البابا قزمان الثالث :
انتخب بطريركًا بعد نياحة البابا غبريال الأول سنة 921م، وقد استهل باباويته برسامة الراهب بطرس مطرانًا على أثيوبيا وبعد أن زوّده بالنصائح وأوصاه بالتفاني في رعاية شعبه أرسله إلى تلك البلاد. هجوم من الشدائد التي قابلها هذا البابا ما حدث من تقتيل وتدمير في البلاد، نتيجة لهجوم الفاطميين على الإسكندرية والاستيلاء عليها، قبل أن يتمكن الخليفة العباسي من استرداد المدينة بعد إرسال الإمداد الحربي اللازم، وقد قاسى المصريون الأهوال بعد انسحاب الجيش الفاطمي، وذلك لأن جند الولاة المتنافسين أخذوا يسلبون وينهبون ويقتلون دون تفريق بين مسلم ومسيحي. كذلك قاسى البابا نتيجة ما حدث من اثنان من الأقباط اسم أحدهما مينا والآخر بقطر زوَّرا خطاب باسم البابا قزمان وأخذاه إلى أمير الحبشة يدّعيان فيه أن بطرس ما هو إلا أسقف مزيّف وأن المطران الحقيقي هو مينا، وتسببا في قلاقل كثيرة بين الأمير والمطران والبطريرك. إذ سيم الأنبا بطرس مطرانُا على أثيوبيا قوبل بحفاوة عظيمة. وإذ كان الملك يجود بأنفاسه الأخيرة استدعاه إليه وكلّفه أن يتولى الوِصاية على ولديه، وعند بلوغهما سن الرشد يعين منهما ملكًا من يراه أفضل من الآخر حسب الكفاءة. بعد مدة سلّم المطران المُلك إلى الابن الأصغر إذ رآه حكيمًا سديد الرأي، فاستاء الابن الأكبر من ذلك إلا أنه لم يُبدِ أدنى معارضة. ذهب الراهبان إلى أثيوبيا وطلبا من الأنبا بطرس مطران أثيوبيا مالاً، فأبى. زوّرا ختمًا باسم البابا قزمان وكتبا رسالة إلى كبار المملكة بأثيوبيا مؤدّاها أن المدعو بطرس مطران غير شرعي لم يعين من قِبله، وانه غير راضٍ على تعيين الابن الأصغر ملكًا، لأن الأكبر أولى منه بالمُلك، واعتبار مينا حامل هذا الرسالة مطرانًا وإقامة الابن الأكبر ملكًا. سلّم مينا الخطاب للابن الأكبر فأطاع رجال الدولة أمر البابا ونفوا المطران وأقيم مينا مطرانًا وبقطر وكيلاً له. لكن سرعان ما تجمّع الأشرار حول الملك (الابن الأكبر) وصارت حرب أهلية بينه وبين الابن الأصغر انتهت بأسر الملك (الابن الأصغر) وسجنه. حدث خلاف بين مينا وبقطر، وقام الأخير بطرد العاملين في المطرانية أثناء غياب مينا ونهب كل ما في المطرانية وهرب إلى مصر حيث جحد مسيحه. إذ سمع البابا قزمان أسرع وكتب رسالة إلى ملك أثيوبيا يحرّم فيها مينا، ويشجب تصرفاته ويأمر بإعادة المطران الحقيقي. قام الملك بقتل مينا ظانًا أنه بهذا يجلب رضا البابا، وإذ استدعى المطران بطرس وجده قد مات لشدة ما لحقه من عذابات في منفاه. وكان له تلميذ فأخذه الملك وأقامه مطرانًا دون أن يسمح له بالذهاب إلى مصر لينال السيامة من البابا خشية أن يوصيه بنزع المُلك عنه وإعطائه لأخيه. ولما علم البابا بذلك غضب ولم يشأ أن يرسم لهم مطرانًا، ونسج على منواله أربعة بطاركة، فاستمرت أثيوبيا بلا مطران سبعين عامًا لم تُرسل لها الكنيسة مطرانًا واحدًا. نياحته من كثرة المشاكل والضيقات التي مرّت بالشعب طغى الحزن على قلب الأنبا قزمان، فلم يجد أمامه غير طريقين: مداومة الصلاة والصوم، وزيارة شعبه وتفقد أحواله ليعزّي القلوب المضطربة ويثبت النفوس الخائرة. ويبدو أن حزنه هذه المرة كان أقوى من أن يحتمل فتداعت قوته الجسمية، ولم يلبث أن استودع روحه في يديّ الآب السماوي سنة 933م.
البابا مقار الاول :
وُلد في قرية اسمها شبرا بالقرب من الإسكندرية، إلا أنه كان قد هجر منزل أبويه لينعم بسكون الصحراء فترهب بدير الأنبا مقاريوس الكبير باسم الراهب مكاري. وذاع عنه انه راهب شديد التقشف كثير التأمل وقد قربته هذه الصفات إلى قلوب جميع من عرفوه. وحين تنيح البابا قزما الثالث سنة 923 م اتفقت كلمة الجميع على رسامته بطريركًا، ومن ثَمَّ قصد مندوبو الأساقفة والأراخنة إلى دير القديس مقاريوس الكبير وأمسكوه وأخذوه إلى الإسكندرية حيث تمت رسامته سنة 923م (639ش). زيارات رعوية كان أول عمل قام به هو رحلة رعوية ليفتقد شعبه ويعرف أحوالهم بنفسه، وفي أثناء هذه الرحلة مر بشبرا مسقط رأسه وقصد إلى البيت الذي قضى فيه طفولته، وحدث أن أمه كانت في تلك الساعة جالسة أمام الباب تغزل فحياها وردت هي التحية عليه دون أن ترفع نظرها نحوه. فقال لها: "سلام لك يا أمي، ألا تعرفين من أنا؟ إنني ابنك وقد تركتك لأقضي حياتي في الدير راهبًا متعبدًا، لكن النعمة الإلهية قد منحتني أن أكون خليفة لمار مرقس كاروزنا الحبيب". وعندها رفعت أمه عينيها إليه فإذا بدموعها تنهمر كالسيل على خديها، فانزعج وسألها: "ماذا بكِ يا أماه؟" أجابته: "إن الكرامة التي نلتها كرامة عظمى حقًا ولكن مسئولياتها غاية في الخطورة. فأنت كنت مسئولاً عن نفسك فحسب حين كنت راهبًا بسيطًا في الدير، أما الآن وقد جلست على كرسي مار مرقس فقد أصبحت مسئولاً عن شعب الكرازة المرقسية. لهذا لا يسعني إلا أن أبكي ضارعة إلى الله تعالى الذي ائتمنك على هذه الوديعة أن يغمرك بنعمة فيمكنك من القيام بمسئولياتك الجسام". واهتز الأنبا مكاريوس حتى الأعماق لكلمات أمه إذ تجلت أمامه حقيقتها، فقضى حياته يعلم الشعب ويحثه على مداومة قراءة الأسفار الإلهية وتعاليم الآباء. في عهده تولى واليًا جديدًا على مصر هو الأخشيد الذي وصلها في أغسطس سنة 935م (651ش)، وكانت مصر قد بلغت إذ ذاك حالة من الفوضى والارتباك بسبب اشتداد المنافسة بين الأمراء وما تسبب فيه جنودهم من السلب والنهب والقتل دون رحمة ولا تروٍ، فأعاد الأخشيد هدوءها واستقرارها ورخاءها وثبت قواعد النظام خلال الإحدى عشرة سنة التي تولى فيها الأمور. اهتمامه بالتعمير قام البابا خلال فترة الاستقرار التي مرت بها البلاد بزيارة رعوية ثانية، قام فيها أيضًا بزيارة برية شيهيت وقضى فيها بضعة أسابيع، وقد تهلل قلبه إذ وجد عدد الرهبان يتزايد رغم الأحداث والضيقات. ولم يعكر عليه صفوه غير شعوره بما يقاسيه الشيوخ الساكنون في دير الأنبا يحنس كامي من تعب لاضطرارهم إلى الذهاب للصلاة في دير الأنبا يوأنس القصير إذ لم يكن في ديرهم كنيسة، فقرر لساعته أن يبني لهم واحدة في ديرهم وبدأ بالعمل فورًا. وبينما كان العمل جاريًا عاد إلى مقر رياسته ليحتفل بصلوات عيد الغطاس المجيد، وما أن انتهى من الاحتفالات حتى عاد إلى شيهيت ثانية ليكرس كنيسة دير الأنبا يوأنس كامي. لما رأى البابا السكندري السلام منتشرًا في مصر انشغل في بناء عدة كنائس. وقد قضى الأنبا مكاريوس في رعاية الشعب عشرين سنة جاهد خلالها الجهاد الحسن لأنه لم ينس قط كلمات أمه ودموعها التي استقبلته بها في مستهل باباويته.
البابا ثاؤفانيوس الاول :
بعد نياحة البابا مكاريوس (مقار) اُختير ثيؤفانيوس خلفًا له سنة 953م، وكان عهده يمثل نكبة على الكنيسة إذ كان على ما يظن مُصابًا بمرض عصبي. في أوائل أيام بطريركيته شعرت الكنيسة بعسر مالي عظيم وخلت مخازن البطريركية من الأموال بسبب الضريبة التي كانت معينة على كنائس الإسكندرية. لقد زاد النهب المتواصل الذي كان واقعًا على الأقباط من الحكام والولاة. إذ رأى البطريرك أن الشعب القبطي ضجر من هذه الغرامات الباهظة التي تُدفع للحاكم، طلب من كنيسة الإسكندرية التنازل عن ما اعتاد سابقوه أن يدفعوه لها، لكنها أصرت على المطالبة بحقها. وكان البطريرك ثيؤفانيوس حاد الطبع، سريع الغضب، غير قادر على كبح جماح غيظه، فلما رأى تصميم أقباط الإسكندرية على المطالبة بالغرامة أخذ يشتمهم ويوبخهم بما خرج به عن دائرة التعقل حتى استاء منه الكهنة وأظهروا غيظهم منه بكلمات قاسية وجهوها إليه، فازداد هيجانه وصياحه، فحمله بعضهم في مركب إلى بابيليون لظنهم أنه يهدأ إذا استنشق نسيم النيل، ولكنه لم يكف عن هياجه، فتشنجت أعصابه حتى مات، هنا اختلفوا في سبب موته.
