القرن الثاني عشر
البابا مقار الثاني :
كان راهبًا بدير القديس مقاريوس ورُسِم بطريركًا سنة 1102م، ورغم جلوسه على كرسي مار مرقس نحو ستة وعشرين سنة إلا أن هذه المدة لم يحدث فيها ما يستحق الذكر سوى أمرين: أولاً: بعد أن خلا كرسي مصر، يبدو أن هذا البطريرك طمع في ضم أسقفية مصر إليه ولا يقيم أسقفًا عليها، فاجتمع أراخنة مصر وقالوا: "كما أنه لا يجوز لنصراني أن يكون له زوجتين كذلك لا يجوز أن يكون لأسقف كرسيين، والأنبا مكاريوس هو أسقف مدينة الإسكندرية فكيف يمكن أن يكون له أسقفية مصر؟" وأخذوا يفكرون فيمن يصلح للأسقفية لهذا الكرسي الذي كان يعتبر تاليًا للبطريرك، ثم اختاروا أربعة كان أولهم مرقورة الحبي بابيار، ثم أقاموا قداسًا إلهيًا وعملوا قرعة بين هؤلاء الأربعة وتقدم صبي شماس وأخذ من الرقاع واحدة وكانت باسم يوأنس بن سنهوت، وعملوا محضرًا بذلك وأرسلوه للبطريرك ومعه رسالة من الشعب، وهكذا تمت رسامة أسقف لمصر. وهذه القصة توضح حق الشعب في اختيار أسقفهم وتفهم الآباء البطاركة لهذا الأمر. ثانيا: في عهده هاجمت أول حملة صليبية البلاد المصرية، فقد اتجه بولدوين Boldwin ملك مملكة بيت المقدس اللاتينية إلى البلاد المصرية لغزوها وكان ذلك سنة 1117م ووصل إلى الفرما وفتك بأهلها بلا أدنى تمييز بين مسلمٍ ومسيحيٍ وأشعل النار فيها، واستمر في زحفه حتى وصل إلى تانيس لكنه اضطر إلى العودة بعد أن مَرِض مَرَض الموت. ولم يحاول المصريون الانتقام من ذلك الهجوم ووقفوا موقفًا سلبيًا حتى نهاية الخلافة الفاطمية. مما يذكر أن الوزير الأفضل لقي حتفه أواخر سنة 1121م مقتولاً بتدبير الخليفة الفاطمي الآمر. ولا شك أن الأفضل كان إنسانًا حكيمًا أحسن معاملة الأقباط لكن غيرة الخليفة من نفوذ وزيره قادته إلى هذه الجريمة الشنعاء. ويُذكر أن عن الخليفة الآمر أنه كان يتردد على دير نهيا بجوار الجيزة ويقضي فيه بضعة أيام، وكان في كل مرة يزور الدير يمنح رهبانه ألف درهم، أما في زيارته الأولى فقد أوقف عليه ثلاثين فدانًا لا يدفعون عنها مالاً، وبلغ جملة ما قدمه للدير أكثر من ثلاثين ألف درهم. وقد تنيح البابا مكاريوس في سنة 1128م.
البابا غبريال الثاني :
هو الشهير بغبريال بن تُريك. ولد في القرن الثاني عشر سنة 800ش (1084م)، وكان من كبار مدينة مصر (الفسطاط) وأراخنتها. كان والده قسًا ترمّل، وكان قديرًا وعالمًا متقشفًا يمارس الحياة النسكية. كان يشتهي الخدمة فطلب سيامته أسقفًا، وإذ طُلب منه مال لسيامته رفض السيمونية. وكان لهذا الأب ابنان: أحدهما أبو العلا الذين صار البابا غبريال، وأخوه أبو النصر بن تريك كان مملوء غيرة، فبدأ في بناء كنيسة أبانوب، وتنيّح قبل أن يكملها، فقام شقيقه البابا بتكملة بنائها. وكان أبو العلا عالمًا فاضلاً ذا سيرة حميدة، وعمل كاتبًا في الديوان السلطاني لدى الوزير أحمد بن الأفضل. لما أراد تكريس حياته للخدمة في كنيسة أبي سيفين، سمح له الوزير أن يحتفظ بمركزه في الديوان مع قبوله الشماسية في الكنيسة المذكورة، لاستقامة حياته وعِظم أمانته وقدرته علي تصريف الأمور. وقد نسخ كتبًا كثيرة قبطية وعربية فوعي محتوياتها وفهم معانيها. سيامته بطريركًا اختاره مقدمو الشعب ورؤساؤهم لكرسي البطريركية بعد انتقال البابا مقار الثاني. تنبأ راهب سرياني بدير أبي مقار يُدعي أنبا يوسف بسيامته. فقد جاء شيوخ الدير يبكون علي أنبا مقار قائلين له بأنه لا يوجد من يحتل مكانه، أما هو فقال: "يا أبهاتي إيش هو هذا ابن تريك". ولم يكن قد عرفه ولا التقى به. في البداية كان الوزير متمسكًا به، وأخيرًا سمح لهم بسيامته. ألبسوه ثياب الرهبنة وتمت رسامته يوم 9 أمشير سنة 847ش (3 فبراير 1131م). اهتمامه