سلام ونعمة، مع تحياتي لصاحبة السؤال الأستاذة الفاضلة سمية وللأم الغالية أمـة ولكل الأحباء الحضور. هذا السؤال في الحقيقة هام وكبير، كما أنه سؤال تاريخي، ثار بالفعل أثناء المناظرات الطويلة والمحمومة التي أعقبت مجمع خلقيدونية الشهير 451، بين آباء "الطبيعة الواحدة" وعلى رأسهم القديس ساويرس الأنطاكي (أشهر من دافع عن هذه العقيدة)، وبين الخلقيدونيين أصحاب "الطبيعتين" من ناحية أخرى، مثل يوحنا القيصري وآناستاسيوس الأنطاكي وليونتوس البيزنطي وغيرهم.
المشكلة باختصار هي أن هناك مبدأ أو قاعدة لاهوتية استقر الآباء عليها هي أنه "لا طبيعة بدون أقنوم". حين نقول إن للسيد المسيح بعد التجسد طبيعتين إلهية وبشرية، فإن هذا معناه بالتالي ـ وفقا لهذا المبدأ ـ أن للمسيح أقنومين اثنين لا واحد: أقنوم إلهي هو أقنوم الطبيعة الإلهية، بالإضافة إلى أقنوم بشري هو أقنوم الطبيعة البشرية. كان هذا بالفعل ما قاله نسطور ورفضته الكنيسة كما هو معروف، لأنه "يقسم" المسيح داخليا دون اتحاد حقيقي بين طبيعتيه، بينما المسيح بالأحرى شخص واحد لا ينقسم، أقنوم واحد هو أقنوم الكلمة المتجسد.
الآن عندما اجتمع آباء خلقيدونية وأقروا أن المسيح، نعم، أقنوم واحد هو أقنوم الكلمة، وأن له بالوقت ذاته طبيعتين اثنتين إلهية وبشرية، وقعوا من ثم بالتناقض نفسه: كيف يكون أقنوما واحدا ويكون بالوقت ذاته في طبيعتين، أو من طبيعتين؟ أليس لكل طبيعة أقنومها كما تقول القاعدة التي استقر الآباء عليها (والتي قدموا بفضلها خلال القرن الرابع أقوى نظريات الثالوث وأكثرها إحكاما وشمولا)؟
ردا على هذا التناقض قال أصحاب الطبيعتين إن المقصود هنا بالطبيعة هو الألوهية عموما، كما أن المقصود هو البشرية عموما. يقول آناستاسيوس الأنطاكي على سبيل المثال: «إن المسيح ليس إلها، ليس مجرد إله (ما)، بل هو الله (ذاته)، كما أنه ليس إنسانا (ما)، بل هو الإنسان». إن ما اتحد في المسيح ـ بعبارة أخرى ـ هو الألوهية والإنسانية معا، ومن ثم لا تناقض في أن يكون أقنوما واحدا وأن يجمع الطبيعتين معا، بمعنى أن تتحقق الطبيعتان معا في شخصه الواحد.
غير أن هذا الدفاع كان ينطوي على خطأ دقيق سرعان ما التقطه بذكاء القديس ساويرس فرفض بالتالي حجتهم قائلا: إذا كان ما يتحد معا في المسيح هو الألوهية عموما مع الإنسانية عموما فإن هذا ببساطة معناه أن ما تجسد هو الألوهية كلها، أي كل الأقانيم الثلاثة معا! علاوة على ذلك فإن التجسد بهذا المعنى يشمل سائر البشر أيضا وليس فقط هذا الإنسان المولود من العذراء دون سواه، يسوع الناصري تحديدا. هذا هو ما يعنيه أن "الألوهية عموما" تتحد مع "الإنسانية عموما"، فهل هذا حقا ما تقصدون؟ بالطبع ـ غني عن البيان ـ فإن تجسد سائر الأقانيم الإلهية في سائر الأقانيم البشرية هو محض عبث لا معنى له، ناهيك عن أن يكون له أي شاهد بالكتاب مثلا أو عند الآباء.
ولكن هكذا ظهر هذا السؤال أولا على مسرح التاريخ: إذا كان الله قد "ظهر في الجسد" فلماذا حقا لا تنصرف حقيقة "الله" على الأقانيم الثلاثة معا وتقتصر على أقنوم واحد فقط؟ صحيح أن الكتاب ينص على أن "الكلمة" هو الذي تجسد (يو 14:1)، مع ذلك فالكلمة حسب نص الكتاب أيضا هو الله، والله واحد، لا يتعدد ولا ينقسم.
