أشكرك على ردك وتوضيحك. هذا أفضل للجميع. لست متأكدا أن حيرانة تقول هذا بالضبط، لكنني على أي حال لن أرد بالنيابة عنها.
أما رأيي الشخصي فأنا أولا، أخي الحبيب، تدهشني ثقافتك كثيرا وأسعد بها جدا، كما أنني أحفظ بكل إعزاز بعضا من كتاباتك في مفضلتي. هنا أتفق معك عموما ولكن أخالفك في نقطة واحدة فقط، هي قولك:
"ما يمكننا ان نتأكد منه هو أن الكون، المادة الموجودة بداخل اطار الزمان والمكان، جاءت من العدم".
هنا أخالفك. لماذا؟ لأن "العدم" نفسه هو أيضا "مفهوم فكري نظري لا يوجد خارج العقل" كما وصفت أنت مفهوم "الأزلية". عقولنا تتصور أن "الانفجار العظيم" حدث في "مكان ما"، أو في "فراغ مظلم"، ومن ثم ننزلق إلى فكرة العدم. لكن هذا كله غير دقيق، لأن هذه كلها "مفاهيم كونية"، كأن الانفجار العظيم حدث داخل "كون ما" أكبر، فقط كان فارغا تماما، أو مظلما تماما، وهذه بالطبع مغالطة. الكون نفسه بدأ بالانفجار العظيم.
أين إذن حدث الانفجار العظيم؟
هنا تتضح تماما محنة العقل وعجزه، لأن السؤال نفسه خطأ! ليس قبل الانفجار "أين" ولا "متى"!
الكون إذن "ظاهرة" وجد العقل نفسه هكذا فيها، أو ربما ـ كما تقول الفلسفة الهندية ـ ظاهرة نشأت في العقل نفسه، كأننا تحديدا في "حـلم".
ولكن حتى لا نتشعب دعنا نصل من ذلك إلى الخلاصة:
الخلاصة الأولى: ما قبل الانفجار العظيم ـ وجوديا ـ ليس بالضرورة عدم. ما قبل الانفجار العظيم ببساطة "مجهـــــول" لا نعرف عنه شيئا على الإطلاق، ليس فقط لنقص المعلومات ولكن لأن العقل نفسه له شروط لا يستطيع تجاوزها. هذا المجهول ليس وجود وأيضا ليس عدم، هو "مجهول"، بالضرورة مجهول، ولا سبيل لمعرفته. لذلك:
ـ فقال موسى لله: ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي: ما اسمه ؟ فماذا أقول لهم؟
ـ فقال الله لموسى: أهيه الذي أهيه. قال: هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم. (خروج 3: 13-14)
ـ فقال الله لموسى: أهيه الذي أهيه. قال: هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم. (خروج 3: 13-14)
هذه ـ كما ترى ـ أغرب آية في الكتاب كله! هكذا جاءت دون ترجمة، لأنه بالحقيقة ليس لها ترجمة!
أنا أكون الذي أنا أكون. أنا أكون أرسلني لكم!
بعبارة أخرى: إذا افترضنا أن هذا "المجهول" الـ "ما قبل الانفجار" هو ما نصطلح على تسميته "الله" ـ كما أفترض شخصيا هنا ـ فنحن بالحقيقة لا نعرف عنه سوى "أنه يكون".
الخلاصة الثانية: تتأسس على الخلاصة الأولى، وهي أننا لن نصل لإثبات الله علميا أو حتى فلسفيا إذا عدنا لأصل الكون. هذا في الحقيقة سبب من أسباب شغفي بالحوار. نحن هنا أمام نهاية الفلسفة، كما كنا في الخلاصة الأولى أمام نهاية العقل. لا يوجد دليل فلسفي قاطع على وجود الله، كما لا يوجد في المقابل دليل فلسفي قاطع على نفي وجوده. الفريقان كلاهما فقط ينفي الآخر، لكن أحدهما لا يثبت دعواه، ولا يستطيع.
(نحن بالطبع يمكننا إثبات وجود الله فلسفيا، بل ربما حتى علميا، ولكن ليس من طريق أصل الكون أو علة الخلق الأولى).
* * *
ختاما أرجو أن تسامحني إذا كان الحوار الأصلي قد تشتت قليلا. لذلك أدعوك إذا كنت تخالفني في الرأي أو في أية نقطة هنا أن نؤجل مناقشتنا إلى النهاية، بعد أن يكتمل حوارك الرئيسي مع أختنا الغالية، والذي أتعلم منه أيضا منكما معا. تحياتي وشكري وفي انتظار المزيد.