البابا الشرعي في السجن وظن أبوليناريوس أن الأقباط يستسلموا ويخضعوا بعد سنوات هذه مدتها عاشها البابا في السجن، لكن على العكس شعر الأقباط باليتم، طالبين سيامة بابا شرعي لهم. وإذ شعر أبوليناريوس أن نياحة البابا زادت الجو سوءًا على غير ما توقع طلب من الحاكم نفي كل أسقف أرثوذكسي فلا يجد من يعاونهم على اختيار بطريرك، وإن اختار الشعب فلا يوجد أساقفة يقومون بسيامتهم. هذا من جانب ومن جانب آخر أقام وليمة ضخمة دعي فيها الكهنة وأراخنة الأقباط لكي يكسب ودّهم، لكن الأقباط لم يكسرهم العنف ولا أغراهم التملق، إذ أصروا على سيامة بابا شرعي لهم. بتدبير إلهي استبدل الإمبراطور والي الإسكندرية بآخر يدعى أريستوماخوس، أظهر عطفًا على المصريين ومودة شديدة، فسألهم أن يقصدوا أحد الأديرة القريبة من الإسكندرية ليقوموا بسيامة من ينتخبوه بابا لهم. بحث الأقباط عن أقرب ثلاثة أساقفة مستبعدين عن كراسيهم مع بقائهم في داخل البلاد، وفي هدوء تمت سيامة البابا بطرس الرابع في دير الزجاج الذي كان راهبًا فيه، وامتلأ الكل فرحًا وتهليلاً. أتعابه لم يكن ممكنًا لأبوليناريوس أن يقف متفرجًا على هذا الحدث الذي هزّ أعماقه وحطم نفسه تمامًا، فأرسل إلى الإمبراطور يستغيث به من جسارة المصريين. مُنع البابا من دخول الإسكندرية، وبقى يتنقل من ديرٍ إلى ديرٍ، لكن سرعان ما مات أبوليناريوس لتخف حدة التوتر بين الإمبراطورية البيزنطية والمصريين إلى حين إذ استبدل الإمبراطور الوالي أريستوخاموس بوالٍ آخر، كان عنيفًا مع المصريين فحرم على البابا دخوله الإسكندرية. أما البابا فصار يتنقل بين الأديرة بقلب مملوء حبًا واتساعًا وبهجة داخلية، ممارسًا عمله الرعوي خلال رسائله مع شعبه ومع بعض أساقفة الشرق. كانت الأديرة المحيطة بالإسكندرية تبلغ حوالي 600 ديرًا فكان الشعب المصري والأثيوبي ومن النوبة يقدمون إلى الأديرة ليلتقوا بباباهم الساهر على رعايتهم. في إنطاكية كان الكرسي الإنطاكي شاغرًا بعد نياحة القديس ساويرس الإنطاكي بمصر، وإذ سمعوا أن الأقباط قاموا بسيامة بابا لهم تشجعوا هم أيضًا وقاموا بسيامة راهب ناسك مملوء حكمة يسمى ثيؤفانيوس، يشارك البابا الإسكندري آلامه إذ كان هو أيضًا يعيش في دير خارج مدينة إنطاكية كمطرودٍ من أجل الإيمان، وتلاقى الاثنان معًا على صعيد الألم خلال الرسائل المتبادلة بينهما، وكانت هذه الرسائل سبب تعزية للشعبين. رحلات رعوية بعد موت أبوليناريوس الدخيل استطاع البابا أن يخرج من عزلته إلى حد ما فكان يتنقل بين المدن والقرى، وقد قام بسيامة أسقف لجزيرة فيله، كما صار يبحث عن سكرتير خاص به يسنده في عمله الرعوي، فاختار راهبًا شماسًا من دير بجبل طابور غرب الإسكندرية يدعى دميانوس، عُرف بالحكمة والعلم مع التقوى والورع، كما كان كاتبًا ومصورًا ماهرًا، محبًا لحياة الوحدة والعزلة. أخذ البابا تلميذه هذا الذي لم يستطع أن يرفض طلب أبيه لعلمه بما يتحمله الأب من مرارة وما تعانيه الكنيسة من آلام. ودخل الاثنان الإسكندرية، ولم يدم البابا على كرسيه كثيرًا إذ تنيح سنة 570م، أي بعد عامين من سيامته، مملوءة آلامًا في الرب. في أيامه وفد إلى مصر أيوب البرادعي، وقد دعى كذلك لأنه لا يلبس إلا خرق البرادع، نشأ في دير بجوار الرّها يسمى دير الشقوق، وقد سيم أسقفًا على الرّها عام 541م. القس منسي يوحنا، ص329، 330، إيرس حبيب المصرى، جـ 2، ص 154 – 162.