بالعقيدة حدث أنه لما كان يقدس أول قداس في دير القديس مقاريوس كعادة البطاركة قديمًا، أن أضاف على الاعتراف الذي يتلى في آخر القداس بعد قوله: "أخذه من سيدتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم" هذه العبارة: "وصيّره واحدًا مع لاهوته". فأنكر عليه الرهبان خشية أن يُفهم من ذلك أنه حصل امتزاج وطلبوا منه تركها، فامتنع قائلاً: "أنها أضيفت بقرار من مجمع الأساقفة". وبعد مباحثات طويلة تقرر إضافة هذه الجملة: "بدون امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير"، وذلك خوفًا من الوقوع في هرطقة أوطيخا، فوافقهم على ذلك. أعماله الرعوية كان هذا البطريرك عالمًا تقيًا حارب فساد شعبه، فمنع السراري وحارب السيمونية. وقد اشتهر بترتيبه صلوات جمعة الآلام في كتاب سمّاه البصخة، وهو الترتيب الذي اعتمدت عليه الكنيسة إلى الآن. كما وضع قوانين وأحكامًا في المواريث وفي علاقة الشعب بالكنيسة وتنظيم أمورها، أصلح فيها عادات وتقاليد أهل الصعيد، وأيضًا قوانين فيما يختص بأمور الإكليروس. منع أيضًا دفن الموتي في الكنائس؛ وعندما عصاه قوم ودفنوا بسوس القمص بكنيسة حارة الروم بالقاهرة أغلق الكنيسة إلى حين. كما منع إخراج رفات القديسين والشهداء التي تحوّلت إلى نوع من التجارة. ذبيحة الملاك ميخائيل إذ سأله البعض بخصوص تقديم ذبيحة لرئيس الملائكة ميخائيل في حزم رفض قائلاً: "لا يجوز تقديم ذبيحة إلا علي اسم اللّه، ومن يعمل غير ذلك لا تُقبل صدقته". منع التمييز بين الكهنة كان بعض الكهنة الذين سامهم بطاركة يفتخرون علي من سامهم أساقفة، فأنكر البابا ذلك، وقد أطاعه الكل في هذا الأمر عدا كهنة الإسكندرية وكهنة برية أبي مقار. ورُسم في أيامه 53 أسقفًا وكهنة كثيرين. وقد وجد مكانة لدى حكام عصره وحبًا شديدًا لدى شعبه، وحدث أن طلب منه حاكم ذاك الوقت مالاً، فجمع له الأراخنة ألف مثقال ذهب ودفعوها عنه. علاقته بكنيسة أثيوبيا كان يدير الكنيسة في أثيوبيا مطران يعاونه سبعة أساقفة أقباط. طلب المطران من ملك أثيوبيا زيادة عدد الأساقفة فخشي البابا أن تكون هذه الخطة لسيامة بطريرك يستقلّ بأثيوبيا، لذا رفض الطلب. إذ رفض البابا الطلب قاموا بسيامة أساقفة أثيوبيين دون الرجوع إلى البابا أو المطران القبطي بأثيوبيا. قضى على الكرسي المرقسي أربعة عشر عامًا، ثم تنيّح بسلام في العاشر من برمودة سنة 1145م.
البابا ميخائيل الثالث :
البابا البسيط هو أحد رهبان دير أبو مقار ببرية شيهيت. كان إنسانًا بسيطًا جمع بين الوقار والقداسة والعفة، لكنه لم يكن عالمًا ولا قارئًا للكتب، لزم قانون الرهبنة من غير قراءة قبطي ولا عربي. عُمِلت قرعة له مع اثنين آخرين وورقة رابعة باسم "السيد المسيح الراعي الصالح"، ووضعوا الأوراق على المذبح وأقاموا القداس ثلاثة أيام متوالية وأحضروا طفلاً ليختار ورقة فكان المنصب من نصيب ميخائيل هذا، وكان مشهودًا له من الجميع بحسن السيرة. بعد أن أصابته القرعة كرزوه شماسًا فقسًا وفي ثالث يوم قمصًا وكان ذلك في الكنيسة المعلقة بمصر، وتمت رسامته بطريركًا في الإسكندرية سنة 1145م. ويذكر تاريخ البطاركة أنه "بكلفة عظيمة حفظوه قداس باسيليوس خاصة إلى أن قدس به". كانت مدة بطريركيته قصيرة جدًا لكنها كانت طيبة، ولم يحدث أن أحدًا ارتد عن المسيحية في أيامه، وفي أيامه القلائل رسم ثمانية أساقفة منهم أسقف على كرسي شبرا الخيمة وكرسي شبرا دمنهور وكرسي منية بني خصيب وكرسي أخميم وكرسي البلينا. وكان كل مقامه على الكرسي البطريركي ثمانية شهور وأربعة أيام منها ثلاثة شهور في عافية والباقي وهو خمسة شهور كان مريضًا، وقضى مدة مرضه بدير الأنبا مقار، وتنيح سنة 1146م.
