ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟ ( مت 8: 26 )سُرُّوا أيها الرجال، لأني أُومن بالله أنه يكون هكذا كما قيل لي ( أع 27: 25 )
قارن تخاذل وخوف الاثنى عشر أمام تلك العاصفة الجليلية القصيرة بهدوء بولس أثناء العاصفة المُخيفة في البحر المتوسط وقد استمرت أسبوعين (أع27).
لم يكن بولس «قليل الإيمان» بل قال: «إني أؤمن بالله» ( أع 27: 25 )، واستطاع أن يبث الثقة الراسخة التي كانت عنده، في أولئك الذين كانوا معه على سطح السفينة المحطمة، وكانوا حوالي ثلاثمائة نفس.
والحق إن الله أعطانا روحه القدوس ليسكن في داخلنا، وفيه لنا قوة أعظم من أية قوة قد نتعرض لها، جسدية كانت أو روحية، وكما كان إسرائيل يقاتل عماليق في وادي رفيديم، وموسى على التل يشفع للنصر، هكذا أيضًا لنا شفيع كهنوتي عظيم في الأعالي في يده أمرنا، حتى إن الترنيمة الدائمة في أفواهنا هي:
«شكرًا لله الذي يعطينا الغلَبَة بربنا يسوع المسيح» ( 1كو 15: 57 )، وأولئك الذين لهم الثقة في غلبة الله لا يخافون الهزيمة قط.
ولكن الإيمان الذي يفشل في التمسك بموارد الله العظيمة التي أعدَّها لحفظنا وسلامتنا، إنما هو عُرضة لأن يُكتسح في أية لحظة ويهوي إلى قرارة اليأس، فتنطلق حينئذٍ الصرخة: «يا معلم، يا معلم، إننا نهلك!» ( لو 8: 24 ).
إن أولاد الله في الأزمة الحاضرة التي بين أمم العالم يُحزنون يسيرًا بتجارب متنوعة، لكي تكون تزكية إيمانهم ... توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح ( 1بط 1: 6 ، 7).
أما ضعفاء الإيمان فهم الذين يسقطون في الامتحان، إذ يغزو الخوف قلوبهم وفي إثره الشك والجُبن.
والرب عرف هذا الضعف في تلاميذه، لذلك قُبيل انطلاقه قال لهم: «لا تضطرب قلوبكم» ( يو 14: 27 ).
لأنه إذا كان قد استولى عليهم الرُعب المزعج وقت العاصفة والرب معهم، فماذا كانت حالتهم يا تُرى عندما ارتفع عنهم إلى الأعالي؟ قال الرب إن في العالم ضيقًا للمؤمنين، ولكن لهم أن يثقوا لأن الرب نفسه قد غلب العالم وفيه للمؤمنين سلام ( يو 16: 33 ؛ 1يو5: 4).
بعد هذه الكلمات مباشرة أحرز الرب نُصرة الصليب وأُبيدت قوة الشيطان الذي ينفث سموم ”الخوف من الموت“ إلى القلوب الضعيفة المرتعبة، فأصبح ممكنًا لرجال الإيمان أن يتغنوا الآن بالقول:
ما دمتَ تحفظ الحياةْ لا نرهَبُ الهلاكْ
في الضيقِ أو حينَ النجاةْ نكونُ في حِماكْ
إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله. ( 2كو 4: 4 )
إن الإنجيل هو بشارة نعمة الله ( أع 20: 24 )، فالله في شخص ابنه الحبيب قد نزل من السماء، في محبة كاملة، لكي يعلن محبته هذه للخطاة.
إن حالة الإنسان كانت رديئة لدرجة أنه لم يوجد شيء سوى عمل الله يستطيع أن يخلِّصه من خطاياه أو يُرجعه ثانيةً إلى شخصه المبارك.
بسبب ذلك قد وضع ربنا حياته على صليب الجلجثة، قد وضعها لأجل أعدائه، لأجلك ولأجلي. وعلى أساس سفك الدم هذا، وليس على أساس أي شيء آخر البتة، يستطيع الله الآن أن يمحو خطايانا. لا يوجد شيء سوى دم المسيح يستطيع أن يغسلنا من آثامنا.
ثم إن الإنجيل هو أيضًا بشارة مجد المسيح ( 2كو 4: 4 )، لقد نزل الرب يسوع إلى هذه الأرض وصار في نعمته إنسانًا ثم رجع أيضًا (بعد أن أكمل الفداء) إلى المجد.
وهكذا الإنجيل ينادي بمسيح حي في المجد كغرض الإيمان. الله الآن ليس فقط يخلِّص الخطاة من خطاياهم ومن الجحيم، بل يباركهم بإعطائهم مكانًا في المسيح أمامه في السماء.
كل مَن يؤمن بالرب يسوع يستطيع أن يتطلع بالإيمان إلى أعلى، إلى نفس مجد الله ويقول: ”المسيح مخلِّصي في السماء، فمكاني أنا أيضًا هناك، وذلك لأن الله قد باركني بكل بركة روحية في المسيح في المجد، وقريبًا جدًا سأكون معه هناك في جسد مثل جسده“.
وأخيرًا أقول إن الإنجيل هو بشارة الله المبارك ( 1تي 1: 11 )، إن الله قد اكتفى بعمل المسيح الكامل على الصليب. كل الدين الذي له على الخاطئ قد سدده المسيح عن آخره إلى الأبد. نستطيع أن نقول، في يقين، بأن الله يجد الآن سروره الكامل في أن يبارك كل خاطئ يأتي إلى المسيح ويؤمن به.
