ولا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء ( أف 4: 30 )
... بل امتلئوا بالروح ( أف 5: 18 )
بمجرد الإيمان، يسكن الروح القدس في المؤمن. وأما الامتلاء بالروح القدس، فيتطلب من الشخص، التكريس بالإضافة إلى الإيمان.
عندما يُختَم المؤمن بالروح القدس، فإن المؤمن يمتلك الروح القدس، ولكن عند امتلاء المؤمن بالروح القدس، فإن الروح القدس هو الذي يمتلك المؤمن.
ومن الجانب الآخر، فإنه قبل يوم الخمسين، وُجد مؤمنون مملوؤون من الروح القدس ( خر 31: 3 ؛ لو1: 67)
لكن هؤلاء الذين امتلأوا بالروح القدس لأداء مأمورية معينة، لم يكن الروح القدس ساكنًا فيهم.
واليوم يوجد ملايين من المؤمنين الحقيقيين، يسكن فيهم الروح القدس، لكن ليس بالضرورة كل هؤلاء المؤمنين مملوئين بالروح القدس.
ثم إن الشخص يتمتع بسُكنى الروح القدس فور إيمانه، ولا يفارقه الروح القدس بعد ذلك، وأما ملء الروح القدس، فهو أمر قابل للتكرار، كما حدث مع الرسول بطرس ( أع 2: 4 أع 6: 3 ، 31)، ومع استفانوس ( أع 9: 17 ، 7: 55)، ومع الرسول بولس (أع9: 17، 13: 9).
ونلخص الفوارق بين سُكنى الروح القدس، والملء به:
* سُكنى الروح القدس هو لجميع المؤمنين الحقيقيين، بينما الملء بالروح ليس بالضرورة اختبار كل المؤمنين.
* سُكنى الروح القدس لم يحدث قبل يوم الخمسين إلا بالنسبة للمسيح، وأما الملء بالروح، فقد حدث مع بعض الأشخاص في العهد القديم.
* سُكنى الروح القدس يحدث مرة واحدة فور الإيمان، بينما الملء بالروح اختبار متكرر.
* سُكنى الروح القدس لا يمكن أن ينتهي في أية لحظة إلى "يوم فداء الجسد"، بينما الملء بالروح قد يُفقد.
* سُكنى الروح القدس يجعلنا في الروح ( رو 8: 9 )، وهذا وضعنا الثابت، لكن الملء بالروح يجعلنا روحيين، وواضح أنه ليس كل المؤمنين روحيين ( 1كو 3: 1 ).
* سُكنى الروح القدس هو أحد عطايا النعمة، بينما الملء بالروح مسئولية المؤمن خلال كل حياته.
* سُكنى الروح لا يعتمد سوى على إيمان الشخص بالمسيح، بينما الملء بالروح يتطلب إخضاع إرادة الشخص للرب.
ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحدٌ إن له إيمانًا ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الإيمان أن يخلِّصه؟ ( يع 2: 14 )
يجب أن نلاحظ بكل عناية، أن الأعمال التي يؤكد عليها يعقوب بقوة في يعقوب2: 14- 26، هي «أعمال الإيمان». وفي الأصحاحات 3، 4 من الرسالة إلى مؤمني رومية، وأيضًا الأصحاح الثالث من الرسالة إلى مؤمني غلاطية، يُظهر الرسول بولس بشكل مُقنع أننا نتبرر بالإيمان لا بالأعمال.
إلا أن الأعمال التي يستبعدها بولس كُليةً هي أعمال الناموس.
افترض كثيرون أن هناك صِدام وتعارض بين الرسولين في هذا الموضوع، ولكن هذا غير موجود على الإطلاق. فكِلا الرسولين يتكلم عن الأعمال، لكن هناك فرق شاسع بين أعمال الناموس وأعمال الإيمان.
فأعمال الناموس، التي يتكلم عنها بولس، هي أعمال تؤدى إطاعةً لمطاليب ناموس موسى، على أمل الحصول على تبرير يُقبل أمام الله.
يقول الناموس «اعمل هذه فتحيا». وهذه الأعمال تُعمل على أمل الحصول على الحياة ـ وهي حياة على الأرض ـ المُشار إليها هنا.
ولم يحدث أن حصل واحد من البشر على حياة باقية بحفظ الناموس، وقد عرَّفنا يعقوب أن مَن «عَثَر في واحدة، فقد صار مُجرمًا في الكل» (الآية10).
إذًا، فإننا جميعًا نقع بالطبيعة تحت حكم الناموس، و«أعمال الناموس» أعمال ميتة، مع أنها تُعمل على أمل الحصول على الحياة.
أما ”أعمال الإيمان“ التي يتكلم عنها يعقوب، فهي تلك التي تنبع من إيمان حي كتعبير مباشر عنه ونتيجةً له. وهي دليل على حيوية الإيمان، مثلما أن الأزهار والثمار دليل على حياة الشجر، وهي أيضًا مُطابقة لطبيعة الشجرة. وإذا لم توجد هذه الأعمال، فهذا دليل على أن إيماننا ميت، لأنه بقيَ وحده دون ثمار.
هل هناك تناقض بين هاتين المجموعتين من الحقائق؟ ليس هناك شيء من هذا على الإطلاق. فالأعمال التي تُعمل من أجل التبرير مُستبعدة تمامًا.
