وكان الفصح ... وكان رؤساء الكهنة والكتَبَة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه، ولكنهم قالوا: ليس في العيد، لئلا يكون شَغبٌ في الشعب ( مر 14: 1 ، 2)
يد الله هي العالية على الدوام، وحكمة الله هي التي تسود وتحكم كل شيء. وفي الأصحاح الرابع عشر من إنجيل مرقس نقرأ عن عشاءين أحدهما في بيت عنيا والآخر في أورشليم. الأول عشاء في بيت عائلة محبوبة من الرب (ع3- 9)،
والآخر عشاء يرسم ترتيبًا جديدًا في عيد الفصح (ع22- 26).
ومن شأن هذا الترتيب الجديد تنحية جميع الظلال والرموز ـ والفصح واحد منها ـ لإفساح المجال للحقيقة المؤسسة على موت المسيح وقيامته.
هذان العشاءان لهما وزنهما الكبير في تقدير الله إذ إن موت المسيح هو الحق المركزي العظيم، ليس فقط في عشاء الفصح، بل أيضًا في عشاء بيت عنيا كما رسمه روح الله أمام قلب وعواطف مريم.
لقد أحسَّت مريم بقرب موت المسيح، ليس بإعلان سمعته، بل بمشاعرها المُحِبَة للرب المخلِّص، وبفعل الروح القدس في قلبها الذي جعلها تشعر بخطر قريب الوقوع، لكنها لم تعبِّر عنه بكلمات، بل بتعبير عملي نبيل عميق المعنى، أدركه الرب وفسَّره بأنه عمل مرتبط بموته، إذ دهنت جسده بالطيب للتكفين.
وفي العشاءين قليلاً ما أدرك باقي التلاميذ هذا المعنى؛ معنى موت المسيح، لكن الله بيَّن أن يده هي العُليا وحكمته هي التي تحكم كل شيء.
وهذا واضح غاية الوضوح لأنه عند العشاء في بيت عنيا أراد رؤساء الكهنة والكتبة أن يمسكوه بمكر ويقتلوه، ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغبٌ في الشعب.
وكان الفصح بعد يومين ( مر 14: 1 )، لكن كانت حكمة الله في الأزل قد رتبت أن يكون موت المسيح في ذلك اليوم وليس في يوم آخر.
رتبت حكمة الله أن يكون موت المسيح في يوم الفصح الذي هو أول وأساس جميع الأعياد، في يوم الفصح الذي هو الظل الرمزي لموت المسيح.
وهكذا نرى كُلاً من الله والإنسان يرتب ويدبر، لكن لا حاجة بنا إلى القول بأن الله ينفذ مشيئته حتى ولو استخدم في ذلك الناس الذين دبروا ورتبوا أن لا يكون موت المسيح في عيد الفصح.
والواقع أن الله يعمل وِفق رأي مشيئته، وكل مشيئة أخرى ليست أكثر من أداة تخدم أغراض حكمته.
فليست أفكار وإرادة أولاد الله هي وحدها التي يستخدمها الله، بل يستخدم حتى الناس الأشرار.
طوبى لأُناس عزهم بِكَ، طرق بيتك في قلوبهم. عابرين في وادي البكاء، يُصيِّرونه ينبوعًا. أيضًا ببركات يغطون مورة ( مز 84: 5 ، 6)
قيل إن وادي البكاء طريق موصِّل إلى أورشليم ولم يكن فيه آبار، فهو ناشف بلا ماء، وكان الشعب يصعد إلى أورشليم في هذا الطريق مترنمًا ترنيمات المصاعد (مز120- 134). ومن الطبيعي أن الذي يسير على الأقدام، يبذل جهدًا ويحتاج إلى الماء ليعوِّض ما فُقد من الجسم. لكن الشعب كان يعبر هذا الطريق وأصوات الترنيم تعلو معبرة عن الفرح والسرور، لأنهم سيصعدون إلى أورشليم، وهناك يُرون قدام الله في صهيون ( مز 84: 7 ). وسرور الشعب لهذا الغرض جعله يرتقي فوق صعوبة وادي البكاء الذي بلا ماء، بل يصيِّرونه ينبوعًا.
عزيزي .. وأنت تعبر وادي البكاء، وادي الألم وأنت تحت تجربة معينة أجازك الله فيها، لا تنسى أن الرب هو غرضك وهدفك. إن التجربة موجودة وربما تشعر أنها ثقيلة، وتقول مع أيوب: «ليت كربي وُزن، ومصيبتي رُفعت في الموازين جميعها، لأنها الآن أثقل من رمل البحر، من أجل ذلك لَغَا كلامي» ( أي 6: 2 ، 3).
لا يا عزيزي، إنه لا تُصيبنا تجربة إلا بشرية، فالله لا يُجرِّب فوق الطاقة البشرية «ولكن الله أمين، الذي لا يَدَعنا نُجرَّب فوق ما نستطيع، بل يجعل مع التجربة المنفذ لنستطيع أن نحتمل» ( 1كو 10: 13 ). واسمع أيوب الذي نطق بهذه الكلمات، في نهاية اختباره يقول: «بسمع الأُذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني» ( أي 42: 5 ). ربما سمعت عن الرب الكثير، وهذا جميل، لكن ما أجمل أن تراه، حتى ولو في الألم.