البابا يوحنا الخامس :
سعى الراهب يوأنس بن كدران للباباوية بعد نياحة البابا ميخائيل سعى الراهب يوأنس بن كدران من أجل رئاسة الكهنوت، ولكن اتجهت الأنظار إلى الراهب يوأنس بن أبي الفتح من دير أنبا يحنس القصير، فذهبوا إليه ورسموه قمصًا قبل إحضاره إلى القاهرة. ومع أن بن كدران قصد الخليفة الظاهر إلا أنه لم ينصفه إذ أن هذه الأمور في يد رجال الكنيسة لا الدولة، وسافر الجمع إلى الإسكندرية حيث رسموا يوأنس بن أبي الفتح بطريركًا في أغسطس سنة 1146م. من مظاهر محبة هذا البابا الجديد لشعبه وسعيه على راحتهم أنه استدعى الراهب بن كدران وعرض عليه أن يكون أسقفا لسمنود، ولكنه عاد إلى صوابه وإلى ديره واعتذر شاكرًا له عطفه. نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين وقد اهتم هذا البابا الذي نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين لتشجيع نسخ الكتب والمخطوطات تشجيعًا للقراءة والإطلاع على كنوز الأقدمين، خصوصًا إبان الحروب الصليبية التي اجتاحت الشرق وقضت على الأخضر واليابس. سجنه ولأن الكنيسة القبطية مسئولة عن أختها كنيسة أثيوبيا، فقد اغتصب العرش الأثيوبي مغتصب ولما وبّخه المطران على سوء فعلته طلب إلى حاكم مصر - العادل - والبطريرك تعيين آخر محله، ولما رفض البطريرك المصري ألقاه العادل في السجن ولم يخرج إلا بعد مقتل العادل. هدم الكنائس وقد عانت مصر في فترة هذا البابا اضطرابات سياسية قُتل فيها الظافر، وخلال الاضطرابات والقلق تهدمت كنائس وسرقت الأواني، لولا تواجد أحد الأقباط الغيورين في ديوان الخليفة واسمه الأسعد صليب، أعاد بناء ما تهدّم من الكنائس وترميم البعض وشراء احتياجاتها. تألم البابا كثيرًا ولشدة حساسيته حزن على ما يحدث وفضل تسليم حياته في يد معطيها، فلم يؤجل الله له طلبًا ونقله إلى الأمجاد سنة 1166م، ودفنه المؤمنون في كنيسة أبي سيفين بجوار سلفه الصالح أنبا غبريال إلى أن نقل البابا مرقس الثالث جسديهما إلى برية شيهيت.
البابا مرقس الثالث :
اُختير للبطريركية سنة 1166م بعد نياحة البابا يوحنا الخامس، في وقت زادت فيه اضطراب الأحوال الداخلية والخارجية للبلاد. كان تاجرًا شماسًا بتولاً ناسكًا يسمى "مرقس أبي الفرج بن أبي السعد" وهو معروف بابن زرعه، سرياني الجنس قبطي المذهب، وتمت مراسم السيامة في الإسكندرية كالعادة. ضيق شديد لأن هذا البابا يعيش مشاعر الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، نزل إلى سائر أنحاء البلاد يعزي القلوب ويضمد الجراح ويشدد من أزر ضعاف النفوس والقلوب خصوصًا بعد أن لمس الضيق الشديد الذي حل بالقبط من جراء تشدد أسد الدين شركوه ووزيره بهاء الدين قراقوش الذين قتلوا ونهبوا الأموال واغتصبوا النساء بالإضافة إلى السياسة البغيضة للقبط. فما كان من البطريرك إلا أن التجأ إلى الصوم والصلاة فنظر الله إلى دموعه ومات شيركوه فجأة. في عصر الأيوبيين تولى صلاح الدين الأيوبي وبدأ عصر جديد في الدولة والموقف من القبط. فانتقل الحكم إلى الأيوبيين وبدأ عهد من الاستقرار والعدالة، وأحس المصريون جميعًا بالعدالة والسماحة والكرم، بل وأكثر من هذا أمر ببناء ما تهدم من الكنائس واختار من كبار رجال الدولة الشيخ الرئيس صفي الدين بن أبي المعالي. وكان من مظاهر الاستقرار أيضًا بناء القلعة التي بناها صلاح الدين على الطراز البيزنطي إذ أعجبه نظام بناء الكنائس القبطية على هذا النسق والنظام، وأشرف على بنائها مهندسان قبطيان هما أبو منصور وأبو مشكور، وحال الانتهاء من بنائها نقل إليها مقر الحكم فصارت مركزًا للحكم لمدة 666 سنة أي حتى 1874م في عصر الخديوي إسماعيل الذي بنى قصر عابدين ونقل إليه مقر الحكم. انتشبت في عهده الحروب الصليبية واشتد الخلاف بينه وبين مرقس بن قنبر المبتدع. وبدت نهاية أيام البابا مرقس الثالث هادئة بدرجة ملحوظة رغم أن بداية أيامه كانت صعبة، ورحل ذلك الرجل البار سنة 1189م
البابا يوحنا السادس :