والتأكيد بقوة هو على الأعمال النابعة من الإيمان الذي يُبرر، هذا ليس عند يعقوب فقط، بل عند بولس أيضًا، لأنه في رسالته إلى تيطس يقول:
«وأريد أن تُقرَّر (تؤكد على) هذه الأمور، لكي يهتم الذين آمنوا بالله أن يُمارسوا أعمالاً حسنة. فإن هذه الأمور هي الحَسَنة والنافعة للناس» ( تي 3: 8 ).
والأعمال التي يتكلم عنها في هذه الآية، مُطالب بها «الذين آمنوا بالله»، أي أنها أعمال الإيمان.
هوذا للسلامة قد تحولت لي المرارة، وأنت تعلقت بنفسي من وهدة الهلاك، فإنك طرحت وراء ظهرك كل خطاياي ( إش 38: 17 )
هذه الآية هي جزء من تسبيحة الملك التقي حزقيا، بعد أن شفاه الله من مرض فتَّاك كاد أن يُنهي حياته بالموت.
والمرض في الوحي المقدس، غالبًا إما بسبب الخطية أو رمز لها. والمريض يحتاج إلى الشفاء، والله هو الشافي، والخاطئ يحتاج إلى الغفران، والمسيح هو الغافر.
وفي الكثير من معجزات الشفاء التي أجراها المسيح كان يمنح الغفران والشفاء معًا، وذلك لأن المسيح هو الله الظاهر في الجسد.
«هوذا للسلامة قد تحولت لي المرارة» .. أي هوذا مرارتي تحولت إلى سلام، و”المرارة“ دليل على الحزن المُفرط، ولا شك أن المرض مُذِل ويسبب الشعور بالمرارة في حاسة التذوق وأيضًا في المشاعر. والله الذي يسمح بالمرض لا يقصد به الضرر بل الخير، لأنه يحب الإنسان.
«يا سيد هوذا الذي تحبه مريض»، وهنا يبرز سؤال هام: لماذا المرض؟
المرض رسالة من الله للإنسان، ليُذكّره بخطاياه التي سببت المرض، ويذكِّره بمدى ضعفه، وأن كل ادعاء بالقوة إنما هو غرورٌ باطلٌ وكبرياء.
وحتى لا ينسى الله الذي أعطاه الحياة ويمنحه الشفاء. ولذلك يا عزيزي لا تسمح لنفسك أن يكون مرضك الذي سمح لك به الرب مُبررًا للتذمر، بل للاعتراف بالخطية والتوبة، ليس مُبررًا للشك، بل فرصة لزيادة الإيمان وطلب الشفاء، ليس استحقاقًا بل رحمةً ومنحةً من الله، فيكون لك اختبار رائع بسببه تُسبِّح الله وتشهد للآخرين قائلاً:
«باركي يا نفسي الرب، ولا تنسي كل حَسَناته. الذي يغفر جميع ذنوبك. الذي يشفي كل أمراضك».
«وأنت تعلقت بنفسي من وهدَةِ الهلاك». أو ”وأنت أحببت نفسي ونجيتها من هوة الهلاك“.
يا لروعة الإعلان الإلهي وجماله!
إذ الدافع وراء إنقاذي هو محبة الله لنفسي، وذلك لأن طبيعته هي المحبة، ولأن نفسي ثمينة في عينيه «إذ صرت عزيزًا في عينيَّ مُكرمًا، وأنا قد أحببتك» ( إش 43: 4 ).
«فإنك طرحت وراء ظهرك كل خطاياي» ـ أي أن الله لم يكتفِ بإنقاذه من المرض، بل خلَّصه من السبب، وهو الخطية، فمنحه الغفران.
عزيزي .. إن عمل الله المحب يتصف دائمًا بالكمال، هو يشفي المرض ويغفر الذنب، ألا تشتاق أن تختبر هذا في حياتك الآن، إلجأ إليه بالإيمان.
فذهب (نعمان) وأخذ بيده عشر وزناتٍ من الفضة، وستة آلاف شاقلٍ من الذهب، وعشر حُللٍ من الثياب ( 2مل 5: 5 ) ما أصعب أن يرتفع القلب البشري إلى مقياس أفكار الله!
فلم يكن يدخل في عقل نعمان أنه يستطيع أن يحصل على التطهير من برصه بدون مقابل، وفي الوقت نفسه كان مستعدًا أن يبذل بسِعَة في سبيل الحصول على البُرء من برصه فأعد معداته الكثيرة.
أما فكرة الحصول على ما يتمناه «بلا فضة وبلا ثمن» فكان بعيدًا عن خياله، لأنه لم يكن بعد يعلم نعمة إله إسرائيل، بل ظن أن يقتني موهبة الله بدراهم.
وهذه غلطة الملايين من الناس، بل غلطة القلب البشري في كل زمان وفي كل مكان.
إنه من الجهل الفادح أن نفتكر أنه يمكننا بقليل من الذهب أو الفضة أن نقتني شيئًا من «الرب الإله العلي مالك السماوات والأرض».