عزيزي المتألم: تعال نحسبها مع رجل الحسابات المضبوطة: بولس الرسول، على الرغم من أنه تألم كثيرًا، وأُعطي شوكة في الجسد ( 2كو 12: 7 )، لكن اسمعه يقول: «فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا» ( رو 8: 18 ). وأيضًا اعتبرها ليست ثقيلة، بل قال عنها «خِفة ضيقتنا»، واعتبرها ليست دائمة، بل وقتية، ولكنها تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثِقَل مجدٍ أبديًا ( 2كو 4: 17 ). فهيا بنا نفرح ونحن واقعون في التجربة ( يع 1: 2 ). ليس نفرح فقط، بل نبتهج بفرحٍ لا يُنطق به ومجيدٍ ( 1بط 1: 6 ). وأخيرًا تشدد واحتمل التجربة لأنه مكتوب «طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة الذي وعدَ به الرب للذين يحبونه» (يع1).
فكرهت الحياة، لأنه رديء عندي، العمل الذي عُمل تحت الشمس، لأن الكل باطل وقبض الريح ( جا 2: 17 )
يبدأ سفر الجامعة، الذي يُقتبس منه تلك الكلمات بالتوقيع، ثم يتبعه التقرير، ويُختم بالنتيجة والتفقيط، وما بين التوقيع والتقرير في البداية، والنتيجة والتفقيط في النهاية، نجد تفنيدًا كتبه الجامعة بالوحي، لمظاهر صور الحياة المختلفة، سواء كانت عيّنات عشوائية متجانسة، يعيشها الكل، دون استثناء ( جا 1: 3 - 11)، أو كانت تخص مظاهر التَرَف واللَّذات كما عاشها هو ( جا 2: 1 - 11) أو كالتي يعيشها المنكوبون ( جا 4: 1 - 3).
وعندما أقول إن السفر يبدأ بالتوقيع، فلقد قصد الجامعة به في البداية، أن يُبرز لنا أن خُلاصة التجارب هذه، لم تُكتب من طائشٍ أرعن، بل من «ابن داود الملك» ( جا 1: 1 ) وأما الخُلاصة فهي: «باطل الأباطيل.. باطل الأباطيل، الكل باطل» ( جا 1: 2 )، وأما عن التفقيط، فأقصد به، أن كل مَن يعطي تقريرًا، أو تقديرًا لعمل أو مجهود، إن كتبه بالأرقام، يعود فيكتبه بالأحرف، ولكي لا يزيد عليه أحدٌ شيئًا، يكتب إلى جانبه: فقط لا غير، وهذا ما فعله الجامعة، وقَّع، أدلى بالخُلاصة، ثم فنَّدها، ثم فقَّط النتيجة، أقصد أنه في النهاية كتبها: «فلنسمع ختام الأمر كله: اتقِ الله، واحفظ وصاياه»، فقط لا غير ( جا 12: 13 ).
وكثيرًا ما نتساءل هل ما سجله لنا الجامعة في سفره هو صحيح؟
أقول لك: صحيح جدًا، ولكنه ناقص، بمعنى أن البُطلان والخواء حقًا هما واقع الحياة، وهذا صحيح، لأن الجامعة يكتب بالوحي، ولكنه ينقصه شيءٌ هام جدًا، وهو نور إعلان العهد الجديد: أن المسيح هو جوهر الحياة، الذي ما أن نجعله موضوع حياتنا الوحيد، إلا وتأخذ الحياة قلبًا نابضًا، بل وثوبًا برَّاقًا.
إن مَن ”كَرِهَ الحياة“ هو الملك، الذي لم يجرِّب إلاّ حياة القصور، ولكن أستلفت نظرك، أن بطرس الصياد، الذي جرَّب السجن بحرَّاسه وكثرة مغاليقه، والذي كتب للمتغربين المُشتَّتين، هو الذي علَّمنا بالوحي، أن نحب الحياة:
«لأن مَنْ أراد أن يحب الحياة، ويرى أيامًا صالحة» ( 1بط 3: 10 ).
قارئي، أَ تحب الحياة، أم تكرهها؟ لتَعِش الحياة كما توّد، بدون المسيح، فيقينًا ستكرهها. وهذا تقرير الوحي، ولكن إن كانت ”لك الحياة هي المسيح“، فيقينًا ستحبها وهذا هو تقرير الوحي، ونور الإعلان.
في سفر العدد حيث تبرز فكرة الشهادة للرب في البرية، وحيث نرى من الجانب الواحد فشل اليهود، ومن الجانب الآخر أمانة الله الذي لا يترك نفسه «بلا شاهد» ( أع 14: 17 ).
تلمع أمامنا بنات صلفحاد؛ الأب الذي مات قبل امتلاك الأرض ولم يكن له ابن ذكر.
إلا أن بناته الخمس أظهرن فضيلة وتقديرًا للميراث الإلهي سطع بوضوح عند التعداد الثاني للشعب، وقُرب ختام رحلة البرية، عند سهول موآب ( عد 26: 33 ؛ 27: 1- 11). ويمكننا أن نرى في أولئك الفتيات الخمس، خمسة أمور جميلة:
(1) الإقدام: «فتقدمت بنات صلفحاد..» ( عد 27: 1 ). فمطلوب أن نقدم في إيماننا، أول ما نقدم «فضيلة (أي شجاعة أدبية)» ( 2بط 1: 5 ). ومن الرائع أن ترتبط هذه الشجاعة بالتقدم الروحي صوب التمتع بالميراث الإلهي المقسوم لنا.
(2) الثبات «ووقفن أمام موسى وألعازار الكاهن وأمام الرؤساء وكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع» (ع2).
يا له من ثبات أمام قادة عِظام وشيوخ كبار في موقف صعب، يذكِّرنا بأخريات فُضليات كن واقفات بنفس الثبات في موقف أصعب في يومٍ تالٍ «عند صليب يسوع» (انظر يوحنا19: 25).
(3) الكلام: «قائلات».