ثم إن مجد الله وقوته ومحبته تتضافر معًا لخلاص الناس، ليس على أساس المكان الموجود فيه كل منهم كخاطئ هنا على الأرض، بل على أساس المكان الموجود فيه المسيح في الأعالي. ليس على أساس ما عليه الخاطئ في حالته البائسة التعيسة، بل على أساس ما عليه الرب يسوع كالإنسان المُقام والممجَّد.
ما أعظم هذا الإنجيل! الله مصدره، الابن المبارك، ميتًا ومُقامًا ومُمجدًا هو موضوعه. إنه يعلن إعلانًا كاملاً نعمة الله ومجد الله، كما يقدم أيضًا للهالكين خلاصًا عظيمًا مقرونًا بمجد الله.
فقال أبرام للوط: لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخوان ( تك 13: 8 )
لقد رأى إبراهيم أنه لا يليق أن تستمر المخاصمة بين رعاة لوط ورعاته، خصوصًا وقد «كان الكنعانيون والفرِزّيونَ حينئِذٍ ساكنين في الأرضِ» (ع7)، لأنه لو بلغت إلى أسماعهم أخبار مُنازعات جيرانهم لهجموا عليهم. ففي الاتحاد القوة، وفى الانقسام الضعف.
وفضلاً عن ذلك فإن إبراهيم أدرك تأثير الانقسام والخصام على الشهادة، إنهما من الأعمال الذميمة التي تهين اسم الله، وتحقر شأن عبادته. ليت جميع أولاد الله يتجنبون كل عوامل المنازعات والانقسامات ويعلمون جميعًا أنهم أولاد أب واحد.
وهكذا دعا إبراهيم لوطًا وقال له: «لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخوانِ. أ ليست كل الأرضِ أمامك؟ اعتزِل عني. إِن ذهبت شمالاً فأنا يمينًا، وإِن يمينًا فأنا شمالاً» ( تك 13: 8 ، 9).
لقد دلّ هذا الاقتراح على منتهى الحكمة.
فإنه إذ وجد أن هناك مصدرًا مستمرًا للتعب والمشاكل، وأنه إن تكلم مع لوط بالشدة، فقد يرُّد عليه بنفس الروح، وقد يؤدى ذلك إلى عداوة مُستحكمة.
لذلك رأى أنه من الحكمة أن يستأصل أصل الشر من جذوره واقترح أن ينفصل الواحد عن الآخر.
كذلك دلّ هذا الاقتراح على النُبل والشرف وإنكار النفس مع التواضع. فإنه بلا مَراء كان له حق الاختيار باعتباره أكبر سنًا وباعتباره رئيس الجماعة، ولكنه تنازل عن هذا الحق حبًا في الصُلح والسلام.
كما دلّ هذا الموقف أيضًا على الإيمان، فإن إيمانه كان قد بدأ يأخذ مركزه اللائق به.
وبدأ يتزايد قوة وعظمة. إن كان الرب قد وعده أن يظلله بعنايته ويعطيه ميراثًا، فلم يكن هناك مُبرر للخوف من أن يسلبه لوط ما ضمنه له الرب الأمين. لهذا فضّل ألف مرة أن يختار له الرب من أن يختار هو لنفسه.
إن الإنسان الذي ركَّز كل ثقته في الله، لا يبالي كثيرًا بأمور هذا العالم، لأنه يرى الرب ميراثًا ثابتًا له. وإن كان له الرب، فإن له كل شيء.
وواضح من التاريخ المقدس أن مَنْ يختار لنفسه ليس بأفضل ممن يسلِّم الأمر لله، وكأن المؤمن الروحي يقول: ليختَر الآخرون لأنفسهم إن أرادوا، أما أنا فقد تركت أمري بين يدي الرب ليختار لي نصيبي ( مز 47: 4 ).
بسطت ذيلي عليكِ وسَترت عورتَكِ، وحلفتُ لكِ، ودخلت معكِ في عهدٍ، يقول السيد الرب، فصرتِ لي ( حز 16: 8 )
في الوقت الذي ينكر فيه الناس نعمة الله، يجب على كل أولئك الذين يُقيمون فيها؛ كل أولاد الله الحقيقيين، أن يعظموا هذه النعمة ويمجِّدوها.
وفي أقوال النبي حزقيال نرى صورة جميلة ترسم لنا نعمة الله كما خُلعت على أورشليم.
فقد كانت إلى حزقيال كلمة الرب التي بيَّنت بالتفصيل حالة أورشليم قبل افتقادها «مَخرجُك ومَولدُكِ من أرض كنعان. أبوكِ أموري وأُمكِ حثية» ( حز 16: 3 ).
ويا له من مولد ونسب!! أَوَليس هذا ما يتفق مع مولدنا ونسبنا؟
لقد حُبل بنا ووُلدنا بالخطية والإثم، ”وطُرحنا على وجه الحقل بكراهة أنفسنا يوم وُلدنا“ وكنا ”مدوسين بدمنا“ (ع5، 6)، مثل ذلك الإنسان الذي كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فوقع بين اللصوص.
وماذا كان يمكن أن يعمل طفل وليد مطروح في العَراء على قارعة الطريق، عاجزًا مُشرفًا على الموت؟
لقد تجرَّد من كل قوة ومقدرة.
لكن الرب مرَّ به فتحنن عليه وأول ما عمل أمرَ له بالحياة «فقلت لكِ: بدمك (وأنت في دمك) عيشي» (ع6).
والنعمة كذلك تعطي الميت حياة قبل كل شيء، لأننا كنا أمواتًا بالذنوب والخطايا.