وبكل سهولة نستطيع أن نحكم أن هذا جهل مُبين، ولكنه ليس من السهل علينا أن نرى الجهل في إتياننا أمام الله معتمدين على أعمالنا وآدابنا، على برّنا وتهذيب حياتنا، على تغيير أخلاقنا وعاداتنا، على صلواتنا ومظاهرنا الدينية، على دموعنا وأنّاتنا، على عهودنا ونذورنا، على أعمالنا الخيرية وإحساناتنا الشريفة، وبالاختصار على أي شيء من ثمار أفكارنا أو أقوالنا أو أعمالنا. إن الناس لا يستطيعون أن يدركوا أن الاعتماد على هذه الأشياء وأمثالها كالاعتماد على دفع قليل من الذهب أو الفضة تمامًا.
فإن كان لي كل الأعمال الصالحة التي عُملت تحت الشمس، وكل الدموع التي سُكبت، وكل الأنّات التي لُفظت، وبالإجمال إن كان لي كل أعمال البر الإنساني التي عُملت في العالم مضاعفة ألف مرة، فلن تستطيع أن تمحو نقطة واحدة من الذنب من ضميري، ولن تستطيع أن تعطيني سلامًا يثبت في حضرة الله القدوس.
نحن لا ننكر أن هذه الأشياء نافعة في محلها، ولكن الأساس الوحيد لسلام النفس هو «يسوع وحده»، وهو الذي يجب أن يأخذ كل ثقة قلوبنا لأن فيه لنا كل شيء، ومعه لا يعوزنا شيء.
على أن اقتناعنا بعدم نفع مجهوداتنا الذاتية يستلزم وقتًا طويلاً، لأنه يصعب على القلب البشري أن يصدِّق أن لا شيء يؤهلنا للانتفاع بالمسيح إلا معرفتنا بخرابنا التام، وأنه لا لزوم للانتظار حتى نُصلِح ذواتنا لأنها لن تُصلَح إصلاحًا يؤهلها لمقابلة الله والوجود في السماء.
فجاء الملاكان إلى سدوم مساءً، وكان لوط جالسًا في باب سدوم. ( تك 19: 1 )
نرى في تكوين19 أن لوطًا قد وقع بالكامل في شَرَك شؤون سدوم، وهي خطوة منطقية أخرى نحو السقوط.
كان على لوط أن يتعلَّم درسًا عندما أظهر له إبراهيم محبته بإنقاذه من الأسر (تك14)، لكن المؤمن الضعيف يصبح قلبه متقسيًا نحو المحبة والتفكير المنطقي السليم.
وقد يتطلب الأمر أحيانًا حادثًا فظيعًا لإخراج مؤمن من سدوم. زيارة ملائكة ونار من السماء نجحت أخيرًا في إخراجه من سدوم، لكن بعد صراع ومماطلة وخسارة ( تك 19: 15 - 29).
ومقاومة لوط في الرحيل لم تكن المؤشر الوحيد على انغماسه في سدوم. فمن المحتمل أن يكون قد تزوج بامرأة من سدوم، وتخلَّص من خيامه، واشترى بيتًا في سدوم ليُقيم فيه بصفة دائمة.
سكن مع أسرته في سدوم، وبالطبع كان من الصعب قطع تلك الجذور والروابط الأُسرية.
فعندما جاء الملاكان إلى سدوم مساءً «كان لوط جالسًا في باب سدوم» ( تك 19: 1 )، تعبير يعني تورطه في إدارة شؤون سدوم.
قد يبدو الأمر أن لوطًا كان يحاول أن يقوم بحركة إصلاح في المدينة، لكن من الجدير بالملاحظة أن شهادة إبراهيم وهو خارج المدينة، كانت أقوى تأثيرًا من شهادة لوط المُقيم داخل المدينة. فالمؤمن المنخدع من العالم مثل لوط قد لا يكون متورطًا في خطايا أهل العالم الفظيعة كالشذوذ الجنسي والعنف والقتل ( تك 19: 2 - 9)، لكن تفكيره يصبح ملتويًا ومشوهًا ( تك 19: 8 )، لأنه فقدَ شركته مع الله.
وقد يسخر من شهادته أقرب الناس إليه ( تك 19: 14 ). وقتها تصبح حالة المؤمن الساقط بائسة ومؤسفة ( 2بط 2: 7 ، 8).
والمشهد الأخير في قصة لوط، مشهد حزين للغاية. الله في مراحمه الواسعة أنقذ حياته، لكن الخطوة الأخيرة على طريق الفشل تؤدي إلى فقدان كل شيء:
الوظيفة والبيت والممتلكات والزوجة. صحيح أن لوطًا استطاع إخراج ابنتيه من سدوم، لكن لم يستطع إخراج سدوم منهما. ومن علاقتهما الشاذة النجسة مع أبيهما جاء ”موآب“ و”عمون“، شعبان مرّرا حياة شعب الله لسنين طويلة ( تك 19: 30 - 38).
وهكذا فإن قصة لوط بمثابة تحذير لكل مؤمن وخاصة الآباء، والتحذير هو: ”لا تسلك طريق الفشل“.
وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً ( 1يو 1: 3 ، 4)
من أعظم بركات الله للإنسان هي تلك العلاقة الشخصية بين الإنسان والله. والرسول يوحنا يؤكد حقيقة أنه قد صار لنا الآن شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح ( 1يو 1: 3 ) وهذا امتياز مبارك لكل فرد في عائلة الله المحبوبة لديه.
