............................................
ثالثا وهو الأهم: هناك بالتالي أزمة حقيقية كشفت عنها هذه الشبهة، وهي أزمة مركبة نحللها باختصار فيما يلي:
الأزمة الأولى هي الفرق الشاسع بين الدراسة والبحث الموضوعي العلمي الرصين في مناخ عقلاني حر وبيئة صحية منفتحة، كما نرى بالغرب مثلا، وبين الدراسة والبحث في ظل ثقافة إسلامية مستبدة تمارس العدوان بشكل مستمر، على كل مَن خالفها عموما وعلى الإيمان المسيحي خصوصا. في ثقافة كهذه يعيش العقل المسيحي مُهددا محاصَرا تحت الهجوم طوال الوقت، وهو ما يجبره بالتالي على أن يأخد "وضع الدفاع" دائما، كما يوجّه سائر أفكاره ونظرياته وأدواته ـ بوعي أو دون وعي ـ في اتجاه واحد فقط هو حماية ذاته أولا وتأمين وجوده!
بعبارة أخرى: المسألة ليست أيّ النظريات هي الأفضل حقا عند الرد على هذه الشبهة أو غيرها، تلك رفاهية لا نملكها. المسألة بالأحرى هي أيّ النظريات ـ تحت هذا "التهديد الوجودي" ـ تساعدني أكثر على البقاء وتحفظ وجودي من الزوال كليا!
الأزمة الثانية هي أن العقل المسيحي ـ في ظل ثقافة كهذه ـ أصبح يتبنى هو نفسه، مجبرا على ذلك، مفاهيم هذه الثقافة وأفكارها بدرجة أو بأخرى. عندما يعلن المسيحي مثلا عن إيمانه بإله واحد فإن "وحدانية الله" كما يعرفها الإسلام هي المفهوم والمعيار وهي "المَسطرة" التي يعتمد عليها في قياساته، بينما "وحدة الإله" التي بالثالوث القدوس لا تعني هذه الوحدانية أبدا. بل بالعكس: "الوحدانية" بالمعنى الإسلامي هي بالأحرى "تشويه" لمفهوم الإله كما أشار القديس الكبير يوحنا الدمشقي بعد مناقشته مع المسلمين، لأنها مفهوم منقوص مبتور بل متناقض، يرتد بنا في أحسن الأحوال إلى الفكر اليهودي ويطيح تماما بـ"الإعلان الإلهي" الأعظم، أعلان القدوس عن ذاته ثالوثا، وهو الإعلان الذي كان بحد ذاته هدفا من أهداف التجسد!
(نقول في قانون الإيمان: ... هذا الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء و تجسد... إلخ، فلماذا؟ ما الفرق بين "من أجلنا" و"من أجل خلاصنا"؟ هل هذه مجرد بلاغة؟ هل في قانون الإيمان كله كلمة أو حتى حرف واحد جاء دون قصد وغاية؟ هل كان هذا من قبيل الحشو والتكرار؟ حاشا! بل منذ البدء هناك هدفان اثنان للتجسد: من أجلنا أولا، ثم من أجل خلاصنا! "الخلاص" كله من ثم هدف واحد فقط، هو الهدف الثاني، أما الهدف الأول والأهم ـ لأجلنا نحن البشر ـ فهو بالآحرى هذا "الإعلان الإلهي" نفسه، إعلان الله عن ذاته ثالوثا قدوسا! لذلك ذهب البعض إلى أن "التجسد" كان مدبّرا أن يحدث بكل حال حتى لو لم يخطئ آدم)!
***
بالمثل: عندما نتحدث عن الكتاب المقدس يتصور البعض ـ بنفس المسطرة الإسلامية ـ أننا نتحدث عن "قرآن المسيحيين"! كما أن للمسلمين كتاب هو القرآن فكذلك للمسيحيين كتاب هو الإنجيل، ويبقى بعد ذلك فقط أن نثبت أيّ الكتابين أصح أو أصدق أو أفضل! أي الكتابين هو حقا "كتاب الله"!
ولكن مرة أخرى شتان بين الكتابين! هل يعرف المسلمون مثلا ـ والمسيحيون بالطبع من قبلهم ـ أن الكتاب المقدس "كتاب بشري" تماما، حرفيا وبكل ما تعنى الكلمة، علاوة على كونه بالطبع كتابا إلهيا؟ هل يوجد مثل هذا في كتاب المسلمين؟
نحن حتى نشبّه هذا الكتاب بالسيد المسيح: كما أن المسيح إله كامل وإنسان كامل، كذلك الكتاب إلهي تماما كما أنه بشري تماما. أيضا كالمسيح الذي ـ رغم إنسانيته ـ كان بلا خطيئة، كذلك أيضا الكتاب الذي ـ رغم بشريته ـ ليس فيه خطأ واحد!