ثم ماذا بعد ذلك؟ اقرأ معي الأصحاح السادس عشر من سفر حزقيال، تجد الرب يقول: «بسطت ذيلي عليكِ وسترت عورتك ... حلفت لكِ، ودخلت معكِ في عهدٍ .. فصرتِ لي ... فحممتُكِ بالماء، وغسلتُ عنكِ دماءكِ، ومسحتك بالزيت، وألبستك مطرَّزة، ونعلتُكِ بالتُخس، وأزَّرتك بالكتان، وكسوتك بَزًا، وحلَّيتك بالحليِّ، فوضعت أسورةً في يديكِ وطوقًا في عُنقك. ووضعت خزامةً في أنفك وأقراطًا في أذنيك وتاج جمالٍ على رأسكِ» (ع8- 12).
وماذا بعد كل هذا؟ هل فعلت تلك المولودة شيئًا؟ كلا ولا شيء. فمن اللحظة التي فيها قال الرب: «عيشي» إلى الوقت الذي وضع فيه بيده الكريمة تاج الجمال على رأسها، كان كل شيء من عمله هو. هكذا الكل من النعمة. بالنعمة فقط ولا شيء غير النعمة.
فلنعظم نعمة الله بأن نعيش ونحيا كما يليق بأُناس لهم حياة الله، قد غُسلوا من خطاياهم ومُسحوا بالزيت ـ بالروح القدس، وأمامهم في المجد أجمل الأكاليل.
علمني يا رب طريق فرائضك، فأحفظها إلى النهاية. فهمني فأُلاحظ شريعتك، وأحفظها بكل قلبي ( مز 119: 33 ، 34)
وإنني أتعلَّم من الكتاب المقدس أن المؤمنين رجعوا إلى الله، لكي ينتظروا ابنه من السماء.
وأنه قد صار لهم الوعد بأنهم لن يهلكوا، وبأن أحدًا لن يقدر أن يخطفهم من يد المسيح، بل سوف يثبتهم الله إلى النهاية لكي يكونوا بلا لوم في يوم ربنا يسوع المسيح، وأن لهم نصيبًا في هذه الامتيازات بالإيمان بالمسيح يسوع، الأمر الذي بسببه قد حُسب لهم البر؛ وأن المسيح الذي أطاع حتى الموت وعمل عملاً كاملاً فوق الصليب من أجلهم، هو الآن برهم وقد صار لهم من الله هكذا.
وأن دمه الكريم يطهر من كل خطية، بحيث إننا مقبولون في المحبوب؛ وأننا مقدسون، أي مُفرزون لله الآب بذبيحة يسوع المسيح ربنا مرة واحدة إلى الأبد، وبواسطة عمل وقوة الروح القدس، بحيث إن جميع المؤمنين هم قديسوه وأننا في أوضاعنا العملية مُطالبون أن نتبع القداسة وننمو إلى قياس قامة ملء المسيح ـ ذاك الذي سوف نتغير على صورته في المجد تغيرًا كاملاً. وأتعلَّم أنه كما كانت نعمة الله ومحبته هما مصدر ومنشأ كل بركة، فإن الاعتماد المستمر على تلك النعمة هو العامل الذي يعيننا أن نتبع خطوات المسيح ونعيش لمجده، ذاك الذي ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته. وأتعلَّم أن الرب ترك لنا رسمين ولكليهما صِلة وارتباط بموته؛ أي المعمودية وعشاء الرب: الأول كنقطة أولى، والآخر كمنهاج دائم في كنيسة الله. وأتعلَّم أن كل واحد سوف يعطي حسابًا لله عن نفسه وينال ما صنع بالجسد خيرًا كان أم شرًا، وكما يرث الأبرار الحياة الأبدية، فإن الأشرار سيُعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب، إذ يُطرحون في بحيرة النار المُعدَّة لإبليس وملائكته؛ وأن كل مَنْ لا يوجد مكتوبًا في سفر الحياة يُطرح في بحيرة النار. وأتعلَّم أن كتب العهد القديم والجديد موحى بها من الله ويجب قبولها بوصفها كلمة الله المطبوعة بسلطانه الإلهي، وأن شهادة الرب تصيِّر الجاهل حكيمًا، وأن كلمة الله تميز أفكار القلب ونياته.
إذ وُجد في الهيئة كإنسانٍ، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ( في 2: 8 )
تميزت طاعة المسيح بتلك الصفة غير المتغيرة؛ صفة التوافق الكامل مع إرادة الله الآب، فكانت طاعته دائمًا في غير إبطاء وفي غير تردد.
قد تكون الطاعة بين الناس نتيجة للإغراء أو ربما بالترهيب. والإرادة المعاندة قد تلين بالتوسلات الرقيقة أو بالعقوبات الرادعة التي توقعها إرادة عُليا أخرى، لكن طاعة ربنا يسوع المسيح لم يكن فيها هذا الخليط؛ إنها نقية من منبعها. لقد كان طعامه أن يعمل مشيئة الذي أرسله ويُتمم عمله ( يو 4: 34 )، وكان يحيا بكل كلمة تخرج من فم الله ( مت 4: 4 ). «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت» ( مز 40: 8 )، هذه كانت لغة قلبه على الدوام.
وإرادته لم تَسِر إلا في اتجاه واحد فقط، وعلى ذلك كانت إرادة الابن على الدوام في اتحاد كامل متوافق مع إرادة الآب.
ولنلاحظ أن الروح القدس في شهادته عن طاعة المسيح، يستعمل كلمة تُعبِّر عن خضوع الابن لإرادة الآب تعبيرًا فائقًا. فكلمة «أطاع» في اللغة الأصلية تُعبِّر عن ”عادة الإصغاء المقرونة بنية الطاعة“، ولذلك فهي تدل على مبلغ انقياد المسيح انقيادًا كاملاً لِما كان يسمعه من الله.
قال الرب: «لأني في كل حينٍ أفعل ما يُرضيه» وأيضًا «ولست أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علَّمني أبي» ( يو 8: 28 ، 29)، وأيضًا «أعلمتُكُم بكل ما سمعته من أبي» ( يو 15: 15 ).