البابا مينا الثاني :
بنياحة الأنبا ثيؤفانيوس خلى الكرسي المرقسي، وصلى الجميع وذهب الأساقفة والكهنة إلى الأديرة فأرشدهم الروح إلى راهبٍ ناسكٍ بسيطٍ هو مينا من دير أنبا مقار وموطنه الأصلي صندلا مركز كفر الشيخ، وكان يحمل نفس الاسم قبل الرهبنة. أراد له أبواه الزواج فصمت، فزوجاه فصمت، وبعد إتمام مراسيم الزواج كشف لشريكته مكنونات قلبه في البتولية وشجعها على ذلك، وفي فجر اليوم التالي للزواج ترك المنزل إلى مغارة قريبة من الدير، فأقام عليه أهله مناحة كبيرة ظنًا أنه مات. في الدير ذاعت فضائله ونسكه ووداعته ومواهبه وعمق معرفته وبساطته فرشحه أبوه الروحي للبطريركية، فأخذوه قسرًا إلى الإسكندرية حيث تمت مراسيم السيامة في ديسمبر سنة 956م. أعماله الرعوية قام البابا الجديد بزيارة رعوية إلى كل بلاد مصر وفي خلالها زار بلده، فاستخدم عدو الخير إنسانًا شريرًا سأل بمكر إن كان من القوانين ما يسمح للمتزوجين برئاسة الكهنوت، وسرت القصة وعرفها البابا بالروح فاستحضر المرأة التي زوجوها إليه فأعلنت شرف بتوليته وبتوليتها، ودُحِر عدو الخير وطابت النفوس وهدأت العاصفة. نقصت مياه الفيضان ثلاث سنوات انتشرت خلالها المجاعات والأوبئة والأمراض، وعانى الجميع في مصر من الضائقة إلى أن رفعها الله بصلوات الكنيسة. وقد عاصر هذا البابا الجليل "كافور" الذي كان وليًا ووصيًا على القاصرين أبناء الأخشيد، وقد اشتهر كافور هذا بعدله وإنصافه فأقيمت في عهده الاحتفالات الرسمية بالأعياد القبطية. وانصرف البابا إلى بناء الكنائس وترميمها وإقامة الكتاتيب والمدارس للأطفال، وكرَّس الميرون المقدس في الكنيسة التي أقامها على اسم مار مرقس في "محلة دانيال"، وذلك على غير العادة التي تجري بتكريسه في الأديرة. وأثناء وجوده في تلك البلدة انتقل إلى الأمجاد السمائية في 13 نوفمبر سنة 974م، ونقل حيث دفن في مقابر البطاركة بالإسكندرية.
البابا ابرام :
كان ابرآم بن زرعة السرياني الجنس تاجرًا ذا أموال كثيرة، يتردد على مصر مرارًا، وأخيرًا استقر فيها. عرف هذا الرجل بتقواه وصلاحه خاصة محبته للفقراء مع علمه، لهذا عندما خلا الكرسي البطريركي. إذ كان الآباء الأساقفة مجتمعين في كنيسة أبي سرجة للتشاور في أمر سيامة البابا، ودخل عليهم هذا الأب، اعجبوا به واجمعوا على اختياره. سارعوا به إلى الإسكندرية حيث تمت سيامته في كنيسة القديس مارمرقس بكونه البابا 62. قام بتوزيع نصف ممتلكاته على الفقراء، وقدم النصف الآخر لعمارة الكنائس. محبته للفقراء عرف هذا البابا بحبه للفقراء واهتمامه بهم، لهذا في أيامه إذ تعين قزمان الوزير القبطي أبو اليمن واليًا على فلسطين، أودع عند البابا مائة ألف دينار إلى أن يعود، وأوصاه بتوزيعها على الفقراء والمساكين والكنائس والأديرة إن مات هناك. فلما بلغ البطريرك خبر ثورة القرمطيين على بلاد الشام وفلسطين ظن أن قزمان قد مات، فوزع ذلك المال حسب الوصية. ولكن قزمان كان قد نجا من الموت وعاد إلى مصر، فأخبره الأب بما فعله بوديعته، فسّر بذلك وفرح فرحًا عظيمًا. أعماله الرعوية من مآثره أنه أبطل العادات الرديئة ومنع كل من يأخذ رشوة من أحد لتقدمته بالكنيسة. حرم أيضًا اتخاذ السراري، وشدد في ذلك كثيرًا وقد خاف الكثيرون الله وحرروا سراريهم، وجاءوا يقدمون التوبة على يديه. غير أن أحد الوجهاء لم يبال بحرمان البابا للأمر، وكان البابا ينصحه كثيرًا ويطيل أناته عليه، وأخيرًا إذ رأى أن هذا الرجل قد صار مثلاً شريرًا أمام الشعب قرر أن يذهب بنفسه إلى داره ويحدثه في الأمر. وإذ سمع الرجل بذلك أغلق باب داره ولم يفتح له، فبقى البابا ساعتين على الباب يقرع، وإذ رأى إصرار الغني على عدم فتح الباب والسلوك في حياة فاسدة، قال: "إن دمه على رأسه"، ثم نفض غبار نعله على عتبة الباب. وفي الحال انشقت عتبة الباب أمام الحاضرين وكانت من حجر الصوان.... ولم يمض وقت طويل حتى طرد الرجل من عمله وفقد كل ماله وأصيب بأمراض مستعصية، وصار مثلاً وعبرة للخطاة. في مجلس المعز عرف المعز لدين الله الفاطمي بعدله وسماحته وولعه بالعلوم الدينية، فكان يدعو رجال الدين للمناقشة أمامه. كان لديه وزير يهودي يُدعي ابن كِلّس، طلب منه أن يسمح لرجل من بني جنسه يُدعى موسى أن يناقش البابا في حضرته فرحب المعز بذلك، وعرضها على البابا بطريقة مهذبة، فذهب إليه البابا ومعه الأنبا ساويرس أسقف الأشمونين. أذن البابا للأسقف أن يتكلم، فقال: "ليس من اللائق أن أتحدث مع يهودي في حضرة الخليفة". احتد موسى جدًا وحسبها إهانة واتهامًا له بالجهل. وفي هدوء أجابه الأسقف: "يقول اشعياء النبي عنكم "أن الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف" (إش 1 : 2). أُعجب الخليفة بهذه الدُعابة ورأى الاكتفاء بذلك، لكن الوزير اليهودي حسبها إهانة شديدة، فبدأ مع صديقه موسى يبحثا في العهد الجديد حتى وجدا العبارة: "من كان له إيمان مثل حبة خردل يقول لهذا الجبل انتقل فيكون" (مر 11: 23، مت 21: 21) فأطلعا الخليفة عليها، وسألاه أن يطالب بابا الأقباط بنقل الجبل المقطم إن كان له إيمان ولو كحبة خردل. استدعى الخليفة البابا وسأله عن العبارة فقال إنها صحيحة، عندئذ سأله أن يتمم ما جاء بها وإلا تعرض الأقباط جميعا لحد السيف. طلب البابا منه مهلة ثلاثة أيام، وخرج على الفور متجها إلى كنيسة العذراء (المعلقة) وطلب بعض الآباء الأساقفة والرهبان والكهنة والأراخنة وأوصاهم بالصوم والصلاة طيلة هذه الأيام الثلاثة. وكان الكل مع البابا يصلي بنفس واحدة في مرارة قلب، وفي فجر اليوم الثالث غفا البابا آبرام من شدة الحزن مع السهر، وإذ به يرى القديسة العذراء مريم تسأله: ماذا بك؟ أجابها: أنت تعلمين يا سيدة السمائيين بما يحدث، فطمأنته، وطلبت منه أن يخرج من الباب الحديدي المؤدي إلى السوق فيجد رجلاً بعين واحدة حاملاً جرة ماء، فإنه هو الذي ينقل الجبل. قام البابا في الحال ورأى الرجل الذي أشارت إليه القديسة مريم وقد حاول أن يستعفي لكنه إذ عرف ما رآه البابا وضع نفسه في خدمته متوسلاً إليه ألا يخبر أحدًا بأمره حتى يتحقق الأمر. عرف البابا أن هذا الرجل يسمى "سمعان" يعمل كخراز، جاءته امرأة ليصلح لها حذاءها وإذ كشفت عن رجلها لإثارته ضرب بالمخراز في عينه فقلعها، فصرخت المرأة وهربت. وإنه يقوم كل يوم في الصباح الباكر يملأ بجرته ماءً للكهول والشيوخ ثم يذهب إلى عمله ليبقى صائمًا حتى الغروب. ذهب البابا والأساقفة والكهنة والرهبان والأراخنة مع كثير من الشعب إلى ناحية جبل المقطم وكان الخليفة بجوار البابا، وكان الوزير اليهودي قد آثار الكثيرين ضد الأقباط .... وإذ اختفى سمعان وراء البابا .... صلى الجميع ولما صرخوا "كيرياليسون"، وسجدوا، ارتفع الجبل فصرخ الخليفة طالبًا الآمان .... وتكرر الأمر ثلاث مرات، فاحتضنه البابا .... وصارا صديقين حميمين. طلب منه المعز أن يسأله في أي أمر، وكان يلحّ عليه فلم يشأ أن يطلب وأخيرًا سأله عمارة الكنائس خاصة كنيسة القديس مرقوريوس بمصر، فكتب له منشورًا بعمارة الكنائس وقدم له من بيت المال مبلغًا كبيرًا، فشكره وامتنع عن قبول المال فازداد كرامة في عيني المعز من أجل تقواه وزهده. ذهب المعز بنفسه في وضع أساسات الكنيسة ليمنع المعارضين. نياحته جلس على الكرسي ثلاث سنين وستة أيام ثم تنيح في السادس من شهر كيهك. السنكسار: كيهك 6.