عصمة الكتاب المقدس إذاً حقيقة لا تقبل الشك أو حتى النقاش، لكن هذه العصمة لا تعني أبدا ـ ولا تضمن ـ عصمة سائر "النُسخ" أو "المخطوطات" التي يكتبها الناسخون! الخلط هكذا بين "الأصل" وبين "النُسخ" هو واحد من أشهر الأخطاء التي يقع بها جميع المسلمين، وقد يقع بها للأسف بعض المسيحيين أيضا!
خطأ آخر هو افتراض أن الكتاب مُدان حتى تثبت براءته، وهو منطق مغلوط لو أننا عمّمناه لاستحال التواصل بين الناس واستحالت حياتنا كلها على الأرض. ولكن هذا بالضبط ما يفعل "ميمو" وأمثاله حين يقولون: إذا كانت مشكلة أخزيا مجرد خطأ بسيط من الناسخ، فما الذي يضمن لنا عدم وجود أخطاء أخرى لم نكتشفها بعد؟
السؤال هنا بالأحرى: لماذا تفترض أصلا وجود أخطاء أخرى لم نكتشفها بعد؟ هذا "الافتراض" نفسه يكشف ببساطة عن وضع الكتاب موضع الإدانة مبدئيا، حتى تثبت براءته! بينما الصواب ـ لو أننا في مناخ طبيعي عقلاني وأخلاقي حر ـ هو العكس تماما: الكتاب بريء من الخطأ حتى تثبت إدانته. بل أكثر من ذلك: الكتاب ـ حسب إيماننا ـ بريء تماما وكليا من سائر الأخطاء، فإذا ظهر أي خطأ فيه فهو كما يقول القديس أوغسطين: إما خطأ وقع عند "النَسخ"، أو خطأ في "الترجمة"، أو خطأ في "فهمنا" لما نقرأ! هذه حصرا هي المصادر الثلاثة الوحيدة لأي خطأ مزعوم بكل هذا الكتاب!
هذان على أي حال مجرد مثالين للأخطاء التي رصدها علماء الدفاعيات (خطأ الخلط بين "الكتاب المقدس" المعصوم و"النُسخ" البشرية غير المعصومة، وخطأ افتراض أن الكتاب مُدان حتى تثبت براءته). هذان مثالان اثنان فقط من أكثر من 15 نوعا من الأخطاء المختلفة التي قد نقع بها ـ أو على الأقل لا ننتبه بما يكفي لها ـ عند المشاركة في هذه المواجهات والمناظرات، أو حتى عند متابعتها ومشاهدتها. وبالطبع تتصاعف حدة هذه الأخطاء في ظل الأزمة التي يعيشها المسيحي الشرقي كما أشرنا بوجه خاص.
***
الخلاصة: طرحنا في هذه السطور باختصار بعض وجوه الأزمة التي يعيشها المسيحيون بالشرق وهم تحت القصف المستمر من أمثال ميمو والسقار وسبيع وغيرهم. أشرنا أيضا إلى تأثير ذلك ليس فقط على "دفاعهم" والنظريات والأدوات التي يلجأون إليها، ولكن حتى على "تفكيرهم" أحيانا، وعلى مدى اقترابهم من بعض المفاهيم والأفكار الغريبة عن إيمانهم، كمفهوم "الوحدانية" مثلا بالمعنى الإسلامي أو مفهوم "الكتاب" الذي نزل حرفيا من الله. انتقلنا أخيرا إلى مثالين للأخطاء التي تبرز بشدة في هذا السياق وتشرح لماذا يبدو الرد المسيحي على هذه الشبهات ضعيفا في بعض الأحيان.
أعتذر ختاما عن الإطالة وأتمنى أن تلقي رسالتي بعض الضوء على خلفية هذا الصراع وأبعاده الحقيقية. لا أملك في النهاية سوى النصيحة المخلصة من أعماق قلبي، مع أني لا أحب هذا الدور "الأبوي" أبدا ولكني، بالأحرى كصديق، أحذرك يا صديقي وسائر شبابنا من هذه المواقع والفيديوهات وسائر أنواع المناظرات. ما يحدث ببساطة هو نوع من "الاختطاف"، بدأ باختطاف الأرض كلها ذات مساء ثم استمر بكل وسيلة حتى وصل اليوم إلى اختطاف العقول أيضا. انتبهوا من ثم فضلا أيها الأحباء ولا يخدعكم أبدا منطق المشككين أو سلامة أفكارهم ظاهريا، أو حتى أنهم "كسبوا" هذه الجولة أو تلك، ضد هذا الكاهن أو ذاك. عموما نحن معكم وبخدمتكم دائما، فلا تتردوا فضلا بأي سؤال أو استفسار أو حتى اعتراض. سلام الرب ليكن دائما معكم، تحياتي ومحبتي وحتى نلتقي.