(إذا كان هذا بالفعل ما تقصدين بالسؤال فإني أدعوكِ سيدتي إلى دراسة اللاهوت، لا مجرد السؤال العابر في هذا المنتدى أو ذاك. أكتفي هنا فقط بالإشارة إلى أن حل هذه المشكلة ـ كمعظم مشكلات اللاهوت المسيحي ـ يتوقف على فهمنا لما تعنيه بالضبط كلمة "أقنوم" وما تعنيه بالضبط كلمة "طبيعة" وما هو بالضبط الفرق بينهما).
***
سرعان ما أدرك الخلقيدونيون على أي حال أن ثم تناقض في رؤيتهم وسرعان ما بدأوا بالتالي مرحلة جديدة من التأمل العميق والشرح المفصّل حلا لهذا التناقض، كما نرى عند ليونتوس البيزنطي مثلا في شروحه الرائعة، والتي اقترب خلالها ـ بدرجة أو بأخرى ـ من منطق ساويرس ورؤيته. هكذا تطورت المناظرات الخلقيدونية وتعمّقت كثيرا ووصلت إلى أبعاد لا يملك الإنسان سوى أن يندهش أمام عظمتها، ولولا أن المقام بالطبع لا يتسع ـ كما أن أغلب الناس لا يهتمون وربما حتى لا يحتملون هذه الدقائق اللاهوتية ـ لولا ذلك لتوغلنا بعيدا في هذا البحر الذي لا شاطئ له. في النهاية اتفق الفريقان كما هو معروف، ولو إلى حد، حين اقتربت رؤاهم كثيرا وحين أدركوا أن "المعنى" المقصود واحد بغض النظر عن "الكلمات" و"الاصطلاحات" التي يتبناها كل فريق للتعبير عن هذا المعنى.
(تقريبا نفس ما حدث أيضا مع عقيدة الثالوث من قبل، في أكثر من مثال، لعل أشهرها حين رفض القديس جيروم بشدة تعبير "الأقانيم الثلاثة" ـ الذي كانت ترجمته اللاتينية بالفعل مخيفة ولا تعنى سوى تعدد الآلهة ـ لولا أن القديس أوغسطين، وهو لاتيني أيضا، شرح له أن "الكلمات" نفسها لا تهم أبدا، المهم هو المعنى الذي يقصده الآباء اليونانيون وهل يطابق الحقيقة والصواب أم يخالفهما).
***
كان هذا على أي حال عرضا سريعا ومختصرا يهدف لتحريك المياه الراكدة قليلا، وأقصد بذلك المناخ العام وليس فقط بهذا المنتدى. أقول هذا بالنظر أيضا إلى تلك الهجمات المكثفة التي يتعرض لها الإيمان مؤخرا، عبر صبية يعبثون على الشبكة، والتي قد تترك لدى البعض انطباعا زائفا ـ خاصة بين شبابنا ـ أن اللاهوت المسيحي استنفذ أغراضه وأدواته ولم يعد سوى خطاب إيمانيّ مهلهل يمتلئ بالتناقضات، بينما الحقيقة هي أن العكس تماما هو الصحيح.
لقد كانت "خلقيدونية" عنوانا لبعض الخلافات والصراعات السياسية المريرة، لكنها كانت أيضا صفحة مشرقة بتاريخ اللاهوت المسيحي، تكشف كم كانت مناظرات الآباء بغاية العمق والدقة، ناهيك عن الشجاعة والأمانة، وكم كان هؤلاء الأفذاذ الأوائل حريصين على الوصول إلى الحق بكل ما يملكون من قوة وحكمة وذكاء وبأقصى ما يستطيع العقل البشري بلوغه، ذلك رغم إدراكهم جميعا أن الحقيقة الكاملة لا تنكشف تماما في النهاية ـ ولا يمكن أن تنكشف تماما ـ عبر العقل وحده فقط.
لجميع الأحباء ختاما أطيب المنى، وللأستاذة سمية أتمنى كل الخير وأشكرها على السؤال الهام وأدعوها ألا تتردد بأي سؤال مستقبلا (ولا مانع بالطبع إذا طلبتي المزيد حول هذا السؤال نفسه أو أردتي التوغل قليلا ـ على مسئوليتك ـ بهذه الأعماق). تحياتي ومحبتي وحتى نلتقي.