كلامًا مختصرًا جدًا عبَّر عن أربع حقائق هامة، وهي أن أباهم قد مات في البرية، ليس تحت تأديب الرب، بل بخطيته مات، ولم يكن له بنون. وكان كلامهن قليل ولكن حكيم. فخرجت الكلمات مستحقة شهادة الرب الغالية عنها «بحق تكلمت بنات صلفحاد» (ع7).
(4) السؤال: «لماذا يُحذف اسم أبينا من بين عشيرته لأنه ليس له ابن؟» (ع4). وهو سؤال المفكرين اليقظين، لا الغافلين المُهملين للبركة.
من أكثر الأمور المشجعة أن نجد أحداثًا في الإيمان يسألون في المجال الروحي ليزدادوا فهمًا في كلمة الله، وعُمقًا في إدراك مشيئته.
(5) الطلب: «أعطِنا مُلكًا بين إخوة أبينا» (ع4). ويا لها من طِلبة يقدّرها الرب جدًا: أن نطلب التمتع العملي بما قد وهبنا إياه بالنعمة «الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح» ( أف 1: 3 ). قديمًا سُئل واحد هذا السؤال الفاحص: «ماذا طالبٌ أنت؟» ( نح 2: 4 ).
تُرى ماذا ستكون إجابتنا نحن اليوم؟
لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون .. انظروا إلى طيور السماء ... تأملوا زنابق الحقل ( مت 6: 25 - 28)
لقد قال الرب: «انظروا إلى طيور السماء» ( مت 6: 26 )، كما قال أيضًا «تأملوا زنابق الحقل» (ع28). فكأن المعلم العظيم هنا يصحبنا معه إلى رحلة خلوية، ويأخذ أفكارنا كيما نتعلم من خليقته دروسًا عظيمة.
أَ لم يَقُل الرسول مرة «الطبيعة نفسها تعلِّمكم» ( 1كو 11: 14 )؟ ها هو رب بولس، معلّمنا المجيد وسيدنا العظيم يدعونا لكي ننظر إلى الطيور، ونتأمل الزنابق في الحقول.
لنا إذًا درس من عالم الحيوانات ودرس آخر من عالم النباتات. وإن كان الخالق العظيم يعتني بكل المملكة الحيوانية والمملكة النباتية (انظر مثلاً مزمور104)، وإن كان الله هو الذي يُحيي الكل ( 1تي 6: 13 )، لكن ربنا يسوع هنا يوجه أنظارنا بصفة خاصة إلى الطيور (العصافير) وإلى الزنابق.
الأولى مجالها الجو والسماء، والثانية مجالها الحقل والأرض. ثم إن الأولى هي أقل الطيور أهمية، والثانية تُعتبر من أقل النباتات حجمًا.
وطيور السماء بخلاف كثير من المخلوقات الأخرى لا يهتم الإنسان قط بإطعامها، بل على العكس قد يفكر في اصطيادها وأكلها. وكذلك الزنابق هنا؛ إنها زنابق الحقول أو بالحري زنابق البراري، تلك التي لا يعتني بها أحد وربما لا يراها أحد من وقت أن تنبت حتى تموت.
بالنسبة للطيور هي لا تزرع ولا تحصد ولا إلى مخازن تجمع، كما يفعل الرجال عادةً في الحقل.
أما بالنسبة للزنابق فهي لا تتعب ولا تغزل كما كانت تفعل النساء في ذلك الوقت، في البيت ( أم 31: 19 ، 22، 24).
أما الدرس الذي نتعلمه من الطيور فهو عدم الاهتمام بما نأكل ونشرب، والدرس الذي نتعلمه من الزنابق هو عدم الاهتمام بالكساء والملبس.
كأن الرب هنا يقول لتلاميذه:
ارفعوا الأعين إلى فوق ترون الطيور، أو اخفضوها إلى أسفل ترون زنابق الأودية؛ هذه وتلك تحدثنا عن
اهتمام الله العجيب بخليقته
إنني أتعلَّم من الكتاب المقدس أنه يوجد إله واحد حي، أعلن ذاته لنا بالتمام في المسيح، وعرفناه كالآب والابن والروح القدس في وحدانية اللاهوت؛ ولكن كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة مُعلَن في الكتاب متميزًا بذاته:
يريد، ويعمل، ويرسل، ويأتي، ويقسِّم أي يوزع، وغير ذلك من الأعمال؛ أقانيم ثلاثة في إله واحد، ثالوث في وحدانية.
وأتعلم أن الله هو خالق كل الأشياء، لكن عملية الخلْق منسوبة شخصيًا للكلمة أي الابن، وإلى فعل روح الله.
وأتعلَّم أن الكلمة الذي كان عند الله وكان هو الله، صار جسدًا وحلَّ بيننا، فإن الآب قد أرسل الابن مخلِّصًا للعالم، وأن الكلمة، باعتباره المسيح، وُلد من مريم العذراء بحلول الروح القدس عليها، إنسانًا حقيقيًا، بلا خطية، حلَّ فيه كل ملء اللاهوت جسديًا؛ وهو نسل داود الموعود به حسب الجسد؛ هو ابن الإنسان، وابن الله؛ أقنوم مبارك، الله وإنسان، الإنسان يسوع المسيح، الممسوح، يهوه المخلِّص، وأنه مات من أجل خطايانا حسب الكتب «أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه»، وأنه حمل خطايانا في جسده على الخشبة، متألمًا من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يُقربنا إلى الله؛ وأنه أُقيم من بين الأموات، مُقامًا من الله، ومن تلقاء نفسه، بمجد الآب، وصعد إلى الأعالي، وجلس عن يمين الله.
وأتعلَّم أنه بعد صعود المسيح نزل الروح القدس ليسكن في شعبه أفرادًا وجماعة بحيث أنهم صاروا ـ من الناحيتين كأفراد وكجماعة ـ هيكلاً لله. ونحن مختومون وممسوحون بالروح الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى، وبه نصرخ «يا أبا الآب»، عالمين أننا أبناء.