وقد سبق للأنبياء أن تنبأوا عن عادة الاتكال الكُلي على إرادة الله المُعلنة، تلك العادة التي كانت عند الابن المبارك.
فإشعياء سبق وخبَّر عما ستكون عليه لغة عبد يهوه البار «يوقظ كل صباحٍ، يوقظ لي أُذنًا، لأسمع كالمتعلِّمين» ( إش 50: 4 )، والرب لم يتزحزح عن هذه الصفة؛ صفة الاتكال المتواصل، ولقد قال:
«الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل ... أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا. كما أسمع أدين، ودينونتي عادلةٌ، لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني» ( يو 5: 19 ، 30).
والابن المبارك في طاعته على الأرض لإرادة الآب، كان في تباين مُطلق مع كل ما كان حوله.
فالذات ـ كالدافع المتحكم ـ لم تكن فيه بالمرة، ومصدر كل حركة من حركاته كان في إرادة الله التي كان يتلقنها بأُذنه الطائعة.
كم وجد الآب كل السرور في ابنه المطيع هذا!
وجاء جدعون إلى الأردون وعبَرَ هو والثلاث مئة الرجل الذين معه مُعيين ومُطاردِين ( قض 8: 4 )
عدد قليل من الرجال بقيادة جدعون، ولكنهم مُنتخَبون ( قض 7: 1 - 8)، يحاربون الآلاف من المديانيين الأعداء ( قض 8: 10 ).
ولكن منذ متى كانت الكثرة مُصاحبة النصرة أو السمو في موازين الله؟
إن الرب ليس عنده مانع أن يخلِّص بالكثير أو بالقليل ( 1صم 15: 4 ). إن ”النوعية“ لا ”الكمية“ هي ما يهم الله في الأساس دائمًا.
ولقد استخدم الرب هؤلاء الرجال المُخلِصين في نُصرة عظيمة تاريخية، والرائع أنها جاءت في أيام عصيبة كارثية؛ أيام حكم القضاة. إن التاريخ يتغير، وأمانة شعب الله تتبدل، أما إلهنا فلا يعتريه تغيير ولا ظل دوران؛ هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد.
رجع هؤلاء الرجال من محاربة الأعداء في الخارج ليجدوا مخاصمة ”الأحباء“ في انتظارهم في الداخل!
إلا أن اتضاع جدعون وحكمته وجوابه اللِّين منع كارثة جديدة بين الإخوة في شعب الله ( قض 8: 1 - 3)، وفشل مخطط جديد لعدو لا يرحم ولا يكف عن زرع الخصومات بين إخوة ( أم 6: 13 ).
آه ليت لنا في كل أسرة وعائلة وكنيسة محلية ولو جدعون واحد في هذه الأيام؛ ما كانت المخاصمة ترفع نفسها لهذه الحدود المؤسفة التي نراها بهذا الشكل ( حب 1: 3 ).
وبعد هذه النصرة العظيمة لهؤلاء الرجال، كان من الطبيعي أن يصيروا «مُعيين».
إن الإعياء هو الضعف المفروض فرضًا على أولئك الذين يجاهدون لأجل الرب في حروبه المقدسة، سواء ضد الأعداء من الخارج، أو ضد الذات والكبرياء من الداخل، وهذا أصعب بكل يقين.
نقول من الطبيعي أن يصبحوا «مُعيين»، ولكن العجيب أنهم استمروا «مُطَارِدِين» فلم يكفِهم ما تحقق بالأمس من نُصرة على 20 ألف رجل مخترطي سيف، وقتل غراب وذئب (الأميرين)، بل لا زال هناك زبح وصلمناع (المَلكين) ومعهما نحو 15 ألف باقٍ ( قض 8: 10 ).
لقد أدرك هؤلاء الأفاضل أن الحرب لأجل الرب مستمرة وأن المهمة الموكلة لم تنتهِ بعد، وأن الخدمة التي قبلوها ليتمموها لم تكتمل بعد!
حقًا إن وجود الظروف الضيقة التي تجعلنا مُعيين، لا ينبغي أبدًا أن تخفض من عزيمتنا لأن نبقى على الدوام مُطَارِدِين.
هوذا نفس القمر لا يُضيء، والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرِّمة، وابن آدم الدود؟ ( أي 25: 5 ، 6)
«ابن آدم الدود» .. من هذا التعبير يمكننا أن نسأل لماذا يُشبَّه الإنسان بالدود؟
الدود ككائن حي صغير يُشير للإنسان الخاطئ في عدة أشياء:
أولاً: في بعض الترجمات تأتي كلمة ”دودة“ maggot بمعنى ”يرقة“، ومعظم اليرقات تنشأ في أوساط مُظلمة، وهذا يُشير بكل وضوح إلى ما أصبح عليه الخطاة: فهم أنفسهم ظلمة ـ بحسب الطبيعة ـ ( أف 5: 8 )، ويحبون الظلمة ( يو 3: 19 )، وهم مُظلمو الفكر ( أف 4: 18 )، وأعمالهم هي أعمال الظلمة ( أف 5: 11 )، وبدون الإيمان نهايتهم الظلمة الخارجية ( مت 8: 12 ؛ مت22: 13؛ مت25: 30).
ثانيًا: الدود من الكائنات التي تسير بطريقة دودية ـ أي فيها اعوجاج والتواء ـ وهذا يُشير إلى الخطاة في طبيعة عيشتهم وتصرفاتهم. وهذا يتوافق مع الوصف الخطير الذي استخدمه كل من موسى وبولس لوصف الأشرار بأنهم جيل أعوج وملتوِ ( تث 32: 5 ؛ في2: 15).