البابا فيلوثاؤس :
اختير من بين رهبان دير أبي مقار ورُسِم سنة 979م، وعاصر الخليفة العزيز بالله والحاكم بأمر الله. ولم يرد في سيرة هذا الأب البطريرك ما يستحق الذكر، وإن كان قد عاصر ما يقرب من ثمانِ سنوات من حكم الطاغية الحاكم بأمر الله، لكن لم يُذكَر شيء عن أي معاناة من الحاكم. تأديبه يذكر تاريخ البطاركة أنه انتهى إلى نهاية سيئة، وذلك أنه لم يكن يحيا الحياة النسكية التي تليق بطقسه كراهبٍ وبطريركٍ، فقد دخل إلى كنيسة مارمرقس الإنجيلي بالإسكندرية ومعه جماعة من الأساقفة ودخل إلى الهيكل ليقدس الأسرار، فلما رفع القربان سكت ولم يقدر أن ينطق بكلمة فجلس وأكمل القداس الأنبا مرقس أسقف البهنسا. وحملوا البطريرك إلى بيت أحد الأقباط وظل صامتًا تسع ساعات من النهار، فلما سألوه عن السبب امتنع عن الكلام ونتيجة إلحاح السائلين قال أنه لما قدّم القربان وقبل أن يرشم عليه بعلامة الصليب رأى شرقية الهيكل قد انشقت وخرجت منها يد وصلَّبت اليد على القربان فانشق في يده وأصيب هو بالصمت. ولما قال هذا جف منه عضو وبقى جافًا، وبعد قليل تنيّح هذا البطريرك سنة 1003م بعد أن ظل على الكرسي البطريركي أكثر من أربع وعشرين سنة ونصف.
القرن الحادي عشر
البابا زكريا :
كان من أهل الإسكندرية وُرسم قسا بكنيسة الملاك ميخائيل. وكان شيخًا متبتلاً طاهر السيرة وديع الخُلق، وكان محبوبًا من جميع الأساقفة حتى أنهم كانوا ينزلون عنده في كنيسته. إبراهيم بن بشر والباباوية لما تنيح القديس فيلوثاؤس البابا الثالث والستون، وقع الاختيار عليه ليخلفه، وكان السبب في الإسراع باختياره دون رهبان الأديرة هو ما بلغهم عن أحد أعيان الإسكندرية المدعو إبراهيم بن بشر، الذي كان مقربًا من الخليفة، والذي قدّم له رشوة وحصل منه على مرسوم بتعيينه بطريركًا، وأوفده مع بعض الجند إلى الإسكندرية. فاتفق الأساقفة مع الشعب على تقديم القس زكريا ورسامته بطريركًا، وكانت رسامته سنة 1004 م، وكانت بطريركته في عهد الحاكم بأمر الله والخليفة الظاهر. ولما وصل إبراهيم بن بشر إلى الإسكندرية وجدهم قد انتهوا من تكريس الأب زخارياس بطريركًا، فلما أطلَع الآباء الأساقفة على كتاب الملك خشي الآباء عواقب هذا الأمر وخافوا غضب الخليفة، فأشاروا على البطريرك أنبا زخارياس أن يطيب قلب إبراهيم بن بشر بالأسقفية، فرسموه قمصًا ولما خلا كرسي منوف العُليا جعلوه عليه. رعايته كان مدققا في سيامة الأساقفة لكراهيته الشديدة للسيمونية، أي اقتناء موهبة الكهنوت بدراهم. أقام مجلسًا من الأساقفة لحل المشاكل الدينية، وللأسف كان أغلبهم من أقربائه فلم يراعوا الأمانة في خدمتهم، فكانوا يقبلون الرشوة من المتقاضين لتنفيذ مآربهم ،وسبّب هذا ضيقا شديدا للبابا. شفاء شماس تائب قيل أن شماسًا اختلف مع زوجته فتركها، وإذ جربه الشيطان سقط في الزنا، فسمح الله بأن يُصاب بالبرص. عاد إلى زوجته فاشتكته لدى البابا. استدعاه البابا وفرض عليه قانونًا بأن يصوم أربعين يومًا إلى المساء ويأكل القليل جدًا. بعد انقضاء فترة التأديب صلى من أجله ونال الشفاء. مشكلة القس يوحنا من ذلك أن كاهنًا على قرية أبي نفر بالجيزة يُدعى القس يوحنا اشتهى الأسقفية، فطلب ذلك من البابا. قدم البابا هذا الطلب لمجمع الأساقفة فرفضوا الطلب، قيل لأنه كان متزوجًا. كان للبابا ابن أخ يُدعى ميخائيل أسقف سخا، كان محبًا للرشوة، طلب مالاً من القس يوحنا ليساعده على رسامته فرفض واعدًا إياه بالدفع بعد سيامته، رفض ميخائيل ذلك وبدأ في معاكسته. كان القس يوحنا كلمته في دوائر الحكومة، فخشي الكتّاب من انتقامه بأن يشي بالبابا لدى الخليفة مما يثير الاضطهاد على الأقباط فكانوا يلاطفونه، وكتبوا له تزكية وخطابًا للبابا لسيامته أسقفًا. إذ سمع الأسقف ميخائيل، وكان البابا في وادي هبيب حرض بعض العرب عليه. وإذ عرف البابا بذلك حزن جدًا وطيّب خاطر الكاهن ووعده بالأسقفية. رفض مجمع الأساقفة سيامته بسبب سوء تصرفه فأراد الانتقام، فكتب تقريرًا إلى الحاكم بأمر الله جاء فيه أن البابا يراسل ملوك أثيوبيا والنوبة ويكشف لهم عن أسرار البلاد وأن الحكام يسيئون معاملة الأقباط. اضطهاده غضب الحاكم بأمر الله وألقى القبض على البابا ومعه بعض الأساقفة، ووضعهم في السجن لمدة ثلاثة شهور. طرح البابا ومعه راهب يدعى سوسنة النوبي للأسود فلم ينلهما منهم أذى، بل تآنست بهما، وقيل أن أحد الأسود جاءت عند قدمي الراهب وكانت تلحسهما. نقم الحاكم على متولّي أمر السباع وظن أنه أخذ رشوة من البطريرك، فأبقى السباع مدة بغير طعام ثم ذبح خروفًا ولطخ بدمه ثياب البطريرك والراهب وألقاهما للأسود مرة ثانية، فلم تؤذهما أيضًا. تعجب الحاكم وأمر برفعه من بين السباع واعتقله ثلاثة أشهر، توعّده فيها بالقتل والطرح في النار إن لم يترك دينه، فلم يَخَفْ البطريرك. ثم وعده بأن يجعله قاضي القضاة فلم تفتنه المراتب العالمية ولم يستجب لأمر الحاكم. أخيرًا أطلق سبيله بواسطة أحد الأمراء فذهب إلى وادي هُبيب، وأقام هناك تسع سنين، لحق الشعب في أثنائها أحزان كثيرة ومتاعب جمّة، كما هُدمت كنائس عديدة. منعه الحاكم من مكاتبة ملوك أثيوبيا والنوبة، وكان يتسلم هو مكاتباتهم للبابا، ويطلب منه أن يكتب إليهم بأن الأقباط يتمتعون بكمال الحرية والراحة وعدم التعرض لهم في دينهم، وأن يوصيهم بالمسلمين الذين تحت رعايتهم. زوال الشدة تحنن السيد المسيح فأزال هذه الشدة عن كنيسته وحوَّل الحاكم عن ظلمه، فأمر بعمارة الكنائس التي هُدمت وأن يُعاد إليها جميع ما أُخذ منها، كما سمح بضرب الناقوس مرة أخرى. قيل أن راهبًا يُدعى بيمن نال من الحاكم حظوة وتمكن من استصدار أمر برفع الاضطهاد عن الأقباط، رجع البابا وأقام في كنيسة أبى سيفين مع بعض الأساقفة والكهنة والراهب بيمن. زاره الخليفة فعرفه بالبابا، فاندهش الخليفة لحقارة ملابسه وبساطته وسأله عن نفوذه، فأجابه الراهب: "إنه بحالته البسيطة هذه يستطيع أن يخضع الناس له برسالة يوقع عليها باسم الصليب أكثر من خضوعهم لجيوشك الجرارة". أدار الخليفة وجهه وخرج من الكنيسة وهم لا يدرون ما عزم أن يفعل بهم، ولبثوا في الكنيسة يتوقعون حدوث كارثة، وزادهم رعبًا حضور القس يوحنا الكاهن بقرية أبى نفر علة المصائب التي حلت بهم. تقدم إلى البابا وهنأه بالعودة سالمًا، وعاد يطلب منه الأسقفية فاغتاظ الأساقفة ولاموا البابا على مقابلته له بالحنو، وحسبوا بساطته علة مهانتهم. خاف يوحنا من الأسقف ميخائيل ابن أخ البابا واحتمى ببعض الحاضرين الذين أقنعوا الأسقف أن يصفح عنه، ثم رسموه قمصّا. بعد ساعات عاد الخليفة وبدأ صوت البكاء يعلو إذ رأوه داخلاً بحاشيته وظنوا أن ضيقًا مرًا سيحل بهم. لكن سرعان ما تحول الحزن إلى فرح حيث سلّم الخليفة البابا فرمانًا بإباحة الحرية للأقباط، وردّ جميع ما سُلب منهم. بعد ذلك أقام الأب زخارياس اثني عشر عامًا، كان فيها مهتمًا ببناء الكنائس وترميم ما هُدم منها. وبقى في الرئاسة ثمانية وعشرين عامًا، ثم تنيح بسلام سنة 1032. السنكسار، 13 هاتور.