وأتعلَّم أن المسيح سيأتي أيضًا لكي يأخذنا إليه، فيُقيم الراقدين الذين له، ويُغيِّر المؤمنين الأحياء لتكون أجسادهم جميعًا على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء؛ وأن أجساد قديسيه الذين يرقدون الآن سوف تُقام بمجد، وسوف ينطلقون ليكونوا معه.
وأتعلَّم أن الله قد أقام يومًا هو فيه مُزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجلٍ قد عيَّنه مُقدمًا إيمانًا للجميع إذ أقامه من الأموات، وأنه في النهاية سيجلس على العرش العظيم الأبيض ويدين الأموات صغارًا وكبارًا.
وأتعلم أن الله هو خالق كل الأشياء، لكن عملية الخلْق منسوبة شخصيًا للكلمة أي الابن، وإلى فعل روح الله.
وأتعلَّم أن الكلمة الذي كان عند الله وكان هو الله، صار جسدًا وحلَّ بيننا، فإن الآب قد أرسل الابن مخلِّصًا للعالم، وأن الكلمة، باعتباره المسيح، وُلد من مريم العذراء بحلول الروح القدس عليها، إنسانًا حقيقيًا، بلا خطية، حلَّ فيه كل ملء اللاهوت جسديًا؛ وهو نسل داود الموعود به حسب الجسد؛ هو ابن الإنسان، وابن الله؛ أقنوم مبارك، الله وإنسان، الإنسان يسوع المسيح، الممسوح، يهوه المخلِّص، وأنه مات من أجل خطايانا حسب الكتب «أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه»، وأنه حمل خطايانا في جسده على الخشبة، متألمًا من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يُقربنا إلى الله؛ وأنه أُقيم من بين الأموات، مُقامًا من الله، ومن تلقاء نفسه، بمجد الآب، وصعد إلى الأعالي، وجلس عن يمين الله.
فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكَّرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك ( مت 5: 23 ،24)
يوضح الرب هنا في أسلوب لا لَبس فيه، أنه لا يرضى بذبائح وتقدمات شخص في خصومة مع أخيه. وهو عين ما قاله الرب في إشعياء1: 11-15
"لماذا لي كثرة ذبائحكم، يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمناتٍ، وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسرُّ ... فحين تبسطون أيديكم أستر عينيَّ عنكم، وإن كثَّرتم الصلاة لا أسمع".
ويوضح سبب ذلك إذ يقول: "أيديكم ملآنة دماً". أليست هذه هي ديانة قايين، الذي كان قربانه لا زال فوق المذبح، ودماء أخيه القتيل تسيل فوق الأرض!
أ يقبل الرب تقدمة من شخص كهذا؟!
(قارن عا5: 22-24؛ إر7: 8-10).
هذا كان في العهد القديم، لكن في نور العهد الجديد نتعلم أن "مَنْ يبغض أخاه فهو قاتل نفس" ( 1يو 3: 15 ).
ويحذرنا المسيح من مجرد الغضب بلا لزوم على إخوتنا. فهل نستغرب بعد ذلك لماذا عبادتنا غير مُشبعة لقلب الله؟ ولماذا لا تُستجاب الكثير من صلواتنا ( مز 66: 18 ؛ 1يو3: 20-22)؟!
ألا تمتد كلمات المسيح هنا لتشمل العلاقة مع إخوتنا في الاجتماع ( 1تي 2: 8 )؟ هل يقبل الرب عبادة شخص في خصومة مع أخ؟ ثم ألا تمتد كلمات المسيح هنا لتشمل العلاقات الزوجية أيضاً؟
أليس روح الشجار والخصام في البيت بين الزوج وزوجته تعيق صلواتنا ( 1بط 3: 7 ).
لنتذكر أن الرب هنا يحذرنا من أن يكون لأخينا شيء علينا.
لاحظ أن الرب يفترض هنا أن الشخص قد أحضر قربانه ووصل به فعلاً إلى المذبح.
ثم فجأة تذكَّر أن لأخيه شيئاً عليه. فهل يقدمه؟ أيشفع هذا القربان له عند الله إزاء ظلمه لأخيه؟
أما يستطيع على الأقل أن يقدم قربانه لله ثم بعد ذلك على مهل يسوّي المسألة مع أخيه؟ الإجابة: كلا "اترك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك".
أولاً اصطلح مع أخيك ثم بعد ذلك تعال قدم قربانك. إن الرب في نعمته لم يَقُل خُذ قربانك ولا تَعُد ترى وجهي، بل بكل محبة يقول:
اترك قربانك قدام المذبح. وسوِّ المشكلة مع أخيك، ثم عُد إليَّ ستجدني في انتظار عودتك!
ولكن قبل كل شيء، لتكن محبتكم بعضكم لبعضٍ شديدة، لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا. كونوا مُضيفين بعضكم بعضًا بلا دمدمة ( 1بط 4: 8 ، 9) «وإنما نهاية كل شيء قد اقتربت، فتعقَّلوا واصحوا للصلوات» ( 1بط 4: 7 )
يلخِّص الرسول في هذا العدد الاتجاه المسيحي للعالم الذي نجتاز فيه. إنه عالم الفجور والتمرد حيث يفعل الناس إرادتهم الذاتية، وينغمسون في ملذَّاتهم، ويتكلمون بالشر على المسيحي الذي يتألم لأجل البر، ويتألم صابرًا، ويتألم في الجسد عوضًا أن يستسلم للخطية.
