«كان الكلمة»:
كان هنا لا تدل على فعل زمني بل على الكينونة الدائمة وهي تخص الوجود اللازمني، وتستخدم للدلالة على الأمور المطلقة أى غير المخلوقة.
فعندما نقول «في البدء كان الكلمة» يعني أن للكلمة كينونة أو كياناً قائماً فى البدء أى فى الأزل. وهنا يتجه الفكر مباشرة إلى التعريف الذى عرّف الله به نفسه لموسى لما سأله هذا عن أسمه, فكان الرد « أهيه الذى أهيه»، وتفسيره حسب ما جاء في طبعة الكتاب المقدس (أكون الذى أكون) والقصد من هذا التعبير واضح غاية الوضوح وهو «أنا الكائن بذاتى, أو كما فى الترجمة الإنجليزية (I am the being) أى أنا الكينونة
فـ «فى البدء كان الكلمة» تعني أن الكلمة كائن منذ الأزل, وهذا يسلمنا مباشرة إلى التعريف الى القول إنه لم يكن بمفرده, بل «كان عند الله». ويلاحظ هنا أنها جاءت «كان» وليس «كانت» لتناسب مونث الكلمة العربية لأن «الكلمة» أصلا فى اللغة العبرية مذكرة = «قول» وتُرجمت باليونانية وهي مذكر ايضاً .
«الكلمة»: اللوغس
«فى البدء كان الكلمة» هذا الإصطلاح العميق المختصر من اين اتى به القديس يوحنا؟
لقد لجأ الشُراح في ذلك إلى عدة مصادر, ولكن من المصادر الواضحة امامنا التى مهدت لهذا القديس الرائي نسميته للمسيح «بالكلمة»» مصدرين:
أولاً: سفر الرؤية, اذ سمع باذنيه ما يقوله الروح واصفاً المسيخ وهو متجند للحرب, راكبا على فرس أبيض, دلالة على المقاصد السلامية، وعلى رأسه تيجان كثيرة. رمزاً للنصرة المتعددة المكاسب لحساب الانسان, وعيناه كلهيب نار تذيب القلوب الصخرية، «وله أسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو, وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويُدعى اسمه «كلمة الله» (رؤ12:19-13)
وهنا يظهر أن أسم «الكلمة» متعاظم الشأن لدى السمائيين, فهو صفة السيد المسيح المحاربة والديانة المتسلطة والقائدة, لأنه يقول فى بقية الآية: «وَكَانَ الأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ يَتْبَعُونَهُ رَاكِبِينَ خُيُولاً بَيْضَاءَ، وَلاَبِسِينَ كَتَّاناً نَقِيّاً نَاصِعَ الْبَيَاضِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ سَيْفٌ حَادٌّ لِيَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ وَيَحْكُمَهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَيَدُوسَهُمْ فِي مَعْصَرَةِ شِدَّةِ غَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ كُتِبَ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ: مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ» (رؤ 14:19-16). وهذه الصورة تمثل واقع «الكلمة» لدى السمائيين, والثوب المغموس بالدم علامة أبدية لأنهزام وقهر العدو لأنها تذكار الصليب. فهى شهادة لغلبته على العالم «ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يو 33:16) و «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ.» (رؤ 11:12)
ولكن يُلاحظ هنا أن أسمه «كلمة الله» يٌعبر عن حالة خروج من الله وإرسال للإعلان عن مشيئة الله وتتميمها بقوة واقتدار, فهو اسم «الكلمة» بعد أن أضطلع بالعمل والرسالة, لذلك جاء أسمه «كلمة الله».
أما أسم «الكلمة» فقط الذى كتبه القديس يوحنا فى إنجيله بوحى الروح فهو يعبر عن ما قبل الخروج والأرسال والإعلان عن الله, فهو أسم له كفاءة واستحقاق ذاتى لكل ملئ اللاهوت خلول من عمل أو رسالة.
ثانيا: والمصدر الثانى فى الأكثر أثرا فى تكوين الفكر اللاهوتى للقديس بوحنا بخصوص «الكلمة اللوغس» فهو تشديد السيد المسيح بصور متكررة أنه كلمة الله بصورة ذاتية وشخصية, وأن كلامه الذى يقوله هو «روح وحياة». وبالرجوع للآيات فى نصها اليونانى يظهر بوضوح أن السيد المسيح يعتبر كل ما يقوله هو «اللوغس», وأنه هو اللوغس أى «الكلمة».
وسنعيد كتابة الآيات فى نصها اليونانى لنرى مدى وضوح حقيقية اللوغس عند السيد المسيح, لأن الترجمة العربية اخطأت وتجاوزت لفظ «اللوغس» المفرد = «كلمة» وجعلته بالجمع «كلام», فاختفى المعنى.
علاقة اللوغس بالسيد المسيح من واقع كلامه:
# «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ (كلاَمِي) كلمتى وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. (يو 24:5)
المعنى ينصب هنا على أن الذى يقبل اللوغس السيد المسيح ويؤمن بالله الذى ارسله يكون له الحياة الأبدية. ومعروف أن الذى يقبل «كلمة» أو لوغس السيد المسيح فهذا يعنى أنه يقبل السيد المسيح. هنا السيد المسيح واللوغس على التساوى.
# أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ (الْكلاَمِ) الكلمة = اللوغس الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ. (يو 3:15)
مجرد سماع الكلمة اللوغس هنا وإدراكه فهذا ينقى القلب, حيث أن المعنى يتمحور حول قبول السيد المسيح والإيمان به.
# اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ (كلاَمِي) كلمتى فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ». (يو 51:8).
ومعروف أن الذى بؤمن بالسيد المسيح فهو الذى لن يرى الموت. فاللوغس والسيد المسيح هنا متساويان.
# فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي (كلاَمِي) كلمتى فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلاَمِيذِي, وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». (يو 31:7-32).
هنا الثبات فى كلمة السيد المسيح أى اللوغس يكشف عن التلمذة الحقيقية للمسيح, أى أن التلمذة لكلمة المسيح هى التلمذة بعينها.
ومعروف من آيات أخرى كثيرة أن الثبوت فى كلمة المسيح هو الثبوت فى السيد المسيح نفسه (إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ. - يو 15:7)
# الَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي. (وَالْكلاَمُ) الكلمة الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.
يوضح السيد المسيح هنا أن كلمته أى اللوغس ليس منقردا من دون الله فهو اللوغس الذى أرسله الله سواء شخصه أو كلمته فهما واحد.
# أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ (كلمتك) وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. (يو 14:17)
ومعروف أن العالم أبغض السيد المسيح وبالتالى أبغض الذين قبلوا كلمة الله اى اللوغس. هنا السيد المسيح ولوغس الله متساويان.
# قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. (كلاَمُكَ) كلمتك هُوَ حَقٌّ. (يو17:17)
ومعروف أن السيد المسيح أعلن بكل قوة ووضوح «أنا هو ....الحق» (قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي – يو 6:14). واللوغس والسيد المسيح متساويان هنا تساوى مطلق, بل يظهر أن السيد المسيح هو اللوغس مباشرة.
ومعروف أيضا أن السيد المسيح أعطى الحق أى اللوغس فى كلامه عموماً, أى أن حديثه كان يحوى سر «الكلمة», سر «اللوغس», سر «المسيح» وهذا يتضح من الآية الآتية:
# لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا (قَوْلِي) كلمتى . (يو 43:8)
واضح هنا أن كلمة السيد المسيح شىء و(الكلمة) أى اللوغش الكائن فى كلام السيد المسيح شىء آخر. فالكلمة اللوغس هو سر الله وهو السيد المسيح وهو الحق المخفى فى الكلام. فالذى يسمع لصوت الله وسره, أى الحق, من وسط الكلام يفهم كل الكلام فى الحال.
ومن هنا نستخلص أن (الكلمة) اللوغس هو محور كل تعاليم السيد المسيح وهو القلب النابض فى إنجيل القديس يوحنا وعليه يقوم الإنجيل كله, ولذلك وإن كان يتهيأ لجميع الشراح أن القديس يوحنا لم يستخدم أصطلاح (الكلمة) إلا فى موضعين فى مقدمة إنجيله فى الإصحاح الأول, إلا أن الواقع والحقيقة أن اللوغس هو محور إنجيل القديس يوحنا وملخص قكره اللاهوتى.
فكما أن كلمة الله اللوغس, وبالعبرية «قؤل إلوهيم»، جاء في الأسفار المقدسة قديما منطوقاً بفم الأنبياء وكان يحمل الحياة للذين يثبتون فيه، فقد جاء الكلمة اللوغس بنفسه في شخص يسوع المسيح معلنأ الحق ومعطيأ الحياة. ولكن يظل هناك فارق بين الكلام المقول واللوغس المحتوى داخله: (وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ, وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ, فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي – يو 37:5-39)
المسيح هنا يتسعلن نفسه بمنتهى الحذق الإلهي أنه هو اللوغس, فهو يوضح أن كلمة الله اللوغس التي يفتشون عليها في الكتب (الأسفار) لكي تعطيهم حياة أبدية أخطاوا إليها فأخطاوها، ولم ينتبهوا إليها حينما استعلنها المسيح في نفسه لما جاء بنفسه إليهم: «إلى خاصته جاء»، فلم يأتوا هم إليه، مع أنه بصفته اللوغس الذي يبحثون عنه قادر ان يعطيهم الحياة الآبدية.
لذلك، فجوهر الإستعلان في إنجيل يوحنا محكوم بمستوى السماع الروحي للكلمة «اللوغس» وهو الحق المثبت في كلام المسيح، على أن هذا «اللوغس» هو سر الإنجيل وسر الله وسر المسيح، وهو لا يوجد جامداً أو ساكناً, بل على الدوام ينطق من بين السطور والكلمات, كومضات من نور أو دفقات حياة تنطلق بلا توقف.
وبهذا نرى أذ اللوغس في إنجيل يوحنا لا يحتاج إلى شرح أو تعريف أو فهم، فهو هو المسيح، والروح واقف عل استعداد أن يأخذ ما للمسيح «اللوغس» ويخبركم. والمسيح لا يعطي لا يعطى كلام الحق ليُفهم، بل هو يًعطى الحق ليُعاش؛ ولا يعطى كلاماً يصلح للحياة بل يعطى الحياة. فهذا هو سر كلامه: « روح وحياة»، وهذا يوصلنا إلى مقدمة الإنجيل بكل هدوء, فالميسح هو «الكلمة اللوغس».
فإذ كان القديس يوحنا قد أعطى للمسيح اسم «الكلمة» اللوغس فهو فعل ذلك من واقح استعلان المسيح لنفسه من خلال تعليمه. على أن قدرة القديس يوحنا عل استشفاف هذا الاسم وطرحه في مستهل إنجيله, ليس على أنه «كلمة الله», بل على أنه «الكلمة» اللوغس يعتبر إلهاماً إلهياً وعلى مستوى المساهمة العظمى للاهوت المسيحي، وهي جرأة يستحيل أن يأتيها عقل بشر؛ فهي جرأة من رأى وعاين أن «يسوع المسيح هو الكلمة»: «هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.» (يو 24:21)
وهذه المعلومة البسيطة في مظهرها صارت هي الحقيقة الإلهية العظمى في تاريخ معرفة الإنسان لله!