البابا شنودة الثاني :
بعد وفاة البابا زكريا استحسن الأساقفة والأراخنة الراهب شنودة بدير أنبا مقار، وتأكد لهم الاختيار الإلهي برؤيا لأحد الأساقفة، أنه ضمن السمائيين، فرسموه في الإسكندرية باسم البابا شنودة الثاني سنة 1032م، وذلك في أيام الفاطميين. تسامح الخليقة كانت العادة أن الخليقة لا يصرح بتقليد البطريرك إلا إذا أورد مبلغًا قدره ستة آلاف دينارًا نقدًا، أو يكتب صكًا ليدفعه في ميعاد معين. وكان بين الأقباط رجل مسموع الكلمة يُسمى ابن بكر، سعى لدى الخليفة وأصدر أمرًا برفع الغرامة. من نعمة الله على الكنيسة في عهده أن سار الخليفة الظاهر على نهج العزيز بالله في التسامح مما أكثر الإنتاج الفكري والفني، بل وسمح الخليفة لمن يريد أن يرجع إلى مسيحيته أن يرجع، كما سمح ببناء الكنائس. انشغاله بالمال أثناء ترشيحه اشترط عليه الإكليروس بالإسكندرية أن ينفق على كنائسهم خمسمائة دينارًا سنويًا، كما اشترط عليه الأراخنة رفض قبول أية رشوة، لاسيما من الذين يطلبون درجة كهنوتية. رغم تعهد البابا بنبذ السيمونية في رسامة الأساقفة إلا أنه رسم أسقفًا لأسيوط بها مقابل مبلغ من المال، وبدون أن يرجع إلى شعبها، مما دعا أهل أسيوط بعدم السماح للأسقف الجديد بدخول بلدهم، ومن ثم عاد إلى ديره في خزي. أساء البابا التصرف، خاصة بقبوله أموالاً للسيامات، فاعترض عليه الأراخنة، خاصة ابن بكر لكنه لم يبال بذلك.وأصدر البابا قرارًا يقضي بأن تكون جميع مقتنيات الأساقفة ملكًا للبطريركية بعد وفاتهم، وكان أول من نفذ فيه هذا القرار أسقف شنان. بقي هذا القرار معمولاً به إلى عصرنا الحالي، حتى أصدر قداسة البابا شنودة الثالث قرارًا بأن تبقى ممتلكات الأسقفية لمن يخلف الأسقف. نفر الشعب من تصرف البابا وسعيه نحو اكتناز المال، ولما رأى الإكليروس تسليم أمور الكنيسة لمجلس رفض البابا، فاتجه الجميع إلى الصلاة للّه ليحمي كنيسته، فمرض البابا مرضًا صعبًا صار يهزه هزًا عنيفًا ولم تُجْدِ معه محاولات الأطباء والأدوية نفعًا، إلى أن انتقل من هذا العالم ملبيًا سنة 1047م.
البابا خرستوذولو :
متوحد صانع عجائب هو أصلاً من بلدة بورة على الشاطئ الغربي لفرع دمياط، وترهب منذ حداثته بدير البراموس، وانتقل منها ليتوحد في صومعة تطل على البحر في نتراوه (بحيرة البرلس حاليًا). وهو من الآباء النساك الذي تمجد الرب على أيديهم بآيات وعجائب كثيرة، وعاصره أيضًا آباء نساك عُرِف عنهم صنعهم للعجائب. اختياره بطريركًا اختاره أراخنة الإسكندرية بطريركًا، فسار إليه عشرة منهم ومعهم سيمون كاهن بكنيسة مار مرقس، وبصعوبة كبيرة تمكنوا من مقابلته وامسكوه وساروا به إلى الإسكندرية، حيث رُسِم بطريركًا في الخامس عشر من كيهك سنة 763ش (11 ديسمبر 1046م). ويشهد عنه تاريخ البطاركة بهذه العبارة: "كانت بداية أمره حسنة وظهرت منه معجزات، وكان الروح القدس قريبًا منه وكانت قسمته من الله"، ثم سار حسب العادة إلى دير أبو مقار ببرية شيهيت. وبعد رسامته بطريركًا كرّس ست كنائس بالإسكندرية كما جدّد بيعة مار مرقس". إقامة مقر بابوي بالقاهرة بعد سيامته انتقل من الإسكندرية إلى مصر، واتخذ كنيسة المعلقة بظاهر الفسطاط مقرًا له. كما جدد كنيسة القديس مرقريوس وجعلها كاتدرائية كبرى ومركزًا لكرسيه، وجعل أيضًا كنيسة السيدة العذراء في حي الأروام مقرًا له يأوي إليه عند اللزوم وذلك برضى أسقف بابيلون. أما سبب ذلك فهو انتقال عظمة مدينة الإسكندرية إلى مدينة القاهرة، وكثرة عدد المسيحيين فيها، ولارتباطه بالحكومة. فصار البابا يعين أسقفًا للإسكندرية باسم وكيل الكرازة المرقسية. شدائده كانت مدة حبريّة هذا البطريرك في خلافة الخليفة الفاطمي المستنصر، وقد نالته متاعب كثيرة على يد وزيره محمد اليازوري الذي كان شديد الكراهية للمسيحيين عامة وللأقباط خاصة. كما نالته متاعب على يد رجال قبيلة "اللواته" الذين عاثوا فسادًا في الوجه البحري وقبضوا على البابا خرستوذولس وأذاقوه ألوان العذاب بعد أن نهبوا داره. وشى به شخص يدعى علي القفطي عند أمير الجيوش بدر الجمالي، ولكن فيما بعد اتضح له كذبه، فاحترمه الأمير وأكرمه. اتهامه بتحريض ملك النوبة أُتهم بأنه استخدم سلطانه على جرجس ملك النوبة للضرر بمصالح المسلمين، وألزمه بقطع العلاقات التجارية معهم والامتناع عن إرسال الجزية المعتادة من الرقيق. وكان البابا قد أوفد أسقفًا من قبله إلى ملك النوبة لتدشين كنيسة بنيت في عهده. استدعى البابا وأخذ يقنع يازوري وزير الخليفة في مصر بأن علاقته بالنوبة دينية وليست لها أي صلة بالسياسة فاقتنع بذلك. مقاومة أحد القضاة له شيد البابا كنيسة فخمة في دمنهور واتخذها مقرًا لكرسيه أحيانًا لبعدها عن مركز الحكومة ومنع وصول الاضطهاد إليها. فكان كثير من الأقباط يتوافدون عليها. انتقل القاضي عبد الوهاب أبو الحسين من القاهرة إلى دمنهور وكان يتوهم أن البابا سيهبه شيئًا، وإذ خاب أمله استخدم كراهية الوزير للبطريرك فوشي به بأنه سلب أموال الكثيرين وبنى بها عشرين كنيسة وشيد كنيسة فخمة في دمنهور وقصرًا شاهقًا نقش عليه البسملة المسيحية. واتهمه بأنه يحتقر الإسلام. سمع له الوزير وأرسل فورًا من يهدم الكنائس، ناصره في ذلك أبو الفرج البابلي من كبار الدولة الذي كان وكيلاً على الوجه البحري، وألزم البابا أن يمحو البسملة المسيحية المنقوشة على باب قصره، فلم يمانع في ذلك، لكنه قال: "إن محوها من على السور لن يمحها عن صفحات قلبي". أُلقي القبض على البابا وبعض أساقفة الوجه البحري واعتقلوا وأُرسلوا إلى القاهرة متهمين باتهامات باطلة. لكن الخليفة أخلى سبيلهم وطيب خاطرهم. اغتاظ الوزير فأمر بإغلاق جميع الكنائس في القطر المصري، فثار الشعب القبطي وبلغ الخبر للخليفة الذي أمر بنفي الوزير إلى تانيس بأقصى الوجه البحري، وأخيرًا إذ وجده يثير المسلمين على المسيحيين قتله. إعادة القبض على البابا ثار اضطهاد آخر عندما حاول الأقباط فتح الكنائس وتعينت ضريبة باهظة على أقباط الإسكندرية مقابل تسليم البابا مفاتيح كنيسة واحدة لممارسة العبادة. ألقي القبض علي البابا وسلبوا تسعة آلاف دينارًا وجدوها في الخزنة ثم أطلقوا سراحه بتوسط ذوي النفوذ من موظفي الأقباط. الهجوم على الأديرة بينما كان البابا يزور أديرة وادي النطرون هجم اتباع ناصر الجولة زعيم الترك على الأديرة وذبحوا كثيرين من الرهبان وأسروا البابا وعذبوه، لكن الله نجاه بواسطة أحد أبنائه الأقباط يُدعى أبو الطيب، كان رئيس كتبة ناصر الدولة بعد أن دفع لمولاه ثلاثة آلاف دينار فدية. منع المئونة تدهورت حالة الأقباط المادية جدًا، وإذ رسم البابا مطرانًا لبلاد النوبة طلب من ملك النوبة جرجس أن يرسل زادًا، ولكن جنود ناصر الدولة اعترضوا رسل ملك النوبة عند وصولهم إلى حدود مصر وأرجعوهم بالمئونة إلى ملكهم. القبض على البابا إذ تولى بدر الدين الجمالي الولاية وشي إليه أحد المسلمين بأن فيكتور مطران النوبة أمر بهدم جامع المسلمين، فثار وألقي القبض على البابا. برهن له البابا كذب الاتهام فأطلقه. هرب أحد العصاة من وجه بدر الدين الجمالي إلى النوبة، فكلف البابا أن يبعث إلى أسقفه من قبله ليطلب من ملك النوبة تسليم هذا الهارب، وبالفعل قبض عليه ملك النوبة وسلمه إلى مندوبي بدر الدين وجاءوا به إلى القاهرة. القبض على البابا مرة أخرى وشي إلى بدر الدين بأن كيرلس مطران أثيوبيا يغرر بمسلمي أثيوبيا الضعيفي الإيمان ويدعوهم إلى شرب الخمر عند تناول الإفطار. القي القبض على البابا وطلب منه الوالي معاقبة المطران. وإذ لم يكن قد سيم كيرلس بعد مطرانًا أوضح البابا للوالي بطلان التهمة. كان غيظ الولاة يتزايد بسبب نفوذ البابا في أثيوبيا، فكانوا يستلمون المراسلات المتبادلة ويمزقونها أو يردونها. متاعب من داخل الكنيسة أحب يوحنا بن الظالم الأسقفية وسعى لدى البابا حتى ولاه أسقفية سخا. تحالف معه بعض الأساقفة وجمهور من الشعب على عزل البابا وادعوا بأن رسامته غير قانونية لأنه لم تقرأ عليه فصول مختصة بسيامة البطاركة. لكن استطاع أبا زكريا يحي بن مقارة وهو شيخ فاضل يعمل في بلاط الخليفة وله كلمة مسموعة أن يتدخل ويصالح البابا مع أسقف سخا ويطيّب خاطر الكل. تشاحن أسقفان على حدود ايبارشيتهما ولم يُحل الخلاف إلا بعد تعبٍ شديد. الاحتفاظ برأس مارمرقس الرسول في عهد هذا البطريرك تمكن الأقباط من الاحتفاظ برأس مار مرقس الرسول على الرغم من سعي الروم للحصول عليها مقابل عشرة آلاف دينار. من الأمور الحسنة التي تُذكر له اهتمامه بالنواحي الطقسية والعبادة، وقد وضع قوانين طقسية، توجد نسخة منها بمكتبة المتحف القبطي بمصر القديمة. علاقته بأنطاكية في أواخر حبريّة البابا خرستوذولس رُسِم بطريرك جديد في إنطاكية اسمه يوحنا وكان من القديسين، فبعث إليه الأنبا خرستوذولس برسالة الشركة في الإيمان بين الكنيستين كالمعتاد. كذلك حرص على الصلات الطيبة التي تربط بين الكنيسة في مصر ومملكة النوبة المسيحية. وأخيرُا لما أكمل سعيه تنيح بسلام سنة 1077م.