ففي مشهد عالم شرير، وفي مشهد الآلام الواقعة لا بد للمؤمن المسيحي أن يتذكَّر أن نهاية كل شيء قد اقتربت. والنهاية تعني الدينونة على غير المخلَّصين وبركة المؤمن المسيحي، ويتطلب ذلك التعقل والصحو للصلوات؛ التعقل بالنظر إلى النهاية التي تقود إليها الأمور الحادثة، والصحو لكل ما يحيط بنا، والصلاة من حيث العلاقة مع الله.
وإذا كانت الشهوة هي العلامة البارزة لدائرة العالم ( 1بط 4: 2 )، فإن المحبة هي أبرز علامة للشركة المسيحية (ع8). وهناك صفات أخرى تلمع في هذه الدائرة، ولكن الصفة التي تتوج الصفات الأخرى هي المحبة، وبدونها يصبح كل شيء آخر باطلاً.
ولذلك يقول الرسول: «ولكن قبل كل شيء (أو فوق كل شيء)، لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة» (ع8). وللمرة الثالثة في رسالته الأولى يؤكد الرسول على المحبة كالصفة البارزة في الشركة المسيحية ( 1بط 1: 22 ؛ 3: 8؛ 4: 8).
ولا يمكن للمحبة ألاّ تبالي بالخطية، ولكن لا يعني ذلك أن المحبة تستعرض بالضرورة الخطايا أو تنشغل كثيرًا بفضائح الآخرين وفشلهم. فالمحبة تتعامل مع الخطايا بشكلٍ خاص، على قدر الإمكان، دون الحاجة أن يكون التعامل جهارًا وعلى الملأ.
وعندما يتم التعامل مع الخطية ويُحكم عليها، فإن من دواعي المحبة ألاّ نتكلم عنها أو ننشرها.
فالمحبة لا تؤذي أو تدفع بالضرر، ولا تقود الناس أن يصبحوا فضوليين.
والمحبة تغطي وتستر كثرة من الخطايا، كما يقول الحكيم: «البغضة تهيِّج خُصومات، والمحبة تستر كل الذنوب» ( أم 10: 12 ).
وبالإضافة إلى ذلك، ففي الدائرة التي لا نُعد فيها غرباء بعضنا عن بعض، بل مترابطين معًا برُبط المسيح، فإن المحبة تُسرّ بخدمة الضيافة، كلما سَنحَت الفرصة إلى ذلك.
وحيث تسود المحبة بشدة عندئذٍ تصبح الضيافة بلا دمدمة (ع9).
ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضًا جديدة يسكن فيها البر ( 2بط 3: 13 )
في ميادين السباق الرياضية يعنى اللاعبون بأقدامهم، حتى لا يعطلها عن الركض معطل، ويثبِّتون أنظارهم على الهدف المقصود. فهل يصحّ لنا نحن الذين نركض لأجل جعالة سامية وميراث لا يفنى ـ هل يصحّ لنا أن نتوانى في الطريق ونتلفت من وقت لآخر على أتفه أمور الأرض؟
وما دام أمامنا مجد كهذا، هل يخدعنا زُخرف مجد الشيطان، فيجعلنا نركز اهتماماتنا على تراب ورماد سيكون وقودًا للنيران عند مجيء المسيح؟
إنها لحقيقة مُذللة ومُحزنة للشخص العالمي إذ يعرف أن كل ما يفتخر به، كل ما كان يجمعه لنفسه، فإنه يجمعه ليوم غضب الله!
تأمل أيها القارئ في هذا القول: «خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا» ( رو 13: 11 ).
لقد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور.
ولا نقنع بخلع جزء من الشر هنا، والجزء الآخر هناك. بل لنخضع لأمر الرب:
«اخرجوا .. واعتزلوا»
ولا نَدَع شعرة واحدة من الشر تقف في طريقنا، ولنتخلَّص من كل ثقل عالمي يحني رؤوس المؤمنين ويعوقهم عن أن ينظروا إلى فوق ويروا أن خلاصهم يقترب.
«فبما أن هذه كلها تنحل، أي أُناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة ... ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضًا جديدة يسكن فيها البر.
لذلك أيها الأحباء إذ أنتم مُنتظرون هذه، اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب في سلام» ( 2بط 3: 14 ). إذًا «فلنثبت في الرب».
حبذا لو ظهرت قوة الله فينا أكثر كثيرًا!
حبذا لو استطعنا أن ننتصب من النظرة إلى التراب، إلى نظرة رفيعة لمجدنا الكامل، وأن الأبدية مكتوبة على عواطفنا كما هي على آمالنا.
وحينما تكون أشياء هذا العالم موضوع غضب الله ودينونته النارية، حينما يدعو الناس الصخور والآكام لكي تسقط عليهم وتغطيهم، عبثًا، حينئذٍ سيبرهن القديسون أن أكاليلهم لا تتدنس وأن ميراثهم لا يفنى
«لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين فألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح» ( 1بط 1: 13 ).
.. يُوخذ للمُتطهر عُصفوران حيان طاهران، وخشب أرز وقرمز .. ويأمر الكاهن أن يُذبح العصفور الواحد في إناء خزفٍ.. ( لا 14: 4 ، 5)
في شريعة الأبرص يوم تطهيره نرى أن الزوفا مقترنة بشيئين لتطهير ذلك الأبرص المسكين، الموت (أو الدم) والحياة (في العصفور الذي يُطلق حيًا)، وهذه صور عجيبة للشيئين اللازمين لتطهير الخاطئ المُثقل بالآثام؛ موت الرب يسوع وقيامته، الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا.
إن الدم وحده كان هو العلاج في حالة الأبرص، فالكاهن كان «ينضح على المتطهر سبع مرات» (ع7) بعد أن يكون قد غمس الزوفا والعصفور الحي في دم العصفور المذبوح. فأساس تطهير الأبرص لم يكن سوى الدم، وهذا هو الحال تمامًا مع الخاطئ.