يروى لنا القديس بالاديوس عن راهب شيخ كان له تلميذ ممتاز يُدعى بطرس. لسبب ما تسرع الشيخ وثار على تلميذه وطرده، وأغلق باب قلايته. وفي صمت مملوء وداعة وسلامًا داخليًا جلس بطرس عند الباب خارجًا حتى فتح له الشيخ. عندئذ ندم الأخير على ما صنع قائلاً: "يا بطرس، لقد غلبت وداعتك وطول أناتك غضبي المتسرع، لهذا فأنت اليوم الشيخ وأبي، وأنا أكون لك خادمًا وتلميذًا. بعملك الصالح غيّرت شيخوختي".
-------------------------
بطرس الرهاوي الأسقف
ولد في مدينة الرُها في أوائل الجيل الثالث من أبوين غنيين شريفين، وإذ بلغ العشرين من عمره قدمه والده للملك ثيؤدوسيوس ليكون معه. لكنه عاش في البلاط الملكي كما في ديرٍ يزهد أمجاد العالم وأباطيله ويمارس الحياة النسكية والعبادة بتقوى جذبت الكثيرين إليه. كان يحتفظ برفات بعض الشهداء الفارسيين معه. ترك البلاط الملكي والتحق بأحد الأديرة ليكرس كل وقته للعبادة، ولم يمضِ إلا وقت قليل حتى سيم أسقفًا على غزة بغير رضاه. وقد قيل إن في أول قداس إلهي يصليه فاض دم من الجسد ملأ الصينية إلى حين. إذ ملك مرقيان الخلقيدوني صار يضطهد الأساقفة الأرثوذكس، فحمل هذا الأب رفات القديس يعقوب المقطع من أحد أديرة الرُها وجاء إلى البهنسا بمصر، حيث أقام بأحد أديرتها، هناك اجتمع بالقديس إشعياء المصري، وبعد زمن مرقيان عاد إلى فلسطين. قيل إنه إذ كان يصلي القداس الإلهي كان بعض العظماء يتحدثون معًا فلم ينههم، فظهر له ملاك وأمسك به من وسطه وانتهره. اشتهى الملك زينون أن يراه، لكن القديس امتنع بسبب عدم انشغاله بمجد العالم. ذهب إلى بلاد الغور (بين أورشليم ودمشق)، وإذ كان يصلي في عيد القديس بطرس السكندري ظهر له القديس وأعلن له أن السيد يدعوه ليكون معهم، فاستدعى الشعب وثبتهم على الإيمان ثم بسط يديه وأسلم الروح في الثاني من كيهك.