تاجر غني وتقي رسم بطريركًا سنة 1189م بعد نياحة سلفه الأنبا مرقس بن زرعة بخمسة وثلاثين يومًا، وهو علماني وكان اسمه قبل رسامته أبا المجد بن أبي غالب بن سورس. كان ينتسب إلى أسرة ذات ثراءٍ كبيرٍ، وكان يشتغل بالتجارة، وكان له وكالة بمدينة مصر، وكان يمتلك مصنعًا للسكر وطواحين وأملاك. كان في تجارته شريكًا لقومٍ يدعون أولاد الخباب، وكان يتردد على بلاد اليمن في البحر حتى كثر ماله وذاع صيته. حدث مرة بينما كانوا عائدين من بلاد اليمن أن انكسرت بهم السفينة وفقد كل ما بها، فحزن أولاد الخباب وحسبوا أن مالهم قد ضاع لكن أبا المجد أعلمهم بان مالهم كان محتفظًا به في خنادق المركب وانهم لم يفقدوا شيئًا فسُروا منه للغاية وأكرموه للغاية. أما عن تقواه فيذكر كتاب تاريخ البطاركة الكثير عن ذلك: "كان بتولاً عالمًا، كاملاً في جسده وقامته، بشوش الوجه حسن الخلق ليّن الكلام، ما كان يغفل عن صلوات السواعي الليلية والنهارية، محبًا ومجتهدًا في ضيافة الغرباء وافتقاد المرضى والمحبوسين، كثير المودة لكل أحد ويفعل الخير مع كل أحدٍ". ترشيحه للباباوية لشدة محبة المسلمين له توسط في رسامته القاضيان المريضي والرضى أخوه ابنا الجباب، وهذا يتفق مع الشروط التي وضعها الرسول بولس عن الأسقف واختياره أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج، أي من غير المؤمنين. وكانت رسامته في عهد سلطنة صلاح الدين الأيوبي. قيل أنه كان متزوجًا، ولما ماتت زوجته لم يشأ أن يتخذ له زوجة غيرها وآثر العزلة. ومع أن القانون يحتم أن الذي ينتخب بطريركا لابد أن يكون أعزب من بدء حياته إلا أن علم أبي المجد الواسع وسموّ فضيلته أكسباه الأفضلية على جميع المرشحين. لم تكن له رغبة في نيل هذا المركز السامى بل كان يسعى لدى الحكام لتعيين أحد غيره. سيامة مطران أثيوبيا في عهده تنيّح المطران القبطي بأثيوبيا، فأرسل إمبراطور أثيوبيا للبطريرك طالبًا رسامة مطران لهم، كما أرسل هدية جليلة إلى سلطان مصر ومعه كتاب يطلب فيه أن يقوم البطريرك برسامة مطران أثيوبيا. ظل البطريرك يبحث بين الرهبان عمن يصلح، واستغرق الأمر ثلاثة أشهر حتى ضجر رسل إمبراطور أثيوبيا من طول مقامهم، وكان ذلك في عهد الملك العادل. أخيرًا استقر رأيه على ترقية أسقف فوة وكان يدعى كييل إلى رتبة مطران وإرساله إلى أثيوبيا. وكان الصليبيون قد أفنوا أهالي مدينة فوة عن بكرة أبيهم سواء من المسيحيين أو المسلمين واضطر الأسقف إلى الالتجاء للدير. قوبل المطران كييل (كيلوس) بغاية الحفاوة والترحاب في بلاد أثيوبيا حتى أن الإمبراطور استقبله خارج العاصمة مسيرة ثلاثة أيام وأغرقوه بالعطايا، وكان له عشرة قسوس كتلاميذ لخدمته. وتفاءل الأثيوبيون بمقدمه خيرًا لأن المطر كان قد امتنع عن النزول فصلى وقدس هذا الأب فنزل المطر. مطران إثيوبيا والحياة المترفة وحدث في السنة الخامسة أن ضاع قضيب ذهب من خزانة المطران الذي اتهم كبير قسوسه وهو أحد التلاميذ العشرة بسرقة هذا القضيب وأمر العبيد بضربه، فأخذوا يضربونه أمامه بلا شفقة، رغم توسل بعض الكهنة، حتى مات، وإذ أراد أهله الانتقام فرَّ الأسقف حاملاً معه ما خف حمله وغلا ثمنه، ولكن كل هذا أُخِذ منه بالقوة في رحلته الطويلة إلى مصر حتى وصل إليها معدمًا. سيامة مطران آخر لإثيوبيا ولما تقابل مع البطريرك روى له رواية مخالفة للواقع لم يصدقها البابا ولم يتعجل إصدار الأحكام، بل أرسل كتابًا إلى إمبراطور أثيوبيا يستعلم منه عن حقيقة الموقف، فجاء رد الإمبراطور كيف أن المطران كييل عاش في أبهة تفوق الخيال وبنى لنفسه قصرًا فخمًا، وحضر مع رسول البطريرك رسول من قِبَل الإمبراطور. عقد البطريرك مجمعًا على المطران كييل في كنيسة المعلقة وقضى بتجريد كييل من رتبته الكهنوتية بعد أن أقر بصحة الأخطاء المنسوبة اليه. رسم البطريرك مطرانًا آخر لأثيوبيا يدعى اسحق وكان راهبًا بدير الأنبا أنطونيوس، وكان أخوه الأكبر راهبًا معه فرسمه قسًا وأرسلهما إلى بلاد أثيوبيا. فقام المطران اسحق بخدمة كنيسة أثيوبيا خدمة مرضية وقد أعطاه الله نعمة في عيون الأثيوبيين فحسبوه في عداد القديسين. ومما يذكر عنه أنه استحضر من مصر عددًا من العمال الأقباط لنقش حجارة الكنائس بأثيوبيا. قس يتزوج بعد وفاة زوجته حدث في زمن هذا البطريرك أن قسًا من البشمور ترمل بوفاة زوجته فتزوج بأخرى، فطردوه من بلده فمضى إلى الإسكندرية وأخذ يؤدي في كنائسها الخدمات الدينية. فلما نما خبره إلى البطريرك استاء أشد الاستياء ووبخ إكليروس الإسكندرية وسن قانونًا يقضي بأنه لا يجوز لأية كنيسة أن تقبل كاهنًا غير معروف ليؤدي بها الخدمات الدينية دون أن يكون معه تصريح كتابي بذلك من رئاسة الكنيسة. إلغاء السيمونية شهد أحد المورخين المسلمين عن البابا يوحنا بأنه عاش حياته زاهدًا في المال فألغى السيمونية، وكان ثريًا، فلم يشأ أن يُثقل على الشعب في شيء، بل عاش كل أيام رئاسته يصرف على نفسه ومن معه، ويتصدق على الفقراء من ماله الخاص، وأبى إجابة مطالب الإسكندريين الباهظة حفظًا لمال الوقف، ولهذا توفرت أموال البطريركية، وكانت سببًا في طمع داود بن لقلق والسعي للاستيلاء عليها. أخيرًا تنيّح هذا الأب الطاهر سنة 1216م، بعد أن قضى على الكرسي البطريركي نحو سبع وعشرين سنة وحزن عليه الجميع أقباطًا ومسلمون.