ثالثًا: الدود كائن أرضي، ترابي، دائمًا فمه مُلاصق للتراب، بعكس الكائنات التي بإمكانها الطير في أجواء عُليا، وهكذا الخطاة: فإن تفكيرهم ينصب في كل ما هو أرضي، فقيل عنهم إنهم يفتكرون في الأرضيات ( في 3: 19 )، أما الأمور الروحية السماوية فلا تشغلهم ولا تلذ لهم.
رابعًا: غالبًا ما يتغذى الدود على ما قد تعفن وفسد، سواء كان بقايا طعام تالفة، أو رّمة حيوان عفنة، أو جثة إنسان قد اعتراها الفساد.
هل يزيد ما يتغذى عليه الخاطئ عن عفن وفساد؟ بالطبع كلا، فالفساد عينه في ما تراه عيناه ـ سواء في الفضائيات التي تقدم سمومًا، أو في المواقع الإباحية في الانترنت ـ وبالمثل أيضًا فيما تسمعه أُذناه، وفي الأماكن القذرة التي تأخذه إليها قدماه.
عزيزي القارئ يا مَن ما زلت إلى الآن في خطاياك، يوجد رجاء لنفسك البائسة في المسيح فقط، الذي إن قبلته مخلصًا لك، وأعطيته الفرصة ليمتلك حياتك، فهو قادر أن يغيِّرك بالتمام، من كائن أرضي ترابي إلى إنسان سماوي، من شخص حياتك وفكرك في الظلمة إلى ابن لله من أولاد النور، قادر أن ينتزعك من الجيل المعوج ويضمك إلى عائلة الله، وأن ينتشلك من جو العفن والفساد إلى مُتعة الشركة مع الله.
كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله ( مز 42: 1 ،2)
من الناحية الاختبارية فإن العطش هو تعبير عن رغبة مُلحَّة في النفس. إنه الشعور بالفراغ الداخلي والتعطش إلى شيء معين. وهناك اتجاهان لهذا العطش:
أولاً: عطش تجاه العالم وأموره: "كثيرون يقولون مَنْ يُرينا خيراً" ( مز 4: 6 ) مع أنه قد كثرت حنطتهم وخمرهم. فمع توفر الإمكانيات المادية لا يوجد شعور بالاكتفاء أو الارتواء، بل هناك فراغ دائم وعطش مستمر. هكذا كان الحال مع السامرية التي عاشت مع خمسة أزواج والسادس لم يكن زوجها وظلت في عطش تبحث عن المزيد. إن الخطية لا تحقق الارتواء مع أن لها "تمتع وقتي" أو لذة وقتية، لكنها تزول سريعاً، ربما في لحظة ممارستها ويظل الفراغ باقياً. بل أنه مع الممارسة يتعمق الفراغ أكثر ويزداد العطش. عن هذا أيضاً قال الرب يسوع "كل مَنْ يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً" ( يو 4: 13 ). والنفس البشرية لا يمكن أن ترتوي من مصادر العالم وينابيعه التي هي "آبار مشققة لا تضبط ماء" ( إر 2: 13 ).
ثانياً: العطش إلى الله: ففي مزمور63 عندما كان داود هارباً في برية يهوذا متغرباً عن وطنه ومدينته، ورغم أنه مسيح الله، لكنه مُضطهد من عدوه شاول، فإنه في ضيقته يحول نظره إلى الله ويقول من أعماقه: "يا الله إلهي أنت إليك أبكر. عطشت إليك نفسي. يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء".
ودعونا نتساءل أيها الأحباء:
هل الظروف المعاكسة تنهض في نفوسنا أشواقاً مثل هذه؟ هل نشتاق إلى الله في البرية كما قد رأيناه في قدسه؟
هل اجتماعنا إليه يكون لأننا متعطشون ومشتاقون فعلاً للتمتع بساعة في محضره؟
إذا كانت نفوسنا مشتاقة ومتعطشة إليه شاعرة بجدوبة البرية ومرارتها حينئذ نقدِّر سعادة الوجود في المقادس.
هذا هو الارتواء الحقيقي. إن ينابيعه الفائضة لا تنضب على الإطلاق، وعلى الدوام "سواقي الله ملآنة ماء" ( مز 65: 9 ) وكل مَنْ يشرب من الماء الذي يعطيه هو، لن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي يعطيه هو يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.
أبفرودتس ... من أجل عمل المسيح قارب الموت، مُخاطرًا بنفسهِ، لكي يَجبُر نُقصان خدمتكم لي ( في 2: 25 - 30)
لما كان الرسول يقاسي في رومية ألم الأحزان والاحتياج كأسير الرب، جاءه أبفرودتس بخدمة من كنيسة فيلبي.
ومع أن هذا الأخ النافع كان الرسول الحقيقي لتلك الكنيسة، إلا أنه كان أكثر من مجرد قناة لتوصيل هِبة القديسين، فلم يكن ليخدم بتذمر وعن إرغام، ولم يخالطه شيء من الروح الباردة الرسمية الجافة، بل كان ممتلئًا بمحبة المسيح، وكانت خدمته لبولس هذه بحسب شهوة نفسه إذ كان قلبه في خدمة الرسول للقديسين من أجل خاطر المسيح، كان عاكفًا على إرضاء الآخرين لخيرهم ( رو 15: 2 ).
والمثال الذي كان أمام عينيه على طول الطريق هو المسيح الذي «لم يُرضِ نفسه»، والفكر الذي كان يملأ عواطفه هو انعكاس «الفكر الذي في المسيح يسوع» ( في 2: 5 ).
وفي حماس نكران ذاته، خاطر أبفرودتس بنفسه وهو يؤدي هذه الخدمة، فمرض في رومية قريبًا من الموت. وقد كانت فرصة مرضه هذه عاملاً على ظهور ناحية من نواحي مشاعر هذا الإنسان الرقيقة، إذ كان من أسباب قلقه وانزعاجه وهو مريض، أن خبر مرضه وصل إلى القديسين في فيلبي.
