تفسير سفر الخروج - الأصحاح 12 | تفسير تادرس يعقوب


العدد 1- 51:
طقس الفصح :

يرى القدِّيس ميليتو أسقف ساردس أن الناموس كان مقدمة لعهد النعمة، ليس فقط خلال الوصايا والكلمات، ولكن أيضًا خلال الرمز، إذ يقول: [الكلمات والأعمال (الطقسية) أيها الأعزاء لا معنى لها إن بُتر عنها ما ترمز إليه[11]]. هذا هو في الواقع الفكر الكنسي بروح إنجيلي تسلمته الكنيسة منذ بدء انطلاقها.

والآن نتحدث عن طقس الفصح كما ورد في سفر الخروج وما يرمز إليه، مُستعينًا بالنصوص الإنجيلية وكتابات الآباء:
1. لماذا تم بالليل؟

يقول الرب لموسى: "إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر" (11: 4)، ويؤكد في سفر التثنية "لأنه في شهر أبيب أخرجك الرب إلهك من مصر ليلاً" (16: 1). ويقدم لنا القدِّيس هيبوليتس تعليلاً لذلك قائلاً: [تمت الضربة في الظلام ليلاً، لأنه في ظل الليل بعيدًا عن نور النهار الواضح يتحقق العدل في الشياطين وجرائمهم القاتمة "وأُعطي عجائب في السماء والأرض دمًا ونارًا وأعمدة دخان. تتحول الشمس إلى ظلمة، والقمر إلى دم قبل أن يجيئ يوم الرب العظيم المخوف" (يوئيل 2: 30-31). وأيضًا "ويل للذين يشتهون يوم الرب. ماذا لكم يوم الرب؟ هو ظلام لا نور. كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد فصادفه دب، أو دخل البيت ووضع يده على الحائط فلدغته حية، أليس يوم الرب ظلامًا لا نورًا، قتامًا ولا نور له؟! (عا 5: 18-20)[12]].

كأنه بالليل حيث يسكُن الشيطان في الظلمة يقتله الرب في عرينه، بينما هو مطمئن ليس من يُقاومه فيهلك وكل أعماله معه. لقد أسلم الرب "فصحنا الجديد" روحه في آخر النهار ودخل بالليل إلى الجحيم ليفك قيود المأسورين في الظلمة، وينطلق بهم إلى نور الفردوس الذي بلا ظلمة!
2. في شهر أبيب أول الشهور:

كلم الرب موسى وهرون قائلاً: "هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور. هو لكم أول شهور السنة" (12: 1). كأنه في كل فصح يدخلون عامًا جديدًا، ليعيشوا في حالة تجديد قلبي مستمر في المسيح يسوع الذبيح.

كما أن السيِّد المسيح "فصحنا" هو رأس الخليقة وبكرها صار هذا الشهر هو بكر الأزمنة، وبدء انطلاق الحياة الجديدة، كقول الرسول "دُفنا معه بالمعمودية للموت حتى... نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة" (رو 6: 2). وكما يقول القدِّيس هيبوليتس: [هذا يعني أن ذبيحة الفصح الحقيقي بالنسبة لنا هي بدء الحياة الأبدية[13]]، ويرى القدِّيس أثناسيوس[14] أن الفصح الرمزي جاء في بدء الشهور، أما الرب (الفصح الحقيقي) فجاء في آخر الأزمنة (عب 9: 26) ليعلن أنه نهاية الناموس وغايته ( رو 10: 4).

ويلاحظ أن "أبيب" تعني "سنبلة"، وكأنه خلال الفصح تصير النفس سنبلة الرب أي حصاده.
3. الحفظ في اليوم العاشر [3]:

كان إشارة إلى دخول السيِّد المسيح أورشليم ليبقى تحت الحفظ حتى يُقدم نفسه فصحًا من أجلنا. أما اختياره اليوم العاشر فإشارة إلى مجيئه بعد الناموس (الوصايا العشر) يكمل الوصية التي كسرها الإنسان، واهبًا لنا إمكانية تنفيذها.
4. تقديمه في اليوم الرابع عشر [6]:

في اليوم الرابع عشر يكون القمر بدرًا، ولما كانت الشمس رمزًا للسيِّد المسيح والقمر للكنيسة، كأنه خلال "المسيح فصحنا" (1 كو 5: 7)، تكتمل استنارة الكنيسة ويُعلن بهاؤها.