يعرف باسم بطرس الجاولي، إذ وُلد بقرية الجاولي التابعة لمنفلوط بالصعيد. نشأ في جوٍ عائلي تقوي، محبًا لحياة العبادة مع الدراسة. انطلق إلى دير القديس أنبا أنطونيوس ليبذل كل جهده في حياة نسكية ممتزجة بروح العبادة والدراسة، إذ كان منكبًّا على طلب العلم والمعرفة، ففاحت رائحة فضائله، وسامه البابا قسًا بالدير باسم الأب مرقوريوس. في سنة 1808 حضر إلى مصر وفد إثيوبي يطلب من البابا مرقس الثامن (108) سيامة مطران لهم خلفًا للمتنيح الأنبا يوساب. وقع الاختيار على الأب مرقوريوس، فاستدعاه البابا لسيامته لكن عناية الله سمحت بسيامته مطرانًا عامًا على الكرازة المرقسية باسم الأنبا ثاؤفيلس حيث أقام مع البابا في الدار البطريركية يعاونه في أعمال الرعاية بينما سيم لإثيوبيا الأنبا مكاريوس عوضًا عن الأنبا ثاؤفيلس. تنيح البابا مرقس فأجمع الكل على إقامته بابا وبطريرك الكرازة المرقسية باسم الأنبا بطرس، وذلك بعد ثلاثة أيام فقط من نياحة سلفه، وكان ذلك في عهد الخديوي محمد علي باشا في 16 كيهك سنة 1526 ش (1809م). تمت السيامة في كنيسة مارمرقس الإنجيلي بالأزبكية بمصر، وقد امتلأ الكل فرحًا عظيمًا. حياته النسكية والدراسية سيامته بطريركًا لم تزده إلا نسكًا وتقشفًا، كما عُرف بحبه للسكون والصمت، كان قليل الكلام جدًا، مملوء مهابة! يقضي أغلب وقته في الصلاة مع دراسة الكتاب المقدس وكتب الآباء وقوانين الكنيسة وتاريخها. كثيرًا ما كان ينكب على النسخ فينسى أكله وشربه. وقد جمع في البطريركية مكتبة ثمينة، كما وضع مجموعة كتب منها: "نوابغ الأقباط ومشاهيرهم"، "مقالات في المجادلات"، "في الاعتراضات ردًا على المعاندين"، ومجموعة مواعظ ورسائل. اشتهى يومًا طعامًا ما، فأبقاه حتى أنتن، وصار يأكل منه بالرغم من اشمئزاز نفسه، تعنيفًا لنفسه وتبكيتًا لها. كان لباسه من الصوف الخشن، يلبس "مركوبًا أحمر"، لا يجلس إلا أرضًا أو على "أريكة خشبية قديمة"، ينام على حصير من القش. دخل عليه أحد أحبائه فوجده منكبًا على الصلاة يبكي بدموع غزيرة، فأمر ألا يدخل أحد قلايته مادام منفردًا. محبة المسئولين له اتسم بالحكمة والوداعة، حليمًا في تصرفاته، فأحبه الكل، وكان رجال الدولة يعتزون به، كما نال حظوة لدى الوالي، وبسببه تولى الأقباط مراكز مرموقة في الدولة، وأُعطيت للكنيسة حرية العبادة، وسُمح له بعمارة دير مارمرقس بالإسكندرية. خلال هذه العلاقة الطيبة سام أسقفين على النوبة أرسلهما بالتعاقب، ومع كل منهما خدام يعاونون الأسقف في رعايته هناك. في عهده أرسل يوعاس الثاني ملك إثيوبيا رسالة إلى الوالي محمد علي باشا وأخرى للبابا يطلب سيامة مطران لإثيوبيا بعد نياحة المطران أنبا مكاريوس، كما قدم الوفد الإثيوبي هدية لمحمد علي باشا، وقد طلب الأخير من البابا سرعة السيامة، فقام بسيامة الراهب القس مينا باسم الأنبا كيرلس (سنة1816)، بعد أن قيدوه بسلاسل حديدية حتى لا يهرب من السيامة. بعد نياحة الأنبا كيرلس سام آخر باسم الأنبا سلامة سنة 1841م. حكمته في التصرف تعرض أقباط قرية الجاولي، مسقط رأسه، لمتاعبٍ شديدةٍ للغاية، وبحكمة أرسل يستدعي كبار القرية الأقباط وطلب منهم تقديم 200 فدانًا من أفضل أراضيهم