البابا مقار الثاني :
كان راهبًا بدير القديس مقاريوس ورُسِم بطريركًا سنة 1102م، ورغم جلوسه على كرسي مار مرقس نحو ستة وعشرين سنة إلا أن هذه المدة لم يحدث فيها ما يستحق الذكر سوى أمرين: أولاً: بعد أن خلا كرسي مصر، يبدو أن هذا البطريرك طمع في ضم أسقفية مصر إليه ولا يقيم أسقفًا عليها، فاجتمع أراخنة مصر وقالوا: "كما أنه لا يجوز لنصراني أن يكون له زوجتين كذلك لا يجوز أن يكون لأسقف كرسيين، والأنبا مكاريوس هو أسقف مدينة الإسكندرية فكيف يمكن أن يكون له أسقفية مصر؟" وأخذوا يفكرون فيمن يصلح للأسقفية لهذا الكرسي الذي كان يعتبر تاليًا للبطريرك، ثم اختاروا أربعة كان أولهم مرقورة الحبي بابيار، ثم أقاموا قداسًا إلهيًا وعملوا قرعة بين هؤلاء الأربعة وتقدم صبي شماس وأخذ من الرقاع واحدة وكانت باسم يوأنس بن سنهوت، وعملوا محضرًا بذلك وأرسلوه للبطريرك ومعه رسالة من الشعب، وهكذا تمت رسامة أسقف لمصر. وهذه القصة توضح حق الشعب في اختيار أسقفهم وتفهم الآباء البطاركة لهذا الأمر. ثانيا: في عهده هاجمت أول حملة صليبية البلاد المصرية، فقد اتجه بولدوين Boldwin ملك مملكة بيت المقدس اللاتينية إلى البلاد المصرية لغزوها وكان ذلك سنة 1117م ووصل إلى الفرما وفتك بأهلها بلا أدنى تمييز بين مسلمٍ ومسيحيٍ وأشعل النار فيها، واستمر في زحفه حتى وصل إلى تانيس لكنه اضطر إلى العودة بعد أن مَرِض مَرَض الموت. ولم يحاول المصريون الانتقام من ذلك الهجوم ووقفوا موقفًا سلبيًا حتى نهاية الخلافة الفاطمية. مما يذكر أن الوزير الأفضل لقي حتفه أواخر سنة 1121م مقتولاً بتدبير الخليفة الفاطمي الآمر. ولا شك أن الأفضل كان إنسانًا حكيمًا أحسن معاملة الأقباط لكن غيرة الخليفة من نفوذ وزيره قادته إلى هذه الجريمة الشنعاء. ويُذكر أن عن الخليفة الآمر أنه كان يتردد على دير نهيا بجوار الجيزة ويقضي فيه بضعة أيام، وكان في كل مرة يزور الدير يمنح رهبانه ألف درهم، أما في زيارته الأولى فقد أوقف عليه ثلاثين فدانًا لا يدفعون عنها مالاً، وبلغ جملة ما قدمه للدير أكثر من ثلاثين ألف درهم. وقد تنيح البابا مكاريوس في سنة 1128م.
البابا غبريال الثاني :
هو الشهير بغبريال بن تُريك. ولد في القرن الثاني عشر سنة 800ش (1084م)، وكان من كبار مدينة مصر (الفسطاط) وأراخنتها. كان والده قسًا ترمّل، وكان قديرًا وعالمًا متقشفًا يمارس الحياة النسكية. كان يشتهي الخدمة فطلب سيامته أسقفًا، وإذ طُلب منه مال لسيامته رفض السيمونية. وكان لهذا الأب ابنان: أحدهما أبو العلا الذين صار البابا غبريال، وأخوه أبو النصر بن تريك كان مملوء غيرة، فبدأ في بناء كنيسة أبانوب، وتنيّح قبل أن يكملها، فقام شقيقه البابا بتكملة بنائها. وكان أبو العلا عالمًا فاضلاً ذا سيرة حميدة، وعمل كاتبًا في الديوان السلطاني لدى الوزير أحمد بن الأفضل. لما أراد تكريس حياته للخدمة في كنيسة أبي سيفين، سمح له الوزير أن يحتفظ بمركزه في الديوان مع قبوله الشماسية في الكنيسة المذكورة، لاستقامة حياته وعِظم أمانته وقدرته علي تصريف الأمور. وقد نسخ كتبًا كثيرة قبطية وعربية فوعي محتوياتها وفهم معانيها. سيامته بطريركًا اختاره مقدمو الشعب ورؤساؤهم لكرسي البطريركية بعد انتقال البابا مقار الثاني. تنبأ راهب سرياني بدير أبي مقار يُدعي أنبا يوسف بسيامته. فقد جاء شيوخ الدير يبكون علي أنبا مقار قائلين له بأنه لا يوجد من يحتل مكانه، أما هو فقال: "يا أبهاتي إيش هو هذا ابن تريك". ولم يكن قد عرفه ولا التقى به. في البداية كان الوزير متمسكًا به، وأخيرًا سمح لهم بسيامته. ألبسوه ثياب الرهبنة وتمت رسامته يوم 9 أمشير سنة 847ش (3 فبراير 1131م). اهتمامه