أما أيام الحفظ فهي خمسة (10-14 أبيب)، تمثل البدايات الخمس للعالم في تاريخ الخلاص. آدم به بدأ الجنس البشري، ونوح به بدأ العالم بعد الطرفان، إبراهيم بدأ كأب للمؤمنين ومن صلبه خرج شعب الله، وموسى بدأ العالم في الناموس المكتوب وأخيرًا جاء المسيح في اليوم الخامس ليبدأ عهد النعمة، فيه قدم نفسه فصحًا، له فاعليته في كل الحقبات الخمس.

الخمسة أيام أيضًا تُشير إلى فاعلية الفصح الحقيقي لجميع الذين يعملون في أي ساعة من ساعات النهار الخمس، أي الذين بدءوا العمل في الساعة الأولى أو الثالثة أو السادسة أو التاسعة أو الحادية عشر.
5. دعوة الجار القريب [4]:

تُشير هذه الدعوة إلى دعوة الأمم بكونهم "القريب" الذي ينعم أيضًا بذبيحة الفصح الحقيقي.
6. شاة صحيحة [5]:

اشترط أن يكون إما خروفًا، رمز للوداعة كقول إشعياء النبي: "ظُلم أمَّا هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاة تُساق إلى الذبح" (53: 7)، أو من الماعز الذي يقدم فدية عن الخطية حسب الناموس (عد 7: 16).

لقد دُعيَ المسيح المخلص بالحمل، إذ جاء في سفر إرميا "وأنا كخروف داجن يُساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم فكروا عليَّ أفكارًا قائلين لنُهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلا يُذكر بعد اسمه" (11: 19). وقال عنه إشعياء النبي: "كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازَّيها فلم يفتح فاه" (53: 7)... وإذ نظره القدِّيس يوحنا المعمدان قال: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29). وفي السماء رآه القدِّيس يوحنا اللاهوتي "وفي وسط القسوس خروف قائم كأنه مذبوح" (رؤ 5: 6).

أما كونه صحيحًا بلا عيب، فلأن السيِّد المسيح قدوس بلا عيب يقدر أن يُكفِّر عن خطايانا بدم نفسه (عب 9: 14). يقول القدِّيس هيبوليتس الروماني: [لأن المسيح وحده بلا عيب في كل فضيلة، وبلا خطأ في أي أمر، يُقدم كل برّ من البداية حتى النهاية، إذ قال عن نفسه: "يليق بنا أن نُكمل كل برّ" (مت 3: 15)[15]]. كما يقول الرسول: "إنكم أُفتديتم... بدم كريم كما من حمل بلا عيب دم المسيح".

أما كونه ذكرًا فإشارة إلى رئاسته، لكونه عريس كل المؤمنين (2 كو 11: 2)، إذ "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 29).

"ابن حول"، أي شاب ليس فيه ضعف الشيخوخة ولا يصيبه القِدم، يبقى جديدًا في حياتنا على الدوام، مع أنه هو القديم الأيام الأزلي.
7. يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل [6] :

من جهة تحقق هذا الأمر في شخص السيِّد المسيح الذي قيل عنه "اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل" (أع 4: 27)، ومن ناحية أخرى فإن السيِّد هو الذي تقدم بنفسه ليقدم نفسه ذبيحة حب عنَّا. لهذا يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [الأمر لم يكن هكذا بالنسبة للمسيح، فإنه لم يُؤمَر بعمل هذا إنما تقدم بنفسه وصار هكذا، مقدمًا نفسه ذبيحة وقربانًا لله[16]].

بالرغم من تعدد العائلات التي تقدم الحملان لكن الجميع يشتركون في ذبيحة واحدة، أما السيِّد المسيح فقد قدم نفسه فصحًا واحدًا يُكفر عن كل الأمم والشعوب، جامعًا الكل حوله كما في بيت واحد. في هذا يقول القدِّيس هيبوليتس: [كما كانت بيوت العبرانيين عديدة لكنها تُحسب كأنها بيت واحد، هكذا مهما كثرت الكنائس في المدينة والبلدة فهي تمثل كنيسة واحد. المسيح الذي هو كامل غير منقسم في بيوت متنوعة، إذ يقول بولس نفسه أننا واحد في المسيح[17]].