فحزن لأنه كان، ولو أن ذلك من غير قصد، سبب حزن لهم. ويا لها من نظرة رقيقة! ويا له من اهتمام شفيق أن يخاف على إخوته من انزعاجهم بسببه!
بل ويا له من إنكار تام للذات! وفي الحق، لقد كان أبفرودتس شخصًا نادرًا في روحه، عزيزًا في إحساسه.
قدَّر بولس التكريس غير العادي الذي كان يملأ نفس هذا الرجل، وسجّله في رسالة فيلبي تسجيلاً لا يُمحى، ليكون هذا النوع من التكريس موضع تسابق القديسين في كل زمان.
لقد كان أبفرودتس عاملاً ومتجندًا مع الرسول، ولكن قبل كل شيء كان ”أخاه“، على أنه لم يكن أخًا عاديًا كغيره من الإخوة «في المسيح»، بل كان أخًا بكل معنى الكلمة؛ أخًا حقيقيًا للشدة وُلد. ولذلك فإنه في إحساس عميق وتقدير حق يقول عنه «أخي»، كما تكلم بهذه اللغة عن تيطس ( 2كو 2: 13 ).
لقد اعتبره الرسول أخًا ينطبق عليه لَقب الإخوة كامل الانطباق، أخًا أحب بولس، وإخوته القديسين، لا «بالكلام واللسان، بل بالعمل والحق»، أخًا «للشدة وُلد» ( أم 17: 17 ).
لأنكم لم تأتوا إلى جبلٍ ملموس مضطرم بالنار ... بل قد أتيتم إلى جبل صهيون ( عب 12: 18 - 22)
«لم تأتوا» .. ونحن نقرأ هذه الأعداد، لعل شعورًا فياضًا بالطمأنينة، يندفق من كلمة الله، يملأك، ويملأني معًا، فقد قصد الرسول لقارئيه ولنا سويًا، أن نتنفس الصعداء في أثير أجواء النعمة، لا كمَن «أخذوا روح العبودية أيضًا للخوف»، بل كمَن «أخذنا روح التبني» ( رو 8: 15 ).
وإن كان الرسول في معرَض حديثه للإخوة العبرانيين، يذكر ستة أشياء لم يأتوا إليها، لكنه على رأسها، يُذكِّرهم «بالجبل المضطرم بالنار»، وهل مَنْ ينساه؟
أقصد منظر جبل سيناء، الذي عليه أُعطي الناموس، فتعال نتصوَّر معًا:
أـ الجبل: «وكان جميع الشعب يرون الرعود .. والجبل يدخِّن، ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد» ( خر 20: 18 ).
ب ـ ما أُعطى عليه: جاء الرب من سيناء .. وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم» ( تث 33: 2 ).
ج ـ الواقفون حواليه بدون اقتراب: «ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس، فهو يكلِّم به الذين في الناموس، لكي يستد كل فم، ويصير كل العالم تحت قصاص من الله» ( رو 3: 19 ).
فالجبل هو منصة قضاء نارية مُدخِّنة، والقانون أيضًا هو شريعة نارية، ومَن خالفه يموت بدون رأفة ( عب 10: 28 )، والله هو القاضي العادل الذي لا يعرف إلى الرشوة أو إلى اعوجاج القضاء سبيلاً، فكانت النتيجة أن: «كل تعدٍّ ومعصية نال مُجازاة عادلة» ( عب 2: 2 ).
«بل قد أتيتم» .. لقد سَرَد الرسول بالوحي ثمانية أمور مباركة، أتى إليها «شركاء الدعوة السماوية»، على رأسها: «جبل صهيون»، وما جبل صهيون، بالمقابلة مع سيناء، إلا رمز لمبدأ معاملات الله بالنعمة، لماذا؟
في المزمور الثامن والسبعين، نقرأ ملخصًا بليغًا لشر إسرائيل في مختلف محطات حياته، فبحسب استحقاقهم خسروا سُكنى الله في وسطهم، بل وجلبوا قضاءه عليهم، «رذل إسرائيل جدًا، ورفض مسكن شيلوه».
وهذا ما حدث في أيام عالي الكاهن. ولكن عاد بالنعمة، فاختار: «جبل صهيون الذي أحبه» ( مز 78: 68 )، ليسكن في وسطهم من جديد، فالرحمة تعفي الإنسان من القضاء الذي يستحقه، وأما النعمة فتهبه ما لا يستحقه، والأروع من هذا، أنها وهبتنا المسيح الذي لم نكن نحلم به.
إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء، فاخرجي على آثار الغنم ( نش 1: 8 )
يقول الحبيب للعروس: «اخرجي على آثار الغنم»، ذلك لأننا لسنا أول الطابور، بل سبقنا كثيرون من الأتقياء في اتّباع الرب. لكن علينا أول شيء أن نخرج. لقد دعا الله أبانا إبراهيم للخروج من أرضه ومن عشيرته، ولم يحدد له المكان، بل قال له: «إلى الأرض التي أُريك».
فلما أطاع وخرج، حينئذٍ ظهر له الرب، وبنى إبراهيم مذبحًا للرب الذي ظهر له ( تك 12: 1 - 7)، ثم بعد أن نجح في درس طاعة الإيمان والخروج، فقد تعلَّم شيئًا عن السجود المؤسس على الذبيحة (تك22).
ومرة أخرى لم يحدد الرب لإبراهيم مكان تقديم الذبيحة، بل قال له: «خُذ ابنك وحيدك، الذي تحبه، إسحاق، واذهب إلى أرض المُريَّا، وأَصعده هناك مُحرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» ( تك 22: 2 ).