البابا كيرلس الثاني :
اختياره بابا الإسكندرية اتفق الأساقفة والإكليروس والأراخنة على اختيار الراهب الشيخ الناسك الجليل بيسوس من دير الأنبا يوأنس كاما، ولما أرادوا اقتياده قصرًا للبطريركية صرخ أنه ابن عبد فقير غير مستحق لهذه الكرامة. وإنما المستحق لها هو الراهب جورجيوس من دير أنبا مقاريوس، وأوضح لهم أنه مزكى من البابا الراحل خريستوذولس. اقتادوا الراهب جورجيوس الذي كان من أهل قلاقة بحيرة إلى الإسكندرية حيث تمت رسامته باسم كيرلس الثاني سنة 1078م. وعُرِف باسم السنجاري نسبة إلى الصومعة التي كان قد توحّد فيها وهي صومعة سنجارا. تمت سيامته في عهد خلافة المستنصر بقرار مجمع انعقد في البطريركية من الأساقفة وأراخنة الشعب. قوبل اختياره بارتياح في جميع الدوائر الحكومية. تبوأ هذا البابا الجليل السُدة المرقسية والبلاد في حالة هدوء وأمان بفضل حكم بدر الدين الجمالي الوزير الأرمني، الذي نعمت مصر في عهده بالرخاء والازدهار. بل وزار البابا الخليفة المستنصر في قصره وبارك أمه وأخته كطلبهما، كما بارك القصر أيضًا بناء على رغبتهم، وزار منزل بدر الجمالي ولقي ترحيبًا كبيرًا مشابهًا لِما لقيه في قصر الخلافة. علمه وتقواه لما كان هذا البابا قليل العلم عند انتخابه، فعل مثل البابا ديمتريوس الكرام، وفاق أترابه في العلم والمعرفة وترك لنا تراثًا كبيرًا يشهد له بعمق علمه ومعرفته. كما أنه كرَّس الميرون المقدس، ومن نعمة الله عليه أن فاض الميرون وسال من الوعاء أثناء الصلوات. رهبنة ملك النوبة بعد سيامة البابا بقليل تنازل سلمون ملك النوبة عن عرشه لابن أخته جرجس، وآثر حياة الوحدة في دير نفريوس الواقع في البرية على الحدود بين مصر والنوبة. حاصره أهل أسوان طمعًا في ضم الدير إلى مصر، وأخذوا الملك أسيرًا، وجاءوا به إلى أمير الجيوش بدر الجمّالي. قابله البابا وأراخنة الأقباط باحتفالٍ عظيمٍ، وأكرمه أمير الجيوش إكرامًا زائدًا، وخصص له قصرًا لإقامته، وبقي في مصر إلى يوم نياحته حيث دفن بدير الخندق، المعروف حاليًا بدير الأنبا رويس. إقامة الملك سلمون في مصر خلقت جوًا من الودّ والحب بين أقباط والنوبيين. وإذ لاحظ أمير الجيوش علامات الإخاء بين الأقباط والنوبيين والأثيوبيين عقد معاهدة مع النوبة وأثيوبيا لتسهيل طرق التجارة وامتدادها إلى مصر، وقد قام أراخنة الأقباط بدور حيوي في ذلك. قدّم أمير الجيوش مالاً يستعين به على إصلاح الأديرة والكنائس المتخربة. مشكلة كيرلس والأنبا ساويرس مطران أثيوبيا انطلق شخص يُدعى كيرلس إلى أثيوبيا وادّعى أنه مطرانها، وتسلط على كنائسها. وإذ سمع البابا أراد أن يرسل إليهم مطرانًا شرعيًا يُدعى ساويرس. قاوم أمير الجيوش بدر الجمالي ذلك، ورفض أن يُسرّح له بالسفر إلا إذا وعده ببناء خمسة مساجد في أثيوبيا، وأن يرسل له المطران هدية كل سنة، فوافق البابا على ذلك مجبرًا. سافر الأنبا ساويرس إلى أثيوبيا، فهرب كيرلس إلى بلدة دهلك في ديار مصر، وإذ سمع أمير الجيوش بالأمر استدعاه وأخذ كل ثروته وقتله، أما الأنبا ساويرس فعانى كثيرًا في أثيوبيا، إذ أراد مقاومة بعض العادات الفاسدة مثل السراري لدى الأمراء الذين كانوا يأخذون جملة من الجاريات بجوار الزوجة الشرعية، وكانوا يدعون إنهم باقون على شريعة موسى النبي بخصوص تعدد الزوجات، وأن ذلك محرمًا على الكهنة والشمامسة وحدهم، ومع هذا كانوا يعترفون بأن ما يفعلونه مخالف لروح السيد المسيح. حدث أن أرسل الأنبا ساويرس خلال أخيه هدية إلى أمير الجيوش فلم تلقَ قبولاً. استدعى أمير الجيوش البابا ومعه عشرة أساقفة وصار يوبخهم بشدة على تقصير البابا في تنفيذ ما وعد به، وطلب منه أن يرسل أسقفين إلى أثيوبيا ليلزم المطران بالوفاء بما وعد به، وطلب أن يسدد ضريبة خمسين عامًا سلفًا، وأن يحذر ممن يتربّصون للتجار المسلمين في الدروب. أمر أن يبقى البابا والأساقفة محجوزين، وأن يدفع كل منهم أربعة دنانير نفقة إعالته اليومية حتى يرجع الأسقفين من أثيوبيا، لكنه أخيرًا عدل عن هذا الرأي، واكتفي أن يضعهم تحت مراقبة الجنود، فذهبوا إلى كنيسة المعلقة، واتفقوا على إرسال الأنبا مرقس أسقف أوسيم والأنبا تادرس أسقف سنجار إلى أثيوبيا. مطران النوبة أرسل باسيل ملك النوبة ابن الملك السابق مندوبًا إلى أمير الجيوش ومعه هدايا فاخرة طالبًا منه أن يكلف البابا بتكريس مطران على النوبة. خشي أمير الجيوش أن يدرك الرسول بسخطه على البابا فسمح للبابا أن يمثُل أمامه ومعه أخ الأنبا ساويرس مطران أثيوبيا. دافع الأخ عن الأنبا ساويرس بأنه بنى سبعة جوامع عوضًا عن أربعة وأن الأثيوبيين هاجوا عليه واتهموه بالتحيز للمسلمين وهدموا الجوامع وأرادوا قتله واضطر أن يهرب، وأراد الملك أن يخلصه من أيديهم فأمر بسجنه حينئذ. طلب ابن ملك النوبة من أمير الجيوش أن يطلق سراح البابا والأساقفة، فقبل أمير الجيوش ذلك. أما الأسقفان اللذان ذهبا إلى أثيوبيا فأخبرا ملك أثيوبيا بخطورة الموقف، وأنه إن لم يُسرع ببناء الجوامع فسيهدم أمير الجيوش كل الكنائس في مصر. غضب الملك جدًا وأرسل إلى بدر يقول له: "إن تجاسرت ومددت يدك بسوءٍٍ إلى كنيسة واحدة فاعلم إني أقلب مكّة رأسًا على عقبٍ. ولا أرضى ببناء حجرٍ واحدٍ إلا إذا أخذت وزنه ذهبًا". بدر الدين الجمالي الأرمنّي يرى كثير من المؤرخين أن بدر الجمالي كان أرمنّي الأصل، وأن والدته أرمنيّة، وكان في أعماقه ربما مسيحيًا، لكنه كان يخشى أن يفقد مركزه، لذا كان كثيرًا ما يتحيّز للمسلمين. في أيامه تزايد عدد المهاجرين الأرمن إلى مصر، فاختاروا لأنفسهم بطريركًا يُدعى غريغوري. ولما كانت علاقة الكنيستين القبطية والأرمنية ببعضهما قوية، قام البابا كيرلس بسيامة غريغوري بطريرك الأرمن، وحرّر منشورًا لكافة الكنائس يخبرها أن كنائس مصر وأثيوبيا وإنطاكية وأرمينيا متحدة في الإيمان الأرثوذكسي. شكوى من الأساقفة ضد البابا شكاه بعض الأساقفة إلى بدر الجمالي عندما شرط على كل من رسمه على إيبارشية أن يدفع نصف الحصيلة في الإيبارشية لدير أنبا مقاريوس أو لكنيسة القديس مرقس بالإسكندرية. كان المشتكون عليه كما جاء في مخطوط دير البراموس اثنين وعشرين أسقفا، فرأى بدر الجمالي أنه ليس من حقه إدانته أو استجوابه وطلب من أساقفة مصر جميعهم في الوجهين البحري والقبلي عقد مجمع للنظر في الشكوى. وفعلاً