اشترط أيضًا ألاَّ يحملونه خارج البيت، وفي هذا يقول القدِّيس هيبوليتس: [لأن الاجتماع واحد، البيت واحد. إنها الكنيسة الواحدة حيث يؤكل جسد المسيح المقدِّس، أما خارج هذا البيت الواحد أي الكنيسة فلا يُحمل الجسد. من يأكله في موضع آخر يُعاقب كشرير ولص[18]].
8. ذبحه في العشية [6]:

إشارة إلى تقديم السيِّد المسيح نفسه فصحًا عن العالم في ملء الأزمنة.
9. رش الدم على العتبة العليا والقائمتين [7]:

يتحدث عن فاعلية الدم قائلاً: "فأرى الدم وأعبر عنكم"، "لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب 9: 22).

بلا شك رأى كثير من المصريين ذبح الخرفان ورش الدم واستهزءوا بهم فهلكوا، وأيضًا لو أن عبرانيًا ربط الخروف عند الباب بدلاً من ذبحه فهلك أيضًا، إذ لا خلاص لنا إلاَّ خلال موت السيِّد المسيح وسفك دمه عنا، لهذا يقول: "الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتموت فهي تبقى وحدها".

فدم الخروف كان رمزًا لدم السيِّد المسيح الذي بدونه ليس من خلاص. وكما يقول الأب لاكتانتيوس: [خلُص العبرانيون وحدهم بواسطة علامة الدم، ليس لأن دم الخروف في ذاته له فاعلية لخلاص البشر، وإَّما كان رمزًا للأمور المقبلة[19]].

ويتحدث القدِّيس هيبوليتس الروماني عن قوة علامة الدم قائلاً: [أنها توضع في البيوت كما في النفوس حيث يجد فيها روح الرب مسكنه المقدس[20]]. كما يقول أن: [الدم على العتبة العليا كما على الكنيسة، وعلى القائمتين كما في الشعبين (اليهود والأمم)].

ويرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن رش الدم هكذا على العتبة العليا والقائمتين إنما يُشير إلى تقديس النفس بجوانبها الثلاثة: العقلي والعاطفي والروحي[21]، أي تقديس الإنسان بكل طاقاته الفكرية واشتياقاته وعواطفه وأحاسيسه الداخلية.

هكذا رأي الآباء في علامة الدم تقديس الكنيسة الجامعة والنفس البشرية كعضو في هذه الكنيسة.

ويلاحظ أن رش الدم لا يكون على العتبة السفلية حتى لا يُداس بالأقدام، إذ يقول الرسول: "كم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله وحَسب دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا وازدرى بروح النعمة" (عب 10: 29). أما عن جهادنا للتمتع بثمر هذا الدم فيقول القدِّيس أثناسيوس: [يليق بنا أن نطيل صلواتنا وأصوامنا وأسهارنا حتى يمكننا أن ندهن مقدمة منازلنا بالدم الثمين فيهرب المُهلك[22]].
10. استخدام الزوفا [22]:

"خذوا باقة زوفا واغمسوها في الدم الذي في الطست، ومسوا العتبة العليا والقائمتين بالدم".

لم يستطع العلماء الوصول إلى رأي قاطع عن نبات الزوفا، إلاَّ أن الرأي التقليدي بين اليهود إنه هو الزعتر أو السعتر، أُستخدم في الكتاب المقدس للتطهير من البرص (لا 14: 4، 6)، ومن الخطية (مز 50: 7)، ومن الأوبئة (لا 4: 49، 50)، وللطهارة الطقسية (عد 6: 18-19). واستخدم أيضًا لرفع إسفنجة من الخل التي قُدمت للسيِّد على الصليب (يو 19: 29). ويقال أن الزوفا نبات عطري الرائحة ينبت في الجدران وفي الصخور.