هذا معناه أن الرب يطلب منا الخروج، من ثمَّ يرشدنا. علينا أن نخرج أولاً عن كل ما يُغاير كلمته قبل أن يكشف لنا فكره. والعريس لم يَقُل للمحبوبة:
أنا في هذا المكان أو ذاك، بل قال لها: «اخرجي».
ونحن أيضًا لن يمكننا أن نعرف أين يرعى حبيبنا، وأين يُربض، طالما أننا ما زلنا نتبع الأنظمة البشرية التي من صُنع الناس، لكن عندما ننفصل ونخرج، فإنه سيدرب الودعاء في الحق، ويعلِّم الودعاء طرقه ( مز 25: 9 ).
هناك كثيرون لا يريدون سوى المعلومات، لكن الرب يريد الطاقة الإيجابية للتحرك والنشاط. «اخرجي على آثار الغنم».
والأمر نفسه نجده في العهد الجديد، فلما سأل الرب اثنان من تلاميذ المعمدان: «يا معلم، أين تمكث؟»، فإنه لم يذكر لهما اسم الشارع بل قال لهما: «تعاليا وانظرا» ( يو 1: 39 ) وهو ما تكرر مرة ثانية في آخر أيام المسيح على الأرض، عندما قال لتلميذيه: «اذهبا إلى المدينة، فيلاقيكُما إنسانٌ حاملٌ جرة ماء. اتبعاه» ( مر 14: 12 ، 13).
ومن هذا كله نتعلَّم أن المسألة تحتاج إلى تدريب روحي، كقول الرسول بولس: «اتبع البر والإيمان ... مع الذين يدعون الرب من قلبٍ نقي» ( 2تي 2: 22 ).
فأول شيء يجب اتباعه هو البر، أي الانفصال عن الإثم، كل ما يعارض فكر الرب.
يلي ذلك أن نتبع الإيمان، أو بلغة العريس هنا: «اخرجي على آثار الغنم».
فستلد (العذراء) ابنًا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم ... ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره: الله معنا ( مت 1: 21 - 23)
لأي غرض جاء الله في وسط الناس؟ لا يمكن أن يكون هناك إلا سبب واحد لهذه الحادثة العظمى وهو الخلاص، ولا يمكن أن يكون هناك إلا غرض واحد وهو الفداء.
لأنه لو كان الله قد قصد أن يبعث برسالة تحذير أو إنذار أو دعوة للناس، فكان يكفي أن يقوم بهذه المهمة أحد عبيده الأنبياء لأن الله قد كلَّم الآباء قديمًا بالأنبياء، بأنواعٍ
وطرقٍ كثيرة.
ولو كان الله قد قصد أن يوقع دينونته العادلة على الأشرار بالنسبة لخطاياهم، لَمَا احتاج الأمر إلا إلى ملاك أو اثنين لتأدية هذه المهمة كما حدث عند انقلاب مدن الدائرة الأثيمة (سدوم وعمورة).
ولكن لا الناس ولا الملائكة كانوا يصلحون للغرض الذي كان الله مزمعًا أن يتممه، إنما عمانوئيل وحده هو الذي أتى قائلاً: «هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله».
وعندما يأتي عمانوئيل فلا بد أن يقف الناس والملائكة جانبًا، ولا بد أن تصغي كل أُذن لأنه أتى لإعلان وتنفيذ مقاصد المحبة الإلهية غير المحدودة «لأنه لم يُرسِل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم» ( يو 3: 17 ).
إذا كان الخطاة يخلصون فلا بد أن ينزل الله ليفعل ذلك لهم، وإذا نزل الله للخطاة فإنه ينزل إليهم كمخلِّصهم لأن نفس طبيعته تتطلب هذا، وحكمته قد وجدت طريقها لتنفيذه بما يُرضي عدالة العرش الأبدي.
لذلك كان اسم عمانوئيل هو يسوع.
ويا له من اسم مبارك كريم!
اسم العار والاحتقار على الأرض، واسم التشهير على الصليب، ولكنه الاسم الذي فوق كل اسم في السماء؛ الاسم الذي سيكون مصدر بهجة الكون إلى أبد الآبدين، وسيقرن هذه البهجة بتسبيح كل الخلائق في دائرة ملكوت الله الفادي.
لقد فتح العالم باب المذود لاستقباله وبذلك أعلن عن بُغضه واحتقاره له، ولكنه في وداعته غير المحدودة قَبِلَ الموضع الذي عيَّنوه له لكي يفتح أمام عيون المساكين والمحتقرين كنوز المحبة الإلهية الثمينة.
وهكذا تراءى في هذا العالم للملائكة الذين تهللوا لرؤية صلاح الله الذي تغلَّب على الشر، بينما الناس الذين فاض عليهم هذا الصلاح لم يحفلوا به.
لقد شفى المرضى وأشبع الجياع، وجفف دموع الأرملة، وقبَّل الأطفال، وبشَّر المساكين.
لقد افتقد الله البشر لأن «الله كان في المسيح مُصالحًا العالم لنفسهِ» ( 2كو 5: 19 ).
فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل! ... قد قتلت أُوريا الحثي بالسيف، وأخذت امرأته لكَ امرأةً، وإياه قتلت ... ( 2صم 12: 7 - 9)
المدهش أن سقطة داود المشينة لم تحدث وداود حَدَث صغير، ولا وهو مُطَارَد وواقع تحت ضغوط مختلفة، ولا حتى في بداية مُلكه، بل ما حدث حدث بعد أن مَلَكَ داود وثبت مُلكه، وبعد أن انتصر الانتصار تلو الآخر، كان آخرها منذ وقت قليل (2صم10).
