أشكرك يا ست نعومة على تعبك ووقتك وتصميماتك، وصدقيني لم يكن هناك داعٍ لكل هذا الجهد خاصة مع احتمال الصدام بأخيكِ المشاكس. وصلتنا بالفعل، كما أخبرتك، أرق العبارات وأروع الزهور بمجرد حضورك، لأن محبة الإنسان ورغبة قلبه الصادقة لأجل الأخرين تفوح دائما كالعطر فتستشعرها أرواحهم وتملأ قلوبهم دفئا وفرحا، كل ذلك دون حتى أي كلمات على الإطلاق. أشكرك يا أمي الجميلة الكريمة دائما كالعادة.
أما كلماتك بالتقييم فتستحق التوقف عندها قليلا. تحدثنا بهذا الأمر سابقا ولكن بعض الرسائل تحتاج إلى التكرار أحيانا، خاصة وأننا غالبا ما نختصر كثيرا عند الكتابة للشبكة. نطيل بالتالي هذه المرة قليلا، وأدعوكِ في البداية أن تتأملي يا أمي هذا المثال جيدا:
نفترض أن طفلة ارتكبت خطأ ما كبيرا، كسرت مثلا أحد الأطباق الثمينة، مما أشعل غضب أمها فانقضت عليها صارخة (باللهجة المصرية):
«يا غبية يا غبية يا حيوانة ازاي كسرتي الطبق؟! حِسّك عينك إياكي يا حيوااانة تشيلي أي طبق كده تاني أبدا يا غبية يا مسطووولة».
الآن لنفترض أن هذه الأم امتصت غضبها قليلا قبل أن تنقض هكذا على طفلتها، ثم جاءت أخيرا للطفلة فقالت تقريبا نفس المعنى ولكن كما يلي:
«إزاي كسرتي الطبق؟! اللي يشيل الطبق كده هم الأغبياء بس المساطيل، إنما انتي ذكية بالعكس ذكية جدا يبقا ليه؟! لييييه؟! أوعي تشيلي أي طبق كده تاني أبدا».
.
الآن بعيدا عن مدى لطف العبارة أو عنفها: في الحالة الأولى يستحيل ببساطة على هذه الطفلة أن تطيع الرسالة. لماذا؟ لأن هذه الطفلة ـ حسب تعريف الأم ـ غبية حيوانة مسطولة، وعليه فلابد أن تكسر أي طبق تحمله. هذه حتمية. يتوقف ذلك بالطبع على عوامل عدة كعمر الطفلة مثلا، ولكن هذه الرسالة نفسها من الأم تؤكد بالعكس على تكرار الخطأ، وقد يئول الأمر بالتالي مع هذه الطفلة إلى عقدة نفسية تجاه الأطباق عموما، تمنعها حتى من الاقتراب من أي طبق مطلقا بعد ذلك.
بعبارة أخرى: ما دامت طفلة غبية... إلخ، فكيف تحمل الأطباق إلا كما يحملها الأغبياء؟! إن شخصية الطفل خاصة دون السابعة ـ على خلاف الكبار ـ ما زالت في مرحلة "التكوّن". من ثم حكمت الأم هنا بالفعل بل فرضت على طفلتها فرضا ـ عبر هذه الرسالة ـ أن "تكون" غبية، وأن تسلك بالتالي كالأغبياء، أي على عكس ما تطلب منها تماما!
ستكرر الطفلة بالتالي نفس الخطأ دائما، ليس لأنها "تعصي" الأوامر حقا أو حتى لأنها نسيتها، بل لأنها ببساطة لا "تستطيع" تنفيذها. حرفيا لا تستطيع. لقد سلبتها أمها ـ عندما وصفتها بالغباء ـ "إمكانية" أن تسلك على نحو أفضل. صارت الطفلة بالفعل غبية مسطولة إلخ ـ على الأقل مؤقتا، أو فيما يتعلق تحديدا بالأطباق ـ وبالتالي فهي حرفيا لا تستطيع.