يرى القدِّيس أغسطينوس [أن الزوفا عشب ضعيف ومنخفض، لكن جذوره عميقة وقوية. كأنه يدخل بجذوره إلى الحب ويتعمق فيه ليدرِك مع القدِّيسين ما هو العرض والطول والعمق والارتفاع (أف 3: 17-18)، ويتعرف على صليب ربنا[23]]. كأنه خلال الدم النابع عن الحب الذي بلا حدود نتقدس، يُنزع عنا برص الخطية ونُشفى من أمراضنا وتتطهر نفوسنا ونشترك مع المسيح في آلامه على الصليب.
11. يأكلونه مشويًا بالنار [9]:

أ. لا يقف الطقس عند رش الدم، إنما يلتزم المؤمنون بأكل اللحم مشويًا بالنار، للإتحاد بالسيِّد المسيح الذي اجتاز من أجلنا العدل الإلهي قائلاً: "قلبي كالشمع ذاب في وسط أحشائي. قوتي نشفت كزق ولصق لساني بحنكي".

ب. لا نقف عند الإيمان بالسيِّد المسيح المتألم الذي اجتاز النار من أجلنا، وإنما أيضًا يُلزمنا أن نتناول جسده ودمه المبذولين عنا ليكون لنا معه شركة آلام ونتعرف على قوة قيامته، بهذا نثبت فيه وهو فينا (يو 6: 4).

ج. يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن طعام الفصح هو [الإيمان الحار المتقد[24]]. ويتحدث عنه العلامة أوريجانوس قائلاً: [ليكن لنا الروح الحار، ولنتمسك بالكلمات النارية التي يقدمها الله لنا كما قدمها لإرميا النبي قائلاً: "هأنذا جاعل كلامي في فمك نارًا" (إر 5: 14). ولننظر أن جسد الحمل قد طُهي جيدًا حتى يقول الذين يشتركون فيه أن المسيح كان يتكلم فينا "ألَم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يُكلمنا في الطريق ويوضِّح لنا الكتب؟!" (لو 24: 32)[25]].

د. كانت العادة أن يُشوى الخروف على سيخين متقاطعين يرمزان للصليب.
12. لا تأكلوا منه نيئًا أو طبيخًا مطبوخًا بالماء [9]:

يُريدنا أن نتمتع بالكلمة الإلهي الملتهبة بالنار، لا نأكل منها نيئًا أو مطبوخًا بالماء، أي لا نتقبلها بطريقة مائعة كالماء، بل نتقبلها بروح حـار، جادين في التمتع بها.

يُريدنا أن نقبل الإيمان بالصليب خلال الألم لا بروح التراخي والميوعة.
13. رأسه مع أكارعه وجوفه [9]:

إذ نتناول فصحنا الجديد ندخل إلى الرأس والقدمين والجوف، أي نتعرف على محبة المسيح لعلنا ندرك ارتفاعها (الرأس) وأعماقها (القدمين) وعرضها (الجوف)، فنجدها تحصرنا من كل جانب.

يرى القدِّيس هيبوليتس الروماني[26]: أن الرأس هو الناموس الذي بدأ بالكشف عن "سر االفصح"، والقدمين هما التلاميذ الذين حاولوا أن يكرزوا بالسلام على جبال صهيون، أما الجوف فهو الفصح ذاته الذي عرفناه خلال الناموس والإنجيل.
14. مع فطير [8]:

يُشير الخمير إلى الشر والخبث (1 كو 5: 7-8)، وإلى الرياء، لذا ينصحنا القدِّيس أمبروسيوس قائلاً: [إذا كان الاحتفال بعيد الفصح قد أُعتيد فيه قديمًا أن يأكلوا الفطير خلال السبعة أيام، هكذا يلزم على كل مسيحي أن يأكل من جسد الحمل الحقيقي أي المسيح وأن وأن يعيش في حياة مقدسة بسيطة كل أيام حياته، أي خلال السبعة أيام. احذروا من الخمير القديم، فلا تبقوا فيه يا إخوتي، وذلك كما يحذرنا الرسول قائلاً: "إذًا نقوا منكم الخمير العتيقة" (1 كو 5: 7)، أي تنقُّوا من السلوك القديم. فإن تحولتم عن كل الشر الذي يُشار له بالخمير العتيق، ولاحظتم بإيمان ما قد تعهدتم به في المعمودية، عندئذ تكونون مسيحيين حقيقيين! [27]].