فبعد أن صارت لنا خصائص طبيعة الله، وأصبحنا في حالة التوافق معه في أفكاره ومبادئه وعواطفه، أصبحت لنا الأهلية الروحية للتمتع الشخصي بالمسيح وبأبينا والتلذذ بهذه العلاقة الحُبية المُفرحة والتي لا تسمو عليها بركة أخرى.
ففي هذه الشركة نتغذى روحيًا من خلال كتابه المفتوح أمام عيني الإيمان.
وأحاديث القلب الشجية معه، بل وتنهدات القلب الضارع إليه، وأفراح الرجاء المرتقب.
إن هذه الشركة تملأ النفس بالفرحة والسلام وغمر من التعزيات في ظل خضم قلاقل الحياة واضطراباتها.
ولكن قد يستكثر علينا عدو كل بركة وخير تلك الأجواء الروحية البهيجة، وقد يستكثر الجسد سلام النفس وصفاء القلب، وقد يستكثر علينا العالم طماننا وأماننا في المسيح فيعمل هذا أو ذاك على زحزحتنا بعيدًا عن حلاوة الشركة ببركاتها وأثمارها اليانعة، فتهيم النفس بعيدًا عن ينابيع أفراحها وقوتها، فتمتلئ النفس اضطرابًا ويُنزع من القلب سلامه ومن العقل صفاءه ومن الروح بهجتها ومن الحياة بريقها ورونقها، فتذبل النفس عندئذٍ وتحيط بها الشكوك والمخاوف، وقد تسقط في بالوعة اليأس والحزن المفرط.
وبينما يجاهد العدو في إطفاء ما بقى من شعاعة أمل، يأتي ذلك الصديق اللطيف الودود والرفيق الأمين بنظرة الرثاء والإشفاق ( لو 22: 61 ).
وبكلمات المحبة والحنان بديلاً عن منصة القضاء ( هو 11: 8 ).
ها هو يأتي في الصباح الباكر ( يو 21: 4 ) وشباكنا فارغة وأجسادنا باردة وأصواتنا كسيرة، حاملاً لنا خبزًا للشبع ونارًا للدفء ( يو 21: 9 ).
إنها المحبة متجهة إلينا لطيفة وودودة باحثة وتاعبة لأجل مَنْ أحبتهم، إذ هي ما زالت في قوتها ولظاها ( نش 8: 6 ).
إنه يدعوك ويناجيك عن تلك الأيام الخوالي التي تذوقت فيها أفراح الشركة معه، يدعوك لتستريح وتتمتع بحلاوة الشركة معه لأن محبته تعرف كيف تسترد مَن كان يومًا لأجلهم على الصليب في الجلجثة.
يَخرُّ الأربعة والعشرون شيخًا قدام الجالس على العرش، ويسجدون للحي إلى أبد الآبدين.. قائلين..لأنك .. خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلقت ( رؤ 4: 10 ، 11)
ماذا تكون اللمحة الأولى لسيدنا المُمجد في السماء، حين ننظر إليه، لا في رؤية عابرة قصيرة العمر، لا في محدوديات الأرض وضجيجها، بكل مُعاناتها، بكل أحزانها، بكل ضيقاتها التي تكتنفنا، لكنها جميعًا ستكون قد انزاحت إلى غير رجعة، وسنكون أمامه، ذاك الذي طالما سَعينا أن نتمتع بلمحة من مُحياه.
يومئذٍ نرى تلك الطلعة في تمام الجمال والكمال، في هالة من المجد، ونحن أنفسنا نتغيَّر لكي يتسنَّى لنا أن نحتمل ذلك المجد، وليس كموسى الذي وُضع في نُقرة من الصخرة بينما المجد عابر.
وإذ يحدث هذا، هل من عَجَب أن يترك الشيوخ الأربعة والعشرون عروشهم ويخرُّون قدام الجالس على العرش المرتفع؟ ومع أنهم هم بدورهم مُمجَّدون، فإنهم يأخذون أماكنهم قدامه ساجدين، مثلما لم يسجدوا من قبل.
فما الذي حَدَا بهم أن ينزلوا عن عروشهم؟ لا شيء سوى وجه المسيح في مجده الإلهي.
ما الذي ينشئ السجود؟ نحن لا نملك أن نصطنعه، ولا نقدر أن نخلق روح السجود.
وإنما حين يتجلَّى أمامنا شخص ربنا يسوع المسيح المجيد في قوة الروح القدس، حينئذٍ فقط نقدر أن نسجد، لأنه حينئذٍ يمنحنا الروح القدس أن نسجد بالروح والحق، ونقدم ما يطلب الآب.
وهكذا نرى هنا أن الأربعة والعشرين شيخًا «خرُّوا قدام الجالس على العرش، وسجدوا للحيِّ إلى أبد الآبدين».
أوَليس الحال هكذا أبدًا؟
إنه في أعمق وأسمى صور السجود، تكون أفكارنا وحاسياتنا أعظم وأعمق من أن نعبِّر عنها كلامًا! فالإنسان لا يطرح بنفسه على الأرض لكي يرنم، وإنما هو يخرُّ ليعبد ذاك الذي يسجد له، معبِّرًا بسجوده عما لم يستطع التعبير عنه بلسانه.
لقد ألقى الشيوخ بأنفسهم على الأرض ليس لكي يتكلَّموا، وإنما ليعبِّروا عن التوقير والتكريم والتمجيد الذي أحسّوا به. هم فعلاً تكلَّموا في السجود، وإنما بعد ما أخذوا المكان الصحيح وعلموا ما هم يفعلون.