يتكرر بالتالي الخطأ، وغالبا يتكرر العقاب أيضا، وتكون النتيجة أن يتأكد في وعي الطفلة أنها غبية حقا و"تثبت" هذه الهوية. يتحول وصف الغباء من مجرد سباب عابر إلى صفة ذاتية شخصية، حقيقة وجودية ترتبط بالطفلة إلى آخر عمرها.
بالمقابل في الحالة الثانية: الغباء والإدانة والرفض كل ذلك ارتبط بفعل الطفلة أو سلوكها وليس أبدا بذاتها أو هويتها الشخصية. بالعكس وضعت الأم عمدا رسالة إيجابية فيما يتعلق بالذات (انتي ذكية، بالعكس ذكية جدا...). تأكد من ثم لدى هذه الطفلة، دون خلط أو غموض، أن رفض الأم لا ينصب على وجودها أو هويتها نفسها. بالتالي فقط في هذه الحالة، وفقط هكذا، يمكن حقا تعديل السلوك.
***
كما نرى يا أمي الغالية: فرق كبير جدا بين نقدنا أو رفضنا لإنسان معين، وبين رفضنا لفعله أو سلوكه أو أفكاره أو قراراته إلخ. كذلك فرق كبير أيضا حين نمدح أحدا أو نثني عليه: هل نثني على ذاته شخصيا، أم على سلوك معين مثلا قام به؟
هذه هي "استجابات" الإنسان (أو اللمسات Strokes كما تسمى علميا). وتنقسم بالتالي استجاباتنا في هذا العالم ـ فيما نعطي للآخرين أو بالعكس نتلقى منهم ـ إلى أربعة أنواع: • إيجابية تتعلق بالذات أو الكينونة، وتسمى لذلك مطلقة أو غير مشروطة (مثال: انتي ذكية جدا). • إيجابية تتعلق فقط بالفعل أو السلوك أو الأداء وتكون بالتالي مشروطة أو مقيدة (مثال: إجابتك كانت ممتازة). ثم عكس ذلك: • سلبية مطلقة (مثال: يا غبية يا حيوانة يا مسطولة)، • سلبية مقيدة (مثال: سلوكك ده كان سلوك غبي).
(تلخيص كل ذلك ـ بالإنجليزية ـ نجده بهذا الجدول، وبتفصيل أكبر في هذا الجدول، ووجدت هنــا أيضا بعض الرسوم الظريفة).
غني عن البيان فإن استجاباتنا من النوع السلبي المطلق ـ أي التي تنقد ذات الآخر وتهاجم كينونته ـ هي نوع من "السم" الزعاف، المدمر بكل ما تعني الكلمة، وقد نقتل بها فعليا أو على الأقل نشوّه بعض الناس في حياتنا، ناهيك عن أطفالنا، دون حتى أن نشعر!
(كما قد تقتلنا أيضا عندما نتلقاها من الآخرين، أو تشوّهنا، أو تسبب لنا إعاقة نفسية دائمة، أيضا دون أن نشعر)!
***
كانت هذه على أي حال مجرد مقدمة ضرورية يجب فهمها جيدا قبل أن ننتقل أخيرا للتطبيق على مستوى الكبار أيضا ـ وفي المجال الروحي بوجه خاص ـ لكي ندرك على سبيل المثال لماذا يتأخر نمونا الروحي كثيرا رغم عظمة المنهج المسيحي، حتى بين الرهبان المكرسين، أو ما هي الآثار المترتبة حقا على قول أحدنا مثلا عن ذاته ـ باسم التواضع المسيحي ـ إنه حقير، أثيم، ضعيف، حشرة، دودة، إلخ! ولكن حيث أطلنا نكتفي اليوم بهذا القدر ونكمل في المرة القادمة بمشيئة الرب، غدا أو بعد غد، فحتى نلتقي.