هدية لشريف باشا، الذي بدوره عين بإيعاز من البابا المعلم بشاي مليوشى من أسيوط كمسئول عن هذه الأرض بعد أن قدم له الباشا 36 فدانًا من المائتين ليعيش منها. وبهذا استراح أقباط القرية من المتاعب. وطنيته العميقة إذ كان محمد علي يتقدم في فتوحاته وغزواته خشيت روسيا لئلا يحول ذلك دون تحقيق مآربها في الشرق وفي المملكة العثمانية فأرسلت أحد أمرائها ليلتقي ببابا الإسكندرية، رئيس أكبر كنيسة مسيحية في الشرق الأوسط ليطلب حماية قيصر روسيا. من خلال خبرة الأمير الذي عاش وسط الكنيسة الروسية بما عُرف عنها من فخامة مظاهر أساقفتها حسب أنه سيدخل قصرًا عظيمًا ويلتقي بحاشية البابا، ويسلك ببروتوكول معين، لكنه فوجئ بأنه يقف أمام إنسانٍ بسيطٍ بجلباب من الصوف الخشن يظهر عليه القدم، وقد تناثرت حوله بعض الكراسي القديمة. لم يصدق الأمير نفسه حتى أجابه البابا أنه بطريرك الأقباط. أمام هذه البساطة انحنى يلثم يديه ويطلب بركته، وصار يسأله عن سرّ هذه الحياة البسيطة فأجابه أنه يليق بالأسقف أن يتمثل بالسيد المسيح سيده الذي افتقر لأجل الخطاة. عاد ليسأله عن حال الكنيسة القبطية فأجابه أنها بخير ما دام الله يرعاها. عندئذ أظهر الأمير أنه متضايق لما تعانيه الكنيسة القبطية من متاعب. سأله البابا في بساطة: "هل ملككم يحيا إلى الأبد؟" أجابه الأمير: "لا يا سيدي الأب، بل يموت كما يموت سائر البشر". عندئذ قال البابا: "إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت، وأما نحن فنعيش تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله". لم يعرف بماذا يجيب الأمير سوى أن ينحني أمام البابا يطلب بركته. وقد تأثر جدًا به حتى عندما سأله محمد علي باشا عن رأيه في مصر، قال: "لم تدهشني عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات وكتابتها، ولم يهزني كل ما في هذا القطر من العجائب، بل أثر في نفسي زيارتي للرجل التقي بطريرك الأقباط". روى الأمير لمحمد علي باشا الحوار الذي دار بينه وبين البابا، فانطلق محمد علي باشا إلى البابا بفرح يشكره على وطنيته العميقة، قائلاً له: "لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك، فليكن لكم مقام محمد علي بمصر". أما هو فأجابه انه لا شكر لمن قام بواجب يلتزم به نحو بلاده. أعمال الله معه حدث جفاف ولم يفض نهر النيل، فطلب منه الوالي أن يصلي من أجل مياه النهر، فأخذ بعض الأساقفة والكهنة والشعب، ورفع القرابين على ساحل النيل، وبعد نهاية الصلاة ألقى بالمياه التي غُسلت بها أواني المذبح في النيل، فارتفع للحال منسوبه حتى بلغ موضع الصلاة وأسرعوا برفع خيمة الصلاة. نور القيامة كانت علاقة إبراهيم باشا بالبابا بطرس يسودها الحب والصداقة والاحترام المتبادل، وعندما احتل إبراهيم باشا بلاد القدس وشى البعض (غالبًا من اليهود) أن ما يدعيه المسيحيون بأن النور يظهر من القبر المقدس هو غش وخداع. وإذ كان إبراهيم باشا يثق في البابا بطرس أرسل إليه يستدعيه من مصر وقد استقبله بحفاوة مع قواده وحاشيته ثم أخبره عن سبب استدعائه له، طالبًا منه أن يظهر النور على يديه لا على يديْ بطريرك الروم. وإذ شعر إبراهيم باشا أن هذا يسبب نزاعًا