وربما تقول النفس المُثقلة التائبة إن كل هذا واضح ولا يحتاج إلى تفسير، ولكن كيف أعرف أني قد تطهرت من برص خطيتي في نظر الله كما يعرفني هو؟
ونحن نسأل كيف كان الأبرص يعرف أنه قد تطهر؟
كان الكاهن ينضح على المتطهر «فيطهره، ثم يُطلِق العصفور الحي على وجه الصحراء»، فلم يكن هناك أي شك أو ريب، فإطلاق العصفور الحي كان هو البرهان الأكيد على كفاية الدم. وما الذي يُعلنه الله بإقامة يسوع من الأموات:
«فليكن معلومًا عندكم ... أنه بهذا يُنادى لكم بغفران الخطايا، وبهذا يتبرر كل مَن يؤمن من كل ما لم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس موسى» ( أع 13: 38 ).
لنا في هذا الإعلان تأكيد لا يقل عن التأكيد الذي كان يحصل عليه الأبرص بعد أن يرى أن الكاهن قد غمس الزوفا في دم العصفور المذبوح ونضح عليه سبع مرات (عدد الكمال) وأعلن طهارته، وأطلق العصفور الحي.
إنه لم يكن في حاجة إلى تأكيد أكثر من ذلك، وها أن يسوع قد مات كفارة عن الخطايا، ولم يبق عليك سوى أن تصدق الله الذي يعلن لك غفران خطاياك بواسطته وينادي أن كل مَن يؤمن يتبرر من كل شيء، والدليل على ذلك هو قيامة الرب يسوع، من بين الأموات، فالمسيح ليس بعد في القبر، بل هو الآن حي وقد أُقيم من الأموات لأجل تبريرنا، فهل نحتاج إلى تأكيد أعظم من هذا؟
وإذا كنا نؤمن أن ربنا يسوع الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا قد أقامه الله، فما هي النتيجة التي تتبع ذلك؟
«فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» ( رو 5: 1 ).
كان إنسانٌ من الفريسيين اسمه نيقوديموس، رئيسٌ لليهود. هذا جاء إلى يسوع ليلاً .. ( يو 3: 1 )
شغَل نيقوديموس مركزًا خاصًا، فقد جذبته الآيات إلى الرب يسوع كما جذبت أولئك المذكورين في الأصحاح الثاني من إنجيل يوحنا، غير أن نفسه قد مسَّها الحق بخلاف أولئك، وآخرته لم تكن مثل بدايته.
فهو لم يتعجب ويؤمن فقط، بل تأمل تأملاً عميقًا ثم طلب الرب.
ومع أنه قصَدَه خائفًا ولكنه استمر في طلبه، فالآيات حركت قدميه للسير إلى يسوع، والعمل الذي أجراه فيه كان أسمى من عمل الآيات، فقد كشف الرب له عن نفسه، ومكَّنه أن يتعلم عن نفسه أيضًا.
ليس للرب صِلة مع مَن يؤمن به كشخص جاء في التاريخ، ولا مع مَن يؤمن به بناء على قوة البرهان كما هو الحال مع العالم المسيحي الآن، بل قد جاء خصيصًا إلى الخاطئ لكي يكون في شركة معه إلى أبد الآبدين ويفيض بنعمته المخلِّصة إليه. فعَوز الخاطئ وملء المسيح يتقابلان معًا وتتكون بينهما العلاقة إلى الأبد، وهذه العلاقة قد نشأت بين المخلِّص ونيقوديموس الخاطئ.
في يوحنا7: 50 نرى نيقوديموس يناضل عن البر الذي في شخص الرب يسوع وسط الشيوخ، فهو لا يزال بينهم عاملاً معهم ونفسه تخالجها الظنون والشكوك ويخامرها الجُبن والخوف كمَن جاء إلى يسوع ليلاً، لكنه اعترف بالبار على نوعٍ ما.
ولكنه في الأصحاح التاسع عشر قد خطا خطوة إلى الأمام وأظهر تعلقه بذاك الذي قتله العالم، فوقف نيقوديموس مع الله عالمًا أنه سيُقيم هذا المتألم المبارك قيامة مجيدة عن قريب.
فنيقوديموس ورفيقه يوسف جهزا للرب يسوع قبرًا وأكفانًا وحنوطًا عطّرا بها ذلك القبر الذي كانت ستفتحه قوة الله.
وهنا نرى نيقوديموس قد شَغَل المركز الذي أخبره عنه يسوع في الأصحاح الثالث، وكان ينظر بالإيمان إلى الحية المرفوعة، إلى ابن الإنسان المصلوب، ولذلك أصبح ضمن الأفراد الذين ائتمنهم الرب على نفسه.
فقال الأب لعبيده: أَخرجوا الحُلة الأولى وأَلبسوه .. ( لو 15: 22 )
في لوقا15: 20، 21 نقرأ عن المقابلة السعيدة بين الأب والابن، ترحيب الأب الحبي، اعتراف الابن وهو مكسور الخاطر. ويجب أن نلاحظ أن كل هذا حدث خارج البيت بمسافةٍ ما، لأنه «ركض» ليقابله.
والآن إذ اقتربا ”الأب والابن“ ـ من البيت، نادى الأب عبيده وقال: «أخرجوا الحُلَّة الاولى». آه! فالأب لا يستطيع أن يقبل الابن على مائدته بملابسه الرثَّة القذرة.
فهذا يعني التنحي عن مطاليب بيته البارة: «تملك النعمة بالبر» ( رو 5: 21 )، وليس على حساب البر.