أجل، أخذوا مكانهم اللائق بهم، أدركوا حقيقة ما كانوا يفعلون، وأدركوا مجد الذي كانوا في حضرته، وهذا كله حملهم على طرح أنفسهم، وطرح أكاليلهم قدامه.
وكما أن الشيوخ المُمجَّدين يخرِّون ساجدين في حضرة الخالق، كذلك نحن بدورنا، حينما نجتمع في حضرة الرب يسوع المسيح، فإننا ـ بالتمام ـ نكون في حضرة الخالق.
فتجدوا راحة لنفوسكم ( مت 11: 29 )
ما أعذب وقع هذه الكلمة على النفس: "الراحة"! وبالأخص في هذه الأيام المُتعبة، جميعنا نتطلع إلى الراحة، لكن أين الطريق إليها؟!
إن كلمة الله تعلن لنا الطريق الكامل نحو الراحة الحقيقية للإنسان. فأولاً هي تقدم راحة الضمير لكل نفس مُعذبة بآثامها وخطاياها، وذلك بناء على تعب ربنا يسوع المسيح لأجلنا وموته كبديلنا على الصليب، إذ يقول:
«تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم» ( مت 11: 28 ).
فلا راحة بعيدًا عن المسيح، الذي في معرفته اختباريًا بداية طريق الراحة الحقيقية.
ثم ثانيًا هناك راحة النفس والقلب في التمثل بالمسيح الذي حمل نير الخضوع لمشيئة الآب بوداعة واتضاع «احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم» ( مت 11: 29 ).
ثم ثالثًا، هناك الطاعة لكلمة الله؛ راحة الخضوع لسلطان الكلمة «هكذا قال الرب: قِفوا على الطرق وانظروا، واسألوا عن السُبل القديمة: أين هو الطريق الصالح؟ وسيروا فيه، فتجدوا راحة لنفوسكم» ( إر 6: 16 ).
وهناك راحة الشركة مع الرب والشبع بشخصه الكريم الذي يدعونا، أفرادًا وجماعات، بقوله: تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً» ( مر 6: 31 ).
وفي الرسالة إلى العبرانيين يحدثنا الرسول عن الراحة في أصحاح بأكمله (عب4) وينسبها إلى الله سبع مرات، قبل أن يختم بتحريض مزدوج على كلمة الله والصلاة، ونحن في سبيل اجتهادنا الروحي هنا لنتمتع بملء راحة الله هناك، ليكتمل الطريق الإلهي السُباعي إلى الراحة!
وكأنه يؤكد أنه في طريقنا إلى الراحة الأبدية، يمكننا أن نتذوق شيئًا غير قليل من حلاوة هذه الراحة ونحن هنا على الأرض، عندما نلهج في كلمة الله الحية والفعالة (ع12)، إنها راحة التأمل والتغذي بكلمة الله. ثم سادسًا ـ بإزاء احتياجاتنا، وضغوط الحياة وقسوتها، علينا «فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حينه» (ع16).
إنها راحة سكب قلوبنا أفرادًا وجماعات بكل ما فينا أمام إلهنا الذي مراحمه لا تزول.
وقريبًا جدًا ـ نحن المؤمنين ـ وبنعمة إلهنا، سندخل لا إلى راحة، ولا حتى إلى راحة أعدّها لنا الله، بل إلى راحة الله نفسه.
أطلب إليكم أيها الإخوة ... وأن تحرصوا على أن تكونوا هادئين، وتمارسوا أموركم الخاصة ( 1تس 4: 10 ، 11)
القراءة السطحية للكلمات التي في صدر هذا المقال قد تجعلنا نفهم ما تعنيه:
أن نكف عن الصَخَب في حياتنا. ولسنا ننكر أن التحريض ينطوي على قدر من النصيحة لأصحاب الأصوات المرتفعة والأشخاص دائبي الحركة الذين لا يكفُّون عنها، ومنظرهم الهائج يهيّج سواهم.
غير أنني أرى أن كلمات الرسول تستهدف أن نغرس في نفوسنا حالة الهدوء الباطني التي لا تتأثر بالقلق بما في الخارج، وأن يسود القلب، في هدأة المقادس وسكونها، سلام الله بمثابة حارس لتأمين النفس ضد عوامل العالم المُتنازعة وقوى إبليس الذي لا يهدأ. وسياج مثل هذا للفكر، لا يسَعنا إلا الاعتراف بحاجتنا القصوى إليه.
وسواء أدركنا، أو لم ندرك، الحاجة إلى روح الهدوء هذه، فلا مفرّ من مواجهة الحقيقة، وهي أن الرسول يحرِّضنا على الاجتهاد في غرسها وتدعيم قوائمها.
فالحرص على أن أكون هادئًا، معناه أن أجعل الهدوء مطلبًا ومطمعًا مسيحيًا، أبذل الجهد في سبيله من أجل خاطر المحبة والكرامة. علينا أن نعده هدفًا من أهداف الحياة الجديدة، أن نحفظ القلب مصونًا إزاء غزوات جحافل مشغوليات واهتمامات وانزعاجات هذه الحياة.