عُقد المجمع ووضعوا الكتاب المقدس في الوسط يمثل حضور الديان العادل. بدأ المشتكون يقدمون دعواهم وكان البطريرك يجيب على كل المطلوب بكل هدوء ووقار، فظهرت أن هذه الشكاوي مغرضة ومن فرط محبة البابا أنه سامح الذين أساءوا إليه واتهموه. أعماله الرعوية وثّق البابا علاقته بأثيوبيا وإنطاكية وبلاد النوبة. ورسم لأثيوبيا أسقفًا هو أنبا ساويرس، كما رسم أساقفة كثيرين بإيبارشيات ليس لها رعاة. ودأب على تعليم الشعب القِيَم المسيحية وقراءة الكتاب المقدس وتفسيره، كما ساند مطران أثيوبيا في القضاء على عادة التسرّي بين العظماء. من مآثر هذا البابا أنه انشغل بنشر القوانين الكنسية، وفي عهده تم تدوين أربعة وثلاثين قانونًا للإكليروس والأساقفة كما طلب من شماس بالإسكندرية واسمه موهوب ابن منصور بعمل حصر لسكان برية شيهيت. ومن القوانين التي أصدرها ونشرها الآتى: منع السيمونية لمنح رتب الكهنوت. أن يؤدب الراعي الرعية بالصليب لا بالحرم، وأن لا يربط ولا يحل من غير حق، فإن ربط أو حرم من غير حق يكون هو المربوط والمحروم من الله. أي أسقف يرفض قبول خاطئ تائب فليُقطع. على كل أسقف أن يتفقد الكنائس والأديرة الواقعة في سلطانه، وأن يراعي حال كهنته ويفحص أمورهم ويوجههم للخدمة وخيرها، ويعمل على خلاص نفسه والذين يسمعونه ويعملون معه. أوضح واجب الكنيسة تجاه الفقراء والرهبان على ألا يغادر الرهبان الدير إلا كطلب البابا أو رؤسائهم، وأن يحتكم الإكليروس والشعب للكنيسة والأساقفة. وضع قانونًا بوجوب التمسك بالصوم وأهميته، وضرورة اهتمام الكهنة بسر الزيجة وشرعيته، وضرورة احترام الجميع للكنائس والمذابح والهياكل وعدم دخول الشعب إلى الهياكل. قام أحد أساقفته وهو أنبا مرقس بتنظيم القراءات الكنسية في أسبوع الآلام، ووضع كتاب تكريس المعمودية. وقد أرسل البابا كيرلس الثاني أساقفة لتدشين كنيسة القيامة، التي أُعيد بناؤها بعد حرقها أيام الحاكم بأمر الله. تنيح في 12 بؤونة سنة 808ش الموافق يوليو 1092م.
البابا ميخائيل الثاني :
اختياره بابا الإسكندرية توحّد راهب حبيس في صومعة بسنجار (مدينة ابتلعتها بحيرة البرلس)، وقد بلغ عبير رائحته الذكي إلى الأساقفة المجتمعين في القاهرة للصلاة لكي يرشدهم الله إلى من تقع عليه مسئولية تولي الكرسي المرقسي، وأوصلهم إليه زائر دخل إلى اجتماعهم فكان ميخائيل هو ضالتهم المنشودة. اعتذر ميخائيل لمن وصل إليه ناقلاً له رغبة الآباء، مؤكدًا له عدم استحقاقه. ولما علم أنهم سيحملونه قسرًا وعنوة نزل معهم، وسار الجميع إلى الإسكندرية وتمت مراسيم السيامة سنة 1092م، فتوجه بعدها البابا الجديد إلى دير أنبا مقار ليستمد العون الإلهي في خدمته الجديدة، ثم عاد إلى القاهرة متخذًا كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل على جزيرة النيل مقرًا له. علاقاته الطيبة برجال الدولة إذ استتب الأمن بتولي الأفضل شاهنشاه بن بدر الدين الجمالي السلطة وتولي المستعلي بالله أبيه المستنصر رغم مناوشات أخوه الأكبر، وبدت الأمور هادئة للبابا الجديد ليباشر مهمة خدمته، كما أن القدس كانت تحت حكم رجل قبطي نال الحظوة لدى الدولة وهو منصور التلباني. عندما جاء الفيضان ناقصًا إلى الحد الذي أزعج السلطات، طلبوا إلى البابا الذهاب إلى أثيوبيا لاتخاذ الوسائل التي تسهل مرور مياه النيل، وفعلاً جاءت إرساليته بالبشارة الطيبة وانصلحت العلاقات بين مصر وأثيوبيا بفضل البابا الذي كان أول بابا إسكندري يسافر إلى أثيوبيا رغم استمرار العلاقات بين الكنيستين منذ البابا أثناسيوس الرسولي البابا العشرين، كما رسم لهم مطرانًا جديدًا ثم مطرانًا آخر بدلاً منه عندما أثبت عدم جدارته. عندما انتشر مرض الطاعون في مصر جال البابا بين أبنائه يواسيهم ويشجعهم ويرفع عنهم الصلوات، حتى أصيب هو ذاته بالمرض ورقد به سنة 1102م في أيام الآمر بأحكام الله بن المستعلي.
عشان حبيبة قلبي روكا الجميلة
وملقتش هدية اقدمها ليها غير اني اكمل المجموعة
اهداء باقي المجموعة روكا
وبكده هيكون المنتدي في سير الاباء البطاركة كلهم ويعتبر موسوعه كاملة ممكن اللي يحتاج حاجة يرجع ليها
القرن الثاني عشر
البابا مقار الثاني :
كان راهبًا بدير القديس مقاريوس ورُسِم بطريركًا سنة 1102م، ورغم جلوسه على كرسي مار مرقس نحو ستة وعشرين سنة إلا أن هذه المدة لم يحدث فيها ما يستحق الذكر سوى أمرين: أولاً: بعد أن خلا كرسي مصر، يبدو أن هذا البطريرك طمع في ضم أسقفية مصر إليه ولا يقيم أسقفًا عليها، فاجتمع أراخنة مصر وقالوا: "كما أنه لا يجوز لنصراني أن يكون له زوجتين كذلك لا يجوز أن يكون لأسقف كرسيين، والأنبا مكاريوس هو أسقف مدينة الإسكندرية فكيف يمكن أن يكون له أسقفية مصر؟" وأخذوا يفكرون فيمن يصلح للأسقفية لهذا الكرسي الذي كان يعتبر تاليًا للبطريرك، ثم اختاروا أربعة كان أولهم مرقورة الحبي بابيار، ثم أقاموا قداسًا إلهيًا وعملوا قرعة بين هؤلاء الأربعة وتقدم صبي شماس وأخذ من الرقاع واحدة وكانت باسم يوأنس بن سنهوت، وعملوا محضرًا بذلك وأرسلوه للبطريرك ومعه رسالة من الشعب، وهكذا تمت رسامة أسقف لمصر. وهذه القصة توضح حق الشعب في اختيار أسقفهم وتفهم الآباء البطاركة لهذا الأمر. ثانيا: في عهده هاجمت أول حملة صليبية البلاد المصرية، فقد اتجه بولدوين Boldwin ملك مملكة بيت المقدس اللاتينية إلى البلاد المصرية لغزوها وكان ذلك سنة 1117م ووصل إلى الفرما وفتك بأهلها بلا أدنى تمييز بين مسلمٍ ومسيحيٍ وأشعل النار فيها، واستمر في زحفه حتى وصل إلى تانيس لكنه اضطر إلى العودة بعد أن مَرِض مَرَض الموت. ولم يحاول المصريون الانتقام من ذلك الهجوم ووقفوا موقفًا سلبيًا حتى نهاية الخلافة الفاطمية. مما يذكر أن الوزير الأفضل لقي حتفه أواخر سنة 1121م مقتولاً بتدبير الخليفة الفاطمي الآمر. ولا شك أن الأفضل كان إنسانًا حكيمًا أحسن معاملة الأقباط لكن غيرة الخليفة من نفوذ وزيره قادته إلى هذه الجريمة الشنعاء. ويُذكر أن عن الخليفة الآمر أنه كان يتردد على دير نهيا بجوار الجيزة ويقضي فيه بضعة أيام، وكان في كل مرة يزور الدير يمنح رهبانه ألف درهم، أما في زيارته الأولى فقد أوقف عليه ثلاثين فدانًا لا يدفعون عنها مالاً، وبلغ جملة ما قدمه للدير أكثر من ثلاثين ألف درهم. وقد تنيح البابا مكاريوس في سنة 1128م.