وانشقاقًا، خاصة وأن بطريرك الروم جاء يستقبل البابا بطرس بمحبة كبيرة طلب أن يكون الاثنان معًا، وكان هو معهما وقد وقف الجند في الخارج ليتأكدوا من حقيقة الأمر. صام بطريرك الروم وبطريرك الأقباط بروح المحبة ثلاثة أيام كالعادة ودخلوا القبر يصلون ومعهم الباشا وإذ بالنور يشع، فبُهر الباشا وارتمى على صدر البابا، وإذ كان الكثيرون خاصة الفقراء في الخارج بسبب الازدحام الشديد، ظهر النور في نفس الوقت خلال أحد الأعمدة ليراه الكل، ولا يزال العمود المشقوق إلى يومنا هذا. هذا الحادث أضاف إلى صداقة الباشا للبابا حبًا أكثر وتكريمًا. عدم محاباته للأغنياء جاءه رجل يشتكي زوجته، قائلاً له إنه تزوج بعروسه وفي اليوم الثاني من الزواج اضطر أن يتركها لمدة خمسة أشهر دون أن يقترب إليها بسبب ظروف عمله، ولما عاد وجدها حُبلى، ولما سألها عن سرّ حبلها استهانت به واستخفت لعلمها بمقام والدها ومركزه وغناه. استدعى البابا السيدة وصار يسألها فأصرت أن الحمل من زوجها، ولم يكن أمامه إلا القول: "الذي من الله يثبت والذي من الشيطان يزول". وبالفعل ما أن تركت دار البطريركية في الدرجة الأخيرة من السلم حتى سقط الجنين، فعرف أمرها وحكم للرجل بالطلاق بسبب علة الزنا. وإذ تقدم والدها للبابا، قال له: "ليس بينكم أحد أقوى من الضعيف متى كان معه الحق، ولا أضعف من القوى متى كان معه الباطل". طهارته وعفته جاءه إنسان يشكو له أنه تزوج فتاة، وقد اكتشف أنها ليست بكرًا، فلم يفهم البابا ماذا يقصد بذلك، ولما كرر له القول ولم يدرك جاء إليه بلبن عليه طبقة من "القشطة" لم تُمس، ثم وضع إصبعه في هذه الطبقة ليوضح له الفارق بين العذراء بغشاء بكوريتها ومن فقدت بكوريتها، عندئذ قال البابا: "لعن الله اليوم الذي عرفت فيه الفارق بين البكر وغير البكر"، ثم طلب أن يُنظر في دعواه.
كان يُدعى مرجان، من مدينة أسيوط، عاش في جوٍ عائلي تقوي، وكانت نعمة الله حالة عليه منذ صغره. لمحبته في الزهد والعبادة انطلق إلى دير القديس أنبا أنطونيوس بدير العربة، حيث لبس الشكل الرهباني، فكان يُجهد نفسه في الصلوات والقراءة مع النسك بروحٍ وديعٍ متضعٍ، فسيم قسًا على يديْ البابا يوأنس السادس عشر (103) في كنيسة السيدة العذراء والدة الإله بحارة الروم. بعد تعمير دير الأنبا بولا أقامه البابا رئيسًا للدير. بعد نياحة البابا يوأنس أُختير خلفًا له مع بعض الكهنة، وإذ صام الأساقفة والأراخنة وأُقيمت القداسات لمدة ثلاثة أيام وقعت القرعة الهيكلية عليه فسيم باسم البابا بطرس في 17 مسرى 1434ش (21 أغسطس 1718م) في أيام السلطان أحمد الثالث العثماني، وقد حضر الاحتفال كثير من الأوربيين ومن الأرمن وأيضًا العسكر، وكانت بهجة عظيمة وسط الشعب. قام بزيارة الوجه البحري، وأجّل زيارته للمدينة العظمى الإسكندرية بسبب الفتنة التي قامت بين الصنجق إسماعيل بك والصنجق محمد جوكس. في عهده استشهد المعلم لطف الله من أجل اهتمامه بتعمير الكنائس. قام البابا بزيارة الإسكندرية حيث أخفي رأس القديس مارمرقس في موضعٍ أمين مع جملة رؤوس البطاركة خشية سرقتها. وقام بزيارة رعوية لشعبه بالصعيد، كما أرسل مطرانًا لأثيوبيا هو الأنبا خرستوذولوس أسقف القدس.