وإنني متيقن أن سكون الفكر هذا في متناول رجل الإيمان، بل وأكثر من ذلك أؤكد أننا في اليوم الذي نفتقد فيه سكون الفكر فاللوم علينا.
إن مجرَّد معرفتنا بوجود هذا المَثَل الأعلى في الكتاب المقدس شيء له وزنه الخطير، ويتلوه معرفتنا بأن هذا المَثَل الأعلى في متناول كل واحد منا. وإذ يملك سلام المسيح في قلوبنا عندئذٍ نكون قد امتلكنا سكون النفس وهدوءها. وسر نجاحنا في مساعينا نحو هذا الهدف هو الإيمان. ومن اليسير جدًا على المؤمن أن يتقبَّل هذا التحدي الذي لا جواب عليه «إن كان الله معنا (أو لنا) فمَن علينا؟» ( رو 8: 31 ).
إن اليقين الذي لا يتشكك بأن القدرة الإلهية تحرسنا وتهدينا، من شأنه أن يهَبنا إحساسًا بالطمأنينة والأمن لا يمكن لشيء على الأرض أن يزعجه.
أيها الأحباء .. علينا أن نتعلم كيف نتمسك بالسًكِينة الداخلية في غمار الشدة.
وعلى هذا الطريق المرسوم نتبع سيدنا الذي احتمل كل الشدائد غير هاربٍ منها، بل احتفظ في خلالها جميعًا بالسلام الداخلي الذي لا ينقطع.
هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي ( رؤ 3: 20 )
نحن نؤمن أن مجيء الرب قد اقترب، وهذا الرجاء هو امتياز يفرِّح قلوب المؤمنين إلاّ أنه يرتبط بوقفات للرب تجعلنا نفكر في جانب المسؤولية إزاء هذا المجيء:
(1) ها هو الرسول يعقوب يحرِّضنا على التأني وثبات القلب وعدم الأنين بعضنا على بعض، فيقول: «فتأنوا أيها الإخوة إلى مجيء الرب .. فتأنوا أنتم وثبِّتوا قلوبكم، لأن مجيء الرب قد اقترب.
لا يئن بعضكم على بعض أيها الإخوة لئلا تُدانوا. هوذا الديان واقفٌ قدام الباب» ( يع 5: 7 - 9).
فلنراجع أنفسنا ـ أحبائي المنتظرين مجيء الرب ـ ما هو مدى صبرنا وطول أناتنا؟ هل نحن هادئين؟ لنحذر الأنين الذي يقابله التأديب من جانب الرب، «لأن الرب يدين شعبه» ( تث 32: 36 ).
إنه يرى ويسمع ما يدور خلف الأبواب المغلقة، وفي قداسته لا يُهادن أقل شر في حياتنا. إن الأنين على إخوتنا هو دليل ضعف محبتنا «لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا» ( 1بط 4: 8 )، ونحن ينبغي أن لا نحكم في شيءٍ قبل الوقت ( 1كو 4: 5 ).
(2) وها هو الرب يخاطب ملاك كنيسة اللاودكيين، موبخًا فتوره واستقلاله عن الله «إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء»، مع أنه في واقع الأمر «الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان»، ولكن الرب يقدم له ما يُغنيه ويستره وينير عينيه، ثم يقدم له أعظم فرصة «هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع.
إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي» ( رؤ 3: 20 ). إنها شركة مجيدة، والوعد للغالب «سأعطيه أن يجلس معي في عرشي» (ع21).
ويا له من تباين! الرب على الباب واقفٌ ليصير المؤمن على العرش جالسًا.
(3) والرب سيخرج ليحارب المقاومين «وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون ... فينشق جبل الزيتون من وسطهِ ... واديًا عظيمًا جدًا» ( زك 14: 3 ، 4)، ويأتي الرب وجميع القديسين معه، ويؤسس مُلكه السعيد «ويكون الرب مَلكًا على كل الأرض» ( زك 14: 9 )
«فيُخفض تشَامخ الإنسان وتوضع رِفعة الناس ... ويدخلون في مغاير الصخور وفي حفائر التراب من أمام الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه (وقوفه) ليُرعب الأرض» ( إش 2: 17 - 19). ليتنا ونحن عالمون رُعب الرب نُقنع الناس ليتصالحوا مع الله ( 2كو 5: 11 ).
يا سيديَّ، ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلُص؟ فقالا: آمن بالرب يسوع المسيح فتخلُص أنت وأهل بيتك ( أع 16: 30 ، 31)
إن الله يمكنه أن يُخلِّص أي شخص، ويوجد أشخاص نقول عنهم إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يُخلِّصهم، والسجَّان الروماني أحد هؤلاء.
إن هذا الرجل كان عليه أن يكون وحشيًا ليمكنه أن يؤدي عمله، فنحن نقرأ أنه «ألقاهما (بولس وسيلا) في السجن الداخلي، وضبط أرجلهما في المقطرة» ( أع 16: 24 )، وكان الدم لم يجف بعد على ظهريهما.
إنه من الصعب أن تعتقد أن هذا الرجل هو بعينه المذكور عنه أنه «أخذهما في تلك الساعة من الليل وغسَّلهما من الجراحات، واعتمد في الحال هو والذين له أجمعون. ولما أصعدهما إلى بيته قدَّم لهما مائدة، وتهلَّل مع جميع بيته إذ كان قد آمن بالله» (ع33: 34).