يقول القدِّيس أثناسيوس الرسولي معلقًا على قول الرسول: "إذًا لنُعيد ليس بخميرة عتيقة، لا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق" (1 كو 5: 8)، يقول: [إذ نخلع الإنسان العتيق وأعماله، نلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (أف 4: 22، 24)، ونلهج في ناموس الله نهارًا وليلاً، بعقل متضع وضمير نقي. لنطرح عنا كل رياء وغش، مبتعدين عن كل كبرياء ومكر. ليتنا نتعهد بحب الله ومحبة القريب، لنصبح خليقة جديدة، متناولين خمرًا جديدًا... إذًا لنحفظ العيد كما ينبغي[28]].

ويرى بعض الآباء مثل أوريجانوس أن الفصح القديم ارتبط بالخمير حتى لا يختمر المؤمنون بخمير العالم، منتظرين الخمير الجديد الذي لملكوت الله (مت 13: 33).

و يلاحظ أن السيِّد المسيح في سرّ الإفخارستيا استخدم خبزًا مختمرًا، لأنه حمل في جسده خطايانا.
15. على أعشاب مرَّة يأكلونه [8]:

أ. يرى القدِّيس جيروم أن الله قد منع استخدام العسل في التقدمات وفي نفس الوقت أمر بأكل خروف الفصح على أعشاب مرَّة، كأنه لا يريدنا أن نعيش مدللين بل نحتمل الضيق في العالم[29].

ب. الأعشاب المرة تُذكر الشعب مرارة عبودية الخطية التي يتحررون منها خلال خروف الفصح.

ج. تُشير الأعشاب المرة إلى إلتزامنا بالتقدم إلى سرّ الفصح الجديد في مرارة قلب وانسحاق روح من أجل خطايانا. فإذ يتمرر فمنا بسبب الخطية يمتلئ قلبنا من حلاوة جسد الرب ودمه. بمعنى آخر لا تمتع بسرّ الإفخارستيا دون التوبة والاعتراف.
16. لا تبقوا منه إلى الصباح [10]:

إشارة إلى سرّ الفصح كسرّ "الحياة الجديدة". وقد حرصت كنيستنا على عدم إبقاء الأسرار الإلهية لليوم التالي.
17. عظمًا لا تكسروا منه [46]:

يُشير إلى السيِّد المسيح الذي لما جاؤا ليكسروا ساقيه وجدوه قد مات سريعًا (يو 19: 36) فلم يكسروهما. ويرى القدِّيس هيبوليتس أنه بهذا نستطيع التعرف على قيامته (يو 20: 27)، الذي قام يحمل آثار الجراحات، لكنه ما كان يليق أن يقوم برجلين مكسورتين.

كما أن عظام السيِّد لم تُكسر، هكذا يليق بنا أن نتقبل "كلمة الله" التي نأكلها متقدة بالنار دون أن نكسر عظامها، أي دون أن نتفهمها بطريقة بشرية حرفية قاتلة، إنما نتفهمها خلال الروح الذي يبني.

وكما أن الفصح لا يُكسر عظامه، هكذا الصديقون المتحدون بالسيِّد المسيح فصحهم لا تُكسر عظامهم، إذ يقول المرتل: "يحفظ جميع عظامهم. واحد منها لا تنكسر" (مز 34: 20). وكما يقول القدِّيس أغسطينوس[30]: [إن المرتل لا يتحدث عن العظم بالمفهوم الحرفي إنما يقصد الإيمان الحيّ الذي لا ينكسر، مدللاً على ذلك باللص اليمين الذي انكسرت عظام قدميه، أما عظام نفسه فقد حفظها الرب، إذ تمسك بالإيمان في لحظات الضيق المرّ فاستحق الدخول إلى الفردوس محفوظًا بين يديّ الله.
18. يأكلوه وهم في استعداد للرحيل [11]:

اشترط أن يأكلوه هكذا "أحقاؤكم مشدودة وأحذيتكم في أرجلكم وعصِّيكم في أيديكم، وتأكلونه بعجلة. هو فصح للرب" [11].

يُقدم القدِّيس يوحنا الذهبي الفم[31] لهذه العبارة تفسيرين:

v [التفسير الأول هو التفسير التاريخي، حيث يتذكر اليهود أنهم راحلون، وكأنهم بهذا العمل يقولون: "نحن مستعدون للرحلة. ها نحن خارجون من مصر إلى أرض الموعد. ها نحن خارجون". لقد عرف هذا الشعب بكثرة النسيان فأعطاهم هذه الوصية حتى لا ينسوا غاية الفصح.