بالعقيدة حدث أنه لما كان يقدس أول قداس في دير القديس مقاريوس كعادة البطاركة قديمًا، أن أضاف على الاعتراف الذي يتلى في آخر القداس بعد قوله: "أخذه من سيدتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم" هذه العبارة: "وصيّره واحدًا مع لاهوته". فأنكر عليه الرهبان خشية أن يُفهم من ذلك أنه حصل امتزاج وطلبوا منه تركها، فامتنع قائلاً: "أنها أضيفت بقرار من مجمع الأساقفة". وبعد مباحثات طويلة تقرر إضافة هذه الجملة: "بدون امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير"، وذلك خوفًا من الوقوع في هرطقة أوطيخا، فوافقهم على ذلك. أعماله الرعوية كان هذا البطريرك عالمًا تقيًا حارب فساد شعبه، فمنع السراري وحارب السيمونية. وقد اشتهر بترتيبه صلوات جمعة الآلام في كتاب سمّاه البصخة، وهو الترتيب الذي اعتمدت عليه الكنيسة إلى الآن. كما وضع قوانين وأحكامًا في المواريث وفي علاقة الشعب بالكنيسة وتنظيم أمورها، أصلح فيها عادات وتقاليد أهل الصعيد، وأيضًا قوانين فيما يختص بأمور الإكليروس. منع أيضًا دفن الموتي في الكنائس؛ وعندما عصاه قوم ودفنوا بسوس القمص بكنيسة حارة الروم بالقاهرة أغلق الكنيسة إلى حين. كما منع إخراج رفات القديسين والشهداء التي تحوّلت إلى نوع من التجارة. ذبيحة الملاك ميخائيل إذ سأله البعض بخصوص تقديم ذبيحة لرئيس الملائكة ميخائيل في حزم رفض قائلاً: "لا يجوز تقديم ذبيحة إلا علي اسم اللّه، ومن يعمل غير ذلك لا تُقبل صدقته". منع التمييز بين الكهنة كان بعض الكهنة الذين سامهم بطاركة يفتخرون علي من سامهم أساقفة، فأنكر البابا ذلك، وقد أطاعه الكل في هذا الأمر عدا كهنة الإسكندرية وكهنة برية أبي مقار. ورُسم في أيامه 53 أسقفًا وكهنة كثيرين. وقد وجد مكانة لدى حكام عصره وحبًا شديدًا لدى شعبه، وحدث أن طلب منه حاكم ذاك الوقت مالاً، فجمع له الأراخنة ألف مثقال ذهب ودفعوها عنه. علاقته بكنيسة أثيوبيا كان يدير الكنيسة في أثيوبيا مطران يعاونه سبعة أساقفة أقباط. طلب المطران من ملك أثيوبيا زيادة عدد الأساقفة فخشي البابا أن تكون هذه الخطة لسيامة بطريرك يستقلّ بأثيوبيا، لذا رفض الطلب. إذ رفض البابا الطلب قاموا بسيامة أساقفة أثيوبيين دون الرجوع إلى البابا أو المطران القبطي بأثيوبيا. قضى على الكرسي المرقسي أربعة عشر عامًا، ثم تنيّح بسلام في العاشر من برمودة سنة 1145م.
البابا ميخائيل الثالث :
البابا البسيط هو أحد رهبان دير أبو مقار ببرية شيهيت. كان إنسانًا بسيطًا جمع بين الوقار والقداسة والعفة، لكنه لم يكن عالمًا ولا قارئًا للكتب، لزم قانون الرهبنة من غير قراءة قبطي ولا عربي. عُمِلت قرعة له مع اثنين آخرين وورقة رابعة باسم "السيد المسيح الراعي الصالح"، ووضعوا الأوراق على المذبح وأقاموا القداس ثلاثة أيام متوالية وأحضروا طفلاً ليختار ورقة فكان المنصب من نصيب ميخائيل هذا، وكان مشهودًا له من الجميع بحسن السيرة. بعد أن أصابته القرعة كرزوه شماسًا فقسًا وفي ثالث يوم قمصًا وكان ذلك في الكنيسة المعلقة بمصر، وتمت رسامته بطريركًا في الإسكندرية سنة 1145م. ويذكر تاريخ البطاركة أنه "بكلفة عظيمة حفظوه قداس باسيليوس خاصة إلى أن قدس به". كانت مدة بطريركيته قصيرة جدًا لكنها كانت طيبة، ولم يحدث أن أحدًا ارتد عن المسيحية في أيامه، وفي أيامه القلائل رسم ثمانية أساقفة منهم أسقف على كرسي شبرا الخيمة وكرسي شبرا دمنهور وكرسي منية بني خصيب وكرسي أخميم وكرسي البلينا. وكان كل مقامه على الكرسي البطريركي ثمانية شهور وأربعة أيام منها ثلاثة شهور في عافية والباقي وهو خمسة شهور كان مريضًا، وقضى مدة مرضه بدير الأنبا مقار، وتنيح سنة 1146م.