إن ما حدث من تغيير في هذا السجان يمكن أن يُجريه الله فيك أنت شخصيًا أيها القارئ العزيز. وما الذي أحدث هذا التغيير العظيم؟
أحدثه سؤاله القائل: «يا سيديَّ، ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلُص؟ فقالا: آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك» وعدد34 يُريك أنه قد آمن بالله.
ربما تقول: ماذا تقصد من قولك:
الإيمان بالله؟ فأقول: ماذا تقصد أنت من إيمانك بشيء ما أو شخص ما أو خبر ما؟ إن إيمانك بالله لا يختلف شيئًا عن إيمانك بشخص إلا في كون إيمانك بالله له أساس أمتن وسبب أقوى.
إنه من الغريب جدًا أن نثق في بعضنا البعض ونشك في الله؛ نُمسك بكلمة المخلوق المائت ولا نثق بكلمة الله الخالق الحي. حقًا ما أعظم النور الذي يضيء طرقنا إن صدَّقنا الله وأيقنا أنه يعني ما يقول، ويُنفّذ حتمًا كل كلمة خرجت من فيه.
إن الرب يسوع في الأناجيل يطلب أن يُصدَّق. وإن واجبك هو أن تؤمن وتظل مؤمنًا. هذا ما غيَّر السجان، وهذا بعينه ما يغيّر حياتك أيضًا.
ليس عندي ما أقول أكثر من ذلك. إن المسيح أمامك ولك الحرية أن تقبله، فاقبله وثق فيه وصدِّق ما يقوله «مَن يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجًا» ( يو 6: 37 ).
إنه يقدِّم نفسه للخطاة وليس للأبرار.
إنه جاء لأنك كنت بلا قوة ولا تستطيع أن تعمل شيئًا، فالقِ بنفسك عليه وقُل له: يا سيدي إني أُسلِّمك نفسي كخاطئ ضعيف فخلِّصني واستلم حياتي.
وعفا شاول والشعب عن أجاج وعن خيار الغنم والبقر .. وعن كل الجيد، ولم يرضوا أن يحِّرموها. وكل الأملاك المُحتقرة والمهزولة حرَّموها ( 1صم 15: 9 )
إن خاتمة هذا الأصحاح تُرينا بمنتهى الوضوح الخط الذي سارت فيه أفكار شاول ورغباته. كان للتو قد سمع حكم صموئيل وقضاء الله عليه، مُذيَّلاً بهذه العبارة الخطيرة «يمزق الرب مملكة إسرائيل عنك اليوم، ويُعطيها لصاحبك الذي هو خيرٌ منك» وكنا نتوقع أن يكون لهذه الكلمات وقع الصاعقة على مسامعه، لكنه وبمنتهى الكبرياء واللامبالاة يقول لصموئيل:
«والآن فاكرمني أمام شيوخ شعبي وأمام إسرائيل». هذا هو شاول؛ قال إن الشعب هو الذي عفا عن المُحرَّم، كأن هذا خطأهم. «فاكرمني»، يا للادعاء الباطل! فقلبه الذي انغمس في الشر يطلب كرامة من مخلوقات حقيرة نظيره. ولذا قد رُفض من الله كحاكم لشعبه، ومع ذلك نجده يتمسك بفكرة الكرامة الإنسانية.
فيبدو أنه ما كان ليهمه رأي الله فيه بشرط أن يحتفظ بمكانته وبتقدير شعبه. على أنه قد رُفض من الله، وتمزقت المملكة عنه. وما كانت لتنفعه كثيرًا عودة صموئيل إليه بينما هو مُستمر في طريق العبادة الشكلية للرب.
«وقال صموئيل: قدموا إليَّ أجاج ملك عماليق. فذهب إليه أجاج فَرِحًا.
وقال أجاج: حقًا قد زالت مرارة الموت.
فقال صموئيل: كما أثكل سيفك النساء، كذلك تثكل أمك بين النساء. فقطع صموئيل أجاج أمام الرب في الجلجال».
إن الجلجال هو المكان الذي فيه دُحرج عار مصر عن إسرائيل، ونجده دائمًا يُذكر بالارتباط مع عدم الاتكال على الجسد والانتصار على الشر.
وهناك أيضًا كانت نهاية هذا العماليقي بيد صموئيل البار.
وفي هذا تعليم مهم لنا، فحين ينعم الله على النفس بإدراك حقيقة خلاصها من مصر بقوة الموت والقيامة، عندها تكون في أفضل وضع يمكّنها من النُصرة على الشر.
ولو كان شاول قد عرف شيئًا عن روح ومبدأ الجلجال، لَمَا كان قد عفا عن أجاج، لكنه كان مستعدًا فقط أن يذهب إلى هناك من أجل المملكة، لكنه لم يكن لديه الاستعداد بأية طريقة أن يسحق ويُنحِّي جانبًا كل ما فيه رائحة الجسد.
أما صموئيل، إذ تصرف بقوة روح الله، فإنه تعامل مع عماليق حسب مبادئ كلمة الله،
لأنه مكتوب: «إن اليد على كرسي الرب. للرب حربٌ مع عماليق من دورٍ إلى دور» ( خر 17: 16 ).
وكان يجب على ملك إسرائيل أن يعرف هذا.