جميل إذًا أن نرى النعمة وهي تركض لملاقاة الضال، والآن نرى البر الذي دبَّر تبديل ثيابه القذرة!
وهكذا نشاهد بقلوب شاكرة ما أُعدَّ للضال المسكين. يجب أن ننتبه إلى أن الضال لم يُحضر معه حُلَّته من الكورة البعيدة، ولا أنه دبَّر لهذا الأمر في رحلته للبيت. في الواقع كلا، إنها مجهزة له، وأعطاها الأب له.
فهي كانت جاهزة له، تنتظره!
ونحن لنا أن نُعجب بجودة الملابس المُعطاة له. فالأب قال: «أخرجوا الحُلَّة الأولى»، يا لها من نعمة عجيبة!
أَ كانت «الحُلَّة الأولى» في بيت الأب محجوزة للضال؟
وهذا لا يعني إلا أن الخاطئ المخلَّص بالنعمة، له أن يرتدي رداءً أكثر مجدًا مما للملائكة الأطهار!
ولكننا نتساءل، هل يمكن أن يحدث هذا؟ هل هذا ممكن؟
وما هي تلك «الحُلَّة الأولى»؟ ولماذا شخص المسيح البار هو الذي يجب أن يغطي التائب الراجع؟ إن هذا ”البر المكتسب“ هو الذي طُرِّز لنا بطاعة مخلِّصنا الكاملة وموته النيابي «فرحًا أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر» ( إش 61: 10 ).
ونلاحظ أن «الحُلَّة الأولى» وُضعت عليه، «أخرجوا الحُلَّة الأولى وألبسُوهُ». فكل شيء عُمل له. فالحُلَّة الأولى لم تُمنح له فقط، ولكنها وُضعت عليه.
وهذا يذكِّرنا بما نقرأه في تكوين3: 21 «وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما». فالرب الإله لم يُحضر فقط «أقمصة من جلدٍ» بنفسه، ولكنه ألبس أبوينا الأولين!
ونجد نفس الأمر مرة أخرى في زكريا3: 4 «انزعوا عنه الثياب القذرة. وقال له: انظر. قد أَذهبت عنك إثمك، وأُلبسكَ ثيابًا مُزخرفة».
يا لها من نعمة!
وإنني أتعلَّم من الكتاب المقدس أن الرب يسوع المسيح قد مات لأجل الجميع، بذل نفسه فدية لأجل الجميع. وأنه صنع كفارة لخطايانا وليس لخطايانا فقط، بل لكل العالم؛ وأنه بذلك وجد لنا فداءً أبديًا.
وأنه بتقديم نفسه مرة واحدة تطهَّرت كل خطايا الذين يؤمنون به، وأنه بالإيمان به ـ له المجد ـ قد تطهرت ضمائرهم، والله لا يعود يذكر خطاياهم ولا آثامهم فيما بعد؛ وإذ هم مدعوون من الله ينالون وعد الميراث الأبدي إذ إنهم تكمَّلوا إلى الأبد، وبذلك صارت لنا ثقة بالدخول إلى الأقداس بدمه بالطريق الحديث الحي الذي كرسه لنا.
وأتعلَّم أن الدخول في ملكوت الله يقتضي الولادة من الماء والروح، والولادة من فوق، لأننا بالطبيعة أموات في الخطايا، وبالطبيعة نحن أبناء الغضب، وأن أداة ولادتنا الجديدة هي كلمة الله، ومن ثم قد صرنا بالإيمان أولاد الله.
وأتعلَّم أن الله هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي تكون لكل مَنْ يؤمن به حياة أبدية.
ولأجل هذه الغاية، وبالنظر لأن الله هو إله بار وقدوس، فقد لزم أن يُرفع ابن الإنسان على الصليب، وهناك حَمل خطايانا في جسده على الخشبة.
وجُعل خطية لأجلنا لكي نصير نحن بر الله فيه.
وأتعلَّم أن إله وأبا ربنا يسوع المسيح قد اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، وأننا نحن الذين أخذنا الروح لسنا فقط نصرخ يا أبا الآب، بل نعلم أننا في المسيح وأن المسيح فينا؛ والمسيح لا يظهر أمام الله لأجلنا فقط، بل أننا فيه وهو جالس في يمين الله منتظرًا حتى يوضع أعداؤه موطئًا لقدميه، وأننا في نظر الله أموات عن الخطية، وعلينا أن نحسب أنفسنا هكذا، لأننا قد خلعنا الإنسان العتيق ولبسنا الجديد، وصرنا أحياء لله بيسوع المسيح (إذ المسيح حياتنا الجديدة)، وأننا مصلوبون للعالم وأموات للناموس، وإذ نحن في المسيح فإن المسيح فينا، ونحن تحت التزام أن نُظهر حياة المسيح يسوع في جسدنا المائت، ونسلك كما سلك هو، إذ إن الله قد وضعنا في العالم كرسالة المسيح الذي تكفينا نعمته، والذي قوته في الضعف تُكمل.
الذي، وهو بهاءُ مجده، ورسمُ جوهره، وحاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا ( عب 1: 3 ) يستعرض الروح القدس في مَطلع الرسالة إلى العبرانيين أمجادًا متنوعة لربنا المعبود، فيطالعنا بوصف
سُباعي لأمجاد الابن:
ففي البداية نراه كالوارث، والخالق لكل شيء، بهاء مجد الله ورسم جوهره، والحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته، فما هي الصفات الأخرى التي يليق أن توضع بجانب هذه الأمجاد السامية؟ أ يمكن أن يجد الحق العظيم الخاص بالفداء مكانه بين هذه الحقائق السامية العجيبة؟
نعم أيها الأحباء، في وصف هذه التيجان الكثيرة التي تتوج رأسه، في وصف مجده كابن الله، نجد حق الفداء المبارك يحتل مكانه بينها «بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي».