البابا يوحنا الخامس :
سعى الراهب يوأنس بن كدران للباباوية بعد نياحة البابا ميخائيل سعى الراهب يوأنس بن كدران من أجل رئاسة الكهنوت، ولكن اتجهت الأنظار إلى الراهب يوأنس بن أبي الفتح من دير أنبا يحنس القصير، فذهبوا إليه ورسموه قمصًا قبل إحضاره إلى القاهرة. ومع أن بن كدران قصد الخليفة الظاهر إلا أنه لم ينصفه إذ أن هذه الأمور في يد رجال الكنيسة لا الدولة، وسافر الجمع إلى الإسكندرية حيث رسموا يوأنس بن أبي الفتح بطريركًا في أغسطس سنة 1146م. من مظاهر محبة هذا البابا الجديد لشعبه وسعيه على راحتهم أنه استدعى الراهب بن كدران وعرض عليه أن يكون أسقفا لسمنود، ولكنه عاد إلى صوابه وإلى ديره واعتذر شاكرًا له عطفه. نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين وقد اهتم هذا البابا الذي نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين لتشجيع نسخ الكتب والمخطوطات تشجيعًا للقراءة والإطلاع على كنوز الأقدمين، خصوصًا إبان الحروب الصليبية التي اجتاحت الشرق وقضت على الأخضر واليابس. سجنه ولأن الكنيسة القبطية مسئولة عن أختها كنيسة أثيوبيا، فقد اغتصب العرش الأثيوبي مغتصب ولما وبّخه المطران على سوء فعلته طلب إلى حاكم مصر - العادل - والبطريرك تعيين آخر محله، ولما رفض البطريرك المصري ألقاه العادل في السجن ولم يخرج إلا بعد مقتل العادل. هدم الكنائس وقد عانت مصر في فترة هذا البابا اضطرابات سياسية قُتل فيها الظافر، وخلال الاضطرابات والقلق تهدمت كنائس وسرقت الأواني، لولا تواجد أحد الأقباط الغيورين في ديوان الخليفة واسمه الأسعد صليب، أعاد بناء ما تهدّم من الكنائس وترميم البعض وشراء احتياجاتها. تألم البابا كثيرًا ولشدة حساسيته حزن على ما يحدث وفضل تسليم حياته في يد معطيها، فلم يؤجل الله له طلبًا ونقله إلى الأمجاد سنة 1166م، ودفنه المؤمنون في كنيسة أبي سيفين بجوار سلفه الصالح أنبا غبريال إلى أن نقل البابا مرقس الثالث جسديهما إلى برية شيهيت.
البابا مرقس الثالث :
اُختير للبطريركية سنة 1166م بعد نياحة البابا يوحنا الخامس، في وقت زادت فيه اضطراب الأحوال الداخلية والخارجية للبلاد. كان تاجرًا شماسًا بتولاً ناسكًا يسمى "مرقس أبي الفرج بن أبي السعد" وهو معروف بابن زرعه، سرياني الجنس قبطي المذهب، وتمت مراسم السيامة في الإسكندرية كالعادة. ضيق شديد لأن هذا البابا يعيش مشاعر الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، نزل إلى سائر أنحاء البلاد يعزي القلوب ويضمد الجراح ويشدد من أزر ضعاف النفوس والقلوب خصوصًا بعد أن لمس الضيق الشديد الذي حل بالقبط من جراء تشدد أسد الدين شركوه ووزيره بهاء الدين قراقوش الذين قتلوا ونهبوا الأموال واغتصبوا النساء بالإضافة إلى السياسة البغيضة للقبط. فما كان من البطريرك إلا أن التجأ إلى الصوم والصلاة فنظر الله إلى دموعه ومات شيركوه فجأة. في عصر الأيوبيين تولى صلاح الدين الأيوبي وبدأ عصر جديد في الدولة والموقف من القبط. فانتقل الحكم إلى الأيوبيين وبدأ عهد من الاستقرار والعدالة، وأحس المصريون جميعًا بالعدالة والسماحة والكرم، بل وأكثر من هذا أمر ببناء ما تهدم من الكنائس واختار من كبار رجال الدولة الشيخ الرئيس صفي الدين بن أبي المعالي. وكان من مظاهر الاستقرار أيضًا بناء القلعة التي بناها صلاح الدين على الطراز البيزنطي إذ أعجبه نظام بناء الكنائس القبطية على هذا النسق والنظام، وأشرف على بنائها مهندسان قبطيان هما أبو منصور وأبو مشكور، وحال الانتهاء من بنائها نقل إليها مقر الحكم فصارت مركزًا للحكم لمدة 666 سنة أي حتى 1874م في عصر الخديوي إسماعيل الذي بنى قصر عابدين ونقل إليه مقر الحكم. انتشبت في عهده الحروب الصليبية واشتد الخلاف بينه وبين مرقس بن قنبر المبتدع. وبدت نهاية أيام البابا مرقس الثالث هادئة بدرجة ملحوظة رغم أن بداية أيامه كانت صعبة، ورحل ذلك الرجل البار سنة 1189م
البابا يوحنا السادس :