أرفع عينيَّ إلى الجبال، من حيث يأتي عوني ( مز 121: 1 )
هذه العبارة تأتى في أغلب الأصول بلغة التساؤل «أ أرفع عينى إلى الجبال؟»
ولماذا تساءل المرنم بالذات عن رفع العين إلى الجبال؟
قد يقول البعض لأن الجبال عالية، أو لأن الجبال ثابتة لا تتزعزع، ولكن السبب المباشر والرائع، أن الجبال التى يقصدها هي الجبال التي بُنيت عليها أورشليم وبُنيَ عليها الهيكل، كان لدى المرنم شوق وحنين إلى بيت الله الموجود على الجبال.
وهنا نتوقف لنتساءل:
هل لنا ذات الرغبة التي كانت للمرنم؟ هل نشتاق ونتوق إلى الوجود في ديار الرب؟
قال داود «واحدةً سألتُ من الربِّ وإياها ألتمِس: أن أسكُنَ في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر إلى جمال الرب، وأتفرَّس في هيكلهِ» ( مز 27: 4 ). وقال بنو قورح: «اخترت الوقوف على العتبة في بيتِ إِلَهِي على السكنِ فِي خِيَامِ الأشرارِ» ( مز 84: 10 ).
إن الشيء الذي من المفترض أن يميز قديسي الله هو التعلُّق الشديد ببيت الرب، بالاجتماع إلى اسم الرب يسوع، فلا تكون لنا لذة ولا سرور إلا في العيشة بالقرب منه، وفي الاجتماع لاسمه.
قال أحدهم: ”إن ترانيم المصاعد كانت هامة جدًا بالنسبة للشعب وهم في أرضهم، وبالذات وهم صاعدون إلى أورشليم ليسجدوا، ولكن قوة هذه الترانيم والاحتياج إليها أصبح أكثر إلحاحًا عندما كان الشعب مسبيًا فى بابل، لقد كانت كلماتها كلمات الشوق والحنين“.
عندما ذهب الشعب إلى السبي نقرأ أنهم على أنهار بابل جلسوا، طبعًا جلوسهم على أنهار بابل يحكي عن الراحة، وشيء جميل أن تجلس على النهر وتتمتع بأروع وأجمل المناظر، ولكن وبالرغم من كل جمال وأمجاد بابل إلا أن هذا لم يُنسهم أورشليم وهيكل الرب، بل بالعكس زادهم حنينًا وشوقًا لبيت الرب وللصعود إلى بيت الرب.
ونحن نجد صدى لهذا الأمر في العبارة التي أمامنا «أرفع عينى إلى الجبال» فالمرنم له رغبة أن يصعد إلى بيت الرب ليتواصل مع السيد هناك.
"مُلقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم"
(1بط 5: 7 )
ليس في هذه الوصية الإلهية إمكانية لإطاعتها، ولكن الله على استعداد أن يجعلنا قادرين على تنفيذها، وما عليك أيها القارئ العزيز إلا أن تتجاسر وتلقى بنفسك وسط فيض عنايته.
ومن الأهمية أن نطيع هذه الوصية فننعم بالسلام والقوة، ويجب أن نصّر على طرح همومنا على الرب ليحملها، فذرة رمل واحدة تدخل العين تمنعنا من التمتع بأجمل المناظر، وهم واحد في القلب يعكر صفو سلامنا ويحجب تمتعنا بإلهنا ويبسط سحابة من الحزن على نفوسنا.
فيجب أن نلقى كل هم عليه. ومع أن بركة الشركة لا تظللها السحب، ومع أن الاستسلام للهم لا يفقدنا البركة، لكنه أمر لا يكرم الله أمام العالم إذ يجد أولاده مهتمين كأن لا أب لهم.
لذا يجب علينا أن نسلمه همومنا واحدة فواحدة. سلـّم همومك له كأنها لا تخصك لكنها تخصه هو متطلعاً إليه بالإيمان قائلاً "وهذه يارب، وهذه" فيجيب الرب قائلاً "وهذه أقدر أن أحملها".
وقال هربرت في أحد أشعاره "ضع همك في حقيبة إلهنا" وليس من طريق مؤكد للراحة أكثر من أن نبعث بكل اضطرابات الحياة وهمومها إلى إلهنا الحي كقول الوحي المقدس "لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدى الله" (فى4: 6)
ونحن نثق أنه سيستلمها في الحال، ولا يجوز لنا قط أن نعود ونأخذ شيئاً سبق أن سلمناه له.
وعلينا أن نسبح قائلين "مبارك الرب يوماً فيوماً، يحمِّلنا إله خلاصنا (يحمل أثقالنا)" (مز68: 19) .
"لأنه هو" وأنت تعرف مَنْ هو؛ إنه الأزلي الأبدي قديم الأيام القادر "أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر" (أف 3: 20 ) - الذي يكفى بل يزيد.
"يعتني بكم" إن قلب الله الرحيم يمتلئ اهتماماً بكل ما يعنيك، إنه يقرأ احتياجاتك ورغباتك ويسمع أناتك قبل أن تعبِّر عنها.
فليتنا نثق فيه، فألسنتنا تعجز عن التعبير عن كمال وعظمة أفكاره من جهتنا وغايته المنشودة في قلبه تتمثل في القول "أريد أن تكونوا بلا هم" (1كو 7: 32 ) .