التفسير الثاني هو التفسير الرمزي، إذ يقول: نحن أيضًا إذ نتناول الفصح الذي هو المسيح (1 كو 5: 7)... يليق بنا أن نتناوله محتذين متمنطقين. لماذا؟ لكي نكون نحن أيضًا مستعدين لخروجنا ورحيلنا. ليت كل أحد يتناول هذا الفصح ولا ينظر إلى مصر (العالم) بل إلى السماء، متطلعًا إلى أورشليم العليا (غلا 4: 6)... فالتمنطق هو جزء من رحيل النفس. أنظر ماذا يقول الله لإنسان بار: "أشدد الآن حقويك كرجل فإني أسألك فتعلمني" (أي 38: 3). هذا أيضًا ما قاله لكل الأنبياء، وما قاله أيضًا لموسى سائلاً إيَّاه أن يكون متمنطقًا. بل والله نفسه ظهر لحزقيال متمنطقًا (9: 11 الترجمة السبعينية). والملائكة أيضًا يظهرون مُتمنطقين (رؤ 15: 6) بكونهم جنود... إذن فلنتمنطق لنقف بشجاعة... ولا نخف لأن قائد خروجنا يسوع وليس موسى].

إذن كانوا يأكلونه كأناس ينتظرون الرحيل والعبور من أرض العبودية متجهين نحو أرض الموعد، مستعدين بجسدهم (المنطقة) وبأيديهم (العصا) وبأرجلهم (الأحذية). هذا هو مفهوم الاستعداد لسرّ الإفخارستيا، إننا نتناول ونحن مشتهين للعبور إلى حيث المسيح جالس.

الأحقَّاء المشدودة تُشير إلى ضبط شهوات الجسد وملذاته، ليسلك الإنسان ليس حسب أهواء جسده بل حسب شهوات الروح السماوية. لذلك إذ يتحدث القدِّيس يوحنا كاسيان عن تمنطق الراهب بمنطقة يقول: [ليعرف جندي المسيح وهو يحتمي بمنطقة يطويها حوله أنه ليس فقط يهيئ ذهنه لقبول أي عمل في الدير، وأن تكون حركته بلا عائق بسبب ملابسه... وإنما استخدامه منطقة من الجلد الميت تعني أنه يحمل إماتة جميع أعضائه التي تحوي بذار الشهوة والدنس، فيعرف على الدوام وصية الإنجيل القائلة: "فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية" (كو 3: 5)[32]].

الحذاء الذي في الرجل يُشير إلى ما حدث مع موسى النبي، فقد خلع الحذاء المصنوع من جلد الحيوانات الميتة حتى يقدر أن يتمتع بالعليقة المتقدة نارًا. أما هنا فهو يلبس حذاءً من نوع آخر، هو حذاء السيِّد الذي قال عنه معلمنا يوحنا المعمدان أنه غير مستحق أن ينحني ويحل سيوره. إذًا فليكن لنا حذاء السيِّد حتى كما سلك ذاك نسلك نحن بحذائه لا نخاف أشواك هذه الحياة، ولا عنف فرعون وسطوته بل ندّك كل قوات الشر تحت أقدامنا. وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [من يحتفل بفصح الرب ويُعيد بالحمل يلزم أن تكون قدماه محصنتين ضد هجمات الوحوش المفترسة الروحية ولدغات الحيّة[33]].

أما العصا التي في أيدينا فهي عصا الله التي دُعيت أيضًا عصا موسى وعصا هرون... إننا نتكئ على قوة الله التي للخلاص (الصليب) ونمسك بعصا الوصية (موسى) ونمارس العبادة الروحية (هرون).

يرى بعض الآباء في العصا "الرجاء" الذي تستند عليه النفس في رحلتها نحو السماء لتطرد تهديدات إبليس المحطمة لها كما يطرد المسافر الكلاب بعصاه.

أخيرًا فإن القدِّيس أثناسيوس الرسولي يتحدث عن الاستعداد لهذه الرحلة، قائلاً: [ربنا يسوع المسيح هو النور الحقيقي، الذي هو عوض العصا صولجاننا، وعوض الفطير هو الخبز النازل من السماء (أف 6: 15)، وباختصار يقودنا الرب بهذه جميعها إلى أبيه[34]].