تاجر غني وتقي رسم بطريركًا سنة 1189م بعد نياحة سلفه الأنبا مرقس بن زرعة بخمسة وثلاثين يومًا، وهو علماني وكان اسمه قبل رسامته أبا المجد بن أبي غالب بن سورس. كان ينتسب إلى أسرة ذات ثراءٍ كبيرٍ، وكان يشتغل بالتجارة، وكان له وكالة بمدينة مصر، وكان يمتلك مصنعًا للسكر وطواحين وأملاك. كان في تجارته شريكًا لقومٍ يدعون أولاد الخباب، وكان يتردد على بلاد اليمن في البحر حتى كثر ماله وذاع صيته. حدث مرة بينما كانوا عائدين من بلاد اليمن أن انكسرت بهم السفينة وفقد كل ما بها، فحزن أولاد الخباب وحسبوا أن مالهم قد ضاع لكن أبا المجد أعلمهم بان مالهم كان محتفظًا به في خنادق المركب وانهم لم يفقدوا شيئًا فسُروا منه للغاية وأكرموه للغاية. أما عن تقواه فيذكر كتاب تاريخ البطاركة الكثير عن ذلك: "كان بتولاً عالمًا، كاملاً في جسده وقامته، بشوش الوجه حسن الخلق ليّن الكلام، ما كان يغفل عن صلوات السواعي الليلية والنهارية، محبًا ومجتهدًا في ضيافة الغرباء وافتقاد المرضى والمحبوسين، كثير المودة لكل أحد ويفعل الخير مع كل أحدٍ". ترشيحه للباباوية لشدة محبة المسلمين له توسط في رسامته القاضيان المريضي والرضى أخوه ابنا الجباب، وهذا يتفق مع الشروط التي وضعها الرسول بولس عن الأسقف واختياره أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج، أي من غير المؤمنين. وكانت رسامته في عهد سلطنة صلاح الدين الأيوبي. قيل أنه كان متزوجًا، ولما ماتت زوجته لم يشأ أن يتخذ له زوجة غيرها وآثر العزلة. ومع أن القانون يحتم أن الذي ينتخب بطريركا لابد أن يكون أعزب من بدء حياته إلا أن علم أبي المجد الواسع وسموّ فضيلته أكسباه الأفضلية على جميع المرشحين. لم تكن له رغبة في نيل هذا المركز السامى بل كان يسعى لدى الحكام لتعيين أحد غيره. سيامة مطران أثيوبيا في عهده تنيّح المطران القبطي بأثيوبيا، فأرسل إمبراطور أثيوبيا للبطريرك طالبًا رسامة مطران لهم، كما أرسل هدية جليلة إلى سلطان مصر ومعه كتاب يطلب فيه أن يقوم البطريرك برسامة مطران أثيوبيا. ظل البطريرك يبحث بين الرهبان عمن يصلح، واستغرق الأمر ثلاثة أشهر حتى ضجر رسل إمبراطور أثيوبيا من طول مقامهم، وكان ذلك في عهد الملك العادل. أخيرًا استقر رأيه على ترقية أسقف فوة وكان يدعى كييل إلى رتبة مطران وإرساله إلى أثيوبيا. وكان الصليبيون قد أفنوا أهالي مدينة فوة عن بكرة أبيهم سواء من المسيحيين أو المسلمين واضطر الأسقف إلى الالتجاء للدير. قوبل المطران كييل (كيلوس) بغاية الحفاوة والترحاب في بلاد أثيوبيا حتى أن الإمبراطور استقبله خارج العاصمة مسيرة ثلاثة أيام وأغرقوه بالعطايا، وكان له عشرة قسوس كتلاميذ لخدمته. وتفاءل الأثيوبيون بمقدمه خيرًا لأن المطر كان قد امتنع عن النزول فصلى وقدس هذا الأب فنزل المطر. مطران إثيوبيا والحياة المترفة وحدث في السنة الخامسة أن ضاع قضيب ذهب من خزانة المطران الذي اتهم كبير قسوسه وهو أحد التلاميذ العشرة بسرقة هذا القضيب وأمر العبيد بضربه، فأخذوا يضربونه أمامه بلا شفقة، رغم توسل بعض الكهنة، حتى مات، وإذ أراد أهله الانتقام فرَّ الأسقف حاملاً معه ما خف حمله وغلا ثمنه، ولكن كل هذا أُخِذ منه بالقوة في رحلته الطويلة إلى مصر حتى وصل إليها معدمًا. سيامة مطران آخر لإثيوبيا ولما تقابل مع البطريرك روى له رواية مخالفة للواقع لم يصدقها البابا ولم يتعجل إصدار الأحكام، بل أرسل كتابًا إلى إمبراطور أثيوبيا يستعلم منه عن حقيقة الموقف، فجاء رد الإمبراطور كيف أن المطران كييل عاش في أبهة تفوق الخيال وبنى لنفسه قصرًا فخمًا، وحضر مع رسول البطريرك رسول من قِبَل الإمبراطور. عقد البطريرك مجمعًا على المطران كييل في كنيسة المعلقة وقضى بتجريد كييل من رتبته الكهنوتية بعد أن أقر بصحة الأخطاء المنسوبة اليه. رسم البطريرك مطرانًا آخر لأثيوبيا يدعى اسحق وكان راهبًا بدير الأنبا أنطونيوس، وكان أخوه الأكبر راهبًا معه فرسمه قسًا وأرسلهما إلى بلاد أثيوبيا. فقام المطران اسحق بخدمة كنيسة أثيوبيا خدمة مرضية وقد أعطاه الله نعمة في عيون الأثيوبيين فحسبوه في عداد القديسين. ومما يذكر عنه أنه استحضر من مصر عددًا من العمال الأقباط لنقش حجارة الكنائس بأثيوبيا. قس يتزوج بعد وفاة زوجته حدث في زمن هذا البطريرك أن قسًا من البشمور ترمل بوفاة زوجته فتزوج بأخرى، فطردوه من بلده فمضى إلى الإسكندرية وأخذ يؤدي في كنائسها الخدمات الدينية. فلما نما خبره إلى البطريرك استاء أشد الاستياء ووبخ إكليروس الإسكندرية وسن قانونًا يقضي بأنه لا يجوز لأية كنيسة أن تقبل كاهنًا غير معروف ليؤدي بها الخدمات الدينية دون أن يكون معه تصريح كتابي بذلك من رئاسة الكنيسة. إلغاء السيمونية شهد أحد المورخين المسلمين عن البابا يوحنا بأنه عاش حياته زاهدًا في المال فألغى السيمونية، وكان ثريًا، فلم يشأ أن يُثقل على الشعب في شيء، بل عاش كل أيام رئاسته يصرف على نفسه ومن معه، ويتصدق على الفقراء من ماله الخاص، وأبى إجابة مطالب الإسكندريين الباهظة حفظًا لمال الوقف، ولهذا توفرت أموال البطريركية، وكانت سببًا في طمع داود بن لقلق والسعي للاستيلاء عليها. أخيرًا تنيّح هذا الأب الطاهر سنة 1216م، بعد أن قضى على الكرسي البطريركي نحو سبع وعشرين سنة وحزن عليه الجميع أقباطًا ومسلمون.