يُذكر في القداس الإلهي للكنيسة اللاتينية شهيدان هما مارشيللينوس Marcellinus الكاهن والشماس بطرس، اللذان استشهدا في 2 يونيو سنة 304م، في عهد الإمبراطورين دقلديانوس ومكسيميانوس. كان هذان القديسان الروميان يخدمان كنيسة الله بتقوى، وقد وهب الله الشماس بطرس عطية إخراج الشياطين فذاع صيته وهاج عليه الوثنيون وصاروا يضربونه بعنفٍ ويجلدونه بالسياط، وأخيرًا أُلقي في السجن مع بعض المسيحيين ليُحاكم بعد شفاء سيرينوس الوالي من مرضه. كان بطرس وسط جراحاته متهللاً بالروح فرحًا، وقد رأى علامات الحزن على ملامح أرتميوس السجّان، فلما سأله السجين عن سّر حزنه أجابه بأن ابنته مصابة بروح نجس، عندئذ أراد بطرس أن يطمئنه بأنه سيُخرج هذا الروح منها، أما السجان فاستهزأ به، قائلاً له بأنه إن كان إلهه قادرًا أن يخرج الروح الشرير فلماذا تركه وسط هذه الجراحات مُلقى في السجن. أجابه الشماس بأن الله لا يريد أن يحرمه ما يُكسبه إكليل مجدٍ لا يفنى. في استخفاف قال السجان للسجين بأنه إن كان يستطيع إلهه أن يخلصه من القيود ويفتح له باب السجن ويأتي إلى بيته ليخلص ابنته بولينا من الروح الشرير يؤمن هو وعائلته بإلهه. أجابه بأن ذلك الأمر سيتحقق بقوة الله. قال السجان إن هذا نوع من الجنون، فإنه وإن هبطت كل الآلهة من السماء لا تقدر أن تحل قيوده وتخرجه من السجن. لكن بطرس أكد له ان ما قاله سيتحقق. في بيت السجان أرتميوس عاد أرتميوس إلى بيته وروى لزوجته كنديدا ما حدث بينه وبين السجين الشماس بطرس، وإذ كانا يتحدثان في هذا الأمر فوجئا بدخوله بيتهما لابسًا ثوبًا أبيض وحاملاً أيقونة الصلبوت. لم يحتمل الشيطان كلمات القديس بطرس الذي انتهره باسم يسوع المسيح ليخرج فخرج. آمن السجان وزوجته وابنته بالسيد المسيح، وانطلق بطرس إلى الكاهن مرشيللينوس يخبره بعمل الله معه، ويدعوه لتعميد هذه العائلة. أما أرتميوس فمن فرحه انطلق بعد العماد إلى السجن ليخرج كل الذين أُلقي القبض عليهم بسبب مسيحيتهم. كان الوالي سيرينوس Serenus قد تماثل للشفاء فطلب استدعاء المسيحيين المسجونين ليعذبهم، فجاء السّجان يقول له بأن بطرس الشماس قد فتح أبواب السجن وحلّ قيود المسجونين وانطلق الكل ما عدا هو والكاهن مرشيللينوس فإنهما باقيان في السجن، ثم أخبره بما حدث معه هو وأهل بيته وكيف نال سّر العماد. صار الوالي في حالة جنون وأمر بضرب السجان بلا رحمة حتى كاد أن يموت، كما أمر بتعذيب الكاهن والشماس، ثم أُلقى الثلاثة في السجن. فتح الرب أبواب السجن وانطلق الكاهن والشماس ليشتركا مع المؤمنين في الصلاة، وإذ سمع الوالي بخروجهما جاء بالسّجان وزوجته وابنته وأمرهما بجحد مسيحهم، وإذ رفضوا أمر بدفنهم أحياء. التقى بهم الكاهن والشماس وهم في طريقهم للدفن وصارا يعزيانهم ويثبتانهم على الإيمان حتى يكملوا جهادهم؛ ثم قام الوالي بقطع رأسيْ الكاهن والشماس.
يذكر الغرب الشهيد بطرس من Lampsacus في 15 مايو. استشهد وهو شاب في أيام الإمبراطور داكيوس حوالي عام 251م، وقد عُرف برقة طباعه وسمو مكانته الاجتماعية. وقف أمام الوالي أولمبيوس رافضًا العبادة للإله فينوس، معلنًا رفضه جحد مسيحه، فعُصر بالهنبازين وقُطعت رأسه لينال إكليل الشهادة. في نفس الوقت التقى الوالي بثلاثة من المسيحيين في ترواس، هم أندراوس وبطرس ونيكوماخوس، رفض الأولان جحد مسيحهما فتعرضا لعذابات شديدة، أما الثالث فخاف وأنكر الإيمان. رأت الفتاة ديونسيا هذا الجاحد فتمررت نفسها في داخلها، وكانت في السادسة عشرة من عمرها، وبجرأة وقفت أمامه توبخه علانية على إنكاره الإيمان. وإذ رأى الوالي ذلك أراد أن يذلها فدفع بها إلى أيدي رجلين شريرين يقضيان ليلة معها، وكانا يسخران بها ويهيناها أما هي فبصبرٍ احتملت، وقد حفظها السيد المسيح من الاعتداء عليها. وفي الصباح سُلمت للسياف وقد أرادت أن تلحق بالقديسين أندراوس وبولس، لكن الوالي أراد تفريقها عنهما، فأمر برجمهما بالحجارة خارج المدينة وقطع رأس القديسة داخل المدينة.