إنه لا يتكلم عنه هنا كالحامل للخطية، ولا يتناول بالضبط موضوع جعْله خطية لأجلنا، فذلك موضوع يناقشه الرسول بالتفصيل بعد ذلك في الرسالة، وإنما هو يُشير هنا مجرد إشارة إلى الحق العظيم أنه ـ له المجد ـ صنع تطهيرًا لخطايانا، صنع الفداء كاملاً، صنع بنفسه، ليس بواسطة ملاك أو أي شخص آخر.
ابن الله نفسه، هو الذي صنع وتمم تطهير الخطايا.
تأمل في السلسلة التي يحتل الفداء مكانة بينها! تأمل في ابن الله المبارك باعتباره «بهاء مجد الله ورسم جوهره»، ثم تأمل في الفداء. إنهما فكران متلازمان في هذا الاستعراض الكتابي الجميل.
إننا نتكلم عن ابن الله، ليس فقط باعتباره الذي عمل العالمين، والحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته، ولكننا بنفس العبارة نتكلم عنه كمَن صنع تطهيرًا للخطايا. وهل يمكن أن يكون هناك أدنى شك في أن تطهير الخطايا هو أمر أكيد وكامل، أمر إلهي ومُمجِّد لله تمامًا ككل صفة من الصفات الأخرى، وكل شعاع آخر من أشعة المجد الإلهي الذي يطالعنا به هذا الجزء المبارك من كلمة الله؟
إن تطهير الخطايا يقرنه الله مع مجد ابنه، مع كل ما هو كالخالق والحامل لكل شيء والمُعادل له في كل شيء.
وأخيرًا نراه راجعًا إلى حيث كان قبلاً، إلى ذلك المجد الذي كان له عند الآب قبل إنشاء العالم.
راجعًا بما له من حق خاص، ليس فقط مدعوًا إلى هناك بمجد الآب كما نعلم أن ذلك كان حقًا أيضًا، بل آخذًا مكانه هناك في قوة حقه كابن الإنسان وابن الله الذي له الحق في كل شيء، ليس فقط باستحقاقه الإلهي، بل كمَن تمم في عَبرْ الزمن عمل الفداء، وبذلك جلس في يمين العظمة في الأعالي.
لا يقدر أحد أن يخدم سيدين ... لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. ( مت 6: 24 )
لا يقدر أحد أن يخدم سيدين لأن الله لا يريد خدمة الشفتين فقط، ولا خدمة اليدين فحسب، بل يريد خدمة المحبة، والمحبة من كل القلب. قال الرب قديمًا على لسان هوشع النبي «قد قسَموا قلوبهم. الآن يُعاقبون» ( هو 10: 2 ).
كما وبَّخ إيليا النبي الشعب في أيامه قائلاً: «حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟
إن كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه» ( 1مل 18: 21 ).
ويا لها من كلمات فاحصة لقلوبنا نحن أيضًا!
لكن خدمة الرب ليست فقط خدمة من كل القلب، بل أيضًا خدمة كل الوقت.
إنها خدمة التكريس الكُلي واتباع الرب تمامًا.
إن خدمة الهواة لا تنفع مع الله، بل يلزم التكريس الكامل قبل أن نخدمه.
ماذا قيل عن الابن الضال وهو في الكورة البعيدة؟ قيل «مضى والتصق بواحدٍ من أهل تلك الكورة، فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير» ( لو 15: 15 ).
وهكذا فإن كل إنسان عليه أن يوازن بين الالتصاق بالسيد القاسي الذي يرسله إلى حقوله (صورة للعالم) فلا يجد حتى طعام الخنازير، وبين التحول نهائيًا عن ذلك السيد وحقوله وخنازيره ليعود راجعًا إلى أحضان الأب وقُبلاته الغامرة، فيجد عنده الشبع على مائدته بالعِجل المُسمَّن، فتتم فيه كلمات الرسول الحلوة «وأما مَن التصق بالرب فهو روحٌ واحدٌ» ( 1كو 6: 17 ).
قد يقول قائل إني بوسعي أن أعدل بين السيدين اللذين أخدمهما، وأسلك سلوكًا متوازنًا بين العالمين اللذين أحيا لهما.
لكن تذكَّر ـ عزيزي ـ أن هذه هي كلمات الرب يسوع، وهو يعرف أفضل منك، وما يقوله هو دائمًا الصواب.
تفكَّر في الشاب الغني الواردة قصته في مرقس10، لقد أراد أن يتبع المسيح لكنه اكتشف أنه ينبغي أن يترك كل أمواله، فنكص على عقبيه، ومضى حزينًا!
ثم تفكَّر في يهوذا الإسخريوطي، الذي لأجل حفنة قليلة من النقود باع الرب الودود!
وحنانيا وسفيرة أيضًا يقدمان لنا بوق تحذير وإنذار. فالمال جعل الشيطان يملأ قلبيهما ويكذبان على الله!
هؤلاء جميعًا لم يستطيعوا الاحتفاظ بولائهم الظاهري للمسيح رغم حُسن النوايا، وذلك لأن في قلوبهم كان يوجد سيد آخر وهو المال.
لا يقدر أحد أن يخدم سيدين ... لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. ( مت 6: 24 )
لا يقدر أحد أن يخدم سيدين لأن الله لا يريد خدمة الشفتين فقط، ولا خدمة اليدين فحسب، بل يريد خدمة المحبة، والمحبة من كل القلب. قال الرب قديمًا على لسان هوشع النبي «قد قسَموا قلوبهم. الآن يُعاقبون» ( هو 10: 2 ).