البابا غبريال الثاني :
هو الشهير بغبريال بن تُريك. ولد في القرن الثاني عشر سنة 800ش (1084م)، وكان من كبار مدينة مصر (الفسطاط) وأراخنتها. كان والده قسًا ترمّل، وكان قديرًا وعالمًا متقشفًا يمارس الحياة النسكية. كان يشتهي الخدمة فطلب سيامته أسقفًا، وإذ طُلب منه مال لسيامته رفض السيمونية. وكان لهذا الأب ابنان: أحدهما أبو العلا الذين صار البابا غبريال، وأخوه أبو النصر بن تريك كان مملوء غيرة، فبدأ في بناء كنيسة أبانوب، وتنيّح قبل أن يكملها، فقام شقيقه البابا بتكملة بنائها. وكان أبو العلا عالمًا فاضلاً ذا سيرة حميدة، وعمل كاتبًا في الديوان السلطاني لدى الوزير أحمد بن الأفضل. لما أراد تكريس حياته للخدمة في كنيسة أبي سيفين، سمح له الوزير أن يحتفظ بمركزه في الديوان مع قبوله الشماسية في الكنيسة المذكورة، لاستقامة حياته وعِظم أمانته وقدرته علي تصريف الأمور. وقد نسخ كتبًا كثيرة قبطية وعربية فوعي محتوياتها وفهم معانيها. سيامته بطريركًا اختاره مقدمو الشعب ورؤساؤهم لكرسي البطريركية بعد انتقال البابا مقار الثاني. تنبأ راهب سرياني بدير أبي مقار يُدعي أنبا يوسف بسيامته. فقد جاء شيوخ الدير يبكون علي أنبا مقار قائلين له بأنه لا يوجد من يحتل مكانه، أما هو فقال: "يا أبهاتي إيش هو هذا ابن تريك". ولم يكن قد عرفه ولا التقى به. في البداية كان الوزير متمسكًا به، وأخيرًا سمح لهم بسيامته. ألبسوه ثياب الرهبنة وتمت رسامته يوم 9 أمشير سنة 847ش (3 فبراير 1131م). اهتمامه بالعقيدة حدث أنه لما كان يقدس أول قداس في دير القديس مقاريوس كعادة البطاركة قديمًا، أن أضاف على الاعتراف الذي يتلى في آخر القداس بعد قوله: "أخذه من سيدتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم" هذه العبارة: "وصيّره واحدًا مع لاهوته". فأنكر عليه الرهبان خشية أن يُفهم من ذلك أنه حصل امتزاج وطلبوا منه تركها، فامتنع قائلاً: "أنها أضيفت بقرار من مجمع الأساقفة". وبعد مباحثات طويلة تقرر إضافة هذه الجملة: "بدون امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير"، وذلك خوفًا من الوقوع في هرطقة أوطيخا، فوافقهم على ذلك. أعماله الرعوية كان هذا البطريرك عالمًا تقيًا حارب فساد شعبه، فمنع السراري وحارب السيمونية. وقد اشتهر بترتيبه صلوات جمعة الآلام في كتاب سمّاه البصخة، وهو الترتيب الذي اعتمدت عليه الكنيسة إلى الآن. كما وضع قوانين وأحكامًا في المواريث وفي علاقة الشعب بالكنيسة وتنظيم أمورها، أصلح فيها عادات وتقاليد أهل الصعيد، وأيضًا قوانين فيما يختص بأمور الإكليروس. منع أيضًا دفن الموتي في الكنائس؛ وعندما عصاه قوم ودفنوا بسوس القمص بكنيسة حارة الروم بالقاهرة أغلق الكنيسة إلى حين. كما منع إخراج رفات القديسين والشهداء التي تحوّلت إلى نوع من التجارة. ذبيحة الملاك ميخائيل إذ سأله البعض بخصوص تقديم ذبيحة لرئيس الملائكة ميخائيل في حزم رفض قائلاً: "لا يجوز تقديم ذبيحة إلا علي اسم اللّه، ومن يعمل غير ذلك لا تُقبل صدقته". منع التمييز بين الكهنة كان بعض الكهنة الذين سامهم بطاركة يفتخرون علي من سامهم أساقفة، فأنكر البابا ذلك، وقد أطاعه الكل في هذا الأمر عدا كهنة الإسكندرية وكهنة برية أبي مقار. ورُسم في أيامه 53 أسقفًا وكهنة كثيرين. وقد وجد مكانة لدى حكام عصره وحبًا شديدًا لدى شعبه، وحدث أن طلب منه حاكم ذاك الوقت مالاً، فجمع له الأراخنة ألف مثقال ذهب ودفعوها عنه. علاقته بكنيسة أثيوبيا كان يدير الكنيسة في أثيوبيا مطران يعاونه سبعة أساقفة أقباط. طلب المطران من ملك أثيوبيا زيادة عدد الأساقفة فخشي البابا أن تكون هذه الخطة لسيامة بطريرك يستقلّ بأثيوبيا، لذا رفض الطلب. إذ رفض البابا الطلب قاموا بسيامة أساقفة أثيوبيين دون الرجوع إلى البابا أو المطران القبطي بأثيوبيا. قضى على الكرسي المرقسي أربعة عشر عامًا، ثم تنيّح بسلام في العاشر من برمودة سنة 1145م.
البابا ميخائيل الثالث :
البابا البسيط هو أحد رهبان دير أبو مقار ببرية شيهيت. كان إنسانًا بسيطًا جمع بين الوقار والقداسة والعفة، لكنه لم يكن عالمًا ولا قارئًا للكتب، لزم قانون الرهبنة من غير قراءة قبطي ولا عربي. عُمِلت قرعة له مع اثنين آخرين وورقة رابعة باسم "السيد المسيح الراعي الصالح"، ووضعوا الأوراق على المذبح وأقاموا القداس ثلاثة أيام متوالية وأحضروا طفلاً ليختار ورقة فكان المنصب من نصيب ميخائيل هذا، وكان مشهودًا له من الجميع بحسن السيرة. بعد أن أصابته القرعة كرزوه شماسًا فقسًا وفي ثالث يوم قمصًا وكان ذلك في الكنيسة المعلقة بمصر، وتمت رسامته بطريركًا في الإسكندرية سنة 1145م. ويذكر تاريخ البطاركة أنه "بكلفة عظيمة حفظوه قداس باسيليوس خاصة إلى أن قدس به". كانت مدة بطريركيته قصيرة جدًا لكنها كانت طيبة، ولم يحدث أن أحدًا ارتد عن المسيحية في أيامه، وفي أيامه القلائل رسم ثمانية أساقفة منهم أسقف على كرسي شبرا الخيمة وكرسي شبرا دمنهور وكرسي منية بني خصيب وكرسي أخميم وكرسي البلينا. وكان كل مقامه على الكرسي البطريركي ثمانية شهور وأربعة أيام منها ثلاثة شهور في عافية والباقي وهو خمسة شهور كان مريضًا، وقضى مدة مرضه بدير الأنبا مقار، وتنيح سنة 1146م.
البابا يوحنا الخامس :
سعى الراهب يوأنس بن كدران للباباوية بعد نياحة البابا ميخائيل سعى الراهب يوأنس بن كدران من أجل رئاسة الكهنوت، ولكن اتجهت الأنظار إلى الراهب يوأنس بن أبي الفتح من دير أنبا يحنس القصير، فذهبوا إليه ورسموه قمصًا قبل إحضاره إلى القاهرة. ومع أن بن كدران قصد الخليفة الظاهر إلا أنه لم ينصفه إذ أن هذه الأمور في يد رجال الكنيسة لا الدولة، وسافر الجمع إلى الإسكندرية حيث رسموا يوأنس بن أبي الفتح بطريركًا في أغسطس سنة 1146م. من مظاهر محبة هذا البابا الجديد لشعبه وسعيه على راحتهم أنه استدعى الراهب بن كدران وعرض عليه أن يكون أسقفا لسمنود، ولكنه عاد إلى صوابه وإلى ديره واعتذر شاكرًا له عطفه. نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين وقد اهتم هذا البابا الذي نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين لتشجيع نسخ الكتب والمخطوطات تشجيعًا للقراءة والإطلاع على كنوز الأقدمين، خصوصًا إبان الحروب الصليبية التي اجتاحت الشرق وقضت على الأخضر واليابس. سجنه ولأن الكنيسة القبطية مسئولة عن أختها كنيسة أثيوبيا، فقد اغتصب العرش الأثيوبي مغتصب ولما وبّخه المطران على سوء فعلته طلب إلى حاكم مصر - العادل - والبطريرك تعيين آخر محله، ولما رفض البطريرك المصري ألقاه العادل في السجن ولم يخرج إلا بعد مقتل العادل. هدم الكنائس وقد عانت مصر في فترة هذا البابا اضطرابات سياسية قُتل فيها الظافر، وخلال الاضطرابات والقلق تهدمت كنائس وسرقت الأواني، لولا تواجد أحد الأقباط الغيورين في ديوان الخليفة واسمه الأسعد صليب، أعاد بناء ما تهدّم من الكنائس وترميم البعض وشراء احتياجاتها. تألم البابا كثيرًا ولشدة حساسيته حزن على ما يحدث وفضل تسليم حياته في يد معطيها، فلم يؤجل الله له طلبًا ونقله إلى الأمجاد سنة 1166م، ودفنه المؤمنون في كنيسة أبي سيفين بجوار سلفه الصالح أنبا غبريال إلى أن نقل البابا مرقس الثالث جسديهما إلى برية شيهيت.