تكشف سيرة هذا القديس عن فيض نعمة الله الغنية القادرة أن تحول القلب الحجري إلى حياة محبة فائقة. عُرف بطرس العشار بحبه الشديد للمال وقساوة قلبه وعدم رحمته حتى ارتبطت هذه القسوة باسمه في المدينة كلها (غالبًا الإسكندرية). التقى به أحد الفقراء وكان يصرّ أن يأخذ منه شيئًا، وإذ تضايق بطرس، وحاول طرده لم يفلح، فأخذ كسرة خبز من غلام جاء إليه يحمل الخبز، وضربه بها على رأسه على سبيل الإهانة لا الرحمة. بالليل رأى كأنه في اليوم الأخير وكأن ميزانًا قد ظهر وقد ظهرت جماعة الشياطين القبيحة المنظر تحمل خطاياه وتلقي بها بكثرة في الكفة اليسرى، أما ملائكة النور الجميلة المنظر فوقفوا أمام الكفة اليمنى في حيرة لا يعرفون ماذا يقدمون، أخيرًا بالكاد وجدوا كسرة الخبز التي ضرب بها رأس الفقير ليضعوها في الكفة. قام بطرس من نومه وصار حزينًا جدًا على عمره الذي قضاه في أعمال الظلمة والقسوة ومحبة المال حارمًا نفسه من شركة الملائكة النورانيين خلال حياة الإيمان العامل بالمحبة. أدرك بطرس أن حياته على الأرض ليست إلا طريقًا إما لمشاركة الشياطين مرارتهم أو الملائكة القديسين أمجادهم الأبدية، واضعًا في قلبه أن يعيش بقية أيام زمانه من أجل الملكوت الأبدي. حياته الجديدة تغيّر قلب بطرس تمامًا فعوض اهتمامه بالمال صار يهتم بالفقراء والمساكين، يسند كل محتاج ويترفق بالجميع موزعًا كل ماله، حتى قدم ثيابه عطية محبة. أخيرًا في عشقه للمحبة باع نفسه كعبدٍ لدي أحد الأثرياء الرومان ليُوزع ثمنه على الفقراء. إلى برية القديس مقاريوس عاش بطرس كعبدٍ، لكن قلبه المتسع حبًا ضم العبيد زملاءه إليه كما في أبوة حانية، وشعر سيده أنه ليس بعبدٍ طبيعي، متعجبًا لتصرفاته وحياته. كسب بطرس الكثيرين للإيمان خلال هذه الحياة الجديدة وسط الفقراء والعبيد كواحدٍ منهم يشاركهم أتعابهم وعوزهم، كما كان له أثره على سيده وكل عائلته. جاء أحد أثرياء مدينته لزيارة سيده، وفوجئ بوجود هذا العبد، وأعلن لسيده قصته، كيف باع نفسه من أجل الفقراء. شعر العبد أن المجد يلاحقه فهرب مختفيًا إلى برية القديس مقاريوس بالإسقيط حيث صار راهبًا يسلك بحياة نسكية قوية، فأحبه الرهبان جدًا، وكانوا يتمثلون به في حبه وخدمته للآخرين مع جهاده النسكي التعبدي. يمكننا أن نقول إذ تغير قلب بطرس بالنعمة الإلهية سلك بالروح أينما وُجد، حين كان عشارًا يجمع الجباية لكن بترفقٍ وحبٍ وضبطٍ للنفس دون محبة للربح القبيح؛ وحين صار عبدًا يمارس أدنى الأعمال الزمنية ويخالط العبيد بقلبٍ متسعٍ متواضعٍ؛ وحين صار راهبًا في البرية. القلب المتسع حبًا يهب الإنسان نجاحًا أينما وُجد، وأيا كان عمله أو مركزه! على أي الأحوال عرف القديس بطرس ساعة نياحته فاستدعى آباء البرية وصارحهم برحيله، وطلب صلواتهم ثم ودعهم، وأخذ يصلي حتى انصرف إلى الرب. تعيد له الكنيسة في 25 من شهر طوبة.