وهكذا الحال بالنسبة لنا. فبعد قفزة روحية، أو خدمة ناجحة، أو نُصرة على خطية، أو شهادة واضحة، أو مدح من المؤمنين، أو كشف لحق من كلمة الله، أو أي سِمَة من سِمات التقدم الروحي، بعد كل هذا نحن نصبح أكثر عُرضة للسقوط!
فكلما ارتفعت على جبل كان احتمال سقوطك أكبر إن لم تتحذَّر وتحتاط لهذا الخطر.
وجديرٌ بنا أن نتذكَّر التحذير: «إذًا مَن يظن أنه قائمٌ، فلينظر أن لا يسقط» ( 1كو 10: 12 ).
وفي الوقت الذي ذهب فيه يوآب والجيش إلى المعركة، يقول الكتاب: «وأما داود فأقام في أورشليم»!! ( 2صم 11: 1).
كان من المُفترض أن ملك البلاد، وبلاده في حرب، يكون في مقدمة صفوف جيشه، ولا سيما إن كان هذا الملك كداود مُحارب منذ صباه. لكن داود نسيَ ـ أو تناسى ـ المعركة، وربما استسهلها، فكان ما كان.
ونحن، المؤمنين، ملوك في معركة، ملوك؛ فهذا مقامنا بالنعمة حصَّله المسيح لنا بموته على الصليب ( رؤ 1: 6 ). ثم إننا في معركة، يُخبرنا الكتاب أن طرفها الآخر هو الشيطان ومملكته المنظمة ( أف 6: 12 ).
فهل من الغريب توقُّع أن يحاول جاهدًا إسقاطنا ليشتكي، ويعيِّر، ويُذل، ويُطفئ شهادتنا! وتكتيكاته كثيرة ومتنوعة، ولعل أهمها وأكثرها استخدامًا أن يجرجرنا لفعل ما يحلو في أعيننا، وهذا هو السقوط بعينه.
لِذا علينا أن نصحو ونسهر ( 1بط 5: 8 )، أن نأخذ حذرنا ونراقب حياتنا. علينا أن نلبس سلاح الله الكامل، ونحارب بسيف كلمته ( أف 6: 10 - 18). لنتخذ أماكننا في صفوف جيش السيد. لنعمل لمجده.
لنضع طاقاتنا وكل ما فينا في يدي ذلك القائد العظيم ليعمل بنا ويقودنا سائرين في موكب نُصرته محصِّلاً لحسابنا النُصرة تلو الأخرى. ولتتذكَّر يا صديقي أنك إذا لم تكن في الميدان مع شعب الله تحارب، فلا بد أنك تتمشى على السطح مثل داود؛ وما أوخم العواقب!
فإما في المعركة وإما الدمار.
فقام أيوب ومزَّق جُبته، وجزَّ شعر رأسه، وخرَّ على الأرض وسجد، وقال: ... الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا ( أي 1: 20 ، 21)
أُسلم أيوب ليدي الشيطان، وكل ما كان لأيوب أُخضع كذلك لمساوئ وأذى هذا العدو «إنما إليه لا تمُد يدك». شعرة واحدة من أولاد الله لن تسقط بدون إذنه.
وما الشيطان إلا أداة وقتية لإتمام مشيئة الله، ولن يقدر أن يفعل أكثر مما أُجيز له. وكم هو نافع أن نتذكَّر هذه الحقيقة!
أما عن الضربات التي وقعت على أيوب، فإن أربع منها توحي، طبقًا للدلالة العددية، بالامتحان أو الاختبار الذي جازه عبد الرب. وقعت أولاها على البقر والأُتن، أي على وسائل العمل الذي هو مصدر الثروة.
ذلك أن السبأيون سقطوا عليها وضربوا الغلمان جميعًا بحد السيف ما عدا الهارب الذي حدَّث بما جرى.
ثم جاءت الضربة الثانية مباشرةً، لتقع على الغنم، مصدر الغذاء والكساء، وعلى الغلمان رعاتها. والعامل في هذه الدفعة هو «نار الله .. من السماء».
والضربة الثالثة استهدفت الجِمال، ودواب الأحمال والأسفار، مصدر الثروة التجارية، ومُنفذو هذه الضربة هم الكِلدانيون، وقد اكتسحوا الجمال والغلمان، تمامًا كما حدث مع السبأيين .. وأخيرًا وقعت الريح الشديدة على البيت الذي كان الأولاد والبنات يولمون فيه ولائمهم، بحيث لم تدَع سوى غلام يُبلِّغ خبر الكارثة.
وهكذا تنهال الضربات تباعًا، وقبل أن يستفيق من واحدة يأتي خبر التالية. وكانت ضربات بلا شفاء، متجمعة، صاعقة. وفي لحظات قصار تجرّد أيوب من كل شيء. حقًا لقد فعل الشيطان فِعله بالتمام بسماح من إله كُلي الحكمة.
لقد صارت الريح العاصفة بكل قوتها، فماذا عساه يفعل ذلك المتألم؟ لم يصدر من بين شفتيه أي تذمر وقد خسر كل مقتنياته، ولما بلغت التجارب والضربات إلى الذروة قابلها بنُبل رجل الإيمان، ولكن بقلب رقيق كسير.
فالجبَّة الممزقة وشعر الرأس المُجتز، مميزان على النادب الحزين. وقد أقرَّ بأن شيئًا لم يكن له بالاستحقاق، عريانًا أتى إلى العالم، وعريانًا سيعود. على أنه يتحول من الضربة إلى اليد الضاربة، ويتجاوز كل العِلل الثانوية، بشرية كانت أو معجزية، ويُلقي بأحزانه عند قدمي الرب «الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا».
وهكذا تبددت خيبة الشيطان بالتمام. كان هدفه أن يقصي أيوب عن الله، لكنه إنما زاده قُربًا إليه.
وهذا برهان على حقيقة إيمان أيوب.