البابا مرقس الثالث :
اُختير للبطريركية سنة 1166م بعد نياحة البابا يوحنا الخامس، في وقت زادت فيه اضطراب الأحوال الداخلية والخارجية للبلاد. كان تاجرًا شماسًا بتولاً ناسكًا يسمى "مرقس أبي الفرج بن أبي السعد" وهو معروف بابن زرعه، سرياني الجنس قبطي المذهب، وتمت مراسم السيامة في الإسكندرية كالعادة. ضيق شديد لأن هذا البابا يعيش مشاعر الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، نزل إلى سائر أنحاء البلاد يعزي القلوب ويضمد الجراح ويشدد من أزر ضعاف النفوس والقلوب خصوصًا بعد أن لمس الضيق الشديد الذي حل بالقبط من جراء تشدد أسد الدين شركوه ووزيره بهاء الدين قراقوش الذين قتلوا ونهبوا الأموال واغتصبوا النساء بالإضافة إلى السياسة البغيضة للقبط. فما كان من البطريرك إلا أن التجأ إلى الصوم والصلاة فنظر الله إلى دموعه ومات شيركوه فجأة. في عصر الأيوبيين تولى صلاح الدين الأيوبي وبدأ عصر جديد في الدولة والموقف من القبط. فانتقل الحكم إلى الأيوبيين وبدأ عهد من الاستقرار والعدالة، وأحس المصريون جميعًا بالعدالة والسماحة والكرم، بل وأكثر من هذا أمر ببناء ما تهدم من الكنائس واختار من كبار رجال الدولة الشيخ الرئيس صفي الدين بن أبي المعالي. وكان من مظاهر الاستقرار أيضًا بناء القلعة التي بناها صلاح الدين على الطراز البيزنطي إذ أعجبه نظام بناء الكنائس القبطية على هذا النسق والنظام، وأشرف على بنائها مهندسان قبطيان هما أبو منصور وأبو مشكور، وحال الانتهاء من بنائها نقل إليها مقر الحكم فصارت مركزًا للحكم لمدة 666 سنة أي حتى 1874م في عصر الخديوي إسماعيل الذي بنى قصر عابدين ونقل إليه مقر الحكم. انتشبت في عهده الحروب الصليبية واشتد الخلاف بينه وبين مرقس بن قنبر المبتدع. وبدت نهاية أيام البابا مرقس الثالث هادئة بدرجة ملحوظة رغم أن بداية أيامه كانت صعبة، ورحل ذلك الرجل البار سنة 1189م
البابا يوحنا السادس :
تاجر غني وتقي رسم بطريركًا سنة 1189م بعد نياحة سلفه الأنبا مرقس بن زرعة بخمسة وثلاثين يومًا، وهو علماني وكان اسمه قبل رسامته أبا المجد بن أبي غالب بن سورس. كان ينتسب إلى أسرة ذات ثراءٍ كبيرٍ، وكان يشتغل بالتجارة، وكان له وكالة بمدينة مصر، وكان يمتلك مصنعًا للسكر وطواحين وأملاك. كان في تجارته شريكًا لقومٍ يدعون أولاد الخباب، وكان يتردد على بلاد اليمن في البحر حتى كثر ماله وذاع صيته. حدث مرة بينما كانوا عائدين من بلاد اليمن أن انكسرت بهم السفينة وفقد كل ما بها، فحزن أولاد الخباب وحسبوا أن مالهم قد ضاع لكن أبا المجد أعلمهم بان مالهم كان محتفظًا به في خنادق المركب وانهم لم يفقدوا شيئًا فسُروا منه للغاية وأكرموه للغاية. أما عن تقواه فيذكر كتاب تاريخ البطاركة الكثير عن ذلك: "كان بتولاً عالمًا، كاملاً في جسده وقامته، بشوش الوجه حسن الخلق ليّن الكلام، ما كان يغفل عن صلوات السواعي الليلية والنهارية، محبًا ومجتهدًا في ضيافة الغرباء وافتقاد المرضى والمحبوسين، كثير المودة لكل أحد ويفعل الخير مع كل أحدٍ". ترشيحه للباباوية لشدة محبة المسلمين له توسط في رسامته القاضيان المريضي والرضى أخوه ابنا الجباب، وهذا يتفق مع الشروط التي وضعها الرسول بولس عن الأسقف واختياره أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج، أي من غير المؤمنين. وكانت رسامته في عهد سلطنة صلاح الدين الأيوبي. قيل أنه كان متزوجًا، ولما ماتت زوجته لم يشأ أن يتخذ له زوجة غيرها وآثر العزلة. ومع أن القانون يحتم أن الذي ينتخب بطريركا لابد أن يكون أعزب من بدء حياته إلا أن علم أبي المجد الواسع وسموّ فضيلته أكسباه الأفضلية على جميع المرشحين. لم تكن له رغبة في نيل هذا المركز السامى بل كان يسعى لدى الحكام لتعيين أحد غيره. سيامة مطران أثيوبيا في عهده تنيّح المطران القبطي بأثيوبيا، فأرسل إمبراطور أثيوبيا للبطريرك طالبًا رسامة مطران لهم، كما أرسل هدية جليلة إلى سلطان مصر ومعه كتاب يطلب فيه أن يقوم البطريرك برسامة مطران أثيوبيا. ظل البطريرك يبحث بين الرهبان عمن يصلح، واستغرق الأمر ثلاثة أشهر حتى ضجر رسل إمبراطور أثيوبيا من طول مقامهم، وكان ذلك في عهد الملك العادل. أخيرًا استقر رأيه على ترقية أسقف فوة وكان يدعى كييل إلى رتبة مطران وإرساله إلى أثيوبيا. وكان الصليبيون قد أفنوا أهالي مدينة فوة عن بكرة أبيهم سواء من المسيحيين أو المسلمين واضطر الأسقف إلى الالتجاء للدير. قوبل المطران كييل (كيلوس) بغاية الحفاوة والترحاب في بلاد أثيوبيا حتى أن الإمبراطور استقبله خارج العاصمة مسيرة ثلاثة أيام وأغرقوه بالعطايا، وكان له عشرة قسوس كتلاميذ لخدمته. وتفاءل الأثيوبيون بمقدمه خيرًا لأن المطر كان قد امتنع عن النزول فصلى وقدس هذا الأب فنزل المطر. مطران إثيوبيا والحياة المترفة وحدث في السنة الخامسة أن ضاع قضيب ذهب من خزانة المطران الذي اتهم كبير قسوسه وهو أحد التلاميذ العشرة بسرقة هذا القضيب وأمر العبيد بضربه، فأخذوا يضربونه أمامه بلا شفقة، رغم توسل بعض الكهنة، حتى مات، وإذ أراد أهله الانتقام فرَّ الأسقف حاملاً معه ما خف حمله وغلا ثمنه، ولكن كل هذا أُخِذ منه بالقوة في رحلته الطويلة إلى مصر حتى وصل إليها معدمًا. سيامة مطران آخر لإثيوبيا ولما تقابل مع البطريرك روى له رواية مخالفة للواقع لم يصدقها البابا ولم يتعجل إصدار الأحكام، بل أرسل كتابًا إلى إمبراطور أثيوبيا يستعلم منه عن حقيقة الموقف، فجاء رد الإمبراطور كيف أن المطران كييل عاش في أبهة تفوق الخيال وبنى لنفسه قصرًا فخمًا، وحضر مع رسول البطريرك رسول من قِبَل الإمبراطور. عقد البطريرك مجمعًا على المطران كييل في كنيسة المعلقة وقضى بتجريد كييل من رتبته الكهنوتية بعد أن أقر بصحة الأخطاء المنسوبة اليه. رسم البطريرك مطرانًا آخر لأثيوبيا يدعى اسحق وكان راهبًا بدير الأنبا أنطونيوس، وكان أخوه الأكبر راهبًا معه فرسمه قسًا وأرسلهما إلى بلاد أثيوبيا. فقام المطران اسحق بخدمة كنيسة أثيوبيا خدمة مرضية وقد أعطاه الله نعمة في عيون الأثيوبيين فحسبوه في عداد القديسين. ومما يذكر عنه أنه استحضر من مصر عددًا من العمال الأقباط لنقش حجارة الكنائس بأثيوبيا. قس يتزوج بعد وفاة زوجته حدث في زمن هذا البطريرك أن قسًا من البشمور ترمل بوفاة زوجته فتزوج بأخرى، فطردوه من بلده فمضى إلى الإسكندرية وأخذ يؤدي في كنائسها الخدمات الدينية. فلما نما خبره إلى البطريرك استاء أشد الاستياء ووبخ إكليروس الإسكندرية وسن قانونًا يقضي بأنه لا يجوز لأية كنيسة أن تقبل كاهنًا غير معروف ليؤدي بها الخدمات الدينية دون أن يكون معه تصريح كتابي بذلك من رئاسة الكنيسة. إلغاء السيمونية شهد أحد المورخين المسلمين عن البابا يوحنا بأنه عاش حياته زاهدًا في المال فألغى السيمونية، وكان ثريًا، فلم يشأ أن يُثقل على الشعب في شيء، بل عاش كل أيام رئاسته يصرف على نفسه ومن معه، ويتصدق على الفقراء من ماله الخاص، وأبى إجابة مطالب الإسكندريين الباهظة حفظًا لمال الوقف، ولهذا توفرت أموال البطريركية، وكانت سببًا في طمع داود بن لقلق والسعي للاستيلاء عليها. أخيرًا تنيّح هذا الأب الطاهر سنة 1216م، بعد أن قضى على الكرسي البطريركي نحو سبع وعشرين سنة وحزن عليه الجميع أقباطًا ومسلمون.