أما عن أكل الفصح بعجلة [11] فيقول القدِّيس هيبوليتس: [يجب على من يقترب إلى هذا الجسد العظيم أن يكون ساهرًا وصائمًا[35]]، أي مستعدًا للانطلاق.
19. يعيِّدونه فريضة أبدية [14]:

تأكيدًا لعمل الفصح الأبدي، وأيضًا حتى يبقى الشعب القديم منتظرًا مجيء الفصح الحقيقي الذي يُقدس دمه إلى الأبد.
20. لا يأكل منه غريب [43، 48]:

اشترط ألاَّ يشترك فيه أهل الغُرلة، إنما يشترك أهل الختان وحدهم. هكذا لا يقدر أن يتمتع بالتناول من الأسرار المقدسة إلاَّ الذي نال الختان الروحي، أي المعمودية، فصار ابنًا لله، له حق الاتحاد معه في المسيح يسوع.

في الرسالة السادسة من رسائل القيامة يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [الإنسان المخادع وغير النقي القلب والذي ليس فيه شيء طاهر... هذا بالتأكيد غريب عن القدِّيسين ويُحسب غير مستحق أن يأكل الفصح، لأن كل ابن غريب لا يأكل منه. لهذا عندما ظن يهوذا أنه حفظ الفصح بينما كان يدبر خداعًا ضد المخلص، صار غريبًا عن المدينة التي هي من فوق وبعيدًا عن الصحبة الرسولية، إذ أمرت الشريعة أن يؤكل الفصح بحرص لائق، أما هو فبينما كان يأكل نقبه الشيطان ودخل إلى نفسه (يو 22: 31) [36]].
21. فصح للرب [11]:

يُميز الكتاب المقدس بين "فصح الرب" و"فصح اليهود"، ففي الشريعة لا يقول "فصحكم" أو "فصح اليهود" وإنما دائمًا يقول "فصح للرب"، ناسبًا الفصح له، لكنه حين سقط الشعب في الشر وعاشوا بلا توبة لا يدعوه منسوبًا إليه بل إليهم[37]، قائلاً: "رؤوس شهوركم وسبوتكم ونداء محفلكم لست أطيق. رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي" (إش 1: 13).

لاحظ العلامة أوريجانوس أن هذا الأمر يحدث في كل أنواع العبادة فيسمى السبت "سبت للرب"، وفي سفر العدد يقول: "قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سروري تحرصون أن تقربوه في وقته" (28: 1). وأيضًا يسمي الشعب "شعبي" لكنه عندما إنحرف عن العبادة له قال لموسى: "إذهب إنزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرضي" (خر 32: 7)، إذ لم يعد شعب الله بل شعب موسى.
قتل الأبكار :

أ. يرى العلامة ترتليان أن المصريين قد دفعوا ثمن ما فعلوه بقتلهم أولاد العبرانيين وإلقائهم في النهر، فأدبهم الرب بذات فعلهم[38].

ب. سمح الله بقتل جميع الأبكار، ولا تترك ماشية واحدة في مصر، هذه صورة رمزية لعمل الله الذي سيُبيد الشر، أما أولاده فحتى شعور رؤوسهم محصاة وتحت رعايته.

ج. يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص في هذا الأمر إشارة رمزية لإبادة كل علَّة للخطية، إذ يقول: [يليق بمن يمسك بشر خلال الفضيلة أن يقتله منذ بدايته، بهذا يُحطم ما يأتي وراءه. هذا ما يعلمنا به الرب في الإنجيل فيدعونا بكل وضوح أن نقتل أبكار الشر... إذ أمرنا بإبادة الشهوة والغضب فلا نخاف من وصمة الزنا وجريمة القتل (مت 5: 22، 28). فإن هذين لا يأتيان فجأة، إنما الغضب يُنتج قتلاً، والشهوة تولِّد زنا... فبتحطيم الأبكار (الشهوة والغضب) نقتل بلا شك ما ينجم وراءهما. فلو أخذنا الحيّة مثالاً، فإنه يسحق رأسها يكون جسدها قد قتل في نفس الوقت[39]].
أسفار الكتاب المقدس
أعلى